تفسير سورة البقرة

الماوردي
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ الم ﴾ اختلف فيه المفسرون على ثمانية أقاويل :
أحدها : أنه اسم من أسماء القرآن كالفرقان والذكر، وهو قوله قتادة وابن جريج ( ٨٨ ).
والثاني : أنه من أسماء السور، وهو قول زيد ابن أسلم.
والثالث : أنه اسم الله الأعظم، وهو قول السدي والشعبي.
والرابع : أنه قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، وبه قال ابن عباس وعكرمة.
والخامس : أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال، فالألف من أنا واللام من الله، والميم من أعلم، فكان معنى ذلك : أنا الله أعلم، وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن جبير، ونحوه عن ابن عباس أيضاً.
والسادس : أنها حروف يشتمل كل حرف منها على معانٍ مختلفة، فالألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والألف آلاء الله، والميم مجدُه، والألِفُ سَنَةٌ، واللامُ ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة، آجال قد ذكرها الله.
والسابع : أنها حروف من حساب الجمل، لما جاء في الخبر عن ( ٩١ ) عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، قال : مَرَّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله ﷺ وهو يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة :﴿ الم. ذلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ فأتى أخاه حُيَيَّ بْنَ أَخْطبَ في رجال من اليهود إلى رسول الله ﷺ فقالوا : يا محمد ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل اللهُ عليك :﴿ الم. ذلك الكِتَابُ ﴾ فقال رسول الله ﷺ :« بلى »، فقالوا :« أجاءك بها جبريل من عند الله ». قال :« نعم »، قالوا :« لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلم أنه بُيِّنَ لنبي منهم مدة ملكه وما أُكل أمته غيرك »، فقال حُيَيُّ بن أخطب وأقبل على من كان معه، فقال لهم :« الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة »، ثم أقبل على رسول الله ﷺ، ثم قال :« يا محمد هل كان مع هذا غيره » ؟، قال :« نعم »، قال :« ماذا » ؟ قال :« المص »، قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، فهل مع هذا يا محمد غيره «، قال :» نعم «، قال :» ماذا « قال :» الر « قال :» هذه أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنةٍ، فهل مع هذا يا محمد غيره «، قال :» نعم « قال :» ماذا « ؟، قال :» المر «، قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة.. ، ثم قال :» لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً «، ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حُيَيَّ بن أخطبَ ولمن معه من الأحبار :» ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة «، قالوا :» لقد تشابه علينا أمره «. فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم :﴿ هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾.
8
والثامن ( ٩٢ ) : أنه حروف هجاء أَعلم الله تعالى بها العَرَب حين تحداهم بالقرآن، أنه مُؤلَف من حروف كلام، هي هذه التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم، إذ لم يخرج عن كلامهم.
فأما حروف أبجدَ فليس بناء كلامهم عليها، ولا هي أصل، وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الأيام الستة، التي خلق الله تعالى فيها الدنيا، وهذا قول الضحاك بن مزاحم ( ٩٣ ).
والثاني : أنها أسماء ملوك مَدْيَن، وهذا قول الشعبي وفي قول بعض شعراء مَدْيَن دليل على ذلك قال شاعرهم :
أَلاَ يَا شُعَيْبٌ قَدْ نَطَقْتَ مَقَالةً سَبَبْتَ بِهَا عَمْراً وَحَيَّ بني عَمْرو
مُلُوكُ بني حطّى وَهَوَّزُ مِنْهُمُ وَسَعْفَصُ أَصْلٌ لِلْمَكَارِمِ وَالْفَخْرِ
هُمُ صَبَّحُوا أَهْلَ الحِجَازِ بغارَةٍ كَمِثْل شُعَاعِ الشَّمْسِ أَوْ مَطْلَعِ الْفَجْرِ
والثالث : ما روى ميمون بن مهران ( ٩٤ )، عن ابن عباس، أن لأبي جاد حديثاً عجباً :( أبى ) آدمُ الطاعة، و ( جد ) في أكل الشجرة، وأما ( هوّز )، فنزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما ( حطي ) فحطت خطيئته، وأما ( كلمن ) فأكل من الشجرة، ومَنَّ عليه بالتوبة، وأما ( سعفص ) فعصى آدم، فأُخرج من النعيم إلى النكد، وأما قرشت فأقرّ بالذنب، وسَلِمَ من العقوبة ( ٩٥ ).
والرابع : أنها حروف من أسماء الله تعالى، روى ذلك معاوية بن قرة ( ٩٦ )، عن أبيه، عن النبي ﷺ ( ٩٧ ).
9
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الكِتَابُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني التوراة والإنجيل، ليكون إخباراً عن ماضٍ.
والثاني : يعني به ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة والمدينة، وهذا قول الأصم.
والثالث : يعني هذا الكتاب، وقد يستعمل ذلك في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعاً للإشارة إلى غائب، قال خُفاف بن ندبة :
أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
ومن قال بالتأويل الأول : أن المراد به التوراة والإنجيل، اختلفوا في المخاطب به على قولين :
أحدهما : أن المخاطب به النبي ﷺ، أي ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، هو الذي أنزلته عليك يا محمد.
والقول الثاني : أن المخاطب به اليهود والنصارى، وتقديره : أن ذلك الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب، الذي أنزلته على محمد عليه وعلى آله السلام. قوله تعالى :﴿ لاَ رَيْبَ فيهِ ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : أن الريب هو الشك، وهو قول ابن عباس، ومنه قول عبد الله بن الزِّبَعْرَى :
لَيْسَ في الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ
والتأويل الثاني : أن الريب التهمة ومنه قول جميل :
بُثَيْنَةُ قالتْ : يا جَمِيلُ أَرَبْتَنِيُ... فَقُلْتُ : كِلاَنَا يَا بُثَيْنَ مُرِيب
قوله عزَّ وجلَّ :﴿ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾، يعني به هدىً من الضلالة.
وفي المتقين ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدَّوا ما افترض عليهم، وهذا قول الحسن البصري.
والثاني : أنهم الذين يحذرون من الله تعالى عقوبته ويرجون رحمته وهذا قول ابن عباس.
والثالث : أنهم الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسق وإنما خص به المتقين، وإن كان هدىً لجميع الناس، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه.
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبَ ﴾
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يصدقون بالغيب، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : يخشون بالغيب، وهذا قول الربيع بن أنس ( ١٠٠ ).
وفي الأصل الإيمان ( ١٠١ ) ثلاثة أقوال :
أحدها : أن أصله التصديق، ومنه قوله تعالى :﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ﴾ أي بمصدِّق لنا.
والثاني : أن أصله الأمان فالمؤمن يؤمن نفسه من عذاب الله، والله المؤمِنُ لأوليائه من عقابه.
والثالث : أن أصله الطمأنينة، فقيل للمصدق بالخبر مؤمن، لأنه مطمئن. وفي الإيمان ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنّ الإيمان اجتناب الكبائر.
والثاني : أن كل خصلة من الفرائض إيمان.
والثالث : أن كل طاعةٍ إيمان.
وفي الغيب ثلاثة تأويلات :
أحدها : ما جاء من عند الله، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنه القرآن، وهو قول زر بن حبيش.
والثالث : الإيمان بالجنة والنار والبعث والنشور.
﴿ وَيُقِيمونَ الصَّلوة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٣ ) ﴾
وفي قوله تعالى :﴿ وَيُقِيمُون الصَّلاَةَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : يؤدونها بفروضها.
والثاني : أنه إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع فيها، وهذا قول ابن عباس.
واختُلف لِمَ سُمِّي فعل الصلاة على هذا الوجه إقامةً لها، على قولين :
أحدهما : من تقويم الشيء من قولهم قام بالأمر إذا أحكمه وحافظ عليه.
والثاني : أنه فعل الصلاة سُمِّي إقامة لها، لما فيها من القيام فلذلك قيل : قد قامت الصلاة.
وفي قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : إيتاء الزكاة احتساباً لها، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : نفقة الرجل على أهلِهِ، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث : التطوع بالنفقة فيما قرب من الله تعالى، وهذا قول الضحاك :
وأصل الإنفاق الإخراج، ومِنْهُ قيل : نَفَقَتِ الدابة إذا خرجت رُوحها.
واختلف المفسرون، فِيمَنْ نزلت هاتان الآيتان فيه، على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها نزلت في مؤمني العرب دون غيرهم، لأنه قال بعد هذا :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ يعني به أهْلَ الكتاب، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنها مع الآيتين اللتين من بعد أربع آيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب، لأنه ذكرهم في بعضها.
والثالث : أن الآيات الأربع من أول السورة، نزلت في جميع المؤمنين، وروى ابن أبي نجيح ( ١٠٣ )، عن مجاهد قال :« نزلت أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثَلاَث عَشْرَةَ في المُنافقين.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ وما بعدها.
أما قوله :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يعني القرآن، ﴿ وَمَآ أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ يعني به التوراة والإنجيل، وما تقدم من كتب الأنبياء، بخلاف ما فعلته اليهود والنصارى، في إيمانهم ببعضها دون جميعها.
﴿ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني الدار الآخرة.
والثاني : يعني النشأة الآخرة وفي تسميتها بالدار الآخرة قولان :
أحدهما : لتأخرها عن الدار الأولى.
والثاني : لتأخرها عن الخلق، كما سميت الدنيا لدنِّوها من الخلق.
وقوله :﴿ يُوقِنُونَ ﴾ أي يعلمون، فسمي العلم يقيناً لوقوعه عن دليل صار به يقيناً.
وقوله تعالى :﴿ أُولئِكَ على هُدىً مِنْ رَبِّهُمْ ﴾ يعني بيان ورشد.
﴿ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم الفائزون السعداء، ومنه قول لبيد :
لَوْ أَنَّ حَيّاً مُدْرِكُ الْفَلاَحِ أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
والثاني : المقطوع لهم بالخير، لأن الفلح في كلامهم القطع، وكذلك قيل للأكار فلاح، لأنه يشق الأرض، وقد قال الشاعر :
لَقَدْ عَلِمتَ يا ابنَ أُمِّ صحصحْ أن الحديدَ بالحديدِ يُفلحْ
واختلف فيمن أُرِيدَ بهم، على ثلاثة أوجه :
أحدها : المؤمنون بالغيب من العرب، والمؤمنون بما أنزل على محمد، وعلى من قبله من سائر الأنبياء من غير العرب.
والثاني : هم مؤمنو العرب وحدهم.
والثالث : جميع المؤمنين.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَروا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ﴾ وأصل الكفر عند العرب التغطية، ومنه قوله تعالى :﴿ أَعْجَبَ الكُفَّار نَبَاتُهُ ﴾ يعني الزُّرَّاع لتغطيتهم البذر في الأرض، قال لبيد :
في لَيْلَةٍ كَفَّرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا ..............................
أي غطَّاها، فسمي به الكافر بالله تعالى لتغطيته نعم الله بجحوده.
وأما الشرك فهو في حكم الكفر، وأصله في الإشراك في العبادة.
واختلف فِيمَنْ أُرِيدَ بذلك، على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم اليهود الذين حول المدينة، وبه قال ابن عباس، وكان يسميهم بأعيانهم.
والثاني : أنهم مشركو أهل الكتاب كلهم، وهو اختيار الطبري.
والثالث : أنها نزلت في قادة الأحزاب، وبه قال الربيع بن أنس.
قوله تعالى :﴿ خَتَمَ اللهُ على قُلُوبِهِمْ ﴾ الختم الطبع، ومنه ختم الكتاب، وفيه أربعة تأويلات :
أحدها : وهو قول مجاهد ( ١٠٥ ) : أن القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبْدُ ذنباً ضُمَّ منه كالإصبع، فإذا أذنب ثانياً ضم منه كالإصبع الثانية، حتى يضمَّ جميعه ثم يطبع عليه بطابع.
والثاني : أنها سمة تكون علامة فيهم، تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين.
والثالث : أنه إخبار من الله تعالى عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دعوا إليه من الحق، تشبيهاً بما قد انسدَّ وختم عليه، فلا يدخله خير.
والرابع : أنها شهادة من الله تعالى على قلوبهم، بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحقَّ، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه، والغشاوة : تعاميهم عن الحق. وسُمِّي القلب قلباً لتقلُّبِهِ بالخواطر، وقد قيل :
ما سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ وَالرَّأْيُ يَصْرِفُ، والإنْسَانُ أَطْوَارُ
والغشاوة : الغطاء الشامل.
قوله تعالى :﴿ يُخَادِعُونَ اللهَ والَّذينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ﴾ يعني المنافقين يخادعون رسول الله ﷺ والمؤمنين، بأن يُظهروا من الإيمان خلاف ما يبطنون من الكفر، لأن أصل الخديعة الإخفاء، ومنه مخدع البيت، الذي يخفى فيه، وجعل الله خداعهم لرسوله خداعاً له، لأنه دعاهم برسالته.
﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ﴾ في رجوع وباله عليهم.
﴿ وَمَا يَشْعُرُون ﴾ يعني وما يفطنون، ومنه سُمِّي الشاعر، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره، ومنه قولهم ليت شعري.
قوله تعالى :﴿ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : شك، وبه قال ابن عباس.
والثاني : نفاق، وهو قول مقاتل، ومنه قول الشاعر :
أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى صُدُورَهُمُ تَغْلِي عَلَيَّ مِراضُها
والثالث : أن المرض الغمُّ بظهور أمر النبي ﷺ على أعدائه، وأصل المرض الضعف، يقال : مرَّض في القول إذا ضعَّفه.
﴿ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه دعاء عليهم بذلك.
والثاني : أنه إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم عند نزول الفرائض، والحدود. ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يعني مؤلم.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا في الأَرضِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الكفر.
والثاني : فعل ما نهى الله عنه، وتضييع ما أمر بحفظه.
والثالث : أنه ممالأة الكفار.
وكل هذه الثلاثة، فساد في الأرض، لأن الفساد العدول عن الاستقامة إلى ضدها.
واختلف فِيمَنْ أُريدَ بهذا القول على وجهين :
أحدهما : أنها نزلت في قوم لهم يكونوا موجودين في ذلك الوقت، وإنما يجيئون بعد، وهو قول سليمان.
والثاني : أنها نزلت في المنافقين، الذين كانوا موجودين، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
﴿ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كما ظنوا، لأن الكفار لو يظفرون بهم، لم يبقوا عليهم، فلذلك قال :﴿ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾.
والثاني : أنهم أنكروا بذلك، أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا إنما نحن مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه.
والثالث : معناه أن ممالأتنا الكفار، إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين، وهذا قول ابن عباس.
والرابع : أنهم أرادوا أن ممالأة الكفار صلاح وهدى، وليست بفساد وهذا قول مجاهد.
فإن قيل : فكيف يصح نفاقهم مع مجاهدتهم بهذا القول؛ ففيه جوابان :
أحدهما : أنهم عرَّضوا بهذا القول، وكَنُّوا عنه من غير تصريح به.
والثاني : أنهم قالوا سراً لمن خلوا بهم من المسلمين، ولم يجهروا به، فبقوا على نفاقهم.
قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ﴾ يعني أصحاب النبي ﷺ ﴿ قَالُوا أَنُؤْمن كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم عنوا بالسفهاء أصحاب النبي ﷺ.
والثاني : أنهم أرادوا مؤمني أهل الكتاب.
والسفهاء جمع سفيه، وأصل السَّفَهِ الخِفَّةُ، مأخوذ من قولهم ثوب سفيه، وإذا كان خفيف النسيج، فسمَّي خفةُ الحلم سفهاً، قال السَمَوْأَلُ :
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ في شياطينهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود، الذين يأمرونهم بالتكذيب، وهو قول ابن عباس.
والثاني : رؤوسهم في الكفر، وهذا قول ابن مسعود.
وفي قوله :﴿ إلى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه مع شياطينهم، فجعل « إلى » موضع « مع »، كما قال تعالى :﴿ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ ﴾ [ آل عمران : ٥٢ ] أي مع الله.
والثاني : وهو قول بعض البصريين : أنه يقال خلوت إلى فلان، إذا جعلته غايتك في حاجتك، وخلوت به يحتمل معنيين :
أحدهما : هذا.
والآخر : السخرية والاستهزاء منه فعلى هذا يكون قوله :﴿ وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ أفصح، وهو على حقيقته مستعمل.
والثالث : وهو قول بعض الكوفيين : أن معناه إذا انصرفوا إلى شياطينهم فيكون قوله :﴿ إلى ﴾ مستعملاً في موضع لا يصح الكلام إلا به.
فأما الشيطان ففي اشتقاقه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه فيعال من شطن، أي بَعُدَ، ومنه قولهم : نوى شطون ( ١٠٨ ) أي بعيدة، وشَطَنَتْ دارُه، أي بعدت، فسمي شيطاناً، إما لبعده عن الخير، وإما لبعد مذهبه في الشر، فعلى هذا النون أصلية.
والقول الثاني : أنه مشتق من شاط يشيط، أي هلك يهلك كما قال الشاعر :
نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا فَنَخْمُلَ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ
....................... وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا البَطَلُ
أي يهلك، فعلى هذا يكون النون فيه زائدة.
والقول الفاصل : أنه فعلان من الشيط وهو الاحتراق، كأنه سُمِّي بما يؤول إليه حاله.
﴿ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ أي على ما أنتم عليه من التكذيب والعداوة، ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ أي ساخرون بما نظهره من التصديق والموافقة.
قوله تعالى :﴿ اللهُ يَسْتَهْزئُ بِهِمْ ﴾ فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه أنه يحاربهم على استهزائهم، فسمي الجزاء باسم المجازى عليه، كما قال تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾، وليس الجزاء اعتداءً، قال عمرو بن كلثوم :
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينا
والثاني : أن معناه أنه يجازيهم جزاء المستهزئين.
والثالث : أنه لما كان ما أظهره من أحكام إسلامهم في الدنيا، خلاف ما أوجبه عليهم من عقاب الآخرة، وكانوا فيه اغترار به، صار كالاستهزاء [ بهم ].
والرابع : أنه لما حسن أن يقال للمنافق :﴿ ذُقْ إِنًّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [ الدخان : ٤٩ ]، صار القول كالاستهزاء به.
والخامس : ما حكي : أنهم يُفْتَح لهم باب الجحيم، فيرون أنهم يخرجون منها، فيزدحمون للخروج، فإذا انتهوا إلى الباب ضربهم الملائكة، بمقامع النيران، حتى يرجعوا، وهاذ نوع من العذاب، وإن كان كالاستهزاء.
قوله تعالى :﴿ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهم يَعْمَهُونَ ﴾ وفي يمدهم تأويلان :
أحدهما : يملي لهم، وهو قول ابن مسعود.
والثاني : يزيدهم، وهو قول مجاهد.
يقال مددت وأمددت، فحُكِيَ عن يونس أنه قال : مددت فيما كان من الشر، وأمددت فيما كان من الخير، وقال بعض الكوفيين : يقال : مددتُ فيما كانت زيادته منه، كما يقال مَدّ النصر، وأَمَدَّه نهر آخر، وأمددت فيما حدثت زيادته من غيره، كقولك أمْدَدْتُ الجيش بمددٍ، وأمِد الجرح، لأن المدة من غيره.
قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الِّذِينَ اشْتَرَوا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ﴾ الضلالة : الكفر، والهدى : الإيمان.
وفي قوله :﴿ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على حقيقة الشراء فكأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
والثاني : أنه بمعنى استحبوا الكفر على الإيمان، فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء يكون فيما يستحبه مشتريه، فإما أن يكون على معنى شراء المعاوضة فعلاً، لأن المنافقين لم يكونوا قد آمنوا، فيبيعوا إيمانهم.
والثالث : أنه بمعنى أخذوا الكفر وتركوا الإيمان، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
﴿ فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وما كانوا مهتدين، في اشتراء الضلالة.
والثاني : وما كانوا مهتدين إلى التجارة التي اهتدى إليها المؤمنون.
والثالث : أنه لما كان التاجر قد لا يربح، ويكون على هدى في تجارته نفى الله عنهم الأمرين من الربح والاهتداء، مبالغة في ذمهم.
قوله تعالى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ المثل بالتحريك والتسكين، والمَثَل بالتحريك مستعمل في الأمثال المضروبة، والمِثْل بالتسكين مستعمل في الشيء المماثل لغيره.
وقوله :﴿ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد كمثل الذي أوقد، فدخلت السين زائدة في الكلام، وهو قول الأخفش.
والثاني : أنه أراد استوقد مِنْ غيره ناراً للضياء، والنار مشتقة من النور.
﴿ فَلَمَّا أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ يقال ضاءت في نفسها، وأضاءت ما حولها قال أبو الطمحان :
أَضَاءَتْ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ دُجَى الَّليْلِ حَتَّى نَظَّمَ الْجِزْعَ ثَاقِبُهْ
قوله تعالى :﴿ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : نور المستوقِد، لأنه في معنى الجمع، وهذا قول الأخفش.
والثاني : بنور المنافقين، لأن المثل مضروب فيهم، وهو قول الجمهور.
وفي ذهاب نورهم وجهان :
أحدهما : وهو قول الأصم ذهب الله بنورهم في الآخرة، حتى صار ذلك سمةً لهم يُعْرَفُونَ بها.
والثاني : أنه عَنّى النور الذي أظهروه للنبي ﷺ من قلوبهم بالإسلام. وفي قوله :﴿ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : معناه لم يأتهم بضياء يبصرون به.
والثاني : أنه لم يخرجهم منه، كما يقال تركته في الدار، إذا لم تَخرجْهُ منها، وكأنَّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً، لأن من طُفِئَت عنه النار حتى صار في ظلمة، فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للمنافقين.
وفيما كانوا فيه من الضياء، وجعلوا فيه من الظلمة قولان :
أحدهما : أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم، والظلمة خروجهم منه بنفاقهم.
والثاني : أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين، والظلمة زوالُهُ عنهم في الآخرة، وهذا قول ابنِ عباسٍ وقتادةَ.
قوله تعالى :﴿ صَمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ وهذا جمع : أصم، وأبكم، وأعمى، وأصل الصَّمَمُ الإنسداد، يقال قناة صماء، إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة، إذا سددتها، فالأصم : من انسدَّتْ خروق مسامعه.
أما البَكَمُ، ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه آفة في اللسان، لا يتمكن معها من أن يعتمد على مواضع الحروف.
والثاني : أنه الذي يولد أخرس.
والثالث : أنه المسلوب الفؤاد، الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه.
والرابع : أنه الذي يجمع بين الخَرَس وذهاب الفؤاد.
ومعنى الكلام، أنهم صمٌّ عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عُمْيٌ عن الإبصار له، رَوَى ذلك قتادة، ﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ يعني إلى الإسلام.
قوله تعالى :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وبَرْقٌ ﴾ في الصيِّبِ تأويلان :
أحدهما : أنه المطر، وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني : أنه السحاب، قال علقمة بن عبدة :
كَأَنَهَّمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمِّرٍ سُقِيتِ غَوَادِي الْمُزنِ حِينَ تَصُوبُ
وفي الرعد ثلاثة أوجه : أحدها :
أنه مَلَكٌ ينعق بالغيث، كما ينعق الراعي بغنمه، فَسُمِّيَ الصوتُ رعداً باسم ذلك المَلك، وبه قال الخليل.
والثاني : أنه ريح تختنق تحت السحاب فَتُصَوِّبُ ذلك الصوت، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أنه صوت اصطكاك الأجرام.
وفي البرق ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضرب الملك الذي هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والثاني : أنه ضربه بسوطٍ من نور، وهذا قول ابن عباس.
والثالث : أنه ما ينفدح من اصطكاك الأجرام.
والصواعق جمع صاعقة، وهو الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة نار، تحرق ما أتت عليه.
وفي تشبيه المثل في هذه الآية أقاويل :
أحدها : أنه مَثَلٌ للقرآن، شُبِّهَ المطرُ المُنَزَّلُ من السماء بالقرآن، وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، وما فيه من البرق بما في القرآن من البيان، وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد الآجل، والدعاء إلى الجهاد في العاجل، وهذا المعنى عن ابن عباس.
والثاني : أنه مَثَلٌ، لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحهم ومواريثهم، وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل.
والثالث : أنه ضَرَبَ الصيِّب مَثَلاً بظاهر إيمان المنافق، ومثل ما فيه من الظلمات بصلابته، وما فيه من البرق بنور إيمانه، وما فيه من الصواعق بهلاك نفاقه.
قوله تعالى :﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ معناه يستلبها بسرعة.
﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِم قَامُوا ﴾ وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى للمنافقين، وفيه تأويلان :
أحدهما : معناه كلما أضاء لهم الحق اتبعوه، وإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه.
والثاني : معناه كلما غنموا وأصابوا من الإسلام خيراً، اتبعوا المسلمين، وإذا أظلم عليهم فلم يصيبوا خيراً، قعدوا عن الجهاد.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ فالمراد الجمع وإن كان بلفظ الواحد. كما قال الشاعر :
قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أنْداداً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنَّ الأنداد الأكْفَاءُ، وهذا قول ابن مسعود.
والثاني : الأشباه، وهو قول ابن عباس.
والثالث : الأضداد، وهو قول المفضل.
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وأنتم تعلمون أن الله خلقكم، وهذا قول ابن عباس وقتادة.
والثاني : معناه وأنتم تعلمون أنه لا ندَّ له ولا ضد، وهذا قول مجاهد.
والثالث : معناه وأنتم تعْقلون فعبر عن العقل بالعلم.
قوله تعالى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ يعني في القرآن، على عبدنا : يعني محمداً ﷺ، والعبد مأخوذ من التعبد، وهو التذلل، وسُمي المملوك من جنس ما يعقل عبداً، لتذلله لمولاه.
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني من مثله من القرآن، وهذا قول مجاهد وقتادة.
والثاني : فأتوا بسورة من مثل محمد ﷺ من البشر، لأن محمداً بشر مثلهم.
﴿ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أعوانكم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : آلهتكم، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تشهد لهم، وهذا قول الفراء.
والثالث : ناساً يشهدون لكم، وهذا قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ الوَقود بالفتح الحطب، والوُقود بالضم التوقُّد، والحجارة من كبريتٍ أسود، وفيها قولان :
أحدهما : أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار، التي وقودها الناس، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس.
والثاني : أن الحجارة وقود النار مع الناس، ذكر ذلك تعظيماً للنار، كأنها تحرق الحجارة مع إحراقها الناس.
وفي قوله :﴿ أُعِدَّتْ للْكَافِرِينَ ﴾ قولان :
الأول : أنها وإن أعدت للكافرين، فهي معدة لغيرهم من مستحقي العذاب من غير الكافرين، وهي نار واحدة، وإنما يتفاوت عقابهم فيها.
والثاني : أن هذه النار معدة للكافرين خاصة، ولغيرهم من مستحقي العذاب نارٌ غيرها.
قوله تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ بشر من البشارة، أو خبر يرد عليك بما يَسُرُّ، وقيل بما يُسرُّ ويُغِمُّ، وإنما كثر استعماله فيما يَسُرُّ، حتى عُدِلَ به عما يُغِمُّ، وهو مأخوذ من البَشْرَةِ وهي ظاهر الجلد لتغيرها بأول خبر [ يرد عليه ].
والجنات جمع جنة، وهي البستان ذو الشجر، وسمي جنة لأن ما فيه من الشجر يستره، وقال المفضل : الجنة كل بستان فيه نخل، وإن لم يكن فيه شجر غيره، فإن كان فيه كَرْمٌ فهو فردوس، كان فيه شجر غير الكرم أو لم يكن.
﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتَها الأَنْهَارُ ﴾ يعني من تحت الشجر، وقيل : إن أنهار الجنة تجري من غير أخدود.
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾، يعني بقوله :﴿ رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرةٍ رِزْقاً ﴾ أي من ثمار شجرها.
﴿ قَالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن معناه : أن هذا الذي رُزِقْنَاهُ من ثمار الجنة، مثلُ الذي رُزِقْنَاهُ من ثمار الدنيا، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة.
والثاني : أن ثمار الجنة إذا جنيت من أشجارها، استخلف مكانها مثلها، فإذا رأوا ما استخلف بعد الذي جُنِي، اشتُبِه عليهم، فقالوا :﴿ هذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْل ﴾، وهو قول أبي عبيد ويحيى بن أبي كثير.
قوله تعالى :﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن معنى التشابه أن كله خيار يشبه بعضه بعضاً وليس كثمار الدنيا، التي لا تتشابه لأن فيها خياراً وغير خيار، وهذا قول الحسن وقتادة وابن جريج.
والثاني : أن التشابه في اللون دون الطعم فكأن ثمار الجنة في ألوان ثمار الدنيا، وإن خالفتها في الطعم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والربيع بن أنس.
والثالث : أن التشابه في الأسماء دون الألوان والطعوم، فلا تشبه ثمار الجنة شيئاً من ثمار الدنيا في لون ولا طعم، وهذا قول ابن الأشجعي وليس بشيء.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ في الأبدان، والأخلاق، والأفعال، فلا يَحِضْن، ولا يلدْن، ولا يذهَبْن إلى غائطٍ ولا بولٍ، وهذا قول جميع أهل التفسير.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَة فما فوقها ﴾.
في قوله :﴿ لاَ يَسْتَحْيِي ﴾ ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : معناه لا يترك ( ١٢١ ).
والثاني :[ يريد ] لا يخشى.
والثالث : لا يمتنع، وهذا قول المفضل.
وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من موَاقَعَةِ القبح.
والبعوضة : من صفار البقِّ سُميت بعوضة، لأنها كبعض البقَّة لصِغَرِها.
وفي قوله :﴿ مَا بَعُوضَةً ﴾ ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن « ما » بمعنى الذي، وتقديره : الذي هو بعوضة.
والثاني : أن معناه : ما بين بعوضة إلى ما فَوْقها.
والثالث : أن « ما » صلةٌ زائدةٌ، كما قال النابغة :
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُمُ تَعِيشُوا فَإِنَّ زَمَانَكُم زَمَنٌ خَمِيصُ
قَالَتْ أَلاَ لَيْتُمَا هذَا الْحَمَامُ لَنَا إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ فَقَدِ
﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : فما فوقها في الكبر، وهذا قول قتادة وابنِ جُريجٍ.
والثاني : فما فوقها في الصغر، لأن الغرض المقصود هو الصغر. وفي المثل ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وارد في المنافقين، حيث ضَرَبَ لهم المَثَلَيْنِ المتقدِّمين : مثَلَهُمْ كمثل الذي استوقد ناراً، وقوله : أو كصيِّب من السماء، فقال المنافقون : إن الله أعلى مِنْ أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس.
والثاني : أن هذا مثلٌ مبتدأ ضَرَبَهُ الله تعالى مثلاً للدنيا وأهلها، وهو أن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت، كذلك مثل أهل الدنيا، إذا امتلأوا من الدنيا، أخذهم الله تعالى عند ذلك، وهذا قول الربيع بن أنس.
والثالث : أن الله تعالى حين ذكر في كتابه العنكبوت والذباب وضربهما مثلاً، قال أهل الضلالة : ما بال العنكبوت والذباب يذكران، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول قتادةَ، وتأويل الربيع أحسن، والأولُ أشبَهُ.
قوله تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ فيه ثلاثةُ تأويلات :
أحدها : معناه بالتكذيب بأمثاله، التي ضربها لهم كثيراً، ويهدي بالتصديق بها كثيراً.
والثاني : أنه امتحنهم بأمثاله، فَضَلَّ قوم فجعل ذلك إضلالاً لهم، واهتدى قوم فجعله هدايةً لهم.
والثالث : أنه إخبار عمَّنْ ضلَّ ومن اهتدى.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾.
أما النقض، فهو ضد الإبرام، وفي العهد قولان :
أحدهما : الوصيَّة.
والثاني : الموثق.
والميثاق ما وَقَعَ التوثق به.
وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل :
أحدها : أن العهد وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك بترك العمل به.
والثاني : أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم.
27
والثالث : أن عهده ما أنزله على أهل الكتاب [ من ]، على صفة النبي ﷺ، والوصية المؤكدة باتباعه، فذلك العهد الذي نقضوه بجحودهم له بعد إعطائهم الله تعالى الميثاق من أنفسهم، ليبينه للناس ولا يكتمونه، فأخبر سبحانه، أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً.
والرابع : أن العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم، الذي وصفه في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنا ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ].
وفي هذه الكتابة التي في ميثاقه قولان :
أحدهما : أنها كناية ترجع إلى اسم الله وتقديره من بعد ميثاق الله.
والثاني : أنها كناية ترجع إلى العهد وتقديره من بعد ميثاق العهد.
وفيمن عَنَاهُ الله تعالى بهذا الخطاب، ثلاثة أقاويل :
أحدها : المنافقون.
والثاني : أهل الكتاب.
والثالث : جميع الكفار.
قوله تعالى :﴿ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الذي أمر الله تعالى به أن يوصل، هو رسوله، فقطعوه بالتكذيب والعصيان، وهو قول الحسن البصري.
والثاني : أنَّه الرحمُ والقرابةُ، وهو قول قتادة.
والثالث : أنه على العموم في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
قوله تعالىَّ :﴿ وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ ﴾ وفي إفسادهم في الأرض قولان :
أحدهما : هو استدعاؤهم إلى الكفر.
والثاني : أنه إخافتهم السُّبُلَ وقطعهم الطريق.
وفي قوله :﴿ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : أن الخسران هو النقصان، ومنه قول جرير :
إِنَّ سليطاً في الْخَسَارِ إِنَّهُ أَوْلاَدُ قَوْمٍ حلفوا افنه
يعني بالخَسَار، ما ينقُصُ حظوظهم وشرفهم.
والثاني : أن الخسران ها هنا الهلاك، ومعناه : أولئك هم الهالكون.
ومنهم من قال : كل ما نسبه الله تعالى من الخسران إلى غير المسلمين فإنما يعني الكفر، وما نسبه إلى المسلمين، فإنما يعني به الذنب.
28
قوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾.
في قوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ﴾ قولان :
أحدهما : أنه خارج مخرج التوبيخ.
والثاني : أنه خارج مخرج التعجب، وتقديره : اعجبوا لهم، كيف يكفرون!
وفي قوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ ستة تأويلات :
أحدها :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ أي لم تكونوا شيئاً، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ أي خلقكم، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ عند انقضاء آجالكم، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني : أن قوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ يعني في القبور ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ للمساءلة، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ في قبوركم بعد مساءلتكم، ثم يحييكم عند نفخ الصور للنشور، لأن حقيقة الموت ما كان عن حياةٍ، وهذا قول أبي صالح.
والثالث : أن قوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ يعني في أصلاب آبائكم، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ أي أخرجكم من بطون أمهاتكم، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ الموتة التي لا بد منها، ﴿ ثُم يُحْيِيكُمْ ﴾ للبعث يوم القيامة، وهذا قول قتادة.
والرابع : أن قوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ﴾ يعني : أن الله تعالى حين أخذ الميثاق على آدم وذريته، أحياهم في صلبه وأكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم، ثم أحياهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وهو معنى قوله تعالى :﴿ يَخْلُقْكُمْ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ ﴾ [ الزمر : ٦ ] فقوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ يعني بعد أخذ الميثاق، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ بأن خلقكم في بطون أمهاتكم ثم أخرجكم أحياء، ﴿ ثم يُمِيتُكُمْ ﴾ بعد أن تنقضي آجالكم في الدنيا، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ بالنشور للبعث يوم القيامة، [ وهذا ] قول ابن زيدٍ.
والخامس : أن الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي مَيِّتَةٌ من حين فراقها من جسده إلى أن ينفخ الروح فيها، ثم يحييها بنفخ الروح فيها، فيجعلها بشراً سويّاً، ثم يميته الموتة الثانية بقبض الروح منه، فهو ميت إلى يوم ينفخ في الصور، فيرُد في جسده روحه، فيعود حياً لبعث القيامة، فذلك موتتان وحياتان.
والسادس : أن قوله :﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ خاملي الذكر دارسي الأثر، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾ بالظهور والذكر، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ عند انقضاء آجَالكم، ﴿ ثُمَّ يُحييكُمْ ﴾ للبعث، واستشهد من قال هذا التأويل بقول أبي بُجَيْلَةَ السَّعْدِيِّ :
وَأَحْيَيْتَ مِنْ ذِكْرِي وَمَا كَانَ خامِلاً وَلكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أنْبَهُ مِنْ بَعْضِ
وفي قوله :﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : إلى الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم.
والثاني : إلى المجازاة على الأعمال.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ ﴾ فيه ستة أقاويل :
أحدها : أن معنى قوله :﴿ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ ﴾ أي أقبل عليها، وهذا قول الفراء.
والثاني : معناه : عمد إليها، وقصد إلى خلقها.
والثالث : أنّ فِعْل الله تحوَّل إلى السماء، وهو قول المفضل.
والرابع : معناه : ثم استوى أمره وصنعه الذي صَنَعَ به الأشياء إلى السماء، وهذا قول الحسن البصري.
والخامس : معناه ثم استوت به السماء.
السادس : أن الاستواء والارتفاع والعلوَّ، وممن قال بذلك : الربيع بن أنس، ثم اختلف قائلو هذا التأويل في الذي استوى إلى السماء فعلا عليها على قولين :
أحدهما : أنه خالقها ومنشئها.
والثاني : أنه الدخان، الذي جعله الله للأرض سماءً.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، في قوله :﴿ وَإِذْ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه صلة زائدة، وتقدير الكلام : وقال ربك للملائكة، وهذا قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الأسود بن يعفر :
فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ
والوجه الثاني : أن « إذ » كلمة مقصورة، وليست بصلة زائدة، وفيها لأهل التأويل قولان :
أحدهما : أن الله تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض، ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ ﴿ إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾، وهذا قول المفضَّل.
والثاني : أن الله تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال : وابتدأ خلقكم ﴿ إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾، وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام، كما قال النمر بن تَوْلَبَ ( ١٢٧ ) :
فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا
يريد : أينما ذهب.
فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ، وهو مأخوذ من الرسالة، يقال : ألِكِني إليها أي أرسلني إليها، قال الهذلي :
ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ
والألوك الرِّسالة، قال لبيد بن ربيعة :
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ
وإنما سميت الرسالة ألوكاً لأنها تُؤْلك في الفم، والفرس يألك اللجام ويعلكه، بمعنى يمضغ الحديد بفمه.
والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق، إلا أنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، ولا يتناسلون، وهم رسل الله، لا يعصونه في صغير ولا كبير، ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى الله أبصارنا على رؤيتهم.
وقوله تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ اختلف في معنى ﴿ جاعل ﴾ على وجهين :
أحدهما : أنه بمعنى خالق.
والثاني : بمعنى جاعل، لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم.
و ﴿ الأرض ﴾ قيل : إنها مكة، وروى ابن سابط، أن النبي ﷺ قال :« دُحِيَت الأرضُ من مكةَ » ولذلك سميت أم القرى، قال : وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بن زمزم، والركن، والمقام.
وأما « الخليفة » فهو القائم مقام غيره، من قولهم : خَلَفَ فلانٌ فلاناً، والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين، والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين، وفي التنزيل :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ﴾ [ مريم : ٥٩ ]، وفي الحديث :« ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ ». وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان في الأرض الجِنُّ، فأفسدوا فيها، سفكوا الدماء، فأُهْلِكوا، فَجُعِل آدم وذريته بدلهم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه أراد قوماً يَخْلُفُ بعضهم بعضاً من ولد آدم، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض، وهذا قول الحسن البصري.
والثالث : أنه أراد : جاعل في الأرض خليفةً يخْلُفُني في الحكم بين خلقي، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده، وهذا قول ابن مسعود.
31
قوله تعالى :﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾، وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم، أنه جاعل في الأرض خليفةً، واختلفوا في جوابهم هذا، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب؟ على وجهين :
أحدهما : أنهم قالوه استفهماً واستخباراً حين قال لهم : إني جاعلٌ في الأرض خليفة، فقالوا : يا ربنا أَعْلِمْنَا، أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم : إني أعلم ما لا تعلمون، ولم يخبرهم.
والثاني : أنه إيجاب، وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام، كما قال جرير :
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان :
أحدهما : أنهم قالوه ظناً وتوهُّماً، لأنهم رأوا الجن من قبلهم، قد أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء.
وفي جوابهم بهذا وجهان :
أحدهما : أنهم قالوه استعظاماً لفعلهم، أي كيف يفسدون فيها، ويسفكون الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال : إني أعلم ما لا تعلمون.
والثاني : أنهم قالوه تعجباً من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال :﴿ إني أعلم ما لا تعلمون ﴾.
وقوله :﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾ السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع، والسفح مثله، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنى : إنه سفاح لتضييع مائه فيه.
قوله تعالى :﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾.
والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ
أي براءةً من علقمة.
ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللهِ، وإن كان منزهاً، لأنه صار علَماً في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللهُ تعالى.
وفي المراد بقولهم :﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ﴾ أربعة أقاويل :
أحدها : معناه نصلي لك، وفي التنزيل :﴿ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ﴾ [ الصافات : ١٤٣ ]، أي من المصلين، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني : معناه نعظِّمك، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه التسبيح المعروف، وهذا قول المفضل، واستشهد بقول جرير :
قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ
وأما قوله :﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ فأصل التقديس التطهير، ومنه قوله تعالى :﴿ الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ﴾ أي المطهَّرة، وقال الشاعر :
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ
أي المطهَّر.
وفي المراد بقولهم :﴿ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ثلاثةُ أقاويلَ :
أحدها : أنه الصلاة.
والثاني : تطهيره من الأدناس.
والثالث : التقديس المعروف.
وفي قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ثلاثةُ أقاويل :
أحدها : أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني : مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون، وهذا قول قتادة.
والثالث : ما اختص بعلمه من تدبير المصالح.
32
قوله تعالى :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ في تسميته بآدم قولان :
أحدهما : أنه سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وأديمها هو وجهها الظاهر، وهذا قول ابن عباس، وقد رَوَى أبو موسى الأشعري قال : قال رسول الله ﷺ :« إِنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ، قَبَضَها مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ، وَالأَسوَدُ، وَالأبْيَضُ، وَالسَهْلُ، وَالخَبِيْثُ، وَالطَّيِّبُ ». والثاني : أنه مأخوذ من الأدمة، وهي اللون.
وفي الأسماء التي علَّمها الله تعالى آدَمَ، ثلاثة أقْوَالٍ : أحدها : أسماء الملائكة.
والثاني : أسماء ذريته.
والثالث : أسماء جميع الأشياء، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، ومجاهد.
ثم فيه وجهان :
أحدهما : أن التعليم إنما كان مقصوراً على الاسم دون المعنى.
والثاني : أنه علمه الأسماء ومعانيها، إذ لا فائدة في علم الأسماء بلا معاني، فتكون المعاني هي المقصودة، والأسماءُ دلائل عليها.
وإذا قيل بالوجه الأول، أن التعليم إنما كان مقصوراً على ألفاظ الأسماء دون معانيها، ففيه وجهان :
أحدهما : أنه علمه إياها باللغة، التي كان يتكلم بها.
والثاني : أنه علمه بجميع اللغات، وعلمها آدمُ ولده، فلما تفرقوا تكلم كل قوم منهم بلسان استسهلوه منها وأَلِفُوه، ثم نسوا غيره فتطاول الزمن، وزعم قوم أنهم أصبحوا وكل منهم يتكلمون بلغةٍ قد نسوا غيرها في ليلة واحِدةٍ، ومثل هذا في العُرْفِ ممتنع.
قوله تعالىَّ :﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ على الْمَلاَئِكَةِ ﴾ وفيما عرضه عليهم قولان :
أحدهما : أنه عرض عليهم الأسماء دون المسميات.
والثاني : أنه عرض عليهم المُسَمَّيْنَ بها.
وفي حرف ابن مسعود :﴿ وَعَرَضَهُنَّ ﴾ وفي حرف أُبَيٍّ :﴿ وَعَرَضَهَا ﴾ فكان الأصح توجه العرض إلى المُسَمًّيْنَ.
ثم في زمان عرْضِهِم قولان :
أحدهما : أنه عرضهم بعد أن خلقهم.
والثاني : أنه صورهم لقلوب الملائكة، ثم عرضهم قبل خلقهم.
﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ومعنى أنبئوني خبروني مأخوذ من الإنباء، وفي الإنباء قولان :
أَظْهَرُهُمَا : أنه الإخبار، والنبأ الخبر، والنبيء بالهمز مشتق من هذا.
والثاني : أن الإنباء الإعلام، وإنما يستعمل في الإخبار مجازاً.
وقوله :﴿ بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ ﴾ يعني الأسماءَ الَّتي علمها آدم. وفي قوله تعالى :﴿ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ستة أقاويل :
أحدها : إن كنتم صادقين أني لا أخلق خَلْقاً إلا كنتم أعلم منه؛ لأنه هجس في نفوسهم أنهم أعلم من غيرهم.
والثاني : إن كنتم صادقين فيما زعمتم أن خُلَفَائي يفسدون في الأرض.
والثالث : إن كنتم صادقين أني إنِ استخلفتكم فيها سبَّحْتموني وقَدَّسْتُمُوني، فإن استخلفت غيركم فيها عصاني.
والرابع : إن كنتم صادقين فيما وقع في نفوسكم، أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه.
والخامس : معنى قوله :﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي عالمين.
33
والسادس : أن معناه إن كنتم صادقين.
قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ العليم : هو العالم من غير تعليم، وفي « الحكيم » ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المُحْكِمُ لأفعاله.
والثاني : أنه المانع من الفساد، ومنه سميت حَكَمَةُ اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري الشديد، وقال جرير :
أبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إِنِّي أخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أغْضَبَا
أي امنعوهم.
والثالث : أنه المُصِيبُ للحقِّ، ومنه سمي القاضي حاكماً، لأنه يصيب الحق في قضائه، وهذا قول أبي العباس المبرد.
قوله تعالى :﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ :﴿ مَا تُبْدُونَ ﴾ هو قولهم :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾، وفي ﴿ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : ما أسرَّه إبليس من الكبر والعصيان، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود.
والثاني : أن الذي كتموه : ما أضمروه في أنفسهم أن الله تعالى لا يخلق خلقاً إلاَّ كانوا أكرمَ عليه منه، وهو قول الحسن البصري.
34
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ﴾.
واختلف أهل التأويل في أمره الملائكة بالسجود لآدم، على قولين :
أحدهما : أنه أمرهم بالسجود له تَكْرِمَةً وَتَعْظِيماً لشأنِهِ.
والثاني : أَنَّهُ جعله قِبْلَةً لهم، فأمرهم بالسجود إلى قبلتهم، وفيه ضرب من التعظيم.
وأصل السجود الخضوع والتطامن، قال الشاعر :
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ تَرَى الأَكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ
وسمى سجود الصلاة سجوداً، لما فيه من الخضوع والتطامن، فسجد الملائكة لآدم طاعةً لأمر الله تعالى إلا إبليس أَبَى أن يسجُدَ له حَسَداً واستكباراً.
واختلفوا في إبليس، هل كان من الملائكة أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أنه كان من الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، وابن جريج، لأنه استثناء منهم، فَدَلَّ على دخوله منهم.
والثاني : أنه ليس من الملائكة، وإنما هو أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس، وهذا قول الحسن وقتادة وابن زيد، ولا يمتنع جواز الاستثناء من غير جنسه، كما قال تعالى :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ] وهذا استثناء منقطع.
واختُلِفَ في تَسْمِيتِهِ بإبليس على قولين :
أحدهما : أنه اسم أعجمي وليس بمشتقٍّ.
والثاني : أنه اسمُ اشتقاق، اشتُقَّ من الإبلاس وهو اليأس من الخَيْرِ، ومنه قوله تعالى :﴿ فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ] أي آيِسُونَ من الخير، وقال العجَّاجُ :
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ، وَأَبْلَسَا
فأمَّا من ذهب إلى أن إبليس كان من الملائكة، فاختلفوا في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كان مِنَ الْجِنِّ ﴾ [ ٥٠ الكهف ] لِمَ سماه الله تعالى بهذا الاسم، على أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم حي من الملائكة يُسَمَّوْن جنّاً كانوا من أشدِّ الملائكة اجتهاداً، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه جعل من الجنِّ، لأنه من خُزَّانِ الجنَّةِ، فاشتق اسمه منها، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث : أنه سمي بذلك لأنه جُنَّ عن طاعة ربِّه، وهذا قول ابن زيدٍ.
والرابع : أن الجِنِّ لكلِّ ما اجْتَنَّ فلم يظهر، حتى إنهم سَمَّوُا الملائكة جناً لاستتارهم، وهذا قول أبي إسحاق، وأنشد قول أعشى بني ثعلبة :
لَوْ كَانَ حَيٌّ خَالِد أَوْ مُعَمَّراً لَكَانَ سُلَيْمَان البري مِنَ الدَّهْرِ
بَرَاهُ إلهي وَاصْطَفَاهُ عِبَادُهُ وَمَلَّكَهُ ما بَيْنَ نُوبَا إلى مِصْرِ
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً قِيَاماً لَدَيْهِ يعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ
فسمَّى الملائكة جناً لاستتارهم.
وفي قوله تعالى :﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ ثلاثةُ أَقَاوِيلَ :
أحدها : أنه قد كان قبله قوم كفار، كان إبليس منهم.
والثاني : أن معناه : وصار من الكافرين.
والثالث : وهو قول الحسن : انه كان من الكافرين، وليس قبله كافرا، كما كان من الجنِّ، وليس قبله جِنٌّ، وكما تقول : كان آدم من الإنس، وليس قبله إنسيٌّ.
قوله تعالى :﴿ وَقُلْنَا يا آدَمَ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾.
إن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم، ولذلك قيل للمرأة : ضلع أعوج.
وسُمِّيت امرأةً لأنها خُلِقَتْ مِنَ المرءِ، فأما تسميتها حواء، ففيه قولان :
أحدهما : أنها سميت بذلك لأنها خلقت من حَيٍّ، وهذا قول ابن عباسٍ، وابن مسعود.
والثاني : أنها سميت بذلك، لأنها أم كل حيٍّ.
واختُلِف في الوقت الذي خلقت فيه حواءُ على قولين :
أحدهما : أن آدم أُدْخِلَ الجنَّةَ وَحْدَهُ، فَلَمَّا استوحش خُلِقَتْ حواءُ من ضِلْعِهِ بعد دخوله في الجنة، وهذا قول ابن عباسٍ، وابن مسعود.
والثاني : أنها خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة، ثم أُدْخِلا معاً إلى الجنةِ، لقوله تعالى :﴿ وَقُلْنَا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾، وهذا قول أبي إسحاق.
واختلف في الجَنَّةِ التي أُسْكِنَاهَا على قولين :
أحدهما : أنها جنةُ الخُلد.
والثاني : أنها جنةٌ أعدها الله لهما، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾.
في الرغدِ ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : أنه العيش الهني، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود، ومنه قول امرئ القيس :
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِماً يَأْمِنُ الأحْدَاثَ في عَيْشٍ رَغَدْ
والثاني : أنه العيش الواسع، وهذا قول أبي عبيدة.
والثالث : أنه أراد الحلال الذي لا حساب فيه، وهو قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾.
اختلف أهل التفسير في الشجرة التي نُهِيا عنها، على أربعةِ أقاويل :
أحدها : أنها البُرُّ، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنها الكَرْمُ، وهذا قول السُّدِّيِّ، وجعدة بن هبيرة.
والثالث : أنها التِّين، وهذا قول ابن جريجٍ، ويحكيه عن بعض الصحابة.
والرابع : أنها شجرة الخلد التي تأكل منها الملائكة.
وفي قوله تعالى :﴿ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ قولان :
أحدهما : من المعتدين في أكل ما لم يُبَحْ لكما.
والثاني : من الظالمين لأنفسكما في أكلكما.
واختلفُوا في معصية آدم بأكله من الشجرة، على أي وجهٍ وقعت منه، على أربعة أقاويل :
أحدها : أنه أكل منها وهو ناسٍ للنهي لقولِهِ تعالى :﴿ ولقد عَهِدْنَا إلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ﴾ [ طه : ١١٥ ] وزعم صاحب هذا القول، أن الأنبياء يلزمهم التحفظ والتيقُّظُ لكثرة معارفهم وعُلُوِّ منازلهم ما لا يلزم غيرهم، فيكون تشاغله عن تذكُّر النهي تضييعاً صار به عاصياً.
والقول الثاني : أنه أكل منها وهو سكران فصار مؤاخذاً بما فعله في السُّكْرِ، وإن كان غير قاصدٍ له، كما يؤاخَذُ به لو كان صاحياً، وهو قول سعيد بن المسيب.
والقول الثالث : أنه أكل منها عامداً عالماً بالنهي، وتأول قوله :﴿ وَلَقَدْ عَهْدْنَا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ﴾
36
[ طه : ١١٥ ] أي فَزَلَّ، ليكون العَمْدُ في معصيةٍ يستحق عليها الذمَّ.
والرابع : أنه أكل منها على جهة التأويل، فصار عاصياً بإغفال الدليل، لأن الأنبياء لا يجوز أن تقع منهم الكبائر، ولقوله تعالى في إبليس :﴿ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ [ الأعراف : ٢٢ ] وهو ما صرفهما إليه من التأويل.
واختلف من قال بهذا في تأويله الذي استجاز به الأكل، على ثلاثةِ أقاويلَ :
أحدها : أنه تأويل على جهةِ التنزيه دون التحريم.
والثاني : أنه تأويل النهي عن عين الشجرة دون جنسها، وأنه إذا أكل من غيرها من الجنسِ لم يعصِ.
والثالث : أن التأويل ما حكاه الله تعالى عن إبليس في قوله :﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ].
قوله تعالى :﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾.
قرأ حمزة وحده :﴿ فَأَزَالَهُمَا ﴾ بمعنى نحَّاهُما من قولك : زُلْتُ عن المكان، إذا تنحَّيْتَ عنه، وقرأ الباقون :﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾ بالتشديد بمعنى استزلَّهما من الزلل، وهو الخطأ، سمي زلَلاً لأنه زوال عن الحقَّ، وكذلك الزّلة زوال عن الحق، وأصله الزوال.
والشيطان الذي أزلهما هو إبليس.
واختلف المفسرون، هل خلص إليهما حتى باشرهما بالكلام وشافههما بالخطاب أم لا؟ فقال عبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وأكثر المفسرين أنه خلص إليهما، واستدلُّوا بقوله تعالى :﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] وقال محمد بن إسحاق : لم يخلص إليهما، وإنما أوقع الشهوة في أنفسهما، ووسوس لهما من غير مشاهدة، لقوله تعالى :﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ﴾ [ الأعراف : ٢٠ ]، والأول أظهر وأشهر.
وقوله تعالى :﴿ فَأَخْرجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ يعني إبليس، سبب خروجهما، لأنه دعاهما إلى ما أوجب خروجهما.
قوله عزَّ وجلَّ :﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾.
الهُبوط بضم الهاء النزول، وبفتحها موضع النزول، وقال المفضل : الهبوط الخروج من البلدة، وهو أيضاً دُخولها، فهو من الأضداد، وإذا كان الهبوط في الأصل هو النزول، كان الدخُول إلى البلدة لسكناها نزولاً بها، فصار هُبوطاً.
واختلفوا في المأمور بالهبوط، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه آدم، وحواء، وإبليس، والحيَّةُ، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه آدم وذريته، وإبليس وذريته، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه آدم، وحواء، والمُوَسْوِسُ.
والعدو اسم يستعمل في الواحد، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث، والعداوة مأخوذة من المجاوزة من قولك : لا يَعْدوَنَّكَ هذا الأمْرُ، أيْ لا يُجاوِزَنَّكَ، وعداهُ كذا، أي جازوه، فَسُمِّيَ عَدُوّاً لمجاوزةِ الحدِّ في مكروه صاحبه، ومنه العَدْوُ بالقَدَم لمجاوزة المشْيِ، وهذا إخبار لهم بالعداوة وتحذير لهم، وليس بأمر، لأن الله تعالى لا يأمر بالعداوة.
واخْتُلِفَ في الَّذينَ قِيلَ لهم :﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عدُوٌّ ﴾، على قولين :
أحدهما : أنهم الذين قيل هلم اهبطوا، على ما ذكرنا من اختلاف المفسرين فيه.
والثاني : أنهم بنو آدم، وبنو إبليس، وهذا قول الحسن البصري.
37
قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ في الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن المستقر من الأرض موضع مقامهم عليها، لقوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً ﴾ [ غافر : ٦٤ ]، وهذا قول أبي العالية.
والثاني : أنه موضع قبورهم منها، وهذا قول السُّدِّيِّ.
قوله تعالىَّ :﴿ وَمَتَاعٌ إلى حينٍ ﴾ :
والمتاع كل ما اسْتُمْتِعَ به من المنافع، ومنه سُمِّيَتْ متعة النكاح، ومنه قوله تعالى :﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٤٩ ]، أي ادفعوا إليْهِنَّ ما ينتفعْنَ به، قال الشاعر :
وَكُلُّ غَضَارَةٍ لَكَ من حَبِيب لها بِكَ، أو لَهَوْتَ بِهِ، مَتَاعُ
والحين : الوقت البعيد، ف « حِينئِذٍ » تبعيد قولِكَ :« الآن »، وفي المراد بالحين في هذا الموضع ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلى الموت، وهو قول ابن عباس والسُّدِّيِّ.
والثاني : إلى قيام الساعة، وهو قول مجاهد.
والثالث : إلى أجلٍ، وهو قول الربيع.
38
قوله تعالىَّ :﴿ فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلَمَاتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ﴾ :
أما « الكلام » فمأخوذ من التأثير، لأن له تأثيراً في النفس بما يدلُّ عليه من المعاني؛ ولذلك سُمِّيَ الجُرْحُ كَلْماً لتَأْثِيره في البدن، واللفظُ مشتق من قولك : لفظت الشيء، إذا أخْرجْتَهُ من قلبك.
واختُلِفَ في الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربِّه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : قوله :﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ] وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.
والثاني : قول آدم : اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، ربِّ إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، إنِّي ظلمت نفسي، فتُب عليَّ، إِنَّك أنت التوابُ الرحيم، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أن آدم قال لربِّه إذ عصاه : ربِّ أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال ربُّه : إني راجعك إلى الجنَّةِ، وكانت هي الكلمات التي تلقاها من ربه، وهذا قول ابن عباسٍ.
قوله تعالى :﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾، أي قبل توبته، والتوبةُ الرجوع، فهي من العبد رجوعه عن الذنب بالندم عليه، والإقلاع عنه، وهي من الله تعالى على عبده، رجوع له إلى ما كان عليه.
فإن قيل : فِلمَ قال :﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾، ولم يقُلْ : فتابَ علَيْهِما، والتوبة قد توجهت إليهما؟ قيل : عنه جوابان :
أحدهما : لما ذكر آدم وحده بقوله :﴿ فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾، ذكر بعده قبول توبته، ولم يذكر توبة حوَّاء وإن كانت مقبولة التوبة، لأنه لم يتقدم ذكرها.
والثاني : أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحداً، جاز أن يذكرَ أحدهما، ويكونَ المعنى لهما، كما قال تعالى :﴿ وَإذَا رَأَوا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا ﴾ [ الجمعة : ١١ ] وكما قال تعالى :﴿ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾ [ التوبة : ٦٢ ].
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾، أي الكثيرُ القبولِ للتوبةِ، وعقَّبه بالرحمة، لئلا يخلِّيَ الله تعالى عباده من نِعَمِهِ.
وقال الحسن : لم يخلق الله تعالى آدم إلا للأرض، فلو لم يعص لخرج على غير تلك الحال، وقال غيره : يجوز أن يكون خَلَقَهُ للأرض إن عَصَى، ولغيرها إن لم يعصِ.
ولم يُخْرجِ اللهُ تعالى آدمَ من الجنة ويُهْبِطهُ على الأرض عقوبةً، لأمرين : أحدهما : أن ذنبه كان صغيراً.
والثاني : أنه أُهْبِطَ بعد قبول توبته.
وإنما أُهْبِطَ لأحد أمرين : إِمَّا تأديباً، وإمَّا تغليظاً للمحنة.
قوله تعالى :﴿ يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُا نعمتي الَّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾.
وإسرائيل هو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيمَ، قال ابنُ عباس :« إسرا » بالعبرانية : عبد، و « إيل » هو الله، فكان اسمه عبدَ الله.
وقوله :﴿ اذْكُروا نِعْمَتِيَ ﴾ والذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان، والذكر باللسان ضد الإنصات، والذكر الشرف، وقال الكسائي : ما كان بالقلب فهو مضموم الذال، وقال غيره : هو لغتان : ذِكر وذُكر، ومعناهما واحد.
والمراد بالآية الذكر بالقلب، وتقديره : لا تغفلوا عن نعمتي، التي أنعَمْتُ عليكم ولا تَنَاسَوْها.
وفي النعمة التي أنعمها عليهم قولان :
أحدهما : عموم نِعَمِهِ الَّتي أنعم بها على خلْقِهِ، كما قال تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [ النحل : ١٨ ].
والثاني : وهو قول الحسن البصري، أنه أراد نِعَمَهُ عَلَى آبائهم، إذ نجَّاهم من آل فرعون، وجعل منهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وفجَّر لهم الحَجَرَ، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، والنعم على الآباء، نعم على الأبناء، لأنهم يَشْرُفون بشرف آبائهم.
وفي قوله تعالى :﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾ قولان :
أحدهما : أوفوا بعهدي الذي أخذتُ عليكم من الميثاق، أن تؤمنوا بي وتصدقوا رُسُلي، أُوفِ بعهدكم على ما وعدتكم من الجنة.
والثاني : قاله عبد الله بن عباس : أَوْفُوا بما أَمَرْتُكم، أُوفِ بما وَعَدْتُكم إِيَّاهُ.
وفي تسمية ذلك عهداً قولان :
أحدهما : لأنه عَهْدُهُ في الكتب السالفةِ.
والثاني : أنه جعله كالعهد، الذي هو يمين لِلُزُوم الوفاءِ بهما معاً.
قوله تعالى :﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ ﴾ يعني من القرآن على محمد ﷺ، ﴿ مُصَدٍِّقاً لِمَا مَعَكُمْ ﴾ يعني من التوراة، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مصدقاً لما في التوراة، من توحيد الله وطاعته.
والثاني : مصدقاً لما في التوراة، أنها من عند الله.
والثالث : مصدقاً لما في التوراة من ذكر القرآن، وبَعْثِهِ مُحمداً ﷺ نبيّاً.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُوا أُوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : ولا تكونوا أول كافرٍ بالقرآن من أهل الكتاب، وهو قول ابن جريجٍ.
والثاني : ولا تكونوا أول كافر بمحمدٍ ﷺ، وهذا قول أبي العالية.
والثالث : ولا تكونوا أول كافرٍ بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمدٍ وتصديقِ القرآن.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : لا تأخذوا عليه أجراً، وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول :« يا ابن آدم علِّم مجَّاناً كما عُلِّمْتَ مجَّاناً »، وهذا قول أبي العالية.
والثاني : لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً، وهذا قول الحسن البصري.
والثالث : لا تأخذوا ثمناً قليلاً على كتم ما فيه من ذكر محمدٍ ﷺ، وتصديق القرآن، وهذا قول السدي.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِل ﴾ بعني لا تخلطوا الْحَقَّ بالباطلِ، واللبس خلط الأمور، وفيه قوله تعالى :﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩ ] قال ابن عباسٍ : معناه : ولخلطنا عليهم ما كانوا يخلطون، ومنه قول العجاج :
لَمَّا لَبَسْنَ الْحَقَّ بِالتَّجَنِّي غَنِينَ واسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي
وفي قوله :﴿ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : الصدق، وهو قول ابن عباس.
والثاني : اليهودية والنصرانية بالإسلام، وهو قول مجاهد.
والثالث : الحقُّ : التوراةُ التي أُنْزِلَتْ على موسى، والباطلُ : الذي كتبوه بأيديهم.
وقوله تعالى :﴿ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ ﴾ يعني محمداً، ومعرفة نبوَّته، ﴿ وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أنه في الكتب التي بأيديكم، وهذا قول الجميع.
قوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾.
أما الصلاة : فقد مضى الكلام فيها.
وأما الزكاة : ففي تسمية صدقة الأموال بها، قولان :
أحدهما : أنه من تثمير المال وزيادته، ومنه قولهم : زَكا الزرع، إذا زاد، ويقال : زكا الفرد إذا صار زوجاً بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعاً كما قال الشاعِرُ :
كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍ لَمْ يُخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تَعْتَلِج
فخساً : الوِتر، وزكاً : الشفع، وقال الراجز :
فَلاَ خَساً عَدِيدُهُ وَلاَ زَكاً كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا
السَّفَا : شوك البهمي، والبهمي : الشوك الممدود مثل السبلى.
والقول الثاني : أنَّها مأخوذة من التطهير، ومنه قوله تعالى :﴿ أَقَتَلْتَ نَفَساً زَاكِيَةً ﴾ [ الكهف : ٧٤ ] أي طاهرة من الذنوب.
وفيما يُطهَّر قولان :
أحدهما : أنه تطهير المال حتى صار بأداء الحقِّ منه حلالاً ولولاه لخَبُثَ.
الثاني : تطهير نفس المزكي، فكأن المزكي طهَّر نفسه من الشُحِّ والبخل.
قوله تعالى :﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد جملة الصلاة، فعبر عنها بالركوع، كما يقول الإنسان : فَرَعْتُ من ركوعي، أي من صلاتي.
والثاني : أنه أراد الركوع الذي في الصلاة، لأنه لم يكن في صلاة أهل الكتاب ركوعٌ، فأَمَرَهُم بما لا يفعلونه في صلاتهم.
وفي أصل الركوع قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من التطامن والانحناء، وهو قول الخليل، وابن زيدٍ، قال لبيد بنُ ربيعة :
أخبّر أخبار القرون التي مضت أدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ
والثاني : أنه مأخوذ من المذلَّة والخضوع، وهو قول الأصمعي والمفضل، قال الأضبطُ بنُ قريع السَّعْدِيُّ :
قوله تعالىَّ :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله، وهم يَعْصُونَهُ، وهو قولُ السدي، وقتادة، لأنه قد يعبر بالبر عن الطاعة، قال الشاعِرُ :
لاَ تُذِلَّ الضَّعِيفَ عَلَّكَ أَنْ تَرْ كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
لاَهُمَّ إِنَّ آلَ بَكْرٍ دُونَكَا يَبرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا
أي يُطِيعونك.
والثاني : أنهم كانوا يأمرون الناس بالتمسك بكتاب ربهم ويتركونه بجحود ما فيه من نبوَّة محمدٍ ﷺ، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أنهم كانوا يأمرون بالصدقة ويضنون بها.
قوله تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ﴾ :
أما الصبر : فهو حبس النفس عما تُنازع إليه، ومنه صبر صاحب المصيبة، أن يحبس نفسه عن الجزع، وسُمِّي الصوم صبراً لحبس النفس عن الطعام والشراب، ولذلك سُمِّي شهرُ رمضانَ شهر الصبرِ، وجاء في الحديث :« اقْتُلُوا الْقَاتِلَ، وَاصْبِرُوا الصَّابِرَ » وذلك فيمن أمسك رجلاً حتى قتله آخر، فأمر بقتل القاتل، وحبس الممسك.
وفي الصبر المأمور به، قولان :
أحدهما : أنه الصبرُ على طاعته، والكف عن معصيته.
والثاني : أنه الصوم، وقد كان النبيُّ ﷺ إذا حَزَبَهُ أمرٌ استعان بالصلاة والصيام، ورُويَ أنه رأى سلمان منبطحاً على وجهه، فقال له : أشكو من بردٍ. قال :« قم فصلِّ الصلاة تُشْفَ ». وأما قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ على الْخَاشِعِينَ ﴾ ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني : وإن الصلاة لثقيلة إلا على المؤمنين، لعود الكناية إلى مؤنثِ اللفظِ.
والثاني : يعني الصبر والصلاة، فأرادهما، وإن عادت الكناية إلى الصلاة؛ لأنها أقرب مذكور، كما قال الشاعِرُ :
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى في الْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
والثالث : وإن إجابة محمد ﷺ لشديدة إلا على الخاشعين.
والخشوع في الله : التواضع، ونظيره الخضوع، وقيل : إن الخضوع في البدن، والخشوعَ في الصوت، والبصر.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو ربِّهِمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم، لإشفاقهم من المعاصي التي كانت منهم.
والثاني : وهو قول الجمهور : أن الظن ها هنا اليقين، فكأنه قال : الذين يَتَيَقَّنُون أنهم ملاقو ربهم، وكذلك قوله تعالى :﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّي مُلاَقٍ حسَابِيَهْ ﴾ أي تيقَّنت، قال أبو داود :
رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتَهُ بِغَرِيمٍ وَغُيوبٍ كَشَفْتَهَا بِظُنُونِ
﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه أراد بالرجوع الموت.
والثاني : أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية.
والثالث : راجعون إليه، أي لا يملك أحد لهم ضرّاً ولا نفعاً غيره كما كانوا في بدءِ الخلق.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه : لا تُغنِي، كما يقال : البقرة تَجْزِي عن سبعةٍ أي تُغِني، وهو قول السدي.
والثاني : معناه لا تقضي، ومنه قولهم جزى الله فلاناً عني خيراً، أي قضاه، وهو قول المفضل.
﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ قال الحسن : معناه لا يجِيءُ بشفيعٍ تقبل شفاعته لعجزه عنه، وقال غيره : بل معناه، أن الشفيع لا يجيبه إلى الشفاعة له، وأنَّه لو شُفِّعَ لشَفَعَ.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ : العَدْلُ بفتح العَيْنِ : الفِدْيَةُ، وبكسرِ العَيْنِ : المِثلُ.
فأما قولهم : لا قَبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الصرف العمل، والعدل الفدية، وهذا قول الحسن البصري.
والثاني : أن الصرف الدية، والعدل رجل مكانه، وهذا قول الكلبي.
والثالث : أن الصرف التطوع، والعدل الفريضة، وهذا قول الأصمعي.
والرابع : أن الصرف الحِيلَةُ، والعدل الفدْية، وهذا قول أبي عبيدة.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ نَجَّيناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ يعني من قوم فرعون، وآل الرَّجُلِ : هم الَّذين تؤول أمورهم إليه، إما في نسب، أو في صحبة، وَاختُلِف في الآل والأهل على قولين :
أحدهما : أنهما سواء.
والثاني : وهو قول الكسائي : أنه يقال : آل الرجل، إذا ذكر اسمهُ، فإن كُنَيَ عنه قيل أهله، ولم يُقَلْ آله، كما يقال : أهل العلم، وأهل البصرة، ولا يقال : آل العلم، وآل البصرة.
وفِرْعَوْنُ : قيل إنه ذلك الرجل بعينه، وقيل إنه اسمُ كلِّ ملكٍ من ملوك العمالقة، مثل قيصر للروم، وكسرى للفرس، وأن اسْمَ فِرْعَوْنِ مَوسَى : الوليدُ بنُ مُصْعَبٍ.
وفي قوله تعالى :﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : معناه يولونكم، مِنْ قولهم : سَامَهُ خطة خَسْفٍ، إذا أولاه.
والثاني : يُجَشِّمُونَكُمُ الأعمال الشَّاقَّة.
والثالث : يزيدونكم على سوء العذاب، ومنه مساومة البيع، إنما هو أن يزيد البائعُ المشتريَ على ثمنٍ، ويزيد المشتري على ثمنٍ، وهذا قول المفضل.
قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ﴾ أي يستبقون، وهو استفعال من الحياة، لأنهم كانوا يُذَبِّحُونَ الذكور، ويستبقون الإناث.
وأما اسم النساء، فقد قيل : إنه ينطلق على الصغار، والكبار، وقيل : بل ينطلق على الكبار، وإنما سَمَّي الصغار نساءً، على معنى أنهُنَّ يبقِين، حتَّى يصِرْنَ نساءً.
وإنما كان استبقاءُ النساء من سوء العذاب، لأنهم كانوا يستبقونهن للاسترقاق والخدمة، فصار ذلك هو سُوءَ العذاب، لا الاستبقاء.
وفي قوله تعالى :﴿ وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن فيما كانوا يفعلونه بهم : مِنْ سوء العذاب، وذبح الأبناء، واستحياء النساءِ شدةً وجهداً عظيماً.
والثاني : أن في إنجائهم من آل فرعونَ، الذين كانوا يفعلون ذلك بهم نعمةٌ من ربِّهم عظيمةٌ، وهو قول ابن عباسٍ، ومجاهدٍ، والسدي.
وأصل البلاء الاختبار في الخير والشر، كما قال تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] لأن الاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشر، غير أن الأكثر في الشر أن يقال : بَلَوْتُه أَبْلُوهُ بلاءً، وفي الخير : أَبْلَيْتُهُ أُبْلِيهِ إبْلاءً، ومن ذلك قولُ زُهَيْرٍ :
جَزَى اللهُ بِالإْحْسَانِ مَا فَعَلاَ بِكُمْ فَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ الْبَلاءِ الَّذِي يَبْلُو
فجمع بين اللُّغَتين.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ فيه تأويلان : أحدهما : وإذ فصلنا بكم البحر، لأن الفرْقَ : الفصل بين الشيئين، فَفَرَقَ البحر اثني عشر طريقاً، وكان عددهم ستمائة ألفٍ وعشرين ألفاً، لا يُعَدُّ فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره، وكان على مقدمة فرعونَ هامانُ في ألْفِ ألْفٍ، وسبعمائة حصانٍ، وذلك قوله :﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ في الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ. إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْ ذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [ الشعراء : ٥٣، ٥٤ ] وهذا قول السدي.
والثاني : أن معناه : وإذ فرقنا بينكم وبين البحر، أي ميزنا، فأصل الفرق التمييز بين الشيئين، والفِرْقَةُ من الناس : الطائفة المتميزة من غيرهم.
والبحر سُمِّيَ بحراً لسعته وانبساطه، ومنه قولهم : تبحَّر في العلم، إذا اتَّسع فيه، والبَحِيرَةُ : الناقةُ تُشَقُّ أُذُنُها شَقّاً واسعاً.
قوله تعالى :﴿ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ فحذف ذِكْرَ فرْعَوْنَ وإن غَرِقَ معهم، لأنه قد عُلِمَ دخوله فيهم.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ يعني إلى فَرْقِ البحر، حتى سلكوا فيه، وانطباقه على آل فرعون، حتى غرقوا فيه.
قوله تعالى :﴿ وّإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ :
أما مُوسَى، فاسم يَجْمَعُ بين كلمتين بالقبطية وهما : ماء وشجر، ف : مُوهو الماء، و « سا » هو الشجر، وإنما سُمِّيَ بهذا الاسم الجامع لهاتين الكلمتين، لما ذكره السدي من أنَّ أمه لما خافت عليه جعلته في التابوت، وألقته في اليم، كما أُوحِيَ إليها، فألقاه بين أشجار عند بيت فرعون، فخرجت حَواريُّ آسيةَ امرأةِ فرعون يغتسلن، فوجدنه، فسُمِّيَ باسم المكان.
قال ابن إسحاق : وهو موسى بنُ عمرانَ بنِ يصهر بنِ فاهت بنِ لاوى بن يعقوب ( إسرائيل ) بنِ إسحاق بنِ إبراهيم.
وقوله تعالى :﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ قال ابنُ الكلبي : لما جاوز موسى ببني إسرائيل البحر، قال له بنو إسرائيل : أليس وعدتنا أن تأتينا بكتابٍ من الله تعالى؟ فوعده الله أربعين ليلة، ووعدها بني إسرائيل، قال أبو العالية : هي ذو القِعْدةِ وعَشْرٌ من ذي الحِجَّة، ثم اقتصر على ذكر الليالي دون الأيام، وإن كانت الأيام تبعاً معها، لأن أوَّلَ الشهورِ الليالي، فصارت الأيامُ لها تبعاً.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ يعني اتخذتموه إلهاً من بعد خروج موسى إلى الميقات، واستخلافِهِ هارونَ عليهم.
وسببُ ذلك فيما ذكر ابن عباسٍ، أنَّ السامِرِيَّ كان من قومٍ يعبدون البقر، فكان حبُّ ذلك في نفسه بعْدَ إظهاره الإسلام، وكان قد عَرَفَ جبريل لأن أمه حين خافت عليه أن يُذْبَحَ خَلَّفَتْهُ في غار، وأطبقت عليه، وكان جبريل يأتيه، فيغذوه بأصابعه، فلمَّا رآه حين عبر البحر عرفه، فقبض قبضةً من أثر فرسه، وكان ابن مسعودٍ يقرأ :﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ ﴾ ولم تزل القبضة في يده، حتى فصل موسى إلى ربه، وخلَّف هارون في بني إسرائيل، فقال لهم هارون : قد تحمَّلْتُمْ أوزاراً من زينة القوم، يعني أمتعةً وحُلِيَاً، فَتَطهَّرُوا منها فإنها نَجَسٌ، فأوقد لهم ناراً، وأمرهم بقذف ما كان معهم ففعلوا، فأقبل السامِرِيُّ إلى النار وقال : يا نبيَّ الله أُلْقِي ما في يدي؟ قال : نعم، وهو يظن أنَّهُ حُلِيٌّ، فقذفه، وقال : كن عجلاً جسداً له خوار.
واختلفوا : هل صار حيواناً لحماً ودماً أم لا؟
فقال الحسن : انقلب حيواناً لحماً ودماً، وقال غيره لا يجوز لأن ذلك من آيات الله تعالى التي لا يُظْهِرُها إلاَّ لمعجزَةِ نبيٍّ، وإنما جعل فيه خروقاً تَدْخُلُها الرِّيحُ، فَيَحْدُثُ فيهِ صوتٌ كالخوار.
ودافع من تابع الحسن على قوله هذا، بوجهين :
أحدهما : أنه لما قال : هذا إلهكم وإلهُ موسى، فقد أبطل على نفسه أن يدَّعِيَ بذلك إعجاز الأنبياء، فجاز أن يصح ذلك منه امتحاناً.
والثاني : أن ذلك لا يجوز في غير زمان الأنبياء، ويجوز في زمان الأنبياء، لأنهم يُظهِرُون إبطاله، وقد كان ذلك في زمان نبيَّيْنِ.
46
واختلفوا في تسميته عجلاً :
فقال أبو العالية : لأنهم عَجِلُوا، فاتخذوه إلهاً، قبل أن يأتيهم موسى، وقال غيره : بل سُمِّيَ بذلك، لأنه صار عجلاً جسداً له خُوَارٌ.
ثُمَّ إنهم عكفوا على العجل يعبدونه، فقال لهم هارون من قبل : يا قومِ إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن، فاتبعوني، وأطيعوا أمري، قالوا : لن نبرح عليه عاكفين، حتى يرجع إلينا موسى.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾ [ طه : ٩٠؛ ٩١ ] :
أما « إذ » فاسم للوقت الماضي، و « إذا » اسم للوقت المستقبل، و « الكتاب » هو التوراة. وفي الفرقان أربعةُ أقاويلَ :
أحدها : أن الفُرْقان هو الكتاب فذكره باسمين تأكيداً، وهو قول الفراء.
والثاني : أن الفُرْقَانَ : ما في التوراة من فَرْقٍ بني الحقِّ والباطلِ، فيكون ذلك نعتاً للتوراة، وهذا قول ابن عباس وأبي العالية.
والثالث : أن الفرقان النصر، الذي فرَّق الله به بين موسى وفرعون، حتى أنجى موسى وقومَهُ، وأغرق فرعون وقومهُ، وهذا قول أبي زيدٍ.
والرابع : أن الفرقان : انفراق البحر لِبَنِي إسرائيلَ، حتى عبروا فيه.
47
قوله تعالى :﴿ فَتُوبُوا إلى بَارِئِكُمْ ﴾ يعني : فارجعوا إلى طاعة خالقكم، والبارئ الخالق، والبريَّة الخلق، وهي فعيلة، بمعنى مفعولة، غير أنها لا تهمز.
واختلفوا في هذه التسمية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها مأخوذة من برأ اللهُ الخلْق، يبرَؤُهُم برءاً.
والثاني : أنها فعلية من البرء، وهو التراب.
والثالث : أنها مأخوذة من برئ الشيء من الشيء، وهو انفصاله عنه، ومنه البراءة من الدين لانفصاله عنه، وأبرأه الله من المرض، إذا أزاله عنه.
وقوله تعالى :﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه : ليقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهد.
والثاني : استسلموا للقتل، وجعل ذلك بمنزلة القتل، وهذا قول أبي إسحاق.
وأصل القتل : إماتةُ الحركة، ومنه : قتلت الخمر بالماء، إذا مَزَجتها، لأنك أمتَّ حركتها، وإنما جُعل القتل توبة، لأن من كفَّ عن الإنكار لعبادة العجل، إنما كف خوفاً من القتال والقتل، فجُعِلَت توبتهم بالقتل، الذي خافوه، هكذا قال ابن جريج.
قال ابن عباسٍ : احْتَبَى الَّذِين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكُفُوا عليه، وأخذوا الخناجر، وأصابتهم ظلمة فجعل بعضهم يقتل بعضاً، حتى انجلت الظلمة من سبعين ألفَ قتيلٍ في ساعة من نهار، وكانوا ينادون في تلك الحال : رحم الله عبداً صبر حتى يبلغ الله رضاه، فحزِن موسى وبنو إسرائيل لذلك القتل، فأوحى الله تعالى إلى موسى : لا تحزن، أَمَّا من قُتِل منكم فأحياء عندي يرزقون، وأَمًّا من بقِيَ فقد قُبِلَتْ توبته، فَبَشَّرَ بذلك بني إسرائيل.
قوله تعالى :﴿... حَتَّى نَرى اللهَ جَهْرَةً ﴾ فيه تأويلان : أحدهما : علانية، وهو قول ابن عباس.
والثاني : عياناً، وهو قول قتادة.
وأصل الجهر الظهور، ومنه الجهر بالقراءة، إنما هو إظهارها، والمجاهرة بالمعاصي : المظاهرة بها.
﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ يعني الموت، ﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ ما نزل بكم من الموت.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ يعني الذين ماتوا بالصاعقة، وهم السبعون الذين اختارهم موسى ليستمعوا مناجاة ربَّه له بعد أن تاب على من عبد العجل.
وفي قوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنه إحياؤهم بعد موتهم لاستكمال آجالهم، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم بعد الإحياء سألوا أن يبعثوا أنبياء فبعثهم الله أنبياء، وهذا قول السُّدِّيِّ.
وأصل البعث الإرسال، وقيل : بل أصله : إثارة الشيء من محلِّه.
قوله تعالى :﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ﴾ :
والغمام : هو ما غَمَّ السماء، فغطَّاها من سحاب وقتام، وكلُّ مُغَطٍّ فهُو غمام، ومنه : غُمَّ الهلال، أي غطاه الغَيْمُ.
وفي الغمام الذي ظلله الله عليهم تأويلان :
أحدهما : أنه السحابة، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنه الذي أتى الملائكة في يوم بدر، مثل قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] وهذا قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ والسَّلْوَى ﴾ فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أن المنَّ ما سقط على الشجر فيأكله الناس، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أن المنَّ صمغة، وهو قول مجاهد.
والثالث : أن المنَّ شرابٌ، كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجِهِ بالماء، وهو قول الربيع بن أنس.
والرابع : أن المنَّ عسل، كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيدٍ.
والخامس : أن المن الخبز الرقاق، هو قول وهب.
والسادس : أنه الزنجبيل، وهو قول السدي.
والسابع : أنه الترنجين.
وفي السلوى قولان :
أحدهما : أنه السماني.
والثاني : أنه طائر يشبه السماني كانت تحشره عليهم الريح الجنوب، وهذا قول ابن عباس، واشتقاقه من السلو، كأنَّه مُسَلِّي عن غيره.
قال ابن جريج : كان الرجل منهم إن أخذ من المنِّ والسلوى زيادة على طعام يوم واحدٍ فسد، إلا يومَ الجمعة، فإنهم كانوا إذا أخذوا طعامَ يومَيْنِ لم يفسد.
وفي قوله تعالى :﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ثلاثة تأويلاتٍ :
أحدها : الشَّهيَّات اللذيذة.
والثاني : أنه الحلال.
والثالث : أنها المباح.
قولُهُ عزَّ وجلَّ :﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ :
اختلفوا فيها على ثلاثةِ أقاويلَ :
أحدها : أنها بيت المقدس، وهو قول قتادة، والربيع بن أنس.
والثاني : أنها قريةٌ ببيت المقدس، وهو قول السدي.
والثالث : أنها « أريحا » قرب بيت المقدس، وهو قول ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً ﴾.
اختلفوا في الباب على قولين :
أحدهما : أنه باب حِطَّةَ وهو الباب الثامن ببيت المقدس، وهذا قول مجاهد، والسُّدِّيِّ.
والثاني : أنه باب القرية، التي أمروا بدخولها.
وفي قوله :﴿ سُجَّداً ﴾ تأويلان :
أحدهما : يعني : رُكَّعاً، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : معناه : خاضعين متواضعين. وأصل السجود الانحناء تعظيماً لمن يُسجَد له، وخضوعاً، ومنه قول الشاعر :
بَجَمْعٍ تَضَلُّ الْبَلْقُ في حُجُرَاتِهِ تَرَى الأكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوافِرِ
وقال أعشى قيس :
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَواتِ الْمِلَي كِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً حِوَاراً
وفي قوله تعالى :﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ أربعةُ تأويلاتٍ :
أحدها : أنه قول : لا إله إلا الله، وهو قول عكرمة.
والثاني : أن « حِطَّة » المغفرة، فكأنه أمر بالاستغفار، وهو رواية سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ.
والثالث : هو قولهم : هذا الأمر حق كما قيل لكم، وهو رواية الضحاك، عن ابن عباسٍ.
والرابع : معناه : حُطَّ عنا خطايانا، وهو قول الحسن، وقتادة، وابن زيدٍ، وهو أشبهُ بظاهر اللفظ.
قوله تعالى :﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾ أي نرحمْكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.
والخطأ : العدولُ عن القصد، يقال خَطِئ الشيءَ خَطَأً، إذا أصابه ولم يُرِدْهُ، وأَخْطَأَ يُخْطِئُ، إذا أراده ولم يُصِبْهُ، فالأول خاطئ والثاني مُخطِئ.
وأصل المغفرة : التغطية والستر؛ ولذلك قيل للبيضة من الحديد : مِغْفَرٌ، لأنها تُغَطِّي الرأسَ وتُغَطِّي الرأسَ وتُجِنُّهُ، ومنه قول أوسِ بنِ حجر :
وَلاَ أَعْتِبُ ابْنَ الْعَمِّ إِنْ كَانَ مُخْطِئاً وَأَغْفِرُ عَنْهُ الْجَهْلَ إِنْ كَانَ جَاهِلاً
قوله تعالى :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ يعني أنهم بَدَّلوا ما أمِروا به من قول وفعل، فأُمِرُوا أن يدخُلُوا الباب سُجَّداً، فَدَخَلُوا يزحفون على أستاهم، وأن يقولوا : حِطَّةٌ، فقالوا : حنطة في شعير، مستهزئين بذلك.
﴿ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً من السَّمَاءِ ﴾ :
وفي الرجز ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه العذاب، وهو قول ابن عباس وقتادة.
والثاني : أنه الغضب، وهو قول أبي العالية.
والثالث : أنه الطاعون، بعثه الله عليهم فأهلكهم، وبقي الأبناء، وهو قول ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ وَإِذِ اسْتسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ تقديره : وإذ استسقانا موسى لقومه، والاستسقاء : طلب السَّقْيِ، والعربُ تقول : سَقَيْتُهُ، وأسقيتُه، فقيل : إنهما لغتان ومعناهما واحد، وقيل بل سقيته من سَقْيِ الشَّفةِ، وأسْقَيْتُهُ : دللته على الماء.
﴿ فَقُلْنَا اضْرِب بعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَا ﴾ :
وفي الكلام محذوف، وتقديره : فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
والانفجارُ : الانشقاق، والأنبجاسُ أضيق منه، لأنه يكون انبجاساً ثم يصير انفجاراً.
والعين من الأسماء المشتركة : فالعين من الماء مُشَبَّهَةٌ بالعين من الحيوان، لخروج الماء منها، كخروج الدمع من عين الحيوان.
فأمر موسى عند استسقائه، أن يضرب بعصاه حجراً مُرَبَّعاً طُورِيّاً ( من الطور )، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، من كل جانب ثلاثةُ أعينٍ.
﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ﴾ يعني أن لكلِّ سبطٍ منهم عيناً، قد عرفها لا يشرب من غيرها، فإذا ارتحلوا انقطع ماؤه، وحُمِلَ في الجوالق، وكان بقدر الرأس.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تطغوا، وهذا قول ابن زيد.
والثاني : معناه لا تسعوا في الأرض مفسدين، وهو قول ابن عباس، وأبي العالية الرياحي.
والعيثُ : شدة الفساد، ومنه قول رؤبة :
قوله تعالى :﴿ وَفُومِهَا ﴾ فيه ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : أنه الحنطة، وهو قول ابن عباسٍ، وقتادة، والسدي، وأنشد ابن عباسٍ مَنْ سأله عن الفوم، وأنه الحُنْطة قَوْلَ أُحيحة بن الجُلاح :
وَعَاثَ فِينَا مُسْتَحِلٌّ عَائِثُ مُصَدِّقٌ أو فَاجِرٌ مُناكِثُ
قَدْ كُنْتُ أَغْنَىَ النَّاسِ شَخْصاً وَاحِداً وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومٍ
والثاني : أنَّه الخُبز، وهو قول مجاهد، وابن زيد، وعطاء.
والثالث : أنه الثومُ بالثاء، وذلك صريح في قراءة ابن مسعود، وهو قول الربيع بن أنس والكسائي.
قوله تعالى :﴿ اهْبِطُوا مِصْراً ﴾ : قرأ عامةُ القُرّاءِ بالتنوين، وقرأ بعضهم بغير تنوين، وهي كذلك، وقراءة ابن مسعود بغير ألف.
وفي المصر الذي عناه قولان :
أحدهما : أنه أراد أيَّ مِصْرٍ، أرادوا من غير تعيين؛ لأنَّ ما سألوا من البقل والقثَّاء والفوم، لا يكون إلا في الأمصار، وهذا قول قتادة، والسدي ومجاهد، وابن زيد.
والثاني : أنه أراد مصر فرعون، الذي خرجوا منه، وهذا قول الحسن، وأبي العالية والربيع.
واختلف في اشتقاق المِصْرِ، فمنهم من قال : إنه مشتق من القطع، لانقطاعه بالعمارة، ومنهم من قال : إنه مشتق من الفصل بينه وبين غيره، قال عدي بن زيد :
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لاَ خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ
وفي قوله تعالى :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنَّه من الذِّلَّة والصغار.
والثاني : أنَّه فَرَضَ الجِزْيَةَ عليهم، وهذا قول الحسن وقتادة.
وفي « المسكنة » تأويلان :
أحدهما : أنها الفاقة، وهو قول أبي العالية.
والثاني : أنه الفقر، وهو قول السدي.
وفي قوله تعالى :﴿ وَباءُو بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : وهو قول أبي العباس المَبِّرد : أن أصل ذلك : المنزلة، ومعناه أنهم نزلوا بمنزلة غضب الله، ورُوي : أن رجلاً جاء برجلٍ إلى النبيِّ ﷺ، فقال : هذا قاتل أخي، قال « فَهُوَ بَوَاءٌ بِهِ » أي أنه مقتول، فيصير في منزلته، وتقول ليلى الأخيليَّةُ :
فَإِنْ يَكُنِ الْقَتْلَى بَوَاءً فَإِنَّكُمْ فَتىً مَا قَتَلْتُمْ آلَ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ
والثاني : وهو قول أبي إسحاق الزجّاج : أن أصل ذلك التسوية، ومعناه : أنهم تساووا بغضب من الله، ومنه ما يروى عن عبادة بن الصامت قال :« جعل الله الأنفال إلى نبيِّه ﷺ، فقسمها بينهم على بَوَاءٍ »، أي على سواء بينهم في القسم.
والثالث : وهو قول الكسائي، أن معناه أنهم رجعوا بغضب من الله، قال : البواء : الرجوع، إلا أنه لا يكون رجوعاً إلا بشيء : إمَّا بشرٍّ، وإِمَّا بخيرٍ.
وفي قوله تعالى :﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ قولان :
أحدهما : أن الله تعالى؛ إنما جاز أن يُخَلِّيَ بين الكُفَّار وقتلِ الأنبياء، لينالوا من رفيع المنازل ما لا ينالونه بغيره، وليس ذلك بخذلان لهم، كما يفعل بالمؤمنين من أهل طاعته.
53
والثاني : وهو قول الحسن، أن الله تعالى، ما أمر نبيّاً بالحرب إلا نَصَرَهُ فلم يُقتَلْ، وإنما خلَّى بين الكفار وبين قتل مَنْ لم يؤمر بالقتال مِنَ الأنبياء.
و « الأنبياء » جمعُ « نبيٍّ » وقد جاء في جمع « نبيٍّ » :« نُبَّاء »، قال العباس ابن مرداس السُّلمي، يمدح النبيَّ ﷺ :
يَا خَاتَمَ النُّبِّاءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ بِالْحَقِّ حَيْثُ هُدَى آلإْلهِ هَدَاكَا
وهو غير مهموز في قراءة الجمهور إلا نافعاً، فإنه قرأ الأنبياء، والنبيئين بالهمز.
وفيما أُخذ منه اسمُ النبيِّ، ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مأخوذ من النبأ، وهو الخبر، لأنه يُنْبِئُ عن الله، أي يُخْبِرُ، ومنه قوله تعالى :﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا في صُحُفِ مُوسَى ﴾ [ النجم : ٣٦ ].
والثاني : أن أصل النبيِّ هو الطريق، قال القطامي :
لَمَّا وَرَدْنَا نبِيَاً وَاسْتَتَبَّ لَنَا مُسْتَحْفَرٌ بِخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَجِلُ
فَسُمِّيَ رسُول الله ﷺ نبيّاً، لأنه الطريق إليه.
والثالث : أنه مأخوذ من النُّبُوَّةِ؛ لأن منزلة الأنبياء رفيعة.
54
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ يعني : صدقوا بمحمدٍ ﷺ.
﴿ وَالَّذِينَ هَادُوا ﴾ هم اليهود، وفي تسميتهم بذلك، ثلاثة أقاويل :
أحدها : نُسِبُوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، فقلبت العربُ الذال دالاً، لأن الأعجمية إذا عُرِّبت، غيرت من لفظها.
والثاني : أنه مأخوذ من قولهم : هَادَ القومُ يَهُودُون هَوْدَةً وهِيَادةً، إذا تابوا، قال زهير :
سِوَى مَرْبَعٍ لَمْ تَأْتِ فِيهِ مَخَافَةً وَلاَ رَهَقاً مِنْ عَابِدٍ مُتَهَوِّدِ
يعني من عابد تائب، فسموا يهوداً لتوبتهم من عبادة العجل.
والثالث : أنهم سُمُّوا يهوداً، من أجل قولهم : إِنَّا هُدْنا إليك، وهذا قول ابن جُرَيج.
و ﴿ والنصارى ﴾، جمع وواحده « نصرانيٌّ »، وقيل :« نصران » بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه، وقال الخليل بن أحمد : واحده نصْرِي، والأول هو المستعمل.
وفي تسميتهم بذلك، ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم سُمُّوا بذلك، لقريةٍ تُسَمَّى « ناصرة »، كان ينزلها عيسى عليه السلام، فَنُسِبَ إليها، فقيل : عيسى الناصري، ثم نسب أصحابه إليه فقيل : النصارى، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
والثاني : أنهم سُمُّوا بذلك، لنصرة بعضهم لبعضٍ، قال الشاعر : كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا... والثالث : أنهم سُمُّوا بذلك، لقوله :﴿ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ ﴾.
لمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصَارَا شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإْزَارَا
﴿ والصابئين ﴾، جمع، واحده : صابئ، واخْتُلِفَ في همزِهِ، فهمزه الجمهور إلا نافعاً.
واخْتُلِف في المأخوذ منه هذا الاسم، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مأخوذ من الطُّلُوعِ والظُّهُورٍ، من قولهم : صبأ نابُ البعير، إذا طلع، وهذا قول الخليل.
والثاني : أن الصابِئ : الخارج من شيء إلى شيءٍ، فسُمِّي الصابئون بهذا الاسم، لخروجهم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول ابن زيدٍ.
والثالث : أنه مأخوذ من قولهم : صبا يصبو، إذا مال إلى الشيء وأحبه، وهذا قول نافع؛ ولذلك لم يهمز.
وَاخْتُلِفِ فيهم : فقال مجاهد، والحسن، وابن أبي نجيحٍ : الصابئون بين اليهود والمجوس، وقال قتادة : الصابئون قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القِبْلة، [ ويقرأون الزبور ويصلون الخميس ] وقال السدي : هم طائفة من أهل الكتاب، وقال الخليل : هم قوم شبيه دينهم بدين النصارى، إلا أن قبلتهم نَحْوَ مهب الجنوب حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح.
وفي قوله تعالى :﴿ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ قولان :
أحدهما : أنها نزلت في سلمان الفارسيِّ وأصحابه النصارى الذين كان قد تنصَّر على أيديهم، قبل مبعث رسول الله ﷺ، وكانوا قد أخبروه بأنه سيبعث، وأنهم مؤمنون به إن أدركوه، وهذا قول السدي.
والثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإْسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ]، وهو قول ابن عباس.
فإن قيل : فَلِمَ قال :﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾ على التوحيد، ثم قال :﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ على الجمع؟ قيل : لأن اللفظ « مَنْ » لفظ الواحد، ومعناه الجمع، فمرةً يجمع على اللفظ، ومرةً يجمع على المعنى، قال الشاعر :
أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إِنْ عَرَضْتُمَا... وَقُولاَ : لَهَا عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا
قوله تعالى :﴿.... وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ وفي الطور ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اسم الجبل، الذي كلم الله عليه موسى، وأنزلت عليه التوراة دون غيره، وهذه رواية ابن جريج عن ابن عباس.
والثاني : أن الطور ما أَنْبَتَ من الجبال خاصة، دون ما لم ينبت، وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس.
والثالث : أن الطور اسم لكل جبل، وهو قول مجاهد، وقتادة، إلا أن مجاهداً قال : هو اسم كل جبل بالسريانية، وقال قتادة : بل هو اسم عربي، قال العجاج :
داني جناحيه من الطور فمر تقضّي البازي إذا البازيُّ كر
قال مجاهد : رُفِعَ الجبل فوقهم كالظُّلة، فقيل : لتؤمِنُنَّ أو ليقعن عليكم، فآمنوا.
وفي قوله تعالى :﴿ خُذُواْ مَا ءَآتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن القوة الجِدّ والاجتهاد، وهو قول ابن عباس، وقتادة والسدي.
والثاني : يعني بطاعة الله تعالى، وهو قول أبي العالية، والربيع بن أنس.
والثالث : أنه العمل بما فيه، وهو قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ في السَّبْتِ ﴾ وفي اعتدائهم في السبت قولان :
أحدهما : أنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال، وهذا قول الحسن.
والثاني : أنهم حبسوها في يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، والسبت هو اليوم المعروف. وفي تسميته بذلك أربعة أقاويل :
أحدها : أن السبت هو اسم للقطعة من الدهر فسمي ذلك اليوم به، وهذا قول الزجاج.
والثاني : أنه سُمِّي بذلك لأنه سَبَت خَلْق كل شيء، أي قطع وفرغ منه، وهذا قول أبي عبيدة.
والثالث : أنه سُمِّي بذلك، لأن اليهود يَسْبِتُون فيه، أي يقطعون فيه الأعمال.
والرابع : أن أصل السبت، الهدوء والسكون في راحة ودعة، ولذلك قيل للنائم مسبوت لاستراحته وسكون جسده، كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُم سُبَاتَا ﴾. فَسُمِّي به اليوم لاستراحة اليهود فيه.
وفي قوله تعالى :﴿... فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ قولان :
أحدهما : مُسِخُوا قردةً، فصاروا لأجل اعتدائهم في السبت في صورة القردة المخلوقين من قبل، في الأيام الستة.
قال ابن عباس : لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب.
والثاني : وهو قول مجاهد : أنهم لم يمسخوا قردة، وإنما هو مَثلَ ضربه الله لهم، كما قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً ﴾ [ الجمعة : ٥ ].
وفي قوله تعالى :﴿ خاسئين ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن الخاسئ المُبْعَد المطرود، ومنه قولهم خسأت الكلب، إذا باعدته وطردته.
والثاني : أن معناه أذلاء صاغرون، وهذا قول مجاهد. ورُوي عن ابن عباس : خاسئاً أي ذليلاً.
قوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ وفي المجعول نكالاً، ستة أقاويل :
أحدها : أنها العقوبة.
والثاني : أنها الحيتان.
والثالث : أنها القرية التي اعتدى أهلها.
والرابع : أنهم الأمة الذين اعتدوا، وهم أهل أيلة.
والخامس : أنهم الممسوخون قردة.
والسادس : أنهم القردة الممسوخ على صورهم.
وفي قوله تعالى :﴿ نَكَالاً ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : عقوبة، وهو قول ابن عباس.
والثاني : عبرة ينكل بها من رآها.
والثالث : أن النكال الاشتهار بالفضيحة.
وفي قوله تعالى :﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ خمسة تأويلات :
أحدها : ما بين يديها وما خلفها من القرى، وهذه رواية عكرمة عن ابن عباس.
والثاني : ما بين يديها يعني من بعدهم من الأمم، وما خلفها، الذين كانوا معهم باقين، وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس.
والثالث : ما بين يديها، يعني من دونها، وما خلفها، يعني لمن يأتي بعدهم من الأمم، وهذا قول السدي.
والرابع : لما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها للحيتان التي أصابوها، وهذا قول قتادة.
والخامس : ما بين يديها ما مضى من خطاياهم، وما خلفها : خطاياهم التي أُهْلِكُوا بها، وهذا قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنًَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ وكان السبب في أمر موسى لقومه بذلك، ما ذكره المفسرون : أن رجلاً من بني إسرائيل كان غنياً، ولم يكن له ولد، وكان له قريب يرثه، فاستبطأ موته، فقتله سراً وألقاه في موضع الأسباط، وادعى قتله على أحدهم، فاحتكموا إلى موسى، فقال : من عنده من ذلك علم؟ فقالوا : أنت نبي الله، وأنت أعلم منا، فقال : إن الله تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة، فلما سمعوا ذلك وليس في ظاهره جواب عما سألوا عنه ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ والهزء : اللعب والسخرية. قال الراجز :
قَدْ هَزِئَتْ مَنِّيَ أُمُّ طَيْسَلَة قَالَتْ أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ شَيْءَ لَه
﴿ قَالَ : أعُوذُ بِاللهِ أنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾ لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء، جهل، فاستعاذ منه موسى، لأنها صفة تنتفي مع الأنبياء، وإنما أمر والله أعلم بذبح البقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل، ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم زوال ما كان في نفوسهم من عبادته.
والقبرة اسم للأنثى، والثور للذكر، مثل ناقة وجمل، وامرأة ورجل، فيكون تأنيثه بغير لفظه. واسم البقرة مأخوذ من الشق من قولهم بقر بطنه إذا شقه، لأنها تشق الأرض في الحرث.
قوله تعالى :﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ رَوَى الحسن عن النبي ﷺ، أنه قال :« والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوِ اعْتَرَضُوا بقرة، فَذَبَحُوها، لأَجْزَأَتْ عَنْهُم، وَلكِنَّهُم، شَدًّدوا، فَشَدَّد الله عليهم ». ﴿ قَالَ : إِنَّه يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ ﴾ في الفارض تأويلان :
أحدهما : أنها الكبيرة الهَرِمَة، وهو قول الجمهور. قال الراجز :
شيب أصداغي فرأسي أبْيضُ... محامل فيها رجال فرض
يعني بقوله : فُرّض، أي هرمى.
والثاني : أنّ الفارض التي قد ولدت بطوناً كثيرة، فيتسع لذلك جوفها، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، وهذا قول بعض المتأخرين، واستشهد بقول الراجز :
يا رُبَّ ذي ضغن عليّ فارض... له قروء كقروء الحائض
والبكر : الصغيرة التي لم تحمل، والبكر من إناث البهائم، وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء، فأما البَكْر بفتح الباء، فهو الفتي من الإبل.
وقوله تعالى :﴿ عَوانٌ بَيْنَ ذلكَ ﴾ والعوان النَّصَفُ التي قد ولدت بطناً أو بطنين، ﴿ بين ذلك ﴾ يعني بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه، قال الشاعر :
فرحن عليه بين بِكرٍ عزيزة... وبين عَوانٍ كالغمامة ناصِفِ
قوله تعالى :﴿... قَالَ : إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ ﴾ حُكِيَ عن الحسن البصري، أن المراد بقوله صفراء، أي سوداء شديدة السواد، كما تقول العرب : ناقة صفراء أي سوداء، ومنه قول الشاعر :
تلك خيلي منه وتلك ركابي... هُنّ صفر أولادها كالزبيب
وقال الراجز :
وصفرٍ ليست بمصفرّة... ولكنّ سوداءَ مثل الخُمُر
وقال سائر المفسرين : إنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة، وهو أصح، لأنه الظاهر، ولأنه قال :﴿ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ﴾ والفاقع من صفات الصفرة، وليس يوصف السواد بذلك، وإنما يقال : أسود حالكٌ، وأحمر قانٍ، وأبيضُ ناصعٌ، وأخضرُ ناضرٌ، وأصفرُ فاقعٌ.
ثم فيما أُرِيدَ بالصفرة قولان :
أحدهما : صفراء القرن والظلف، وهو قول سعيد بن جبير.
والثاني : صفراء اللون كله، وهذا قول مجاهد.
وفي قوله تعالى :﴿ فاقع لونها ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : الشديدة الصفرة، وهذا قول ابن عباس، والحسن.
والثاني : الخالص الصفرة، وهذا قول قطرب.
والثالث : الصافي، وهذا قول أبي العالية، وقتادة.
﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تعجب الناظرين بصفرتها، فتعجب بالسرور، وهو ما يتأثر به القلب، والفرح ما فرحت به العين، ويحتمل قوله :﴿ تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ وجهين :
أحدهما : بحسن لونها فتكون.... لصفرتها.
والثاني : حسن سمتها، وصفت بذلك، ليكون ذلك زيادة شرط في صفتها، غير ما تقدم من ذكر صفرتها، فتصير البقرة على الوجه الأول، ذات وصف واحد، وعلى الوجه الثاني، ذات وصفين.
قوله تعالى :﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾ فسألوا سؤالاً ثالثاً، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان الثاني، فروى ابن جريج، عن قتادة، أن رسول الله ﷺ قال :
59
« أُمِرُوا بِأَدْنَى بَقَرةٍ وَلَكِنَّهُم لَمَّا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم شَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِم، وَأيمُ اللهِ لَو أَنَّهُم لَمْ يَسْتَثْنُوا لَمَا بُيِّنَتْ لَهُم آخرُ الأَبَدِ » يعني أنهم لو لم يقولوا :﴿ وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ ما اهتدوا إليها أبداً.
قوله تعالى :﴿ قَالَ : إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرةٌ لاَّ ذَلُولٌ ﴾ يعني لم يذللها العمل.
﴿ تُثِيرُ الأَرْضَ ﴾ والإثارة تفريق الشيء، أي ليست مما يثير الأرض للزرع، ولا يسقى عليها الزرع. [ وقيل يثير فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقى ].
وليس هذا الوجه بشيء، بل نفي عنها جميع ذلك.
﴿ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيها ﴾ وفي ذلك أربعة تأويلات :
أحدها : مُسَلَّمَةٌ من العيوب، وهذا قول قتادة، وأبي العالية.
والثاني : مُسَلَّمَةٌ من العمل.
والثالث : مُسَلَّمَةٌ من غصب وسرقة، فتكون حلالاً.
والرابع : مُسَلَّمَةٌ من.....
. وفي ﴿ شِيَةَ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : ليس فيها علامة خاصة، حكاه السدي.
والثاني : أنه ليس فيها لون، يخالف لونها من سواد أو بياض.
والثالث : أنه الوضَح وهو الجمع بين ألوان من سواد وبياض.
وأصله من وشي الثوب، وهو تحسين عيوبه بألوان مختلفة، ومنه قيل للساعي بالرجل عند السلطان واشٍ، لأنه يحسّن كذبه عنده، حتى يقبله منه.
﴿ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : الآن بَيّنْت الحق، وهو قول قتادة.
والثاني : معناه أنه حين بيّنها لهم، قالوا هذه بقرة فلان، الآن جئت بالحق فيها، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
وفي قوله تعالى :﴿ فَذَبَحُوها وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنهم كادوا ألاّ يفعلوا لغلاء ثمنها، لأنهم اشتروها على ما حَكَى ابن عباس، ومحمد بن كعب : بملء مَسْكها ذهباً من مال المقتول. وقيل بوزنها عشر مرات.
والثاني : أنهم كادوا ألاّ يفعلوا خوفاً من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل، وهذا قول وهب، وقال عكرمة : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير. وقيل : كانت البقرة وحشية.
60
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ يعني من قتل الإسرائيلي؟ الذي قتله ابن أخيه، وفي سبب قتله قولان :
أحدهما : لبنت له حسناء، أحب أن يتزوجها.
والثاني : طلباً لميراثه، وادعى قتله على بعض الأسباط.
وفي قوله تعالى :﴿... فَادَّارَأْتُم فيها ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنّ الَّدْرءَ الاعوجاج، ومنه قول الشاعر :
أمسكت عنهم درء الأعادي وداووا بالجنون من الجنون
يعني اعوجاج الأعادي.
والثاني : وهو المشهور، أن الدرء المدافعة، ومعناه أي تدافعتم في القتل، ومنه قول رؤبة بن العجاج :
أدركتها قدام كل مدره بالدفع عني درء كل منجه
والثالث : معناه اختلفتم وتنازعتم، قاله السدي، وقيل إن هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة، فهي متقدمة في الخطاب على قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مَوسَى لِقَومِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم ﴾ الآية. لأنهم أُمِرُوا بذبحها، بعد قتلهم، واختلفوا في قاتله.
قوله تعالى :﴿ وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ أي والله مظهر ما كنتم تُسِرّون من القتل، فعند ذلك قال النبي ﷺ :« لَو أَنَّ أَحَدَكُم يَعْمَلُ في صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ، لأَخْرَجَ اللهُ عَمَلَهُ ». قوله تعالى :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ اختلف العلماء في البعض الذي ضُرِبَ به القتيلُ من البقرة، على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه ضُرِبَ بفخذ البقرة، وهذا قول مجاهد، وعكرمة وقتادة.
والثاني : أنه ضُرِبَ بالبضعة التي بين الكتفين، وهذا قول السدي.
والثالث : أنه ضُرِبَ بعظم من عظامها، وهذا قول أبي العالية.
والرابع : أنه ضُرِبَ بأُذنها، وهذا قول ابن زيد.
والخامس : أنه ضُرِبَ بعجب ذنبها، وهو الذي لا تأكله الأرض، وهذا قول الفراء. والبعض : يَقِلُّ عن النصف.
﴿ كَذلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى ﴾ يعني، أنه لما ضُرِبَ القتيل ببعض البقرة، أحياه الله وكان اسمه عاميل، فقال قتلني ابن أخي، ثم قبض، فقال بنو أخيه : والله ما قتلناه، فكذّبوا بالحق بعد معاينته.
قال الفراء : وفي الكلام حذف، وتقديره : فقلنا اضربوه ببعضها، ليحيا فضربوه، فَحَيِيَ. كذلك يحيي الله الموتى، فدل بذلك على البعث والنشور، وجعل سبب إحيائه الضرب بميت، لا حياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة، أن الحياة إنما انتقلت إليه مما ضرب به، لتزول الشبهة، وتتأكد الحجة.
وفي قوله تعالى :﴿ كَذلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه حكاية عن قول موسى لقومه.
والثاني : أنه خطاب من الله لمشركي قريش.
﴿ وَيُرِيكُم ءَايَاتِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : علامة قدرته.
والثاني : دلائل بعثكم بعد الموت.
﴿ لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تعملون.
والثاني : تعتبرون.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم ﴾ اختلف في المُشَار إليه بالقسوة، على قولين :
أحدهما : بنو أخي الميت حين أنكروا قتله، بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله له، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنه أشار إلى بني إسرائيل كلهم، ومن قال بهذا قال : من بعد ذلك : أي من بعد آياته كلها التي أظهرها على موسى.
وفي قسوتها وجهان :
أحدهما : صلابتها حتى لا تلين.
والثاني : عنفها حتى لا ترأف.
وفي قوله تعالى :﴿ مِّنْ بَعْدِ ذلِكَ ﴾ وجهان :
أحدهما : من بعد إحياء الموتى، ويكون هذا الخطاب راجعاً إلى جماعتهم.
والثاني : من بعد كلام القتيل، ويكون الخطاب راجعاً إلى بني أخيه.
وقوله تعالى :﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ يعني القلوب التي قست.
واختلف العلماء في معنى ﴿ أَوْ ﴾ في هذا الموضع وأشباهه كقوله تعالى :﴿ فَكَانَ قَابَ قَوسَين أَوْ أَدْنَى ﴾ [ النجم : ٩ ] على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه إبهام على المخاطبين، وإن كان الله تعالى عالماً، أي ذلك هو، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
أحب محمداً حباً شديداً وعباساً وحمزة أو علياً
فإن يك حبهم رشدا أُصِبه ولستُ بمخطئ إن كان غياً
ولا شَكَّ، أن أبا الأسود الدؤلي، لم يكن شاكّاً في حبِّهم، ولكن أَبْهَمَ على مَنْ خاطبه، وقد قِيل لأبي الأسود حين قال ذلك : شَكَكْتُ، فقال كلا، ثم استشهد بقوله تعالى :﴿ وَإِنَّا إِيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [ سبأ : ٢٤ ] وقال : أفكان شاكاً مَنْ أخبر بهذا؟
والثاني : أن ﴿ أَوْ ﴾ ها هنا بمعنى الواو، وتقديره فهو كالحجارة وأشد قسوة، ومثله قول جرير :
جاءَ الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والثالث : أن ﴿ أَوْ ﴾ في هذا الموضع، بمعنى بل أشد قسوة، كما قال تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾ [ الصافات : ١٤٧ ] يعني بل يزيدون.
والرابع : أن معناها الإباحة وتقديره، فإن شبهتموها بالحجارة كانت مثلها، وإن شبهتموها بما هو أشد، كانت مثلها.
والخامس : فهي كالحجارة، أو أشد قسوة عندكم.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ ﴾ يعني أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية، لِتَفَجِّرِ الأنهار منها.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ﴾ فاختلفوا في ضمير الهاء في « منها »، إلى ماذا يرجع؟ على قولين :
أحدهما : إلى القلوب لا إلى الحجارة، فيكون معنى الكلام : وإن من القلوب لما يخضع من خشية الله، ذكره ابن بحر.
والقول الثاني : أنها ترجع إلى الحجارة، لأنها أقرب مذكور.
واختلف من قال بهذا، في هذه الحجارة على قولين :
أحدهما : أنها البرد الهابط من السَّحاب، وهذا قول تفرد به بعض المتكلمين.
62
والثاني : وهو قول جمهور المفسرين : أنها حجارة الجبال الصلدة، لأنها أشد صلابة.
واختلف من قال بهذا على قولين :
أحدهما : أنه الجبل الذي جعله الله دَكاً، حين كلم موسى.
والثاني : أنه عام في جميع الجبال.
واختلف من قال بهذا، في تأويل هبوطها، على أربعة أقاويل :
أحدها : إن هبوط ما هبط من حشية الله، نزل في ذلك القرآن.
والثاني :.........
والثالث : أن مِنْ عَظَّم مَنْ أمر الله، يُرَى كأنه هابط خاشع، كما قال جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشّع
والرابع : أن الله أعطى بعض الجبال المعرفة، فعقل طاعة الله، فأطاعه، كالذي رُوِيَ عن الجذع، الذي كان يستند إليه النبي ﷺ، فلما تحول عنه حَنَّ، رُوِيَ عن النبي أنه قال :« إِنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ في الجاهِليَّةِ إِنِّي لأَعْرَفُهُ الآَنَ » ويكون معنى الكلام، إِنَّ من الجبال ما لو نزل عليه القرآن، لهبط من خشية الله تذللاً وخضوعاً.
63
قوله تعالى :﴿... وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُم يَسْمَعُون كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ في ذلك قولان :
أحدهما : أنهم علماء اليهود والذين يحرفونه التوراة فيجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً ابتاعاً لأهوائهم وإعانة لراشيهم وهذا قول مجاهد والسدي.
والثاني : أنهم الذين اختارهم موسى من قومه، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم، وهذا قول الربيع بن أنس وابن إسحاق.
وفي كلام الله الذي يسمعونه قولان :
أحدهما : أنها التوراة التي عَلِمَها علماء اليهود.
والثاني : الوحي الذي كانوا يسمعونه كما تسمعه الأنبياء.
وفي قوله تعالى :﴿ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلَوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ وجهان :
أحدهما : من بعد ما سمعوه، وهم يعلمون أنهم يحرفونه.
والثاني : من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون، ما في تحريفه من العقاب.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود، إذا خلوا مع المنافقين، قال لهم المنافقون : أتحدثون المسلمين، بما فتح الله عليكم. والثاني : أنهم اليهود، قال بعضهم لبعض :﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيكُم ﴾ وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : بما فتح الله عليكم، أي مما أذكركم الله به، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني : بما أنزل الله عليكم في التوراة، من نبوة محمد ﷺ وبعثه، ﴿ ليُحَآجُّوكم بَهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول أبي العالية وقتادة.
والثالث : أنهم أرادوا قول يهود بني قريظة، حين شبههم النبي ﷺ، بأنهم إخوة القردة، فقالوا : من حدثك بهذا؟ وذلك حين أرسل إليهم، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهذا قول مجاهد.
والرابع : أن ناساً من اليهود أسلموا، ثم نافقوا فكانوا يحدثون المسلمين من العرب، بما عُذِّبَ به ( آباؤهم )، فقال بعضهم لبعض، أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، وهذا قول السدي.
وفي ﴿ فتح الله ﴾ وجهان :
أحدهما : بما علمكم الله.
والثاني : بما قضاه الله، والفتح عند العرب القضاء والحكم، ومنه قول الشاعر :
ألا أبلغ بني عُصُم رسولاً بأني عن فِتاحِكُم غنيُّ
ويُقَالُ للقاضي : الفتّاح، ومنه قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا افْتَح بَيْنَنَا وَبَينَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ].
قوله تعالى :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾، فَحُذِفَ ذكُر الكتاب إيجازاً.
والثاني :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ فتظهر له الحُجَّة عليكم، فيكونوا أولى بالله منكم، وهذا قول الحسن.
والثالث :﴿ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم ﴾ يوم القيامة، كما قال تعالى :﴿ ثُمَّ إِنَّكُم يَومَ القيِامَةِ عِنْدَ رَبِّكُم تَخْتَصِمُونَ ﴾ [ الزمر : ٣١ ].
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الأُمّي : الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو قول مجاهد وأظهرُ تأويله.
والثاني : أنَّ الأُمّيين : قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، وكتبوا كتاباً بأيديهم، وقال الجهال لقومهم : هذا من عند الله، وهذا قول ابن عباس.
وفي تسمية الذي لا يكتب بالأمي قولان :
أحدها : أنه مأخوذ من الأمة، أي على أصل ما عليه الأمّة، لأنه باق على خلقته من أنه لا يكتب، ومنه قول الأعشى :
وإنّ معاويةَ الأكرمين حسانُ الوجوه طوال الأمَمْ
والثاني : أنه مأخوذ من الأُم، وفي أخذه من الأُم تأويلان :
أحدهما : أنه مأخوذ منها، لأنه على ما ولدته أُمُّهُ من أنه لا يكتب.
والثاني : أنه نُسِبَ إلى أُمّهِ، لأن الكتاب في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب من الرجال إلى أمه، لجهلها بالكتاب دونه أبيه.
وفي قوله تعالى :﴿ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : إِلاَّ أَمَانِيَّ : يعني : إلا كذباً، قاله ابن عباس ومجاهد، قال الشاعر :
ولكنما ذاك الذي كان منكما أمانّي ما لاقت سماء ولا أرضا
والثاني : إِلاَّ أَمَانِيَّ، يعني، أنهم يَتَمَنَّونَ على الله ما ليس لهم، قاله قتادة.
والثالث : إِلاَّ أَمَانِيَّ، يعني [ إلا أماني يعني إلا تلاوة من غير فهم قاله الفراء والكسائي ومنه قوله تعالى :﴿ إلاَّ إذَا تَمَنَّى ألْقَى الشيْطَانُ في أمنيِّتِه ﴾ [ سورة الحج : ٥٢ ] يعني ألقى الشيطانُ في أُمنيِّتِه، وقال كعب بن مالك :
تمنّى كتاب الله أول ليلهِ وآخرَه لاقي حمام المقادر
والرابع : أنَّ الأَمَانِيَّ : التقدير، حكاه ابن بحر وأنشد قول الشاعر :
ولا تقولَنْ لشيء سوف أفعله حتى تَبَيّنَ ما يمني لك الماني
( وإلا ) : في هذا الموضع بمعنى ( لكن ) وهو عندهم من الاستثناء المنقطع ومنه قوله تعالى :﴿ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنَّ ﴾ [ النساء : ١٥٧ ] قال النابغة :
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
﴿ وَإِنْ هُم إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يكذبون، قاله مجاهد.
والثاني : يحدثون، قاله البصريون.
قوله تعالى :﴿ فَوَيلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِم ﴾ في الويل ستة أقاويل :
أحدها : أنه العذاب، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه التقبيح، وهو قول الأصمعي. ومنه قوله تعالى :﴿ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ]. وقال الشاعر :
كسا اللؤم سهما خضرة في جلودها فويل لسهم من سرابيلها الخُضْرِ
والثالث : أنه الحزن، قاله المفضل.
والرابع : أنه الخزي والهوان.
والخامس : أن الويل وادٍ في جهنم، وهذا قول أبي سعيد الخدري.
والسادس : أنه جبل في النار، وهو قول عثمان بن عفان.
﴿ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِم ﴾ أي يغيرون ما في الكتاب من نبوة محمد ﷺ ونعته.
وفي قوله تعالى :﴿ بِأَيدِيهِم ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنه أراد بذلك تحقيق الإضافة، وإن كانت الكتابة لا تكون إلا باليد، كقوله تعالى :﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ ﴾.
والثاني : أن معنى ﴿ بِأَيْدِيهِم ﴾ أي من تلقاء أنفسهم، قاله ابن السراج.
وفي قوله تعالى :﴿ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً ﴾ تأويلان :
أحدهما : ليأخذوا به عرض الدنيا، لأنه قليل المدة، كما قال تعالى :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ وهذا قول أبي العالية.
والثاني : أنه قليل لأنه حرام.
﴿ وَوَيلٌ لَّهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من تحريف كتبهم.
والثاني : من أيام معاصيهم.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ والفرق بين اللمس والمس، أن مع اللمس إحساساً.
وفي الأيام المعدودة قولان :
أحدهما : أنها أربعون يوماً، وهذا قول قتادة، والسدي، وعكرمة، وأبي العالية، ورواه الضحاك عن ابن عباس، ومن قال بهذا اختلفوا في تقديرهم لها بالأربعين :
فقال بعضهم : لأنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل.
وقال ابن عباس : أن اليهود يزعمون أنهم، وجدوا في التوراة مكتوباً، أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، وهم يقطعون مسيرة كل سنة في يوم، فإذا انقطع المسير انقضى العذاب، وهلكت النار، وهذا قول من قدر « المعدودة » بالأربعين.
والقول الثاني : أن المعدودة التي تمسهم فيها النار سبعة أيام، لأنهم زعموا، أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأنهم يُعَذَّبُون عن كل ألف سنة يوماً، وهذا قول مجاهد، ورواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾. أما ( بلى )، فجوات النفي، وأما ( نعم ) فجواب الإيجاب، قال الفراء : إذا قال الرجل لصاحبه : ما لك عَليَّ شيء، فقال الآخر : نعم، كان ذلك تصديقاً أن لا شيء عليه، ولو قال بَلَى : كان رداً لقوله، وتقديره : بَلَى لِيَ عليك.
وقوله :﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ اختلفوا في السيئة ها هنا، على قولين :
أحدهما : أنها الشرك، وهذا قول مجاهد.
والثاني : أنها الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار، وهذا قول السدي.
وقوله تعالى :﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه مات عليها، وهذا قول ابن جبير.
والثاني : أنها سَدَّتْ عليه المسالك، وهذا قول ابن السراج.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ ﴾ يعني في التوراة بمجيء محمد ﷺ. ويقال الميثاق الأول ( حين أُخرِجوا ) من صلب آدم.
﴿ وَقُولُوا للِنَّاسِ حُسْناً ﴾ فمن قرأ حَسَناً، يعني قولاً صدقاً في بعث محمد ﷺ، وبالرفع، أي قولوا لجميع الناس حسناً، يعني خالقوا الناس بِخُلُقٍ حسن.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُ مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ أما النفس فمأخوذة من النفاسة، وهي الجلالة، فنفس الإنسان أنفس ما فيه، وأما الديار فالمنزل، الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال، وقال الخليل : كل موضع حَلَّهُ قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية.
فإن قيل : فهل يسفك أحد دمه، ويخرج نفسه من داره؟ ففيه قولان :
أحدهما : معناه لا يقتل بعضكم بعضاً، ولا يخرجه من داره، وهذا قول قتادة، وأبي العالية.
والثاني : أنه القصاص الذي يقتص منهم بمن قتلوه.
وفيه قول ثالث : أن قوله « أنفسكم » أي إخوانكم فهو كنفس واحدة.
قوله تعالى :﴿ تَظَاهَرُونَ عَليْهِم بالإثْمِ وَالعُدْوَانِ ﴾ يعني تتعاونون، والإثم هو الفعل الذي يستحق عليه الذم، وفي العدوان قولان :
أحدهما : أنه مجاوزة الحق.
والثاني : أنه في الإفراط في الظلم.
﴿ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُم ﴾ وقرأ حمزة ﴿ أُسْرَى ﴾. وفي الفرق بين أَسْرَى وأُسَارَى قولان :
أحدهما : أن أَسْرَى جمع أسير، وأُسَارَى جمع أَسْرَى.
والثاني : أن الأَسْرى الذين في اليد وإنْ لم يكونوا في وَثَاق، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء، والأُسارَى : الذين في وَثَاق.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ ﴾ يعني التوراة.
﴿ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾ والتَّقْفِيَةُ : الإتْباع، ومعناه : وأَتْبَعْنَا، يقال اسْتَقْفَيْتُهُ إِذَا جئت من خلفه، وسميت قافية الشعر قافية لأنها خلفه.
﴿ وَءَاتينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن البينات الحجج.
والثاني : أنها الإنجيل.
والثالث : وهو قول ابن عباس، أن البينات التي أوتيها عيسى إحياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير، فيكون طيراً بإذن الله، وإبراء الأسْقَام.
﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدْسِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن روح القدس الاسم الذي يحيي به عيسى الموتى، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه الإنجيل، سماه روحاً، كما سمى الله القرآن روحاً في قوله تعالى :﴿ وَكَذلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ﴾.
والثالث : وهو الأظهر، أنه جبريل عليه السلام، وهذا قول الحسن وقتادة، والربيع، والسدي، والضحاك.
واختلفوا في تسمية جبريل بروح القدس، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه سُمِّيَ رُوحاً، لأَنَّه بمنزلة الأرواح للأبدان، يحيي بما يأتي به من البينات من الله تعالى.
والثاني : أنه سمي روحاً، لأن الغالب على جسمه الروحانية، لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وإنما يختص به جبريل تشريفاً.
والثالث : أنه سمي روحاً، لأنه كان بتكوين الله تعالى له روحاً من عنده من غير ولادة.
والقُدُس فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : هو الله تعالى، ولذلك سُمِّي عيسى عليه السلام روح القدس، لأن الله تعالى كوَّنه من غير أب، وهذا قول الحسن والربيع وابن زيد. قال ابن زيد : القدس والقدوس واحد.
والثاني : هو الظهر، كأنه دل به على التطهر من الذنوب.
والثالث : أن القدس البركة، وهو قول السدي.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ فيه تأويلات :
أحدهما : يعني في أَغْطِيَةٍ وَأَكِنَّةٍ لا تفقه، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والسدي.
والثاني : يعني أوعية للعلم، وهذا قول عطية، ورواية الضحاك عن ابن عباس.
﴿ بَّل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ وَاللَّعن : الطرد والإبعاد، ومنه قول الشماخ :
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
ووجه الكلام : مقام الذئب اللعين كالرجل.
في قوله تعالى :﴿ فَقَليلاً مَّا يُؤْمنُونَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : معناه فقليل منهم من يؤمن، وهذا قول قتادة، لأن مَن آمن من أهل الشرك أكثر ممن آمن مِنْ أهل الكتاب.
والثاني : معناه فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم، وهو مروي عن قتادة. ومعنى ﴿ مَا ﴾ هنا الصلة للتوكيد كما قال مهلهل :
قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ ﴾ يعني القرآن ﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : مصدق لما في التوراة والإنجيل من الأخبار التي فيهما.
والثاني : مصدق بأن التوراة والإنجيل من عند الله تعالى.
﴿ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ يعني يستنصرون، قال ابن عباس : إن اليهود كانوا يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه، فلما بعثه الله تعالى من العرب كفروا به، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور : أو ما كنتم تخبروننا أنه مبعوث؟ فقال سلام بن مشكم : ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى ذلك.
قوله تعالى :﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ﴾ اشتروا بمعنى باعوا.
﴿ أن يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً ﴾ يعني حسداً، هكذا قال قتادة والسدي، وأبو العالية، وهم اليهود. والبغي شدة الطلب للتطاول، وأصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بَغِياً، لأنها تطلب الزنى.
وفي قوله تعالى :﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الغضب الأول لكفرهم بعيسى، والغضب الثاني لكفرهم بمحمد ﷺ، وهذا قول الحسن، وعكرمة، والشعبي، وقتادة، وأبي العالية.
والثاني : أنه ما تقدم من كفرهم في قولهم عُزير ابن الله، وقولهم يد الله مغلولة، وتبديلهم كتاب الله، ثم كفرهم بمحمد.
والثالث : أنه لما كان الغضب لازماً لهم كان ذلك توكيداً.
﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ المهين : المذل. والعذاب على ضربين :
فالمهين منها عذاب الكافرين لأنه لا يمحص عنهم ذنوبهم.
والثاني : غير مهين وهو ما كان فيه تمحيص عن صاحبه، كقطع يد السارق من المسلمين، وحد الزاني.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : ءَامِنُوا بِمَا أَنَزَلَ اللهُ ﴾ يعني القرآن.
﴿ قَالُواْ : نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ يعني التوراة.
﴿ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾ يعني بما بعده.
﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ يعني القرآن.
﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ يعني التوراة، لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً.
﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ ﴾ معناه فلم قتلتم، فعبر عن الفعل الماضي بالمستقبل، وهذا يجوز، فيما كان بمنزلة الصفة، كقوله تعالى :﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ ﴾ أي ما تلت، وقال الشاعر :
لو بأبانين جاء يخطبها خُضَّب ما أنف خاضب بدم
وإني لآتيكم بشكر ما مضى من الأمر واستحباب ما كان في غد
يعني ما يكون في غد، وقيل معناه : فلم ترضون بقتل أنبياء الله، إن كنتم مؤمنين؟
قوله تعالى :﴿... خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾ يعني بجد واجتهاد.
﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني فاعملوا بما سمعتم.
الثاني : أي اقبلوا ما سمعتم، كما قيل سمع الله لمن حمده، أي قبل الله حمده، وقال الراجز :
السمعُ والطاعة والتسليم خير وأعفى لبني تميم
﴿ قَالُوا : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنهم قالوا ذلك حقيقة، ومعناه سمعنا قولك وعصينا أمرك.
والثاني : أنهم لم يقولوه ولكن فعلوا ما دل عليه، فقام الفعل منهم مقام القول كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قَطْني مهلاً رويداً قد ملأت بطني
﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن موسى برد العجل وذرّاه في الماء، فكان لا يشربه أحد يحب العجل إلا ظهرت نخالة الذهب على شفتيه، وهذا قول السدي، وابن جريج.
والثاني : أنهم أُشربوا حب العجل في قلوبهم، يقال أُشرِبَ قلبه حبَّ كذا، قال زهير :
فصحوتُ عنها بعد حبٍّ داخل... والحبُّ تُشربه فؤادَك : داءُ
قوله تعالى :﴿ قُلْ : إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُون النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يعني اليهود تزعم أن الجنة خالصة لهم من دون الناس، وفيه قولان :
أحدهما : من دون الناس كلهم.
والثاني : من دون محمد وأصحابه الذين آمنوا به، وهذا قول ابن عباس.
فقيل :﴿ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ لأنه من اعتقد أنه من أهل الجنة، كان الموت أحب إليه من الحياة، لما يصير إليه من نعم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، ويروى عن النبي ﷺ أنه قال :« لَو أَنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوُا المَوتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَامَهُم مِنَ النَّارِ ». ثم قال تعالى :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوهُ أَبَدا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ تحقيقاً لكذبهم، وفي تركهم إظهار التمني قولان :
أحدهما : أنهم علموا أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، كما قاله النبي ﷺ، فلذلك لم يتمنوه وهذا قول ابن عباس.
الثاني : أن الله صرفهم عن إظهار التمني، ليجعل ذلك آية لنبيه ﷺ.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ يعني اليهود.
﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ يعني المجوس، لأن المجوس هم الذين ﴿ يَودُّ أَحَدُهُمْ لو يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾، كان قد بلغ من حبهم في الحياة أن جعلوا تحيتهم ( عش ألف سنة ) حرصاً على الحياة، فهؤلاء الذين يقولون : أن لهم الجنة خالصة أحب في الحياة من جميع الناس ومن هؤلاء. ﴿ وَمَا هُو بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ أي بمباعده من العذاب ﴿ أَن يُعْمَّرُ ﴾ لأنه لو عمَّر ما تمنى، لما دفعه طول العمر من عذاب الله على معاصيه.
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ﴾ وسبب نزول هذه الآية، أن ابن صوريا وجملة من يهود ( فدك )، لما قدم النبي ﷺ المدينة سألوه، فقالوا : يا محمد كيف نومك؟ فإنه قد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان، فقال :« تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي يَقْظَانُ » قالوا : صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال :« أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ، وَأَمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْر وَالشَّعْر فَمِنَ المَرْأَةِ » قالوا : صدقت يا محمد، فما بال الولد يشبه أعمامه، ليس فيه من شبه أخواله شيء، أو يشبه أخواله، ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال :« أيهما علا ماؤه كان الشبه له » قالوا : صدقت يا محمد، فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله تعالى : قال ﴿ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص الآية : ١ ] إلى آخر السورة، قال له ابن صوريا : خصلة إن قلتها آمنتُ بك واتبعتُك، أي ملك يأتيك بما يقول الله؟ قال :« جبريل »، قال : ذاك عدونا، ينزل بالقتال والشدة والحرب، وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك، فقال : عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند ذلك : فإني أشهد أن من كان عدّواً لجبريل، فإنه عدو لميكائيل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأما جبريل وميكائيل فهما اسمان، أحدهما عبد الله والآخر عبيد الله، لأن إيل هو الله وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكان جبريل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، وهذا قول ابن عباس، وليس له من المفسرين مخالف.
فإن قيل : فلم قال :﴿ مَن كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ ﴾ وقد دخل جبريل وميكائيل في عموم الملائكة فلِمَ خصهما بالذكر؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أنهما خُصَّا بالذكر تشريفاً لهما وتمييزاً.
والثاني : أن اليهود لما قالوا جبريل عدوّنا، وميكائيل ولينا، خُصَّا بالذكر، لأن اليهود تزعم أنهم ليسوا بأعداء لله وملائكته، لأن جبريل وميكائيل مخصوصان من جملة الملائكة، فنص عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص، ثم قال تعالى :﴿ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾، ولم يقل لهم، لأنه قد يجوز أن ينتقلوا عن العداوة بالإيمان.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ اختلف أهل التفسير في سبب ذلك، على قولين :
أحدهما : أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويستخرجون السحر، فَأَطْلَعَ الله سليمان ابن داود عليه، فاستخرجه من أيديهم، ودفنه تحت كرسيه، فلم تكن الجن تقدر على أن تدنو من الكرسي، فقالت الإنس بعد موت سليمان : إن العلم الذي كان سليمان يُسَخِّر به الشياطين والرياح هو تحت كرسيه، فاستخرجوه وقالوا : كان ساحراً ولم يكن نبياً، فتعلموه وعلّموه، فأنزل الله تعالى براءة سليمان بهذه الآية.
والثاني : أن « آصف بن برخيا » وهو كاتب سليمان وَاطَأَ نَفَراً من الشياطين على كتاب كتبوه سحراً ودفنوه تحت كرسي سليمان، ثم استخرجوه بعد موته وقالوا هذا سحر سليمان، فبرأه الله تعالى من قولهم، فقال :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيمَانُ ﴾، وهم ما نسبوه إلى الكفر، ولكنهم نسبوه إلى السحر، لكن لما كان السحر كفراً صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر.
قال تعالى :﴿ وَلَكْنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر.
والثاني : أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر.
﴿ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه.
والثاني : أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه.
﴿ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَينِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ وفي ﴿ مَا ﴾ ها هنا وجهان :
أحدهما : بمعنى الذي، وتقديره الذي أنزل على الملكين.
والثاني : أنها بمعنى النفي، وتقديره : ولم ينزل على الملكين.
وفي الملكين قراءتان : إحداهما : بكسر اللام، كانا من ملوك بابل وعلوجها
هاروت وماروت، وهذا قول أبي الأسود الدؤلي، والقراءة الثانية : بفتح اللام من الملائكة.
وفيه قولان :
أحدهما : أن سحرة اليهود زعموا، أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره : وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، وهما رجلان ببابل.
والثاني : أن هاروت وماروت مَلَكان، أَهْبَطَهُما الله تعالى إلى الأرض، وسبب ذلك، أن الله تعالى لما أطلع الملائكة على معاصي بني آدم، عجبوا من معصيتهم له مع كثرة أَنْعُمِهِ عليهم، فقال الله تعالى لهم : أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا : سبحانك ما ينبغي لنا، فأمرهم الله أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت فأُهْبِطَا إلى الأرض، وأحل لهما كل شيء، على ألا يُشْرِكا بالله شيئاً، ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فعرضت لهما امرأة وكان يحكمان بين الناس تُخَاصِمُ زوجها واسمها بالعربية : الزهرة، وبالفارسية : فندرخت، فوقعت في أنفسهما، فطلباها، فامتنعت عليهما إلا أن يعبدا صنماً ويشربا الخمر، فشربا الخمر، وعبدا الصنم، وواقعاها، وقتلا سابلاً مر بهما خافا أن يشهر أمرهما، وعلّماها الكلام الذي إذا تكلم به المتكلم عرج إلى السماء، فتكلمت وعرجت، ثم نسيت ما إذا تكلمت به نزلت فمسخت كوكبا، قال : كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي هبطا فيه، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه، فتعجب الملائكة من ذلك. ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء، فكانا يعلّمان السحر.
78
وذكر عن الربيع أن نزولهما كان في زمان ( إدريس ).
وأما السحر فقد اختلف الناس في معناه :
فقال قوم : يقدر الساحر أن يقلب الأعيان بسحره، فيحول الإنسان حماراً، وينشئ أعياناً وأجساماً.
وقال آخرون : السحر خِدَع وَمَعَانٍ يفعلها الساحر، فيخيل إليه أنه بخلاف ما هو، كالذي يرى السراب من بعيد، فيخيل إليه أنه ماء، وكواكب السفينة السائرة سيراً حثيثاً، يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائرة معه.
وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : سَحَرَ رسولَ الله ﷺ يهوديٌ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله ﷺ يُخيّل إليه أنه يفعل الشيءَ وما فعله.
قالوا : ولو كان في وسع الساحر إنشاء الأجسام وقلب الأعيان عما هي به من الهيئات، لم يكن بين الباطل والحق فصل، ولجاز أن يكون جميع الأجسام مما سحرته السحرة، فقلبت أعيانها، وقد وصف الله تعالى سحرة فرعون ﴿... فَإِذَا حِبَالُهُمُ وَعِصِيُّهُمُ يُخَيَّلُ إِليْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى ﴾.
وقال آخرون : وهو قول الشافعي إن الساحر قد يوسوس بسحره فيمرض وربما قتل، لأن التخيل بدء الوسوسة، والوسوسة بدء المرض، والمرض بدء التلف.
فأما أرض ﴿ ببابل ﴾ ففيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الكوفة وسوادها، وسميت بذلك حيث تبلبلت الألسن بها وهذا قول ابن مسعود.
والثاني : أنها من نصيبين إلى رأس عين، وهذا قول قتادة.
والثالث : أنها جبل نهاوند. وهي [ فطر ] من الأرض.
﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ : إِنَّمَا نَحنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر ﴾ بما تتعلمه من سحرنا.
﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾ في المراد بقوله « منهما » ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني من هاروت وماروت.
والثاني : من السحر والكفر.
والثالث : من الشيطان والملكين، فيتعلمون من الشياطين السحر، ومن الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
﴿ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ﴾ يعني السحر.
﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني بأمر الله.
والثاني : بعلم الله.
﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ يعني ما يضرهم في الآخرة، ولا ينفعهم في الدنيا.
﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ ﴾ يعني السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه.
﴿ مَا لهُ فِي الأَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الخلاق النصيب، وهو قول مجاهد والسدي.
والثاني : أن الخلاق الجهة، وهو قول قتادة.
والثالث : أن الخلاق الدين، وهو قول الحسن.
قوله تعالى :﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَواْ بِهِ أَنفُسَهُم لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر في تعليمه وفعله.
والثاني : من إضافتهم السحر إلى سليمان، وتحريضهم على الكذب.
79
قوله تعالى :﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تقولوا... وهو قول عطاء.
والثاني : يعني ارعنا سمعك، أي اسمع منا ونسمع منك، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد.
واختلفوا لِمَ نُهِي المسلمون عن ذلك؟ على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها كلمة كانت اليهود تقولها لرسول الله ﷺ على وجه الاستهزاء والسب؛ كما قالوا سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع، وراعنا ليّاً بألسنتهم، فَنُهِيَ المسلمون عن قولها، وهذا قول ابن عباس وقتادة.
والثاني : أن القائل لها، كان رجلاً من اليهود دون غيره، يقال له رفاعة بن زيد، فَنُهِيَ المسلمون عن ذلك، وهذا قول السدي.
والثالث : أنها كلمة، كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام عنها.
﴿ وَقُولُوا انظُرْنَا ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه أَفْهِمْنَا وبين لنا، وهذا قول مجاهد.
والثاني : معناه أَمْهِلْنا.
والثالث : معناه أَقْبِلْ علينا وانظر إلينا.
﴿ وَاسْمَعُوا ﴾ يعني ما تؤمرون به.
قوله تعالى :﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ ﴾ في ( معنى ) نسخها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه قبضها، وهو قول السدي.
والثاني : أنه تبديلها، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أنه إثبات خطها وتبديل حكمها، وهو قول ابن مسعود.
﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ فيه قراءتان :
أحدهما : هذه، والثانية :﴿ أو ننسأها ﴾.
فمن قرأ :﴿ أو ننسها ﴾ ففي تأويله أربعة أوجه :
أحدها : أنه بمعنى أو نمسكها، وقد ذكر أنها كانت في مصحف عبد الله ابن مسعود :﴿ ما نُمْسِكُ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نَنْسَخْهَا نَجِيءُ بِخَيرٍ مِنْهَا أَو مِثْلِهَا ﴾ وذلك أن النبي ﷺ، كان يقرأ الآية، ثم يَنْسَى وَتُرْفَعُ، وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ :﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ نَنَسَهَا ﴾، بمعنى الخطاب لرسول الله ﷺ، فيكون تقديره أو تنسى أنت يا محمد، وقال القاسم بن ربيعة لسعد بن أبي وقاص : فإن سعيد بن المسيب يقرأ :﴿ أو ننسها ﴾، فقال سعد : إن القرآن لم ينزل على ابن المسيب، ولا على آل المسيب قال الله تعالى :﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ﴾ [ الأعلى : ٦ ] ﴿ وآذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [ الكهف : ٢٤ ] وهذا معنى قول مجاهد وقتادة.
والثاني : أن ذلك بمعنى الترك، من قوله تعالى :﴿ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُم ﴾، أي تركوه فتركهم، فيكون تقدير الكلام :﴿ ما ننسخ من آية ﴾ يعني نَرفَعُها ونبدِّلُها، ﴿ أو نُنْسِهَا ﴾ أي نتركها ولا نبدلها ولا ننسخها، وهذا قول ابن عباس والسدي.
والثالث : أن قوله ما ننسخ من آية أو ننسها قال : الناسخ والمنسوخ، وهذا قول الضحاك.
والرابع : أن معنى ننسها أي نَمْحُها، وهذا قول ابن زيد.
وأما من قرأ :﴿ أو نَنْسَأُهَا ﴾ فمعناه نؤخرها، من قولهم نَسَأْتُ هذا الأمر، إذا أخرته، ومن ذلك قولهم : بعت بنسَاءٍ أي بتأخير، وهذا قول عطاء وابن أبي نجيح.
﴿ نَأْتِ بِخَيرٍ مِّنْها أو مِثْلِهَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أي خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم، وهذا قول ابن عباس :
والثاني : أن معنى خير منها، أي أخف منها، بالترخيص فيها، وهذا معنى قول قتادة. فيكون تأويل الآية، ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكماً منها، إما بالتخفيف في العاجل، كالذي كان من نسخ قيام الليل تخفيفاً، وإما بالنفع بكثرة الثواب في الآجل، كالذي كان من نسخ صيام أيام معدودات بشهر رمضان.
وقوله تعالى :﴿ أَوَ مِثْلِهَا ﴾ يعني مثل حكمها، في الخفة والثقل والثواب والأجر، كالذي كان من نسخ استقبال بيت المقدس، باستقبال الكعبة، وذلك مثله في المشقة والثواب ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٌُ قَدِيرٌ ﴾.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ ﴾ فإن قيل : أو كان النبي ﷺ غير عالم بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله له ملك السموات والأرض؟ قيل : عن هذا ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن قوله ألم تعلم بمعنى أعلمت.
والثاني : أنه خارج مخرج التقرير، لا مخرج الاستفهام. كما قال الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ : اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَم أَنتَ قُلْتَ لِلْنَّاسِ : اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] خرج مخرج التقرير لا مخرج الاستفهام.
والثالث : أن هذا الخطاب للنبي ﷺ، والمراد به أمته، ألا تراه قال بعد ذلك :﴿ وَمَا لَكُم مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يرُدَّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ﴾ سبب نزولها، ما رُوِيَ أن نفراً من اليهود، منهم فنحاص، وزيد بن قيس، دعوا حذيفة وعمار إلى دينهما، وقالوا نحن أهدى منكم سبيلاً، فقال لهم عمار : وكيف نقض العهد عندكم؟ قالوا : شديد، قال عمار : فإني عاهدت ربي ألا أكفر بمحمد أبداً، ولا أتبع ديناً غير دينه، فقالت اليهود : أما عمار فقد صبأ وضل عن سواء السبيل، فكيف أنت يا حذيفة؟ فقال حذيفة : الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، أطيع ربي، وأقتدي برسولي، وأعمل بكتاب ربي. فقالا : وإلهِ موسى، لقد أُشْرِبَتْ قلوبُكُما حبَّ محمد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
﴿ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق ﴾ يعني من بعد ما تبين لليهود، أن محمداً نبي صادق، وأن الإسلام دين حق.
﴿ فَاْعْفُوا وَاصْفَحُوا ﴾ يعني بقوله فاعفوا، أي اتركوا اليهود، واصفحوا عن قولهم ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ﴾ يعني مَا أَذِنَ بِهِ في ( بني قريظة )، من القتل والسبي، وفي ( بني النضير ) من الجلاء والنفي.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنَ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ أما المساجد فهي مواضع العبادات، وفي المراد بها هنا قولان :
أحدهما : ما نسب إلى التعبد من بيوت الله تعالى استعمالاً لحقيقة الاسم.
والثاني : أنَّ كُلَّ موضع من الأرض، أقيمت فيه عبادة من بيوت الله وغيرها مسجد، لقول النبي ﷺ :« جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِداً ». وفي المانع مساجد الله أن يُذْكَرَ فيها اسمه، أربعة أقاويل :
أحدها : أنه بُخْتَ نصر وأصحابه من المجوس الذين خربوا بيت المقدس، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم النصارى الذين أعانوا ( بُخْتَ نَصّر ) على خرابه، وهذا قول السدي.
والثالث : أنهم مشركو قريش، منعوا رسول الله ﷺ من المسجد الحرام عام الحديبية، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
والرابع : أنه عَامٌّ في كل مشرك، منع من كل مسجد.
وفي قوله تعالى :﴿ وَسَعَى في خَرَابِهَا ﴾ تأويلان :
أحدهما : بالمنع من ذكر الله فيها.
والثاني : بهدمها.
﴿ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : خائفين بأداء الجزية، وهذا قول السدي.
والثاني : خائفين من الرعب، إن قُدر عليهم عوقبوا، وهذا قول قتادة.
﴿ لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه قتل الحربي وجزية الذمي.
والثاني : أنه فتح مدائنهم عمورية، وقسطنطينية، ورومية، وهذا قول ابن عباس.
﴿ وَلَهُمْ في الأخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ هو أشد من كل عذاب، لأنهم أظلم من كل ظالم.
قوله تعالى :﴿ وَاللهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ اختلف أهل التأويل في تأويلها، وسبب نزولها، على سبعة أقاويل :
أحدها : أن سبب ذلك، أن النبي ﷺ، كان يستقبل بصلاته بيت المقدس بعد هجرته ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، حتى قالت اليهود : إن محمداً وأصحابه، ما دروا أين قبلتهم حتى هديناهم، فأمرهم الله تعالى باستقبال الكعبة، فتكلمت اليهود، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض استقبال القبلة، فأباح لهم أن يتوجهوا بصلاتهم حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، وهذا قول قتادة وابن زيد.
والثالث : أنها نزلت في صلاة التطوع للسائر حيث توجه، وللخائف حيث تمكن من مشرق أو مغرب، وهذا قول ابن عمر، روى سعيد بن جبير عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ فَأَينَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعاً، كان رسول الله ﷺ إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً، يومئ برأسه نحو المدينة.
والرابع : أنها نزلت، فيمن خفيت عليهم القبلة، ولم يعرفوا جهتها، فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة.
روى عاصم بن عبد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة مظلمة، فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار، فيعمل مسجداً يصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والخامس : أنها نزلت في النجاشي، وروى أبو قتادة أن النبي ﷺ قال :« إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ » قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم، قال فنزلت :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم خَاشِعِينَ لِلُّه ﴾ [ سورة آل عمران الآية : ١٩٩ ] قالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمغْرِبُ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾.
والسادس : أن سبب نزولها أن الله تعالى لما أنزل قوله :﴿ ادعُوني أسْتَجِبْ لَكُم ﴾ قالوا إلى أين؟ فنزلت :﴿ فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ [ البقرة : ١١٥ ].
والسابع : أن معناه وحيثما كنتم من مشرق أو مغرب، فلكم قبلة تستقبلونها، يعني جهة إلى الكعبة، وهذا قول مجاهد.
ويجيء من هذا الاختلاف في قوله :﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ﴾ تأويلان : أحدهما : معناه فثم قبلة الله.
والثاني : فثم الله تعالى، ويكون الوجه عبارة عنه، كما قال تعالى :﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾ [ الرحمن : ٢٧ ].
وأما ﴿ ثَمَّ ﴾ فهو لفظ يستعلم في الإشارة إلى مكان، فإن كان قريباً قيل :( هنا زيد )، وإن كان بعيداً قيل :( هناك زيد ).
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم النصارى في قولهم : المسيح ابن الله.
والثاني : أنهم مشركو العرب في قولهم : الملائكة بنات الله.
﴿ سُبْحَانَهُ، بَل لَّهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ ﴾ قوله :﴿ سُبْحَانَهُ ﴾ تنزيهاً له من قولهم ﴿ اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ﴾.
قوله :﴿ لَهُ مَا في السَّمَواتِ والأَرْضِ ﴾ أي خالق ما في السموات والأرض.
﴿ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أي مطيعون، وهذا قول قتادة، والسدي، ومجاهد.
والثاني : أي مقرون له بالعبودية، وهو قول عكرمة.
والثالث : أي قائمون، يعني يوم القيامة، وهذا قول الربيع، والقانت في اللغة القائم، ومنه القنوت في الصلاة، لأنه الدعاء في القيام.
قوله تعالى :﴿ بَدِيعُ السَّمَواتِ والأَرْضِ ﴾ يعني منشئها على غير حد ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه، يقال له مبدع، ولذلك قيل لمن خالف في الدين : مبتدع، لإحداثه ما لم يسبق إليه ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ أي أحكمه وحتمه، وأصله الإحكام والفراغ، ومنه قيل للحاكم قاض، لفصله الأمور وإحكامه بين الخصوم، وقيل للميت قد قَضَى أي فرغ من الدنيا، قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تُبّع
معنى قضاهما أي أحكمهما. وقال الشاعر في عمر بن الخطاب :
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها بوائج في أكمامها لم تفتق
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ فإن قيل في أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حالة عدمه أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه، استحال أن يأمر إلا مأموراً، كما يستحيل أن يكون الأمر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده، فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟.
قيل : عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة :
أحدها : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل، أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا وارداً في إيجاد المعدومات.
الثاني : أن الله تعالى عالم، بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه، قبل كونها مشابهة للأشياء التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها كوني، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.
والثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى، عامٌ عن جميع ما يُحْدِثُه، ويكوّنه، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النجم :
قد قالت الأنساع للبطن الحق قدما فآضت كالغسق المحقق
ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقوله عمرو بن حممة الدوسي.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِيَنَآ ءَايَةٌ ﴾ فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم النصارى، وهو قول مجاهد.
والثاني : أنهم اليهود، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أنهم مشركو العرب، وهو قول قتادة والسدي. وقوله :﴿ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللهُ ﴾ يعني هَلاَّ يكلمنا الله، كقول الأشهب بن رملية :
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه إذا رام تطياراً يقال له قَعِ
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضَوْطَرَى لولا الكمى المقنعا
بمعنى هل لا تعدون الكمى المقنعا.
﴿ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود، وهو قول مجاهد.
والثاني : أنهم اليهود والنصارى، وهو قول قتادة.
قوله تعالى :﴿ تَشَابَهتْ قُلُوْبُهُمْ ﴾ يعني في الكفر، وفيه وجهان :
أحدهما : تشابهت قلوب اليهود لقلوب النصارى، وهذا قول مجاهد.
والثاني : تشابهت قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى، وهذا قول قتادة.
قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ يعني محمداً أرسله بدين الحق.
﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ يعني بشيراً بالجنة لمن أطاع، ونذيراً بالنار لمن عصى.
﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ أي لا تكون مؤاخذاً بكفرةِ من كفر بعد البشرى والإنذار، وقرأ بعض أهل المدينة : ولا تَسَلْ عن أصحاب الجحيم، بفتح التاء وجزم اللام، وذكر أن سبب نزولها، ما رواه موسى بن عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله ﷺ :« لَيْتَ شِعري مَا فَعَلَ أَبَوَاي » فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم المؤمنون برسول الله ﷺ، والكتاب هو القرآن، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم علماء اليهود، والكتاب هو التوراة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
﴿ يتلونه حق تلاوته ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يقرؤونه حق قراءة.
والثاني : يتبعونه حق اتباعه، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، وهذا قول الجمهور.
﴿ أولئك يؤمنون به ﴾ يعني بمحمد ﷺ، لأن من قرأ أحد الكتابين، آمن به، لِمَا فيهما من وجوب اتباعه.
قوله تعالى :﴿ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن ﴾ فيه محذوف وتقديره : واذكر إذا ابتلى يعني اختبر، وإبراهيم بالسريانية أب رحيم، وفي الكلمات التي ابتلاه الله تعالى بها، ثمانية أقاويل :
أحدها : هي شرائع الإِسلام، قال ابن عباس : ما ابتلى الله أحداً بهن، فقام بها كلها، غير إبراهيم، ابتلي بالإِسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال :﴿ وإبراهيم الذي وَفَّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ] قال : وهي ثلاثون سهماً :
عشرة منها في سورة براءة :﴿ التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون، الساجدون ﴾ [ التوبة : ١١٢ ].
وعشرة في الأحزاب :﴿ إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ، وَالصَادِقينَ والصَادِقَاتِ، وَالصَابِرِينَ وَالصَابِرَاتِ، وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ، وَالْمُتَصَدِّقِينَ، واَلْمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالْحَافِظِينَ فروجَهُم وَالْحافِظَاتِ، وَالذَاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالْذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغَفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ].
وعشرة في سورة المؤمنين :﴿ قَدْ أفْلَحَ الْمُؤمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِم خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغُوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذيِنَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ، فَمن ابتغى وَرَاءَ ذلِكَ فَأولئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمُ لأَمَانَاتِهِم وَعَهْدِهِم رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونِ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١ - ١١ ] وفي سورة سأل سائل من ﴿ إلا المُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ [ المعارج : ٢٣ ]، إلى ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافظُون ﴾ [ المعارج : ٣٤ ].
والقول الثاني : إنها خصال من سُنَنِ الإسلام، خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فروى ابن عباس في الرأس : قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر البول والغائط بالماء. وهذا قول قتادة.
والقول الثالث : إنها عشر خصال، ست في الإنسان وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان : حَلْقُ العانة، والختان، ونَتْفُ الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغُسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر : الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. روى ذلك الحسن عن ابن عباس.
والقول الرابع : إن الله تعالى قال لإبراهيم : إني مبتليك يا إبراهيم، قال : تجعلني للناس إماماً؟ قال نعم، قال : ومن ذريتي؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين، قال : تجعل البيت مثابة للناس؟ قال : نعم، قال : وأمناً؟ قال : نعم، قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك؟ قال : نعم، قال : وأرنا مناسكنا وتب علينا؟ قال : نعم، قال : وتجعل هذا البلد آمناً؟ قال : نعم، قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن؟ قال : نعم، فهذه الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم، وهذا قول مجاهد.
والخامس : أنها مناسك الحج خاصة، وهذا قول قتادة.
والقول السادس : أنها الخلال الست : الكواكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن، وهذا قول الحسن.
90
والقول السابع : ما رواه سهل بن معاذ بن أنس عن أمه قال : كان النبي ﷺ يقول :« ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : سبحان الله حين تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحُونَ، وله الحمْدُ في السّموَاتِ والأرْضِ وعَشِيّاً وحين تُظْهِرُونَ ». والقول الثامن، ما رواه القاسم بن محمد، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ﷺ :« وَإبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } قَالَ : أتَدْرُونَ مَا وَفَّى؟ قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ : وَفّى عَمَلَ يَوْمٍ بِأرْبَعِ رَكْعَاتٍ فِي النَّهَارِ »
﴿ قَالَ إنَّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً ﴾ أي مقصوداً متبوعاً، ومنه إمام المصلين، وهو المتبوع في الصلاة.
﴿ قال ومن ذريتي ﴾ فاحتمل ذلك وجهين :
أحدهما : أنه طمع في الإمامة لذريته، فسأل الله تعالى ذلك لهم.
والثاني : أنه قال ذلك استخباراً عن حالهم، هل يكونون أهل طاعة فيصيروا أئمة؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصياً وظالماً، لا يستحق الإمامة، فقال :﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
وفي هذا العهد، سبعة تأويلات :
أحدها : أنه النبوة، وهو قول السدي.
والثاني : أنه الإمامة، وهو قول مجاهد.
والثالث : أنه الإيمان، وهو قول قتادة.
والرابع : أنه الرحمة، وهو قول عطاء.
والخامس : أنه دين الله وهو قول الضحاك.
والسادس : أنه الجزاء والثواب.
والسابع : أنه لا عهد عليك لظالم أنه تطيعه في ظلمة، وهو قول ابن عباس.
91
قوله تعالى :﴿ وَإذْ جَعَلْنَا مَثَابَةً لِلنَّاسِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : مجمعاً لاجتماع الناس عليه في الحج والعمرة.
والثاني : مرجعاً من قولهم قد ثابت العلة إذا رجعت. وقال الشاعر :
مثاباً لأفناءِ القبائل كلها تحب إليها اليعملات الذوامل
وفي رجوعهم إليه وجهان :
أحدهما : أنهم يرجعون إليه المرة بعد المرة.
والثاني : أنهم في كل واحد من نُسُكَيَ الحج والعمرة يرجعون إليه من حل إلى حرم؛ لأن الجمع في كل واحد من النسكين بين الحل والحرم شرط مستحق.
قال تعالى :﴿ وَأَمْناً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لأمنه في الجاهلية من مغازي العرب، لقوله :﴿ وءَامَنَهُم مِنْ خَوفٍ ﴾ [ قريش : ٤ ].
والثاني : لأمن الجناة فيه من إقامة الحدود عليهم حتى يخرجوا منه.
﴿ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ﴾ روى حماد، عن أنس بن مالك قال : قال عمر بن الخطاب : قلت يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى :﴿ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى ﴾ بكسر الخاء من قوله واتخذوا على وجه الأمر، وقرأ بعض أهل المدينة :﴿ وَاتَّخّذُوا ﴾ بفتح الخاء على وجه الخبر.
واختلف أهل التفسير في هذا المقام، الذي أُمِرُوا باتخاذه مصلى، على أربعة أقاويل :
أحدها : الحج كله، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه عرفة ومزدلفة والجمار، وهو قول عطاء والشعبي.
والثالث : أنه الحرم كله، وهو قول مجاهد.
والرابع : أنه الحجر الذي في المسجد، وهو مقامه المعروف، وهذا أصح.
وفي قوله :﴿ مُصَلَّى ﴾ تأويلان :
أحدهما : مَدْعَى يَدْعِي فيه، وهو قول مجاهد.
والثاني : أنه مصلى يصلي عنده، وهو قول قتادة، وهو أظهر التأويلين.
قوله تعالى :﴿ وَعَهِدْنآ إِلى إبْرَاهِمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أي أَمَرْنَا.
والثاني : أي أوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل.
﴿ أنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من الأصنام.
والثاني : من الكفار.
والثالث : من الأنجاس.
وقوله تعالى :﴿ بَيْتِيَ ﴾ يريد البيت الحرام.
فإن قيل : فلم يكن على عهد إبراهيم، قبل بناء البيت بيت يطهر، قيل : عن هذا جوابان :
أحدهما : معناه وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن ابنيا بيتي مُطَهَّراً، وهذا قول السدي.
والثاني : معناه أن طهرا مكان البيت.
﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ فيهم تأويلان :
أحدهما : أنهم الغرباء الذين يأتون البيت من غربة، وهذا قول سعيد بن جبير.
والثاني : أنهم الذين يطوفون بالبيت، وهذا قول عطاء.
﴿ وَالْعَاكِفِينَ ﴾ فيهم أربعة تأويلات :
أحدها : أنهم أهل البلد الحرام، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة.
والثاني : أنهم المعتكفون وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنهم المصلون وهذا قول ابن عباس.
والرابع : أنهم المجاورون للبيت الحرام بغير طواف، وغير اعتكاف، ولا صلاة، وهذا قول عطاء.
﴿ والرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ يريد أهل الصلاة، لأنها تجمع ركوعاً وسجوداً.
92
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ﴾ يعني مكة ﴿ وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ ليجمع لأهله الأمن والخصب، فيكونوا في رغد من العيش.
﴿ مَنْ ءَآمَنَ مِنْهُم بِاللهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن هذا من قول إبراهيم متصلاً بسؤاله، أن يجعله بلداً آمناً، وأن يرزق أهله الذين آمنوا به من الثمرات، لأن الله تعالى قد أعلمه بقوله :﴿ لاَ يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ أن فيهم ظالماً هو بالعقاب أحق من الثواب، فلم يسأل أهل المعاصي سؤال أهل الطاعات.
والوجه الثاني : أنه سؤاله كان عاماً مرسلاً، وأن الله تعالى خص الإجابة لمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، ثم استأنف الإخبار عن حال الكافرين، بأن قال :﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ يعني في الدنيا.
﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ ﴾ يعني بذنوبه إن مات على كفره.
واختلفوا في مكة، هل صارت حراماً آمناً بسؤال إبراهيم أو كانت فيه كذلك؟ على قولين :
أحدهما : أنها لم تزل حرماً مِنَ الجَبَابِرَةِ والمُسَلَّطِينَ، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل إبراهيم ربَّه : أن يجعله آمناً من الجذب والقحط، وأن يرزق أهله من الثمرات، لرواية سعيد بن المقبري، قال : سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : إن رسول الله ﷺ لما افتتح مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل، فقام رسول الله ﷺ خطيباً فقال :« يأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليومِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيها دَماً أَوْ يُعَضِّدُ بِهَا شَجَراً، وَأَنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلاَّ هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَباً عَلَى أَهْلِهَا، ألاَ وَهِيَ قَدْ رَجِعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالأَمْسِ، ألاَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ. فَمَنْ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَتَلَ بِهَا فَقُولُوا : إنَّ الله تَعَالَى قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكْ »
والثاني : أن مكة كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم، كسائر البلاد، وأنها بدعوته صارت حرماً آمنا، وبتحريمه لها، كما صارت المدينة بتحريم رسول الله ﷺ حراماً، بعد أن كانت حلالاً، لرواية أشعب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال :« إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللهِ وَخَلِيله، وَإِنِّي عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عَضَاهَا وَصَيْدُهَا، لاَ يُحْمَلُ فِيهَا سِلاَحٌ لِقِتَالٍ، وَلاَ يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ لَعَلَفٍ »
قوله تعالى :﴿ وَإَذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ أول من دله الله تعالى على مكان البيت إبراهيمُ، وهو أول من بناه مع إسماعيل، وأول من حجه، وإنما كانوا قَبْلُ يصلون نحوه، ولا يعرفون مكانه.
والقواعد من البيت واحدتها قاعدة، وهي كالأساس لما فوقها.
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾ والمعنى : يقولان ربنا تقبل منا، كما قال تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيكُم ﴾ أي يقولون سلام عليكم، وهي كذلك في قراءة أبيّ بن كعب :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولاَنِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ﴾. وتفسير « إسماعيل » : إسمع يا الله، لأن إيل بالسريانية هو الله، لأن إبراهيم لما دعا ربه قال : اسمع يا إيل، فلما أجابه ورزقه بما دعا من الولد، سمّى بما دعا.
93
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ ﴾ على التثنية، وقرأ عوف الأعرابي :﴿ مُسْلِمِينَ لك ﴾ على الجمع. ويقال : أنه لم يدع نَبيُّ إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته لهذه الأمة في قوله :﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ والمسلم هو الذي استسلم لأمر الله وخضع له، وهو في الدين القابل لأوامر الله سراً وجهراً.
﴿ وأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ أي عرفنا مناسكنا، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها مناسك الحج ومعالمه، وهذا قول قتادة والسدي.
والثاني : أنها مناسك الذبائح التي تنسك لله تعالى، وهذا قول مجاهد وعطاء.
والمناسك جمع منسك، واختلفوا في تسميته منسكاً على وجهين :
أحدهما : لأنه معتاد ويتردد الناس إليه في الحج والعمرة، من قولهم إن لفلان منسكاً، إذا كان له موضع معتاد لخير أو شر، فسميت بذلك مناسك الحج لاعتيادها.
والثاني : أن النسك عبادة الله تعالى، ولذلك سُمِّي الزاهد ناسكاً لعبادة ربه، فسميت هذه مناسك لأنها عبادات.
94
قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِم ﴾ يعني في هذه الأمة ﴿ رَسُولاً مِنْهُم ﴾ يعني محمداً ﷺ، وقيل في قراءة أبيّ بن كعب ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِي آخِرِهِم رَسُولاً مِنْهُم ﴾.
وقد روى خالد بن معدان : أن نفراً من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال :« نَعَم، أَنَا دَعْوَةُ إبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى
»
. ﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يقرأ عليهم حجتك.
والثاني : يبين لهم دينك.
﴿ ويُعَلِّمُهُم الْكِتَابَ ﴾ يعني القرآن.
﴿ وَالْحِكْمَة ﴾ فيها تأويلان :
أحدهما : أنها السنة، وهو قول قتادة.
والثاني : أنها المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له، وهو قول ابن زيد.
﴿ وَيُزَكِّيهِم ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه يطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان.
والثاني : يزكيهم بدينه إذا اتبعوه فيكونون به عند الله أزكياء.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن ذلك سفّه نفسه، أي فَعَلَ بها من السفه ما صار به سفيهاً، وهذا قول الأخفش.
والثاني : أنها بمعنى سفه في نفسه، فحذف حرف الجر كما حذف من قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾ أي عَلَى عقدة النكاح، وهذا قول الزجَّاج.
والثالث : أنها بمعنى أهلك نفسه وأوْبَقَهَا، وهذا قول أبي عبيدة.
قال المبرِّد وثعلب : سَفِه بكسر الفاء يتعدى، وسفُه بضم الفاء لا يتعدى.
﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ أي اخترناه، ولفظه مشتق من الصفوة، فيكون المعنى : اخترناه في الدنيا للرسالة.
﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ لنفسه في إنجائها من الهلكة.
قوله تعالى :﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ﴾ الهاء كناية ترجع إلى الملة لتَقَدُّم قولهِ :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهيمَ ﴾ ووصّى أبلغ من أوصى، لأن أوصى يجوز أن يكون قاله مرة واحدة، وَوَصَّى لا يكون إلا مراراً. ﴿ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ﴾ والمعنى أن إبراهيم وَصَّى، ثم وَصَّى بعده يعقوبُ بَنِيهِ، فقالا جميعاً :﴿ يَا بَنِيَّ إنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ﴾ يعني اختار لكم الدين، أي الإسلام، ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ فإن قيل : كيف يُنْهَونَ عن الموت وليس من فعلهم، وإنما يُمَاتُون؟ قيل : هذا في سعة اللغة مفهوم المعنى، لأن النهي تَوَجَّهَ إلى مفارقة الإسلام، لا إلى الموت، ومعناه : الزموا الإسلام ولا تفارقوه إلى الموت.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا : كُونُوا هُوداً أوْ نَصَارى تَهْتَدُوا ﴾ يعني أن اليهودَ قالوا : كونوا هوداً تهتدوا، وقالت النصارى : كونوا نصارى تهتدوا، فرد الله تعالى ذلك عليهم، فقال :﴿ قُلْ : بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ وفي الكلام حذف، يحتمل وجهين :
أحدهما : أن المحذوف بل نتبع ملة إبراهيم، ولذلك جاء به منصوباً.
والثاني : أن المحذوف بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر، صار منصوباً، والملة : الدين، مأخوذ من الإملاء، أي ما يُمْلُون من كتبهم.
وأما الحنيف، ففيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه المخلص، وهو قول السدي.
والثاني : أنه المتَّبع، وهو قول مجاهد.
والثالث : الحاج، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والرابع : المستقيم.
وفي أصل الحنيف في اللغة وجهان :
أحدهما : الميل، والمعنى أن إبراهيم حَنَفَ إلى دين الله، وهو الإسلام فسمي حنيفاً، وقيل للرجل أحْنَف لميل كل واحدة من قدميه إلى أختها.
والوجه الثاني : أن أصله الاستقامة، فَسُمِّي دين إبراهيم « الحنيفية » لاستقامته وقيل للرجل أحنف، تطيّراً من الميل وتفاؤلاً بالاستقامة، كما قيل لِلًّدِيغ سليم، وللمُهْلِكةِ من الأرض مفازة.
قوله تعالى :﴿ فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ﴾ فإن قيل : فهل للإيمان مثل لا يكون إيماناً؟ قيل معنى الكلام : فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدَّقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف.
﴿ وَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ يعني في مشاقة وعداوة، وأصل الشِّقَاقِ البُعْدُ، من قولهم قد أخذ فلان في شِقٍّ، وفلان في شِقٍّ آخر، إذا تباعدوا. وكذلك قيل للخارج عن الجماعة، قد شَقَّ عصا المسلمين لبُعْدِهِ عنهم.
قوله تعالى :﴿ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه دين الله، وهذا قول قتادة.
وسبب ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء لهم، ويقولون هذا تطهير لهم كالختان، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال :﴿ صِبْغَةَ اللهِ ﴾ أي صبغة الله أحسن صبغة، وهي الإسلام.
والثاني : أن صبغة الله، هي خلقة الله، وهذا قول مجاهد.
فإن كانت الصبغة هي الدين، فإنما سُمِّيَ الدين صبغة، لظهوره على صاحبه، كظهور الصِّبْغِ عَلَى الثوبِ، وإن كانت هي الخلقة فلإحداثه كإحداث اللون على الثوب.
قوله تعالى :﴿ أَمْ تَقُولُونَ إنَّ إبْرَاهِيمَ ﴾ يعني قالوا :﴿ إنَّ إبْرَاهِيمَ وإِسْمَاعِيلَ وَإِسَحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ ﴾ وهم إثنا عشر سَبْطاً من ولد يعقوب، والسَبْطُ الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد، والسَبْطُ في اللغة : الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض ﴿ كَانُوا هُوداً أوْ نَصَارَى قُلْ : أَأَنْتُم أَعْلَمُ أمِ اللهُ ﴾ يعني اليهود تزعم أن هؤلاء كانوا هوداً، والنصارى تزعم أنهم كانوا نصارى، فرد الله عليهم بأن الله تعالى أعلم بهم منكم، يعني بأنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى.
﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ من كتمان الشهادة، والارتشاء عليها من أغنيائهم وسفائهم.
قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ السُّفَهَاءُ : واحده سَفِيه، والسَّفِيهُ : الخفيف الحلم، من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، ورمح سفيه إذا أسرع نفوذه.
وفي والمراد بالسفهاء هَا هُنَا ثلاثة أقاويل :
أحدها : اليهود، وهو قول مجاهد.
والثاني : المنافقون، وهو قول السدي.
والثالث : كفار قريش وحكاه الزجاج.
﴿ مَا ولاَّهم عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ يعني ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس، حيث كان يستقبلها رسول الله ﷺ بمكة، بعد هجرته إلى المدينة بستة عشر شهراً في رواية البراء بن عازب، وفي رواية معاذ بن جبل : ثلاثة عشر شهراً، وفي رواية أنس بن مالك تسعة أشهر أو عشرة أشهر، ثم نُسِخَتْ قبلةُ بيت المقدس باستقبال الكعبة، ورسول الله ﷺ بالمدينة في صلاة الظهر وقد صلى منها ركعتين نحو بيت المقدس، فانصرف بوجهه إلى الكعبة، هذا قول أنس بن مالك، وقال البراء بن عازب : كنا في صلاة العصر بقباء، فمر رجل على أهل المسجد وهم ركوع في الثانية، فقال : أشهد لقد صَلَّيت مع رسول الله ﷺ قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت، وقِبَلُ كل شيءٍ : ما قَابَل وَجْهَه.
واختلف أهل العلم في استقبال رسول الله ﷺ بيت المقدس، هل كان برأيه واجتهاده، أو كان عن أمر الله تعالى لقوله :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ التَّي كُنْتَ عَلَيْهَا إلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُوُلَ ﴾، وهذا قول ابن عباس وابن جريج.
والقول الثاني : أنه كان يستقبلها برأيه واجتهاده، وهذا قول الحسن، وعكرمة، وأبي العالية، والربيع. واختلفوا في سبب اختياره بيت المقدس على قولين :
أحدهما : أنه اختار بيت المقدس ليتألَّف أهل الكتاب، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
والثاني : لأن العرب كانت تحج البيت غير آلفة لبيت المقدس، فأحب الله أن يمتحنهم بغير ما ألفوه، ليعلم من يتبع ممن ينقلب على عَقِبَيْهِ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، فلما استقبل رسول الله ﷺ الكعبة، قال ابن عباس : أتى رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف والربيع وكنانة بن أبي الحُقَيْقِ، فقالوا لرسول الله ﷺ : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملةِ إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها، نتبعك ونصدقك. وإنما يريدون فتنته عن دينه، فأنزل الله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيها؟ قُل : لِلَّهِ الْمَشْرِقْ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقيمٍ ﴾ يعني حيثما أمر الله تعالى باستقباله من مشرق أو مغرب والصراط : الطريق : والمستقيم : المستوي.
100
قوله تعالى :﴿ وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾. فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني خياراً، من قولهم فلان وسط الحَسَبِ في قومه، إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه، ومنه قول زهير :
هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الإلهُ بِحُكْمِهِمْ إذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيالي بِمُعَظَّمِ
والثاني : أن الوسط من التوسط في الأمور، لأن المسلمين تَوَسَّطُوا في الدين، فلا هم أهل غلوٍّ فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كاليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتَّلوا أنبياءهم وكَذَبوا على ربهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم وسط، لأن أحب الأمور إليه أوسطها.
والثالث : يريد بالوسط : عدلاً، لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان، وقد روى أبو سعيد الخدري، عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً ﴾ أي عَدْلاً.
﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لتشهدوا على أهل الكتاب، بتبليغ الرسول إليهم رسالة ربهم.
والثاني : لتشهدوا على الأمم السالفة، بتبليغ أنبيائهم إليهم رسالة ربهم، وهذا مروي عن النبي ﷺ، أن الأمم السالفة تقول لهم : كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا، فيقولون أعْلَمَنَا نبيُّ الله بما أُنْزِلَ عليه من كتاب الله.
والثالث : أن معنى قوله :﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ أي لتكونوا مُحْتَجِّينَ على الأمم كلها، فعبر عن الاحتجاج بالشهادة، وهذا قول حكاه الزجاج.
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يكون الرسول شهيداً على أمته أنْ قد بلّغ إليهم رسالة ربه.
والثاني : أنّ معنى ذلك أنْ يكون شهيداً لهم بإيمانهم، وتكون ( عليهم ) بمعنى ( لهم ).
والثالث : أن معنى قوله :﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيداً ﴾ أي مُحْتَجّاً.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾ أي بيت المقدس، ﴿ إلاّ لِنَعَلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ فإن قيل : الله أعلم بالأشياء قبل كونها، فكيف جعل تحويل القِبْلة طريقاً إلى علمه؟ قيل : في قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : يعني إلا ليعلم رسولي، وحزبي، وأوليائي؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتْباعُ الرئيس إليه، كما قالوا : فتح عمرُ بنُ الخطاب سوادَ العراق وجبي خَرَاجَهَا.
والثاني : أن قوله تعالى :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى : إلا لنرى، والعرب قد تضع العلمَ مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كما قال تعالى ﴿ ألَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [ الفيل : ١ ] يعني : ألم تعلم.
والثالث : قوله تعالى :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم الله بالأشياء قبل كونها.
والرابع : أن قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك، وهذا قول ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ ﴾ بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة ﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ بمعنى : ممن يَرْتَدُّ عن دينه، لأن المرتد راجع مُنْقَلِب عما كان عليه، فشبهه بالمُنْقلِب على عقبه، لأن القبلة لمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ من المسلمين قَوْمٌ، ونافق قوم، وقالت اليهود : إن محمداً قد اشتاق إلى بلد أبيه، وقالت قريش : إن محمداً قد علم أننا على هدى وسَيُتَابِعُنَا.
101
ثم قال تعالى :﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ، وهذا هو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني : إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله ﷺ يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل، وهذا قول أبي العالية الرياحي.
والثالث : أن الكبيرة هي الصلاة، التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم ﴾ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل، وسبب ذلك أن المسلمين لما حُوِّلُوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة، قالوا لرسول الله ﷺ : كيف من مات من إخواننا؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُم ﴾.
فإن قيل : هم سألوه عن صلاةِ غيرهم، فأجابهم بحال صلاتهم؟ قيل : لأن القوم أشفقوا، أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس مُحْبَطةً لمنْ مات ومن بقي، فأجابهم بما دَلَّ على الأمرين، على أنه قد روى قوم أنهم قالوا : كيف تضيع صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى ذلك. ﴿ إنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ الرأفة : أشد من الرحمة، وقال أبو عمر عمرو بن العلاء : الرأفة أكثر من الرحمة.
102
قوله تعالى :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَآءِ ﴾ هذه الآية متقدمة في النزول على قوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِن النَّاسِ ﴾.
وفي قوله :﴿ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : معناه : تحول وجهك نحو السماء، وهذا قول الطبري.
والثاني : معناه : تقلب عينيك في النظر إلى السماء، وهذا قول الزجاج.
﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلةً تَرضاها ﴾ يعني الكعبة كان رسول الله ﷺ يرضاها ويختارها ويسأل [ ربه ] أن يُحوَّل إليها.
واختُلِفَ في سبب اختياره لذلك على قولين :
أحدهما : مخالفة اليهود وكراهة لموافقتهم، لأنهم قالوا : تتبع قبلتنا وتخالفنا في ديننا؟ وبه قال مجاهد، وابن زيد.
والثاني : أنه اختارها، لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم، وبه قال ابن عباس.
فإن قيل : أكان رسول الله ﷺ غير راض ببيت المقدس أن يكون له قبلة، حتى قال تعالى له في الكعبة ﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكْ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ ؟ قيل : لا يجوز أن يكون رسول الله غير راض ببيت المقدس، لَمَّا أمره الله تعالى به، لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى، لكن معنى ترضاها : أي تحبها وتهواها، وإنما أحبها مع ما ذكرنا من القولين الأولين، لما فيها من تآلف قومه وإسراعهم إلى إجابته، ويحتمل أن يكون قوله :﴿ تَرْضَاهَا ﴾ محمولاً على الحقيقة بمعنى : ترضى ما يحدث عنها من التأليف، وسرعة الإجابة، ثم قال تعالى مجيباً لرغبته وآمراً بطَلِبَتِه :﴿ فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي حَوِّلْ وجهك في الصلاة، شطر المسجد الحرام أي : نحو المسجد الحرام، كما قال الهذلي :
إنَّ العسير بها دَاءٌ يُخَامِرُها فشطرُهَا نظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
أي نحوها، والشطر من الأضداد، يقال : شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا بَعُدَ منه وأعرض عنه، وشِطْرُ الشيء : نصفه، فأما الشاطر من الرجال فلأنه قد أخذ في نحوٍ غير الإِستواء.
قوله تعالى :﴿ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ يعني به الكعبة، لأنها فيه فعبر به عنها. واختلف أهل العلم في المكان، الذي أمر رسول الله ﷺ أن يولي وجهه إليه :
فقال عبد الله بن عمرو بن العاص :﴿ فَلَنُولِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ قال : حيال ميزاب الكعبة.
وقال عبد الله بن عباس : البيت كله، وقبلة البيت الباب.
ثم قال تعالى :﴿ وَحَيْثُمَا كَنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطْرَهُ ﴾ يعني نحو المسجد الحرام أيضاً تأكيداً للأمر الأول لأن عمومه يقتضيه، لكن أراد بالتأكيد احتمال التخصيص، ثم جعل الأمر الأول مواجهاً به النبي ﷺ، والثاني مواجهاً به جميع الناس، فكلا الأمرين عام في النبي ﷺ وجميع أمته، لكن غاير بين الأمرين ليمنع من تغيير الأمر في المأمور به، وليكون كل واحد منهما جارياً على عمومه.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ يعني اليهود والنصارى.
﴿ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ يعني تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة.
﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ من الخوض في إِفْتَانِ المسلمين عن دينهم بذلك.
قوله تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ يعني استقبال الكعبة.
﴿ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُم ﴾ يعني استقبال بيت المقدس، بعد أن حُوِّلَتْ قِبْلَتُك إلى الكعبة.
﴿ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابٍعِ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾ يعني أن اليهود لا تتبع النصارى في القبلة، فهم فيها مختلفون، وإن كانوا على معاندة النبي ﷺ متفقين.
﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ يعني في القبلة.
﴿ مَن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ يعني في تحويلها عن بيت المقدس إلى الكعبة.
﴿ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ وليس يجوز أن يفعل النبي ما يصير به ظالماً.
وفي هذا الخطاب وجهان :
أحدهما : أن هذه صفة تنتفي عن النبي، وإنما أراد بذلك بيان حكمها لو كانت.
والوجه الثاني : أن هذا خطاب للنبي والمراد به أمته.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ يعني اليهود والنصارى، أوتوا التوراة، والإنجيل.
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُمُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعرفون أن تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة حق كما يعرفون أبناءهم.
والثاني : يعرفون الرسول وصدق رسالته كما يعرفون أبناءهم.
﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ ﴾ يعني علماءَهم وخواصَّهمْ.
﴿ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الحق هو استقبال الكعبة.
والثاني : أن الحق محمد ﷺ، وهذا قول مجاهد وقتادة.
﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعلمون أنه حق متبوع.
والثاني : يعلمون ما عليه من العقاب المستحق.
﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرتك به شهود من قبلتهم.
﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ أي من الشاكِّين يقال : امترى فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مَرَّةً، والشك أخرى، فدافع أحدهما بالآخر.
فإن قيل : أفكان شاكّاً حين نهى عنه؟ قيل : هذا وإن كان خطاباً للنبي ﷺ فالمراد به غيره من أمته.
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ يعني ولكل أهل ملة من سائر الملل وجهة هو مولِّيها. وفيه قولان :
أحدهما : قبلة يستقبلونها، وهو قول ابن عباس وعطاء والسدي.
والثاني : يعني صلاة يصلونها، وهو قول قتادة.
وفي قوله تعالى :﴿ هُوَ مُوَلِّيها ﴾ قولان :
أحدهما : أن أهل كل وجهة هم الذين يَتَوَلَّونَهَا ويستقبلونها.
والثاني : أن أهل كل وجهةٍ الله تعالى هو الذي يوليهم إليها ويأمرهم باستقبالها، وقد قرئ ﴿ هُوَ مَوْلاها ﴾ وهذا حسن يدل على الثاني من القولين.
﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه فسارعوا إلى الأعمال الصالحة، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
والثاني : معناه : لا تُغلَبوا على قبلتكم بما تقول اليهود من أنكم إذا اتبعتم قبلتهم اتبعوكم، وهذا قول قتادة.
﴿... يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ﴾ إلى الله مرجعكم جميعاً، يعني يوم القيامة.
﴿ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ يعني على إعادتكم إليه أحياء بعد الموت والبلى.
ثم أكد الله أمره في استقبال الكعبة، لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين، بإعادته فقال :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ تبييناً لِنَبِيِّهِ وصرفاً له عن الاغترار بقول اليهود : أنهم يتبعونه إن عاد.
﴿ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقول ذلك ترغيباً لهم في الخير.
والثاني : تحذيراً من المخالفة.
ثم أعاد الله تعالى تأكيد أمره، ليخرج من قلوبهم ما استعظموه من تحويلهم إلى غير ما أَلِفُوه، فقال :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ فأفاد كل واحد من الأوامر الثلاثة مع استوائها في التزام الحكم فائدة مستجده :
أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره، وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى :
﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ أنه لا يتعقبه نسخ.
وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه، لقوله :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ ﴾ ليس يريد أن لهم عليكم حجة. وفيه قولان :
أحدهما : أن المعنى، ولكن الذين ظلموا قد يحتجون عليكم بأباطيل الحجج، وقد ينطلق اسم الحجة على ما بطل منها، لإقامتها في التعلق بها مقام الصحيح حتى يظهر فسادها لمن علم، مع خفائها على من جهل، كما قال تعالى ﴿ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ فَسَمَّاهَا حجة، وجعلها عند الله دَاحِضَةْ.
والقول الثاني : أن المعنى لِئَلاَّ يكون للناس عليكم حُجَّةٌ بعد الذين ظلموا، فتكون ( إلاّ ) بمعنى ( بعد ) ] كما قيل في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنكَحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاءُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ النساء : ٢٢ ] أي بعدما قد سلف. وكما قيل في قوله تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوتَ إِلاَّ المَوتَةَ الأولى ﴾ [ الدخان : ٥٦ ] أي بعد الموتة الأولى. وأراد بالذين ظلموا قريشاً واليهود، لقول قريش حين استقبل الكعبة : قد علم أننا على هُدًى، ولقول اليهود : إن رَجَعَ عنها تابعناه.
﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَونِي ﴾ في المخالفة ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : فيما هديناكم إليه من القبلة.
والثاني : ما أعددته لكم من ثواب الطاعة.
قوله تعالى :﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ﴾ يعني من العرب ﴿ رَسُولاً مِّنكُمْ ﴾ يعني محمداً ﷺ ﴿ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَآيَاتِنَا ﴾ يعني القرآن.
﴿ وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني يطهركم من الشرك.
والثاني : أن يأمركم بما تصيرون به عند الله أزكياء.
﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكَتَابَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : القرآن.
والثاني : الإخبار بما في الكتب السالفة من أخبار القرون الخالية.
﴿ وَالحِكْمَةَ ﴾ فيها تأويلان :
أحدهما : السنّة.
والثاني : مواعظ القرآن.
﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ يعني من أحكام الدين وأمور الدنيا.
﴿ فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : اذكروني بالشكر أذكركم بالنعمة.
والثاني : اذكروني بالقبول أذكركم بالجزاء.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاَةِ ﴾ أما الصبر ها هنا ففيه قولان :
أحدهما : الثبات على أوامر الله تعالى.
والثاني : الصيام المقصود به وجه الله تعالى.
وأما الاستعانة بالصلاة فتحتمل وجهين :
أحدهما : الاستعانة بثوابها.
والثاني : الاستعانة بما يُتلى في الصلاة ليعرف به فضل الطاعة فيكون عوناً على امتثال الأوامر.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ وسبب ذلك أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحُد : مات فلان، ومات فلان، فنزلت الآية وفيها تأويلان :
أحدهما : أنهم ليسوا أمواتاً وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام.
والثاني : أنهم ليسوا بالضلال أمواتاً بل هم بالطاعة والهدى أحياء، كما قال تعالى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [ الأنعام : ١٢٢ ] فجعل الضالَّ ميتاً، والمُهْتَدي حياً.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أنهم ليسوا أمواتاً بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر.
قوله تعالى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم ﴾ يعني أهل مكة، لما تقدم من دعاء النبي ﷺ أن يجعلها عليهم سنين كسني يوسفَ حين قحطوا سبع سنين، فقال الله تعالى مجيباً لدعاء نبيه :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالجُوعِ ﴾ الخوف يعني الفزع في القتال، والجوع يعني المجاعة بالجدب.
﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ الأمَوَالِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : نقصها بالجوائح المتلفة.
والثاني : زيادة النفقة في الجدب.
﴿ وَالأَنفُسِ ﴾ يعني ونقص الأنفس بالقتل والموت. ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ قلة النبات وارتفاع البركات.
﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : وبشر الصابرين على الجهاد بالنصر.
والثاني : وبشر الصابرين على الطاعة بالجزاء.
والثالث : وبشر الصابرين على المصائب بالثواب، وهو أشبه لقوله من بعد :
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ يعني : إذا أصابتهم مصيبة في نفس أو أهل أو مال قالوا : إنا لله : أي نفوسنا وأهلونا وأموالنا لله، لا يظلمنا فيما يصنعه بنا ﴿ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ يعني بالبعث في ثواب المحسن ومعاقبة المسيء.
ثم قال تعالى في هؤلاء :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ الصلاة اسم مشترك المعنى فهي من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً ﴾. وقال الشاعر :
صلّى على يحيى وأشياعه رَبٌّ كريمٌ وشفيع مطاع
قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ أي رحمة، وذكر ذلك بلفظ الجمع لأن بعضها يتلو بعضاً.
ثم قال :﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾ فأعادها مع اختلافها للفظين لأنه أوكد وأبلغ كما قال :﴿ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾.
وفي قوله تعالى :﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ وجهان محتملان :
أحدهما : المهتدون إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
والثاني : المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ﴾ أما الصفا والمروة فهما مبتدأ السعي ومنتهاه. وفيه قولان :
أحدهما : أن الصفا : الحجارة البيض، والمروة الحجارة السود. واشتقاق الصفا من قولهم صفا يصفو إذا خَلَص، وهو جمع واحده صفاة.
والثاني : أن الصفا : الحجارة الصلبة التي لا تنبت شيئاً، والمروة الحجارة الرخوة، وهذا أظهر القولين في اللغة. يدل على الصفا قول الطرماح :
أبت لي قوتي والطول إلاّ يؤيسَ حافراً أبداً صفاتي
ويدل على المروة قول الكميت :
ويُوَلّي الأرضَ خفاً ذابلاً فإذا ما صادف المَرْوَ رضخ
وحُكِيَ عن جعفر بن محمد قال : نزل آدم على الصفا، وحواء على المروة، فَسُمِّي الصفا باسم آدم المصطفى وسميت المروة باسم المرأة.
وقيل إن اسم الصفا ذكّر بإساف وهو صنم كان عليه مذكر الاسم، وأنثت المروة بنائلة وهو صنم كان عليه مؤنث الاسم.
وفي قوله :﴿ مِن شَعَائِرِ اللهِ ﴾ وجهان :
أحدهما : يعني من معالم الله التي جعلها لعباده معلماً، ومنه قول الكميت :
نقتّلهم جيلاً فجيلاً تراهُمُ شعائر قربان بها يُتَقَرَّبُ
والثاني : إن الشعائر جمع شعيرة وهو الخبر الذي أخبر الله تعالى عنه، وهي من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة وما عليهم من الطواف بهما، وهذا قول مجاهد.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾ أما الحج ففيه قولان :
أحدهما : أنه القصد، سمي به النسك لأن البيت مقصود فيه، ومنه قول الشاعر :
وأشهد من عوف حلولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
يعني بقوله يحجون أي يكثرون التردد إليه لسؤدده ورياسته، فسمي الحج حجاً لأن الحاج يأتي قِبَلَ البيت ثم يعود إليه لطواف الإفاضة، ثم ينصرف إلى منى ويعود إليه لطواف الصدر، فلتكرر العَوْد إليه مرة بعد أخرى قيل له : حاجّ.
وأما العمرة ففيها قولان :
أحدهما : أنها القصد أيضاً، وكل قاصد لشيء فهو معتمر، قال العجاج :
لقد غزا ابن معمر حين اعتمر مَغْزىً بعيداً من بعيد وصَبَر
يعني بقوله حين اعتمر أي حين قصد.
والقول الثاني : أنها الزيارة ومنه قول الشاعر :
وجاشت النفسُ لمَّا جاءَ فَلُّهم وراكب جاءَ من ( تثليث ) معتمرا
أي زائراً.
ثم قال تعالى :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ ورفع الجناح من أحكام المباحث دون الواجبات.
فذهب أبو حنيفة على أنّ السعي بين الصفا والمروة غير واجب في الحج والعمرة منسكاً بأمرين :
أحدهما : قوله تعالى :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ ورفع الجناح من أحكام المباحات دون الواجبات.
والثاني : أن ابن عباس وابن مسعود قَرَء :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾.
وذهب الشافعي، ومالك، وفقهاء الحرمين، إلى وجوب السعي في النسكين تمسكاً بفحوى الخطاب ونص السنة، وليس في قوله :﴿ فَلاَ جُنَاحَ ﴾ دليل على إباحته دون وجوبه، لخروجه على سبب، وهو أن الصفا كان عليه في الجاهلية صنم اسمه إساف، وعلى المروة صنم اسمه نائلة، فكانت الجاهلية إذا سعت بين الصفا والمروة طافوا حول الصفا والمروة تعظيماً لإساف ونائلة، فلما جاء الإسلام وألغيت الأصنام تَكَرَّهَ المسلمون أن يُوَافِقُوا الجاهلية في الطواف حول الصفا والمروة، مجانبةً لما كانوا عليه من تعظيم إساف ونائلة، فأباح الله تعالى ذلك لهم في الإسلام لاختلاف القصد فقال :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾. وأما قراءة ابن مسعود، وابن عباس :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾، فلا حجة فيها على سقوط فرض السعي بينهما لأن ( لا ) صلة في الكلام إذا تقدمها جَحْد، كقوله تعالى :
111
﴿ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] بمعنى ما منعك أن تسجد، وكما قال الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عُمَرُ
﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ومن تطوع بالسعي بين الصفا والمروة، وهذا قول مَنْ أسقط وجوب السعي.
والثاني : ومن تطوع بالزيادة على الواجب، وهذا قول من أوجب السعي.
والثالث : ومن تطوع بالحج والعمرة بعد أداء فرضهما.
﴿ فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ يحتمل تأويلين :
أحدهما : شاكر للعمل عليم بالقصد.
والثاني : شاكر للقليل عليم بالثواب.
112
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ﴾ قيل : هم رؤساء اليهود، كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسد، وابن صوريا، وزيد بن التابوت، هم الذين كتموا ما أنزل الله.
﴿ مَنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن البينات هي الحجج الدالة على نبوة محمد ﷺ، والهدى : الأمر باتباعه.
والثاني : أن البينات والهدى واحد، والجمع بينهما تأكيد، وذلك ما أبان عن نبوته وهدى إلى اتباعه.
﴿ مَنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الْكِتَابِ ﴾ يعني القرآن.
﴿ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ﴾ فيهم أربعة أقوال :
أحدها : أنهم كل شيء في الأرض من حيوان وجماد إلا الثقلين الإنس والجن، وهذا قول ابن عباس والبراء بن عازب.
والثاني : اللاعنون : الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت اللعنة على اليهود، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث : أنهم البهائم، إذا يبست الأرض قالت البهائم هذا من أجل عُصاةِ بني آدم، وهذا قول مجاهد وعكرمة.
والرابع : أنهم المؤمنون من الإنس والجن، والملائكة يَلعنون مَنْ كَفَر بالله واليوم الآخر، وهذا قول الربيع بن أنس.
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا ﴾ يعني بالإسلام من كفرهم ﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إصلاح سرائرهم وأعمالهم.
والثاني : أصلحوا قومهم بإرشادهم إلى الإسلام ﴿ وَبَيَّنُوا ﴾ يعني ما في التوراة من نبوة محمد ﷺ ووجوب اتَباعه ﴿ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِم ﴾ والتوبة من العباد : الرجوع عن الذنب، والتوبة من الله تعالى : قبولها من عباده.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ وإنما شرط الموت على الكفر لأن حُكْمَهُ يستقر بالموت عليه ويرتفع بالتوبة منه. ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ ﴾ واللعنة من العباد : الطرد، ومن الله تعالى : العذاب. ﴿ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ وقرأ الحسن البصري :﴿ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعُونَ ﴾ بالرفع، وتأويلها : أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله وتلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون.
فإن قيل : فليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم، قيل : عن هذا جوابان :
أحدهما : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة جميع الناس، فغلب حكم الأكثر على الأقل.
والثاني : أن المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس كما قال تعالى :﴿ يَومَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضِ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ].
ثم قال تعالى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لا يخفف بالتقليل والاستراحة.
والثاني : لا يخفف بالصبر عليه والاحتمال له.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يؤخرون عنه ولا يمهلون.
والثاني : لا ينظر الله تعالى إليهم فيرحمهم.
قوله تعالى :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ أراد بذلك أمرين :
أحدهما : أن إله جميع الخلق واحد، لا كما ذهبت إليه عبدة الأصنام من العرب وغيرهم أن لكل قوم إلَهاً غير إله من سواهم.
والثاني : أن الإله وإنْ كان إلهاً لجميع الخلق فهو واحد لا ثاني له ولا مثل له. ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ لآَّ إِلّهَ إِلاَّ هُوَ ﴾، ثم وصف فقال :﴿ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ ترغيباً في عبادته وحثاً على طاعته.
ثم دل على ما ذكرهم من وحدانيته وقدرته، بقوله تعالى :﴿ إِنَّ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ :
فآية السماء : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها، ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة.
وآية الأرض : بحارها، وأنهارها، ومعادنها، وشجرها، وسهلها، وجبلها.
وآية الليل والنهار : اختلافها بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، فيقبل الليل من حيث لا يعلم، ويدبر النهار إلى حيث لا يعلم، فهذا اختلافهما.
ثم قال :﴿ وَالْفُلْكِ الَّتي تَجْرِي في الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ الفلك : السفن، الواحدُ والجمع بلفظ واحد، وقد يذكر ويؤنث. والآية فيها : من وجهين :
أحدهما : استقلالها لحملها. والثاني : بلوغها إلى مقصدها.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ ﴾ يعني به المطر المنزل منها، يأتي غالباً عند الحاجة، وينقطع عند الاستغناء عنه، وذلك من آياته. ثم قال تعالى :﴿ فَأَحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ وإحياؤها بذلك قد يكون من وجهين :
أحدهما : ما تجري به أنهارها وعيونها.
والثاني : ما ينبت به من أشجارها وزروعها، وكلا هذين سبب لحياة الخلق من ناطق وبُهْم.
ثم قال تعالى :﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾ يعني جميع الحيوان الذي أنشأه فيها، سماه ( دابة ) لدبيبه عليها، والآية فيها مع ظهور القدرة على إنشائها من ثلاثة أوجه :
أحدها : تباين خلقها.
والثاني : اختلاف معانيها.
والثالث : إلهامها وجوه مصالحها.
ثم قال تعالى :﴿ وَتَصْرِيفَ الرِّيَاحِ ﴾ والآية فيها من وجهين :
أحدهما : اختلاف هبوبها في انتقال الشمال جنوبها، والصبا دبوراً، فلا يعلم لانتقالها سبب، ولا لانصرافها جهة.
والثاني : ما جعله في اختلافها من إنعام ينفع، وانتقام يؤذي.
وقد روى سعيد بن جبير عن شريح قال : ما هاجت ريح قط إلا لسُقْمِ صحيح أو لشفاء سقيم والرياح جمع ريح وأصلها أرواح. وحكى أبو معاذ أنه كان في مصحف حفصة :﴿ وَتَصْرِيفِ الأرْوَاحِ ﴾.
وقال ابن عباس : سميت الريح لأنها تريح ساعة بعد ساعة. قال ذو الرمة :
إذا هبت الأرواح من نحو جانب به آل مَيٍّ هاج شوقي هبوبها
ثم قال تعالى :﴿ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ المسخر : المذلل، والآية فيه من ثلاثة أوجه :
أحدها : ابتداء نشوئه وانتهاء تلاشيه.
والثاني : ثبوته بين السماء والأرض من غير عَمَد ولا علائق.
والثالث : تسخيره وإرساله إلى حيث يشاء الله تعالى.
وهذه الآية قد جمعت من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ما صار لذوي العقول مرشداً وإلى الحق قائداً. فلم يقتصر الله بنا على مجرد الإخبار حتى قرنه بالنظر والاعتبار.
ثم أخبر أن مع هذه الآيات الباهرة لذوي العقول ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً ﴾ والأنداد الأمثال، واحدها ند، والمراد به الأصنام التي كانوا يتخذونها آلهة يعبدونها كعبادة الله تعالى مع عجزها عن قدرة الله في آياته الدالة على وحدانيته.
ثم قال تعالى :﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ ﴾ يعني أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب الله مع قدرته.
﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾ يعني من حب أهل الأوثان لأوثانهم، ومعناه أن المخلصين لله تعالى هم المحبون حقاً.
قوله تعالى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أن الذين اتبعوا هم السادة والرؤساء تبرؤوا ممن اتبعهم على الكفر، وهذا قول عطاء.
والثاني : أنهم الشياطين تبرؤوا من الإنس، وهذا قول السدي.
﴿ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ يعني به المتبوعين والتابعين. وفي رؤيتهم للعذاب وجهان محتملان :
أحدهما : تيقنهم له عند المعاينة في الدنيا.
والثاني : أن الأمر بعذابهم عند العرض والمساءلة في الآخرة.
﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن الأسباب تواصلهم في الدنيا، وهو قول مجاهد وقتادة.
والثاني : المنازل التي كانت لهم في الدنيا، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أنها الأرحام، وهو رواية ابن جريج عن ابن عباس.
والرابع : أنها الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، وهو قول السدي.
والخامس : أنها العهود والحلف الذي كان بينهم في الدنيا.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مَنْهُم كَمَا تَبَرَّءُوا مَنَّا ﴾ يريد بذلك أن الأتباع قالوا للمتبوعين لو أن لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منكم فيها كما تبرأتم منا في الآخرة.
﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ يريد المتبوعين والأتباع، والحسرة شدة الندامة على محزون فائت.
وفي ﴿ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ وجهان :
أحدهما : برهم الذي حبط بكفرهم، لأن الكافر لا يثاب مع كفره.
والثاني : ما نقصت به أعمارهم في أعمال المعاصي أن لا تكون مصروفة إلى طاعة الله.
﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ يريد به أمرين :
أحدهما : فوات الرجعة.
والثاني : خلودهم في النار.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا في الأَرْضِ حَلَلاً طَيِّباً ﴾ قيل إنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الأنعام والزرع، فأباح لهم الله تعالى أكله وجعله لهم حلالاً طيباً.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ وهي جمع خطوة، واختلف أهل التفسير في المراد بها على أربعة أقاويل :
أحدها : أن خطوات الشيطان أعماله، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنها خطاياه وهو قول مجاهد.
والثالث : أنها طاعته، وهو قول السدي.
والرابع : أنها النذور في المعاصي.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ أي ظاهر العداوة.
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالفَحْشَآءِ ﴾ قال السدي : السوء في هذا الموضع معاصي الله، سميت سوءاً لأنها تسوء صاحبها بسوء عواقبها.
وفي الفحشاء ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : الزنى.
والثاني : المعاصي.
والثالث : كل ما فيه الحد، سمي بذلك لفحش فعله وقبح مسموعه.
﴿ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرمه الله عليكم.
والثاني : أن تجعلوا له شريكاً.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتٌّبِعُوا مَا أَنَزَلَ اللهُ ﴾ يعني في تحليل ما حرموه من الأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام ﴿ قَالُوا : بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا ﴾ يعني في تحريم ذلك عليهم.
قوله تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن مثل الكافر فيما يوعظ به مثل البهيمة التي ينعق بها تسمع الصوت ولا تفهم معناه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني : مثل الكافر في دعاء آلهته التي يعبدها من دون الله كمثل راعي البهيمة يسمع صوتها ولا يفهمه، وهذا قول ابن زيد.
﴿ صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ أي صم عن الوعظ فلا يسمعونه، بكم عن الحق فلا يذكرونه، عمي عن الرشد فلا يبصرونه فهم لا يعقلونه، لأنهم إذا لم يعملوا بما يسمعونه ويقولونه ويبصرونه كانوا بمثابة من فقد السمع والنطق والبصر. والعرب تقول لمن سمع ما لا يعمل به : أصم. قال الشاعر :
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ﴾ أخبر الله تعالى بما حرم بعد قوله :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ليدل على تخصيص التحريم من عموم الإباحة، فقال :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ﴾ وهو ما فات روحه بغير ذكاة. ﴿ وَالدَّمَ ﴾ هو الجاري من الحيوان بذبح أو جرح.
﴿ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : التحريم مقصور على لحمه دون غيره اقتصاراً على النص، وهذا قول داود بن علي.
والثاني : أن التحريم عام في جملة الخنزير، والنص على اللحم تنبيه على جميعه لأنه معظمه، وهذا قول الجمهور.
﴿ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ﴾ يعني بقوله :﴿ أُهِلَّ ﴾ أي ذبح وإنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ذكروا عنده اسم آلهتهم وجهروا به أصواتهم، فسمي كل ذابح جَهَر بالتسمية أو لم يجهر مُهِلاً، كما سمي الإحرام إهلالاً لرفع أصواتهم عنده بالتلبية حتى صار اسماً له وإن لم يرفع عنده صوت. وفي قوله تعالى :﴿ لِغَيْرِ اللهِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : ما ذبح لغير الله من الأصنام وهذا قول مجاهد وقتادة.
والثاني : ما ذكر عليه اسم غير الله، وهو قول عطاء والربيع.
﴿ فَمَنِ اضَطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ اضطر افتُعل من الضرورة، وفيه قولان :
أحدهما : معناه : فمن أكره على أكله فلا إثم عليه، وهو قول مجاهد.
والثاني : فمن احتاج إلى أكله لضرورة دعته من خوف على نفس فلا إثم عليه، وهو قول الجمهور.
وفي قوله :﴿ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : غير باغ على الإمام ولا عاد على الأمة بإفساد شملهم، فيدخل الباغي على الإمام وأمته والعادي : قاطع الطريق، وهو معنى قول مجاهد وسعيد بن جبير.
والثاني : غير باغ في أكله فوق حاجته ولا عاد يعني متعدياً بأكلها وهو يجد غيرها، وهو قول قتادة، والحسن، وعكرمة، والربيع، وابن زيد.
والثالث : غير باغٍ في أكلها شهوة وتلذذاً ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع، وهو قول السدي. وأصل البغي في اللغة : قصد الفساد يقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فَجَرَتْ. وقال الله تعالى :﴿ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ [ النور : ٣٣ ] وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد، والعرب تقول خرج الرجل في بغاء إبلٍ له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر :
لا يمنعنّك من بغا... ء الخير تعقادُ التمائم
إن الأشائم كالأيا... من، والأيامن كالأشائم
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ يعني علماء اليهود كتموا ما أنزل الله تعالى في التوراة من صفة محمد ﷺ وصحة رسالته. ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً ﴾ يعني قبول الرُشَا على كتم رسالته وتغيير صفته، وسماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل : لأن ما كانوا يأخذون من الرُشا كان قليلاً.
﴿ أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يريد أنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار فصار ما يأكلون ناراً، فسماه في الحال بما يصير إليه في ثاني الحال، كما قال الشاعر :
....................... أصمُّ عَمّا ساءَه سميعُ
وأمّ سماك فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالدة
﴿ وَلاَ يُكْلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه يغضب عليهم، من قولهم : فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه.
والثاني : لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية.
والثالث : معناه لا يسمعهم كلامه.
﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني لا يصلح أعمالهم الخبيثة.
والثاني : لا يثني عليهم، ومن لا يثني الله عليه فهو معذب ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي مؤلم موجع.
قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ يعني من تقدم ذكره من علماء اليهود اشتروا الكفر بالإيمان ﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾ يعني النار بالجنة.
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : معناه ما أجرأهم على النار، وهذا قول أبي صالح.
والثاني : فما أصبرهم على عمل يؤدي بهم إلى النار.
والثالث : معناه فما أبقاهم على النار، من قولهم : ما أصبر فلاناً على الحبس، أي ما أبقاه فيه.
والرابع : بمعنى أي شيء صبّرهم على النار؟
قوله تعالى :﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ الآية، فيها قولان :
أحدهما : أن معناها ليس البر الصلاة وحدها، ولكن البر الإيمان مع أداء الفرائض التي فرضها الله، وهذا بعد الهجرة إلى المدينة واستقرار الفروض والحدود، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني : أن المعنَّي بذلك اليهود والنصارى، لأن اليهود تتوجه إلى المغرب، والنصارى تتوجه إلى المشرق في الصلاة، ويرون ذلك هو البر، فأخبرهم الله تعالى، أنه ليس هذا وحده هو البر، حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ويفعلوا ما ذَكَرَ، وهذا قول قتادة، والربيع.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ ﴾ قولان :
أحدهما : معناه ولكن ذا البر من آمن بالله.
والثاني : معناه ولكن البرَّ بِرُّ مَنْ آمن بالله، يعني الإقرار بوحدانيته وتصديق رسله، حكاهما الزَّجَّاجُ.
وقوله تعالى :﴿ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ يعني التصديق بالبعث والجزاء.
﴿ والْمَلاَئِكَةِ ﴾ يعني فيما أُمِروا به، مِنْ كَتْبَ الأعمال، وتولي الجزاء.
﴿ وَالْكِتَابِ ﴾ يعني القرآن، وما تضمنه من استقبال الكعبة، وأن لا قبلة سواها.
﴿ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ يعني التصديق بجميع الأنبياء، وأن لا يؤمنوا ببعضهم ويكفروا ببعض. ﴿ وَءَاتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ يعني على حب المال. قال ابن مسعود : أن يكون صحيحاً شحيحاً يطيل الأمل ويخشى الفقر. وكان الشعبي يروي عن فاطمة بنت قيس أن النبي ﷺ قال :« إِنَّ فِي المَالِ حَقاً سِوَى الزَّكَاةِ » وتلا هذه الآية ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وَجُوهَكُمْ ﴾ إلى آخرها، فذهب الشعبي والسدي إلى إيجاب ذلك لهذا الخبر، وروي عن النبي ﷺ أنه سئل : أي الصدقة أفضل؟ قال :« جُهْدٌ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ الْكَاشِحِ
»
. وذهب الجمهور إلى أنْ ليس في المال حق سوى الزكاة وأن ذلك محمول عليها أو على التطوع المختار.
وقوله تعالى :﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ يريد قرابة الرجل من طرفيه من قِبَل أبويه، فإن كان ذلك محمولاً على الزكاة، روعي فيهم شرطان :
أحدهما : الفقر.
والثاني : سقوط النفقة. وإن كان ذلك محمولاً على التطوع لم يعتبر واحد منهما، وجاز مع الغنى والفقر، ووجوب النفقة وسقوطها، لأن فيهم مع الغنى صلة رحم مبرور.
﴿ والْيَتَامَى ﴾ وهم من اجتمع فيهم شرطان : الصغر وفقد الأب، وفي اعتبار الفقر فيهم قولان كالقرابة.
﴿ وَالْمَسَاكِينَ ﴾ وهم من عُدِمَ قدرُ الكفاية وفي اعتبار إسلامهم قولان :
﴿ وابْنَ السَّبِيلِ ﴾ هم فقراء المسافرين ﴿ والسَّائِلِينَ وهم الذين ألجأهم الفقر إلى السؤال.
{ وَفِي الِّرقَابِ ﴾
وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم عبيد يعتقون، وهو قول الشافعي رحمه الله.
والثاني : أنهم مُكَاتَبُونَ يعانون في كتابتهم بما يعتقدون، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة.
﴿ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ﴾ يعني إلى الكعبة على شروطها وفي أوقاتها.
﴿ وآتَى الزَّكَاةَ ﴾ يعني إلى مستحقها عند وجوبها.
﴿ وَالْمُوفُونَ بِعَهدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا ﴾ وذلك من وجهين :
121
أحدهما : النذور التي بينه وبين الله تعالى. والثاني : العقود التي بينه وبين الناس، وكلاهما يجب عليه الوفاء به.
﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ قال ابن مسعود : البأساء الفقر، والضراء السقم.
﴿ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ أي القتال.
وفي هذا كله قولان :
أحدهما : أنه مخصوص في الأنبياء عليهم السلام لأنه لا يقدر على القيام بهذا كله على شروطه غيرهم.
والثاني : أنه عامٌّ، في الناس كلهم لإرسال الكلام وعموم الخطاب.
﴿ أولَئِكَ الَّذينَ صَدَقُوا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : طابقت نياتهم لأعمالهم.
والثاني : صدقت أقوالهم لأفعالهم.
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن تخالف سرائرهم لعلانيتهم.
والثاني : أن يحمدهم الناس بما ليس فيهم.
122
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ معنى قوله :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾ أي فرض عليكم، ومنه قول نابغة بني جعدة :
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا
وقول عمر بن أبي ربيعة :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
والقصاص : مقابلة الفعل بمثله مأخوذ من قص الأثر.
ثم قال تعالى :﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ﴾ فاختلف أهل التأويل في ذلك على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في قوم من العرب كانوا أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيداً وبالمرأة منهم إلا رجلاً، استطالة بالقوة وإدلالاً بالعزة، فنزلت هذه الآية فيهم، وهذا قول الشافعي، وقتادة.
والثاني : أنها نزلت في فريقين كان بينهما على عهد رسول الله ﷺ قتال، فقتل من الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد فنزلت هذه الآية فيهم، فجعل رسول الله ﷺ دية الرجل قصاصاً بدية الرجل، ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة، ودية العبد قصاصاً بدية العبد ثم أصلح بينهم. وهذا قول السدي وأبي مالك.
والثالث : أن ذلك أمر من الله تعالى بمقاصة دية القاتل المُقْتَص منه بدية المقتول المقتص له واستيفاء الفاضل بعد المقاصة، وهذا قول عليّ كان يقول في تأويل الآية : أيما حر قتل عبداً فهو به قود، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه وقاصّوهم بثمن العبد من دية الحر وأدوا إلى أولياء الحر بقية دِيته، وأيما عبد قتل حراً فهو به قود، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقية دية الحر، وأيما رجل قتل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه، وأدوا بقية الدية إلى أولياء الرجل، وأيما امرأة قتلت رجلاً فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية.
والرابع : أن الله تعالى فرض بهذه الآية في أول الإسلام أن يُقْتَلَ الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة والعبد بالعبد، ثم نَسَخَ ذلك قولُه في سورة المائدة ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] وهذا قول ابن عباس.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإحْسَانٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : فمن عفي له عن القصاص منه فاتّباع بمعروف وهو أن يطلب الولي الدية بمعروف ويؤدي القاتلُ الدية بإحسان، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني : أن معنى قوله :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ بمعنى فمن فضل له فضل وهذا تأويل من زعم أن الآية نزلت في فريقين كانا على عهد رسول الله ﷺ قتل من كلا الفريقين قتلى فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف، وليرد من عليه الفاضل بإحسان، ويكون معنى ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ أي فضل له قِبل أخيه القاتل شيء، وهذا قول السدي.
123
والثالث : أن هذا محمول على تأويل عليّ ( رضي الله عنه ) في أول الآية؟ في القصاص بين الرجل والمرأة والحر والعبد وأداء ما بينهما من فاضل الدية.
ثم في الاتباع بالمعروف والأداء إليه بإحسان وجهان ذكرهما الزَّجَّاج :
أحدهما : أن الاتباع بالمعروف عائد إلى ولي المقتول أن يطالب بالدية بمعروف، والأداء عائد إلى القاتل أن يؤدي الدية بإحسان.
والثاني : أنهما جميعاً عائدان إلى القاتل أن يؤدي الدية بمعروف وبإحسان.
ثم قال تعالى :﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ يعني خيار الولي في القود أو الدية، قال قتادة : وكان أهل التوراة يقولون : إنما هو قصاص أو عفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل يقولون : إنما هو أرش أو عفو ليس بينهما قود، فجعل لهذه الأمة القود والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم ولم تكن لأمة قبلهم، فهو قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِكُم وَرَحْمَةٌ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ يعني مَنْ قَتَلَ بعد أَخْذِهِ الدية فله عذاب أليم، وفيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن العذاب الأليم هو أن يقتل قصاصاً، وهو قول عكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك.
والثاني : أن العذاب الأليم هو أن يقتله الإمام حتماً لا عفو فيه، وهو قول ابن جريج، وروي أن النبي الله عليه وسلم كان يقول :« لاَ أُعَافِي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَّةِ
»
. والثالث : أن العذاب الأليم هو عقوبة السلطان.
والرابع : أن العذاب الأليم استرجاع الدية منه، ولا قود عليه، وهو قول الحسن البصري.
قوله تعالى :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : إذا ذكره الظالم المعتدي، كف عن القتل فحيي، وهذا قول مجاهد وقتادة.
والثاني : أن إيجاب القصاص على القاتل وترك التعدي إلى من ليس بقاتل حياة للنفوس، لأن القاتل إذا علم أن نفسه تؤخذ بنفس من قتله كف عن القتل فَحِيِيَ أن يقتل قوداً، أو حَيِيَ المقتول أن يقتل ظلماً.
وفي المعنيين تقارب، والثاني أعم، وهو معنى قول السدي.
وقوله تعالى :﴿ يَا أُولِي الألْبَابِ ﴾ يعني يا ذوي العقول، لأن الحياة في القصاص معقولة بالاعتبار.
وقوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ قال ابن زيد : لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به.
124
قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ أي فرض عليكم، وقوله :﴿ إِذَا حَضَرَ ﴾ ليس يريد به ذكر الوصية عند حلول الموت، لأنه في شغل عنه، ولكن تكون العطية بما تقدم من الوصية عند حضور الموت، ثم قال تعالى :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ﴾، والخير : المال في قول الجميع، قال مجاهد : الخير في القرآن كله المال. ﴿ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [ العاديات : ٨ ] أي المال، ﴿ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبَّي ﴾ [ ص : ٣٢ ] ﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهمِْ خَيْراً ﴾ [ النور : ٣٣ ] وقال شعيب :﴿ إِنِّي أرَاكُم بِخَيْرٍ ﴾ [ هود : ٨٤ ] يعني الغنى والمال.
واختلف أهل العلم في ثبوت حكم هذه الآية، فذهب الجمهور من التابعين والفقهاء إلى أن العمل بها كان واجباً قبل فرض المواريث لئلا يضع الرجل ماله في البُعَدَاء طلباً للسمعة والرياء، فلما نزلت آية المواريث في تعيين المستحقين، وتقدير ما يستحقون، نسخ بها وجوب الوصية ومنعت السنّة من جوازها للورثة، وقال آخرون : كان حكمها ثابتاً في الوصية للوالدين، والأقربين حق واجب، فلما نزلت آي المواريث وفرض ميراث الأبوين نسخ بها الوصية للوالدين وكل وارث، وبقي فرض الوصية للأقربين الذين لا يرثون على حالة، وهذا قول الحسن، وقتادة، وطاوس، وجابر بن زيد.
فإن أوصى بثُلُثهِ لغير قرابته، فقد اختلف قائلو هذا القول في حكم وصيته على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أن يرد ثلث الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به، وهذا قول قتادة.
والثاني : أن يرد ثلثا الثلث على قرابته ويكون ثلثا الثلث لمن أوصى له به، وهذا قول جابر بن زيد.
والثالث : أنه يريد الثلث كله على قرابته، وهذا قول طاوس.
واختلف في قدر المال الذي يجب عليه أن يوصي منه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه ألف درهم، تأويلاً لقوله تعالى :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ أن الخير ألف درهم وهذا قول عليّ.
والثاني : من ألف درهم إلى خمسمائة درهم، وهذا قول إبراهيم النخعي.
والثالث : أنه غير مقدر وأن الوصية تجب في قليل المال وكثيره، وهذا قول الزهري.
ثم قال تعالى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ يحتمل قوله بالمعروف وجهين :
أحدهما : بالعدل الوسط الذي لا بخس فيه ولا شطط.
والثاني : يعني بالمعروف من ماله دون المجهول.
وقوله تعالى :﴿ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ يعني بالتقوى من الورثة أن لا يسرف، والأقربين أن لا يبخل، قال ابن مسعود : الأجل فالأجل، يعني الأحوج فالأحوج. وغاية ما لا سرف فيه : الثلث، لقول النبي ﷺ « الثلث والثلث كثير
»
. وروى الحسن أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وصّياً بالخمس وقالا يوصي بما رضي الله لنفسه، : بالخمس، وكان يقول : الخمس معروف، والربع جهد، والثلث غاية ما تجيزه القضاة.
125
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ﴾ يعني فَمَنْ غَيَّرَ الوَصِيَّةَ بعدما سمعها، وإنما جُعِلَ اللفظ مذكراً وإن كانت الوصية مؤنثة لأنه أراد قول المُوصِي، وقوله مذكر. ﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾ أي يسمعونه ويَعْدِلون به عن مستحقه، إما ميلاً أو خيانة، وللميت أجر قصده وثواب وصيته، وإن غُيّرت بعده.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلَيمٌ ﴾ أي سميع لقول الموصِي، عليم بفعل الوصي.
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَينَهُم ﴾ اختلف المفسرون في تأويل ذلك، على خمسة أقاويل :
أحدها : أن تأويله فمن حضر مريضاً، وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته، فيفعل ما ليس له أو أن يتعمد جَوْراً فيها، فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه، أن يصلح بينه وبين ورثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وهذا قول مجاهد.
والثاني : أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفاً في وصيته، فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى لهم فيما أُوصِيَ به لهم حتى رد الوصية إلى العدل، فلا إثم عليه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
والثالث : أن تأويلها فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله، فأعطى بعضاً دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك، وهذا قول عطاء.
والرابع : أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفاً، أو إثماً في وصيته لغير ورثته، بما يرجع نفعه إلى ورثته فأصلح بين ورثته، فلا إثم عليه، وهذا قول طاووس.
والخامس : أن تأويلها فمن خاف من موصٍ لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه، وهذا قول السدي.
وفي قوله تعالى :﴿ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن الجنف الخطأ، والإثم العمد، وهذا قول السدي.
والثاني : أن الجنف الميل، والإثم أن يكون قد أثم في أَثَرةِ بعضهم على بعض، وهذا قول عطاء وابن زيد.
والجنف في كلام العرب هو الجَوْرُ والعُدُولِ عن الحق، ومنه قول الشاعر :
126
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ﴾ بمعنى فرض عليكم الصيام، والصيام من كل شيء الإمساك عنه، ومن قوله تعالى :﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً ﴾ أي صمتاً، لأنه إمساك عن الكلام، وذم أعرابي قوماً فقال : يصومون عن المعروف ويقصون على الفواحش، وأصله مأخوذ من صيام الخيل، وهو إمساكها عن السير والعلف، قال النابغة الذبياني :
هم المولى وهمْ جنفوا علينا وإنا من لقائهمُ لَزُورُ
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما
ولذلك قيل لقائم الظهيرة : قد صام النهار، لإبطاء الشمس فيه عن السير، فصارت بالإبطاء كالممسكة عنه، قال الشاعر :
فدعها وسَلِّ الهمَّ عنك بجَسْرةٍ ذمولٍ إذا صام النهار وهجّرا
إلا أن الصيام في الشرع : إنما هو إمساك عن محظورات الصيام في زمانه، فجعل الصيام من أوكد عباداته وألزم فروضه، حتى روي عن النبي ﷺ أنه قال :« يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّومَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللهِ مَن رِيحِ المِسْكَ
»
. وإنما اختص الصوم بأنه له، وإن كان كل العبادات له، لأمرين بَايَنَ الصومُ بِهِمَا سائِرَ الْعِبَادَاتِ :
أحدهما : أن الصوم منع من مَلاَذِّ النفس وشهواتها، ما لا يمنع منه سائر العبادات.
والثاني : أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصاً به، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنّعاً ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره.
ثم قال تعالى :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم النصارى، وهو قول الشعبي والربيع وأسباط.
والثاني : أنهم أهل الكتاب، وهو قول مجاهد.
والثالث : أنهم جميع الناس، وهو قول قتادة.
واختلفوا في موضع التشبيه بين صومنا، وصوم الذين من قبلنا، على قولين :
أحدهما : أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عدده لأن اليهود يصومون من العتمة إلى العتمة، ولا يأكلون بعد النوم شيئاً، وكان المسلمون على ذلك في أول الإسلام، لا يأكلون بعد النوم شيئاً حتى كان من شأن عمر بن الخطاب وأبي قيس بن صرمة ما كان، فأجلّ الله تعالى لهم الأكل والشرب، وهذا قول الربيع بن أنس، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال :« بَيْنَ صَومِنَا وَصَومِ أهلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ
»
. والقول الثاني : أن التشبيه في عدد الصوم، وفيه قولان :
أحدهما : أن النصارى كان الله فرض عليهم صيام ثلاثين يوماً كما فرض علينا، فكان ربما وقع في القيظ، فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف، ثم كفّروه بصوم عشرين يوماً زائدة، ليكون تمحيصاً لذنوبهم وتكفيراً لتبديلهم، وهذا قول الشعبي.
127
والثاني : أنهم اليهود كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، فكان على ذلك سبعة عشر شهراً إلى أن نسخ بصوم رمضان، قال ابن عباس : كان أول ما نسخ شأن القبلة والصيام الأول.
وفي قوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ قولان :
أحدهما : لعلكم تتقون ما حرم عليكم في الصيام، من أكل الطعام، وشرب الشراب، ووطء النساء، وهو قول أبي جعفر الطبري.
والثاني : معناه أن الصوم سبب يؤول بصاحبه إلى تقوى الله، لما فيه من قه النفس، وكسر الشهوة، وإذهاب الأشر، وهو معنى قول الزجاج.
قوله تعالى :﴿ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها أيام شهر رمضان التي أبانها من بعد، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين.
والثاني : أنها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كانت مفروضة قبل صيام شهر رمضان، ثم نسخت به، وهو قول ابن عباس، وقتادة وعطاء، وهي الأيام البيض من كل شهر، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه الثاني عشر وما يليه.
الوجه الثاني : أنها الثالث عشر وما يليه، وهو أظهر الوجهين، لأن أيام الشهر مجزأة عند العرب عشرة أجزاء، كل جزء منها ثلاثة أيام، تختص باسم، فأولها ثلاث غرر، ثم ثلاث شهب، ثم ثلاث بهر، ثم ثلاث عشر، ثم ثلاث بيض، ثم ثلاث درع، والدرع هو سواد مقدم الشاة، وبياض مؤخرها، فقيل لهذه الثلاث درع، لأن القمر يغيب في أولها، فيصير ليلها درعاً، لسواد أوله، وبياض آخره، ثم ثلاث خنس، لأن القمر يخنس فيها، أي يتأخر، ثم ثلاث دهم، وقيل حنادس لإظلامها، ثم ثلاث فحم، لأن القمر يتفحم فيها، أي يطلع آخر الليل، ثم ثلاث رادي، وهي آخر الشهر، مأخوذة من الرادة، أن تسرع نقل أرجلها حتى تضعها في موضع أيديها.
وقد حكى أبو زيد، وابن الأعرابي، أنهم جعلوا للقمر في كل ليلة من ليالي العشر اسماً، فقالوا ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين حديث مين مكذب ومبين، ورواه ابن الأعرابي كذب ومين، وابن ثلاث قليل اللباث، وابن أربع عتمة ربع لا جائع ولا مرضع، وابن خمس حديث وأنس، وابن ست سِرْ وبِتْ، وابن سبع دلجة الضبع، وابن ثمان قمر إضحيان، وابن تسع انقطع الشسع. وفي رواية غير أبي زيد : يلتقط فيه الجزع، وابن عشر ثلث الشهر، عن أبي زيد وعن غيره، ولم يجعل له فيما زاد عن العشر اسماً مفرداً.
واختلفوا في الهلال متى يصير قمراً، فقال قوم يسمى هلالا لليلتين، ثم يُسَمَّى بعدها قمراً، وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث، ثم يسمى بعدها قمراً، وقال آخرون يسمى هلالاً إلى ثلاث، ثم يسمى بعدها قمراً، وقال آخرون يسمى هلالاً حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بِخَطَّةٍ دقيقة، وهو قول الأصمعي، وقال آخرون يسمى هلالاً إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، فإذا بهر ضوؤه يسمى قمراً، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة.
128
[ ثم عدنا إلى تفسير ما بقي من الآية ].
قوله تعالى :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ يعني مريضاً لا يقدر مع مرضه على الصيام، أو على سفر يشق عليه في سفره الصيام.
﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه مع وجود السفر، يلزمه القضاء سواء صام في سفره أو أفطر، وهذا قول داود الظاهري.
والثاني : أن في الكلام محذوفاً وتقديره : فأفطر فعدة من أيام أخر، ولو صام في مرضه وسفره لم يعد، لكون الفطر بهما رُخْصَة لا حتماً، وهذا قول الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وجمهور الفقهاء.
ثم قال تعالى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهٌ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ هكذا قرأ أكثر القراء، وقرأ ابن عباس، ومجاهد :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ لاَ يَطِيقُونَهُ فدية ﴾، وتأويلها : وعلى الذين يكلفونه، فلا يقدرون على صيامه لعجزهم عنه، كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع، فدية طعام مسكين، ولا قضاء عليهم لعجزهم عنه. وعلى القراءة المشهورة فيها تأويلان :
أحدهما : أنها وردت في أول الإسلام، خيّر الله تعالى بها المطيقين للصيام من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا كل يوم بإطعام مسكين، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، وقيل بل نسخ بقوله :﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُم ﴾، وهذا قول ابن عمر، وعكرمة، والشعبي، والزهري، وعلقمة، والضحاك.
والثاني : أن حكمها ثابت، وأن معنى قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾ أي كانوا يطيقونه في حال شبابهم، وإذا كبروا عجزوا عن الصوم لكبرهم أن يفطروا، وهذا سعيد بن المسيب، والسدي.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خيراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : فمن تطوع بأن زاد على مسكين واحد فهو خير له وهذا قول ابن عباس ومجاهد وطاووس والسدي.
والثاني : فمن تطوع بأن صام مع الفدية فهو خير له وهذا قول الزهري ورواية ابن جريج عن مجاهد.
ثم قال تعالى :﴿ وَاَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُم ﴾ يحتمل تأويلين :
أحدهما : أن الصوم في السفر خير من الفطر فيه والقضاء بعده.
والثاني : أن الصوم لمطيقه خير وأفضل ثواباً من التكفير لمن أفطر بالعجز.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : إن كنتم تعلمون ما شَرَّعْتُه فيكم وَبَيَّنْتُه من دينكم.
والثاني : إن كنتم تعلمون فضل أعمالكم وثواب أفعالكم.
129
قوله تعالى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ ﴾ أما الشهر فمأخوذ من الشهرة، ومنه قيل قد شهر فلان سيفه، إذا أخرجه، وأما رمضان فإن بعض أهل اللغة يزعم أنه سمي بذلك، لشدة ما كان يوجد فيه من الحر حتى ترمض فيه الفصال، كما قيل لشهر الحج ذو الحجة، وقد كان شهر رمضان يسمى في الجاهلية ناتقاً.
وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان، ويقول لعله من أسماء الله تعالى.
وفي إنزاله قولان :
أحدهما : أن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان في ليلة القدر منه، ثم أنزله على نبيه ﷺ، على ما أراد إِنْزَالَهُ عليه.
روى أبو مسلم عن وائلة عن النبي ﷺ قال : نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأُنْزِلتِ التوراةُ لست مضين من رمضان، وأُنْزِلَ الإنجيلُ لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأُنْزِلَ القرآن لأربع وعشرين من رمضان.
والثاني : أنه بمعنى أنزل القرآن في فرض صيامه، وهو قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾ يعني رشاداً للناس.
﴿ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ أي بينات من الحلال والحرام، وفرقان بين الحق والباطل.
﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ الشهر لا يغيب عن أحد، وفي تأويله ثلاثة أقاويل :
أحدها : فمن شهد أول الشهر، وهو مقيم فعليه صيامه إلى آخره، وليس له أن يفطر في بقيته، وهذا قول عليّ، وابن عباس، والسدي.
والثاني : فمن شهد منكم الشهر، فليصم ما شهد منه وهو مقيم دون ما لم يشهده في السفر، وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصري.
والثالث : فمن شهد بالغاً عاقلاً مُكَلَّفاً فليصمه، ولا يسقط صوم بقيته إذا جُن فيه، وهذا قول أبي حنيفة، وصاحبيه.
﴿ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرْ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ وإنما أعاد ذكر الفطر بالمرض والسفر مع قرب ذكره من قبل، لأنه في حكم تلك الآية منسوخاً، فأعاد ذكره، لِئَلاَّ يصير بالمنسوخ مقروناً، وتقديره فمن كان مريضاً أو على سفر في شهر رمضان فأفطر، فعليه عدة ما أفطر منه، أن يقضيه من بعده.
واختلفوا في المرض الذي يجوز معه الفطر في شهر رمضان، على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه كل مرضٍ لم يطق الصلاة معه قائماً، وهذا قول الحسن البصري.
والثاني : أنه المرض الذي الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة، وهو قول الشافعي.
والثالث : أنه كل مرض انطلق عليه اسم المرض، وهو قول ابن سيرين.
فأما السفر، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه ما انطلق اسم السفر من طويل أو قصير، وهذا قول داود.
130
والثاني : أنه مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة.
واختلفوا في وجوب الفطر فيه على قولين :
أحدهما : أنه واجب وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنه مباح، وهو قول الجمهور.
ثم قال تعالى :﴿ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ قال ابن عباس : اليسر الإفطار، والعسر الصيام في السفر، ونحوه عن مجاهد وقتادة.
﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة ﴾ يعني عدة ما أفطر ثم في صيام شهر رمضان بالقضاء في غيره.
﴿ ولِتُكّبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ قيل إنه تكبير الفطر من أول الشهر.
وقوله :﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ يعني من صيام شهر رمضان، ويحتمل أن يكون على عموم ما هدانا إليه من دينه.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : تشكرون على هدايته لكم.
والثاني : على ما أنعم به من ثواب طاعته، والله أعلم.
131
قوله تعالى :﴿ وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية، على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في سائل سأل النبي ﷺ فقال : يا محمد أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأُنْزِلَتْ هذه الآية، وهو قول الحسن البصري.
والثاني : أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله ﷺ عن أي ساعة يدعون الله فيها، وهذا قول عطاء والسدي.
والثالث : أنها نزلت جواباً لقوم قالوا : كيف ندعو؟، وهذا قول قتادة.
والرابع : أنها نزلت في قوم حين نَزَلَ قولُه تعالى :﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ قالوا : إلى أين ندعوه؟، وهذا قول مجاهد.
وفي قوله تعالى :﴿ قَرِيبٌ ﴾ تأويلان :
أحدهما : قريب الإجابة.
والثاني : قريب من سماع الدعاء.
وفي قوله تعالى :﴿ أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : معناه أسمع دعوة الداعي إذا دعاني، فعبر عن السماع بالإجابة، لأن السماع مقدمة الإجابة.
والثاني : أنه أراد إجابة الداعي إلى ما سأل، ولا يخلو سؤال الداعي أن يكون موافقاً للمصلحة أو مخالفاً لها، فإن كان مخالفاً للمصلحة لم تجز الإجابة إليه، وإن كان موافقاً للمصلحة، فلا يخلو حال الداعي من أحد أمرين : إما أن يكون مستكملاً شروط الطلب أو مقصوراً فيها :
فإن استكملها جازت إجابته، وفي وجوبها قولان :
أحدهما : أنها واجبة لأنها تجري مجرى ثواب الأعمال، لأن الدعاء عبادة ثوابها الإجابة.
والثاني : أنها غير واجبة لأنها رغبة وطلب، فصارت الإجابة إليها تفضلاً.
وإن كان مقصوراً في شروط الطلب لم تجب إجابته، وفي جوازها قولان :
أحدهما : لا تجوز، وهوقول من أوجبها مع استكمال شروطها.
والثاني : تجوز، وهو قول من لم يوجبها مع استكمال شروطها.
وفي قوله تعالى :﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : أن الإستجابة بمعنى الإجابة، يقال استجبت له بمعنى أجبته، وهذا قول أبي عبيدة، وأنشد قول كعب بن سعد الغنوي :
وداعٍ دَعَا :
يا من يجيب إلي الندا فلم يستجبه عند ذلك مجيب
أي فلم يجبه.
والثاني : أن الإستجابة طلب الموافقة للإجابة، وهذا قول ثعلب.
والثالث : أن معناه فليستجيبوا إليَّ بالطاعة.
والرابع : فليستجيبوا لي، يعني فليدعوني.
قوله تعالى :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ كان ابن مسعود يقرأ الرفث والرفوث جميعاً، وهو الجماع في قوله، وأصله فاحش القول، كما قال العجاج :
.......................... عن اللغا ورفث الكلام
فيكنى به عن الجماع، لأنه إذا ذُكِرَ في غير موضعه كان فحشاً.
وفي قوله تعالى :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ ثلاث تأويلات :
أحدها : بمنزلة اللباس، لإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه، يستتر به كالثوب الملبوس، كما قال النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيج ثنى عطفها تثنت عليه فصارت لباساً
والثاني : أنهم لباس يعني السكن لقوله تعالى ﴿ وجعلنا الليل لباساً ﴾ [ النبأ : ١٠ ] أي سكناً، وهذا قول مجاهد وقتادة والسدي.
قوله تعالى :﴿ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾ سبب هذه الخيانة التي كان القوم يختانون أنفسهم، شيئان :
أحدهما : إتيان النساء.
الثاني : الأكل والشرب، وذلك أن الله تعالى أباح في أول الإسلام الأكل والشرب والجماع في ليل الصيام قبل نوم الإنسان، وحرّمه عليه بعد نومه، حتى جاء عمر بن الخطاب ذات ليلة من شهر رمضان، يريد امرأته، فقالت له : إني قد نمتُ، وظن أنها تعتل عليه، فوقع بها، وجاء أبو قيس ابن صرمة، وكان يعمل في أرض له، فأراد الأكل، فقالت له امرأته : نسخّر لك شيئاً، فغلبته عيناه، ثم أحضرت إليه الطعام، فلم يأكل منه فلما أصبح لاقى جهداً. وأخبر عمر وأبو قيس رسول الله ﷺ بما كان منهما، فأنزل الله تعالى :﴿ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ ﴾. ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : العفو عن ذنوبهم.
والثاني : العفو عن تحريم ذلك بعد النوم.
ثم قال تعالى :﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ يريد به الجماع، لأن أصل المباشرة من إلصاق البشرة بالبشرة، وكان ذلك منه بياناً لما كان في جماع عمر.
وفي قوله تعالى :﴿ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ﴾ ثلاثة أقوال :
أحدها : طلب الولد، وهو قول مجاهد، وعكرمة، والسدي.
والثاني : ليلة القدْر، وهو قول ابن عباس، وكان يقرأ ﴿ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ﴾.
والثالث : ما أحل الله تعالى لكم ورخص فيه، وهذا قول قتادة.
ثم قال تعالى فيما كان من شأن أبي قيس بن صرمة :﴿ وَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ اختلف في المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما رواه سهل بن سعد قال : لما نزلت ﴿ فَكُلُواْ واشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ﴾، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعدُ ﴿ مِنَ الْفَجْرْ ﴾، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.
133
والقول الثاني : أنه يريد بالخيط الأبيض ضوء النهار، وهو الفجر الثاني، وبالخيط الأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني. وروى الشعبي عن عدي بن حاتم : أنه عند إلى خيطين أبيض وأسود، وجعلهما تحت وسادته، فكان يراعيهما في صومه، ثم أخبر رسول الله ﷺ فقال :« إنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِةِ، إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيلِ ». وسُمِّيَ خيطاً، لأن أول ما يبدو من البياض ممتد كالخيط، قال الشاعر :
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسْودُ لون الليل مكتومُ
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون.
والثالث : ما حكي عن حذيفة بن اليمان أن الخيط الأبيض ضوء الشمس، ورويَ نحوُهُ عن عليّ وابن مسعود. وقد روى زَرٌ بن حبيش عن حذيفة قال : كان النبي ﷺ يتسحر وأنا أرى مواقع النبل، قال : قلت بعد الصبح؟ قال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس، وهذا قول قد انعقد الإجماع على خلافه، وقد روى سوادة بن حنظلة عن سَمُرة بن جندب قال : قال رسول الله ﷺ :« لاَ يَمْنَعَنَّكُم مِنْ سُحُورِكُم أذانُ بِلالٍ وَلاَ الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ وَلَكِن الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ ». وروى الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال النبي ﷺ :« الفَجْرُ فَجْرَانِ، فَالَّذِي كَأَنَّهُ ذَنَبُ السرحانِ لاَ يُحرِّمُ شَيْئاً، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيرُ الّذِي يَأْخُذُ الأُفُقَ فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ
»
. فأما الفجر، فإنه مصدر من قولهم فَجَرَ الماءُ يَفْجُرُ فَجْراً، إذا جرى وانبعث، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها :( فجر ) لانبعاث ضوئه، فيكون زمان الصوم المجمع على تحريم الطعام والشراب فيه وإباحته فيما سواه : ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس.
روى عطاء عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :« أَعْظَمُ الصَّائِمينَ أَجْراً أَقْرَبُهُم منَ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ إِفْطَاراً
»
. ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيلِ ﴾ يعني به غروب الشمس.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنََّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : عني بالمباشرة الجماع، وهو قول الأكثرين.
والثاني : ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد ومالك.
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ ﴾ أي ما حرم، وفي تسميتها حدود الله وجهان :
أحدهما : لأن الله تعالى حدها بالذكر والبيان.
والثاني : لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود.
وقوله تعالى :﴿ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ ءَيَاتِهِ لِلنَّاسِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني بآياته علامات متعبداته.
والثاني : أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام.
134
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : بالغصب والظلم.
والثاني : بالقمار والملاهي.
﴿ وَتُدْلُواْ بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ مأخوذ من إدلاء الدلو إذا أرسلته.
ويحتمل وجهاً ثانياً معناه : وتقيموا الحجة بها عند الحاكم، من قولهم : قد أدلى بحجته إذا قام بها.
وفي هذا المال قولان :
أحدهما : أنه الودائع وما لا تقوم به بينة من سائر الأموال التي إذا جحدها، حكم بجحوده فيها.
والثاني : أنها أموال اليتامى التي هو مؤتمي عليها.
﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِاْلإِثْمِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لتأكلوا بعض أموال الناس بالإثم، فعبر عن البعض بالفريق.
والثاني : على التقديم والتأخير، وتقديره : لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم.
وفي ( أكله ) ثلاثة أوجه :
أحدها : بالجحود.
والثاني : بشهادة الزور.
والثالث : برشوة الحكام.
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : وأنتم تعلمون أنها للناس.
والثاني : وأنتم تعلمون أنها إثم.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في امرئ القيس الكندي، وعبدان بن ربيعة الحضرمي، وقد اختصما في أرض كان عبدان فيها ظالماً وامرؤ القيس مظلوماً، فأراد أن يحلف، فنزلت هذه الآية، فكفّ عن اليمين.
قوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَيِ الأَهِلَّةِ ﴾ سبب نزولها، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غَنَمة، وهما من الأنصار، سألا النبي ﷺ عن زيادة الأهلة ونشأتها، فنزلت هذه الآية، وأُخِذَ اسم الهلال من استهلال الناس برفع أصواتهم عند رؤيته، والمواقيت : مقادير الأوقات لديونهم وحجهم، ويريد بالأهلة وشهورها، وقد يعبّر عن الهلال بالشهر لحوله فيه، قال الشاعر :
أخوان من نجدٍ على ثقةٍ... والشهرُ مثلُ قلامةِ الظُّفرِ
حتى تكامل في استدارته... في أربع زادت على عشر
ثم قال تعالى :﴿ وَلَيْسَ الْبِّرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ فيه ستة أقاويل :
أحدها : أن سبب نزول ذلك، ما روى داود عن قيس بن جبير : أن الناس كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطاً من بابه، فدخل رسول الله ﷺ داراً، وكان رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن أيوب، فجاء فتسور الحائط على رسول الله، فلما خرج من باب الدار خرج رفاعة، فقال رسول الله :« مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْتُكَ خَرَجْتَ مِنْهُ فَخَرَجْتُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ : إنّي رَجُلٌ أَحْمَسُ فَقَالَ : إِنْ تَكُنْ أَحْمَسَ فَدِيْنُنَا وَاحِدٌ » فأنزل الله تعالى :﴿ لَيْسَ البِرُّ ﴾ الآية، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وعطاء، وقوله : أحمس يعني من قريش، كانوا يُسَمَّونَ ( الحُمْسَ ) لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا، والحَمَاسَةُ الشدة، قال العجاج :
وكمْ قَطَعْنا مِنْ قِفافٍ حُمْسِ... أي شداد.
والقول الثاني : عنى بالبيوت النساء، سُمِّيَتْ بيوتاً للإيواء إليهن، كالإيواء إلى البيوت، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن، وأتوهن من حيث يحل من قُبُلهن، قاله ابن زيد.
والثالث : أنه في النسيء وتأخير الحج به، حين كانوا يجعلون الشهر الحلال حراماً بتأخير الحج، والشهر الحرام حلالاً بتأخير الحج عنه، ويكون ذكر البيوت وإتيانها من ظهورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج وشهوره، والمخالفة إتيان الأمر من خلفه، والخلف والظهر في كلام العرب واحد، حكاه ابن بحر.
والرابع : أن الرجل كان إذا خرج لحاجته، فعاد ولم ينجح لم يدخل من بابه، ودخل من ورائه، تطيراً من الخيبة، فأمرهم الله أن يأتوا بيوتهم من أبوابها.
والخامس : معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله، وتأتوه من غير بابه، وهذا قول أبي عبيدة.
والقول السادس : أنه مثلٌ ضَربه الله تعالى لهم، بأن يأتوا البر من وجهه، ولا يأتوه من غير وجهه.
قوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها أول آية نزلت بالمدينة في قتال المشركين، أُمِرَ المسلمون فيها بقتال مَنْ قاتلهم من المشركين، والكف عمن كف عنهم، ثم نُسِخَتْ بسورة براءة، وهذا قول الربيع، وابن زيد.
والثاني : أنها ثابتة في الحكم، أُمِرَ فيها بقتال المشركين كافة، والاعتداء الذي نهوا عنه : قتل النساء والولدان، وهذا قول ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد. وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْتَدُوا ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الاعتداء قتال من لم يقاتل.
والثاني : أنه قتل النساء والولدان.
والثالث : أنه القتال على غير الدِّين.
قوله تعالى :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ يعني حيث ظفرتم بهم، ﴿ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ يعني من مكة.
﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ يعني بالفتنة الكفر في قول الجميع، وإنما سمي الكفر فتنة، لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة.
﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن ذلك منسوخ لأن الله تعالى قد نَهَى عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدؤا بالقتال، ثم نُسِخَ ذلك بقوله :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، وهذا قول قتادة.
والقول الثاني : أنها محكمة وأنه لا يجوز أن نبدأ بقتال أهل الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال، وهذا قول مجاهد.
قوله تعالى :﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ في سبب نزولها قولان :
أحدهما : أن رسول الله ﷺ، كان قد أحرم بالعمرة في ذي القعدة سنة ست، فصدّه المشركون عن البيت، فصالحهم على أن يقضي في عامه الآخر، فحل ورجع، ثم اعتمر قاضياً في ذي القعدة سنة سبع، وأحلّت له قريش مكة حتى قضى عمرته. فنزل قوله تعالى :﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ يعني ذا القعدة الذي قضى فيه العمرة من عامه وهو من الأشهر الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه، وهو ذو القعدة في العام الماضي، سمي ذو القعدة لقعود العرب فيه عن القتال لحرمته.
ثم قال تعالى :﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ لأن قريشاً فخرت على رسول الله ﷺ حين صدّته، فاقتص الله تعالى له، وهذا قول قتادة والربيع بن زيد.
والقول الثاني : أن سبب نزولها أن مشركي العرب، قالوا للنبي ﷺ : أَنُهِيتَ يا محمد عن قتالنا في الشهر الحرام؟ فقال نعم، فأرادوا أن يقاتلوه في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى :﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم، وهذا قول الحسن البصري.
قوله تعالى :﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ يعني الجهاد.
﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَةِ ﴾ وفي الباء قولان :
أحدهما : أنها زائدة، وتقديره ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة.
والقول الثاني : أنها غير زائدة أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، والتهلكة والهلاك واحد.
وفي :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَةِ ﴾ ستة تأويلات :
أحدها : أن تتركوا النفقة في سبيل الله تعالى، فتهلكوا بالإثم، وهذا قول بن عباس، وحذيفة.
والثاني : أي لا تخرجوا بغير زاد، فتهلكوا بالضعف، وهذا قول زيد ابن أسلم.
والثالث : أي تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي، فلا تتوبوا، وهذا قول البراء بن عازب.
والرابع : أن تتركوا الجهاد في سبيل الله، فتهلكوا، وهذا قول أبي أيوب الأنصاري.
والخامس : أنها التقحم في القتال من غير نكاية في العدو، وهذا قول أبي القاسم البلخي.
والسادس : أنه عام محمول على جميع ذلك كله، وهو قول أبي جعفر الطبري.
ثم قال تعالى :﴿ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه عنى به الإحسان في آداء الفرائض، وهو قول بعض الصحابة.
والثاني : وأحسنوا الظن بالقَدَرِ، وهو قول عكرمة.
والثالث : عُودُوا بالإحسان على مَنْ ليس بيده شيء، وهذا قول زيد بن أسلم.
قوله تعالى :﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ ﴾ وقرأ ابن مسعود فيما رواه عنه علقمة :﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِالْبَيتِ ﴾ واختلفوا في تأويل إتمامها على خمسة أقاويل :
أحدها : يعني وأتموا الحج لمناسكه وسننه، وأتموا العمرة بحدودها وسنتها، وهذا قول مجاهد، وعلقمة بن قيس.
والثاني : أن إتمامهما أَنْ تُحْرِمَ بهما من دُوَيْرَةِ أهلك، وهذا قول علي، وطاوس، وسعيد بن جبير.
والثالث : أن إتمام العمرة، أن نخدم بها في غير الأشهر الحرم، وإتمام الحج أن تأتي بجميع مناسكه، حتى لا يلزم دم لجبران نقصان، وهذا قول قتادة.
والرابع : أن تخرج من دُوَيْرَةِ أهلك، لأجلهما، لا تريد غيرهما من تجارة، ولا مكسب، وهذا قول سفيان الثوري.
والخامس : أن إتمامهما واجب بالدخول فيهما، وهذا قول الشعبي، وأبي بردة، وابن زيد، ومسروق.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ في هذا الإحصار قولان :
أحدهما : أنه كل حابس من عدوّ، أو مرض، أو عذر، وهو قول مجاهد، وقتادة، وعطاء، وأبي حنيفة.
والثاني : أنه الإحصار بالعدوّ، دون المرض، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، والشافعي.
وفي ﴿ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ قولان :
أحدهما : شاةُ، وهو قول ابن عباس، والحسن، والسدي، وعلقمة، وعطاء، وأكثر الفقهاء.
والثاني : بدنة، وهو قول عمر، وعائشة، ومجاهد، وطاوس، وعروة، وجعلوه فيما استيسر من صغار البُدْن وكبارها.
وفي اشتقاق الهدي قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من الهدية.
والثاني : مأخوذ من قولهم هديتُه هَدْياً، إذا سقته إلى طريق سبيل الرشاد.
ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُم حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾.
وفي محل هدي المحصر، ثلاثة أقاويل :
أحدها : حيث أُحْصِر من حِلٍ أو حَرَم، وهذا قول ابن عمر، والمِسْوَر بن مخرمة، وهارون بن الحكم، وبه قال الشافعي.
والقول الثاني : أنه الحَرَم، وهو قول عليّ، وابن مسعود ومجاهد، وبه قال أبو حنيفة.
والقول الثالث : أن مَحِلّهُ أن يتحلل من إحرامه بادئاً نسكه، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره، وليس للمحرم أن يتحلل بالاحصار بعد رسول الله ﷺ، فإن كان إحرامُه بعمرة لم يَفُتْ وإن كان بحج قضاه بالفوات بعد الإحلال منه، وهذا مروي عن ابن عباس، وعائشة، وبه قال مالك.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ معناه : فحلَقَ، فعليه ذلك.
أما الصيام ففيه قولان :
أحدهما : صيام ثلاثة أيام، وهذا قول مجاهد، وعلقمة، وإبراهيم، والربيع، وبه قال الشافعي.
والقول الثاني : صيام عشرة أيام كصيام المتمتع، وهو قول الحسن وعكرمة.
وأما الصدقة ففيها قولان :
أحدهما : ستة مساكين، وهو قول من أوجب صيام ثلاثة أيام.
140
والقول الثاني : إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صيام عشرة أيام.
وأما النسك فشاة.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا أَمِنتُم ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : من خوفكم.
والثاني : من مرضكم.
﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المُحْصَرُ بالحج، إذا حَلَّ منه بالإحصار، ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله، فإذا قضى حجَّه في العام الثاني، صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين، وهذا قول الزبير.
والثاني : فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ، وهذا قول السدي.
والثالث : فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وعطاء، والشافعي.
وفي ﴿ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ ما ذكرناه من القولين.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّمٍ فِي الْحَجِّ ﴾ اختلفوا في زمانها من الحج على قولين :
أحدهما : بعد إحرامه وقبل يوم النحر، وهذا قول علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وطاوس، والسدي، وسعيد بن جبير، وعطاء، والشافعي في الجديد.
والثاني : أنها أيام التشريق، وهذا قول عائشة، وعروة، وابن عُمر في رواية سالم عنه، والشافعي في القديم.
واختلفوا في جواز تقديمها قبل الإحرام بالحج على قولين :
أحدهما : لا يجوز، وهذا قول ابن عمر، وابن عباس.
والثاني : يجوز.
واختلف قائلو ذلك في زمان تقديمه قبل الحج على قولين :
أحدهما : عشر ذي الحجة، ولا يجوز قبلها، وهو قول مجاهد، وعطاء. والثاني : في أشهر الحج، ولا يجوز قبلها، وهو قول طاوس.
ثم قال تعالى :﴿ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ وفي زمانها قولان :
أحدهما : إذا رجعتم من حجكم في طريقكم، وهو قول مجاهد.
والثاني : إذا رجعتم إلى أهليكم في أمصاركم، وهو قول عطاء، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع.
ثم قال تعالى :﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنها عشرة كاملة في الثواب كمن أهدى، وهو قول الحسن.
والثاني : عشرة كَمَّلَت لكم أجر من أقام على إحرامه فلم يحل منه ولم يتمتع.
والثالث : أنه خارج مخرج الخبر، ومعناه معنى الأمر، أي تلك عشرة، فأكملوا صيامها ولا تفطروا فيها.
والرابع : تأكيد في الكلام، وهو قول ابن عباس.
ثم قال تعالى :﴿ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ وفي حاضريه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل الحرم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وطاوس.
والثاني : أنهم مَن بيْن مكة والمواقيت، وهو قول مكحول، وعطاء.
والثالث : أنهم أهل الحَرَمِ ومَنْ قرُب منزله منه، كأهل عرفة، والرجيع، وهو قول الزهري، ومالك.
والرابع : أنهم مَن كان على مسافة لا يقصر في مثلها الصلاة، وهو قول الشافعي.
141
قوله تعالى :﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُوماتٌ ﴾ اختلفوا في تأويله على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بأسرها، وهذا قول قتادة، وطاوس، ومجاهد، عن ابن عمر وهو مذهب مالك.
والثاني : هو شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة، وهذا قول أبي حنيفة.
والثالث : هن شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، إلى طلوع الفجر من يوم النحر، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، والسدي، ونافع، عن ابن عمر، وعطاء، والضحاك، والشافعي.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الإهلال بالتلبية، وهو قول عمر ومجاهد وطاوس.
والثاني : أنه الإحرام، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وعطاء، والشافعي.
﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الجماع، وهو قول ابن عمر، والحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والزهري.
والثاني : أنه الجماع أو التعرض له بمُوَاعَدَةٍ أو مُدَاعَبَةٍ، وهو قول الحسن البصري.
والثالث : أنه الإفْحَاشُ للمرأة في الكرم، كقولك إذا أحللنا فعلنا بك كذا من غير كناية، وهو قول ابن عباس، وطاوس.
﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه فِعْلُ ما نُهِيَ عنه في الإحرام، من قتل صيد، وحلق شَعْر، وتقليم ظفر، وهو قول عبد الله بن عمر.
والثاني : أنه السباب، وهو قول عطاء، والسدي.
والثالث : أنه الذبح للأصنام، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
والرابع : التنابز بالألقاب، وهو قول الضحاك.
والخامس : أنه المعاصي كلها، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وطاووس.
﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِ ﴾ فيه ستة تأويلات :
أحدها : هو أن يجادل الرجل صاحبه، يعني يعصيه، وهذا قول ابن عباس ومجاهد.
الثاني : هو السباب، وهو قول ابن عمر وقتادة.
والثالث : أنه المِرَاءُ والاختلاف فِيمَنْ هو أَبَرُّهُم حَجّاً، وهذا قول محمد بن كعب.
والرابع : أنه اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم، وهذا قول القاسم بن محمد.
والخامس : أنه اختلافهم في مواقف الحج، أيهم المصيب موقف إبراهيم، وهذا قول ابن زيد.
والسادس : أن معناه ألاّ جدال في وقته لاستقراره، وإبطال الشهر الذي كانوا ينسؤونه في كل عام، فربما حجوا في ذي القعدة، وربما حجوا في صفر، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
وفي قوله تعالى :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ تأويلان :
أحدهما : تزوّدوا بالأعمال الصالحة، فإن خير الزاد التقوى.
والثاني : أنها نزلت في قوم من أهل اليمن، كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون : نحن المتوكلون، فنزلت فيهم :﴿ وَتَزَوَّدُوا ﴾، يعني من الطعام.
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ ﴾ روى ابن عباس قال : كان ذو المجاز وعكاظ متجرين للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك، حتى نزلت :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِكُمْ ﴾ وكان ابن الزبير يقرأ ﴿ فِي مَواقِيتِ الْحَجِّ ﴾.
﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه فإذا رجعتم من حيث بَدَأْتُم.
والثاني : أن الإفاضة : الدفع عن اجتماع، كفيض الإناء عن امتلاء.
والثالث : أن الإفاضة الإسراع من مكان إلى مكان.
وفي ﴿ عَرَفَاتٍ ﴾ قولان :
أحدهما : أنها ( جمع ) عرفة.
والثاني : أنها اسم واحد وإن كان بلفظ الجمع. وهذا قول الزجاج.
واختلفوا في تسمية المكان عرفة على أربعة أقاويل :
أحدها : أن آدم عرف فيه حواء بعد أن أُهْبِطَا من الجنة.
والثاني : أن إبراهيم عرف المكان عند الرؤية، لما تقدم له في الصفة.
والثالث : أن جبريل عرَّف فيه الأنبياء مناسكهم.
والرابع : أنه سُمِّيَ بذلك لعلو الناس فيه، والعرب تسمي ما علا ( عرفة ) و ( عرفات )، ومنه سُمِّيَ عُرف الديك لعلوه.
﴿ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ والمَشْعَرُ المَعْلَمُ، سُمِّيَ بذلك، لأن الدعاء عنده، والمقام فيه من معالم الحج، وحد المشعر ما بين منى ومزدلفة مِنْ حَد مفضي مَأزمَي عرفة إلى محسر، وليس مأزماً عرفة من المشعر.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنها نزلت في قريش، وكانوا يسمون الحمس، لا يخرجون من الحرم في حجهم، ويقفون مزدلفة، ويقولون نحن من أهل الله، فلا نخرج من حرم الله، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وهي موقف إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ يعني جميع العرب، وهذا قول عائشة، وعروة، ومجاهد، وقتادة.
والقول الثاني : أنها أمر لجميع الخلق من قريش وغيرهم، أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، يعني بالناس إبراهيم، وقد يعبر عن الواحد باسم الناس، قال الله تعالى :« الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » [ آل عمران : ١٧٣ ] وكان القائل واحداً، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول الضحاك.
وفي قوله تعالى :﴿ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ تأويلان :
أحدهما : استغفروه من ذنوبكم.
والثاني : استغفروه مما كان من مخالفتكم في الوقت والإفاضة.
قوله تعالى :﴿ فَإذَا قَضَيتُم مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ أما المناسك، فهي المتعبدات، وفيها ها هنا تأويلان :
أحدهما : أنها الذبائح، وهذا قول مجاهد.
والثاني : ما أمروا بفعله في الحج، وهذا قول الحسن البصري.
وفي قوله تعالى :﴿ فَاذْكُرُواْ اللهَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن هذا الذكر هو التكبير في أيام مِنى.
والثاني : أنه جميع ما سُنَّ من الأدعية في مواطن الحج كلها.
وفي قوله تعالى :﴿ كَذِكْرِكُمْ ءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾ ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم كانوا إذا فرغوا من حجهم في الجاهلية جلسوا في منى حَلَقاً وافتخروا بمناقب آبائهم، فأنزل الله تعالى ذكره ﴿ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾، وهذا قول مجاهد، وقتادة.
والثاني : أن معناه، فاذكروا الله كذكركم الأبناء الصغار للآباء، إذا قالوا : أبَهْ أُمَّه، وهذا قول عطاء، والضحاك.
والثالث : أنهم كانوا يدعون، فيقول الواحد منهم : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبّة، كثير المال، فاعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه، فأُمِرُوا بذكر الله، كذكرهم آباءهم، أو أشد ذكراً، وهو قول السدي.
قوله تعالى :﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الأَخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ فيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الحسنة العافية في الدنيا والآخرة، وهو قول قتادة.
والثاني : أنها نِعَمُ الدنيا ونِعَمُ الآخرة، وهو قول أكثر أهل العلم.
والثالث : أن الحسنة في الدنيا العلمُ، والعبادة، وفي الآخرة الجنة، وهو قول الحسن، والثوري.
والرابع : أن الحسنة في الدنيا المال، وفي الآخرة الجنة، وهو قول ابن زيد، والسدي.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هي أيام منى قول جميع المفسرين، وإن خالف بعض الفقهاء في أن أشرك بين بعضها وبين الأيام المعلومات.
﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ يعني تعجل النفْر الأول في اليوم الثاني من أيام منى.
﴿ وَمَن تَأَخَّرَ ﴾ يعني إلى النفْر الثاني، وهو الثالث من أيام منى.
﴿ فَلآَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ وفي الإثم ها هنا، خمسة تأويلات :
أحدها : أن من تعجل فلا إثم عليه في تعجله، ومن تأخر فلا إثم عليه في تأخره، وهذا قول عطاء.
والثاني : أن من تعجل في يومين، فمغفور له، لا إثم عليه، ومن تأخر فمغفور له، لا إثم عليه، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث : فلا إثم عليه، إن اتّقى فيما بقي من عمره، وهذا قول أبي العالية، والسدي.
والرابع : فلا إثم عليه، إن اتقى في قتل الصيد في اليوم الثالث، حتى يحلّوا أيام التشريق، وهذا قول ابن عباس.
والخامس : فلا إثم عليه، إن اتقى إصابة ما نُهِي عنه، فيغفر له ما سلف من ذنبه، وهذا قول قتادة.
فأما المراد بذكر الله تعالى في الأيام المعدودات، فهو التكبير فيها عقب الصلوات المفروضات، وَاخْتُلِفَ فيه على أربعة مذاهب :
أحدها : أنه تكبير من بعد صلاة الصبح، يوم عرفة، إلى بعد صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، وهذا قول علي رضي الله عنه، وبه قال من الفقهاء أبو يوسف، ومحمد.
والثاني : أنه تكبير من صلاة الفجر، من يوم عرفة، إلى صلاة العصر، من يوم النحر، وهذا قول ابن مسعود، وبه قال من الفقهاء أو حنيفة.
والثالث : أنه يكبر من بعد صلاة الظهر، من يوم النحر، إلى بعد صلاة العصر، من آخر أيام التشريق، وهذا قول زيد بن ثابت.
والرابع : أنه يكبر من بعد صلاة الظهر، من يوم النحر، إلى آخر صلاة الصبح، من آخر التشريق، وهذا قول عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وبه قال من الفقهاء الشافعي.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةٍ الدُّنْيَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني من الجميل والخير.
والثاني : من حب رسول الله ﷺ، والرغبة في دينه.
﴿ وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن يقول : اللهم اشهد عليّ فيه، وضميره بخلافه.
والثاني : معناه : وفي قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه.
والثالث : معناه : ويستشهد الله على صحة ما في قلبه، ويعلم أنه بخلافه. وهي في قراءة ابن مسعود ﴿ وَيَسْتَشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾.
﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ والألد من الرجال الشديد الخصومة، وفي الخصام قولان :
أحدهما : أنه مصدر، وهو قول الخليل.
والثاني : أنه جمع خصيم، وهو قول الزجاج.
وفي تأويل :﴿ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنه ذو جدال، وهو قول ابن عباس.
والثاني : يعني أنه غير مستقيم الخصومة، لكنه معوجها، وهذا قول مجاهد، والسدي.
والثالث : يعني أنه كاذب، في قول الحسن البصري.
والرابع : أنه شديد القسوة في معصية الله، وهو قول قتادة.
وقد روى ابن أبي مليكة، عن عائشة، أن النبي ﷺ قال :« أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى الأَلَدُّ الخَصَمُ
»
. وفيمن قصد بهذه الآية وما بعدها قولان :
أحدهما : أنه صفة للمنافق، وهذا قول ابن عباس، والحسن.
والثاني : أنها نزلت في الأخنس بن شريق، وهو قول السدي.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ ﴾ في قوله تولى تأويلان :
أحدهما : يعني غضب، حكاه النقاش.
والثاني : انصرف، وهو ظاهر قول الحسن.
وفي قوله تعالى :﴿ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ تأويلان :
أحدهما : يفسد فيها بالصد.
والثاني : بالكفر.
﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : بالسبي والقتل.
والثاني : بالضلال الذي يؤول إلى السبي والقتل.
﴿ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ معناه لا يحب أهل الفساد. وقال بعضهم لا يمدح الفساد، ولا يثني عليه، وقيل أنه لا يحب كونه ديناً وشرعاً، ويحتمل : لا يحب العمل بالفساد.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه دعته العزة إلى فعل الإثم.
والثاني : معناه إذا قيل له اتق الله، عزت نفسه أن يقبلها، للإثم الذي منعه منها.
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ ﴾ يشري نفسه أي يبيع، كما قال تعالى :﴿ وَشَرَوهُ بثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] أي باعوه، قال الحسن البصري : العمل الذي باع به نفسه الجهاد في سبيل الله.
واخْتُلِفَ فيمن نزلت فيه هذه الآية، على قولين :
أحدهما : نزلت في رجل، أمر بمعروف ونهى عن منكر، وقتل، وهذا قول علي، وعمر، وابن عباس.
والثاني : أنها نزلت في صُهيب بن سنان اشترى نفسه من المشركين بماله كله، ولحق بالمسلمين، وهذا قول عكرمة.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السلْمِ كَآفَّةً ﴾ قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي بفتح السين، والباقون بكسرها، واختلف أهل اللغة في الفتح والكسر، على وجهين :
أحدهما : أنهما لغتان تستعمل كل واحدة منهما في موضع الأخرى.
والثاني : معناهما مختلف، والفرق بينهما أن السِّلم بالكسر الإسلام، والسَّلم بالفتح المسالمة، من قوله تعالى :﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] وفي المراد بالدخول في السلم، تأويلان :
أحدهما : الدخول في الإسلام، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
والثاني : معناه ادخلوا في الطاعة، وهو قول الربيع، وقتادة.
وفي قوله :﴿ كَافَّةً ﴾ تأويلان :
أحدهما : عائد إلى الذين آمنوا، أن يدخلوا جميعاً في السلم.
والثاني : عائد إلى السلم أن يدخلوا في جميعه.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ ﴾ يعني آثاره.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : مبين لنفسه.
والآخر : مبين بعدوانه.
واختلفوا فيمن أبان به عدوانه على قولين :
أحدهما : بامتناعه من السجود لآدم.
والثاني : بقوله :﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ].
واختلفوا فيمن أمر بالدخول في السلم كافة، على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المأمور بها المسلمون، والدخول في السلم العمل بشرائع الإسلام كلها، وهو قول مجاهد، وقتادة.
والثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب، آمنوا بمن سلف من الأنبياء، فأُمِروا بالدخول في الإسلام، وهو قول ابن عباس، والضحاك.
والثالث : أنها نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام، وابن يامين، وأسد، وأسيد ابني كعب، وسعيد بن عمرو، وقيس بن زيد، كلهم من يهود قالوا لرسول الله ﷺ : يوم السبت كنا نعظمه ونَسْبِتُ فيه، وإن التوراة كتاب الله تعالى، فدعنا فلنصم نهارنا بالليل، فنزلت هذه الآية، وهو قول عكرمة.
قوله تعالى :﴿ فَإِن زَلَلْتُم ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه عصيتم.
والثاني : معناه كفرتم.
والثالث : إن ضللتم وهذا قول السدي.
﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنها حجج الله ودلائله.
والثاني : محمد، وهو قول السدي.
والثالث : القرآن، وهو قول ابن جريج.
والرابع : الإسلام.
﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ يعني عزيز في نفسه، حكيم في فعله.
قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالمَلاَئِكَةُ ﴾، قرأ قتادة ﴿ فِي ظِلاَلٍ الغَمَامِ ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : أن معناه إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام، وبالملائكة.
والثاني : إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام.
قوله تعالى :﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَآءِيل كَمْ ءَاتَيْنَاهُم منْ ءَايَةِ بَيِّنَةٍ ﴾ ليس السؤال على وجه الاستخبار، ولكنه على وجه التوبيخ.
وفي المراد بسؤاله بني إسرائيل، ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنبياؤهم.
والثاني : علماؤهم.
والثالث : جميعهم. والآيات البينات : فَلْقُ البحر، والظلل من الغمام، وغير ذلك.
﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ ﴾ يعني بنعمة الله برسوله ﷺ.
قوله تعالى :﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ في الدنيا وتزيينها لهم، ثلاثة أقاويل :
أحدها : زينها لهم الشيطان، وهو قول الحسن.
والثاني : زينها لهم الذين أغووهم من الإنس والجن، وهو قول بعض المتكلمين.
والثالث : أن الله تعالى زينها لهم بالشهوات التي خلقها لهم.
﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ لأنهم توهموا أنهم على حق، فهذه سخريتهم بضعفة المسلمين. وفي الذي يفعل ذلك قولان :
أحدهما : أنهم علماء اليهود.
والثاني : مشركو العرب.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ يعني أنهم فوق الكفار في الدنيا.
﴿ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
فإن قيل : كيف يرزق من يشاء بغير حساب وقد قال تعالى :﴿ عَطَاءً حِسَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٦ ] ففي هذا ستة أجوبة :
أحدها : أن النقصان بغير حساب، والجزاء بالحساب.
والثاني : بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء، لا يقدر بالحساب.
والثالث : إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق.
والرابع : دائم لا يتناهى فيصير محسوباً، وهذا قول الحسن.
والخامس : أن الرزق في الدنيا بغير حساب، لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره.
والسادس : أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يَمُنُ عليهم به.
قوله تعالى :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ في قوله :﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا على الكفر، وهذا قول ابن عباس والحسن.
والثاني : أنهم كانوا على الحق، وهو قول قتادة والضحاك.
والثالث : أنه آدم كان على الحق إماماً لذريته فبعث الله النبيين في ولده، وهذا قول مجاهد.
والرابع : أنهم عشر فرق كانوا بين آدم ونوح على شريعة من الحق فاختلفوا، وهذا قول عكرمة.
والخامس : أنه أراد جميع الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج الله ذرية آدم من صلبه، فعرضهم على آدم، فأقروا بالعبودية والإسلام، ثم اختلفوا بعد ذلك. وكان أُبيّ بن كعب يقرأ :﴿ كَانَ الْبَشَرُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾. وهذا قول الربيع وابن زيد.
وفي قوله تعالى :﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ﴾ قولان :
أحدهما : في الحق.
والثاني : في الكتاب وهو التوراة. ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾ يعني اليهود.
﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ يعني الحجج والدلائل ﴿ بَغْيَا بَيْنَهُمْ ﴾ مصدر من قول القائل : بغى فلان على فلان، إذا اعتدى عليه.
﴿ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أراد الجمعة، لأن أهل الكتاب اختلفوا فيها فضلوا عنها، فجعلها اليهود السبت، وجعلها النصارى الأحد، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا من الحق بإذنه، فهدى الله الذين آمنوا إليها، وهذا قول أبي هريرة.
والثاني : أنهم اختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى الشرق ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا الله للقبلة، وهذا قول ابن زيد.
والثالث : أنهم اختلفوا في الكتب المنزلة، فكفر بعضهم بكتاب بعض فهدانا الله للتصديق بجميعها.
قوله تعالى :﴿ يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلْ : مَآأَنفَقْتُم مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت قبل آية الزكاة في إيجاب النفقة على الأهل والصدقة ثم نسختها آية الزكاة، وهذا قول السدي.
والثاني : أن أصحاب رسول الله ﷺ سألوه عن أموالهم أين يضعونها، فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول ابن زيد.
قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ﴾ بمعنى فرض. وفي فرضه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه على أصحاب رسول الله ﷺ.
والثاني : أنه خطاب لكل أحد من الناس كلهم أبداً حتى يقوم به من فيه كفاية، وهذا قول الفقهاء والعلماء.
والثالث : أنه فرض على كل مسلم في عينه أبداً، وهذا قول سعيد بن المسيب.
ثم قال تعالى :﴿ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ والكرْهُ بالضم إدخال المشقة على النفس من غير إكراه أحد. والكَره بالفتح إدخال المشقة على النفس بإكراه غيره له. ثم فيه قولان :
أحدهما : أنه فيه حذفاً وتقديره : وهو ذو كره لكم وهذا قول الزجاج.
والثاني : معناه وهو مكروه لكم، فأقام المقدّر مُقامه.
ثم في كونه كرهاً تأويلان :
أحدهما : وهو كره لكم قبل التعبد وأما بعده فلا.
الثاني : وهو كره لكم في الطباع قبل الفرض وبعده. وإنما يحتمل بالتعبد.
ثم قال تعالى :﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ وفي عسى ها هنا قولان :
أحدهما : أنه طمع المشفق مع دخول الشك.
والثاني : أنها بمعنى قد. وقال الأصم :﴿ وَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيئاً ﴾ من القتال ﴿ وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ يعني في الدنيا بالظفر والغنيمة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، ﴿ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً ﴾ يعني من المتاركة والكف ﴿ وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، يعني في الدنيا بالظهور عليكم وفي الآخرة بنقصان أجوركم.
﴿ وَاللهُ يَعْلَمُ ﴾ ما فيه مصلحتكم ﴿ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾
قوله تعالى :﴿ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قَتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ والسبب في نزول هذه الآية أن عبد الله بن جحش خرج بأمر رسول الله ﷺ في سبعة نفر من أصحابه وهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، عكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن البيضاء، وخالد ابن البكير، وسعد بن أبي وقاص، وواقد بن عبد الله، وعبدُ الله بن جحش كان أميرهم، فتأخر عن القوم سعد وعتبة ليطلبا بعيراً لهما ضَلَّ، فلقوا عمرو بن الحضرمي فرماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وغُنِمت العير، وكان ذلك في آخر ليلة من جمادى الآخِرة أو أول ليلة من رجب، فعيرت قريش رسول الله ﷺ بذلك وقدم عبد الله بن جحش فلامه رسول الله ﷺ ولامه المسلمون حتى أنزل الله فيه هذه الآية.
واختلفوا فيمن سأل عن ذلك على قولين :
أحدهما : أنهم المشركون ليعيّروا بذلك رسول الله ﷺ، واستحلوا قتاله فيه، وهو قول الأكثر.
والثاني : أنهم المسلمون سألوا عن القتال في الشهر الحرام ليعلموا حكم ذلك. فأخبرهم الله تعالى : أن الصد عن سبيل الله وإخراج أهل الحرم منه والفتنة أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي الحرم، وهذا قول قتادة.
واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم هل نسخ أم لا؟ فقال الزهري : هو منسوخ بقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾. وقال عطاء : هو ثابت الحكم، وتحريم القتال فيه باقٍ غير منسوخ، والأول أصح لما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وأرسل أبا العاص إلى أوطاس لحرب مَنْ بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم، وكانت بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة.
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ أي يرجع، كما قال تعالى :﴿ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ [ الكهف : ٦٤ ] أي رجعا، ومن ذلك قيل : استرد فلان حقه.
﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ أي بطلت، وأصل الحبوط الفساد، فقيل في الأعمال إذا بطلت حبطت لفسادها.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ الآية. وسبب نزولها أن قوماً من المسلمين قالوا في عبد الله بن جحش ومن معه : إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزْراً فليس فيه أجر، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ يعني بالله ورسوله، ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾ يعني عن مساكنة المشركين في أمصارهم، وبذلك سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله ﷺ مهاجرين لهجرهم دورهم ومنازلهم كراهة الذل من المشركين وسلطانهم، ﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ يعني قاتلوا، وأصل المجاهدة المفاعلة من قولهم جهد كذا إذا أكدّه وشق عليه، فإن كان الفعل من اثنين كل واحد منهما يكابد من صاحبه شدة ومشقة قيل فلان يجاهد فلاناً. وأما ﴿ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ فطريق الله، وطريقه : دينه.
فإن قيل : فكيف قال :﴿ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ ﴾ ورحمة الله للمؤمنين مستحقة؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفاً أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها معه.
والجواب الثاني : أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم.
قوله تعالى :﴿ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾ الآية : يعني يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر والميسر وشربها، وهذه أول آية نزلت فيها.
والخمر كل ما خامر العقل فستره وغطى عليه، من قولهم خَمَّرتُ الإناء إذا غطيته، ويقال هو في خُمار الناس وغمارهم يراد به دخل في عُرضهم فاستتر بهم، ومن ذلك أُخذ خمار المرأة لأنه يسترها، ومنه قيل هو يمشي لك الخمر أي مستخفياً، قال العجاج :
في لامع العِقْبان لا يأتي الخَمَرْ... يُوجّهُ الأرضَ ويستاق الشّجَرْ
يعني بقوله لا يأتي الخمر أي لا يأتي مستخفياً لكن ظاهراً برايات وجيوش.
فأما الميسر فهو القمار من قول القائل يَسر لي هذا الشيء يَسْراً ومَيْسِراً، فالياسر اللاعب بالقداح ثم قيل للمقامر ياسر ويَسَر كما قال الشاعر :
فبت كأنني يَسَرٌ غبينٌ... يقلب بعدما اختلع القداحا
﴿ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿..... كَثِيرٌ ﴾ بالثاء.
وفي إثمهما تأويلان :
أحدهما : أن شارب الخمر يسكر فيؤذي الناس، وإثم الميسر : أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم، وهذا قول السدي.
والثاني : أن إثم الخمر زوال عقل شاربها إذا سكر حتى يغْرُب عنه معرفة خالقه. وإثم الميسر : ما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء كما وصف الله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمً الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ فِي الْخمر والْمَيسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] وهذا قول ابن عباس.
وأما قوله تعالى :﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾ فمنافع الخمر أثمانها وربح تجارتها، وما ينالونه من اللذة بشربها، كما قال حسان بن ثابت :
ونشربها فتتركنا ملوكاً... وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاءُ
وكما قال آخر :
فإذا شربت فإنني... رَبُّ الخَورْنق والسدير
وإذا صحوتُ فإنني... ربُّ الشويهة والبعير
وأما منافع الميسر ففيه قولان :
أحدهما : اكتساب المال من غير كدّ.
والثاني : ما يصيبون من أنصباء الجزور، وذلك أنهم كانوا يتياسرون على الجزور فإذا أفلح الرجل منهم على أصحابه نحروه ثم اقتسموه أعشاراً على عدة القداح، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة :
وجزور أيسار دعوت إلى الندى... أوساط مقفرة أخف طلالها
وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعْهِمَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما بعد التحريم، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أن كلاهما قبل التحريم يعني الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما، وهو قول سعيد بن جبير.
وفي قوله تعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ ستة تأويلات :
أحدها : بما فضل عن الأهل، وهو قول أبن عباس.
155
والثاني : أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافاً أو إقتاراً، وهو قول الحسن.
والرابع : إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير، وهو قول مروي عن ابن عباس أيضاً.
والخامس : أنه الصدقة عن ظهر غِنى، وهو قول مجاهد.
والسادس : أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد أيضاً.
واختلفوا في هذه النفقة التي هي العفو هل نسخت ؟ فقال ابن عباس نسخت بالزكاة. وقال مجاهد هي ثابتة.
واختلفوا في هذه الآية هل كان تحريم الخمر بها أو بغيرها؟ فقال قوم من أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية. وقال قتادة وعليه أكثر العلماء : أنها حرمت بأية المائدة.
وروى عبد الوهاب عن عوف عن أبي القُلوص زيد بن علي قال : أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات فأول ما أنزل الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَاقِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾، فشربها قوم من المسلمين أو من شاء الله منهم حتى شربها رجلان ودخلا في الصلاة وجعلا يقولان كلاماً لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الَّصلاة وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ فشربها من شربها منهم وجعلوا يتوقّونها عند الصلاة، حتى شربها فيما زعم أبو القلوص رجل فجعل ينوح على قتلى بدر، وجعل يقول :
تحيي بالسلامة أم بكرٍ وهل لي بعد قومي من سلام
ذريني اصطبحْ بكراَ فإني رأيت الموت نبّث عن هشام
ووديني المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام
وكائن بالطَويَّ طويَّ بدرٍ من الشيزي تُكَلّلُ بالسنامَ
وكائن بالطَويَّ طويَّ بدر من الفتيان والحلل الكرامِ
قال : فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فجاء فزعاً يجر رداءه من الفزع حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل ورفع رسول الله ﷺ شيئاً كان بيده ليضربه، فقال : أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، لا أطعمها أبداً، فأنزل الله في تحريمها ﴿ يَا أَيَّهَا الَّذِينَ ءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ ﴾ إلى قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٠٩١ ] فقالوا : انتهينا.
وروى موسى عن عمرو عن أسباط عن السدي قال : نزلت هذه الآية :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمْرِ والْمِيِسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾ فلم يزالوا يشربونها حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعا ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ، منهم علي بن أبي طالب وعمر رضي الله عنهما، فشربوا حتى سكروا، فحضرت الصلاة فأمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأ :﴿ قُلْ يَأَيُّها الْكَافِرُونَ ﴾ [ الكافرون : ١ ] فلم يُقِمْها، فأنزل الله تعالى يشدد في الخمر ﴿ يا أيُّهَا الَّذِينَ ءَآمَنْوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ ﴾ إلى قوله :﴿ مَا تَقُولُونَ ﴾ فكانت لهم حلالاً يشربونها من صلاة الغداة حتى يرتفع النهار أو ينتصف فيقومون إلى صلاة الظهر وهم صاحون، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون ويقومون إلى صلاة الفجر وقد أصبحوا، فلم يزالوا كذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاماً ودعا ناس من أصحاب رسول الله ﷺ فيهم رجل من الأنصار، فسوى لهم رأس بعير ثم دعاهم إليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري فرفع لحى البعير وكسر أنف سعد، فأنزل الله تعالى نسخ الخمر وتحريمها، فقال تعالى :
156
﴿ يَا أَيَّهَا الَّذِينَ ءَآمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيِسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأزْلاَمُ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] إلى قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ : إِصْلاَحٌ لَهُم خَيرٌ ﴾ قال المفسرون : لمّا نزلت سورة بني إسرائيل، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَّلتِي هيَ أَحْسَنُ ﴾، وفي سورة النساء :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً ﴾ تحرج المسلمون أن يخلطوا طعامهم بطعام من يكون عندهم من الأيتام، وكانوا يعزلون طعامهم هم طعامهم، وشرابهم عن شرابهم، حتى ربما فسد طعامهم، فشق ذلك عليهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِنَّ تُخَالِطوهُم فَإِخْوَانَكُم ﴾، يعني في الطعام، والشراب، والمساكنة، وركوب الدابة، واستخدام العبد قال الشعبي : فمن خالط يتيماً، فليوسع عليه، ومن خالط بأكل فلا يفعل.
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ قال ابن زيد : الله يعلم حين تخلط مالك بماله، أتريد أن تصلح ماله أو تفسد ماله بغير حق.
﴿ وَلَو شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُم ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لَشدّد عليكم، وهو قول السدي.
والثاني : لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً، وهو قول ابن عباس. ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ يعني عزيز في سلطانه وقدرته على الإعنات، حكيم فيما صنع من تدبيره وتركه الإعنات.
157
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشرِكاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ ﴾ اختلفوا فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها في جميع المشركات الكتابيات وغير الكتابيات، وأن حكمها غير منسوخ، فلا يجوز لمسلم أن ينكح مشركة أبداً، وذكر أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية، ونكح حذيفة نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً، حتى كاد يبطش بهما، فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال : لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن، ولكن ينزعن منكم صغرَةً قمأةً.
والثاني : أنها نزلت مراداً بها مشركات العرب، ومن دان دين أهل الكتاب، وأنها ثابتة لم نسخ شيء منها، وهذا قول قتادة، وسعيد بن جبير.
والثالث : أنها عامة في جميع المشركات، وقد نسخ منهن الكتابيات، بقوله تعالى في المائدة :﴿ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم ﴾ وقد روى الصلت بن بهرام، عن سفيان قال : تزوج حذيفة بن اليمان يهودية، فكتب إليه عمر ابن الخطاب، خلِّ سبيلها، فكتب إليه أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها ؟ فقال : لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تقاطعوا المؤمنات منهن، والمراد بالنكاح التزويج، وهو حقيقة في اللغة، وإن كان مجازاً في الوطء، قال الأعشى :
ولا تقربن جارةً إنّ سِرّها عليك حرام فانكحن أو تأبّدا
أي فتزوج أو تعفف.
قوله تعالى :﴿ وَلأَمَةٌ مُؤمِنَةُ خَيرٌ مِنَ مُشرِكَةٍ ﴾ يعني ولنكاح أمة مؤمنة، خير من نكاح حرة مشركة من غير أهل الكتاب وإنْ شَرُف نسبها وكَرُم أصلها، قال السدي : نزلت هذه الآية في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، فلطمها في غضب، ثم ندم، فأتى النبي ﷺ فأخبره فقال :« ما هي يا عبد الله » قال : تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد الشهادتين، فقال رسول الله :« هَذِه مُؤمِنَةٌ ». فقال ابن رواحة : لأعتقنها ولأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين، فأنزل الله تعالى هذا.
﴿ وَلَو أَعجَبَتكُم ﴾ يعني جمال المشركة وحسبها ومالها.
﴿ وَلاَ تُنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا ﴾ هذا على عمومه إجماعاً، لا يجوز لمسلمة أن تنكح مشرك أبداً. روى الحسن عن جابر قال : قال رسول الله ﷺ :« نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أهْلِ الكِتَابِ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا » وفي هذا دليل على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
قوله تعالى :﴿ وَيَسئَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أَذَىً ﴾ قال السدي : السائل كان ثابت بن الدحداح الأنصاري، وكانت العرب ومن في صدر الإسلام من المسلمين يجتنبون مُساكنة الحُيَّض ومؤاكلتهن ومشاربتهن، فسألوا رسول الله ﷺ، فنزلت هذه الآية، وهذا قول قتادة. وقال مجاهد : كان يعتزلون الحُيَّض في الفرج، ويأتونهن في أدبارهن مدة حيضهن، فأنزلت هذه الآية، والأذى هو ما يؤذي من نتن ريحه ووزره ونجاسته.
﴿ فَاعتَزِلُوا النِسَآءَ فىِ المَحِيضِ ﴾ اختلفوا في المراد بالإعتزال على ثلاثة أقاويل :
أحدها : اعتزل جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه، وهذا قول عبيدة السلماني.
والثاني : ما بين السرة والركبة، وهذا قول شريح.
والثالث : الَفرِج وهذا قول عائشة وميمونه وحفصة وجمهور المفسرين.
ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطهُرنَ ﴾ فيه قراءتان :
إحداهما : التخفيف وضم الهاء، وهي قراءة الجمهور، ومعناه بانقطاع الدم وهو قول مجاهد وعكرمة.
والثانية : بالتشديد وفتح الهاء، قرأ بها حمزة، والكسائي وعاصم، وفي رواية أبي بكر عنه، ومعناها حتى تغتسل.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾ يعني بالماء، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه إذا اغتسلن وهو قول ابن عباس وعكرمة والحسن.
والثاني : الوضوء، وهو قول مجاهد، وطاوس.
والثالث : غسل الفرج.
وفي قوله تعالى :﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : القُبُل الذي نهى عنه في حال الحيض، وهو قول ابن عباس.
الثاني : فأتوهن من قِبَل طهرهن، لا من قِبَل حيضهن، وهذا قول عكرمة، وقتادة.
والثالث : فأتوا النساء من قِبَل النكاح لا من قِبَل الفجور، وهذا قول محمد ابن الحنفية.
والرابع : من حيث أحل لكم، فلا تقربوهن محرمات، ولا صائمات ولا معتكفات، وهذا قول الأصم.
﴿ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُطَهَرِينَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : المتطهرين بالماء، وهذا قول عطاء.
والثاني : يحب المتطهرين من أدبار النساء أن يأتوها، وهذا قول مجاهد.
والثالث : يحب المتطهرين من الذنوب، أن لا يعودوا فيها بعد التوبة منها، وهو محكي عن مجاهد أيضاً.
قوله تعالى :﴿ نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ ﴾ أي مزدرع أولادكم ومحترث نسلكم، وفي الحرث كناية عن النكاح، ﴿ فَأتُوا حَرثَكُمْ ﴾ فانكحوا مزدرع أولادكم.
﴿ أَنَّى شِئتُمْ ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني كيف شئتم في الأحوال، روى عبد الله بن علي أن أناساً من أصحاب رسول الله ﷺ، جلسوا يوماً ويهودي قريب منهم، فجعل بعضهم يقول : إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة، ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر : إني لآتيها وهي على جنبها، ويقول الآخر إني لآتيها وهي باركة، فقال اليهودي : ما أنتم إلا أمثال البهائم ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة، فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول عكرمة.
159
والثاني : يعني من أي وجه أحببتم في قُبِلها، أو من دُبْرِها في قُبلها.
روى جابر أن اليهود قالوا : إن العرب يأتون النساء من أعجازهن، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول، فَأَكْذَبَ الله حديثهم وقال :﴿ نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ ﴾، وهذا قول ابن عباس، والربيع.
والثالث : يعني من أين شئتم وهو قول سعيد بن المسيب وغيره.
والرابع : كيف شئتم أن تعزلوا أو لا تعزلوا، وهذا قول سعيد بن المسيب.
والخامس : حيث شئتم من قُبُلٍ، أو من دُبُرٍ، رواه نافع، عن ابن عمر وروى عن غيره.
وروى حبيش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس أن ناساً من حِمْير أتوا النبي ﷺ يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم : يا رسول الله : إني رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه، فأنزل فيما سأل عنه الرجل :﴿ نِسَاؤُكُم حَرثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرثَكُمْ أَنَّى شِئتُمْ ﴾، فقال رسول الله ﷺ :« مُقْبِلةً وَمُدْبِرةً إِذا كان في الفرج
»
. ﴿ وَقَدمِوُاْ لأَنفُسِكم ﴾ الخير، وهو قول السدي.
والثاني : وقدموا لأنفسكم ذكر الله تعالى عند الجماع، وهو قول ابن عباس.
160
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ أما العرضة في كلام العرب، فهي القوة والشدة، وفيها ها هنا تأويلان :
أحدهما : أن تحلف بالله تعالى في كل حق وباطل، فتتبذل اسمه، وتجعله عُرضة.
والثاني : أن معنى عُرضة، أي علة يتعلل بها في بِرّه، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يمتنع من فعل الخير والإصلاح بين الناس إذا سئل، فيقول عليّ يمين أن لا أفعل ذلك، أو يحلف بالله في الحال فيعتلّ في ترك الخير باليمين، وهذا قول طاووس، وقتادة، والضحاك، وسعيد بن جبير.
والثاني : أن يحلف بالله ليفعلن الخير والبر، فيقصد في فعله البر في يمينه، لا الرغبة في فعله.
وفي قوله :﴿ أَن تَبَرُّواْ ﴾ قولان :
أحدهما : أن تبروا في أيمانكم.
والثاني : أن تبروا في أرحامكم.
﴿ وَتَتَقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ هو الإصلاح المعروف ﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سميع لأيمانكم، عليم باعتقادكم.
قوله تعالى :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغوِ فيِ أَيْمانِكُم ﴾ أما اللغو في كلام العرب، فهو كل كلام كان مذموماً، وفضلا لا معنى له، فهو مأخوذ من قولهم لغا فلان في كلامه إذا قال قبحاً، ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]. فأما لغو اليمين التي لا يؤاخذ الله تعالى بها، ففيها سبعة تأويلات :
أحدها : ما يسبق به اللسان من غير قصد كقوله : لا والله، وبلى والله، وهو قول عائشة، وابن عباس، وإليه ذهب الشافعي، روى عبد الله بن ميمون، عن عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال : مر رسول الله ﷺ بقوم ينضلون يعني يرمون، ومع النبي ﷺ رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال أصاب والله، أخطأت والله، فقال الذي مع النبي ﷺ : حنث الرجل يا رسول الله، فقال :« كَلاَّ أَيْمَانُ الرَُمَاةِ لَغُّوٌ وَلاَ كَفَّارَةَ وَلاَ عُقٌوبَةَ
»
. والثاني : أن لغو اليمين، أن يحلف على الشيء يظن أنه كما حلف عليه، ثم يتبين أنه بخلافه، وهو قول أبي هريرة.
والثالث : أن لغو اليمين أن يحلف بها صاحبها في حال الغضب على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن صلة للكلام، وهو قول طاوس.
وقد روى يحيى بن أبي كثير عن طاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ :« لاَ يَمِينَ فِي غَضَبٍ
»
. والرابع : أن لغو اليمين أن يحلف بها في المعصية، فلا يكفر عنها، وهو قول سعيد بن جبير، ومسروق، والشعبي، وقد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله ﷺ قال :
161
« مَنْ نَذَرَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ فَلاَ نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلاَ يَمِينَ لَهُ
»
. والخامس : أن اللغو في اليمين، إذا دعا الحالف على نفسه، كأن يقول : إن لم أفعل كذا فأعمى الله بصري، أو قلل من مالي، أو أنا كافر بالله، وهو قول زيد بن أسلم.
والسادس : أن لغو اليمين هو ما حنث فيه الحالف ناسياً، وهذا قول النخعي.
ثم قوله تعالى :﴿ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن يحلف كاذباً أو على باطل، وهذا قول إبراهيم النخعي.
والثاني : أن يحلف عمداً، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنه اعتقاد الشرك بالله والكفر، وهذا قول ابن زيد.
﴿ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ غفور لعباده، فيما لغوا من أيمانهم، حليم في تركه مقابلة أهل حسنته بالعقوبة على معاصيهم.
162
قوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ﴾ معنى قوله تعالى :﴿ يُؤْلُونَ ﴾ أي يقسمون، والألية : اليمين، قال الشاعر :
كُفِينا مَنْ تعنّت من نِزَار وأحلَلْنا إليه مُقسِمينا
وفي الكلام حذف، تقديره : للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم لكنه إنما دل عليه ظاهر الكلام.
واختلفوا في اليمن التي يصير بها مولياً على قولين :
أحدهما : هي اليمين بالله وحده.
والثاني : هل كل عين لزم الحلف في الحنث بها ما لم يكن لازماً له وكلا القولين عن الشافعي.
واختلفوا في الذي إذا حلف عليه صار مُولياً على ثلاثة أقاويل :
أحدها : هو أن يحلف على امرأته في حال الغضب على وجه الإضرار بها، أن لا يجامعها في فرجها، وأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير الغضب فليس بمولٍ، وهو قول عليّ، وابن عباس وعطاء.
والثاني : هو أن يحلف أن لا يجامعها في فرجها، سواء كان في غضب أو غير غضب، وهو قول الحسن، وابن سيرين، والنخعي، والشافعي.
والثالث : هو كل يمين حلف بها في مساءة امرأته على جماع أو غيره، كقوله والله لأسوءنك أو لأغيظنك، وهو قول ابن المسيب، والشعبي، والحكم.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِن فَاؤُوا ﴾ يعني رجعوا، والفيء والرجوع من حال إلى حال، لقوله تعالى :﴿ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله ﴾ [ الحجرات : ٩ ] أي ترجع، ومنه قول الشاعر :
ففاءَتْ ولم تَقْضِ الذي أقبلت له ومِنْ حَاجَةِ الإنسانِ ما ليْسَ قاضيا
وفي الفيء ثلاثة تأويلات :
أحدها : الجماع لا غير، وهو قول ابن عباس، ومن قال إن المُوِلَي هو الحالف على الجماع دون غيره.
والثاني : الجماع لغير المعذور، والنية بالقلب وهو قول الحسن وعكرمة.
والثالث : هو المراجعة باللسان بكل غالب أنه الرضا، قاله ابن مسعود، ومن قال إن المُولي هو الحالف على مساءة زوجته.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أراد غفران الإثم وعليه الكفارة، قاله عليّ وابن عباس وسعيد بن المسيب.
والثاني : غفور بتخفيف الكفارة إسقاطها، وهذا قول من زعم أن الكفارة لا تلزم فيما كان الحنث براً، قاله الحسن، وإبراهيم.
والثالث : غفور لمأثم اليمين، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتفكير، قاله ابن زيد.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ ﴾ الآية. قرأ ابن عباس وإن عزموا السّراح، وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن عزيمة الذي لا يفيء حتى تمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك. واختلف من قال بهذا في الطلاق الذي يلحقها على قولين :
أحدهما : طلقة بائنة، وهو قول عثمان، وعليّ، وابن زيد، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس.
والثاني : طلقة رجعية، وهو قول ابن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة.
163
الثاني : أن تمضي الأربعة الأشهر، يستحق عليها أن يفيء، أو يطلق، وهو قول عمر، وعلي في رواية عمرو بن سلمة، وابن أبي ليلى عنه، وعثمان في رواية طاووس عنه، وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر في رواية نافع عنه.
روى سُهَيْلُ بن أبي صالح عن أبيه قال :« سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي ﷺ عن الرجل يُولي من امرأته فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلاّ طلق » وهو قول الشافعي، وأهل المدينة.
والثالث : ليس الإيلاء بشيء، وهو قول سعيد بن المسيب، في رواية عمرو ابن دينار عنه.
وفي قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ تأويلان :
أحدهما : يسمع إيلاءه.
والثاني : يسمع طلاقه. وفي ﴿ عَلِيمٌ ﴾ تأويلان :
أحدهما : يعلم نيته.
والثاني : يعلم صبره.
164
قوله تعالى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ﴾ يعني المخليات، والطلاق : التخلية كما يقال للنعجة المهملة بغير راع : طالق، فسميت المرأة المَخْلي سبيلها بما سميت به النعجة المهمل أمرها، وقيل إنه مأخوذ من طلق الفرس، وهو ذهابه شوطاً لا يمنع، فسميت المرأة المُخْلاَةُ طالقاً لأنها لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة، ولذلك قيل لذات الزوج إنها في حباله لأنها كالمعقولة بشيء، وأما قولهم طَلَقَتْ المرأة فمعناه غير هذا، إنما يقال طَلَقَتْ المرأة إذا نَفَسَتْ، هذا من الطلْق وهو وجع الولادة، والأول من الطَّلاَقِ.
ثم قال تعالى :﴿ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ﴾ أي مدة ثلاثة قروء، واختلفوا في الأقراء على قولين :
أحدهما : هي الحِيَضُ، وهو قول عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والسدي، ومالك، وأبي حنيفة، وأهل العراق، استشهاداً بقول الشاعر :
يا رُبَّ ذي صغن عليّ فارض له قروءٌ كقروءِ الحائض
والثاني : هي الأطهار، وهو قول عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، والزهري، وأبان بن عثمان، والشافعي، وأهل الحجاز، استشهاداً بقول الأعشى :
أفي كلِّ عامٍ أنتَ جَاشِمُ غزوةً تَشُدُّ لأقصاها عزِيمَ عزائِكَا
مُوَرّثَةً مالاً وفي الحيِّ رِفعَةٌ لِمَا ضاعَ فيها من قروءِ نِسائكا
واختلفوا في اشتقاق القرء على قولين :
أحدهما : أن القرء الاجتماع، ومنه أخذ اسم القرآن لاجتماع حروفه، وقيل : قد قرأ الطعام في شدقه وقرأ الماء في حوضه إذا جمعه، وقيل : ما قرأتِ الناقة سَلَى قط، أي لم يجتمع رحمها على ولد قط، قال عمرو بن كلثوم :
تُرِيكَ إذا دَخَلْتَ على خَلاءٍ وقد أمنَتْ عُيونُ الكَاشِحِينا
ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أدْمَاءَ بكرِ هَجَانَ اللون لم تقرَأْ جَنِينَا
وهذا قول الأصمعي، والأخفش، والكسائي، والشافعي، فمن جعل القروء اسماً للحيض سماه بذلك، لاجتماع الدم في الرحم، ومن جعله اسماً للطهر فلاجتماعه في البدن.
والقول الثاني : أن القرء الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجِيؤه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، وكذلك قالت العرب : أَقْرأَتْ حاجة فلان عندي، أي دنا وقتها وحان قضاؤها. وأَقْرَأَ النجم إذا جاء وقت أُفوله، وقرأ إذا جاء وقت طلوعه، قال الشاعر :
إذا ما الثُّرَيَّا وقد أقَرْأَتْ ........................
وقيل : أقرأت الريح، إذا هبت لوقتها، قال الهذلي :
كَرِهتُ العقْرَ عَقْرَ بني شليل إذا لِقَارئِهَا الرِّياح
يعني هبت لوقتها، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء.
فمن جعل القرْء اسماً للحيض، فلأنه وقت خروج الدم المعتاد، ومن جعله اسماً للطهر، فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد.
ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ في أَرْحَامِهِنَّ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه الحيض، وهو قول عكرمة، والزهري، والنخعي.
165
والثاني : أنه الحمل، قاله عمر وابن عباس.
والثالث : أنه الحمل والحيض قاله عمر ومجاهد.
﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ وعيد من الله لهن، واختلف في سبب الوعيد على قولين :
أحدهما : لما يستحقه الزوج من الرجعة، وهو قول ابن عباس.
والثاني : لإلحاق نسب الوليد بغيره كفعل الجاهلية، وهو قول قتادة.
ثم قال تعالى :﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ ﴾ البعل : الزوج، سُمِّيَ بذلك، لعلوه على الزوجة بما قد ملكه عن زوجيتها ومنه قوله تعالى :﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلاً ﴾ [ الصافات : ١٢٥ ] أي رَبّاً لعلوه بالربوبية، ﴿ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ﴾ أي برجعتهن، وهذا مخصوص في الطلاق الرجعي دون البائن.
﴿ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحاً ﴾ يعني إصلاح ما بينهما من الطلاق.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن، مثل الذي عليهن من الطاعة، فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن، وهو قول الضحاك.
والثاني : ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين، مثل ما لأزواجهن، وهو قول ابن عباس.
والثالث : أن الذي لهن على أزواجهن، ترك مضارتهن، كما كان ذلك لأزواجهن، وهو قول أبي جعفر.
ثم قال تعالى :﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ وفيه خمسة تأويلات :
أحدها : فضل الميراث والجهاد، وهو قول مجاهد.
والثاني : أنه الإمْرَةُ والطاعة، وهو قول زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن.
والثالث : أنه إعطاء الصداق، وأنه إذا قذفها لاعنها، وإن قذفته حُدَّتْ، وهو قول الشعبي.
والرابع : أفضاله عليها، وأداء حقها إليها، والصفح عما يجب له من الحقوق عليها، وهو قول ابن عباس وقتادة.
والخامس : أن جعل له لحْية، وهو قول حميد.
166
قوله تعالى :﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث، وأنه يملك في الاثنين الرجعة ولا يملكها في الثالثة، وهو قول عروة وقتادة، وروى هشام بن عروة عن أبيه قال : كان الرجل يطلق ناسياً، إنْ راجع امرأته قبيل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها : لا أقربك ولا تختلين مني، قالت له كيف؟ أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، فشكت زوجها إلى النبي ﷺ، فأنزل الله تعالى :﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾ الآية.
والتأويل الثاني : أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قول طلقة واحدة، وهو قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومجاهد.
قوله تعالى :﴿ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ ﴾ فيه تأويلان :
الأول : هذا في الطلقة الثالثة، روى سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال : جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال : الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال :﴿ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ ﴾، وهذا قول عطاء، ومجاهد.
والثاني :﴿ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ ﴾ الرجعة بعد الثانية ﴿ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ ﴾ والإمساك عن رجعتها حتى تنقضي العدة، وهو قول السدي، والضحاك. الإحسان هو تأدية حقها، والكف عن أذاها.
ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ يعني من الصداق ﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ ﴾ قرأ حمزة بضم الياء من يخافا، وقرأ الباقون بفتحها، والخوف ها هنا بمعنى الظن، ومنه قول الشاعر :
أتاني كلامٌ عن نصيبٍ يقوله وما خِفْتُ بالإسلامِ أنك عائبي
يعني وما ظننت.
وفي ﴿ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أن لا تطيع له أمراً، ولا تبرّ له قَسَماً، وهو قول الحسن، والشعبي.
والثالث : هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة، وهو قول عطاء.
والرابع : أن يكره كل واحد منهما صاحبه، فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه، وهو قول طاووس، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، روى ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله ﷺ « المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ ». يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره.
ثم قال تعالى :﴿ فإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَليهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : افتدت به نفسها من الصداق وحده من غير زيادة، وهو قول عليّ، وعطاء، والزهري، وابن المسيب، والشعبي، والحكم، والحسن.
والقول الثاني : يجوز أن تُخَالِعَ زوجها بالصداق وبأكثر منه، وهذا قول عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والشافعي. رَوَى عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الرُّبَيِّعَ بنت مُعَوّذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يُقِلُّ عليَ الخبز إذا حضر، ويحرمني إذا غاب، قالت : وكانت مني زَلَّةٌ يوماً فقلت : أنْخَلِعُ منك بكل شيء أملكه، قال : نعم، قالت ففعلت، قالت : فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ ما دون عقاص الرأس.
167
واختلفوا في نسخها، فَحُكِيَ عن بكر بن عبد الله أن الخلع منسوخ بقوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوجٍ وَءَاتَيتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيئاً ﴾ [ النساء : ٢٠ ] وذهب الجمهور إلى أن حكمها ثابت في جواز الخلع.
وقد روى أيوب، عن كثير مولى سَمُرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بامرأة ناشزة، فأمر بها إلى بيت كثير، فحبسها ثلاثاً، ثم دعاها فقال : كيف وجدت مكانك؟ قالت : ما وجدتُ راحة منذ كنت إلا هذه الليالي التي حبستني، فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها.
وقوله تعالى :﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنها الطلقة الثالثة وهو قول السدي.
والثاني : أن ذلك تخيير لقوله تعالى :﴿ أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، وهو قول مجاهد.
﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوجاً غَيرَهُ ﴾ يعني أنها لا تحل للزوج المطلق ثلاثاً حتى تنكح زوجاً آخر، وفيه قولان :
أحدهما : أن نكاح الثاني إذا طلقها منه أحلها للأول سواء دخل بها أو لم يدخل، وهو قول سعيد بن المسيب.
والثاني : أنها لا تحل للأول بنكاح الثاني، حتى يدخل بها فتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، للسنّة المروية فيه، وهو قول الجمهور.
168
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي قاربْن انقضاء عِدَدهن، كما يقول المسافر : بلغت بلد كذا إذا قاربه.
﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ هو المراجعة قبل انقضاء العدة ﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ وهو تركها حتى تنقضي العدة.
﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ ﴾ هو أن يراجع كلما طلّق حتى تطول عدتها إضراراً بها.
﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ يعني في قصد الإضرار، وإن صحت الرجعة، والطلاق.
رَوَى حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله ﷺ غضب على الأشعريين، قالوا : يقول أحدهم قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا بطلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها ولا تتخذوا آيات الله هزواً.
وروى سليمان بن أرقم : أن الحسن حدثهم : أن الناس كانوا على عهد رسول الله ﷺ يُطَلّق أو يعتق، فيقال : ما صنعت؟ فيقول : كنت لاعباً، قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :« مَنْ طَلَّقَ لاَعِباً أَو أعْتَقَ لاَعِباً جَازَ عَليهِ
»
. قال الحسن : وفيه نزلت :﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللهِ هُزُواً ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ بلوغ الأجل ها هنا [ تناهيه ]، بخلاف بلوغ الأجل في الآية التي قبلها، لأنه لا يجوز لها أن تنكح غيره قبل انقضاء عدتها، قال الشافعي : فدخل اختلاف المعنيين على افتراق البلوغين.
ثم قال تعالى :﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ وفي العضل قولان :
أحدهما : أنه المنع، ومنه قولهم : داء عضال إذا امتنع من أن يُداوَى، وفلان عُضَلَةٌ أي داهية، لأنه امتنع بدهائه.
والقول الثاني : أن العضل الضيق، ومنه قولهم : قد أعضل بالجيش الفضاء، إذا ضاق بهم. وقال عمر بن الخطاب : قد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن والٍ، ولا يرضى عنهم والٍ، وقال أوس بن حجر.
وليس أخُوكَ الدَّائِمُ العَهْدِ بالَّذِي يذُمُّك إن ولَّى وَيُرْضِيك مُقبِلاً
ولكنه النَّائي إذا كُنتَ آمِناً وصاحِبُكَ الأدْنَى إذا الأمْرُ أعْضَلاَ
فنهى الله تعالى أولياء المرأة عن عضلها ومنعها من نكاح مَنْ رضيته من الأزواج.
وفي قوله تعالى :﴿ إِذَا تَرَاضَوا بَينَهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ تأويلان :
أحدهما : إذا تراضى الزوجان.
والثاني : إذا رضيت المرأة بالزوج الكافي. قال الشافعي : وهذا بيّن في كتاب الله تعالى يدل على أن ليس للمرأة أن تنكح بغير وليّ.
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في معقل بن يسار زوّج أخته، ثم طلقها زوجها وتراضيا بعد العدة أن يتزوجها، فَعَضَلَهَا معقل، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني : أنها نزلت في جابر بن عبد الله مع بنت عم له، وقد طلقها زوجها، ثم خطبها فأبى أن يزوجه بها، وهذا قول السدي.
والثالث : أنها نزلت عموماً في نهي كل ولي عن مضارة وليّته من النساء أن يعضلها عن النكاح، وهذا قول ابن عباس، والضحاك، والزهري.
قوله تعالى :﴿ وَالْوَلِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَيْنِ ﴾ والحول السنة، وفي أصله قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من قولهم : حال الشيء إذا انقلب عن الوقت الأول، ومنه استحالة الكلام لانقلابه عن الصواب. والثاني : أنه مأخوذ من التحول عن المكان، وهو الانتقال منه إلى المكان الأول.
وإنما قال حولين كاملين، لأن العرب تقول : أقام فلان بمكان كذا حولين وإنما أقام حولاً وبعض آخر، وأقام يومين وإنما أقام يوماً وبعض آخر، قال الله تعالى :﴿ وَاذْكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] ومعلوم أن التعجل في يوم وبعض يوم.
واختلف أهل التفسير فيما دلت عليه هذه الآية من رضاع حولين كاملين، على تأويلين :
أحدهما : أن ذلك في التي تضع لستة أشهر فإن وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرين شهراً، استكمالاً لثلاثين شهراً، لقوله تعالى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أن ذلك أمر برضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه أن يرضع حولين كاملين، وهذا قول عطاء والثوري.
ثم قال تعالى :﴿ وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ يريد بالمولود له الأب عليه في ولده للمرضعة له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وفيه قولان :
أحدهما : أن ذلك في الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها فلها رزقها من الغذاء، وكسوتها من اللباس. ومعنى بالمعروف أجرة المثل، وهذا قول الضحاك.
والثاني : أنه يعني به الأم ذات النكاح، لها نفقتها وكسوتها بالمعروف في مثلها، على مثله من يسار، وإعسار.
ثم قال تعالى :﴿ لاَ تُضَار وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ أي لا تمتنع الأم من إرضاعه إضراراً بالأب، وهو قول جمهور المفسرين.
وقال عكرمة : هي الظئر المرضعة دون الأم.
ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ مَولُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ وهو الأب في قول جميعهم، لا ينزع الولد من أمه إضراراً بها.
ثم قال تعالى :﴿ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الوارث هو المولود نفسه، وهذا قول قبيصة بن ذؤيب.
والثاني : أنه الباقي من والدي بعد وفاة الآخر منهما، وهو قول سفيان.
والثالث : أنه وارث الولد، وهذا قول الحسن، والسدي.
والرابع : أنه وارث الولد، وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : وارثه من عصبته إذا كان أبوه ميتاً سواء كان عماً أو أخاً أو ابن أخ أو ابن عم دون النساء من الورثة، وهذا قول عمر بن الخطاب، ومجاهد.
والثاني : ورثته من الرجال والنساء، وهو قول قتادة.
والثالث : هم مِنْ ورثته من كان منهم ذا رحم محرم، وهذا قول أبي حنيفة.
171
والرابع : أنهم الأجداد ثم الأمهات، وهذا قول الشافعي.
وفي قوله تعالى :﴿ مثل ذلك ﴾ تأويلان :
أحدهما : أن على الوارث مثل ما كان على والده من أجرة رضاعته ونفقته، وهو قول الحسن، وقتادة، وإبراهيم.
والثاني : أن على الوارث مثل ذلك في ألاَّ تضار والدة بولدها، وهذا قول الضحاك، والزهري.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا ﴾ والفصال : الفصام، سمي فصالاً لانفصال المولود عن ثدي أمه، من قولهم قد فاصل فلان فلاناً إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. والتشاور : استخراج الرأي بالمشاورة.
وفي زمان هذا الفِصال عن تراض قولان :
أحدهما : أنه قبل الحولين إذا تراضى الوالدان بفطام المولود فيه جاز، وإن رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجز، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والزهري، والسدي.
والقول الثاني : أنه قبل الحولين وبعده، وهذا قول ابن عباس.
ثم قال تعالى :﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُم ﴾ يعني لأولادكم، فحذف اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون للأولاد، وهذا عند امتناع الأم من إرضاعه، فلا جناح عليه أن يسترضع له غيرها ظِئْراً.
﴿ إذا سَلَّمْتُم مَّا ءَاتَيتُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : إذا سلمتم أيها الآباء إلى الأمهات أجور ما أرضعن قبل امتناعهن، وهذا قول مجاهد، والسدي.
والثاني : إذا سلّمتم الأولاد عن مشورة أمهاتهم إلى من يتراضى به الوالدان في إرضاعه، وهذا قول قتادة، والزهري.
والثالث : إذا سلّمتم إلى المرضعة التي تستأجر أجرها بالمعروف، وهذا قول سفيان.
172
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ يعني بالتربص زمان العِدّة في المتوَّفى زوجُها، وقيل في زيادة العشرة على الأشهر الأربعة ما قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية أن الله تعالى ينفخ الروح في العشرة، ثم ذكر العشر بالتأنيث تغليباً لليالي على الأيام إذا اجتمعت لأن ابتداء الشهور طلوع الهلال ودخول الليل، فكان تغليب الأوائل على الثواني أوْلى.
واختلفوا في وجوب الإِحْدَادِ فيها على قولين :
أحدهما : أن الإِحْدَاد فيها واجب، وهو قول ابن عباس، والزهري.
والثاني : ليس بواجب، وهو قول الحسن.
روى عبد الله ابن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عُمَيس قالت : لمّا أصيب جعفر بن أبي طالب، قال لي رسول الله ﷺ :« تَسَلَّبي ثَلاَثاً ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ ». والإِحْدَادُ : الامتناع من الزينة، والطيب، والترجل، والنُّقْلة.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا فَعَلنَّ فِي أَنْفُسِهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فإن قيل : فما المعنى في رفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهن؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الخطاب تَوَجّه إلى الرجال فيما يلزم النساء من أحكام العِدّة، فإذا بلغن أجلهن ارتفع الجناح عن الرجال في الإنكار عليهن وأخذهن بأحكام عددهن.
والثاني : أنه لا جناح على الرجال في نكاحهن بعد انقضاء عِدَدِهن.
ثم قوله تعالى :﴿ فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ﴾ تأويلان : أحدهما : من طيب، وتزْين، ونقلة من مسكن، وهو قول أبي جعفر الطبري.
والثاني : النكاح الحلال، وهو قول مجاهد. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إِلَى الْحَولِ غَيرَ إِخْرَاج ﴾ [ البقرة : ٢٤٠ ] فإن قيل : فهي متقدمة والناسخ يجب أن يكون متأخراً، قيل هو في التنزيل متأخر، وفي التلاوة متقدم. فإن قيل : فَلِمَ قُدِّم في التلاوة مع تأخره في التنزيل؟ قيل : ليسبق القارىء إلى تلاوته ومعرفة حكمه حتى إن لم يقرأ ما بعده من المنسوخ أجزأه.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ أما التعريض، فهو الإشارة بالكلام إلى ما ليس فيه ذكر النكاح، وأما الخِطبة بالكسر فهي طلب النكاح، وأما الخُطبة بالضَّمِ فهي كلام يتضمن وعْظاً أو بلاغاً. والتعريض المباح في العدة أن يقول لها : ما عليك أَيْمة ولعل الله أن يسوق إليك خيراً، أو يقول : رُبَّ رجلٍ يَرْغب فيك، غلى ما جرى مجرى هذه الألفاظ.
ثم قال تعالى :﴿ أو أكننتم في أنفسكم ﴾ يعني ما أسررتموه من عقدة النكاح.
ثم قال تعالى :﴿ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ في السر خمسة تأويلات :
أحدها : أنه الزنى، وهو قول الحسن، وأبي مجلز، والسدي، والضحاك وقتادة.
والثاني : ألا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عِددهن ألا ينكحن غيركم، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والشعبي.
والثالث : ألا تنكحوهن في عِددهن سراً، وهو قول عبد الرحمن بن زيد.
والرابع : أن يقول لها : لا تفوتني نفسك، وهو قول مجاهد.
والخامس : الجماع، وهو قول الشافعي.
ثم قال تعالى :﴿ إلا أن تقولوا قولاً معروفاً ﴾ معناه : قولوا قولاً معروفاً، وهو التعريض. ثم قال تعالى :﴿ وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾.
وفي الكلام حذف وتقديره : ولا تعزموا على عقدة النكاح، يعني التصريح بالخطبة. وفي ﴿ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ قولان :
أحدهما : معناه فرض الكتاب أجله، يريد انقضاء العدّة، فحذف الفرض اكتفاء بما دل عليه الكلام.
والثاني : أنه أراد بالكتاب الفرض تشبيهاً بكتاب.
قوله تعالى :﴿ لاَ جُنَاحَ عَلَيكُم إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ وقرأ حمزة والكسائي :﴿ تُمَاسُّوهُنَّ ﴾.
﴿ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾. وفيه قولان :
أحدهما : معناه ولم تفرضوا لهن فريضة.
والثاني : أن في الكلام حذفاً وتقديره : فرضتم أو لم تفرضوا لهن فريضة. والفريضة : الصدق وسمي فريضة لأنه قد أوجبه لها، وأصل الفرض : الواجب، كما قال الشاعر :
كانت فريضة ما أتيت كما كان الزِّناءُ فَريضةَ الرجْمِ
وكما يقال : فرض السلطان لفلان في الفيء، يعني أوجب له ذلك.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسر قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِر قَدَرُهُ ﴾ أي أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على حسب أحوالكم في الغنى والإقتار. واختلف في قدر المتعة على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المتعة الخادم، ودون ذلك الوَرِق، ودون ذلك الكسوة، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنه قدر نصف صداق مثلها، وهو قول أبي حنيفة.
والثالث : أنه مُقَدَّر باجتهاد الحاكم، وهو قول الشافعي.
ثم قال تعالى :﴿ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقَّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ واختلفوا في وجوبها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها واجبة لكل مطلقة، وهو قول الحسن، وأبي العالية.
والثاني : أنها واجبة لكل مطلقة إلا غير المدخول بها، فلا متعة لها، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب.
والثالث : أنها واجبة لغير المدخول بها إذا لم يُسمّ لها صداق، وهو قول الشافعي.
والرابع : أنها غير واجبة، وإنما الأمر بها ندب وإرشاد، وهو قول شريح، والحكم.
قوله تعالى :﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ وهو أول الطلاقين لمن كان قبل الدخول كارهاً، لرواية سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن النبي ﷺ أنه قال :« إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُحِبُّ الذوَّاقِينَ وَلا الذَّوَّاقَاتِ ». يعني الفراق بعد الذوق.
ثم قال تعالى :﴿ وَقَدْ فَرَضْتُم لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ يعني صداقاً ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه فنصف ما فرضتم لهن ليس عليكم غيره لهن، ﴿ إلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ يعني به عفو الزوجة، ليكون عفوها أدعى إلى خِطْبَتِها، ويرغّب الأزواج فيها.
ثم قال تعالى :﴿ أَو يَعفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، والحسن، وعكرمة، والسدي.
الثاني : هو الزوج، وبه قال علي، وشريح، وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم، ومجاهد، وأبو حذيفة.
والثالث : هو أبو بكر، والسيد في أمته، وهو قول مالك.
ثم قال تعالى :﴿ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ وفي المقصود بهذا الخطاب قولان :
أحدهما : أنه خطاب للزوج وحده، وهو قول الشعبي.
والثاني : أنه خطاب للزوج والزوجة، وهو قول ابن عباس. وفي قوله :﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقوَى ﴾ تأويلان :
أحدهما : أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظُلْمَ صاحبه.
والثاني : أقرب إلى اتقاء معاصي الله.
قوله تعالى :﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ﴾ وفي المحافظة عليها قولان :
أحدهما : ذكرها.
والثاني : تعجيلها.
ثم قال تعالى :﴿ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ﴾ وإنما خص الوسطى بالذكر وإن دخلت في جملة الصلوات لاختصاصها بالفضل، وفيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها صلاة العصر، وهو قول عليّ، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وأم حبيبة.
روى عمرو بن رافع، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبي ﷺ أنها قالت لكاتب مصحفها : إذا بلغتَ مواقيت الصلاة فأخبرني، حتى أخبرك بما سمعت رسول الله ﷺ، فلما أخبرها قالت : أكتب، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول :« حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَهِيَ صَلاَةُ الْعَصْرِ
»
. وروى محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن عليّ رضي الله عنه قال : لم يُصَلِّ رسول الله ﷺ العصر يوم الخندق إلا بعدما غربت الشمس فقال :« مَا لَهُم مَلأَ اللهُ قُلُوبَهُم وَقُبُورَهُم نَاراً شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ
»
. وروى التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« الصَّلاَةُ الوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ
»
. والقول الثاني : أنها صلاة الظهر، وهو قول زيد بن ثابت، وابن عمر. قال ابن عمر : هي التي توجه فيها رسول الله ﷺ إلى القبلة.
وروى ابن الزبير عن زيد بن ثابت قال : كان رسول الله ﷺ يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها، قال فنزلت :﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى ﴾ وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
والقول الثالث : أنها صلاة المغرب، وهو قول قبيصة بن ذؤيب لأنها ليست بأقلها ولا بأكثرها ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله ﷺ لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها.
والقول الرابع : أنها صلاة الصبح، وهو قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، قال ابن عباس يصليها بين سواد الليل وبياض النهار، تعلقاً بقوله تعالى :﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ ولا صلاة مفروضة يقنت فيها إلا الصبح، ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
والقول الخامس : أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها، ليكون أبعث لهم على المحافظة على جميعها، وهذا قول نافع، وابن المسيب، والربيع ابن خثيم.
وفيها قول سادس : أن الصلاة الوسطى صلاة الجمعة خاصة.
وفيها قول سابع : أن الصلاة الوسطى صلاة الجماعة من جميع الصلوات. وفي تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه :
177
أحدها : لأنها أوسط الصلوات الخمس محلاً، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
والثاني : لأنها أوسط الصلاة عدداً، لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان.
والثالث : لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله، وتكون الوُسْطَى بمعنى الفُضْلَى.
ثم قال تعالى :﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ وفيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني طائعين، قاله ابن عباس، والضحاك، والشعبي، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطاء.
والثاني : ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، والسدي، وابن زيد.
والثالث : خاشعين، نهيأ عن العبث والتفلت، وهو قول مجاهد، والربيع بن أنس.
والرابع : داعين، وهو مروي عن ابن عباس.
والخامس : طول القيام في الصلاة، وهو قول ابن عمر.
والسادس :.... وهو مروي عن ابن عمر أيضا.
واختلف في أصل القنوت، على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن أصله الدوام على أمر واحد.
والثاني : أصله الطاعة.
والثالث : أصله الدعاء.
قوله تعالى :﴿ فَإِنْ خِفْتُم فَرِجَالاً أَو رُكْبَاناً ﴾ الرجال جمع راجل، والركبان جمع راكب، مثل قائم وقيام. يعني فإن خفتم من عدوّكم، فصلوا على أرجلكم أو ركائبكم، وقوفاً ومشاة، إلى القبلة وغير القبلة، مومئاً أو غير مومىء، على حسب قدرته.
واختلف في قدر صلاته، فذهب الجمهور إلى أنها على عددها تُصَلَّى ركعتين، وقال الحسن : تُصَلَّى ركعة واحدة إذا كان خائفاً.
واختلفوا في وجوب الإِعادة عليه بعد أمنه، فذهب أهل الحجاز إلى سقوط الإِعادة عنه لعذره.
وذهب أهل العراق إلى وجوب الإِعادة عليه لأن مشيه فيها عمل ليس منها.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا أَمِنتُم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ وفيه تأويلان :
أحدهما : معناه فإذا أمنتم فصلّوا كما علّمكم، وهو قول ابن زيد.
والثاني : يريد فاذكروه بالثناء عليه والحمد له، كما علمكم من أمر دينكم ما لم تكونوا تعلمون.
178
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم ﴾ الآية. أما الوصية فقد كانت بدل الميراث، ثم نسخت بآية المواريث، وأما الحَوْل فقد كانت عِدّة المتوفى عنها زوجها، ونسخت بأربعة أشهر وعشر.
قوله تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل : أحدها :.....
والثاني : أنها لكل مطلقة، وهذا قول سعيد بن جبير وأحد قولي الشافعي.
وقيل إن هذه الآية نزلت على سبب وهو أن الله تعالى لمّا قال :﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِر قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ فقال رجل : إنْ أحسنتُ فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فقال الله تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِين ﴾، وهذا قول ابن زيد، وإنما خص المتقين بالذكر - وإن كان عاماً - تشريفاً لهم.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ ﴾ يعني ألم تعلم.
﴿ وَهُمْ أُلُوفٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني مُؤْتَلِفِي القلوب وهو قول ابن زياد.
والثاني : يعني ألوفاً في العدد.
واختلف قائلو هذا في عددهم على أربعة أقاويل :
أحدها : كانوا أربعة آلاف، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
والثاني : كانوا ثمانية آلاف.
والثالث : كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، وهو قول السدي.
والرابع : كانوا أربعين ألفاً، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف.
ثم قال تعالى :﴿ حَذَرَ الْمَوتِ ﴾ وفيه قولان :
أحدهما : أنهم فرّوا من الطاعون، وهذا قول الحسن، ورَوَى سعيد بن جبير قال : كانوا أربعة آلاف، خرجوا فراراً من الطاعون، وقالوا نأتي أرضاً ليس بها موت، فخرجوا، حتَّى إذا كانوا بأرض كذا، قال الله لهم : موتوا فماتوا، فمر عليهم نبي، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم الله.
القول الثاني : أنهم فروا من الجهاد، وهذا قول عكرمة والضحاك.
﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني فأماتهم الله، كما يقال : قالت السماء فمطرت، لأن القول مقدمة الأفعال، فعبر به عنها.
والثاني : أنه تعالى قال قولاً سمعته الملائكة. ﴿ ثُمَّ أَحْيَاهُمُ ﴾ إنما فعل ذلك معجزة لنبي من أنبيائه كان اسمه شمعون من أنبياء بني إسرائيل، وأن مدة موتهم إلى أن أحياهم الله سبعة أيام.
قال ابن عباس، وابن جريج : رائحة الموت توجد في ولد ذلك السبط من اليهود إلى يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهُ قَرْضاً حَسَناً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الجهاد، وهو قول ابن زيد.
والثاني : أبواب البر، وهو قول الحسن، ومنه قول الشاعر :
وإذا جُوزِيتَ قَرضاً فاجْزِه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
قال الحسن : وقد جهلت اليهود لما نزلت هذه الآية فقالوا : إن الله يستقرض منا، فنحن أغنياء، وهو فقير، فأنزل الله تعالى :﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنحَنْ أَغْنِيَاءُ ﴾ [ آل عمران : ١٨١ ]. قوله تعالى :﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : سبعمائة ضعف، وهو قول ابن زيد.
والثاني : لا يعلمه أحد إلا الله، وهو قول السدي.
﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني في الرزق، وهو قول الحسن وابن زيد.
والثاني : يقبض الصدقات ويبسط الجزاء، وهو قول الزجاج.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الملأ : الجماعة.
﴿ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِّيٍ لَهُم ﴾ اختلف أهل التأويل فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه سمويل، وهو قول وهب بن منبه.
والثاني : يوشع بن نون، وهو قول قتادة.
والثالث : شمعون، سمّتْه أُمّه بذلك لأن الله سمع دعاءها فيه، وهو قول السدي.
﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلَكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ في سبب سؤالهم لذلك قولان :
أحدهما : أنهم سألوا ذلك لقتال العمالقة، وهو قول السدي.
والثاني : أن الجبابرة الذين كانوا في زمانهم استزلوهم، فسألوا قتالهم، وهو قول وهب والربيع.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُم إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلِكاً ﴾ إلى قوله :﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ قال وهب، والسدي : إنما أنكروا أن يكون ملكاً عليهم، لأنه لم يكن من سبط النبوة، ولا من سبط المملكة، بل كان من أخمل سبط في بني إسرائيل.
﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ يعني زيادة في العلم وعظماً في الجسم. واختلفوا هل كان ذلك فيه قبل الملك؟ فقال وهب بن منبه، والسدي : كان له ذلك قبل الملك، وقال ابن زيد : زيادة ذلك بعد الملك.
﴿ واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ وفي واسع ثلاثة أقاويل :
أحدها : واسع الفضل، فحذف ذكر الفضل اكتفاء بدليل اللفظ، كما يقال فلان كبير، بمعنى كبير القَدْر.
الثاني : أنه بمعنى مُوسِع النعمة على مَنْ يشاء من خلقه.
والثالث : أنه بمعنى ذو سعة.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ لَهُم نَبِيُّهُم : إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ ﴾ أي علامة ملكه ﴿ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ﴾ قال وهب ابن منبه : كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين.
﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَّبِّكُم ﴾ وفي السكينة ستة تأويلات :
أحدها : ريح هفَافة لها وجه كوجه الإِنسان، وهذا قول عليّ عليه السلام.
والثاني : أنها طست من ذهبٍ من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء، وهذا قول ابن عباس والسدي.
والثالث : أنها روح من الله تعالى يتكلم، وهذا قول وهب بن منبه.
والرابع : أنها ما يعرف من الآيات فيسكنون إليها، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.
والخامس : أنها الرحمة، وهو قول الربيع ابن أنس.
والسادس : أنها الوقار، وهو قول قتادة.
ثم قال تعالى :﴿ وَبَقِيِّةٌ مِمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وءَالُ هَارُونَ ﴾ وفيها أربعة تأويلات :
أحدها : أن البقية عصا موسى ورُضاض الألواح، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنها العلم والتوراة، وهو قول عطاء.
والثالث : أنها الجهاد في سبيل الله، وهو قول الضحاك.
والرابع : أنها التوراة وشيء من ثياب موسى، وهو قول الحسن.
﴿ تَحْمِلُهُ الْمْلاَئِكَةُ ﴾ قال الحسن : تحمله الملائكة بين السماء والأرض، ترونه عياناً، ويقولون : إن آدم نزل بالتابوت، وبالركن.
واختلفوا أين كان قبل أن يرد إليهم، فقال ابن عباس، ووهب كان في أيدي العمالقة، غلبوا عليه بني إسرائيل، وقال قتادة كان في بريّة التيه، خَلَّفَه هناك يوشع بن نون، قال أبو جعفر الطبري : وبلغني أن التابوت وعصا موسى وبحيرة الطبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ فَلمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ﴾ وهو جمع جند، والأجناد للقليل، وقيل : إنهم كانوا ثمانين ألف مقاتل.
﴿ قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهْرٍ ﴾ اختلفوا في النهر، فَحُكِيَ عن ابن عباس والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين، وقيل إنه نهر فلسطين، قال وهب بن منبه : السبب الذي ابتلوا لأجله بالنهر، شِكَايَتُهم قِلةَ الماء وخوف العطش.
﴿ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيسَ مِنِّي ﴾ أي ليس من أهل ولايتي.
﴿ ومَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَن اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بالفتح، وقرأ الباقون « غرفة » بالضم، والفرق بينهما أن الغرفة بالضم اسم للماء المشروب، والغرفة بالفتح اسم للفعل.
﴿ فَشَرِبُوا مِنهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنهُم ﴾ قال عكرمة : جاز معه النهر أربعة آلاف، ونافق ستة وسبعون ألفاً، فكان داود ممن خلص لله تعالى. قال ابن عباس : إن من استكثر منه عَطِش، ومن اغترف غرفة منه رُوِيَ.
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ ﴾ قيل : كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً عدة أهل بدر. واختلفوا، هل تجاوزه معهم كافر أم لا؟ فَحُكِيَ عن البراء، والحسن، وقتادة : أنه ما تجاوزه إلا مؤمن، وقال ابن عباس، والسدي : تجاوزه الكافرون، إلا أنهم انخذلوا عن المؤمنين.
﴿ قَالُوا : لاَ طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ اختلفوا في تأويل ذلك على قولين :
أحدهما : أنه قال ذلك مَنْ قلّت بصيرته من المؤمنين، وهو قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.
والثاني : أنهم أهل الكفر الذين انخذلوا، وهو قول ابن عباس، والسدي، قال عكرمة : فنافق الأربعة الآلاف إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر، وداود فيهم.
﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللهِ ﴾ وهم المؤمنون الباقون من الأربعة الآلاف.
وفي الظن ها هنا قولان :
أحدهما : أنه بمعنى اليقين، ومعناه الذين يستيقنون أنهم ملاقوا الله كما قال دريد بن الصُّمّة :
فقلت لهم ظُنّوا بِأَلْفَيْ مُدَجج سَراتُهُمُ في الفارسيّ المسَرّدِ
أي تيقنوا.
والثاني : بمعنى الذين يظنون أنهم ملاقوا الله بالقتل في الوقعة.
﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ﴾ والفئة : الفرقة ﴿ بِإِذْنِ اللهِ ﴾ قال الحسن : بنصر الله، وذلك لأن الله إذا أذن في القتال نصر فيه على الوجه الذي وقع الإِذن فيه. ﴿ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ يعني بالنصرة والمعونة، وهذا تفسير الآية عند جمهور المفسرين.
وذكر بعض من يتعاطى غوامض المعاني، أن هذه الآية مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله للدنيا يشبهها بالنهر، والشارب منه بالمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف منه بيده بالآخذ منها قدر حاجته، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة.
قوله تعالى :﴿ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ في الهزيمة قولان :
أحدهما : أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازاً.
والثاني : أنهم لما ألجئوا إليها صارواْ سبباً لها، فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء. ويحتمل قوله :﴿ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وجهين :
أحدهما : بأمر الله لهم بقتالهم.
الثاني : بمعونة الله لهم على قتالهم.
﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ حكي أن جالوت خرج من صفوف عسكره يطلب البِراز؟ فلم يخرج إليه أحد، فنادى طالوت في عسكره : مَنْ قتل جالوت فلهُ شطر مُلكي وأزوّجه ابنتي، فجاء داود وقد أخذ ثلاثة أحجار، وكان قصيراً يرعى الغنم، وقد ألقى الله في نفسه أنه سيقتل جالوت، فقال لطالوت : أنا أقتل جالوت، فازدراه طالوت حين رآه، وقال له : هل جربت نفسك بشيء؟ قال نعم، قال : بماذا؟ قال : وقع ذئب في غنمي فضربته، ثم أخذت رأسه فقطعته في جسمه، فقال طالوت : الذئب ضعيف، فهل جربت نفسك في غيره؟ قال : نعم، دخل الأسد في غنمي، فضربته ثم أخذت بِلَحْيَيْه فشققتها، أفترى هذا أشد من الأسد، قال : لا، وكان عند طالوت درع سابغة لا تستوي إلا على من يقتل جالوت، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت، وسار إلى جالوت فرماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه، فأصاب جماعة من عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم، وكانوا على ما حكاه عكرمة تسعين ألفاً.
واختلفواْ، هل كان داود عند قتله جالوت نبياً؟ ذهب بعضهم أنه كان نبياً، لأن هذا الفعل الخارج عن العادة، لا يكون إلا من نبي، وقال الحسن : لم يكن نبياً، لأنه لا يجوز أن يُوَلي مَنْ ليس بنبي على نبي. قال ابن السائب وإنما كان راعياً فعلى هذا يكون ذلك من توطئة لنبوته من بعد.
ثم إن طالوت ندم على ما بذله لداود من مشاطرته ملكه وتزويجه ابنته، واختلفوا هل كان ندمه قبل تزويجه ومشاطرته، أم بعد، على قولين :
أحدهما : أن طالوت وَفَّى بشرطه، وزوج داود بإبنته، وخلطه في ملكه بنفسه ثم حسده، فندم، وأراد قتله، فعلمت بنته بأنه يريد قتل زوجها، وكانت من أعقل النساء، فنصبت له زِق خمر بالمسك، وألقت عليه ليلاً ثياب داود، فأقبل طالوت، وقال لها : أين زوجك؟ فأشارت إلى الزق، فضربه بالسيف، فانفجر منه الخمر وسطع ريح المسك، فقال يرحمك الله يا داود طبت حياً وميتاً، ثم أدركته الندامة، فجعل ينوح عليه ويبكي، فلما نظرت الجارية إلى جَزَعِ أبيها، أخبرته الخبر، ففرح، وقاسم داود على شطر ملكه، وهذا قول الضحاك، فعلى هذا يكون طالوت على طاعته حين موته، لتوبته من معصيته.
والقول الثاني : أنه ندم قبل تزويجه على شرطه وبذله، وعرّض داود للقتل، وقال له إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق أمثالهن، وأنت رجل جريء، فاجعل صداقها قتل ثلاثمائة من أعدائنا، وكان يرجو بذلك أن يقتل، فغزا داود وأسر ثلاثمائة، فلم يجد طالوت بداً من تزويجه، فزوجه بها، وزاد ندامة فأراد قتله، وكان يدس عليه حتى مات، وهذا قول وهب بن منبه، فعلى هذا مات طالوت على معصيته لأنه لم يتب من ذنبه.
185
وروى مكحول، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله ﷺ :« إِنَّ المُلُوكَ قَدْ قَطَعَ اللهُ أَرْحَامَهُم فَلاَ يَتَوَاصَلُونَ حُبَّاً لِلْمُلْك حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم لَيَقْتُلَ الأَبَ وَالإِبْنَ وَالأَخَ وَالعَمَّ، إِلاَّ أَهْلُ التَّقْوَى وَقَلِيلٌ مَّا هُم، وَلَزوَالُ جَبَلٍ عَن مَّوضِعِهِ أَهْوَنُ مِنْ زَوَالِ مُلْكِ لَمْ يَنْقَضِ
»
. ﴿ وَءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ يعني داود، يريد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة وكان ذلك عند موت طالوت بعد سبع سنين من قتل جالوت على ما حكاه ابن السائب.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن الملك الانقياد إلى طاعته، والحكمة : العدل في سيرته ويكون ذلك بعد موت طالوت عند تفرده بأمور بني إسرائيل.
﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : صنعة الدروع والتقدير في السرد.
والثاني : كلام الطير وحكمة الزبور.
ويحتمل ثالثاً : أنه فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي والنهي عنها، فيكون على الوجه الأول ﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ داود، وعلى الثاني :﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ الله، وعلى الثالث ﴿ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ الله ويشاء داود.
﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرضُ ﴾.
في الدفع قولان :
أحدهما : أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر، قاله عليّ كرم الله وجهه.
والثاني : يدفع بالمجاهدين عن القاعدين قاله ابن عباس.
وقوله تعالى :﴿ لَّفَسَدَتِ الأرْضُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لفسد أهل الأرض.
والثاني : لعم الفساد في الأرض. وفي هذا الفساد وجهان :
أحدهما : الكفر.
والثاني : القتل.
186
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : في الآخرة، لتفاضلهم في الأعمال، وتحمل الأثقال.
والثاني : في الدنيا بأن جعل بعضهم خليلاً، وبعضهم كليماً، وبعضهم مَلِكاً، وسَخَّر لبعضهم الريح والشياطين، وأحيا ببعضهم الموتى، وأبرأ الأكمه، والأبرص.
ويحتمل وجهاً ثالثاً : بالشرائع، فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع.
﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن أوحى إلى بعضهم في منامه، وأرسل إلى بعضهم الملائكة في يقظته.
والثاني : أن بعث بعضهم إلى قومه، وبعث بعضهم إلى كافة الناس.
﴿ وَءَاتَينَا عيسَى ابْنَ مَرْيَم الْبَيِّنَاتِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : الحُجَجُ الواضحة، والبراهين القاهرة.
والثاني : أن خلقه من ذكر.
﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بجبريل.
والثاني : بأن نفخ فيه من رُوحه.
﴿ وَلَو شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة.
والثاني : ولو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان، ولما حصل فهيم خيار.
قوله تعالى :﴿ اللهُ لآَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ﴾ الآية. مُخْرَجة مخرج النفي أن يصح إله سوى الله، وحقيقته إثبات إله واحد وهو الله، وتقديره : الله الإله دون غيره.
﴿ الْحَيُّ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه سمى نفسه حياً لصَرْفِه الأمور مصارِفها، وتقدير الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتقدير لا بحياة.
والثاني : أنه حي بحياة هي له صفة.
والثالث : أنه اسم من أسماء الله تَسَمَّى به، فقلناه تسليماً لأمره. والرابع : أن المراد بالحي الباقي، قاله السدي، ومنه قول لبيد :
إذا ما تَرَيَنِّي اليومَ أصْبَحْتُ سَالِماً فَلَسْتُ بِأحْيَا مِن كِلابٍ وَجَعْفَرِ
﴿ الْقَيُّومُ ﴾ قرأ عمر بن الخطاب القيام. وفيه ستة تأويلات :
أحدها : القائم بتدبير خلقه، قاله قتادة.
والثاني : يعني القائم على كل نفس بما كسبت، حتى يجازيها بعملها من حيث هو عالم به، لا يخفى عليه شيء منه، قاله الحسن.
والثالث : معنى القائم الوجود، وهو قول سعيد بن جبير.
والرابع : أنه الذي لا يزول ولا يحول، قاله ابن عباس.
والخامس : أنه العالم بالأمور، من قولهم : فلان يقوم بهذا الكتاب، أي هو عالم به.
والسادس : أنه اسم من أسماء الله، مأخوذ من الاستقامة، قال أمية بن أبي الصلت : إلاّ لأمرٍ شأنه عظيم... ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ السِّنةُ : النعاس في قول الجميع، والنعاس ما كان في الرأس، فإذا صار في القلب صار نوماً، وفرَّق المفضل بينهما، فقال : السِّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب. وما عليه الجمهور من التسوية بين السِّنة والنعاس أشبه، قال عدي بن الرقاع :
لم تُخلَق السماءُ والنجوم والشمسُ معها قمر يقوم
قدّرهَا المهيمن القيوم والحشر والجنة والحميم
وسْنَانُ أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ما بين أيديهم : هو ما قبل خلقهم، وما خلفهم : هو ما بعد موتهم.
والثاني : ما بين أيديهم : ما أظهروه، وما خلفهم : ما كتموه.
﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ أي من معلومه إلا أن يطلعهم عليه ويعلمهم إياه.
﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ في الكرسي قولان :
أحدهما : أنه من صفات الله تعالى.
والثاني : أنه من أوصاف ملكوته.
فإذا قيل إنه من صفات ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه علم الله، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه قدرة الله.
والثالث : ملك الله.
والرابع : تدبير الله.
وإذا قيل إنه من أوصاف ملكوته ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه العرش، قاله الحسن.
والثاني : أنه سرير دون العرش.
والثالث : هو كرسي تحت العرش، والعرش فوق الماء. وأصل الكرسي العلم، ومنه قيل للصحيفة فيها علم مكتوب : كراسة، قال أبو ذؤيب :
188
مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه ولا بكرسيّ عليم الغيب مخلوق
وقيل للعلماء : الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم كما يقال لهم : أوتاد الأرض، لأنهم الذين بهم تصلح الأرض، قال الشاعر :
يحف بهم بيضُ الوجوه وعُلية كراسيُّ بالأحداث حين تنوبُ
أي علماء بحوادث الأمور، فدلت هذه الشواهد، على أن أصح تأويلاته، ما قاله ابن عباس، أنه علم الله تعالى.
وقرأ يعقوب الحضرمي : وُسْعُ كرسيِّه السمواتُ والأرضُ بتسكين السين من وسع وضم العين ورفع السموات والأرض على الابتداء والخبر، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : لا يثقله حفظهما في قول الجمهور.
والثاني : لا يتعاظمه حفظهما، حكاه أبان بن تغلب. وأنشد :
ألا بكِّ سلمى اليوم بت جديدها وضَنّت وما كان النوال يؤودها
واختلفوا في الكناية بالهاء إلى ماذا تعود؟ على قولين :
أحدهما : إلى اسم الله، وتقديره ولا يُثقل الله حفظ السموات والأرض.
والثاني : تعود إلى الكرسي، وتقديره ولا يثقل الكرسيَّ حفظهما.
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ في العلي تأويلان :
أحدهما : العلي بالاقتدار ونفوذ السلطان.
والثاني : العلي عن الأشباه والأمثال.
وفي الفرق بين العلي والعالي، وجهان محتملان :
أحدهما : أن العالي هو الموجود في محل العلو، والعلي هو مستحق العلو.
والثاني : أن العالي هو الذي يجوز أن يُشَارَكَ في علوه، والعلي هو الذي لا يجوز أن يُشَارَكَ في علوه، فعلى هذا الوجه، يجوز أن نصف الله بالعليّ، ولا يجوز أن نصفه بالعالي، وعلى الوجه الأول يجوز أن نصفه بهما جميعاً.
189
قوله تعالى :﴿ لآَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن ذلك في أهل الكتاب، لا يُكْرَهُون على الدين إذا بذلوا الجزية، قاله قتادة.
والثاني : أنها نزلت في الأنصار خاصة، كانت المرأة منهم تكون مِقْلاَةً لا يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها، إن عاش لها ولد أن تهوّده، ترجو به طول العمر، وهذا قبل الإسلام، فلما أجلى رسول الله ﷺ بني النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار : كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثالث : أنها منسوخة بفرض القتال، قاله ابن زيد.
﴿ فَمَن يَكْفُرُ بِالطَّاغُوتِ ﴾ فيه سبعة أقوال :
أحدها : أنه الشيطان وهو قول عمر بن الخطاب.
والثاني : أنه الساحر، وهو قول أبي العالية.
والثالث : الكاهن، وهو قول سعيد بن جبير.
والرابع : الأصنام.
والخامس : مَرَدَة الإنس والجن.
والسادس : أنه كل ذي طغيان طغى على الله، فيعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، أو بطاعة له، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً، وهذا قول أبي جعفر الطبري.
والسابع : أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [ يوسف : ٥٣ ].
واختلفوا في ﴿ الطَّاغُوتِ ﴾ على وجهين :
أحدهما : أنه اسم أعجمي معرّب، يقع على الواحد والجماعة.
والثاني : أنه اسم عربي مشتق من الطاغية، قاله ابن بحر.
﴿ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ فيها أربعة أوجه :
أحدها : هي الإيمان الله، وهو قول مجاهد.
والثاني : سنة الرسول.
والثالث : التوفيق.
والرابع : القرآن، قاله السدي.
﴿ لاَ انفِصَامَ لَهَا ﴾ فيه قولان :
أحدهما : لا انقطاع لها، قاله السدي.
والثاني : لا انكسار لها، وأصل الفصم : الصدع.
قوله تعالى :﴿ اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يتولاهم بالنصرة.
والثاني : بالإرشاد.
﴿ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى، قاله قتادة.
والثاني : يخرجهم من ظلمات العذاب في النار، إلى نور الثواب في الجنة.
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾ يكون على وجهين :
أحدهما : يخرجونهم من نور الهدى إلى ظلمات الضلالة.
والثاني : يخرجونهم من نور الثواب إلى ظلمة العذاب في النار.
وعلى وجه ثالث لأصحاب الخواطر : أنهم يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الهوى.
فإن قيل : فكيف يخرجونهم من النور، وهم لم يدخلوا فيه؟ فعن ذلك جوابان :
أحدهما : أنها نزلت في قوم مُرْتَدِّين، قاله مجاهد.
والثاني : أنها نزلت فيمن لم يزل كافراً، وإنما قال ذلك لأنهم لو لم يفعلوا ذلك بهم لدخلوا فيه، فصاروا بما فعلوه بمنزلة من قد أخرجهم منه. وفيه وجه ثالث : أنهم كانوا على الفطرة عند أخذ الميثاق عليهم، فلما حَمَلُوهم على الكفر أخرجوهم من نور فطرتهم.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ ﴾ هو النمرود بن كنعان، وهو أول من تجبّر في الأرض وادّعى الربوبية.
﴿ أَنْ ءَاتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : هو النمرود لما أوتي الملك حاجَّ في الله تعالى، وهو قول الحسن.
والثاني : هو إبراهيم لما آتاه الله الملك حاجّه النمرود، قاله أبو حذيفة.
وفي المحاجّة وجهان محتملان :
أحدهما : أنه معارضة الحجة بمثلها.
والثاني : أنه الاعتراض على الحجة بما يبطلها.
﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ : أَنَا أُحْي وَأُمِيتُ ﴾ يريد أنه يحيي من وجب عليه القتل بالتخلية والاستبقاء، ويميت بأن يقتل من غير سبب يوجب القتل، فعارض اللفظ بمثله، وعدل عن اختلاف الفعلين في علتهما.
﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ ﴾ فإن قيل : فَلِمَ عَدَل إبراهيم عن نصرة حجته الأولى إلى غيرها، وهذا يضعف الحجة ولا يليق بالأنبياء؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنه قد ظهر من فساد معارضته ما لم يحتج معه إلى نصرة حجته ثم أتبع ذلك بغيره تأكيداً عليه في الحجة.
والجواب الثاني : أنه لمّا كان في تلك الحجة إشغاب منه بما عارضها به من الشبهة أحب أنه يحتج عليه بما لا إشغاب فيه، قطعاً له واستظهاراً عليه قال :﴿ فإنَّ اللهَ يَأْتي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغرِبِ ﴾ فإن قيل فَهَلاَّ عارضه النمرود بأن قال : فليأت بها ربك من المغرب؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن الله خذله بالصرف عن هذه الشبهة.
والجواب الثاني : أنه علم بما رأى معه من الآيات أنه يفعل فخاف أن يزداد فضيحة.
﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني تحيّر.
والثاني : معناه انقطع، وهو قول أبي عبيدة.
وقرئ : فَبَهَت الذي كفر بفتح الباء والهاء بمعنى أن الملك قد بهت إبراهيم بشبهته أي سارع بالبهتان.
﴿ واللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يعينهم على نصرة الظلم.
والثاني : لا يُخلِّصُهم من عقاب الظلم. ويحتمل الظلم هنا وجهين :
أحدهما : أنه الكفر خاصة.
والثاني : أنه التعدي من الحق إلى الباطل.
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ اختلفوا في الذي مر على قرية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عزيز، قاله قتادة.
والثاني : أنه إرْمياء، وهو قول وهب.
والثالث : أنه الخَضِر، وهو قول ابن إسحاق، واختلفوا في القرية على قولين :
أحدهما : هي بيت المقدس لما خرّبه بُخْتنصَّر، وهذا قول وهب وقتادة. والربيع بن أنس.
والثاني : أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد.
﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ في الخاوية قولان :
أحدهما : الخراب، وهو قول ابن عباس، والربيع، والضحاك.
والثاني : الخالية.
وأصل الخواء الخلو، يقال خوت الدار إذا خلت من أهلها، والخواء الجوع لخلو البطن من الغذاء ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ : على أبنيتها، والعرش : البناء.
﴿ قَالَ أَنَّى يَحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعمرها بعد خرابها.
والثاني : يعيد أهلها بعد هلاكهم.
﴿ فَأَمَاتَهُ اللهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ : كَمْ لَبِثْتَ ﴾ أي مكث.
﴿ قَالَ : لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ لأن الله تعالى أماته في أول النهار، وأحياه بعد مائة عام آخر النهار، فقال : يوماً، ثم التفت فرأى بقية الشمس فقال :﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾.
﴿ قَالَ : بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لم يتغير، من الماء الآسن وهو غير المتغير، قال ابن زيد : والفرق بين الآسن والآجن أن الآجن المتغير الذي يمكن شربه والآسن المتغير الذي لا يمكن شربه.
والثاني : معناه لم تأتِ عليه السنون فيصير متغيراً، قاله أبو عبيد.
قيل : إن طعامه كان عصيراً وتيناً وعنباً، فوجد العصير حلواً، ووجد التين والعنب طرياً جنيّاً.
فإن قيل : فكيف علم أنه مات مائة عام ولم يتغير فيها طعامه؟ قيل : إنه رجع إلى حاله فعلم بالآثار والأخبار، وأنه شاهد أولاد أولاده شيوخاً، وكان قد خلف آباءهم مُرْداً أنه مات مائة عام.
وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أن عزيراً خرج من أهله وخلف امرأته حاملاً وله خمسون سنة، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه فرجع إلى أهله، وهو ابن خمسين سنة، وله ولد هو ابن مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه بخمسين سنة، وهو الذي جعله الله آية للناس.
وفي قوله تعالى :﴿ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ﴾ قراءتان :
إحداهما : ننشرُها بالراء المهملة، قرأ بذلك ابن كثير ونافع وأبو عمرو، ومعناه نحييها. والنشور : الحياة بعد الموت، مأخوذ من نشر الثوب، لأن الميت كالمطوي، لأنه مقبوض عن التصرف بالموت، فإذا حَيِيَ وانبسط بالتصرف قيل : نُشِرَ وأُنشِر.
والقراءة الثانية : قرأ بها الباقون ننشِزُها بالزاي المعجمة، يعني نرفع بعضها إلى بعض، وأصل النشوز الارتفاع، ومنه النشز اسم للموضع المرتفع من الأرض، ومنه نشوز المرأة لارتفاعها عن طاعة الزوج.
وقيل إِنَّ الله أحيا عينيه وأعاد بصره قبل إحياء جسده، فكان يرى اجتماع عظامه واكتساءها لحماً، ورأى كيف أحيا الله حماره وجمع عظامه.
واختلفوا في القائل له : كم لبثت على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه ملك.
والثاني : نبي.
والثالث : أنه بعض المؤمنين المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى ﴾ اختلفوا لِمَ سأله عن ذلك؟ على قولين :
أحدهما : أنه رأى جيفة تمزقها السباع فقال ذلك، وهذا قول الحسن، وقتادة، والضحاك.
والثاني : لمنازعة النمرود له في الإحياء، قاله ابن إسحاق. ولأي الأمرين كان، فإنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد علم الاستدلال.
ولذلك قال الله تعالى له :﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن؟ قَالَ : بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني ليزداد يقيناً إلى يقينه، هكذا قال الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، والربيع، ولا يجوز ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك، لأن الشك في ذلك كفر لا يجوز على نبي.
والثاني : أراد ليطمئن قلبي أنك أجبت مسألتي، واتخذتني خليلاً كما وعدتني، وهذا قول ابن السائب.
والثالث : أنه لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين، قاله الأخفش.
ونفر بعض من قال بغوامض المعاني من هذا الالتزام وقال : إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب بالإيمان، وهذا التأويل فاسد بما يعقبه من البيان.
وليست الألف في قوله :﴿ أَوَ لَمْ تُؤْمِن ﴾ ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب كقول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : هن : الديك، والطاووس، والغراب، والحمام، قاله مجاهد.
والثاني : أربعة من الشقانين، قاله ابن عباس.
﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ قرأت الجماعة بضم الصاد، وقرأ حمزة وحده بكسرها، واختلف في الضم والكسر على قولين :
أحدهما : أن معناه متفق ولفظهما مختلف، فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أقاويل :
أحدها : معناه انْتُفْهُنَّ بريشهن ولحومهن، قاله مجاهد.
والثاني : قَطِّعْهُن، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن. قال الضحاك : هي بالنبطية صرتا، وهي التشقق.
والثالث : اضْمُمْهُن إليك، قاله عطاء، وابن زيد.
والرابع : أَمِلْهُن إليك، والصور : الميل، ومنه قول الشاعر في وصف إبل :
تظَلُّ مُعقّلات السوق خرساً تصور أنوفها ريح الجنوب
والقول الثاني : أن معنى الضم والكسر مختلف، وفي اختلافهما قولان :
أحدهما : قاله أبو عبيدة أن معناه بالضم : اجْمَعْهن، وبالكسر : قَطِّعْهُنّ.
والثاني : قاله الكسائي ومعناه بالضم أَمِلْهُنّ، وبالكسر : أقْبِلْ بهن.
﴿ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها كانت أربعة جبال، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة.
والثاني : أنها كانت سبعة، قاله ابن جريج، والسدي.
والثالث : كل جبل، قاله مجاهد.
والرابع : أنه أراد جهات الدنيا الأربع، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، فمثّلها بالجبال، قاله ابن بحر.
واختلفوا هل قطّع إبراهيم الطير أعضاء صرن به أمواتاً، أم لا؟ على قولين :
أحدهما : أنه قطَّعَهُن أعضاء صرن به أمواتاً، ثم دعاهن فعدْن أحياء ليرى كيف يحيي الله الموتى كما سأل ربه، وهو قول الأكثرين.
194
والثاني : أنه فَرَّقَهُن أحياء، ثم دعاهن فأجبنه وعدن إليه، يستدل بعودهن إليه بالدعاء، على عَوْد الأموات بدعاء الله أحياءً، ولا يصح من إبراهيم أن يدعو أمواتاً له، قاله ابن بحر.
والجزء من كل شيء هو بعضه سواءً كان منقسماً على صحة أو غير منقسم، والسهم هو المنقسم عليه جميعه على صحة.
فإنْ قيل : فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ] فعنه جوابان :
أحدهما : أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح.
والثاني : أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن.
قال ابن عباس : أمر الله إبراهيم بهذا قبل أن يولد له، وقبل أن يُنَزِّلَ عليه الصُّحُف.
وحُكِيَ : أن إبراهيم ذبح الأربعة من الطير، ودق أجسامهن في الهاون لا روحهن، وجعل المختلط من لحومهن عشرة أجزاء على عشرة جبال، ثم جعل مناقيرها بين أصابعه، ثم دعاهن فأتين سعياً، تطاير اللحم إلى اللحم، والجلد إلى الجلد، والريش إلى الريش، فذهب بعض من يتفقه من المفسرين إلى من وصّى بجزء من ماله لرجل أنها وصية بالعُشْر، لأن إبراهيم وضع أجزاء الطير على عشرة جبال.
195
قوله تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني في الجهاد، قاله ابن زيد.
والثاني : في أبواب البر كلها.
﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِاْئَةُ حَبَّةٍ ﴾ ضرب الله ذلك مثلاً في أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف، وفي مضاعفة ذلك في غير ذلك من الطاعات قولان :
أحدهما : أن الحسنة في غير ذلك بعشرة أمثالها، قاله ابن زيد.
والثاني : يجوز مضاعفتها بسبعمائة ضعف، قاله الضحاك.
﴿ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ يحتمل أمرين :
أحدهما : يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء.
والثاني : يضاعف الزيادة على ذلك لمن يشاء.
﴿ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : واسع لا يَضِيق عن الزيادة، عليم بمن يستحقها، قاله ابن زيد.
والثاني : واسع الرحمة لا يَضِيق عن المضاعفة، عليم بما كان من النفقة.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : واسع القدرة، عليم بالمصلحة.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنِفقُونَ أَمْوَلَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّاً وَلآَ أَذىً ﴾ المَنّ في ذلك أن يقول : أحسنت إليك ونعّشتك، والأذى أن يقول : أنت أباداً فقير، ومن أبلاني بك، مما يؤذي قلب المُعْطَى.
﴿ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ يعني ما استحقوه فيما وعدهم به على نفقتهم.
﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لا خوف عليهم في فوات الأجر.
والثاني : لا خوف عليهم في أهوال الآخرة.
﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يحزنون على ما أنفقوه.
والثاني : لا يحزنون على ما خلفوه. وقيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه فيما أنفقه على جيش العسرة في غزاة تبوك.
قوله تعالى :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ يعني قولاً حسناً بدلاً من المن والأذى ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يدني إن أعطى.
والثاني : يدعو إن منع.
﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ فيها أربعة تأويلات :
أحدها : يعني العفو عن أذى السائل.
والثاني : يعني بالمغفرة السلامة من المعصية.
والثالث : أنه ترك الصدقة والمنع منها، قاله ابن بحر.
والرابع : هو يستر عليه فقره ولا يفضحه به.
﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً ﴾ يحتمل الأذى هنا وجهين :
أحدهما : أنه المنّ.
والثاني : أنه التعيير بالفقر.
ويحتمل قوله :﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً ﴾ وجهين :
أحدهما : خير منها على العطاء.
والثاني : خير منها عند الله.
رُوي عن النبي ﷺ أنه قال :« المنّانُ بِمَا يُعْطِي لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القَيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيهِ وَلاَ يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
»
. قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى ﴾ يريد إبطال الفضل دون الثواب.
ويحتمل وجهاً ثانياً : إبطال موقعها في نفس المُعْطَى.
﴿ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الأَخِرِ ﴾ القاصد بنفقته الرياء غير مُثَابٍ، لأنه لم يقصد وجه الله، فيستحق ثوابه، وخالف صاحب المَنِّ والأذى القاصِدَ وجه الله المستحق ثوابه، وإن كرر عطاءَه وأبطل فضله.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ﴾ الصفوان : جمع صفوانة، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه الحجر الأملس سُمِّيَ بذلك لصفائه.
والثاني : أنه أَلْيَنُ مِنَ الحجارة، حكاه أبان بن تغلب.
﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾ وهو المطر العظيم القَطْرِ، العظيم الوَقْع.
﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ الصلد من الحجارة ما صَلُبَ، ومن الأرض مَا لَمْ ينبت، تشبيهاً بالحجر الذي لا ينبت.
﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ يعني مما أنفقوا، فعبَّر عن النفقة بالكسب، لأنهم قصدوا بها الكسب، فضرب هذا مثلاً للمُرَائِي في إبطال ثوابه، ولصاحب المَنِّ والأَذَى في إبطال فضله.
قوله تعالى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : في نُصرة أهل دينه من المجاهدين.
والثاني : في معونة أهل طاعته من المسلمين.
﴿ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : تثبيتاً من أنفسهم بقوة اليقين، والنصرة في الدين، وهو معنى قول الشعبي، وابن زيد، والسدي.
والثاني : يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قاله الحسن، ومجاهد.
والثالث : يعني احتساباً لأنفسهم عند الله، قاله ابن عباس، وقتادة.
والرابع : توطيناً لأنفسهم على الثبوت على طاعة الله، قاله بعض المتكلمين.
﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴾ في الربوة قولان :
أحدهما : هي الموضع المرتفع من الأرض، وقيل المُسْتَوِي في ارتفاعه.
والثاني : كل ما ارتفع عن مسيل الماء، قاله اليزيدي.
﴿ أَصَابَهَا وَابِلٌ ﴾ في الوابل وجهان :
أحدهما : المطر الشديد.
والثاني : الكثير، قال عدي بن زيد :
قليل لها مني وإن سخطت بأن أقول سقيت سقيت الوابل الغدقا
﴿ فآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ وإنما خص الربوة لأن نبتها أحسن، وريعها أكثر، قال الأعشى :
ما روضة من رياض الحزن معيشة خضراء جاد عليها مسبل هطل
والأُكُل، بالضم : الطعام لأن من شأنه أن يؤكل. ومعنى ضعفين : مثلين، لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه، وضعفاه : مثلاه زائداً عليه، وقيل ضعف الشيء مثلاه، والأول قول الجمهور.
﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾ الطل : الندى، وهو دون المطر، والعرب تقول : الطل أحد المطرين، وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعاً، وفيه وإن قل تماسكٌ ونَفْعٌ، فأراد بهذا ضرب المثل أن كثير البِر مثل زرع المطر كثير النفع، وقليل البِر مثل زرع الطل قليل النفع، ولا تدع قليل البر إذا لم تفعل كثيره، كما لا تدع زرع الطل إذا لم تقدر على زرع المطر.
قوله تعالى :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ وهي البستان.
﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾ لأنه من أنفس ما يكون فيها.
﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأْنْهَارُ ﴾ لأن أنفسها ما كان ماؤها جارياً.
﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ لأن الكِبَر قد يُنسِي من سعى الشباب في كسبه، فكان أضعف أملاً وأعظم حسرة.
﴿ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ﴾ لأنه على الضعفاء أحَنّ، وإشفاقه عليهم أكثر.
﴿ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾ وفي الإعصار قولان :
أحدهما : أنه السَّمُوم الذي يقتل، حكاه السدي.
والثاني : الإعصار ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود تسميها العامة الزوبعة، قال الشاعر :
..................... إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً
وإنما قيل لها إعصار لأنها تَلْتَفُّ كالتفاف الثوب المعصور.
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآْيَاتِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يوضح لكم الدلائل.
والثاني : يضرب لكم الأمثال.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : تعتبرون، لأن المفكر معتبر.
والثاني : تهتدون، لأن الهداية التَّفَكُّر.
واختلفوا في هذا المثل الذي ضربه الله في الحسرة لسلب النعمة، من المقصود به؟ على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها، قاله السدي.
والثاني : هو مثل للمفرِّط في طاعة الله لملاذّ الدنيا يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى، قاله مجاهد.
والثالث : هو مثل للذي يختم عمله بفساد، وهو قول ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني به الذهب والفضة، وهو قول عليّ عليه السلام.
والثاني : يعني التجارة، قاله مجاهد.
والثالث : الحلال.
والرابع : الجيد.
﴿ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ﴾ من الزرع والثمار.
وفي الكسب وجهان محتملان :
أحدهما : ما حدث من المال المستفاد.
والثاني : ما استقر عليه المِلك من قديم وحادث.
واختلفوا في هذه النفقة على قولين :
أحدهما : هي الزكاة المفروضة قاله عبيدة السلماني.
والثاني : هي في التطوع، قاله بعض المتكلمين.
﴿ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾ التيمم : التعمد، قال الخليل : تقول أَمَمْتُه إذا قصدت أَمَامَه، ويَمَّمْتُه إذا تعمدته من أي جهة كان، وقال غيره : هما سواء، والخبيث : الرديء من كل شيء، وفيه هنا قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يأتون بالحشف فيدخلونه في تمر الصدقة، فنزلت هذه الآية، وهو قول عليٍّ، والبراء بن عازب.
والثاني : أن الخبيث هو الحرام، قاله ابن زيد.
﴿ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : إلا أن تتساهلوا، وهو قول البراء بن عازب.
والثاني : إلا أن تحطوا في الثمن، قاله ابن عباس.
والثالث : إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة قاله الزجاج.
والرابع : إلا أن ترخصوا لأنفسكم فيه، قاله السدي، وقال الطِّرِمّاح :
لم يفتنا بالوِتر قوم وللضيْ م رجال يرضون بالإغماضِ
قوله تعالى :﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ وهو ما خوّف من الفقر إن أنفق أو تصدق.
﴿ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : بالشح.
والثاني : بالمعاصي.
﴿ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما :.... لكم.
والثاني : عفواً لكم.
﴿ وَفَضْلاً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : سعة الرزق.
والثاني : مضاعفة العذاب.
﴿ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ رُوِيَ أن النبي ﷺ قال :« إِنَّ لِلشَّيطَانِ لَمَّةً مِن ابن آدَم، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيرِ وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ وَلْيَحْمِدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الأخَرَ فَلْيَتَعَوَّذ بِاللهِ
»
. ثم تلا هذه الآية. قوله تعالى :﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ﴾ في الحكمة سبعة تأويلات :
أحدها : الفقه في القرآن، قاله ابن عباس.
والثاني : العلم بالدين، قاله ابن زيد.
والثالث : النبوّة.
والرابع : الخشية، قاله الربيع.
والخامس : الإصابة، قاله ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والسادس : الكتابة، قاله مجاهد.
والسابع : العقل، قاله زيد بن أسلم.
ويحتمل ثامناً : أن تكون الحكمة هنا صلاح الدين وإصلاح الدنيا.
قوله تعالى :﴿ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ يعني أنه ليس في إبدائها كراهية.
﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه يعود إلى صدقة التطوع، يكون إخفاؤها أفضل، لأنه من الرياء أبعد، فأما الزكاة فإبداؤها أفضل، لأنه من التهمة أبعد، وهو قول ابن عباس، وسفيان.
والثاني : أن إخفاء الصدقتين فرضاً ونفلاً أفضل، قاله يزيد بن أبي حبيب، والحسن، وقتادة.
﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن ( مِنْ ) زائدة تقديرها : ويكفر عنكم سيئاتكم.
والثاني : أنها ليست زائدة وإنما دخلت للتبعيض، لأنه إنما يكفر بالطاعة من غير التوبة الصغائر، وفي تكفيرها وجهان :
أحدهما : يسترها عليهم.
والثاني : يغفرها لهم.
قوله تعالى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ ﴾ قيل هم فقراء المهاجرين، وفي أحصروا أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم منعوا أنفسهم من التصرف للمعاش خوف العدو من الكفار، قاله قتادة، وابن زيد.
والثاني : منعهم الكفار بالخوف منهم، قاله السدي.
والثالث : منعهم الفقر من الجهاد.
والرابع : منعهم التشاغل بالجهاد عن طلب المعاش.
﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني تصرفاً، قاله ابن زيد.
والثاني : يعني تجارة، قاله قتادة، والسدي.
﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ يعني من قلة خبرته بهم، ومن التعفف : يعني من التقنع والعفة والقناعة.
﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ السمة : العلامة، وفي المارد بِهَا هُنَا قولان :
أحدهما : الخشوع، قاله مجاهد.
والثاني : الفقر، قاله السدي.
﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن يسأل وله كفاية.
والثاني : أنه الاشتمال بالمسألة، ومنه اشتق اسم اللحاف. فإن قيل : فهل كانوا يسألون غير إلحاف؟ قيل : لا؛ لأنهم كانوا أغنياء من التعفف، وإنما تقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحافاً.
قال ابن عباس في أهل الصُفَّة من المهاجرين : لم يكن لهم بالمدينة منازل ولا عشائر وكانوا نحو أربعمائة.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ اختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه، كانت معه أربعة دراهم فأنفقها على أهل الصفّة، أنفق في سواد الليل درهماً، وفي وضح النهار درهماً، وسراً درهماً، وعلانية درهماً، قاله ابن عباس.
والثاني : أنها نزلت في النفقة على الخيل في سبيل الله لأنهم ينفقون بالليل والنهار سِرّاً وعلانية، قاله أبو ذر، والأوزاعي.
والثالث : أنها نزلت في كل مَنْ أنفق ماله في طاعة الله.
ويحتمل رابعاً : أنها خاصة في إباحة الارتفاق بالزروع والثمار، لأنه يرتفق بها كل مار في ليل أو نهار، في سر وعلانية، فكانت أعم لأنها تؤخذ عن الإرادة وتوافق قدر الحاجة.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ﴾ يعني يأخذون الربا فعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأخذ إنما يراد للأكل، والربا : هو الزيادة من قولهم : ربا السويق يربو إذا زاد، وهو الزيادة على مقدار الدَّيْنِ لمكان الأجل.
﴿ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ يعني من قبورهم يوم القيامة، وفيه قولان :
أحدهما : كالسكران من الخمر يقطع ظهراً لبطن، ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.
والثاني : قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن : لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس، يعني الجنون، فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا.
واختلفوا في مس الجنون، هل هو بفعل الشيطان؟
فقال بعضهم : هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه، ينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه.
وقال آخرون : بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض، لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ قيل إنه يعني ثقيفاً لأنهم كانوا أكثر العرب رباً، فلمّا نهوا عنه قالوا : كيف ننهى عن الربا وهو مثل البيع فحكى الله تعالى ذلك عنهم، ثم أبطل ما ذكروه من التشبيه بالبيع فقال تعالى :
﴿ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ وللشافعي في قوله :﴿ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من العامِّ الذي يجري على عمومه في إباحة كل بيع وتحريم كل ربا إلا ما خصهما دليل من تحريم بعض البيع وإحلال بعض الربا، فعلى هذا اختلف في قوله، هل هو من العموم الذي أريد به العموم، أو من العموم الذي أريد به الخصوص على قولين :
أحدهما : أنه عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص.
والثاني : أنه عموم أريد به الخصوص.
وفي الفرق بينهما وجهان : أحدهما : أن العموم الذي أريد به العموم : أن يكون الباقي من العموم من بعد التخصيص أكثر من المخصوص، والعموم الذي أريد به الخصوص أن يكون الباقي منه بعد التخصيص أقل من المخصوص.
والفرق الثاني : أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدِّم على اللفظ، وأن ما أريد به العموم متأخِر عن اللفظ ومقترن به، [ هذا ] أحد أقاويله :
والقول الثاني : أنه المجمل الذي لا يمكن [ أن ] يستعمل في إحلال بيع أو تحريمه إلا أن يقترن به بيان من سنّة الرسول، وإن دل على إباحة البيوع في الجملة دون التفصيل.
وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، أن العموم يدل على إباحة البيوع في الجملة ولا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان.
203
فعلى هذا القول أنها مجملة اختلف في إجمالها، هل هو لتعارض فيها أو لمعارضة غيرها لها على وجهين :
أحدهما : أنه لمَّا تعارض ما في الآية من إحلال البيع وتحريم الربا وهو بيع صارت بهذا التعارض مجملة وكان إجمالها منها.
والثاني : أن إجمالها بغيرها لأن السنّة منعت من بيوع وأجازت بيوعاً فصارت بالسنة مجملة.
وإذا صح إجمالها فقد اختلف فيه :
هل هو إجمال في المعنى دون اللفظ، لأن لفظ البيع معلوم في اللغة وإنما الشرع أجمل المعنى والحكم حين أحل بيعاً وحرّم بيعاً.
والوجه الثاني : أن الإجمال في لفظها ومعناها، لأنه لما عدل بالبيع عن إطلاقه على ما استقر عليه في الشرع فاللفظ والمعنى محتملان معاً، فهذا شرح القول الثاني.
والقول الثالث : أنها داخلة في العموم والمجمل، فيكون عموماً دخله التخصيص، ومجملاً لحقه التفسير، لاحتمال عمومها في اللفظ وإجمالها في المعنى، فيكون اللفظ عموماً دخله التخصيص، والمعنى مجملاً لحقه التفسير.
والوجه الثاني : أن عمومها في أول الآية من قوله :﴿ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾، وإجمالها في آخرها من قوله :﴿ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾، فيكون أولها عاماً دخله التخصيص، وآخرها مجملاً لحقه التفسير.
والوجه الثالث : أن اللفظ كان مجملاً، فلما بَيَّنَهُ الرسول صار عاماً، فيكون داخلاً في المجمل قبل البيان، في العموم بعد البيان.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّه فَانتَهَى ﴾ في الموعظة وجهان :
أحدهما : التحريم.
والثاني : الوعيد.
﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ قاله السدي : يعني ما أكل من الربا لا يلزمه رَدُّه.
﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : في المحاسبة والجزاء.
والثاني : في العفو والعقوبة.
وقيل فيه وجه ثالث : في العصمة والتوفيق.
وقيل فيه وجه رابع : فأمره إلى الله والمستقل في تثبيته على التحريم أو انتقاله إلى الاستباحة.
204
قوله تعالى :﴿ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا ﴾ أي ينقصه شيئاً بعد شيء، مأخوذ من محاق الشهر لنقصان الهلال فيه، وفيه وجهان :
أحدهما : يبطله يوم القيامة إذا تصدق به في الدنيا.
والثاني : يرفع البركة منه في الدنيا مع تعذيبه عليه في الآخرة.
﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يثمر المال الذي خرجت منه الصدقة.
والثاني : يضاعف أجر الصدقة ويزيدها، وتكون هذه الزيادة واجبة بالوعد لا بالعمل.
﴿ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ في الكَفَّار وجهان :
أحدهما : الذي يستر نعم الله ويجحدها.
والثاني : هو الذي يكثر فعل ما يكفر به.
وفي الأثيم وجهان :
أحدهما : أنه من بَّيت الإِثم.
والثاني : الذي يكثر فعل ما يأثم به.
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يأ أيها الذين أمنوا بألسنتهم اتقوا الله بقلوبكم.
والثاني : يأيها الذين أمنوا بقلوبهم اتقوا الله في أفعالكم.
﴿ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ فيمن نزلت هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها نزلت في ثقيف وكان بينهم وبين عامر وبني مخزوم، فتحاكموا فيه إلى عتاب بن أسيد بمكة وكان قاضياً عليها من قِبَل رسول الله ﷺ فقالوا : دخلنا في الإسلام على أن ما كان لنا من الربا فهو باق، وما كان علينا فهو موضوع، فنزل ذلك فيهم وكتب به رسول الله ﷺ إليهم.
والثاني أنها نزلت في بقية من الربا كانت للعباس ومسعود وعبد ياليل وحبيب بن ربيعة عند بني المغيرة.
قوله تعالى :﴿ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ محمول على أن مَنْ أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كُفْرِه وأسلم وقد بقي بعضه، فما قبضه قبل إسلامه معفو عنه لا يجب عليه رد، وما بقي منه بعد إسلامه، حرام عليه لا يجوز له أخذه، فأما المراباة بعد الإسلام فيجب رَدُّه فيما قبض وبقي، فيرد ما قبض ويسقط ما بقي، بخلاف المقبوض في الكفر، لأن الإسلام يجبُّ ما قبله.
وفي قوله تعالى :﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ قولان :
أحدهما : يعني أن من كان مؤمنا فهذا حكمه.
والثاني : معناه إذا كنتم مؤمنين.
قوله تعالى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا ﴾ يعني ترك ما بقي من الربا.
﴿ فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر فآذنوا بالمد، بمعنى : فأعلِموا غيركم، وقرأ الباقون بالقَصْر بمعنى فاعلموا أنتم، وفيه وجهان :
أحدهما : إن لم تنتهوا عن الربا أموت النبي بحربكم.
والثاني : إن لم تنتهوا عنه فأنتم حرب الله ورسوله، يعني أعداءه.
﴿ وَإِن تُبْتُم فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ ﴾ يعني التي دفعتم ﴿ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ بأن تأخذوا الزيادة على رؤوس أموالكم، ﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ بأن تمنعوا رؤوس أموالكم.
قوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ قيل إن في قراءة أُبَيٍّ ﴿ ذَا عُسْرَةٍ ﴾ وهو جائز في العربية.
وفيه قولان :
أحدهما : أن الإِنظار بالعسرة واجب في دَيْن الربا خاصّة، قاله ابن عباس، وشريح.
والثاني : أنه عام يجب إنظاره بالعسرة في كل دَيْن، لظاهر الآية، وهو قول عطاء، والضحاك، وقيل إن الإِنظار بالعسرة في دَيْن الربا بالنص، وفي غيره من الديون بالقياس.
وفي قوله :﴿ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ قولان :
أحدهما : مفعلة من اليسر، وهو أن يوسر، وهو قول الأكثرين.
والثاني : إلى الموت، قاله إبراهيم النخعي.
206
﴿ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ يعني وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدّيْن خير لكم من أن تُنظروه، روى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا، فدعوا الربا والرُّبْية، وإن نبي الله ﷺ قبض قبل أن يفسرها.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ أي اتقوا بالطاعة فيما أمرتم به من ترك الربا وما بقي منه.
و ﴿ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني إلى جزاء الله.
والثاني : إلى ملك الله.
﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : جزاء ما كسبت من الأعمال.
والثاني : ما كسبت من الثواب والعقاب.
﴿ وهم لا يظلمون ﴾ يعني بنقصان ما يستحقونه من الثواب، ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب.
روى ابن عباس أن آخر آية نزلت على النبي ﷺ هذه الآية. قال ابن عباس : مكث بعدها سبع ليال.
207
قوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ﴾ إلى آخر الآية. في ﴿ تداينتم ﴾ تأويلان :
أحدهما : تجازيتم.
والثاني : تعاملتم.
وفي ﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾ قولان :
أحدهما : أنه ندب، وهو قول أبي سعيد الخدري، والحسن، والشعبي.
والثاني : أنه فرض، قاله الربيع، وكعب.
﴿ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ وعَدْل الكاتب ألاّ يزيد [ فيه ] إضراراً بمن هو عليه، ولا ينقص منه، إضراراً بمن هو له.
﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ﴾ وفيه أربعة أقاويل :
أحدهما : أنه فرض على الكفاية كالجهاد، قاله عامر.
والثاني : أنه واجب عليه في حال فراغه، قاله الشعبي أيضاً.
والثالث : أنه ندب، قاله مجاهد.
والرابع : أن ذلك منسوخ بقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾، قاله الضحاك.
﴿ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ يعني على الكاتب، ويقرُّ به عند الشاهد.
﴿ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾ أي لا ينقص منه شيئاً.
﴿ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنه الجاهل بالصواب فيما عليه أن يملّه على الكاتب، وهو قول مجاهد.
والثاني : أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن.
والثالث : أنه المبذر لماله، المُفْسِد في دينه، وهو معنى قول الشافعي.
والرابع : الذي يجهل قدر المال، ولا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره.
﴿ أَوْ ضَعِيفاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الأحمق، قاله مجاهد، والشعبي.
والثاني : أنه العاجز عن الإِملاء إما بِعيٍّ أو خُرْسٍ، قاله الطبري.
﴿ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنه العييّ الأخرس، قاله ابن عباس.
والثاني : أنه الممنوع عن الإِملاء إما بحبس أو عيبة.
والثالث : أنه المجنون.
﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : وليّ مَنْ عليه الحق، وهو قول الضحاك، وابن زيد.
والثاني : وليّ الحق، وهو صاحبه، قاله ابن عباس، والربيع.
﴿ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَينِ مِن رِّجَالِكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : من أهل دينكم.
والثاني : من أحراركم، قاله مجاهد.
﴿ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ يعني فإن لم تكن البينة برجلين، فبرجل وامرأتين ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم الأحرار المسلمون العدول، وهو قول الجمهور.
والثاني : أنهم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا، وهو قول شريح، وعثمان البتّي، وأبي ثور.
﴿ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لئلا تضل، قاله أهل الكوفة.
والثاني : كراهة أن تضل، قاله أهل البصرة.
وفي المراد به وجهان :
أحدهما : أن تخطىء.
والثاني : أن تَنْسَى، قاله سيبويه.
208
﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنها تجعلها كَذَكَرٍ من الرجال، قاله سفيان بن عيينة.
والثاني : أنها تذكرها إن نسيت، قاله قتادة، والسدي، والضحاك، وابن زيد.
﴿ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لتحَمُّلها وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع.
والثاني : لإِقامتها وأدائها عند الحاكم، قاله مجاهد، والشعبي، وعطاء.
والثالث : أنها للتحمل والأداء جميعاً، قاله الحسن.
واختلفوا فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه ندب وليس بفرض، قاله عطاء، وعطية العوفي.
والثاني : أنه فرض على الكفاية، قاله الشعبي.
والثالث : أنه فرض على الأعيان، قاله قتادة، والربيع.
﴿ وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ﴾ وليس يريد بالصغير ما كان تافهاً حقيراً كالقيراط والدانق لخروج ذلك عن العرف المعهود.
﴿ ذلكم أقسط عند الله ﴾ أي أعدل، يقال : أَقْسَطَ إِذا عَدَلَ فهو مُقْسِط، قال تعالى :﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [ الحجرات : ٩ ] وقَسَطَ إذا جار، قال تعالى :﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٤ ]. ﴿ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أصحُّ لها، مأخوذ من الاستقامة.
والثاني : أحفظ لها، مأخوذ من القيام، بمعنى الحفظ.
﴿ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ألا ترتابوا بِمَنْ عليه حق أن ينكره.
والثاني : ألاّ ترتابوا بالشاهد أن يضل.
﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الحاضرة ما تعجّل ولم يداخله أجل في مبيع ولا ثمن.
والثاني : أنها ما يحوزه المشتري من العروض المنقولة.
﴿ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : تتناقلونها من يد إلى يد.
والثاني : تكثرون تبايعها في كل وقت.
﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾ يعني أنه غير مأمور بكتْبِه وإن كان مباحاً.
﴿ وَأَشَهِدُوآ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه فرض، وهو قول الضحاك، وداود بن علي.
والثاني : أنه ندب، وهو قول الحسن، والشعبي، ومالك، والشافعي.
﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن المضارة هو أن يكتب الكاتب ما لم يُمْل عليه، ويشهد الشاهد بما لم يُستشهد، قاله طاووس، والحسن، وقتادة.
والثاني : أن المضارّة أن يمنع الكاتب أن يكتب، ويمنع الشاهد أن يشهد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء.
والثالث : أن المضارّة أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان معذوران، قاله عكرمة، والضحاك، والسدي، والربيع.
ويحتمل تأويلاً رابعاً : أن تكون المضارّة في الكتابة والشهادة.
﴿ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن الفسوق المعصية، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
والثاني : أنه الكذب، قاله ابن زيد.
ويحتمل ثالثاً : أن الفسوق المأثم.
209
قوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو : فرُهُن، وقرأ الباقون فرِهَانٌ
وفيها قولان :
أحدهما : أن الرُّهُن في الأموال، والرِّهَان في الخيل.
والثاني : أن الرِّهَان جمع، والرُهُن جمع الجمع مثل ثمار وثمر، قاله الكسائي، والفراء.
وفي قوله :﴿ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ وجهان :
أحدهما : أن القبض من تمام الرهن، وهو قبل القبض غير تام، قاله الشافعي، وأبو حنيفة.
والثاني : لأنه من لوازم الرهن، وهو قبل القبض التام، قاله مالك.
وليس السفر شرطاً في جواز الرهن، لأن النبي ﷺ رَهَنَ دِرْعَه عند أبي الشحم اليهودي بالمدينة وهي حَضَرٌ، ولا عَدَمُ الكاتب والشاهد شرطاً فيه لأنه زيادة وثيقة.
﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾ يعني بغير كاتب ولا شاهد ولا رهن.
﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ يعني في أداء الحق وترك المُطْل به.
﴿ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ في ألا يكتم من الحق شيئاً.
﴿ وَلاَ تَكْتُمُوا الشِّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : معناه فاجر قلبه، قاله السدي.
والثاني : مكتسب لإِثم الشهادة.
قوله تعالى :﴿ للهِ مَا فِي السَّمَواتِ وما في الأرض ﴾ في إضافة ذلك إلى الله تعالى قولان :
أحدهما : أنه إضافة تمليك تقديره : الله يملك ما في السماوات وما في الأرض.
والثاني : معناه تدبير ما في السماوات وما في الأرض.
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ ﴾ إبداءُ ما في النفس هو العمل بما أضمروه، وهو مُؤَاخَذ به ومُحَاسَب عليه، وأما إخفاؤه فهو ما أضمره وحدّث به نفسه ولم يعمل به.
وفيما أراد به قولان :
أحدهما : أن المراد به كتمان الشهادة خاصة، قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي.
والثاني : أنه عام في جميع ما حدَّث به نفسه من سوء، أو أضمر من معصية، وهو قول الجمهور.
واختلف في هذه الآية، هل حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره وحدَّث به نفسه؟ أو منسوخ؟ على قولين :
أحدهما : أن حكمها ثابت في المؤاخذة بما أضمره، واختلف فيه من قال بثبوته على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن حكمها ثابت على العموم فيما أضمره الإِنسان فيؤاخِذ به من يشاء، ويغفر لمن يشاء، قاله ابن عمر، والحسن.
والثاني : حكمها ثابت في مؤاخذة الإِنسان بما أضمره وإن لم يفعله، إلا أنَّ الله يغفره للمسلمين ويؤاخذ به الكافرين والمنافقين، قاله الضحاك، والربيع، ويكون ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ محمولاً على المسلمين، ﴿ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ محمولاً على الكافرين والمنافقين.
والثالث : أنها ثابتة الحكم على العموم في مؤاخذته المسلمين بما حدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون لها، ومؤاخذة الكافرين والمنافقين بعذاب الآخرة، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.
والقول الثاني : أن حكم الآية في المؤاخذة بما أضمره الإنسان وحدث به نفسه وإن لم يفعله منسوخ. واختلف من قال بنسخها فيما نسخت به على قولين :
أحدهما : بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة قال : انزل الله ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُم أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ﴾ فاشتد ذلك على القوم فقالوا : يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نُحَدِّثُ به أنفسنا، هلكنا، فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ وهو أيضاً قول ابن مسعود.
والثاني : أنها نسخت بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال النبي ﷺ :« قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا ». قال : فألقى الله الإيِمان في قلوبهم، قال : فأنزل الله :﴿ ءَامَنَ الرَّسُولُ ﴾ الآية. فقرأ :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأَنَا ﴾. فقال تعالى : قد فعلت. ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾. قال : قد فعلت ﴿ ربنا ولا تحملنا ما لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾. قال : قد فعلت. ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. قال : قد فعلت.
211
والذي أقوله فيما أضمره وحدّث به نفسه ولم يفعله إنه مُؤَاخَذ بمأثم الاعتقاد دون الفعل، إلا أن يكون كَفُّه عن الفعل ندماً، فالندم توبة تمحص عنه مأثم الاعتقاد.
قوله تعالى :﴿ ءَامَنَ الرَّسُولُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ ﴾ أما إيمان الرسول فيكون بأمرين : تحمُّل الرسالة، وإِبْلاَغ الأمة، وأما إيمان المؤمنين فيكون بالتصديق والعمل.
﴿ كُلٌّ ءَامَنَ باللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾. والإِيمان بالله يكون بأمرين : بتوحيده، وقبول ما أنزل على رسوله.
وفي الإِيمان بالملائكة وجهان :
أحدهما : الإِيمان بأنهم رسل الله إلى أنبيائه.
والثاني : الإِيمان بأن كل نفس منهم رقيب وشهيد.
﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ قراءة الجمهور وقرأ حمزة :﴿ وكِتَابِهِ ﴾ فمن قرأ ﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ فالمراد به جميع ما أنزل الله منها على أنبيائه. ومن قرأ :﴿ وَكِتَابِهِ ﴾ ففيه وجهان :
أحدهما : أنه عنى القرآن خاصة.
والثاني : أنه أراد الجنس، فيكون معناه بمعنى الأول وأنه أراد جميع الكتب والإِيمان بها والاعتراف بنزولها من الله على أنبيائه.
وفي لزوم العمل بما فيها ما لم يرد نسخ قولان :
ثم فيما تقدم ذكره من إيمان الرسول والمؤمنين - وإن خرج مخرج الخبر- قولان :
أحدهما : أن المراد به مدحهم بما أخبر من إيمانهم.
والثاني : أن المراد به أنه يقتدي بهم مَنْ سواهم.
ثم قال تعالى :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ يعني في أن يؤمن ببعضهم دون بعض، كما فعل أهل الكتاب، فيلزم التسوية بينهم في التصديق، وفي لزوم التسوية في التزام شرائعهم ما قدمناه من القولين، وجعل هذا حكاية عن قولهم وما تقدمه خبراً عن حالهم ليجمع لهم بين قول وعمل وماض ومستقبل.
﴿ وَقَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سمعنا قوله وأطعنا أمره.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يراد بالسماع القبول، وبالطاعة العمل.
﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ معناه نسألك غفرانك، فلذلك جاء به منصوباً.
﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ يعني إلى جزائك.
ويحتمل وجهاً ثانياً : يريد به إلى لقائك لتقدم اللقاء على الجزاء.
212
قوله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ يعني طاقتها، وفيه وجهان :
أحدهما : وعدٌ من الله لرسوله وللمؤمنين بالتفضل على عباده ألاَّ يكلف نفساً إلا وسعها.
والثاني : أنه إخبار من النبي ﷺ ومن المؤمنين عن الله، على وجه الثناء عليه، بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
ثم قال :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ يعني لها ما كسبت من الحسنات، وعليها ما اكتسبت يعني من المعاصي. وفي كسبت واكتسبت وجهان :
أحدهما : أن لفظهما مختلف ومعناهما واحد.
والثاني : أن كسبت مستعمل في الخير خاصة، واكتسبت مستعمل في الشر خاصّة.
﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينآ ﴾ قال الحسن : معناه : قولوا ربنا لا تؤاخذنا. ﴿ إِن نَّسِينَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني إن تناسينا أمرك.
والثاني : تركنا، والنسيان : بمعنى الترك كقوله تعالى :﴿ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ]، قاله قطرب.
﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : ما تأولوه من المعاصي بالشبهات.
والثاني : ما عمدوه من المعاصي التي هي خطأ تخالف الصواب.
وقد فَرَّقَ أهل اللسان بين « أخطأ » وخطيء، فقالوا :« أخطأ » يكون على جهة الإِثم وغير الإِثم، وخطىء : لا يكون إلا على جهة الإِثم، ومنه قول الشاعر :
والناس يَلْحُون الأَميرَ إذا هُمُ خطئوا الصوابَ ولا يُلام المرْشدُ
﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً ﴾ فيه أربعة تأويلات :
أحدها : إصراً أي عهداً نعجز عن القيام به، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
الثاني : أي لا تمسخنا قردة وخنازير، وهذا قول عطاء.
الثالث : أنه الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة، قاله ابن زيد.
الرابع : الإِصر : الثقل العظيم، قاله مالك، والربيع، قال النابغة :
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإِصر عنهم بعدما عرضوا
﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ يعني بني إسرائيل فيما حملوه من قتل أنفسهم.
﴿.. وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ما لا طاقة لنا به مما كُلِّفَهُ بنو إسرائيل.
الثاني : ما لا طاقة لنا به من العذاب.
﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مالكنا.
الثاني : وَلِيُّنا وناصرنا.
﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ روى عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ فلما انتهى إلى قوله تعالى :﴿ غُفْرَانَكَ رَبِّنَا ﴾ قال الله تعالى : قد غفرت لكم، فلما قرأ :﴿ رَ بَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَو أَخْطَأْنَا ﴾ قال الله تعالى : لا أؤاخذكم، فلما قرأ :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ قال الله تعالى : لا أحمل عليكم. فلما قرأ :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمَّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ قال الله تعالى : لا أحملكم. فلما قرأ :﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ قال الله تعالى : قد عفوت عنكم. فلما قرأ :﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ قال الله تعالى : قد غفرت لكم. فلما قرأ :﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ قال الله تعالى : قدر رحمتكم. فلما قرأ :﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قال الله تعالى : قد نصرتكم.
213
وروى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر الجهني قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« اقْرَؤُوا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مِنْ خَاتِمَةِ البَقَرَةِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَانِيهَا مِن تَحتِ العَرْشِ
»
. وروى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ :« السُّورةُ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا البَقَرةُ فُسْطَاطُ القُرْآنِ، فَتَعَلَّمُوهَا فَإِنَّ تَعلِيمَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلاَ يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ قِيلَ : وَمَنِ البَطَلَةُ؟ قَالَ : السَحَرَةُ
»
.
214
Icon