ﰡ
هذه صفات ذاتية وإضافية، ومن صفاته الذاتية أيضا أنه لَا عوج فيه، ولذا قال تعالى: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، أي أنه سبحانه خلقه متجها إلى الحق من غير انحراف، وأنه كالجسم الذي لَا يعوَّج حسيا، فإن الجسم قد يكون في ذاته مستقيما، ولكن قد يتعرض لبعض الصدمات التي تجعله يسيخ (١) أو ينقبض، وإن هذا القرآن لَا عوج فيه، لَا من وخارجه ولا من أصل تكوينه، فهو كونه قويما ولا يمسه شيء يزيغ أو ينحرف، فهو قويم غير قابل للاعوجاج.
________
(١) يسيخ - هكذا بالخاء - يرسخ. القاموس المحيط (ساخ).
أي أنه مستقيم في ذاته كما أنه لم يعره اعوجاج في أي ناحية من نواحيه، ولا أي معنى من معانيه وهو قيِّم على الكتب السابقة كلها؛ لأنه مهيمن عليها يبين ما نسخ منها، وما لم ينسخ، وما كان فيه تحريف، وما نسي، وما بقي، وهو قيم على مصالح الناس، ودفع مفاسدها، وقيام بنائها الصالح، ومنظم الجماعات الإنسانية على قواعد الأخلاق والفضيلة، وإبعاد المفاسد والرذائل.
وإذا كان لإقامة بناء اجتماعي سليم، وليستقيم الناس في معاشهم ومعادهم، ففيه بيان الأحكام التكليفية لهم وما يجب يوم القيامة، فإن العصاة لَا يستقيمون إلا إذا كان أمامهم عذاب يوم القيامة، قال تعالى: (لِّيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ)، أي أن نزوله بما فيه من أخبار البعث والنشور وبما فيه من أحكام تصلح الناس في عامة أمورهم، كان لَا بد أن ينذر بأسا شديدا، والإنذار له مفعولان وهو هنا له مفعولان: أولهما محذوف مع تقديره في الكلام، وهو (الناس)، وثانيهما
وقوله تعالى: (مِّن لَّدُنْهُ) الضمير يعود على اللَّه تعالى؛ من عند اللَّه تعالى، وفي الحكم بأنه صادر عن اللَّه تعالى آت من عنده إرهاب بهذا العذاب؛ لأنه آت من عند الواحد القهار، وبيان لشدته، وتأكد وقوعه، فلا مناص منه، ولا سبيل للابتعاد عن وقوعه.
وكما أنه منذر لمن عصى، فهو مبشر لمن أطاع، فلا جدوى في الإنذار إن لم يكن معه تبشير؛ لأنه يكون تحذيرا لمن يغوى وتبشيرا لمن يفعل الصالحات، فهو تخويف وتشجيع وتحريض؛ ولذا قال تعالى: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) التبشير الإخبار بما يسر ولا يضر، وعبرنا بالموصول للإشارة إلى أن الصلة هي السبب في هذا الجزاء، والصالحات هي الأعمال التي يقصد بها وجه اللَّه، وطلب الخير والنفع وأن تكون القلوب طيبة سليمة، فهي التي تصلح بها الأعمال وهي التي بها تفسد، ويلاحظ هنا أنه ذكر الأعمال الصالحة ولم يذكر الإيمان؛ لأن الإيمان مقدر لأنه أساس الخيرات، ولأنه عمل القلوب فهو داخل في عمل الصالحات، وذكر سبحانه الجزاء فقال: (أَجْرًا حَسَنًا)، تكرم اللَّه تعالى فسمى الجزاء أجرا وكأنه ثمن لخير قُدِّم مع أن الهداية من فضل اللَّه ورحمته، للإشارة إلى أن اللَّه كريم حليم، يمن بالخير ويجازي عليه، ووصف الأجر بأنه حسن، أي أجر يستحسن ويحب ويرغب فيه، ويطلب لأنه في مظهره حسن، وفي حقيقته نعمة دائمة، ولقاء للَّه ورضوان منه، وهو أعظم، وكل ذلك تشمله كلمة حسن.
وإن هذا الأجر الحسن هو الجنة التي يخلدون (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا...)؛ ولذا قال تعالى:
المكث البقاء مع الاطمئنان وألا يكون نزاع قط، وإنه دائم ما دامت السماوات والأرض كما قال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ...).
وقد خص سبحانه وتعالى بالذكر من إنذار العصاة إنذار الذين اتخذوا للَّه ولدا، فقال تعالى:
بعد إنذار عامة الكافرين العصاة من وثنيين وغيرهم خص الذين اتخذوا الولد، وقالوا: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)؛ لأنهم لم يفهموا ذات اللَّه، ولا خواص الألوهية، وأنها منافية للحوادث منافاة تامة، وعبر سبحانه بقوله: (قَالُوا)، ولم يقل اعتقدوا؛ لأنهم لَا يؤمنون ومن اتبع الأوهام لَا يؤمن بشيء، ولا يعتقد اعتقادا جازما، لأن الأوهام تساوره فتزلزل اعتقاده بل هو في ريب دائم مستمر، وعبارة اتخذ اللَّه ولدا، فهم نسبوا الاتخاذ للَّه، وهي فرية على اللَّه تعالى وتدل على عدم كماله سبحانه؛ لأن اتخاذ الولدان يترتب عليه أمران باطلان لَا يليقان بذات اللَّه:
الأمر الأول - مشابهته للحوادث، وأن يكون للَّه سبحانه نظير مثله، لأن الولد مثيل أبيه، فكيف يكون للَّه تعالى شبيه ومثيل.
الأمر الثاني - أنه ينبئ عن احتياج اللَّه للولد لنصرته، واللَّه تعالى غني حميد لا يحتاج لشيء ويحتاج إليه كل شيء سبحانه تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
كلمة (مِنْ) هنا لاستغراق النفي، أي ما لهم أي علم، بل يرمون القول من غير تفكر، ولا تدبر، من سيطرة الأوهام التي أوجبتها الفلسفة التي قارنت تحريف النصرانية من مسيحية إلى وثنية متبعين الأفلاطونية
وإن أدعاء النبوة هذا ما نشأ إلا من الجهل، ولسيطرة الوهم؛ ولذا قال سبحانه: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، إنما هو الهوى والوهم، وهما يفسدان كل تفكير.
وقال تعالى: (وَلا لآبَائِهِمْ) لَا لتأكيد النفي، فنفي عنهم العلم لعدِّهم مقلدين متبعين، وعن آبائهم الذين قلدوهم لأنهم الذين سهلوا تلك الأوهام في نفوسهم، فضلوا وأضلو كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
وإن هذه الفرية أشد فرية أضلت العقول حتى أنه بعد ما فهموا بعض الفهم أخذوا يتأولون، ويدعون أنهم لَا يقولونها لَا فرار منها ولكن هو تلبيس على الناس ليدفعوا عن أنفسهم أنهم يتكلمون بغير معقول.
ولقد قال تعالى في عظم ما توهموا ثم افتروا: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ هِنْ أَفْوَاهِهِمْ)، (كلِمَةً) تمييز وهي منصوبة على أنها تميز، وهناك قراءة بضم التاء.
وعلى تخريج أن القراءة بنصب التاء تكون بمعنى الذم الشديد، ويكون المعنى بئست كلمة تخرج من أفواههم، والأحسن أنها تكون بمعنى التعجب. أي ما أكبر فظاعتها وفسادها، وقوله تعالى: (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)، أي أنها ثقيل خروجها من الأفواه لبعدها عن كل معقول، ونفرة أي فكر منها، ولكنهم يستطيبونها فإن سألتهم عن مدلولها لم يحيروا جوابا، واضطربوا كل مضطرب إلا أن يقولوا حقا أو معقولا وسبحان من خلق المهتدي والضال.
(إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)، إن للنفي، أي لَا يقولون إلا كذبا لَا مساغ وله من حق، ولا يقوله مدرك فاهم يعرف حقيقة الألوهية وللَّه في خلقه شئون.
القرآن هو النعمة الكبرى كما هو المعجزة الكبرى ففيه شفاء للناس ورحمة وهداية وموعظة للمؤمنين، ومن كانت عنده هذه النعمة يريد أن ينتفع بها الناس،
الفاء تنبئ عن تقدير قولي مطوي، معناه إذا كنت حريصا على إيمانهم فلعلك باخع نفسك إلخ... ، والبخع: جهد النفس حتى تتلف، وباخع نفسك، أي مؤدى بها إلى التلف ومهلكها من شدة همك وتحميل نفسك ما لَا حاجة إلى تحميله (عَلَى آثَارِهِمْ)، أي على آثار توليهم؛ لأنك لَا تتوقعه، إذ إن نضوح الدليل ووضوح الصدق وقوة الإعجاز يجعلك تتوقع إيمانا، فجاء إعراضا وتوليا عن الحق البين وقوله تعالى: (عَلَى آثَارِهِمْ) فيه استعارة وترشيح لها، كأنهم محبوب يفارقك فيدفع الفراق إلى ألم ولوغة كأنه باخع نفسه لهذا الألم ولذلك الفراق، وأنه يبرح به البعد والفراق حتى يكاد يبخع نفسه، هذا تخريج الزمخشري أو معناه في قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) وهو معقول في ذاته وربما يكون أقرب من هذا التخريج أن تقول لعلك باخع نفسك على آثار توليهم وإعراضهم ودخولهم النار (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ)، والحديث هو القرآن الكريم، كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ...).
والإشارة في قوله سبحانه: (بِهَذَا الْحَديثِ) إشارة إلى ما سبق في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) فهو كتاب اللَّه الذي سجلت فيه شرائعه، وهو حديث اللَّه إلى رسوله وإلى خلقه المؤمنين، بل إلى الخليقة أجمعين.
و (لعل) معناها الرجاء، والرجاء ما يتوقع وقوعه سواء أكان مرغوبا أم كان مرهوبا، فهو الأمر المتوقع على كلتا حاليه، وهو هنا يبين اللَّه تعالى لنبيه أن حاله حال من يتوقع منه بخع نفسه (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) و (أَسَفًا)
بعد ذلك بين سبحانه أن الإنسان يرى في هذه الدنيا العبر، وعجائب الوجود ولكن لَا يعتبر؛ ولذا قال تعالى:
بعد ذلك ذكر سبحانه وتعالى عذاب القلوب وروح النفوس فأخذ سبحانه يبين غذاء الأجسام ومتعة الأعين، وزخرف الحياة فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) فزروعها وثمارها وبواسقها ودوحاتها، وأوتادها وحيوانها، ترى القطعان تنفث في المراعي ذاهبة عائدة، (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حينَ تُرِيحونَ وَحِين تَسْرَحُونَ)، هذه زينة الدنيا، كما قال تعالى: (... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥).
وكما قال تعالى في سورة ق: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١).
هذه المتع التي تشرق بها النفس فتجد فيها سعادة النفس وغذاء الجسم مكن اللَّه تعالى بني آدم منها لغاية، وهو الاختبار؛ ولذا قال تعالى: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي لنعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يظهر ما قدره لكم محسوسا واقعا، وقوله تعالى: (أيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي حالهم حال من يُسأل أيكم أحسن عملا، فالاستفهام هو معنى الابتلاء، فمن اغتر بالدنيا واستولت عليه
وقوله تعالى: (أَحْسَنُ عَمَلًا)، أفعل التفضيل ليس على بابه، والمعنى بلغ أقصى درجات الحسن، أو هو على بابه ويكون الاختبار لتنزيل الناس منا فمن اتجه إلى الخير ناله بقدره، ومن اتجه إلى غيره تردى في منحدر المعصية.
وإن زينة الدنيا تنتهي كما تنتهي الحياة، وتكون غثاء أحوى؛ ولذا قال سبحانه:
الصعيد التراب: والصعدة الأكمة من التراب، والجُرز بالضم من الجَرز وهو القطع قطع الزرع والثمار، وغيرها، وتطلق الجُرز على الأرض التي لَا نبات فيها ولا شجر، كالصحراء التي لا تنبت. والمعنى في هذا أن اللَّه تعالى خلق الأنواع كلها، فخلق الأرض التي جعلها اللَّه زينة وفيها الخصب والنماء، وأنها تتحول إلى غثاء أحوى، فكذلك يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، فليس عجيبا أن يعود الناس أحياء بعد موتهم، فلا غرابة ولا عجب في أن يكونوا ترابا ثم يكونوا من بعد ذلك خلقا جديدا (... كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
قصة أهل الكهف
تصدى القرآن الكريم لبيان أهل الكهف بما لم يتصد به كتاب مقدس، ولا نريد أن نخوض في أمر لم يخض فيه القرآن فلا نريد أن نرجم بالغيب، ولا أن نسير وراء الظنون، والقرآن ليس كتاب تاريخ ولكنه كتاب عظة واعتبار، وكل ما فيه صدق لَا مجال للريب فيه.
أكثر الذين تعرضوا لبيان من هم أهل الكهف يقولون: إنهم من النصارى المؤمنين كانوا في عهد اضطهاد النصارى، فقد كانوا موضع اضطهاد من وقت انتهاء حياة المسيح في الدنيا، وجاءت عصور اضطهاد شديدة كانوا يفرون بدينهم،
وقد جاءت عبارات ابن كثير بما يفيد أنهم من اليهود لَا من النصارى، وحجته في ذلك أن اليهود هم الذين سألوا النبي - ﷺ - عن الروح وعن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، وأن ذلك يدل على أن وقائع قصة أهل الكهف كانت قبل النصرانية لَا بعدها.
ونقول في الجواب عن ذلك:
أولا - إن التوراة ليس فيها ذكر لأهل الكهف، ولا من كان محيطا بهم.
وثانيا - أن أخبار أهل الكهف مذكورة في شهداء النصارى وفي كتبهم ككتاب " الكنز الثمين ".
وثالثا - أن ابن كثير نفسه ذكر أنه في عهد ملوك الرومان وهو دقلديانوس، فقد جاء فيه ما نصه: " لقد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد، اسمه دقلديانوس وكان يأمر الناس بذلك، ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع دومهم بعين بصيرتهم، وعرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا للَّه الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد بتخلص من قومه، وينحاز منهم، ويتبرز عنهم ناحية، فكان أول من جلس منهم أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس، وجاء الآخر، والآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.... ".
وما ذكر في كتب السيرة من أن اليهود حرضوا المؤمنين على أن يسألوا عن الروح وأهل الكهف وذي القرنين فهو متزيد فيه، والثابت برجحان الأسئلة كانت عن الروح، وعن العبد الصالح صاحب موسى وعن ذي القرنين كما ذكرنا أولا، وأن الاضطهاد للنصارى استمر حتى حرفوا دين المسيح - عليه السلام -، وكانت سيادة التثليث بعد سنة ٣٢٥ عقب مجمع نيقية وكان الاضطهاد قبل ذلك للموحدين، وأهل الكهف منهم، وكانت معجزة اللَّه تعالى فيهم.
ولكن ما عددهم، وما المدة التي مكثوها؟، أما عددهم فكما تدل الآيات سبعة، وحكى اللَّه تعالى عنهم ذلك، فقال عز من قائل: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢).
وربما يكون هذا النص مشيرا إلى أنهم سبعة، لأنه ذكر في الثلاثة والخمسة أنه رجم بالغيب، ولم يذكر ذلك في السبعة، ولكنه سبحانه وتعالى نهى عن المماراة في ذلك، وعدم الاستفتاء فيه؛ لأنه لَا جدوى في معرفته، وكل علم لا يترتب عليه اعتقاد أو عمل لَا فائدة فيه ولا في شغل الذهن به.
وأما المدة التي مكثوها في الكهف، فإنها كما قال اللَّه تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، أي أنهم مكثوا تسع سنين وثلاثمائة،
بالسنين القمرية، وبعض العلماء قدرها بالشمسية بثلاثمائة سنة، ويأتي بعد ذلك في أي عصر من العصور كانت هذه المدة، وكنا نظنها في عهد دقلديانوس الذي أشار إليه ابن كثير، ولكن رجَّعَنَا النص القرآني إلى الحق، وهو تسع وثلاثمائة، ولا يمكن أن يكون ابتداء المكث في عهد دقلديانوس؛ لأن معنى ذلك أنه استمر
وكان حقا علينا أن نفهم، حيث أفهم القرآن مصدقين مذعنين، ولكن لا مانع أن نقول إنها ابتدأت من عهد الاضطهاد الروماني بعد أن انتهت حياة المسيح في الدنيا، واستمرت المدة التي ذكرها القرآن الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ منْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
* * *
قال اللَّه تعالى:
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦)
* * *
(الْكَهْفِ) مكان متسع في الجبل، و (الرَّقِيمِ) اسم للجبل، أو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم، أو واد بالجبل، وأيا ما كان فهو تعريف بمكان كهفهم بجبله أو بواديه أو رصاص كتبت أسماؤهم عليه.
و (أَمْ) للاستفهام مع الإضراب لمن عجبته، وأنها ليست أكثر من عجائب الوجود والخلق بإرادة اللَّه، فليس بقاء أجسام إنسانية حية أمدا طويلا، كما أنه ليس وجودهم راقدين أكثر من ثلاثمائة سنة أمرا عجبا في ذاته من خلق السماوات والأرض وما فيها، أو من خلق الإنسان من طين، أو من أدوار خلق الإنسان من نطفة من ماء إلى علقة إلى مضغة، ليس بقاؤهم أحياء رقودا أعجب من هذا الخلق العظيم.
والاستفهام مقصود منه التنبيه وتوجيه الأنظار أولا إلى أن هذا كان عجابا، أي أحسبتم أن أصحاب الكهف والمقام الذي كان كهفهم على مقربة عجبا من آيات اللَّه، إنها ليست بعجب من آيات اللَّه تزيد على آياته في خلقه، إن كل خلق اللَّه تعالى آيات لأولي الألباب، وإذا كان في أهل الكهف شيء فهو في دلالته على قدرة اللَّه تعالى في الإحياء والرقود، وهو دال على البعث بعد الموت؛ لأنه إذا كان قادرا على الإبقاء فهو قادر على الإعادة، وإذا كان قادرا على الإنشاء والإبقاء فهو قادر على الإعادة.
عرفهم القرآن الكريم بأوصافهم، وأول وصف من هذه الأوصاف أنهم فتية جمع فتى، أي أنهم شبان في باكورة أعمارهم، نفوسهم غضة لم ترهقها الأوهام، ولا العادات والتقاليد، وموروثات الآباء العتيقة التي عششت في رءوس من قبلهم، بل إنهم على الفطرة السليمة، والشباب دائما أسرع الناس إلى الحق إن لم يكن في توجيههم ما يعوق عنه أو يسد الحجاب دونه، وقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: الشباب هم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا
هذا هو الوصف الأول الذي وصف اللَّه به أهل الكهف، أما الوصف الثاني، وهي نتيجة لسلام الطوية أنهم اتجهوا إلى اللَّه تعالى بقلب محسّ بقدرة اللَّه ومعجزته، وبأنه سبحانه وتعالى المنعم الهادي دون غيره فقالوا: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) نادوا ربهم قائلين، (رَبَّنَا)، أي الذي خلقتنا وكونتنا وطهرت قلوبنا، وخلصت نفوسنا من الشرك وأوهامه، (آتِنَا مِن لَّدُنكَ)، من حضرتك القدسية، وخزائنك التي لَا تنفد، (رَحْمَةً) وإنعاما وتوفيقا، وسلوكا مستقيما، ودواما للتوفيق. ورحمة اللَّه وسعت كل شيء وهي تعم كل حياة الإنسان، والدعوة الثانية المنبعثة من إيمان عميق موجه، وإذعان صادق يملأ القلب نورا، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، أي الأمر الذي اخترناه لأنفسنا من الإيمان في وسط الوثنية، والرشد هو إدراك الأمور إدراكا مستقيما لَا عوج فيه، وهذا الطريق المستقيم يقتضي تجنب الشرك وطلب الحق، والابتعاد عن كل مهاوي الرذيلة، والاتجاه إلى طريق الفضيلة ومحاسن الأخلاق، وألا يكون شطط ولا إفراط، ولا تفريط، إلا أن يدفع إلى ذلك الحق وتجنب الهوى.
يظهر أن أولئك الفتية طوردوا حتى أووا إلى الكهف، فالإيواء لَا يكون إلا عن منازعة يحسون فيها بأنهم لَا قِبَل لهم بمن يريدون أن يفتنوهم عن دينهم، وقد كان ذلك واقعا في عهد اضطهاد النصارى، كما أشرنا وكما بينا في غير هذا الكتاب (١).
وإن النوم يكون فيه سكون النفس، ولقد أنامهم اللَّه سنين عددا لينجوا بدينهم، وليكونوا حجة حسية على البعث، وليكونوا من آيات اللَّه تعالى في الوجود.
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١)
________
(١) راجع كتاب محاضرات في النصرانية للإمام محمد أبو زهرة.
(الفاء) لعطف ما بعدها على ما قبلها من غير تراخ، فهم أووا إلى الكهف فضرب اللَّه على آذانهم وقد عرَّف اللَّه الفتية فقال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وتعريفهم لأنهم معهودون في الذكر في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا).
والضرب على الآذان مجاز، فإنه يقال ضرب الحجاب إذا أغلق البيت، ويقال بنى الخباء إذا سده، فكنى بقوله تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ)، أي سددنا هذه الاذان بحجاب وضربنا عليه ضربا محكما لكيلا يصل إلى داخلها أي صوت ينبههم من رقادهم، ويصح أن يقال شبهت حالهم في عدم السماع لأي صوت مع حياتهم بمن سدت آذانهم بحجاب قد ضرب عليها، فلا يصل إليها صوت مهما يكن عاليا أو مزعجا، فهم أحياء لَا يحسون بالأحياء، وقوله تعالى: (فِي الْكَهْفِ) فيه إشارة إلى أن في الكهف ذاته يصعب عليهم فيه الإحساس بما عند الأحياء من عذاب وإيلام، وقد استمر ذلك أمدا طويلا، ليس يوما ولا شهرا، ولا سنة بل سنين عدة، ولذا قال تعالى: (سِنِينَ عَدَدًا) فجعل العدد وصفا للمعدود، أي سنين كثيرة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للَّه تعالى فهي ليست شيئا مذكورا، ويقول الزمخشري ومن تبعه: إن معنى (عَدَدًا)، أي ذوات عدد، أي أنها تعد بالسنين عدا، وقد قالوا إنه إذا قلَّ العدد لَا تحتاج إلى عد، لأن الأصابع تحصيها، أما إذا كثر العدد، فإنه يحتاج إلى العد والحساب بعد هذه السنين الطوال التي لَا تحصى إلا بالعد والحساب أيقظهم اللَّه من رقادهم فقال تعالى:
(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢)
وإنهم عندما استيقظوا بعد طول الرقاد، اختلفوا على فريقين ففريق منهم قال: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقالت كثرتهم: (رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثتُمْ)، سمى اللَّه تعالى الفريقين حزبين، لأن الحزب ما ينحاز إلى أمر معين من دين أو حرب أو نصرة، وحزب اللَّه في دينه هم المفلحون، كما قال تعالى: (... أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
كانوا في رقادهم لَا يشعرون كم أمضوا من الوقت فقسم حدد وعيَّن، وقسم أكثر أربا، وأشد تفويضا لم يهتموا، فاللَّه تعالى بين أن البعث سيعرفهم الحقيقة، لأنهم يختبرون بالحياة، ويعلمون في أي زمن يعيشون وفي عهد أي حاكم يكونون بعد هذا الرقاد، ولذا قال تعالى: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) إن اللَّه تعالى يعلم كل شيء يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن، فاللَّه تعالى لَا يعلم جديدا، ولكن المراد أن يظهر ما يعلمه اللَّه تعالى واقعا يعلمونه، فمعنى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)، أي ليظهر علم اللَّه تعالى واقعا محسوسًا يعلمه الناس، بعد أن كانوا يظنون ويحدسون.
________
(١) سبق تخريجه.
والاستفهام هنا جعل ما بعد (أَيُّ) يَسُدُ مَسَدَّ مفعولين، ومعنى الاستفهام التنبيه إلى أن الزمن طال حتى اختلفوا في قدره، وبعثوا من مراقدهم ليتعرفوا الزمان، وفي أي زمان هم، وبذلك يعرفون أي القائلين أصدق قيلا.
و (أَحْصَى) قيل: إنها أفعل تفضيل، ولكن أفعل التفضيل لَا يكون إلا من فعل ثلاثي مجرد، ولكنه جاز استثناء، والقرآن لَا يحاكم أمام قواعد النحو لأنه فوقها، وهو يوجهها، ولا توجهه، وقد كثر أفعل التفضيل في الرباعي كقولهم ما أعطاه للمال، وآتاه للخير، ويقال إن أفعل التفضيل يجوز بعد تجريده من الزوائد، إذ يصير ثلاثيا، وفيه معنى الإحصاء، وقوله تعالى: (أَمَدًا) معناه زمانا، أي أعلم بمقدار الزمن الذي أحصى أهذا الذي قال يوما أو بعض يوم، أم الذي فوض. وقد قص سبحانه وتعالى قصصهم بالحق فقال:
يقص الله سبحانه قصصهم بالحق من وقت أن نشئوا وخوطبوا بالوحدانية في وسط الوثنية بعد بعث عيسى - عليه السلام - ومجيء بعض رجاله إليهم في الرومان داعين إلى التوحيد، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن، وأي خطر وشأن أكبر من عدد من الناس ينام نحو ثلاثمائة سنة أو تزيد، وهو حي، ويتكفله اللَّه تعالى حتى يوقظه من مرقده، وهو لَا يدري على التعيين متى رقد، وقوله: (بِالْحَقِّ)، أي مصاحبا للحق لَا يغادر شيئا من الصدق، ولا يبعد، ثم أخذ سبحانه يقصص ذلك القصص الذي فيه أدل شيء على القدرة بعامة، والبعث بخاصة (إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) الجملة منفصلة بيانية عما قبلها؛ لأنها في مرتبة البيان فهي بيان للقصص الحكيم، (فِتْيَةٌ) كما ذكرنا جمع فتى، وهو الشاب القوي غض النفس التي كانت على الفطرة، وهؤلاء فيهم فتوة الشباب وفتوة الإيمان، وهي جماع مكارم
ولذا قال تعالى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) ذلك أنهم سلكوا طريق الحق، وكلما وجدوا صعوبة في اعتناق الحق في وسط الوثنية رأوا ما هداهم اللَّه تعالى إليه، وما عليه غيرهم من عبادة الأوثان، فما اندغموا فيهم، بل أصروا إصرارا، فزادتهم المقارنة بين ما هم عليه وهدوا إليه، وما عليه الوثنيون من عبادة الأحجار، فكلما وازنوا ازدادوا إيمانا وكلما عُوِّقوا وفُتنوا صبروا، زادهم اللَّه قوة في دينهم، وإيمانا في صدورهم؛ ولهذا قال سبحانه: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)، أي بسبب ما سلكوه وأصروا عليه، ومعاناتهم من الفتنة ما عانوا زدناهم هدى، لأن من دخل مكان النور ازدادت الأمور له وضوحا، وازداد ضلال الضالين انكشافا، فكانت الهداية على بينة، وازداد بها علما ووثوقا وجاهروا بالحق، ورضوا بترك الأهل وترك العمران والإقامة في الكهوف والمغاور.
وإن اللَّه سبحانه وتعالى ثبَّت قلوبهم وجعلهم يقفون أمام جبابرة الأرض؛ ولذا قال سبحانه:
أي زدناهم هدى، وثبَّتناهم وربطنا على قلوبهم إذ قاموا، أي وقت أن قاموا مجاهرين بإيمانهم مجابهين طاغية من طواغيت الدنيا، (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) قالوا للطاغية لست ربنا، ولا حَجَرُك إلهنا، إنما ربنا الذي خلقنا وكوننا عقولا ونفوسا ومدارك، وهو رب هذا الوجود كله، (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، (لَن نَّدْعُوَ)، أي لن نعبد إلها غيره؛ لأنه لَا إله غيره، هو الواحد الأحد الحي القيوم، ونراهم بهذا يربطون بين الخلق والتكوين والربوبية والعبادة، فالخالق هو المعبود، ولم يكونوا كالعرب يؤمنون بأن اللَّه خالق السماوات والأرض ولكن يعبدون معه أحجارا وأوثانا، أما هؤلاء الفتية، فهم يقولون جازمين
الملاحظة الأولى - أن قوله تعالى: (وَرَبَطْنَا) تدل على قوة ما أودعهم اللَّه تعالى من إيمان لَا يتزعزع فقد شبه قلوبهم بالحقبة الممتلئة إيمانا، وقد ربط عليها رباطا محكما كالوكاد (١) يشد عليهم فلا تضطرب أمام جبار كائنا من كان، لأنه عامر بالإيمان لَا يضطرب.
الملاحظة الثانية - أنهم أكدوا قولهم، وأصروا على إيمانهم بقولهم: (لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، فإن هذا الكلام يشير إلى أمرين:
الأمر الأول - تأكيد القول باللام الموطئة للقسم وقد الدالة على التحقق.
الأمر الثاني - أنهم أكدوا نفي الألوهية عن غير اللَّه سبحانه وتعالى نفيا مؤكدا، فقالوا: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا).
وأنهم لم يكتفوا بمجابهة الجبار بعقيدتهم، بل ذكروا بطلان عقيدة غيرهم فقالوا مبطلين الشرك:
________
(١) الوكاد: الوثاق. لسان العرب - وكد.
(هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا)، الإشارة إلى الذين عاصروهم ممن كانوا على دين الجبابرة في عصرهم الذين يعبدون التماثيل ويعددون الآلهة بتعدد التماثيل، فيقولون إله الحب، وآلهة العدالة، وغير ذلك من أسماء سموها ما أنزل اللَّه تعالى بها من سلطان، وذكروا قومهم للإشارة إلى ما يربطهم بهم من صلات الجوار والنسب
وليس عندهم برهان يدل على استحقاقهم للألوهية؛ ولذا قالوا: (لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، أي هلا يأتون ببرهان قاطع منتج يدل على ألوهيتهم، فالسلطان معناه البرهان الدال على هذه الألوهية الىْ ادعوها، وعبدوها، وهي لا تنفع ولا تضر، فقام الدليل لمنع عبادتها، ولم يقم برهان على جواز عبادتها إنما هي أوهام توهموها.
ولقد أكدوا نفي الدليل بقولهم: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام: إذا كانوا قد اتخذوها من غير برهان صحيح، فقد ظلموا، والاستفهام للنفي، أي لَا أحد أظلم ممن تعمد الكذب على اللَّه، بنسبة الشريك إليه سبحانه، و (كَذِبًا) مفعول افترى، بمعنى قصد إلى الكذب، أو نقول إن (كَذِبًا) حال موكدة لمعنى الافتراء.
وإنه إذا كان من كلام هؤلاء الفتية فهو تبكيت مقولهم؛ لأنه لَا دليل على الباطل المحال، فهو لوم وتأنيب لهم، ويقول تعالى: (... أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ...) فهي أسماء لا مسميات لها.
وقد خاطبهم اللَّه سبحانه وتعالى بالوحي والإلهام عندما كانت المفارقة الفكرية بينهم وبين قومهم، واعتزالهم لهؤلاء الأقوام أن يجعلهم آية لمن بعدهم فألهمهم أن يأووا إلى الكهف؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦)
هذا حديث نفوسهم، وهو إلهام من اللَّه بثلاثة أمور:
الأمر الأول - الإيواء إلى الكهف حيث يبتعدون عن أذى الجبارين.
الأمر الثاني - أنهم لقوة إيمانهم باللَّه أحسوا بأن اللَّه تعالى لن يضيعهم أبدا، بل إنه ينشر لهم من رحمته، إذ يبسط لهم.
الأمر الثالث - أن قوة إيمانهم باللَّه جعلتهم يحسون بأنه سيجعل لهم مرفقا يرتفقون به في وسط الكهف الذي لَا يأوي إليه الآدميون إلا فرارا من أقوامهم.
قال تعالى:
وقوله تعالى: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ)، مجزوم بجواب الأمر، أي إن تأووا إلى الكهف فلا تخافوا جوعا ولا عطشا ولا عريا، فإن اللَّه واسع الرحمة، يبسط لكم من رحمته وينشرها عليكم، وشبه في هذه الرحمة السالفة بالثوب المبسوط، التي ينشر عليكم فيعمكم ويحفظكم ويستركم، ويقول تعالى: (لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ)، أي ينشره لأجلكم وهو من رحمته التي وسعت كل شيء.
* * *
عناية الله بهم في رقودهم
قال اللَّه تعالى:
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)
* * *
أي أنها إذا طلعت تميل عن الكهف متجهة ناحية اليمين فلا تمسهم الشمس بل تميل عن الكهف، لَا ينالهم إلا شعاع قليل منها، لَا تلفحهم بسخونة، بل يكون هادئا منيرا، وتسير الشمس من وراء الكهف من جنوبه، حتى تصل نازلة إلى الغروب، مائلة إليه، فتقرضهم على شمائلهم، كما تزاورت لهم عن أيمانهم في الصباح، ومعنى (تَقْرِضُهُمْ)، أنها تتجاوز بهم قاطعة حتى تصل إلى شمالهم في الغروب، وتقرضهم من القرض بمعنى القطع، أي أنها تقطع جنوب الكهف حتى تصل إلى شماله، والفارسي يقول: إنه مِن قرض الدراهم والدنانير، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد، ونرى في هذا تكلفا، وخير القول أن تقول: إن معنى تقرضهم تعدل بهم وتتجاوزهم شيئا فشيئا فشيئا حتى يتم الغروب، (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ) أي مكان متسع (مِّنْه).
(ذَلكَ منْ آيَاتِ اللَّهِ)، أي إن ذلك كله من آيات اللَّه، فإلهامهم الالتجاء إلى الكهف، وإلى كهف مفتوح من الشمال، وكون الشمس تميل إليه ولا تدخله ليحفظ اللَّه أجسامهم من البلى والعفونة، وكونهم أحياء ليكونوا حجة على أن
وإنهم في الكهف يبدون أيقاظا وهم نائمون، ولذا قال تعالى:
من يراهم بادي النظر يحسبهم أيقاظا، أي يظنهم أيقاظا، والحقيقة أنهم رقود، والأيقاظ جمع يقظ، والرقود جمع راقد، أو هو مصدر وصف به والمصدر الذي يوصف به يلتزم المصدرية، فلا يثنى ولا يجمع، وإن هؤلاء الفتية عندما أصابهم الرقود كانت عيونهم مفتوحة فيظنهم الناظر أنهم أيقاظ ليسوا نائمين، ولأنهم بإرادة اللَّه يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ويقول تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)، أي يتقلبون بإرادة اللَّه تعالى إلى اليمين وإلى الشمال، وتلك حال من يكونون بين اليقظة والنوم، ويقلبهم اللَّه ذات اليمين وذات الشمال لكيلا تتعفن أجسامهم إذا بقوا على حال واحدة، ولأن أحسن الأحوال للنائم ألا ينام مضطجعا ولا يلتزم جانبا واحدا يمينا أو شمالا، بل يتقلب بينهما، لكيلا تكون الأعضاء الداخلية من كبد وقلب ومعدة على ثقل واحد، بل تتغير أثقالها.
وهم في هذا التقلب الذي يكون كالنائم المعتاد، وما يقوله بعض المفسرين من أنهم كانوا يتقلبون كل سنة أو سنتين أو سنين رجم بالغيب، ولا أساس له من رواية صحيحة ولا نقل عن معصوم.
(وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) و (كَلْبُهُم) بفناء الكهف أو على عتبته باسط ذراعيه، يحس الرائي أنه يحرس قوما أيقاظا، وهكذا كل مظاهر الحياة كانت بادية
(لَوِ اطَلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) هذه مظاهرهم، ولوِ اطلعت أيها المخاطب المعرف بأمرهم، وفحصت حالهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا)، أي لآثار الاستغراب في نفسك ما يبعدك عن أحياء ليس فيهم مظاهر الحياة بل فيهم رهبة وهيبة، وما يثير العجب لأنه غير مألوف أن ترى أشخاصا يمكثون مئين من السنين على حال لَا هي حياة فيها كل مظاهر الحياة من حركة وكلام، ولكنك لَا ترى إلا سكونا، ومظاهر الحياة موجودة من عيون يقظة هذه تجعل الناظرين يجعلهم يحسبون أنهم ليسوا أمواتا ولا أحياء وما لَا يألفه الإنسان يفر منه فرارا، والخلاصة أنهم لو علموا حالهم، واطلعوا على أمورهم لولوا هاربين فارين منهم يحسبون أنهم ليسوا أناسِيَّ.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) والخطاب للقارئ أو السامع بأخبارهم المعرَّف لأحوالهم، هذه حالهم التي لبثوا عليها حتى بعثهم اللَّه تعالى، ولنقرأ خبر بعثهم، قال تعالى:
إن اللَّه تعالى ضرب على آذانهم فلم يسمعوا، وربط على قلوبهم عندما خاطبوا جبار عصرهم، وحماهم من البلى سنين تجاوزت ثلاثمائة أو يزيد، كما جعلهم كذلك أحياء وإن كانوا من غير حركة إلا أن يتقلبوا يمينا وشمالا حفظا لأجسامهم، كما منَّ عليهم بكل ذلك وبعثهم من رقودهم، أو كما ظهرت آياته في كل هذا بعثهم من رقودهم فهي آيات تتراءى آية بعد آية، والبعث ليس هو البعث من موت، إنما هو اليقظة من منام، وإن طال أمدا، ويقول سبحانه:
ونسب القول إليهم جميعا، ويظهر أن بعضهم قاله ووافق عليه الجميع؛ لأنهم كانوا غير جازمين بزمن معين، والتسليم في هذه الحال أحوط وأسلم، وأشد إيمانا وتثبيتا، وقد أرادوا أن يتركوا الخوض فيما لَا علم لهم به، وأن يشغلوا بأنفسهم، فقال تعالى عنهم قالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكم بِورِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) اجتمعوا على أن يسدوا غلة الجوع، والورق هي الفضة، والمراد النقود المسكوكة منها، و (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إن كنتم لَا تعلمون كم لبثتم، فاشغلوا أنفسكم بأنفسكم، واطلبوا غذاء لكم.
بعثوا أحدهم ليبحث لهم عن غذاء يشتريه بهذا الورق الذي أعطوه ولينظر في غذاء طيب أزكى وأنمى لهم؛ ولذا قال تعالى: (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، أي ليتخير ما هو أزكى نماء وأطيب طعاما، والفاء عاطفة، وكذلك الفاء في قوله تعالى: (فَلْيَأتكُم بِرِزْقٍ مِّنْه) والرزق القدر الذي يتبلغون به أو يكفيهم، وقوله تعالى: (أَيُّهَا) الإشارة إلى المدينة، والمعنى أي شيء في المدينة (أَزْكَى طَعَامًا)، وأكثر مواد زكية نامية.
وإنه يتعرف أطيب الأطعمة، ويأتي بمقدار منها، يكون فيه سد الرمق، ويكون طيبا، (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)، أي ليجتهد في أن يتلطف في القول، ولا يغلظ في المساومة حتى لَا تعرفوا، أو تفضحوا؛ ولذا قالوا: (وَلا يُشعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)، أي لَا يأتي عملا من شأنه أن يجعلهم يشعرون بكم وقد فررتم خيفة من طغيانهم.
وقد عللوا عدم شعور أحد بهم بقولهم:
هذه الجملة السامية مفصولة في البيان عن السابقة؛ لأنها في مقام التعليل، والتعليل بين جملتين من أسباب الفصل البياني بينهما، وإلا فهما منفصلتان في المعنى، إذ العلة متصلة بالمعلول، (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)، أي يطلعوا عليكم مستظهرين عليكم مستعلين بما معهم من قوة الحاكم الغاشم وجند وغيرهم،
* * *
أعثر الله عليهم وعددهم
قال اللَّه تعالى:
(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤)
* * *
بهذه الطريقة أعثر اللَّه تعالى عليهم، أي أطلعهم عفوا من غير قصد للاطلاع، ذلك أن أحدهم هو الذي عرفهم مصادفة بما معه من نقود تدل على تاريخها، والتاريخ النصراني العام عرفهم بأمرهم. قال تعالى:
وقوله تعالى: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)، أي أن الإعثار عليهم بعد أن غيبوا وبعثوا ليعلموا بهذه الأدوار أمرين:
الأمر الأول - أن وعد اللَّه تعالى بالبعث والنشور، وأن الناس ينامون كما يموتون وأنهم يبعثون كما يستيقظون، وأنهم للجنة أبدا، أو للنار - أبدا - هو وعد حق.
ويظهر أنهم لم يعيشوا طويلا، بعد أن أعثر عليهم، بل ماتوا ولم يضرب على آذانهم فقط، وأنهم من بعدهم تنازعوا في أمرهم، ماذا يصنعون لهم تكريما لشأنهم، وثباتهم في الحق والبلاء.
ولذا قال: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)، (إِذْ) ظرف زمان للماضي متعلق في الظاهر بقوله تعالى: (أَعْثَرْنَا)، أي أن النزاع في أمرهم يبنون عليهم بنيانا أو مسجدا، إنما كان في وقت العثور، وهذا يدل على أنهم لم يعيشوا إلا بقدر بعثهم والعثؤر عليهم ليكونوا حجة قائمة شاهدة حسية بعلمه، وماتوا فور هذا؛ ولذا كان زمن العثور هو زمن التنازع في أمرهم مما يدل على اتحادهما أو على قربهما قربا يشبه الوحدة الزمنية.
والتنازع هنا هو الاختلاف الذي يتضمن تعصب كل صاحب رأي لرأيه، حتى وصل إلى درجة التنازع، وقد اتفق الطرفان المتنازعان على ضرورة تكريمهم بإظهار علامة تشير إلى مكانهم ليكون ذلك حافزا على الثبات في اليقين والفداء للدين، فالتكريم كان لمعنى الصبر في البلاء مع قلتهم، فإنه كلما قل النصير كان الجهاد والصبر والبلاء المبين.
تنازعوا أمرهم علِى جانبين، فريق رأى أن يكون بنيانا يقام على قبورهم، (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بنْيَانًا) كقاب أو نحو ذلك من الأبنية المعلمة، وإذا كانوا قد تنازعوا في تكريمهم فهم ليسوا بأعلم بأمرهم من اللَّه الذي حفظ أجسامهم فيها الحياة مع السكون على مر العصور، ويظهر أن الذين اتجهوا إلى بقاء ذكرهم بالبناء كانوا ممن يتأثرون بالرومان في تخليد موتاهم بالبنيان والأحجار؛ ولذلك اعترض القرآن الكريم على كلامهم بجملة معترضة، فقال عز من قائل: (رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ)، أي أن ربهم الذي خلقهم ورباهم على التقوى والإيمان وأفرغ في قلوبهم الصبر أعلم بأمرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يبنوا عليهم بنيانا فهو وحده العليم بما هو خليق، وليسوا يكرمون بالبنيان إنما يكرمون بالجزاء الأوفى في الآخرة.
وما عددهم؟.. قال اللَّه تعالى في عددهم:
من هم الذين سيقولون عن عددهم أنه ثلاثة أو خمسة أو سبعة، قالوا إنهم النصارى الذين يعرفون أخبارا من أخبار أهل الكهف، ونستبعد ما قالوه من أن اليهود قالوا أو لم يقولوا لأنهم كانوا بعد التوراة وهم لَا يعترفون بأهل الإنجيل، والنصارى الذين كانوا معروفين عند العرب اليعقوبيين، والنساطرة، فقالوا: إن اليعقوبيين قالوا: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالوا: إن النسطوريين قالوا: خمسة سادسهم كلبهم، وتطرح نسبة القول إلى هؤلاء أو هؤلاء، ولكن نقول إن القول قيل من هؤلاء أو هؤلاء أو غيرهم، وقد وصف القولين ثلاثة وخمسة بأنه رجم بالغيب، أي ظن في أمر مغيب عنهم لَا يعرفون له مصدرا ولا علما، وقد شبهت حال من يقول بغير علم بحال من يرمي سهما أو حجرا في ضلال من غير هدفٍ مقصود ولا غاية منشودة، (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، ويلاحظ عند ذكر السبعة ثلاثة أمور:
الأمر الأول - أنه لم يذكر السين، فلم يقل وسيقولون سبعة، وحذفت السين اكتفاء بذكرها في الأمرين السابقين، أو لعدم التخمين والحدس فيها، ولأن
الأمر الثاني - أنه لم يذكر فيه أنه رجم بالغيب، بل هو نوع آخر، ربما كان أقرب إلى الصدق، أو على الأقل ليس فيه قطع بالكذب، ولا بالظن، وما دام لم يحكم بأنه رجم بالغيب، فاحتمال أن يكون له أساس قائم.
الأمر الثالث - أنه لم يذكر الواو في الأمرين الأولين فكان النص (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)، فكان ذكر الكلب على أنه في العدد وصف، فهو ليس منفصلا عنهم في العدد، أما في السبعة، فقد ذكر مغايرا لهم؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وعبارات القرآن فيها الدقة والإحكام وأن تكون حروفه وكلماته كل في موضعه قد كان لغاية مؤداة ولم يكن عبثا.
وقد استنبط من هذا بعض المفسرين أن العدد الصادق هو سبعة، ونسب ذلك الرأي لعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما الذي كان يقال عنه إنه ترجمان القرآن فقد روي عنه، وهو العربي القرشى الهاشمى أنه قال: حين وقعت الواٍ وانتهت المدة، ولأنه في العددين السابقين كان الاقتران بقوله تعالى: (رَجْما بِالْغَيْبِ) فاستأنس بذلك المفسرون وإن قول ابن عباس لَا يجوز أن يهمل في هذا؛ لأنه ليس كغيره من الأقوال إذ هو قول صحابي، وقول الصحابي إذا كان في أمر لا يُعلم بالاجتهاد المجرد فيحتمل على أنه سمعه من النبي - ﷺ - ويكون كالمرفوع تماما، وإن الأمر في هذا ليس للاجتهاد فيه موضع فيحتمل على أنه مرفوع.
وإنه قد جاء في كتاب " طبقات شهداء المسيحيين " أن عدتهم سبعة، ونذكر ذلك لَا لتقوية ما نقل عن ابن عباس، أو تزكيته ولكن لأنه عندهم؛ لأن علم النصارى الذين ثلثوا ليس علما متواترا، وليس له سند صحيح يعد ثقة من كل الوجوه، فضلا عن أن يكون متواترا كما ادعى بعض المفسرين في السنين الأخيرة، وأقرب الظن أنهم نقلوه من كتاب المسلمين، فبضاعتنا ردت إلينا، ويقول سبحانه آمرًا نبيه: (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، أي قل يا رسولي لَا تخوضوا في هذا خوض
وإذا كان الذين تحملوا العلم بأمورهم عددا قليلا (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، " الفاء " للإفصاح كما رأيت؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، المراء المجادلة برد ما يقول الخصم، والمراء منهي عنه لأنه يجر إلى قول الباطل ومجاراة الخصم، وكل مراء يجعل كل متكلم متعصبا لَا يقول؛ لأنه يستمسك برؤيته هو من غير التفات إلى رؤية غيره، وقد تكون هي الحق، فهو عماية عن النظر الكامل بمعرفة الأمر من كل وجوهه ولكن استثنى المراء الظاهر، وأميل إلى أنه استثناء منقطع، ولكن سمي مراء من قبيل المشاكلة اللفظية، ومعنى المراء الظاهر ألا يحاول تعرف مقدمات قوله، أو الأدلة عليه؛ لأن أسباب العلم غير متوافرة، فليكتف بما ذكر القرآن وهو الصادق الذي لَا ريب (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهمْ أَحَدًا)، الضمير في (مِّنْهُمْ) يعود على ما يعود إليه الضمير في قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ...) والظاهر أنهم أهل الكتاب من نصارى نجران، وغيرهم من أهل الإنجيل.
والاستفتاء معرفة الفتوى، أو الحكم، أو القول الصادق، أي لَا تحاول معرفة أحوال أهل الكهف من هؤلاء النصارى الذين يعاصرونك؛ لأنه بعد أن حرفوا ما حرفوا، صارت أخبارهم غير موثوق بها.
وإن أحوال أهل الكهف، وأخبارهم من شأنها أن تربى الإيمان في قلوب المؤمنين؛ ولذا ناسب هذا أن يأمر اللَّه تعالى بالتفويض، وأن يعلم المؤمن أن الأمور لا تسير إلا بإرادة اللَّه تعالى ومشيئته، وأن يذكر اللَّه دائما فقال تعالى:
هذا تأديب من اللَّه تعالى، ولكيلا يفتات إنسان على اللَّه تعالى فيتوَّهم أنه قادر مسيطر على ما يفعل، وأنه يفعل ما يريد شاءه أو لم يشأه سبحانه، وهو المالك لكل شيء الذي يشاء ويختار وحده، ولا خيرة لغيرِه في أمر خيرة مطلقة، إنما هي مقيدة دائما في حدود ما يشاء اللَّه سبحانه قال: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) النهي موجه للنبي - ﷺ -، وموجه من بعده للمؤمنين بالأولى، لأن النهي له نهي لغيره، ولأن النهي له حيث لَا يترقب منه الافتيات على اللَّه يكون نهيا لغيره بالأولى، إذ النهي عن أمر مترقب الوقوع يكون أقوى من النهي غير المتوقع، وقد أكد سبحانه النهي بنون التوكيد الثقيلة، والنهي عن القول أي الاعتزام على العمل من غير تفويض، والإصرار من غير تعليق على مشيئة اللَّه.
وذكر الغد للإشارة إلى الإصرار، لأن تعيين الزمان دليل على العزم والإصرار، فإن الغيب في علم اللَّه وقدرته، وقد يكون فيه ما لَا يمكن معه العمل، وليست إرادة اللَّه في إرادته إنما إرادته هو في إرادة اللَّه تعالى، فما لَا يريده اللَّه لَا يقع أبدا، ولذا كان لَا بد من تعليق التنفيذ على مشيئة اللَّه تعالى والتوكل عليه، ولذلك كان الاستثناء
(أن) وما بعدها مصدر منسبك، وهو في موضع الجر بالباء، وتحذف كثيرا قبل المصدر المنسبك منها ومما بعدها، ويكون التخريج على ذلك، ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بمشيئة اللَّه بأن تقول معلقا عزمتك على قولك إن شاء اللَّه.
وهنا أمران بيانيان:
الأمر الأول - أن اللام في قوله تعالى: (لِشَيْءٍ) معناها لعمل شيء وبعض المفسرين قال إن (اللام) بمعنى في.
وإن المؤمن يجب أن يكون ذاكرا للَّه دائما، لتستقيم حياته، ويستقيم أمره مع الناس ويكون مصدر نفع وخير لهم دائما، ولذا قال عز من قائل: (وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، أي اجعل ذكر اللَّه تعالى ملء قلبك دائما، فلا تغفل عن ذكره، فإن بذكره تطمئن القلوب به، وتطب من أدوائها، ومن كان اللَّه تعالى في نفسه لا يغيب عنه لَا يضل ولا يشقى، وإذا غاب عنك أمر أو لم تتمكن من شيء فعسى أن يكون المغيب خيرا مما فات، وعسى أن المدخر له أغنى وأقنى؛ ولذا قال تعالى: (وَقلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)، (الواو) عاطفة (قلْ) على (وَلا تَقُولَنَّ) فهو عطف الأمر على النهي، أي أنه نهاه سبحانه عن أن يعزم الأمر غدا، بل يعلقه على مشيئة اللَّه تعالى مفوضا إليه سبحانه راجيا الخير، متوقعا له، ويقوله في إرادته ورغبته.
واستثناؤه بالمشيئة رجاء أن يجعل اللَّه خيرا منه إذا فاته، فالأمور كلها بإرادته سبحانه ومشيئته العليا، ولن يكون شيء في الوجود إلا بمشيئته، فمعنى (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي...) املأ نفسك رجاء بأن يحقق لك أمرا خيرا مما كنت اعتزمته من ناحيتين:
الناحية الأولى - أنه يكون أقرب منالا، وأسهل تحصيلا.
الناحية الثانية - أنه يكون خيرا رشدا وعاقبة، واللَّه تعالى عليم.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)
* * *
الكلام في قصة أهل الكهف موصول بنور الرحمة، وفي الآية الأولى يتكلم سبحانه وتعالى عن مدة لبثهم في الكهف قد ضرب اللَّه تعالى على آذانهم سنين عدة، ذكرها أولا مجملة، وفي هذه الآية ذكرها سبحانه مبينة بالعدد من السنين، فقال سبحانه:
وقد قالوا إن هذه السنين كانت بالسنين التي هي أصل العدد في الإسلام وقد قدروها بثلاثمائة سنة شمسية - بين بسيطة وكبيسة - ولنا أن نقول: إنه سبحانه ذكر الثلاثمائة، ثم زاد التسعة للتفرقة بين الشمسية والقمرية، وإنك لو أحصيت على أساس أنه كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث تقريبا يزداد العدد سنة قمرية، فإن
الخطاب للنبي - ﷺ - ليعلم به المؤمنين، ويستوثقوا من أنه الحق الذي لَا ريب فيه، وأفعل التفضيل في قوله: (قُلِ اللَّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) ليس على بابه؛ لأنه لا يوازن بين علم اللَّه تعالى وعلم أحد، فهو العلم الكامل، والمراد من أفعل التفضيل أن اللَّه تعالى يعلم ذلك علما ليس فوقه علم؛ لأنه علم اللَّه تعالى، وهو بكل شيء عليم، وإن علم الغيبيات لَا يعلمه إلا خالق لكل شيء؛ ولذا قال تعالى: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ) وحده الغيب في السماوات، فكل مغيب يعلمه اللَّه تعالى؛ لأنه الخالق، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، ثم أكد سبحانه وتعالى علمه الدقيق الذي هو أعلى درجات العلم كعلم البصر، وكأعلى درجات العلم بالسمع، فقال تعالى: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هاتان الصيغتان من صيغ التعجب، فما مؤداهما بالنسبة للَّه تعالى؟ الجواب عن ذلك أن معناهما أن علم اللَّه تعالى بلغ أقصى درجات العلم الدقيق بالبصر، حتى إنه يرى ما لَا يراه الخلق، وأعلى درجات العلم بالسمع حتى إنه يسمع دبيب النمل الذي لَا يُسمع، وإن نتيجة ذلك علمه سبحانه بالغيب كأنه مرئي مسموع فهو سبحانه لَا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ)، الضمير في (لَهُم) يعود إلى أهل الكهف؛ لأنهم المتحدث عنهم، و (مِن) لاستغراق النفي، والمعنى ما لهم بدله من ولي تولى أمورهم وعلم أحوالهم وحاطهم في غيهم أي ولي كان، (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)، أي لَا يشرك سبحانه أحدا في سلطانه وملكه وحكمه.
وقبل أن ننتهي من الكلام عن أهل الكهف نذكر كلمة في مدة لبثهم في الكهف، فنقول: إن القرآن عين المدة بالسنة الشمسية، وأشار إلى الزيادة التي تزيدها السنة القمرية، وهي تسع سنين، وقد ذكرنا أنه بحساب السنين يتبين أن
متى ابتدأت هذه المدة؟ المتفق عليه أنها ابتدأت بعد المسيح - عليه السلام -، وإنها ابتدأت عندما أخذ الوثنيون يضطهدون أتباع المسيح - عليه السلام -، وأن اللَّه تعالى كشف الغمة التي كان ضربها على آذانهم في عصر زال فيه الاضطهاد، أو كان الحاكم أو الجمع الذي حضر يقظتهم من رقودهم كان الاضطهاد لم يكن فيه قائما بدليل العمل على تكريمهم وبناء مسجد على مدافنهم، مع التأكد من المدة تسع وثلاثمائة، أو ثلاثمائة فقط إذا كانت شمسية، وإنه لهذا يجب أن تمضي هذه المدة بين عصر الاضطهاد، وعصر الأمان مع بقاء المسيحية على ما كانت عليه.
ولقد يقول بعض المفسرين إن اختفاءهم كان في عهد دقلديانوس، وقالت كتابات النصارى في أخبار شهداء النصرانية وفي كتاب الكنز الثمين: إن اختفاءهم في الكهف كان سنة ٢٥٢ ميلادية، وظهورهم كان سنة ٤٤٧، ولا شك أن القرآن يكذِّب هذا، وهو أصدق قيلا؛ لأنه في سنة ٤٤٧ كانت النصرانية قد سادها التثليث، وإن لم يكن استغرق كل أهلها، بل لَا تزال منهم أمة كمقتصدة.
وقول المفسرين إن التزامهم الكهف كان في عهد دقلديانوس فيه كلام؛ لأن دقلديانوس كان في القرن الثالث في آخره، والواقعة التي أنزلها بنصارى مصر كانت سنة ٢٨٤، فإذا كان الاختفاء في آخر القرن الثالث فيجب أن يكون الظهور في آخر القرن السادس وكانت قد عمت ديانة التثليث، اللهم إلا أن يكون صادف ظهورهم ملك لَا يزال على دين المسيح، ولا يؤمن إلا بأنه عبد اللَّه ورسوله، ولهذا نحن نميل إلى أن أهل الكهف كانوا على مقربة من عصر المسيح، وأنهم ظهروا قبل أن يسود النصرانية التثليث، ومهما يكن الأمر فإننا لَا نؤمن في أخبارهم إلا بالقرآن وحده؛ ولذلك لَا نتلو إلا القرآن، كما قال تعالى:
قال بعض المفسرين إن هذه الآية آخر ما يتعلق بقصة أهل الكهف، وإنا وإن كنا لَا نقول إنها جزء منها، وليست متممة لها، ولكن لها صلة بها من حيث إن
قال تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ) منْ هنا بيانية، (وَاتْلُ) معناه اقرأه مرتلا متلوا متفهما لمعانيه متيقظا له ذكر (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ) قبل (كتَابِ رَبِّكَ) للإشارة إلى أن السبب في هذه العناية والدراسة والتلاوة أنه أوحي إليك فهي رسالتك التي حملتها، ووجب عليك تبليغها، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...).
وذكر سبحانه وتعالى أن الموحى به المتلو هو (كِتَابِ رَبِّكَ)، و (مِن) كما قلنا بيانية، وأنه ثابت قائم كل ما فيه من أحكام حق وكل ما فيه من أخبار صدق (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، أي لَا مغير لكلمات الله، ولا بدل لها يماثلها صدقا وحقا، فلا يوجد مبدل ولا بديل، وهي المعتصم للمؤمن، والحجة الخالدة إلى يوم القيامة، وهو معتصمك يا محمد، وحجتك، وملجؤك الذي تعتمد عليه والله مؤيدك عليه، (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)، أي لن تجد من غيره ملجأ أو موئلا، فهو سنادك الذي جعله اللَّه تعالى لك عمادا وملجأ وحجة تحتج بها، وهي في ذاته عماد؛ لأنه الذي اشتمل على كل الدين.
وإن ذلك يوجب أن تعتمد عليه وحده، وعلى من آمن، ولا تستبدل بهم غيرهم، ولا تطع من يحاولون أن يفصلوك عن أهل القرآن أهل الإيمان؛ ولذا قال تعالى:
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)
وعبر بالموصول؛ لأن الصلة وهي قوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي)؛ لأن هذا السبب في التزامهم وحبس نفسه عليهم؛ لأنهم بهذا هم الذين أجابوا الدعوة وهم يعبدون اللَّه بالغداة والعشي، وهم لَا يريدون جاها ولا مالا ولا سلطانا، ولكن يريدون وجه اللَّه لَا يريدون سواه، فهم قد انصرفوا إليه سبحانه، وهم بذلك قد صاروا ربانيين خالصين للَّه تعالى، ثم قال سبحانه بعد أن أمره بأن يكون قريبا منهم: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدنيَا)، أي لا تقتحمهم عنك، وتجاوزهم معرضا عنهم تريد الذين يتزينون بزينة الحياة الدنيا، أي تعدوهم عيناك بأسمالهم وفقرهم تريد مَن عندهم زينة الحياة الدنيا، وهذا النهي يتضمن أمرين:
الأمر الأول - الحض على تكريم هؤلاء الضعفاء ومعاونتهم وإعزازهم والاعتزاز بهم.
الأمر الثاني - أن يجعل عينيه تظهر فيها مظاهر الإكبار لَا مظاهر الازدراء، (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ).
* * *
الحق بيِّنٌ وكلٌّ له جزاؤه
قال اللَّه تعالى:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)
* * *
أي (وَقُلِ) يا رسول اللَّه مبلغا صادعا بالحق (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ)، قد ثبت وقام الدليل عليه من ربكم الذي خلقكم ورباكم ويعرف ما فيه خيركم وصلاحكم، وما فيه ضلالكم وفسادكم، وقد بين الحق، وما بقي إلا أن تتبعوا أو تنحرفوا، (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن) باتباع الطريق السوي، (وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) بالابتعاد عن الطريق الأمثل، وإن اللَّه أعد لكل جزاء، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما أعده للمشركين، فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) وصفهم سبحانه بأنهم ظالمون؛ لأن الشرك ظلم للنفس وظلم للعقل، مع ظلمات متراكمة من فساد وصد عن سبيل اللَّه تعالى، و (أَعْتَدْنَا) يعني هيأنا وأعددنا (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) شبه حال الذين يدخلون النار، وتحيط بهم من كل جانب يكونون في سرادق ويحيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، أو شبهت النار بسرادق أحاطهم، وكله نار لَا يخرجون من قطر إلا إلى قطر، وإنهم يكونون في شدة، والعطش يكوي بطونهم كيا، (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ)، والمهل هو المصهور من الفلزات، فإنه شديد الحرارة، وهو (يَشْوِي الْوُجُوهَ) شيا، فهو في حرارة تبلغ درجتها الألوف من أرقام الحرارة، وروي أن منه غليظا كرديء الزيت.
هذه جهنم التي تستقبلهم بسبب مجانبتهم الحق، وانغمارهم في الباطل انغمارا، وإنها بئس المقام، وبئس شرابها شرابا؛ ولذا قال تعالى: (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرتَفَقًا)، أي هذا شراب مذموم أشد الذم لأنه يشوي الوجوه إن سكب على الوجوه، لَا يستبرد به ولكن تشوى به، ويقطع أمعاءهم، وجهنم ساءت مرتفقا أي ما أسوأها مكانا يرتفق، فلا اطمئنان، ولكن نيران ولظى، هذا جزاء
وأما جزاء المؤمنين الذين اختاروا الحق سبيلا، فهم في روح وريحان، وقد ذكر اللَّه تعالى جزاءهم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١)
بعد أن بين اللَّه تعالى جزاء العصاة عبدة الأوثان ذكر ما يستقبل المؤمنين المطيعين الذين يعملون الصالحات، فقال عز من قائل:
الأمر الأول - إيمان صادق وإخلاص يعمر القلوب فإنه لَا ثواب من غير قلب منيب.
الأمر الثاني - عمل صالح نافع بأداء ما أمر اللَّه به واجتناب ما نهى اللَّه عنه في استقامة قلب، وكمال قصد واتجاه إلى النفع.
ويلاحظ هنا أنه أظهر في موضع الإضمار فلم يقل إنا لَا نضيع أجرهم، بذكر الضمير الذي يربط بين المبتدأ والخبر، بل أظهر بالوصول، فقال: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، لبيان أن استحقاقه الأجر بسبب إحسان العمل وإتقانه، وقد أكد الجزاء وأنه لَا يضيع عملا، ولا يظلم الناس أشياءهم في قوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) أكد الكلام بـ (إن) وبإضافة الجزاء إليه جل جلاله.
هنا ذكر الجزاء مبهما، أو ذكره سلبيا، بأنه سبحانه وتعالى لَا يحرمهم من حقوقهم، ولا يضيع عليهم أجورهم، ثم ذكره سبحانه بعد ذلك إيجابيا عطاء
(أُوْلَئِكَ) إشارة إلى هؤلاء المتصفين بهاتين الصفتين الإيمان والعمل الصالح، والإشارة إلى الموصوف تدل على أن الصفة سبب الحكم، وفي هذا تأكيد بأن العمل الصالح والإيمان سبب الجزاء، كما أشار سبحانه وتعالى في الآية السابقة، وفي هذا النص جزاءان:
الجزاء الأول - الاستقرار والإقامة الدائمة، وذلك بذكر جنات عدن.
والجزاء الثاني - طيب النظر وما يكون به ارتياح النفس، وطيب المجلس وهو أن الأنهار تجري من تحتهم في ظلال أشجارها فتجري الأنهار من تحت الأشجار الملتفة المتصلة، فتلتقي راحة النفس مع جمال المنظر ومع الاستقرار والاطمئنان، وقد أضاف اللَّه تعالى إلى هذا النعيم، نعيم الثياب الذي يكون دليلا على العز والترف لمن حرموا منه في الدنيا، فقال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ)، وأحسب أن (مِنْ) الأولى والثانية للبيان، أي يُحَلَّون أساور هي ذهب، ويلبسون ثيابا خضرا، والثياب الخضر تكون فيها نضرة، وتطمئن لها النفس وهي لون الزروع النضرة (مِّن سُندُسٍ)، أي حرير خفيف (وَإِسْتَبْرَقٍ)، أي حرير كثيف، (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ)، أي الفراش اللين المبثوث في حجراتهم، وقد مدح اللَّه تعالى ذلك الجزاء، فقال: (نِعْمَ الثَّوَابُ)، أي أن هذا الثواب ممدوح بالغ أقصى درجات حسن المنظر والرئى، (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)، أي ما أحسنها مرتفقا، والضمير في حسنت يعود إلى جنات عدن، والمرتفق أصله من الاتكاء على المرفق، وهو دليل الاطمئنان والراحة والنعيم.
ويذكر أن الجزاء في هذه الآية الذي اختص بالحلي، والثياب النضرة الحرير، رقيقها وكثيفها هو أخص متع النساء وخصوصا حلي الذهب والأساور منه، فلم يعهد ذلك حليا للرجال، ولكنه متعة للنساء في الدنيا فيكون متعة المؤمنات الصالحات في الآخرة، (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
* * *
قال اللَّه تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
* * *
وتلك الأمثال يضربها اللَّه تعالى لذي الألباب الذين يعتبرون ويتعظون ويدركون أنفسهم من صورة غيرهم، ويؤدبوها ويصلحوها لرؤية المحاسن وأضدادها في غيرهم.
وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى وبينه للفاجر والبار، أعطى كل واحد خيرا ربما يقل أحدهما عن الآخر خيرا، أو لَا يقل ولكن أحدهما يستكثر ما أعطاه لا ليشكره، بل ليغتر ويحسب أنه أخذه أخذا ويذهب فرط غروره إلى أنه أخذ بفضل عقله، وأنه لن يضيع أبدا، ثم يذهب ليقمع غروره أو تنطفئ شعلة اغتراره، وتبدو له الحقيقة واضحة، وهي أنه لَا يملك من الأمر شيئا، أما الثاني صاحبه، يذكره بأصل خلقه وأنه لم يكن شيئا مذكورا، ويوجهه إلى الحمد والشكر على ما أعطى، ولنترك القول لرب العالمين فهو البليغ الذي أعجز بكتابه الناس أجمعين.
قال تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦)
مع الجنات والزروع والنخيل ثمار لأموال أخرى.
وكان حقا عليه أن يشكر هذه، وأن يشعر صاحبه بأن له حق الأخوة والصحبة فيها، ولكنه تكبر وافتخر بها، وإذا دخل الفخار في نفس من أنعم اللَّه تعالى عليه بنعمة، فإن الفخار وراء الغرور والكبر، إذ الكبر بطر النعمة وغمط الناس؛ وٍ لذا كان صاحبه أول من بادره بالمفاخرة (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، (الفاء) للعطف مع التورية والترتيب، أي قال عقب أن حالت حاله إلى هذه الحال، (أَنَا أَكْثَرُ مِنك مَالًا)، وكأنه يقول له أنا أعلى منك منزلة لأنى أكثر منك مالا، ومنازل أهل الدنيا بنيت على المال، وإنه فوق كثرة ماله يحسب أنه أعز، إذ قال: (وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي أنه عزيز بعزة الذين تبعوه في أمواله ولكثرة نسبه، وأكثر أولادا، يعتز بهم وبقوتهم وذهب غروره بهذه الحال التي هو عليها ولم يحسبها فانية، لأن الكافر حسي لَا يؤمن إلا بالمادة المحسوسة ومن علمت عليهم وجعلها هما، لَا يكون تفكيره إلا من الحال القائمة والأمر الوجود أو حكم الواقع كما يقال في هذا الزمان.
أي دخل الجنة في هذه الحال التي استولت عليه حال الغرور، وحال التعالي الكاذب وعدم المبالاة إلا بالساعة التي هو فيها، واندفع بها إلى الشرك، وهو بذلك الغرور والكبر وغمط الناس ظالم لنفسه، فظلمه لنفسه بهذا الذي هو محيط به، وقد أداه إلى الشرك كما ذكرنا وذلك ظلم عظيم، وقد أداه ذلك إلى أن يقول: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)، فهو حكم بالحاضر على المستقبل، وذلك شأن المادي الذي يأسر
ثم يتطاول فينكر البعث، ويفتات في تقديره، فيقول:
ينفي إيمانه بالساعة، ويقول مستهينا، غير عابئ كأن الأمر لا يوجب اهتمامه (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، والساعة هي ساعة الحساب وهي التي تكون يوم القيامة، وإذا أطلقت الساعة في القرآن لَا يراد بها إلا ساعة الحساب والجزاء، وكأنه ليس بجدير بأن يسمى ساعة غيرها.
ويفرض أنه إذا صحت الساعة فإنه سينال ما ينال في الدنيا وأكثر منها، فيقول مغترا: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) مرجعا أنقلب إليه، بدلا مما كنت فيه، وهو في هذا يقسم مطمئنا، فاللام الأولى الممهدة للقسم أو المومئة إليه، واللام الثانية جواب القسم، وقد أكد القول كما رأيت بالقسم، وبنون التوكيد في جوابه، وهو بهذا يقيس الحال المقبلة على الحال الحاضرة، وكأن جنات الدنيا ممتدة إلى الآخرة بل تزيد عليها، وإن هذا أقصى درجات الغرور، فهو يفتات على ربه أو يقسم عليه، وليس من المقربين إليه الذين إذا دلفوا بأعمالهم إليه، وأحبوا عباده، وعادوا بما آتاهم من خير على المحتاجين من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
وإنه يلاحظ مما قصه القرآن الكريم من حال الرجل الذي أوتي الجنتين، وكيف هذا الإيتاء تأدى به إلى الكفر والطغيان أن النفس غير المؤمنة ما تعطاه تحسبه حقا لها، ويدفعها غرورها إلى اعتقاد أنها نالته بكفايتها، أو لمزية اختصت بها، فلا تحسبه عطاء من اللَّه، وكان يمكن أن يكون لغيره بأوفر منه، ولا أن الأسباب لا تؤدي إلى نتائجها إلا بإذن اللَّه ثم يندفع بها الغرور فتحسبه من فضلها على غيرها، وحرمان غيرها من نقصانها الذي لم تبلغ مواهبها ما عندها هي ثم تسترسل في غلوائها، فتحسب أن ذلك من دواعي تفاخرها، وتطاولها على غيرها، وتسترسل في غرورها أكثر فتحسب أن ذلك دائم لَا يبيد، وأنها تنتقل من ظفر بالخير إلى مثله غير عابئة بشيء، ولا مقدرة لمستقبل، ثم تدفعها غلواؤها في
وإن هذا الغرور النفسي، والطغيان على الناس هو الذي أدى إلى الكفر والإيغال فيه من غير حساب، هذه هي النفس الطاغية التي تسير في طريق الكفر.
أما النفس المؤمنة وهي التي تتمثل في الرجل الآخر الذي هو أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل، فإنه يتمثل فيها الرجل المؤمن فهي تحس:
أولا - بأن اللَّه هو الخالق، وأنه خلق الإنسان من تراب وأنه الواحد الأحد.
ثانيا - وأنه هو المعطي، والمعطي يستحق الشكر.
ثالثا - والتفويض إلى اللَّه، والإحساس بأن كل شيء عطاء منه بعد اتخاذ الأسباب.
رابعا: وبأنه موضع الرجاء على أن يفوض الأمر إليه، وأن من أعطى يمنع إذا اغتر من أعطاه، ورغب عن طاعته، وأن عليه أن يتذكر المنع عند العطاء، وأن يتذكر حاله إذا فقد النصير وهذا جوابه لما حاوره صاحبه مفاخرا.
هذا هو التأكيد الأول يقول له: إنك نسيت خلقك الأول أنشئت من تراب ثم من ماء مهين، ثم كانت أدوارك من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات نطفة في قرار مكين، ثم مضغة ثم عظاما ثم كسونا العظام لحما ثم صرت رجلا سويا، وخلقت ضعيفا في كل أدوارك ثم صرت رجلا غرك الغرور، أشار إلى كل هذا في كلماته الموجزة المشيرة والموضحة، ونبهه إلى أنه كفر بكل هذا في استفهام إنكاري توبيخي، لأنه لإنكار ما وقع منه من كفر بربه الذي خلقه فسواه في أحسن تقويم.
فحاله حال كفر وإنكار للنعمة، وجهل لحقيقة أمره فذكره بذلك كله وأنه بهذا الطغيان والغرور ونسيان البعث وإهماله لطاعات اللَّه تعالى قد كفر باللَّه أشد الكفر.
(لكن) تفيد الاستدراك على ما قاله صاحبه، وبيان أن حاله ليست كحاله، إنما حاله حال إذعان للَّه تعالى وحده على خلاف حال صاحبه من إشراك باللَّه، واستهانة بالبعث، ونلاحظ في المصحف أن ألفا بعد النون في (لَكِنَّا)، وهو يتحدث وحده ونحسب أن كتابته ليست عبثا، أو لغير معنى، بل إن كتابته تنبيه على بعد الحال المستدركة بين الرجلين، فبينا الأول كان طاغيا مفاخرا مغرورا، فهذا موحد متطامن شاكر للَّه تعالى أنعمه، في سرَّائه وضرَّائه فأمره كله إليه سبحانه، لَا يملك من أمره شيئا أبدا.
وقوله: (هُوَ اللَّهُ رَبِّي) تفويض مطلق لذي الجلال والإكرام؛ لأنه ربه الذي خلقه وقام عليه حتى بلغ ما بلغ بين الأحياء؛ لأنه الحي القيوم، وأكد الوحدانية بقوله: (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)، وهذا تعريض بالذين يؤمنون بأن اللَّه تعالى خالق السماوات والأرض وأنه لَا خالق سواه، ومع ذلك عند العبادة يشركون به، وقوله تعالى: (بِرَبِّي) يفيد مع ما سبق علة العبادة وعدم الإشراك فيها، ويقولون هو خبر لمبتدأ محذوف تقديره لكن الأمر هو اللَّه ربى ولا أشرك بربي أحدا، وينتقل إلى توبيخ صاحبه، وتنبيهه إلى وجوب الشكر فيقول كما حكاه اللَّه تعالى:
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠)
ثم أخذ بعد ذلك برد على مفاخرته راضيا راجيا، (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ)، (إِن تَرَنِ) حرف شرط وفعله وجوابه، (فَعَسَى) والفاء داخلة فيه، لأنه فعل طلب للرجاء، و (أَنَا) ضمير الفصل فيه تأكيد لحديث المتكلم عن نفسه، وكان التأكيد لبيان أنه أقل منه في نظره، أي إن ترني أنا في نظرك أقل منك، فإن اللَّه هو الرزاق ذو القوة المتين، لا يمنعه أحد من عطاء يشاؤه، فعسى ربي الذي خلقني وكفلني وقام على شئوني أن يؤتيني خيرا من جنتك التي تفاخر بها وتغتر بها، إني أرجو اللَّه وأرجو ما عنده مؤمنا بأنه هو الذي يعطي ويمنع فإن أعطانا شكرنا، وإن منعنا صبرنا، وهو خير لنا.
وقال: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ)، الضمير في (عَلَيْهَا) يرِجع إلى الجنة؛ لأنها المذكورة وحدها في قوله تعالى:
هذا هو حسبان السماء لَا يبقي ولا يذر، وعسى أن يجف الماء فلا تنزل صاعقة ماحقة، ولكن يجف الماء، وهو مادة الحياة للنبات، ولذا قال تعالى عن الرجل المؤمن:
(أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١)
وقد بين سبحانه أن ما توقعه المؤمن صدق، ونزل الدمار بالجنتين فقال تعالى:
قوله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) يقال أحاط الجيش بالعدو حتى سد عليه مسالك النجاة، ثم صارت تطلق في اللغة بمعنى الهلاك مجازا مشهورا وأصبح البعير يحاط به بمعنى تعرضه، ولقد قال تعالى في الذين يتعرضون للهلاك، (... إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ...)، ويكون في الكلام مجاز بالاستعارة شبه
هلاك الزرع هلاكا مستغرقا لم يدع فيه شيئا قائما بذاته بإحاطة الجيش بعدوه واستئصاله بحيث لم يفلت منهم بالنجاة أحد، والجامع في المجاز هو الإحاطة والشمول، وفي هذا المجاز إشارة إلى المغرور بهذه المعاندة كأنه في حرب مع اللَّه سبحانه، وبعد هذه الإحاطة الهلكة المستغرقة لكل الزرع أخذ يعض بنان الندم، وقال اللَّه تعالى في ذلك: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا) الفاء فاء السببية والعطف المفيد للترتيب والتعقيب، وتقليب الكف كناية عن الإحساس بالندم، وعن الإحساس بالخسارة فهو يقلب كفيه نادما، ويحس بالخسارة في النفقة التي أنفقها، وهكذا المغتر من غير مبرر للغرور يكون في ندم على غروره، وفي حسرة على ما أنفق من مال ذهب هباء منثورا، أو أدراج الرياح، ويتمنى الأماني ويقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)، ليت للتمني، فهو يتمنى أن لم يكن قد أشرك، ونادى (يَا لَيْتَنِي) كأنه ينادي ليت، كأنه يقول: يا (ليت) تعالى فهذا وقتك الذي
أهذا التمني في الدنيا أم في الآخرة؟ الأقرب إلى السياق أنه في الدنيا، وأنه سبيل التوبة، وقد يكون في الآخرة كما تدل الآية الآتية، وقوله: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) الضمير يعود إلى الجنة، وذلك من خوت الدار خواء إذا أقعرت وتهدم بناؤها وسقطت عروشها، فخاوية على عروشها معناها ساقطة الكروم على عروشها، أي أن كل ما فيها سقط بعضها على بعضها، فالأشجار جفت، والزرع صار حطاما، وصارت كلها خواء.
كان الغرور المفتون بجنته يعتز بماله، فيقول أنا أكثر منك مالا، وكان يعتز بنفره، ويقول أنا أكثر منك مالا وولدا، وهذا مآله قد آل إلى فناء وخراب، وذهب نفره فلم يكن له نصراء ينصرونه من دون اللَّه، ولذا قال سبحانه مبينا عزلته.
الفئة الجماعة المناصرة، أو العصبة التي تناصره، اعتز بها، ولقد قال: (أَنَا أَكثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) فأبعد اللَّه عنه عزة النفر عند إبعاد المال، فلم يكن هناك فئة تنصره على كل حال، بل كانوا فئة تناصر ماله، ولا تناصر شخصه فلا نصير له من دون اللَّه، وقد تخلى اللَّه تعالى عنه لعصيانه فلم يكن له نصير من غيره، ولم يكن هو منتصرا بذاته، فليس قويا في ذاته ينتصر لنفسه، وليست قوة من خارجه وما كان ممتنعا بقوة شبه ذلك، وقال قتادة ما كان مستردا بدل ما فقد منه، والفئة مشتقة من الفيء، أي يفيء إليها لتنصره، فهي العشيرة ويظهر أن ذلك يوم القيامة، ولذا قال تعالى:
الإشارة إلى البعيد في الآخرة، ولذا كانت الإشارة بالبعيد باللام والكاف معا، وكلاهما تنبيه للبعيد، أي السلطان الكامل، كما قال تعالى: (... لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) والضمير (هُوَ)
ولكن يجب بحث خبر المثل أهو تصوير لحال المستقيم، وحال المنحرف المغرور، وعاقبة كل، وهو تقدير، أم له واقع تاريخي، وإنه كيفما كان مصور لحال المغرور الجاهل المشرك، وحال المستقيم ويقول الزمخشري: إن المثل يصور قصة واقعة فيقول: (وقيل هما مثل لأخوين من بني مخزوم، مؤمن وهو أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأشد، وكان زوج أم سلمة قبل رسول اللَّه - ﷺ -، وكافر وهو الأسود ابن عبد الأشد).
وسواء أكان المثل تقديرا صادقا وتصويرا للنفس الكافرة، أم كان قصة وقعت فهو مبين لنفس الكافر وهي يسودها الاغترار بالعطاء، ووراء الاغترار الضلال والاستكبار، والمفاخرة ونسيان الواجب لحق النعمة، والبطر والكبر وغمط الناس وأن المؤمن من صفاته الرضا والقناعة والاتجاه إلى اللَّه تعالى وشكر النعمة (... لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
* * *
مثل الدنيا والآخرة والبعث
قال اللَّه تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى
* * *
(وَاضْرِبْ) معناه بين لهم (مَثَلَ) حال (الْحَيَاةِ الدُّنيا)، في زخرفها وبريقها، (كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)، أي فاختلطت به بذور الأرض التي صارت نبات، وصارت ريانة به، وجرت فيها الحياة، ولكن استمرت أمدا ليس طويلا فأصبحت هشيما، أي حطبا متكسرا، يتفتت حتى تذروه الرياح، (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا).. إذ أنشأ من الماء حياة في البذور، ففلق الحب فكان نباتا قد اختلط بالماء إذ كان مادة نمائه، واستوى به على سوقه، ولكن لم يلبث إلا قليلا، حتى تكسر، ثم تفتت فكانت الرياح تحمله وتذروه من مكان إلى مكان، ثم آل بقدرته إلى ما آل إليه.
والتشبيه هو تشبيه الدنيا بالحال التي تكون من اختلاط الماء بأصول النبات والتفافه بعضه ببعضه. ثم تكسره السريع مع تفتته، فليس التشابه بين الحياة الدنيا
وقد صور اللَّه تعالى حال الدنيا بمثل ذلك في آيات أخر، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِه نَبَات الأَرْضِ ممَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ...)، وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا).
هذه حال الدنيا متاع قليل، وفناء سريع، والآخرة خير وأبقى، وقد ذكر سبحانه أبرز ما في الحياة من زينة ومتاع فقال عز من قائل:
بعد أن بين سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من حيث إنها متعة غير باقية، وما فيها من خير هو الفناء لَا بقاء فيه - ذكر سبحانه ما فيها من زينة وتفاخر، ومادة للتطاول فقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، الزينة ما يتزين به، وهي مصدر وصف به، والمصدر إذا وصف لَا يثنى ولا يجمع، ولذا وصف به المال والبنون، وكان المال والبنون الزينة، لأنه كان بهما القوة، فكان المال قوة لما يمكن صاحبه من الحصول على حاجاته، ولما يمكنه من الحصول على مآربه من أعدائه وأوليائه، والبنون لأنهم القوة في النصرة؛ ولذا كانت مفاخرة أحد الرجلين على صاحبه قوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) والنفر أكثر ما يكون بالولد، واللَّه تعالى يقول فيمن طغى بماله وولده، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧).
وقد سمى اللَّه تعالى القوة بالمال والبنين زينة، لأنها موضع تفاخر وتباهٍ كالزينة، وقدم المال على البنين، لأن البنين من غير مال لَا يكونون زينة، بل
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) الباقيات وصف لموصوف محذوف، أي والأعمال التي تبقى، ولا تفنى سريعا، وهي صالحة في ذاتها عامرة لما بين العبد وربه أولا، وبينه وبين الناس ويباركها الرب ثانيا، سواء أكانت من شأنها أن تكون ذات أثر باق في الدنيا، من عمل طيب يبقى أثره بعد الموت، أم كان يرجى خيره في الآخرة، وفي الجملة الأعمال التي تكون كثيرة النفع في ذاتها ويبقى أثرها بعدها، كما قال النبي - ﷺ -: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " هذا في الدنيا، أما في الآخرة فكل ما يحرثه العبد للآخرة يكون باقيا، يقول عليُّ كرم اللَّه وجهه:
" الحرث حرثان حرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن اللَّه تعالى لأقوام، وقد حكم سبحانه بأن (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)، أي خير فائدة وعائدة وعاقبة، وتفتح باب الأمل لخير عميم، ونعيم مقيم، وجنة خالدين فيها، وكرر كلمة (خَيْرٌ)، لاختلاف نوعهما، فالأول عاجل في الدنيا، والثاني أمل ورجاء في الآخرة، وقد ذكر اللَّه تعالى الآخرة، ومقدمات البعث والقيامة فقال عز من قائل:
ويوم نسير الجبال، أي نحركها من أماكنها، ونسيرها كما نسير السحاب، كما قال تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ...)، و (يوْمَ) متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يوم نسيِّر الجبال، أي يوم البعث إذ تتغير الدنيا، والأرض والسماوات، وقد خطر بخاطري أن (نُسَيِّرُ) متعلق بـ (خَيْرٌ) محذوفة دلت عليها الآية قبلها، أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخيرا أملا، وخير يوم نسير الجبال، وترى الأرض.
وهكذا يُنهي الكونَ بارئُه، ويذهب هذه الحياة بانيها، ومن بعد ذلك، وقد أبرز كل شيء خالق كل شيء عندئذ يكون الحشر ولا يغادر منهم أحدا؛ ولذا قال تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، أي حشرناهم في ذلك اليوم لَا نترك أحدا، وعبر سبحانه بالماضي لتأكد هذا الحشر، واستعمال الماضي في مقام المضارع لتأكد الوقوع، وعبر سبحانه بالفعل حشر للإشارة إلى جمعهم غير مريدين، أو مختارين، وأنهم جميعا متلاقون الضالون والمضلون، وأنهم بعد ذلك يعرضون على ربهم؛ ولذا قال تعالى:
أي أنهم في هذا المحشر الذي حشروا فيه لم يكونوا مجهولين، أو أن الازدحام جعلهم غير معروفين، بل إنهم كانوا مع هذا الجمع الحاشد معروفين مميزين عند رب العالمين الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (أَلا يَعْلَمُ منْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، بل إنهم عرضوا صفا كما يعرض الجنود صفوفا متراصة أمام قائدهم يلقي إليهم أوامر، فكذلك صفهم اللَّه تعالى صفوفا متميزة مقرا لهم بأنه يعلمهم، يذكر اللَّه لهم بلسان ملائكته أو إن حال الموقف كأنهم يخاطبون بالقول: (وَلَقَدْ جِئْتُمونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ
الإشارة الأولى - أنهم يجيئون مجردين من كل نسب وحال من أحوال الدنيا التي كانوا بها يتفاخرون من مال ونفر، وهيل وهيلمان وسلطان.
والإشارة الثانية - إشارة إلى قدرة اللَّه الكامل المسيطرة، وأنه أعادهم كما بدأهم، كما بدأكم تعودون، وقوله تعالى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) الإضراب هنا بـ (بَلْ) معناه الإضراب عما كانوا عليه في الدنيا وإثبات الواقع المقرر الذي يرونه، و (زَعَمْتُمْ)، أي ظننتم بزعمكم لَا بالحقيقة الثابتة، (أن) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي أنهم زعموا نفي البعث بنفي أن اللَّه تعالى جعل لهم موعدا يبعثون فيه، ويحاسبون على ما قدموا من خير وشر، وإنه سيجيء معهم كتاب أعمالهم لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، وقال تعالى:
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، أي سجلت الصحف التي كتبت عليها أعمالهم، فلا نقص فيها، ولا محو، بل هي ثابتة حجة عليهم دائمة باقية لَا يناكرون فيها، فالمراد من الكتاب جنس ما يكتب ويقيد عليهم، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) والفاء للسببية، أي بسبب وضع الكتاب ترى المجرمين الآثمين قد أدركوا آثامهم، وشقت نفوسهم فعلمتها فكانوا مشفقين خائفين مما اشتملت عليه، وأصابتهم الحسرات، وانتهوا لما فرطوا في جنب اللَّه، ونادوا الهلاك إذ لَا مفر منه، وهو نداء الحسرة والألم (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)، أي يا هلاكنا النازل بنا، كما يقول النادم يا حسرتا، وقد كانوا ينادونها (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ...)، وكان ذلك النداء لأنهم رأوا الكتاب لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة، (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ما لهذا الكتاب،
(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) فلا ينقص من عامل خير، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يخفى شيء من عمل، بل يجازي كل بما كسب إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكل يجازي بمقدار ما عمل.
ْوإن ما توعد به إبليس عباد اللَّه في قوله: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، يذكر اللَّه عباده المؤمنين بهذه العداوة ليحتاطوا، وليجتنبوا وسوسته فيقول تعالى:
(إِذْ) ظرف للماضي منصوب بفعل محذوف تقديره، اذكر ذلك الوقت الذي (قُلْنَا) فيه (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)، وذكر هذا الزمن بأحداثه وما قيل فيه استحضار لصورته، وكيف عصى إبليس ربه، وعاند في الخضوع لأمر اللَّه تعالى بالنسبة لآدم، واستحضاره استحضار لعداوته وما هدد به ذريته، وما حاول إغواءهم وكل ذلك يوجب النفرة، وقد كان من الجن وليس من الملائكة الأطهار، فكان يجب تجنبه وألا يستمعوا إلى وسوسته فإنها تؤدي إلى المعصية كما أذلت أباهم آدم للأكل من الشجرة، ولذا قال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقد تأخرت عن الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير أفتتخذونه بعد أن علمتم أنه وذريته أولياء نصراء موالون من دون اللَّه وبدل، وهم أعداء ليسوا بأولياء، بئس بدلا لكم أنتم معشر الذيِن ظلموا أنفسهم، وأظهر في موضع ضمير الخطاب، فقال: (بِئْس لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، بدل أن يقول بئس بدلا لكم، للإشارة إلى أنهم بهذا ظلموا أنفسهم، ووضعوا الأمور في غير مواضعها، وكانوا كافرين ظالمين.
* * *
قال اللَّه تعالى:
(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥)
* * *
الآية السابقة تفيد تحكُّم إبليس وذريته - في الضالين المشركين، واستنكر اللَّه ذلك التحكم في نفوس الناس بقوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْس لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).
والضمير يعود إلى إبليس وذريته الذين يضلونهم حتى جعلوهم يتخذون من الحجارة أوثانا يعبدونها، ويجعلونهم يحسبون لها قوة، أو تكون لها شفاعة، أو تكون لها شركة باللَّه في خلقه، حتى يجعلوها شريكة في العبادة، نفَى الله تعالى أن يكون لإبليس وذريته مشاورة أو مشاهدة في خلق السماوات والأرض وخلق الأنفس حتى يجعلوكم تشركون الأوثان في العبادة فهؤلاء مخلوقون، فكيف يشتركون في إعطاء قوى ليست لهم، فقال تعالى:
والإشهاد، تمكينهم من الحضور، فمعنى (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ما جعلتهم يشهدون، ويشاورون في خلق السماوات والأرض حتى يدَّعوا لحجر أو شخص قوة في الإنسان ليكون شريكا في الألوهية للخالق الذي أنشأ وأبدع ودبر، إن اللَّه وحده هو الذي خلق فهو وحده المعبود ولا معبود سواه، (وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ)، أي أنهم مخلوقون فعندما خلقهم اللَّه تعالى لم يكونوا شيئا مذكورا وكيف يشهد المخلوق خلق نفسه.
وهذا النص السامي يشير أولا: إلى وجوب الحذر من إغواء إبليس وذريته، وبيان أنهم لَا قوة لهم إلا بضعف نفوسكم واستخذائها، فليس لهم قوة ذاتية، إنما قوتهم من ضعفكم، ويشير ثانيا: إلى أنه لَا إرادة لهم في شيء في الوجود إلا ما تكسبه الأنفس الضالة، ويؤكد ثالثا: إلى أن الله وحده خالق كل شيء.
وقوله تعالى: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) في التاء قراءتان الأولى: بالضم تكون تاء المتكلم، والثانية: بالفتح للخطاب.
وعلى قراءة الضم يكون التخريج وما كان من شأني أنا الخلاق العليم أن أتخذ من المضلين عضدا أعتضد به أو أستعينه وأتخذه معاونا، وكان المعنى إني لا أستعين في الخلق بأحد، ومن المستحيل أن أتخذ معينا من المضلين، ويكون المعنى رميهم بأنهم يضلون ولا يرشدون، واللَّه سبحانه لَا يستعين بضال ولا مضل ولا مهتد.
وعلى قراءة الفتح يكون الخطاب للنبي - ﷺ -، ويكون المعنى وما كنت يا محمد من شأنك أن تتخذ من المضلين عضدا ونصرا فلا تطمع في نصرتهم، ولا تحاول أن تستعين بمرضاتهم، وتطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
وأظهر في موضع الإضمار فقال: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) على قراءة الضم، لبيان وصفهم الحقيقي، وهو الإضلال، إذ إبليس وذريته للإغواء، كما قال: (... لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
وقال أيضاً: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (١٠٩)، ثم ذكَّر سبحانه بحال المضلين مع من أضلوهم يوم القيامة فقال:
اليوم هو يوم القيامة، والواو متعلقة بفعل محذوف تقديره " واذكر " لهم ذلك اليوم، ودالة على وصل الجملتين، وليستا منفصلتين، والأولى تشير إلى هوانهم ابتداء عند الخلق والتكوين وأنه لَا وجود لهم في هذا الإبان، والثانية تشير إلى هوانهم يوم الحساب، وأنهم لَا ينفعون بشيء، والضمير في (يَقُولُ) يعود إلى الحق جل جلاله، ومقول القول: (نَادُوا شُرَكَائِيَ) وأضاف سبحانه وتعالى إليه الشركاء - تعالى عن ذلك - لمسايرة زعمهم، وللتهكم بهم؛ ولذا قال تعالى:
(الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)، أي الذين كانوا شركائي في زعمكم وضلالكم، ويلاحظ أنه ذكرهم ذكر ما يعقل وهي أحجار لَا تضر ولا تنفع، ونوجه القول إما بأن نقول إنه تهكم بهم، إذ جعلوها آلهة فوق من يعقل، وإما أن نقول إن المراد إبليس وذريته لأنهم الذين أضلوكم وأوقعوكم في هذه العبادة الضالة.
وقوله تعالى: (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) الفاء الأولى هي العاطفة التي تفيد الترتيب والتسبب، والفاء الثانية كذلك، والفعل (فَدَعَوْهُمْ)، فعل ماض، أي دعاهم معاونين لهم من حف معهم من الملائكة، فالخطاب كان بالأمر لأهل النار أو هم الذين دعوهم ليتبين عجزهم إذا لم يستجيبوا لهم، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)، أي جعلنا بين الضالين ومن أضلوهم حاجزا مانعا، يمنع أن يعاون أحد الفريقين الآخر، والموبق الهلاك، من وبق بمعنى هلك، أي جعلنا حاجزا، هو في ذاته هلاك للفريقين.
عاين المجرمون النار بأهوالها، وأنهم لَا طاقة لهم بها، وكأنهم رأوا أعمالهم قد استعلت بهم فكانت نارا، وأظهر في موضع الإضمار إذ إنه سبحانه بدل أن يقول: ورأوا النار وَعود الضمير ليس ببعيد، قال عز من قائل: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) لبيان وصفهم وهو الإجرام، وأنه سبب استحقاقهم، وأنهم يحسون باستحقاقهم لأنهم أجرموا، (فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)، أي مخالطوها وملابسوها، فالمواقعة الملابسة التي لَا ينفصلون عنها، والفاء هي فاء الترتيب والسببية، أي بسبب حالهم من الإجرام اعتقدوا أنهم مواقعوها، والظن هنا اليقين ولكن لِمَ عبر بالظن دون العلم واليقين؟ وذلك لأنهم إذ رأوا هولها وشدتها كانوا يظنون ولا يستيقنون ليوجدوا لأنفسهم نافذة ولو كُوَّة لاحتمال النجاة، ويصور هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، أي لم يجدوا متحولا عنها وأنها آتية لَا ريب فيها.
ولقد قال تعالى بعد أن بين حالهم التي آلوا إليها، أنه قدم لهم أسباب الهداية في إبانها، فأعرضوا عنها وأثاروا المثارات حولها، فقال تعالى:
الصرف الرد من حال إلى حال، والتصريف هو التحويل من حال إلى حال، وتصريف القرآن الكريم هو ما اشتمل عليه من أساليب البيان والموعظة
وإن الجدل من شأنه أن يضيع الحقائق بين المتجادلين، وأن تتبعثر الحقائق على الأفواه، فلا يضبط قول، ولا يستقيم فكر؛ ولذلك كان العلماء الربانيون ينهون عن الجدل، وأشد من عرف بذلك الإمام مالك؛ لأن مثارات الجدل هي مثارات الشيطان، وإن الناس دائما يثيرون الجدل حول رسالات المرسلين، ولا يقطع جدلهم إلا أن يأتيهم الهلاك أو العذاب، ولذا قال تعالى:
(النَّاسَ) هنا قيل إنهم أهل مكة، وأميل إلى أن هذا بيان لطبائع الكافرين، وأخص من ينطبق عليهم المشركون في مكة فقد أغروا بالجدل والمراءاة في الحقائق، وهم قوم خصمون، كما ذكر القرآن الكريم في أوصافهم، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يؤْمِنوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى)، أي مما منهم الإيمان، وقد توافرت أسبابه وإذ جاءهم الهدى بالرسول أرسله اللَّه إليهم، وبالكتاب الحكيم نزَّله هاديا مرشدا، ما منعهم
فقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا)، أي عيانا ظاهرة أي انتظار
الهلاك بالاستئصال أو انتظار عذاب يوم القيامة معاينة هو الذي منعهم من الإيمان بالهدى والاستغفار من ذنوبهم، ونقول إن هذا تصوير محكم لحالهم في طغيانهم وغلوائهم كأنهم ينتظرون العذاب ولا ينتظرون الهداية فشبه سبحانه وتعالى حالهم في الشر، واستمكانه في نفوسهم واسترسالهم في الطغيان بحال من يمنعهم الهداية مجرد انتظار العذاب، وهذا تصوير لإمعانهم في الطغيان والظلم والعدوان ومجاوزة حدود العقل والفكر.
* * *
الرسل مع الأقوام
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ
* * *
يبين اللَّه تعالى أن إرسال الرسل للتبشير والإنذر، وأن محاولة الذين كفروا إبطال الحق هو فرار من أن يستمعوا إلى النذير ينذرهم، والبشير يبشرهم، وما ذلك إلا من إمعانهم في الكفر والضلال، ولقد قال تعالى في ذلك:
" ما " نافية، و " إلا " استثناء، فيكون في الكلام نفي وإثبات، وهذا يفيد القصر، أي ليس إرسال الرسل إلا لتبشير المؤمنين بالزلفى عند اللَّه، ودخول الجنة، وإنذار الكافرين بالبعد عن اللَّه وعن جنته، وإن ذلك كان يوجب الاعتبار، وتفهم ما جاء به الرسل، والإيمان به لأنه خيرهم ومصلحتهم وتهذيبهم، ولكنهم بدل أن يفتحوا عقولهم للتدبر وفقه الأمور، أخذوا يعملون تفكيرهم في رد الحق فهم بمنأى عن شرع اللَّه، كمن يفرض على شيء علما، فلا يتفهمه، ويكون تفكيره في رده، والتحايل على الخروج عنه؛ ولذا قال: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَروا بِالْبَاطِلِ)، يجادلون جدال مماراة، ولذا قال: (بِالْبَاطِلِ)، أي متلبسين في جدلهم بالباطل وتلبسهم بالباطل، لأنهم يدافعون عنه، ولأنهم يثيرون ترابا بهذا الجدل حول الحق، ولأنهم يفكرون في دائرته، وغايته إدحاض الحق؛ ولذا قال: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، وأصل الدحض الزلق يقال: دحضت رجله، أي زلقت، ودحضت الشمس عن كبد السماء أي زالت، فكان في الكلام مجاز بتشبيه الحق وقد ثارت حوله المثارات بجدلهم، بمن تزلق قدمه فيسقط وإن ذلك غايتهم وباعثهم، ولكنهم لا ينالونه، وهو مبتغى لَا يصلون إليه، واللام هنا لام التعليل وبيان الباعث.
هذا تصوير دقيق للكافرين يبتدئون بالإنكار من غير روية وتعرف للأمر من كل وجوهه، فإذا سارع إليهم جحدوا، أو أعرضوا عن الحق وقد بدا نوره، وسدت عليهم كل منافذ الإدراك فلا تسمع آذانهم ولا تفقه قلوبهم، ولذا قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) الاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي للنفي المؤكد مع التوبيخ للظالمين والتنديد بهم، أي لَا أحد أظلم ممن ذُكِّرَ بآيات اللَّه تعالى في الكون، ودلالتها على الخلق وأنه وحده الذي خلق كل شيء وأنه وحده هو المعبود ولا معبود سواه، ذكر هذا التذكير، فلم يتريث
وقد بين سبحانه حالهم وأنهم يصبحون غير قابلين للهداية، فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) الأكنة الأغلفة والحجب المانعة، والوقر الثقل في الأذن، والمعنى في الإجمال جعلنا حواجز تمنع أن يصل نور الحق إلى القلوب لتفقهه وينفذ إلى إدراكها، والإذعان له، والفقه إدراك الأمر والنفوذ إلى غاياته وما يدعو إليه، وقوله: (أَن يَفْقَهُوهُ) في مقام المجرور بلام محذوفة، وكثير ما يحذف حرف الجر في أن وما بعدها، أي جعلنا الحجب المانعة من أن يفهموه.
والكلام فيه تشبيه بالاستعارة التمثيلية، شبهت حالهم في الإعراض عن الحق بحال من وضع على قلبه حجب تمنع النور أن يصل إليها، وحال من وضع على أذنه ثقل فلا يسمعه، وجرى ذلك مجرى الأمثال في القرآن الكريم، وجملة (إِنَّاجَعَلْنَا) منفصلة عن الجملة قبلها لأنها في مقام التعليل لها.
وإن النتيجة لذلك أنهم لَا يهتدون؛ ولذا قال تعالى: (وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)، الخطاب للنبي - ﷺ -، أي إذا كانوا على هذه الحال من أن منافذ الحق قد سدت على أسماعهم وقلوبهم، فإن تدعهم إلى الهدى (فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)، أي ما داموا على هذه أو ما داموا في الدنيا وليس هذا تيئيسا للنبي - ﷺ - من إيمانهم فلا يدعوهم، ولكنه بيان له لكي لَا يرجو إيمانهم بطرد الذين يدعون
وقد بين سبحانه أن الشر كثير في هذه الدنيا، فقال عز من قائل:
(وَرَبُّكَ) عبر بـ ربك للإشارة إلى أنه الخالق المربي القائم على عباده، القيوم على أمورهم (الْغَفورُ) الذي من شأنه المغفرة لعباده يعفو عن كثير ولا يأخذ بكل ما فعلوا، وقدمت المغفرة على الرحمة؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية، فالتطهير مقدم على التجميل، وقوله تعالى: (ذُو الرَّحْمَةِ) و (ذو) بمعنى صاحب، فالمعنى صاحب الرحمة، أي أن الرحمة تلازم ذاته العلية وتختص بها، فلا رحمة إلا منه، وغيره لَا رحمة عنده فاللَّه وحده هو الذي يملك الرحمة، وما عند غير اللَّه لَا يعد رحمة بالنسبة لما عنده، إنما يكون أمرا نسبيا، والرحمة الحق لَا تكون إلا من عند اللَّه، فهو خالق الوجود وخالق الرحماء، فكل رحمة هي منه.
وإن من رحمته مغفرته، ومن رحمته أنه يمهل حتى تكون التوبة النصوح، وتوبة العبد أحب إليه، ومغفرته أقرب عنده؛ ولذا قال سبحانه: (لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) هذه الجملة السامية كالنتيجة لكون اللَّه تعالى غفورا ذا رحمة؛ إذ إنه لذلك لم يؤاخذهم بما كسبوا من شر مستطير وقت أن وقعوا بل أمهلهم وأعطاهم زمانا للتوبة، أو لمضاعفة ما يقترفون، ولأنها نتيجة لما قبلها كانت غير متصلة بها بالعطف، وعبر سبحانه وتعالى بالماضي في قوله تعالى: (بِمَا كَسَبُوا) للإشارة إلى أنه كثير يكفي لأشد العقاب، (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) وتعجيل العذاب هو العذاب الدنيوي، وهذا يشير إلى أن أهل مكة ارتكبوا من الشر بالكفر، والإيذاء والفتنة في الدين والاستهزاء بآيات اللَّه وبما جاء به محمد - ﷺ - ما يستحقون به أشد العذاب، وأن ينزل بهم ما نزل، ولكن اللَّه سبحانه أراد أن يكون محمد خاتم النبيين، وأن تكون رسالته دائمة بمن يؤمنون، فلا ينزل سبحانه وتعالى
القرى المدن الكبيرة أو الدول الكبيرة، والمراد بالقرى ليست الأماكن، إنما أهلها؛ ولذا قال: (أَهْلَكْنَاهُمْ) لضمير العقلاء (لَمَّا ظَلَمُوا)، أي عند ظلمهم، وجعلنا لمهلكهم موعدا، أي مكناهم من أن يرجعوا عن غيهم وضلالهم، (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا)، ومَهْلِك مصدر ميمي، وبين أيدينا أخبار الرسل مع أممهم من قوم نوح إلى قوم هود وصالح، وشعيب، وإبراهيم، ولوط.
* * *
موسى - عليه السلام - والعبد الصالح
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
* * *
قص اللَّه تعالى في سورة الكهف ثلاث قصص تدل على قدرة اللَّه تعالى في أن يودع الإنسان من القوي ما يكون خارقا، وما يكون دالا على أن اللَّه يبدع ما لا يعرفه الناس في أعرافهم وبمقتضى سنة الوجود الإنساني التي سنها اللَّه تعالى له في هذه الأرض.
أولى القصص الثلاث - قصة أهل الكتاب الذين ناموا لتسع سنين وثلاث مائة، وتراهم أيقاظا وهم رقود، ويقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، وقد تلونا من قبل الآيات الخاصة بهم، وذكرنا ما أدركنا من معانيها.
والقصة الثانية - قصة عبد صالح آتاه اللَّه من لدنه رحمة، وآتاه بعض العلم بالأسباب فيما يقدره اللَّه سبحانه وتعالى وصاحب نبيا من أولي العزم من الرسل، وهو موسى - عليه السلام -، ونتلو بين يدي القارئ قصصها إن شاء اللَّه تعالى.
والقصة الثالثة - قصة رجل آتاه اللَّه علما وحكمة وإذا كان لم يؤته علم الغيب فقد آتاه اللَّه تعالى علم الأشياء وما في الأرض وبه ختمت السورة.
وإذا كانت القصة الأولى تنبئ عن قدرة اللَّه تعالى في الإحياء، وفي بقاء الحياة مع اختفاء الحركة، والقصة الثانية تنبئ عن أن لكل شيء سببا، وإن كنا لا نعلمه فآتى اللَّه عبده الصالح علم بعضه، ففي القصة كيف يمكن أن تكون الأرض وما فيها علما للإنسان يأتيه بعقله واختياره فيأتي بالعجائب، بعد هذه المقدمة القصيرة نتناول آيات العبد الصالح.
كان موسى يسير مع فتاه على سيف البحر، يبدو أنه سيف البحر الأحمر من جهة الشرق، وجد العبد الصالح أنه وفتاه يسيران حتى بلغ مجمع البحرين، وإليك الآية الأولى قبل اللقاء بالعبد الصالح:
موسى - عليه السلام - هو موسى بن عمران المذكور في القرآن، لأنه لم يذكر علم اسمه موسى سوى هذا الرسول الكريم، ومن يقول إنه موسى غيره، فهي دعوى بلا دليل ولا مصدر لها إلا ممن يشكك في القرآن بخلق أشياء لَا أصل لها حول عباراته، إبعادا لمعانيه عن المراد منها، وقوله (لا أَبْرَحُ)، أي لَا أترك السير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، وهذا يفيد أن المقصد الأول له أن يبلغ مجمع البحرين أو يسير حُقُبا، أي زمنا طويلا، أي ما شاء اللَّه تعالى أن يسير، ويظهر أن ذلك كان من موسى - عليه السلام - لتعرف الأراضي والناس في مرتحله، أو ليرتاد لبني إسرائيل مقاما، وقد سبقهم للارتياد ليكفيهم مئونته أولا، ولينقلهم إليه بعد الاهتداء إليه وتعرفه، وقد وصل إلى مقصده وهو بلوغ مجمع البحرين، ولذا قال تعالى:
ومجمع البحرين الذي بلغه نبي اللَّه تعالى موسى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - يكون في المكان الذي خرج إليه موسى من أرض مصر، وقد خرج إلى سينا، والأردن، فهذه الأرض كانت المسار الذي يسير فيه، وهنا مجمعان كانا في ذلك الزمان، فكان هنا مجمع يلتقي فيه الخليج الفارسي بالمحيط الهندي وهنا مجمع يلتقى فيه البحر الأحمر أو بحر القلزم ببحر الأردن، وهو خليج العقبة ولا يهمنا أيهما، إنما يهمنا أن موسى - عليه السلام - كان هدفه الوصول إلى مجمع البحرين أيهما في هذه المنطقة، وقد يكون قد سار إلى كل واحد منهما في نوبة من نوبات سيره، ويظهر أنهما في هذه الرحلة المتعرفة الباحثة التي يرتادها قد أعد للرحلة عدتها، فأخذ معه حوتا، يشويانه هو وفتاه في رحلتهما سدًّا للجوع، ولما بلغا مجمع البحرين تبين لهما أنهما تركا الحوت نسيانا له ولاشتغالهما بأمر الرحلة، وتعرف طرائقها المعبدة، ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَا مجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) والنسيان لم يكن وقت البلوغ ولكن تبين النسيان في ذلك، لأنهما بحثا
ولذا قال تعالى:
كأنهما استمرا في سيرهما حتى جاوزا مجمع البحرين سارا برا؛ حتى وصلا إليه، ثم اجتازاه بعبوره في قارب حتى وصلا إلى البر الثاني دارسا متعرفا مرتادا.
عندئذ أحس بالنصَب، والنصب جعلهما يحسان بالجوع، والنصب هو التعب من الجهد المبذول، وأضاف اللقاء إليهما ولم يقل نزل بهما التعب؛ لأنه نصب مختار لهما ولطلبهما.
والفتى هنا هو الخادم أو التابع، والتعبير القرآني عن التابع أو الخادم بفتى، ولقد قال النبي - ﷺ -: " لا تقل عبدي وأمَتي، بل قل فتاي وفتاتي ".
قال ذلك موسى لفتاه، ويظهر أنه قد علم غياب الحوت قبل أن يعلم موسى، ولذا هو الذي أخبر بغيابه، ولعله باشر حاله وهو يتخذ سبيله في البحر سربا، ولذلك كان يعلم من بعد مكان غيابه، وهو مكان بجوار صخرة، فقال:
تبين أنه كان يعلم غيابه وتركه، إذ أوى موسى إلى صخرة، رقد عندها من التعب كما أرهق التعب الفتى أيضا، فترك الحوت (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)، أي أنه تركه فالنسيان هنا بمعنى الترك والذهول، وما كان يحسب أنه سيتخذ طريقه إلى البحر بطريق (عَجَبًا)، فعجبا مفعول مطلق وصف لمصدر، فاتخذ طريقه إلى البحر اتخاذا عجبا، وما كان يحسب أنه سيفعل ذلك، إذ كان في مكتل فخرج منه وأخذ طريقه إلى البحر.
ويظهر أن موسى - عليه السلام - كان قد علم من ربه أن العبد الصالح سيلقاه عند الصخرة، ولكنه تركها وهو مار ورقد عندها ولم يتنبه بسبب الرقود عندها أنها الملتقى، ولكن اللَّه تعالى رده إليها، بعد أن تنبه إلى أن الحوت ترك عند الصخرة فكان لَا بد من العودة؛ ولذلك قال:
الإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ) إلى العودة إلى الصخرة والرجوع إليها و (قَصَصًا)، أي يتبعان أثرهما مقتفين للطريق الذي مرا به؛ لأن الصخرة موضع اللقاء بالعبد الصالح.
* * *
اللقاء
قال اللَّه تعالى:
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا
* * *
التقى موسى بالخضر عليهما السلام، وجاء في البخاري عند لقاء موسى وصحبه بالخضر. وجدا الخضر على طنْفِسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه، فَسَلَّم عليه موسى فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضك من سلام!! من أنت؟ فقال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؛ قال: نعم، قال: فما شأنك؟، قال جئت لتعلمني مما عُلِّمت رشدا (١).
وقال الثعلبي في كتاب العرائس، أنه قال عند رد السلام " وأنى بأرضنا السلام، ثم رفع رأسه واستوى قائما، ثم قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى - عليه السلام -: وما أدراك بي؟، ومن أخبرك أني من بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك عليَّ، ثم قال: يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتَّبِعك وأتعلم من علمك.
هذا هو اللقاء، بين علم النبوة وعلم القدر الذي آتاه اللَّه بعض أسباب عمله سبحانه وهو الحكيم، وقد اعتمدنا في خبر اللقاء على المروي لأنه لَا تَزَيُّدَ فيه، ولأنه متلاق مع النص القرآني أشار إليه، ونبه عليه.
الفاء في قوله تعالى:
________
(١) القصة كاملة رواها البخاري: تفسير القرآن - قوله: (فلما بلغا مجمع بينهما)، (٤٣٥٧).
والحق أنه يضاف إلى ذلك أن علم الخضر علم الأسباب في بواعثها، وعلم موسى علم الأسباب في واقعها، كما سنرى ذلك في المجاوبة التي كانت بينهما.
طلب موسى - عليه السلام - من أن يأذن له باتباعه، فقال:
سأل موسى - عليه السلام - الخضر سؤال التلطف المستأذن في الاتِّباع، فلم يرد أن يظهر بمظهر المقحم لنفسم المتهجم بها، وقد قال القرطبي: " هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك، ويخف عليك " وهذا بلا ريب تعليم لآداب الصحبة أنها تكون باتفاق النفوس، وتلاقي القلوب، والاستفهام لبيان إرادة الاتباع في أبلغ أدب، وبين سبب ذلك الطلب، فقال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، و (رُشْدًا) مفعول لـ (تُعَلِّمَنِ)، أي أتبعك على أن تعلمني رشدا مما علمت، و (عَلَى) تفيد الشرط، أي أن هذا الاتباع لغاية؛ ولذا كان شرطها أن تعلمني رشدا مما علمك الله تعالى، وبني الفعل للمجهول؛ لأن المجهول في اللفظ معلوم في الحقيقة، فقد سبق قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) وتوقع الخضر - عليه السلام - ألا يصبر؛ لأنه ستقع منه أمور غريبة في ظاهرها، ولا يصبر أحمد على الغريب من غير أن يتعرفه، فقال تعالى:
أكد أنه لَا يستطيع صبرا على ما يقع منه؛ لأنه أوتي علم الوقائع في صورها الظاهرة، ونتائجها المعروفة، وأكد أنه لَا يستطيع الصبر، بـ " إنْ "، و " لن "، والآية بعدها:
وقوله: (لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، أي في صحبتي صبرا؛ لأنك ستجد غرائب بالنسبة لك، ولا تصبر على أمر لم تحط به خبرا، الإحاطة بالخبر العلم به في واقعه ونتائجه، وأنت ستعلم الواقع. ولا تعلم نتيجة هذا الواقع التي لَا يعلمها إلا اللَّه تعالى وقد علمني بعضه سبحانه، وأحاط بالأمر، أي كان عالما به، كقوله تعالى: (... أَحَاطَ بِكل شَيْءٍ عِلْمًا)، وأحاط به خُبْرًا معناه أحاط متصلا به خبرا، بالاختبار والمعاينة، ومؤدى هذا الكلام أنه يقول لموسى عليهما السلام إنك لَا تعلم إلا ما تختبره وتعاينه، ولا تعلم نتائج الأعمال الظاهرة التي يقدرها اللَّه سبحانه وتعالى في علمه المكنون.
وعَدَه موسى - عليه السلام - بالصبر تعليما لكل ذي حاجة أن يكون في طاعة من يحتاج إليه إذا كان في الخير:
السين لتأكيد ما يقع في المستقبل، وهنا نجد كلام كليم اللَّه موسى اشتمل على ثلاثة أمور: أمران فيهما الطاعة، وأمر فيه التعليق على مشيئة اللَّه:
الأمر الأول - وعده بالصبر، فقال: (سَتَجِدُنِي)، أي إني منفذ ما طلبت، وستجد ما طلبت وهو الصبر قائما، على أنه وصف مستمر، ولذا قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا).
الأمر الثاني - أنه تأدب بتأدب تعلق على المشيئة، كما أمر اللَّه نبيه محمدا فقال: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) فهذا تأديب اللَّه تعالى لأنبيائه وعباده الصالحين.
أخذ العبد الصالح يبين حدود الصبر، وأنه صبر على الامتناع عن السؤال عن سبب الفعل مع غرابة الفعل في ذاته، وهذه طاقة عالية في الصبر، فإن العقل طُلَعَة يريد تعرف سبب كل واقع، وسر كل مجهول، فقال:
قال العبد الصالح لموسى وقد وعده بالصبر، والفاء للإفصاح عن الاتباع المشروط بالصبر، أي إن صبرت فاتبعتني فمقتضى ذلك ألا تسألني عن شيء تستغربه، (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) لعلته، أي لَا تسألني حتى أبادئك بالبيان، وذلك من مقتضيات الصبر، ومن آداب المتعلم أمام المعلم، والتابع للمتبوع لا يبادره حتى يبين هو ما عنده، والتعبير بالذكر يشير إلى أن ما يخبر به من بعد هو تذكير بقدرة اللَّه تعالى.
بعد هذه المواثيق بين موسى كليم اللَّه تعالى والعبد الصالح عليهما السلام أخَذَا في السير؛ ولذا قال تعالى:
(الفاء) في (فَانطَلَقَا) للترتيب والتعقيب، أي أنهما عقب أخذ هذه المواثيق، انطلقا فور ذلك الاتفاق، والتعبير بـ (انطلقا) يومئ إلى أن كليهما فرح بهذه الصحبة وسارا ما شاء الله أن يسيرا إلى أن وجدا سفينة، وكان السير على سيف البحر، (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا)، أي أنه خرقها وقت أن ركبها، وفى الصحيحين أنهما لم يدفعا أجرا، وخلع لوحا منها، لم يدرك موسى - عليه السلام - الذي أوتي علم المباح والممنوع، ولم يعط من علم الغيب شيئا، لم يدرك، فقال: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) اللام في (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) لام العاقبة،
لم يسأل موسى - عليه السلام - عن السر، ولكنه أبدى استغرابه، ولم يستطع الصبر، ولذا قال العبد الصالح:
الاستفهام بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات وهو هنا يفيد الاستنكار والتوبيخ، والمعنى لقد قلت لك إنك لن تستطيع معي صبرا؛ أي في صحبتي صبرا، لأنك تسير مع ما يحكم به على الأشياء والأعمال في الحياة، والعبد الصالح يعلم علم الحقيقة، وهو نتائج الأعمال في العلم المغيب عن الناس جميعا في هذه، فهو يخالف بين العلم بالأحكام التي تحكم بين الناس، والعلم بالحقائق التي يقررها اللَّه تعالى، ونتائجها، فالفرق بين العلمين، العلم بما ينظم الناس عليه أمورهم والعلم برب الوجود، وما قدره الله تعالى.
أدرك كليم اللَّه تعالى خطأه، واستدرك أمره، فقال معتذرا:
لا تؤاخذني بطلب رفع المؤاخذة بسبب النسيان، فـ " ما " وما بعدها مصدر، والنسيان يرفع المؤاخذة ويسقط التبعة، وما تركت من وصيتك من ألا أسألك عن شيء قبل أن تحدث أنت منه ذكرا - إلا للنسيان (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)، أي لا تشتد على في التعنيف فيكون الإرهاق الشديد، والمعنى اللفظي لَا ترهقني عسرا من أمري فتغلظ على الصحبة التي أريدها.
ولكنهما سارا مصطحبين، فكان أمر أشد غرابة، وأعنف مظهرا من خرق السفينة، وهو قتل غلام، ولقد قال تعالى:
انطلقا سائرين على سيف البحر، ولكن حدث ما أثار استغراب موسى بل استنكاره (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ)، أي أن السير استمر إلى غاية، وهو لقاء غلام، والفاء في قوله تعالى: (فَقَتَلَهُ) للتعقيب، أي أنه قتله فور لقائه، وهذا يدل على أنه لم يرتكَب ما يسوغ القتل؛ إذ إن القتل كان فور اللقاء.
وهنا يتخالف مع علم الحلال والحرام، وعلم الحقيقة الغيبية فيكون الاستغراب، ويقول موسى الكليم مستغربا لائما (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكيَّةً)، أي طاهرة غير معتدية نامية، لأنها في باكورة حياتها، إذ التزكية التنمية، بغير مسوغ يسوغ لك هذا الفعل؛ ولذا قال بغير نفس، أي حتى يكون القتل قصاصا لَا اعتداء فيه (لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) أي أمرا منكرا في ذاته تستنكره العقول، ويخالف كل معقول.
وقد كان الفعل شديدا، والاستنكار شديدا، وهو أيضا من التخالف بين علم الحلال والحرام، وعلم الحقيقة الغيبية، وقد وصفه كما ذكرنا بأنه شيء نكر، تنكره العقول وكل عرف إنساني، وقد كان اللوم على الاستغراب أشد.
ولقد قال تعالى في بقية القصة الصادقة:
* * *
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي
* * *
كان استغراب موسى شديدا، وكان معه استنكار ووصف له بالنكر، ولذلك كان التذكير بأنه لم يستطع صبرا بأسلوب قوي فيه لوم أشد، فقال تعالى:
فقد زيد (لَكَ) عن اللوم السابق الخاص بخرق السفينة، وهي تفيد مزيد اللوم، إذ إنه يذكره بأن الخطاب كان له، وفي ذلك فضل توكيد للوم، لأنه لم يكن الخطاب لغيره، بل كان له ابتداء، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع مع اللوم وتحقيق القول، والمعنى لقد قلت لك إنك لن تستطيع معي صبرا، وفيه تأكيد لعدم الاستطاعة بالجملة الاسمية و " إن " الدالة على التوكيد، و " لن " المؤكدة للنفي، وتنكير الصبر، أي صبرا كان قليلا أو كثيرا.
لقد قال موسى لصاحبه في المرة الأولى: (وَلا ترْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)، أي لَا ترهقني عسرا من أمري، فتجعلني في عسر من صحبتك بل تغاض، وسهِّل
أحس موسى - كليم اللَّه تعالى - بشدة اللوم، وأحس بأنه كان منه ما أوجبه، ولذا قال في حال تشبه الاعتذار:
اعتزم موسى - عليه السلام - ألا يسأله عن شيء بعد هذه المسألة، وفي الواقع إن ما كان منه اعتراض وليس بسؤال؛ لأن السؤال استفسار، وليس فيه حكم على الفعل بأنه خير أو شر، أو بأنه موضع ملام أم ليس بموضع، وكلام موسى - عليه السلام - كان يحمل معنى اللوم لَا الاستفسار ولكنه سماه سؤالا؛ لأنه أمره بالصبر وخالفه، وتأدبا معه في القول فأراد أن يحمل كلامه على أنه استفسار، وليس باعتراض، وقوله تعالى: (بَعْدَهَا) الضمير يعود إلى مفهوم القول، وهو المنكرة التي أنكرها على العبد الصالح؛ إذ رماها بأنها نُكْرٌ تستنكره العقول والأفهام، وفي هذا ترشيح للاعتذار عن العبد الصالح، وتمهيد لقوله تعالى: (قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا)، أي فقد كان بلغت عذرا في لومك لي، والمعنى أعذرت لنفسك عندي، و (لَّدُنِّي) يعني عندي، ولا تكون إلا للعندية في أمر خطير، وأكثر ما تكون للعندية عند اللَّه تعالى كقوله تعالى: (... مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).
استمرا في سيرهما مراقبين لأعمال العباد، فقال تعالى:
سارا منطلقين إلى الغاية التي أرادها موسى من العبد الصالح؛ لأن اللَّه آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما، (حَتَى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ)، وإن الذي يسير لا يأتي أهل القرية أولا، أنما يأتي القرية أولا بمبانيها، وطرقها، ويتعرف أهلها،
ومع ما بدا عليه أهل القرية من بخل رأى جدارا آيلا للسقوط فأقامه؛ ولذا قال تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ)، أي أن موسى والعبد الصالح وجدا جدارا قد تداعي للانهيار أو آل للسقوط فأقامه مع أهلها، وقد عبر اللَّه تعالى عن الأيلولة للسقوط بقوله سبحانه: (يُرِيدُ أَن ينقَضَّ)، أي ينهار والإرادة هنا تعبير مجازي، فقد شبه الجدار الذي مال للسقوط بإنسان له إرادة، وأراد أن يقع، وينقض تجريد للإجازة؛ لأنه وصف يناسب المشبه، ولقد أفاض الزمخشري بباعه الطويل في البلاغة في هذا المجار فقال: (يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ) استعيرت الإرادة للمداناه والمشارفة، كما استعير الهم والعزم.... قال حسان:
إن دهراي لف شملى بِحُمْل... لزمان يهم بالإحسان
وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وقول اللَّه تعالى: (... قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
وقد ضرب على ذلك أمثلة كثيرة، لقد أخبرنا اللَّه تعالى أنه أقامه، ولكن لم يبين لنا سبحانه كيف أقامه، أهدمه ثم أقامه من جديد؛ أم أقام أعمدة سندته أم رمَّ ما فيه من ثغرات؟، لم يبين القرآن ذلك، ولا تستطيع معرفته بروايات من غير القرآن إلا أن تكون سنة نبوية ثبتت بسند صحيح، لَا مرية فيه، ولا وهن، وإن كنا
الإشارة إلى الأمر الأخير، وهو قوله: (لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، أي أنه ترك الأجر لقوم غير كرام، بل هم لئام وذلك يدل على أن مغبة عدم الأجر ترجع إليه لأنه لم يشأ أن يطلبه.
كانه بهذا يشير إلى أن كثرة المجاوبات وعدم الصبر هو الذي كان سبب الفراق بيني وبينك، أي أن هذا هو الحد الفاصل بيتنا، ويصح أن تكون الإشارة، إلى النهي عن المصاحبة، إذا سأله فقد قال موسى: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي).
ومهما يكن ما يشير إليه اسم الإشارة، فالمعنى أن ذلك هو الحد الفاصل الذي فرق بينهما في هذه الصحبة، فهو إيذان بانتهاء المصاحبة التي كان منها ذلك التعليم مما علمه اللَّه تعالى.
وبعد أن أنهى المكالمات بينهما، أخبره بسبب ما فعل، أو الغاية والمآل من فعله فقال: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) الإنجاء: الإخبار بالأخبار الخطيرة والتأويل معناه معرفة المآل، والسين للإخبار المؤكد في المستقبل، وقوله
أخذ بعد ذلك ينبه بالسفينة، ثم بقتل الغلام، ثم بإقامة الجدار، فقال تعالى:
بعد ذلك أخذ في تفصيل أو تفسير ما فعل وغايته الغيبية أو المال العيني، (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)، المساكين هنا جمع مسكين، وليس هو المسكين القسيم للفقير الذي هو أدنى حالا من الفقير، عند بعض الفقهاء، - أو أعلى حالا من الفقير على قول آخرين، إنما المراد الضعيف الذي لا قوة ولا سطوة لقلة في العدد، أو لاستخذاء أمام قوي غالب، والمراد لقوم ضعفاء، كانوا يعملون في البحر بحارة أو تجارا، ولم يكونوا ذوي قوة تغلب أو تقهر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وراءهم في السير، أي أنهم يسيرون ويسبقونه، ويكون هو بعد سيرهم، فهو يستقبلهم، ويغتصب سفينتهم لضعفهم واستكانتهم، وقوله تعالى: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) فهي مقدمة عن تأخير؛ لأن سبب إرادة عيبها أن وراءهم ملكا إلى آخره، والسبب مقدم على المسبب، ولكنه قدم هنا إرادة العيب على سببها؛ لأن إرادة العيب هي سبب لمنع الغصب قدمت عليه، إذ هذا العيب يحمى هؤلاء المساكين وسفينتهم من الغصب، إذ يراها ليست مما يرغب فيه، فيمتنع عن غصبها لَا كراهية للغصب في ذاته ولكن استحقارا لها بعد هذا العيب.
والعيب يمكن إصلاحه، والمهم إنقاذ السفينة من اغتصاب المغتصب.
وإن هذا التأويل يدل على أن ظواهر الأمور قد تكون ضارة بادي النظر، ولكنها في غايتها، خير وفير، (... وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ...).
هذا هو تأويل خرق السفينة أو بيان مآله، أما قتل الغلام فقد قال فيه كما حكى اللَّه تعالى عنه:
والغلام يطلق على الصبي المراهق الذي لم يبلغ الرشد، وقد قتله كما تلونا، واستنكر موسى - كليم اللَّه تعالى - بعلم الحلال والحرام تلك القتلة، ووصفها بأنها أمر نكر، وهذا تأويل تلك الفعلة، أي معرفة مآلها، ونتيجتها، يقول العبد الصالح الذي آتاه اللَّه تعالى علما من لدنه (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ)، أي ولم يكن يرجو أن يكون ولدا صالحا تَقَر به أعينهما بتقواه واستقامته، بل توقع منه الشر أو علمه مما علمه اللَّه تعالى، ولذا قال: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وكُفْرًا)، أي علمنا مما علمنا اللَّه أنه سيكون منه شر كبير، فبسبب ذلك خشينا أن يكون منه إرهاق نفسي ومادي لهما ويطغى عليهما ويكفر، فمعنى (أَن يُرْهِقَهُمَا)، أي ينزل بهما رهقا (طُغْيَانًا) يطغى به عليهما فلا يكون بارا بهما، بل يكون عاقا لهما يؤذيهما، (وكفْرًا) يكون سبة لهما، ومصدر إيذاء.
قتله لذلك، ولأنه أراد لهما ذرية طيبة طاهرة تقر به أعينهما؛ ولذا قال:
يتكلم بلغة المتكلم ومعه غيره، وهذا يسير إلى أن اللَّه معه فهي ليست إرادته وحده، إنما هي إرادة اللَّه سبحانه وتعالى، وهو لها منفذ، فلم يجعلها له وحده لأنها ليست إرادته وحده، ولم يجعلها للَّه تعالى؛ لأنه لم يجد من الأدب أن ينسب القتل للَّه تعالى.
وهنا يسأل سائل: لماذا قال في السفينة (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) ولم يقل بلسان المتكلم ومعه غيره؛ لأن خرق السفينة ليس في حظ القتل فصح أن ينسبه لنفسه، وإن كان بأمر اللَّه، أما القتل فأشار إلى أنه بأمر اللَّه تعالى لخطورته، وأسند التبديل إلى اللَّه؛ لأنه لَا يكون إلا منه، (الفاء) هنا تفيد السببية الظاهرة، أي أنه بسبب ما يخشاه منه من الكفر والطغيان كانت إرادة التبديل، وقوله تعالى: (أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ)، أي أن يجعل بدلا منه يحل محله خيرا منه زكاة، أي طاهرا ناميا، وأقرب رحما، الرُّحم بضم الراء تطلق ويراد منها الرَّحمة، وتطلق ويراد
بعد ذلك أجاب عن الجدار، ولماذا أقامه؟
الغلامان كانا صغيرين كما يدل على ذلك وصفهما باليتم، فإنه لَا يُتم بعد البلوغ إلا أن تكون آفة في العقل أو النفس، واللفظ يطلق على ظاهر ما لم يقم دليل يوجب تحويله عن الحقيقة إلى المجاز، وإطلاق اليتم على البالغ مجاز، ولقد قال ابن عباس في هذا المجاز الرجل يتيم ما لم يرشد ولو بلغ الأربعين، ولكن ذلك مجاز لَا حقيقة.
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) الأب هو الأب القريب؛ لأنه لَا يكون يتيما إلا إذا كان قد فقد الأب القريب، ولا يكون الصلاح ممتدا إلى الأبناء كما تشير الآية إلا إذا كان الولد صبيا، كما قال النبي - ﷺ -: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له " (١) فصلاح الأبناء ينسحب خيرا للآباء، وكذلك صلاح الآباء.
وكان تحت هذا الجدار كنز لهما، وَرثَاه عن أبيهما الصالح فيما يظهر، والكنز المال الكثير المدفون في باطن الأرض بدفن الإنسان، وهذا الكنز مضيع إن
________
(١) سبق تخريجه.
وهنا نجد أن إقامة الجدار كان لأجل استخراج الكنز، وإن ذلك لَا يتم فيما يظهر إلا بهدم الجدار أولا ليظهر ما تحته من كنز، ثم إقامته من جديد بعد كشف ما تحته.
ثم أشار العبد الصالح إلى أن ذلك بأمر الله وتكليفه فقال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، أي ما فعلته صادرا عن أمري، بل منفذا أمر الله، وليس لأحد أن يعترض على أمر اللَّه تعالى: (ذَلِكَ تَاوِيل مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)، أصلها ما لم تستطع صبرا عليه، حذفت التاء تخفيفا في النطق إذ يصعب النطق بالتاء التي يعقبها الطاء لتقاربهما في المخرج، ولم تحذف في (لَن تَسْتَطِيعَ)؛ لأنها متحركات بخلافها هنا فالأولى مفتوحة والثانية ساكنة، الإشارة إلى معرفة المآل في سر خرق السفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وإن ذلك من أمر اللَّه تعالى؛ لأنه يتعلق بالغيب، ولا يعلم الغيب إلا اللَّه ومن يتكلم عن الغيب إنما يأخذ من علم اللَّه الذي علمه بعض عباده الصالحين.
أجمعت كل الصحاح على أن العبد الصالح هو الخضر، ويلاحظ أن القرآن الكريم ذكر أقواله ومجاوباته مع كليم الله موسى عليهما السلام ولم يذكر عن شخصه إلا أنه عبد من عباد اللَّه آتاه رحمة، وعلمه من لدنه علما، فإذا ثبت في الصحاح أن اسمه الخضر، وهو من الخضرة والنضرة نقبله غير معترضين، ولكن راضين خاضعين مذعنين، والعبرة في القصة بمعانيها، ولا مشادة في الاسم بالنسبة لها.
وإن القرآن الكريم ذكرت فيه على أنها قصة قد وقعت ومجاوبات قد قامت بين موسى، والعبد الصالح فهي واقعة صادقة، ولا مساغ لتفسيرٍ بغير أنها خبر قد وقع وثبت.
ولكن قد أثير كلام حول رؤية الخضر أكان مرئيا بالعيان كما ترى الأشخاص، أم أنه كان مرئيا فقط لموسى - عليه السلام -، وأنه لم يُر وهو يخرق السفينة إلا لموسى فقط، ولم ير وهو يقتل الغلام إلا لموسى، وكذلك عندما أقام الجدار، ولو أنه رؤي وهو يقتل الغلام لطارده الناس وما تركوه، وكذلك الجدار فإنه يحتاج إلى هدم وإقامة، وينظر الناس إليه وهو يهدم ويبني، ويظهر الكنز، وكل هذا يحتاج إلى زمن طويل يكون مرئيا فيه للناس.
وإني أميل إلى أن الرؤية كانت خاصة بموسى - عليه السلام -، كما يشاهد الأنبياء الملائكة، ومع ميلنا لهذا نقول: " إن اللقاء الأول كان مرئيا فيه لموسى ولغيره؛ لأن اللَّه يسند فيه الرؤية لموسى ولفتاه "، فيقول اللَّه تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).
ولعل السبب في أن الفتى لم يذكر له خبر في مسألة السفينة والغلام والجدار وكان يذكر الحديث عن اثنين فقط هما موسى والخضر، ولا يهمنا أين تركه وفي أي مكان افترق عنه فتاه.
وأن ما يجريه اللَّه تعالى معنا ربما لَا يتفق مع ما نرغب، ولكن قد يكون ما غيبه اللَّه تعالى خيرا لنا، كما رأينا في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار فإنه في هذه الأمور كان خرق السفينة الذي هو عمل اللَّه تعالى سخر له عبدا صالحا من عباده خفي أمره على الناس.
ومن الفوائد التي اشتملت عليها الآيات أن رحمة اللَّه تعالى تعم دائما ولا تخص، وأن رحمته تكون على الضعفاء، فقد قدر سبحانه وتعالى أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، فقرر أن تخرق لتكون معيبة، فلا يأخذها الذي يأخذ كل سفينة غصبا، وهذه من رحمة اللَّه تعالى بالمساكين الذين يعملون في البحر صائدين أو ناقلين لما ينفع الناس.
وإن قدر اللَّه تعالى يجري على بقاء الصالح، وفناء غير الصالح، ولذا قتل الخضر الغلام الذي خشي أن يرهق أبويه الصالحين طغيانا ويبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
وفى القصة من الآداب الإنسانية، والأخلاق العالية الكثير، فنرى أنه يجب على الإنسان أن يطلب العلم، وأن يبذل الجهد في طلبه غير مدخر في ذلك جهدا؛ فهذا موسى - عليه السلام - يسير في طلب العلم حتى يلقى النصب.
وإن السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لوحظ فيها احتمال الضررين بدفع أخفهما، وقد لوحظ ذلك في السفينة وقتل الغلام فقد خرقت السفينة لمصلحة العاملين في البحر، ودفع الاغتصاب، وكذلك قتل الغلام لنفع أشمل، وإقامة الجدار فيه نفع كثير بتحمل ضرر قليل، وذلك أصل مقرر في الشرع يؤخذ به إذا لم يكن نص.
* * *
قصة ذي القرنين
قال اللَّه تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩)
* * *
الأمر الأول - أمر أهل الكهف، وهو رؤية حسية يراها الناس كيف يجعل بعض الناس بين الموت والحياة إكراما لجهادهم، وهو تصوير لشهداء الحق كيف يكونون بين الحياة والموت، حتى ينالوا جزاءهم جزاء موفورا.
الأمر الثاني - كما ذكرنا قصة عبد صالح آتاه اللَّه بعض العلم بالغيب الذي لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، وما يشاء أن يعطيه بعض ما يعلم من عباده الأطهار فأعطى عبده الصالح بعض ذلك، وفي ذلك بيان أن قدر اللَّه تعالى بني على الحكمة الكاملة فقد يحسبه أهل العلم بالظاهر شرا، وهو عند اللَّه تعالى له عواقب كلها خير.
الأمر الثالث - قصة رجل صالح من نوع غير نوع رجل موسى - عليه السلام -، وهو رجل خير تهيأت له الأسباب فاختار طريق الخير، وألهم العمل الصالح من غير تعليم من لدن اللَّه، بل بتوفيق اللَّه تعالى وتيسيره، وجهاده وإرادته الخير، ومثل من كان صالحا بهذا العمل الإرادى، والعبد الصالح كمثل اثنين أحدهما أوتي علما من علم القدر يسجل نتائج الأعمال، كما قدرها اللَّه مرتبة على ما فعل، والثاني أوتي قدرة بتوفيق اللَّه تعالى وإذنه على أن يقوم بعمل فيه مصلحة مؤكدة ونفع مؤكد يفعله قاصدا إليه، وهو في هذا يكافح أهواءه، ويقصد الخير قصدا واضحا بينا، والكل بفضل اللَّه وإذنه وتيسيره وتوفيقه.
السائلون هم المشركون بتعليم من اليهود، أو من اليهود مباشرة، فقد جاء في كتب السيرة أن اليهود قالوا للمشركين، سلوه عن الروح وعن العبد الصالح، وعن رجل ملك وكان صالحا، وجاء أن اليهود سالوا النبي - ﷺ - عن ذلك وهو بالمدينة.
ونحن نرجح أن المشركين سألوا بتحريض من اليهود؛ لأن السورة مكية فالأقرب أن تكون المجادلة بينه وبين المشركين في مكة وهم قد يستعينون في مجادلتهم النبي - ﷺ - بأهل الكتاب.
وكان من حقنا أن نكتفي بمعرفة صفاته وأفعاله ولا نحتاج في فهم ذلك إلى معرفة شخصه أو من أي قبيل هو، فإن ذلك لَا يزيد علما بالقرآن ومعانيه، كما لا يهمنا شخصية فرعون موسى، ولا في أي قرن من الزمان كان بعثه.
ولكن المفسرين تعرضوا لمعرفة شخصه، فقال قائل: إنه كان في عصر إبراهيم ولا مستند لهذا القول، وقال آخرون مستندين إلى بعض آثار منسوبة للنبي - ﷺ -: إنه الإسكندر المقدوني باني الإسكندرية حوالي سنة ٣٠٠ قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وعلى هذا الرأي أكثر المفسرين الذين تصدوا لذلك، ولكن قام على هذا الرأي ثلاثة اعتراضات:
الاعتراض الأول - أن هذه الآثار لم تصح عن النبي - ﷺ - ذكرها ابن جرير، وكذبها الحافظ ابن كثير.
الاعتراض الثاني - أنه كما ذكر في عبارات القرآن كان موحِّدًا، حتى ادعى أنه نبي، والإسكندر المقدوني المعروف عنه أنه كان يدين بوثنية اليونان والرومان.
الاعتراض الثالث - أنه سمي في القرآن بأنه ذو القرنين، ولم يكن المقدوني ذا قرنين، ولم يسم ذا القرنين.
وقد أجيب عن الثاني بأن كونه كان في قوم وثنيين لَا يقتضي أن يكون وثنيا، فالنجاشي كان في النصارى، وكان مؤمنا موحدا، فإذا كان القرآن ذكر ذا القرنين مشيرا إلى أنه موحد، فليس في أخبار المقدوني ما ينفي وحدانيته.
وفى الحق أنه لو صدقت الرواية عن النبي - ﷺ - بأنه باني الإسكندرية ما عدلنا عن هذا القول، لأنه يكون تفسيرا للقرآن بالسنة وهي المبينة للقرآن.
وهناك قول قاله العلامة الهندي أبو الكلام زاده وهو أنه غورش الفارسي الذي أنقذ بني إسرائيل من أسرهم في بابل، فقد وصف في التوراة التي بأيدينا في سفر دنيال وغيره بأنه لقب " ذو القرنين " لعظيم قوته واتساع ملكه وقوة سلطانه.
ويقرب هذا أنه ينطبق عليه الوصف المذكور في القرآن، وأن السؤال كما جاء في القرآن الكريم منبعث من اليهود، سواء وجهه اليهود إلى النبي - ﷺ - مباشرة، أم وجهوه عن طريق المشركين كما اخترنا ورجحنا، وأما ملكه فقد كان في وسط بين غرب آسيا وشرقها وأنه اتجه بسلطانه إلى الغرب، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الشرق، كما يومئ القرآن الكريم، إذ إنه ابتدأ بذكر عمله في الغرب ثم في الشرق، وإنا لَا نختار رأيا لأننا لَا نحتاج إليه في تفسير القرآن الكريم لأنه واضح المعنى ولو لم يعرف قبيل ذي القرنين.
ْهذه هي النظرة إلى شخص ذي القرنين، وإن كانت معرفة شخصه لَا تزيد القرآن بيانا، بل العبرة في خبره ثابتة ولو لم يعلم جنسه وقبيله.
وقوله: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) الخطاب للنبي - ﷺ - في (قُلْ)، والخطاب في (عَلَيْكُم) للمشركين السائلين، للاعتبار؛ لأف خبر رجل صالح، ممكَّن فأقام العدل، وأقام المصلحة، ونفع الناس. قوله تعالى: (سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ)، أي من خبره (ذِكْرًا)، أي خبرا يكون فيه تذكير لكم بوجوب التوحيد، وترك عبادة الأوثان، وإقامة العدل، ونفع الناس بدل إيذائهم، والتعبير
أي جعلناه ممكنا في الأرض آتيناه حكما ثابت الدعائم قائما على عُمُد ثابتة ممكَّنة، وآتيناه سببا من كل شيء، السبب هو الطريق الموصل والحبل المربوط الذي يصل بين الأشياء، أي آتيناه سببا من كل شيء، بأن آتيناه علما يوصل لأي شيء يختاره، فآتيناه من السلطان أسبابا، ومن العلم أسبابا، ومن الإصلاح الزراعي والتجاري. والسبب في الأصل الحبل، فالمعنى آتيناه علما يتخذه سببا لكل ما يرى.
أي أنه يردف السبب سببا لشيء آخر، وهكذا تتوارد أسباب العمل سببا يتبع سببا، أي يجيء من بعده تابعا له، وهكذا مُكِّن في الدنيا، إذ اتخذ سبيل الحق والعدل، يسلك الأسباب الموصلة بما آتاه اللَّه من العلم والإدراك فإذا كان عادلا منصفا استقر حكمه، وانتظمت الأمور، وإذا انتظمت الأمور قويت الجماعة واستقامت الأخلاق وسادت الفضيلة وانتصرت في الحروب وإذا انتصرت أنصفت، وجلبت المصالح، ودفعت المضار، وهكذا تترادف الأسباب وتستقيم الأمور، وإنه بتوافر الخير واتخاذ الأسباب المكونة لدولة قوية عادلة، سار في الأقاليم فاتحا ناشرا لواء والعدل.
ولذا سار يجوس خلال الدول فاتحا مظلا الجماعات بلواء العدل.
اتجه في سيره إلى غرب بلاده أولا، لأنها الأقاليم التي تصاقبه، وإن الحاكم العادل يؤمِّن أرضه من جيرانه أولا، ثم يتجه إلى ما بعدها شيئا فشيئا حتى يصل
" الحمئة " أي ذات حمأة، والحمأ الطين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مسْنُونٍ).
أي أن الشمس تغرب لترى في عين من الماء حمئة، أي فيها طين.
وقرى (حامية)، أي أن هذه العين من الماء حارة شديدة الحرارة، أو حامية أصلها حامئة، أي كثيرة الطين وتتلاقى مع قراءة (حَمِئَةٍ) إذ اللفظ واحد في جملته وإن جرى فيه قلب.
والمراد أن الشمس ترى كأنها غاربة في عين ماء فيها طين، حمأ، وما المراد من هذه العين؛ المراد منها الماء، ولكن أهو ماء المحيط، أم البحر، أم هو ماء نهر؟ الظاهر لدي أنه ماء نهر، لَا ماء محيط، لأنه ذكر أنه عين، وماء العيون في أكثر أحواله ليس ماء ملحا، وإن كان فهو معدني إلى العذوبة أميل، ولأنه ذكر أنها عين حمئة، أي التي اختلط ماؤها بطين، وتلك تكون في الأنهار لَا في البحار.
ومهما يكن فقد كان اتجاهه ونهايته إلى الغرب من آسيا وأصقابها كبلاد البلغار، ونحوها.
هذا كان اتجاهها إلى الغرب، (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا) وجد ناسا قد تهيأ لحكمهم فعلمه اللَّه تعالى بإلهام الحكمة نوع الحكم الذي يحكم، وردد في عقله وقلبه كيف يحكم، (قلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، تردد في قلبه أيحكمهم بالعنف والقسوة، أو يحكمهم بالرفق، فمعنى قول اللَّه تعالى بهذا التردد أنه ردد في نفسه وعقله وقلبه بنور اللَّه تعالى أن يكون عمله أحد أمرين، إما العذاب وإما الإحسان بالتهذيب والإرشاد والتوجيه، وهذا معنى (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، أي إحسانا بالعدل دماقامة القسطاس وسن الشرائع الهادية الموجهة وغير المردية، والحَسَن هو ضد القبيح، واتخاذ الحُسْن معناه اتخاذ ما ليس
بعد هذا التردد في النفس الصافية المهدية بهدى اللَّه انتهى إلى القرار العدلى الذي تهتدي إليه كل نفس بَرَّة تقية، وقد ذكره اللَّه تعالى بقوله سبحانه:
(قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨)
هذا قانون العدل وهو أن يجازي المسيء على إساءته، والمحسن بإحسانه، هذا ما استقر عليه أمره واعتزمه؛ ولذا قال معتزما تنفيذه:
والظلم يقع على كل المنكرات؛ لأن الظلم يكون بنقص الحقوق، والتفريط فيها، ويكون بمجاوزة حد المعقول، فيقع على الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم ويقع على كل المنهيات من المعاصي كالقتل وشرب الخمر والزنى، ورمي المحصنات، والعذاب النكر يكون بالجزاء الذي يملكه ملك عادل جزاء دنيوي.
هذا هو جزاء المسيء في قانون العدل الذي سنه ذو القرنين لنفسه، لَا يفلت المسيء، وكذلك لَا ينقص المحسن من جزاء حسن؛ ولذا قال:
الحسنى مبتدأ خبره الجار والمجرور، أي فالحسنى له جزاء، فـ (جَزَاءً) تمييز محول عن الخبر، وكان التمييز متضمنا البيان بعد الإبهام أو الإجمال، وفي ذلك فضل بيان وبلاغة، وقال: (فَلَهُ) (اللام) للاختصاص، وكان من كرم اللَّه أن جعله حقا للمحسن وليس عطاء يعطي أُعطية، وكان ذلك منًّا وفضلا.
الحال الأولى - إيمان صادق تتطهر فيه النفس والعقل والقلب من شرك الجاهلية وأوهامه.
والحال الثانية - عمل صالح يزكي النفس، وينفع الجمع، ويكون فيه خير للناس.
وذكر جزاء ثانيا فوق الحسنى، وهي نِعْم الجزاء، وهو ما جاء في قوله:
(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) القول اليسر هو هذا القول الذي ييسر الأمور ويسهلها، وذلك بأن يقربه إليه، ويسهل له أسباب الوصول والتمكين والحكم، والقول المشجع على الخير من ملك عادل يدني المصلح الصالح، ويبعد المفسد الفاسد.
ولقد أقام العدل في أقوام الغرب، وأقام ما شاء أن يقيم لتثبيت العدل ودعم أركانه، بعد إقامة بنيانه ثم اتجه المصلح العادل من ذلك إلى الشرق؛ ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ) هنا في موضعها؛ لأنها تدل على التراخي إذ إنه حكم أمدا ليس بقصير في المغرب، وإنه أدنى منه مقاما فإن تثبيت دعائم العدل في النفوس يحتاج إلى زمن ليستقر ويبقى، ويصبح عادة طيبة في الأقوام، و (أَتْبَعَ)، أي أردف إلى الأسباب التي مكنه اللَّه تعالى بها سببا آخر، وهو الذهاب إلى مشرق الأرض، وهكذا أضاف سبحانه إلى تمكينه في الغرب تمكينه في الشرق، فسار متجها إليه، ولقد كان ما يستقبله في المغرب أصعب علاجا، وأقوى مراسا، لأن عمله يتكون من أمور ثلاثة:
الأمر الأول - إقامة العدل.
والأمر الثالث - حماية البلاد من المغيرين عليها.
ولقد قال تعالى في عمله:
* * *
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
* * *
وجه اللَّه تعالى ذا القرنين إلى هؤلاء الأقوام، كما وجهه إلى المغرب لينشر العدل والأمان والاطمئنان فيهم، وإن هذا التوجه، يكون منه ما كان أولا، ويحمل متاعب؛ ولذلك قال تعالى:
الإشارة إلى ما كان منه أولا من إقامة العدل، ووضع الموازين العادلة بينهما، والتشبيه هو بين ما قام أولا في المغرب وبين ما يقوم الآن أو ما يجب أن يقوم به الآن في المشرق، أي أنه بمقتضى ما وهبه اللَّه تعالى من مواهب القوة والقدرة على التنفيذ والشعور بالعدالة الواجبة، ووضع موازين قد كلفه مرة ثانية في المشرق أن يصلح ويدفع الفساد في المشرق، كما أصلح في المغرب، وهكذا يهب اللَّه البشرية في بعض الأزمان رجلا صالحا ينشر العدل والإصلاح ويمنع الفساد، وفي بعض الأزمان يختبر اللَّه تعالى الناس ليظهر الخبيث من الطيب ببعض رجال الفساد - أو دول الفساد - يسيطر، فيضل ويفسد كما نرى في عصرنا ولا حول ولا قوة إلا باللَّه تعالى.
والمقصود الظاهر من النص أن اللَّه إذ كلف ذا القرنين ذلك التكليف هو محيط علما دقيقا بما لديه من قوى عقلية ونفسية وطاقة قادرة على ما كلف ومحيط بما يحتاج إليه ما كلفه من جهد في علاج هذه التكليفات.
وقد بين أنه سار في طريقه متحملا أعباء ما حمله: عبء العدالة والإصلاح، فقال تعالى:
أي أردف إلى الأمور السابقة التي كانت سببا في تحمل ما تحمل سببا آخر وسلك طريقا آخر، و (ثُمَّ) هنا للترتيب والتراخي، والتراخي كان فيما بذله من زمن في تبين حال أولئك الذين يعيشون على الفطرة لم يجعل اللَّه بينهم وبين الشمس سترا في ظل ولا حرور، وبعد مضي زمن في هذه الإصلاحات التي تجعلهم أناسا يعرفون ما لهم وما عليهم، بعد ذلك أردف سببا لواجبات أخرى، فقال:
السدَّان المذكوران في الآية جبلان، قال عطاء أنهما بين أذربيجان وأرمينيا، وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه وجد بين الجبلين قوما (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) هذا
وقد وصفهم كما أشرنا إلى أنهم (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)، أي يقاربون ألا يفقهوا قولا، وهذا يدل على أنهم يفقهون بعض القول ولا يفقهونه كله.
وقال بعض المفسرين: إن ذلك سببه أنهم لَا يعرفون لغة ذي القرنين ومن معه، ولا يعرف لغتهم، ولكن ذلك لَا يعبر عنه بنفي فقه القول؛ لأن فقه القول معرفة أسراره ومراميه، فلا ينفي بجهل معرفة اللغة، على أن المترجمين يغنون في ذلك غناء كبيرا، وذلك إن صح يكون عيبا فيهم، وعيبا في الذين يخاطبونهم، فلا يختصون بالوصف، والظاهر عندي أن المراد أنهم لَا يدركون مرامي الأقوال وأسرارها والأحكام التي تنظم العلاقات بينهم، وهذا الذي يتفق مع (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهونَ)؛ لأن الفقه ليس مجرد المعرفة، إنما المعرفة التي يشق فيها غلاف الأمور لإدراك الحقائق، وما وراء الألفاظ، وذلك إلى العلم بالواجبات، وفقه الأقوال أقرب، ويكون المراد ليس عندهم علم بالعدل ونظام الحكم، وما يجب لجلب المنافع ودفع المضار.
ولكنهم مع أنهم لَا يعرفون الشرائع، ولا نظم الأحكام يرون المضار تتوالى عليهم من جيران أشد جهالة، ولا يخضعون لنظام، ولا يقرون حقوقا، ولا يخضعون لواجب، وهم يأجوج ومأجوج، وهم يسكنون في مناطق منغوليا ومنشوريا، أو هم منهم؛ ولذا لما وجدوا ذا القرنين وما يحمل معه من نظم إصلاحية مانعة من الظلم دافعة للفساد.
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)
و (يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ) قبائل مما وراء جبال أرمينية، وهما اسمان ليسا عربيان، وقد كانوا يندفعون من وقت لآخر يفسدون الحرث، ويعبثون بكل قائم ولا يضبطهم أحد ولا قبل لأحد بدفعهم، وقد ذكر مولانا أبو الكلام زاده في رسالته عن ذي القرنين أن لهم غارات متتالية عبر التاريخ فقال بعنوان: الأدوار السبعة لخروج يأجوج ومأجوج.
سهل علينا خروج هذه القبائل إلى سبعة أدوار:
الدور الأول منها كان قبل العصر التاريخي عندما بدأت هذه القبائل تهاجر من الشمال الشرقي وتنتشر في آسيا الوسطى.
وكان الدور الثاني في فجر التاريخ فترى في ضوئه معالم عبارتين مختلفتين: حياة البداوة، وحياة الاستقرار، فتخلد القبائل المهاجرة إلى السكينة، ومباشرة الحياة الزراعية، إلا أن سيولا جديدة لَا تزال تتدفق من الشرق، ومدى هذا الدور من ١٥٠٠ إلى ١٠٠٠ قبل الميلاد.
ويبتدئ الدور الثالث، من سنة ألف قبل الميلاد، فتجد قوما همجا من البدو في بلاد بحر الخزر والبحر الأسود، ثم لَا تلبث أن تظهر بأسماء مختلفة من جهات مختلفة، وأخذ بعضها يظهر على مسرح التاريخ من سنة ٧٠٠ قبل الميلاد...
أما الدور الرابع فينبغي أن نجعله في سنة ٥٠٠ قبل الميلاد الزمن الذي ظهر فيه عوزوش.
ثم ذكر الدور السادس والسابع وكان ذلك بعد الميلاد، ولا يهمنا ذكرهما في مقامنا وإن كان ذلك يهم المؤرخ المتقصي للحقائق المتعرف للأدوار الإنسانية في عصورها المختلفة.
وإنه باستعراض هذه الأدوار نرى وجها تاريخيا، لمن قال إنه الإسكندر المقدوني:
أولا - لأنه بنى جدار الصين في القرن الثالث قبل الميلاد وهو العصر الذي ظهر فيه الإسكندر؛ إذ كانت حياته في القرن الثالث قبل الميلاد، وكون البناء منسوبا إلى ملك من ملوك الصين لَا يمنع الاستعانة بالإسكندر.
وثانيا - ما تضافر عليه المؤرخون العرب من أن باني السد اسمه إسكندر ذو القرنين، وليس ذا القرنين فقط.
وثالثا - ما جاء من آثار من أن منشئ السد هو منشئ الإسكندرية.
ورابعا - أن وصفه بذي القرنين سائغ لأنه جمع بين تاج الجنوب وتاج الشمال لما جاء إلى - مصر.
ننتهي من هذا إلى أن يأجوج ومأجوج قبائل من المغول، وأنه اشتد سيل فسادهم في القرن الثالث قبل الميلاد عصر ظهور الإسكندر المقدوني، واللَّه أعلم.
ونعود فنكرر أن معرفة شخص الإسكندر لَا يقدمنا في ذكر معاني ولا يؤخرنا، ما دامت ألفاظه واضحة في معانيها بينة في أسلوبها وبيانها.
ولكن ذا القرنين العادل وجد أن من قوانين الحكم العادل أن يقوم بالإصلاح ودفع الفساد من غير أجر يدفع، بل إن عمل الخير ضريبة الحكم الصالح؛ ولذا قال:
الردم أقوى من السد، وقد قال في ذلك الزمخشري: (رَدْمًا)، أي حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السد من قولهم ثوب مردم، أي رقاع فوق رقاع، أي أني أبني لكم سدا وثيقا قويًّا.
والمعنى ما مكنِّي فيه ربي ووسع عليَّ فيه وبسط لي خير من خَرْجِكم، فلست مستعينا بخرج، ولكني مستعين بقوة منكم، فأعينوني بقوة تحتمل العمل من رجالكم، أي فلست أحتاج إلى المال، ولكن أحتاج إلى أيد عاملة تعمل، ولقد قال القرطبي في معنى هذه الآية الكريمة: " ما بسطه اللَّه لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان والآلة التي أبني بها الردم وهو السد ".
الشرط الأول - ألا يستأثر عليهم بشيء.
والشرط الثاني - أن يبدأ بأهل الحاجة.
والشرط الثالث - أن يسوي في العطاء (١).
أخذ بعد ذلك ذو القرنين يبني السد محكما لَا يتفلت منه أحد إليهم.
________
(١) من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ١١/ ٥٥.
(زُبَرَ الْحَدِيدِ) قطع الحديد الكبيرة، (حَتَى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) الصدفان: جبلان جعل السد بينهما، وبعد أن وضع الحديد من قطع كبير علا بها حتى تساوى مع أعلى الجبلين وتنضد الحديد بينهما تنضيدا، جمع الأحطاب، وأشعل فيها النار ليصهر الحديد، (قَالَ انفُخُوا)، أي في الحديد الذي ساوى فيه بين الصدفين، وساماهما، أي انفخوا في مشعل الأحطاب، (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) صهره واحمر انصهر، وصار نارا باحمراره بارتفاع درجة حرارته ارتفاعا شديدا، وصار لونه أحمر شديدا يتلظى بعد هذا العمل، (قَالَ آتُونِي) النداء للعمال الذين قاموا بِزَبْر الحديد وصهروها، (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)، وهو النحاس المصهور المذاب.
ولعله جعل النحاس طبقة فوق الحديد تربط أجزاءه وتسوى جدار سطحه.
إذا كان قد بني ذلك البناء المحكم، وبأدوات قوية لَا تنقض، وبهندسة نضدت زبر الحديد، وأسكب ذَوْبَ النحاس، فإن يأجوج ومأجوج لَا قبل لهم بالوصول إلى أرضهم يبيدون فيها الحرث والنسل.
(فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ)، أي أن يعلو إلى ظهرِه، لأنه بني مرتفعا ارتفاعا فوق طاقتهم أن يصعدوا إليه، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) وما استطاعوا أن ينقبوه في جانب من جوانبه؛ لأنه حديد مصهر ثم تجمد مستقا.
وبعد أن وفق ذو القرنين ذلك التوفيق.
بعد أن عمل ذلك العمل - الذي لَا مثيل له في تاريخ البشر إلى عصر من عمله - لم ينسبه إلى نفسه، بل جعله من ربه، والإشارة في (هَذَا رَحْمَةٌ من رَّبِّي) إلى أن البناء وتدبيره، ومادته، ليس من قدرة الإنسان إنما هو من توفيق الديان وقال: إنه من رحمة اللَّه بعباده؛ لأن من رحمته تعالت قدرته أن الفساد وأهله يُدفع بأهل الخير والصلاح (... وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولم ينس اليوم الآخر، والبعث فجعل الحد لزمانه هو يوم البعث، فقال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ)، أي يَتَدكْدَك ويجعله أرضا مستوية، لَا علو فيها، ولو كان من حديد ونحاس.
ثم أكد البعث فقال: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) لَا يرتاب فيه عاقل، واللَّه أعلم.
ترك المفسدين إلى يوم الحشر
قال اللَّه تعالى:
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)
* * *
انتهت الآيات السابقة ببناء إسكندر ذي القرنين للسد، وكان ذو القرنين صورة للحاكم المجاهد الذي يعمل لمصلحة من يحكمهم يجلب الخير لهم، ويعمل ما يصلحهم، ويدفع الفساد والمفسدين، وقد دفعه - وترك يأجوج ومأجوج يفسدون فيما بينهم.).
ولقد قال تعالى بعد أن ذكر بناء الحاكم الصالح للسد، وإحكام بنيانه:
الضمير في (بَعْضَهُمْ) يعود إلى يأجوج ومأجوج، فانحصر شرهم، ولم يتعد فسادهم إلى غيرهم، فالجماعة الشريرة إذا لم يمكن إصلاحها يكون علاج الناس بالوقاية منها وإبعادهم عنها.
ويكون المعنى على أن الضمير يعود إلى الخلق أن اللَّه تعالى خلق الناس بغرائز قد تتعارض رغباتها، فيكون منهم المسيء ويكون المحسن وبتنازعون أو يتخالفون، أو يعتدى بعضهم على بعض حتى يكون يوم الفصل، ودعوة الجميع إلى الحشر.
وقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ)، أي في الدنيا، حيث الاختبار، والتدافع بين الحق والباطل والخير والشر، والصلاح والفساد، وقوله: (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)، أي أن بعضهم يتدافع مع البعض تدافع الأمواج وهي مصطحبة فيتدافع الأخيار مع الأشرار تدافع الأمواج يدفع بعضها بعضا، وهي تعلو وتنخفض.
حتى يُدعوا جميعا إلى اللَّه تعالى، وعبر عن ذلك بقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا)، أي ناديناهم كما ينادي القائد الجند فينفخ في الصور فيجمعهم جمعا، لَا يتخلف منهم أحد، وقد شبه في هذا إعادة الناس والبعث والنشور وخروجهم من فورهم من كل حدب ينسلون بالقائد، عندما ينفخ في البوق للجند، وفي هذا إشعار بأن البعث لَا يكون بأكثر من قول اللَّه تعالى: (... كُن فَيَكُونُ)، وقوله تعالى: (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) فيه أمران بيانيان:
الأمر الأول - أنه عبر بالماضي وهو للمستقبل، لتأكيد الوقوع.
الأمر الثاني - أنه ذكر المصدر لتأكيد أن البعث يعم الجميع، ولا يتخلف عنه أحد.
تعالى:
وإنه عقب البعث تكون القيامة وتكون الحقائق مرئية لهم بالعيان؛ ولذا قال:
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)
وخص الكافرين بذكر العرض مع أنها تكون معلومة للجميع لأنهم أهلها، ولأنهم الذين كانوا يتغافلون، وهم الذين كانوا ينكرون البعث وما وراءه.
ولقد قال تعالى كيف كانت حالهم بالنسبة لذكر اللَّه للعذاب والثواب والبعث، فقال عز من قائل:
الموصول بدل أو عطف بيان، وهو يشير إلى سبب اختصاصهم بالعرض؛ إذ إنهم كانوا لَا يرونها بعين الاعتقاد، ولا يستمعون إلى ذكرها بأذن الحق والإنصات إليه.
(كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي)، الذكر مضاف إلى اللَّه تعالى، أي الأمور التي تذكر باللَّه تعالى وقدرته الباهرة القاهرة على كل شيء وإلى آياته في الكون ودلائل قدرته على إعادتهم كما بدأهم، وشبه حالهم في عدم إدراكهم للحق من آيات اللَّه تعالى بحال من يكون أمام المبصرات، ولكنه وضع على عينيه غطاء يجعله لَا يرى ولا يبصر، ويكون قوله تعالى: (عَن ذِكْرِي) مقويا لمعنى التشبيه ومع أنهم كانوا لَا يرون الآيات للغطاء الذي وضعوه على أعينهم كانوا لا يستمعون إلى الداعي إلى الحق إذا دعاهم فهم قد سدت أمانيهم كل وسائل الإدراك.
فهم لَا يرون الآيات بأنفسهم فهم على أعينهم غطاء، أو كمن يكونون على أعينهم، ولا يستطيعون سماع الحق، لأن أهواءهم وشهواتهم وغرورهم بهذه الدنيا التي أغرتهم بغرورها وزخرفها وزينتها قد حالت بينهم وبينه، وشبه إعراضهم عنه
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أنه لن يتركهم في ضلالهم من غير مرشد، وألا يتخذ لهم عمَابا، فقال تعالى:
(الفاء) في (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كفَرُوا) مؤخرة عن تقديم، وهي في معنى السببية لعرض جهنم على الكافرين عرضا، والهمزة قدمت؛ لأن الاستفهام له الصدارة معناه ظنوا، أو بعبارة أدق معناها توهموا، لأن الظن يكون له وجه من الصدق، والاستفهام للتوبيخ، لأن الكافرين فعلا توهموا ذلك، وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وما كنا مبعوثين.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى سبب توبيخهم، (أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ)، أي أنصارا يوالونهم أو آلهة يعبدونها و (مِن دُونِي)، أي من غيري، وهنا كلام محذوف دل عليه قوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزلًا)، أي يحسبون مع اتخاذهم أندادا يعبدونها أو أنصارا يقاومون بهم حكم اللَّه فيهم، ونتركهم من غير مؤاخذة أو لَا نحاسبهم على ما يفعلون، وهذا كقوله تعالى:
(أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا)، هذا ذكر للعذاب وبيان له وقد ذكر علته في قوله: (أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ)، وأعتدنا معناها أعددنا وهيأنا، ونزلا معناه مقاما، وفيه نوع تهكم، لأن النزل يكون عادة مكانا مريحا يثوب إليه الذي نزل فيه، ولكنه جهنم وبئس المهاد. وذِكْرُ الكافرين إظهارٌ في موضع الإضمار للإشارة إلى سبب نزولهم في
الخطاب للنبي - ﷺ - والاستفهام للتقرير، فكأنهم سئلوا فأجابوا مقررين بأنهم (الأخسرين أعمالا)، والأخسرون جمع أخسر، وهو أفعل تفضيل، يراد به الذين بلغوا من الخسران أقصاه، فلا خسارة فوق خسارتهم، أو أنهم بالنسبة للمؤمنين أكثر خسارة لأن المؤمنين إن خسروا في الدنيا متاعها، فأولئك خسروا ما هو أعظم وهو متاع الآخرة، وكان في ذلك موازنة بين حال المؤمنين وحال الكافرين، فالمؤمنون وإن كانوا قد فقدوا بعض متاع الدنيا ففي مقابل ذلك فقد الكافرون متاع الآخرة فكانوا الأخسرين حقا وصدقا، وخسارة المؤمنين لَا تذكر بجوار خسارتهم. وقد ذكر سبحانه ركن الخسارة وقوامها فقال عز من قائل:
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، أي كان عملهم ضلال في ضلال، ووصف العمل بأنه ضلال مع أن الضلال في العامل مبالغة في الضلال، كأنه بضلال النفس انتقل الضلال إلى العمل، للإشارة إلى أن العمل يكون ضلالا بضلال النفس، وفساد القصد، وقال: (سَعْيُهُمْ) ولم يقل " عملهم "، للإشارة إلى أن كل جهد يبذلونه يكون جهدا في ضلال فلا يكون فيه خيرا أبدا.
ومع هذا لَا يعتقد أنه ضلال بل يحسبه رشادا، ولذا قال: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يحْسِنُونَ صُنْعًا)، أي أنهم بضلال الفعل وضلال الفكر، يفعلون الشر، ويظنون أنهم يفعلون الخير فانقلب تفكيرهم فحسب الشر خيرا، وذلك أشد
وإن هذا النص ينطبق على المشركين، لأنهم يعبدون الأوثان وَيحسبون أن عبادتها صنعُ حُسْنَى إذ يتوهمون فيها قُوى تَعبُّد، ويرون الخير في أتباع آبائهم، وينطبق على رهبان النصارى إذ ينقطعون للعبادة في زعمهم ولا يقيمون للحياة أي اعتبار، وقيل إنها تنطبق على الخوارج الذين كانوا يستبيحون دماء المؤمنين، ولكن قوله تعالى:
ولقد قال بعد ذلك في وصف الأخسرين:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥)
إن فساد الفكر يؤدي إلى الكفر، فهؤلاء الذين ضل فكرهم حتى ضلت أعمالهم، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا، هؤلاء هم الذين دفعهم غرورهم إلى أن يكذبوا بآيات ربهم الدالة على أنه الخالق الواحد القهار، المعبود بحق، ولا معبود سواه، وكذبوا بآيات ربهم الدالة على رسالة رسوله النبي الأكرم، وذلك لفرط ضلال فكرهم الذي جعلهم يعتقدون الباطل حقا، ويزعمون الحق باطلا. والإشارة إلى الموصوفين يفيد أن هذه الصفات هي السبب في الكفر بالآيات وكفروا بسبب غرورهم بالدنيا بلقاء اللَّه تعالى.
الإشارة إلى غرورهم وكفرهم بآيات ربهم ولقائه، وهو مبتدأ خبره محذوف، والمعنى ذلك حالهم، وأمرهم ثم ذكر سبحانه بعد ذلك جزاءهم فقال (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)، ثم ذكر سبحانه السبب وهو قوله (بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) فهم ظلموا مرتين:
الأولى - بكفرهم واتخاذهم الأنداد من الأحجار.
الثانية - ظلمهم للحق وأهله ودعاته، فظلموا آيات اللَّه وكفروا واتخذوها ورسل الله هزوا وسخرية، وذلك إيغال في الكفر والضلال.
بعد ذلك ذكر حال المؤمنين يوم القيامة.
* * *
حال المؤمنين
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى حال الكافرين يوم القيامة وكيف كان ضلالهم في الدنيا مُرديا لهم، وأوداهم في نار جهنم، وذكر من بعد حال المؤمنين الذي صلحوا في أنفسهم فآمنوا وعملوا الصالحات فنالوا جزاءهم في الآخرة، ذكر الموصول للإشارة
والجزاء ذكره تعالى يقول:
وإن هذا من فضل اللَّه، وهو تقديره وعلمه المحيط، وقد وسع كل شيء علما، فهو شامل الوجود كله؛ ولذا قال تعالى:
الخطاب في (قُل) للنبي - ﷺ - وهو يتضمن أمر اللَّه تعالى لنبيه بأن يعلمهم إحاطة علم اللَّه تعالى بكل شيء ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماء والأرض، و (كلمات اللَّه تعالى) هي تصوير لعلمه الذي لَا يحصى ولا يحد، فهذه الآية أمر للنبي - ﷺ - بأن يصور علمه بأنه غير متناه، فلا يحده حد، فالكلمات
وهنا أمور بيانية يجب التنبيه إليها:
الأمر الأول - ذكر كلمات اللَّه تعالى مضافة إلى ربه مرتين، وذلك بيان لشرفها وعلوها، لأن علمه كامل.
الأمر الثاني - المقابلة البيانية في قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)، فإن كلمات اللَّه لَا تنتهي، ولكن عبر عن ذلك بالنفاد من قبيل الجناس في قوله تعالى لنفد البحر.
الأمر الثالث - أنه أظهر في موضع الإضمار فقد قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).
فذكر البحر ظاهرا، وموضعه الإضمار لتأكيد سعة كلمات اللَّه تعالى؛ ولذا قال: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) يمده كما يمد الجيش بالجنود، هذا ما بدر لنا وما بدى بادي الرأي، ولكن وجدنا قراءة أخرى " مدادا " ويكون المعنى الذي تتلاقى معه القراءات، وهو أن المعنى، ولو جئنا بمثله مدادا، أي لو كان مثله حجما، ويصح مع ذلك أن يكون لكل من القراءتين معنى فتكون القراءة الأولى تشير إلى أن البحر الزيادة معين للبحر الأول زائد له، والثانية تفيد المماثلة، واللَّه تعالى أعلم.
الأمر بالقول للنبي - ﷺ - لأنه جزء من تبليغ رسالة ربه، و (إِنَّمَا) أداة قصر أي أنه - ﷺ - مقصور على البشرية وإنما يوحى إليه، فهو بشر ولا يتجاوز أنه بشر ولكن اختص من بينهم بأنه يوحى إليه فليس واحدا من الملائكة، والموحى به أن (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فهو إعلام من اللَّه تعالى بمن هو الإله حقا، فهو اللَّه تعالى، ولا إله غيره، وإنه قد قامت مع هذا الوحي الصادق الذي قامت الدلائل على صدقه، وهو مؤيد بالآيات في الكون فإن الكون بما فيه من سماء وأرض، وكواكب هي زينة السماء وزروع وثمار ومعادن وكنوز، فيها الآيات البينات على أن الخالق واحد.
وإن الناس في تلقي هذه الرسالة من عند الله تعالى قسمان:
القسم الأول - يؤمن بالغيب، ولا يأسره الحس وتستغرقه المادة.
والقسم الثاني - استغرقته المادة، حتى لَا يؤمن إلا بما هو مادي حسي، والأول هو الذي يرجو لقاء ربه وهو الذي ينادي بفعل الخير، والإيمان بالحق؛ ولذا قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) وقال: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، أي يستيقن بلقاء ربه، وعبر بالرجاء بدل اليقين، لأنه يفيد اليقين مع تمني اللقاء والرغبة فيه وطلبه بالعمل؛ ولذا كان جواب الشرط (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)؛ لأنه إذا كان يرجو اللَّه
* * *
________
(١) سبق تخريجه.
تمهيد:
هذه السورة مكية، وقيل أن آيتي ٥٨، ٧١ مدنيتان، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وقد ابتدأت هذه السورة الكريمة بذكر معجزات خارقة للعادة في الوجود الإنساني، ذلك أن الفلسفة الأيونية كانت قائمة على أن الأسباب وعلاقتها بالمسببات لَا تخالف قط حتى بنوا نظرية الألوهية على العِلِّيَّة، وقالوا: إن العالم نشأ عن اللَّه تعالى نشوء العلة من المعلول مَن غير إرادة من الفاعل المختار، فجاءت السورة في كثير من آياتها بما هو خرق لهذه النظرية. إن من أسباب الخلق أن الشيخ الكبير لَا ينجب وأن المرأة العاقر لَا تلد فإذا أنجب الرجل الهرم من عجوز عاقر، فذلك خرق لنظرية الأسباب، إذ يوجد الولد من عاقر عجوز لَا تنجب ومن شيخ هرم لَا ينسل.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر نبي اللَّه زكريا (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦).
واللَّه تعالى يجيب دعاءه فيقول سبحانه له: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)
ولكن تأثره بمجرى الأسباب العادية يثير استغرابه فيقول: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (٩).
ولكن الاستغراب لَا يزال يتردد في نفسه فيقول: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (١٠).
ثم جاء بالمعجزة الكبرى الخارقة لجرد الأسباب والمسببات وبيان أنها لَا تلزم الفاعل المختار وهي خلق عيسى من غير أب من عذراء بتول فقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (١٦) ونزل إليها روح القدسِ جبريل - عليه السلام - الذي شرفه اللَّه تعالى بأن أضافه إليه.
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (٢١).
جاءها المخاض وألجأها إلى جذع النخلة، وجاءت الخوارق للعادة متوالية تعلن خرق نظرية الأسباب والمسببات، فتهز جذع النخلة فتساقط رطبا جنيا والماء يجري من تحتها (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦)
ولكنهم يجابهونها بما كانت تخشى يقولون: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)، ولكن يجيء سر خارق للعادة يشير له الجميع، وهو أن يتكلم من هو في المهد بالحكمة، (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣).
كان عيسى ابن مريم - عليه السلام - معجزة في الحمل به وفي ولادته وفي طفولته في المهد وهو مخلوق عبد لِلَّهِ تعالى، وإذا كان وجوده على غير مجرى العادات فهو بخلقه أدل على قدرة اللَّه تعالى من غيره وإذا عبده النصارى فمن جهلهم (مَا كانَ
ولكن من بعده اختلفت الفرق على نِحَلٍ متباينة فويل لهم من مشهد يوم عظيم (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩).
ويجيء في السورة أخبار الأنبياء السابقين وما اقترن برسالاتهم من معجزات وما جاءوا به من شرائع، فابتدأ بقصة أبي العرب إبرهيم - عليه السلام -، وفيها تتجلى محبة الأبناء للآباء فيريد لمحبته أباه أن يجنبه عبادة الأوثان ويدعوه إلى تركها فيقول:
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (٤٤) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (٤٥)
ويرده أبوه ردا جافيا فيضطر لاعتزاله وقلبه معلق بمحبته وطلبه الهداية له، ويذهب به فرط محبته إلى أن يستغفر له ويقول: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا).
ثم ذكرت قصة موسى وكيف وهب اللَّه من رحمته معه أخاه هارون نبيا، ثم ذكر أخبار إسماعيل - عليه السلام - منفردا عن أولاد إبراهيم - عليه السلام -، وفي هذا إشارة إلى أنه عمود نسب متفرع من إبراهيم - عليه السلام - وأنه سيكون منه محمد خاتم النبيين (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (٥٤)
وترجع السورة في التاريخ فتشير إلى إدريس - عليه السلام - (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)، ويشير سبحانه إلى النبيين أجمعين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (٥٨).
وقد أشار سبحانه إلى أن الخلاف جعل منهم الصالحين، والذين أضاعوا الصلاة (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠)
وتفصل السورة الكريمة جزاء المتقين وعقاب الكافرين في بيان معجز ككل آيات القرآن وسوره.
ويضرب الأمثال للمشركين بالذين مضوا من الذين عادوا النبيين وأهلكهم اللَّه، وهم أحسن منهم أثاثا ورئيا.
ويبين اللَّه اهتداء المهتدين وضلال الضالين: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦).
وتشرح السورة الكريمة نفس الكافر وغروره: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨)،
ثم بين سبحانه أن ذلك مكتوب عليه وأنه سيرث أعقاب هذا القول، ويقول: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢).
ويبين سبحانه سيطرة الشياطين على الكافرين: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤).
ويذكر اللَّه الناس جميعا بما يكون يوم الآخرة، (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧).
وختم السورة الكريمة ببيان المؤمنين، وما كتب لهم من جزاء يوم القيامة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨).
وهكذا نجد السورة ابتدأت بأن حكمة اللَّه تعالى اقتضت أن يخلق يحيى - عليه السلام - من شيخ هرم امرأته عاقر، ويخالف بذلك الأسباب والمسببات، ثم يأتي سبحانه بخلق عيسى - عليه السلام - من غير أب ليكون وجوده - عليه السلام - معجزة، وهو عبد من عباد اللَّه ويختمها بالمعجزة الكبرى وهو القرآن، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بلسَانكَ لتُبَشِّرَ به الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا).
* * *
معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)* * *
هذا عصر كثرت فيه خوارق العادات، لأنها كانت تصحيحا للعقول. وإزالة لفكرة خاطئة وقعت فيها الفلسفة التي كانت سائدة في هذا العصر، وهي نظام الأسباب العادية، وترتيب مسبباتها عليها، وأنه هو النظام المطرد المستقر الذي لا يمكن تغييره، وهو النظام الوجود، حتى زعموا أن اللَّه خلقت عنه الأشياء، منفعلة بالعِلِّية، وأنه ليس باختيار من اللَّه تعالى وإرادة، فكل ما في الوجود، جاء منفعلا عن علة وهو علَّة لغيره، حتى يتوالى كله بنظام العِلِّية، فالأب عِلَّة لوجود ابنه، إذا كان قويا والأم علَّة لوجود ولدها إذا كانت سليمة قوية ليست عاقرا.
وكان لَا بد لتصحيح هذه الفلسفة ولبيان بطلانها أن تكون أشياء بغير أسبابها التي استقرت أفهامهم على أنها أسباب طبيعية لها، وفي هذه السورة الكريمة كان
الأمر الأول: ولادة عاقر وزوجها بلغ من الكبر عتيا.
والأمر الثاني: ولادة ولد من غير أب وإذا كانت الأولى فيها الولادة من أم غير صالحة للإنجاب، فالثانية ولادة من أم لم يثبت عدم صلاحيتها للإنجاب ولكن من غير أب مطلقا صالحا للإنجاب أو غير صالح.