فضلها :
روي عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :( من قرأ السورة التي يُذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى اللّه عليه وملائكتهُ حتى تغيب الشمس ).
زرّ بن حُبيش عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :( من قرأ سورة آل عمران أُعطي بكلَّ آية منها أماناً على جسر جهنَّم ).
رويعن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة، قال : قال عبد اللّه بن مسعود :( من قرأ آل عمران فهو غني ).
يحيى بن نعيم عن أبيه عن أبي المعرش عن عمر قال : سمعتُ رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم يقول :( تعلَّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاءً حتى يدخلاه الجنَّة ).
إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي الحُرين عن أبي عبد اللّه الشامَّي، قال :( من قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة يبدل له يوم القيامة جناحات يطير بهما على الصراط ).
ﰡ
سوره آل عمران
روي أنّها أربعة عشر ألف حرف، وخمس مائة وخمسة وعشرون حرفا، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانين كلمة، ومائتا آية.
فضلها:
روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس» [١] «١».
زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم» [٢] «٢».
رويعن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة، قال: قال عبد الله بن مسعود: «من قرأ آل عمران فهو غني».
يحيى بن نعيم عن أبيه عن أبي المعرش عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تعلّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاء حتى يدخلاه الجنّة» [٣] «٣».
إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي الحرين عن أبي عبد الله الشاميّ، قال: «من قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة يبدل له يوم القيامة جناحات يطير بهما على الصراط» [٤] «٤».
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
(٢) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٢٣٢.
(٣) مسند أحمد: ٥/ ٣٦١، مجمع الزوائد: ٧/ ١٥٩ مع اختلاف في الحديث.
(٤) ميزان الاعتدال: ٢/ ٤٢٤، وفيه: جناحين منظومين بالدرّ والياقوت.
فقدموا على رسول الله المدينة ودخلوا مسجده- حين صلى العصر- عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد، في جمال رجال بلحرث «٢» بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رأينا وفدا مثلهم! وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلّوا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلّوا الى المشرق.
فكلّم السيد والعاقب رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أسلمنا. قالا:
قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام [ادّعاء كما] «٣» لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير.
قالا: إن لم يكن ولد لله فمن [أبيه] «٤» وخاصموه جميعا في عيسى عليه السلام، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّه لا يكون ولد إلّا وشبه أباه. قالوا: بلى، قال: ألستم] تعلمون أن ربّنا حي لا يموت وإنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا:
لا. قال: ألستم تعلمون إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ؟ قالوا: بلى.
(٢) للتخفيف وهو بالأصل: بني الحرث. [.....]
(٣) في المخطوط: (دعاءكما).
(٤) هكذا في الأصل.
قالوا: لا.
قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟
قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون إنّ عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة حملها، ثم غذي كما يغذى الصبي، وكان يطعم ويشرب ويحدث، قالوا: بلى. قال:
فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا.
فأنزل الله تعالى فيهم صدر سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها.
فقال عزّ من قائل: الم
قرأ ابن جعفر بن زبير القعقاع المدني ال م مفصولا، ومثلها جميع حروف التهجّي المفتح بها السور.
وقرأ ابن جعفر الرواسي والأعشى والهرحمي: الم اللَّهُ مقطوعا والباقون موصولا مفتوح الميم. فمن فتح الميم ووصل فله وجهان:
قال البصريون: لالتقاء الساكنين حركت إلى أخف الحركات.
وقال الكوفيون: كانت ساكنة لأن حروف الهجاء مبنية على الوقف فلمّا تلقاها ألف الوصل وأدرجت الألف فقلبت حركتها وهي الفتحة الى الميم.
ومن قطع فله وجهان:
أحدهما: نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء، كقول الشاعر:
لتسمعنّ وشيكا في ديارهم | الله أكبر يا ثارات عثمانا «١» |
كقول الشاعر:
إذا جاوز الاثنين سرّ | فإنه بنت وتكثير الوشاة قمين «٢» |
(٢) الصحاح: ١/ ٢٩٤.
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال البصريون: أصلها ووريه دوجله وحرقله فحوّلت الواو الاولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون: هي تفعله والعلة فيه ما ذكرنا مثل (توصية)، و (توفية) فقلبت الياء ألفا كما يفعل طيئ، فيقول للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وأصلها من قولهم: «وري الزند» إذا أخرجت ناره وأولته أنا، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ «١»، وقال: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً «٢» فتسمى تورية لأنه نور وضياء دلّ عليه قوله تعالى: وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ «٣» قاله الفراء، وأكثر العلماء، وقال [المؤرج:] هي من التورية وهي كتمان الشيء والتعريض لغيره.
ومن الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا أراد شيئا وري بغيره» [٥].
وكان أكثر التورية معارض وتلويحا من غير إيضاح وتصريح، وقيل: هي بالعبرانية «نوروثو» ومعناه: الشريعة.
والإنجيل أفضل من [النجل] وهو الخروج، ومنه سمّي الولد «نجلا» لخروجه.
قال الأعشى:
أنجب أزمان والداه به | إذ نجّلاه فنعم ما نجلا «٤» |
ويقال: هو من المتنجل، وهو سعة الجن، يقال: قطعته نجلا أي: واسعة فسمي بذلك لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم نورا وضياء، وقيل: هو بالسريانية «انقليون» ومعناه:
الشريعة:
وقرأ الحسن الْأَنْجِيلَ بفتح الهمزة، يصححه الباقون بالكسر مثل: الإكليل.
مِنْ قَبْلُ رفع على الغاية والغاية هاهنا قطع الكتاب عنه كقوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وقال زهير:
وما كان من خير أتوه | فإنّما توارثه آباء آبائهم قبل «٥» |
(٢) سورة العاديات: ٢.
(٣) سورة الأنبياء: ٤٨.
(٤) الصحاح: ١/ ٢٢٢.
(٥) تفسير القرطبي: ٣/ ١٧٣.
وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الفرق بين الحق والباطل، قال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها:
وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للمتقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ذكرا وأنثى، قصيرا وطويلا، أسودا وأبيضا، حسنا وقبيحا، سعيدا وشقيا.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ متقنات مبينات مفصلات.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرّغ لأهل الإسلام، وهنّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين، ولا يختلف فيه أهل كل بلد.
والعرب تسمي كلّ شيء فاضل جامع يكون مرجعا لقوم، كما قيل للّوح المحفوظ: أم الكتاب، والفاتحة: أمّ القرآن، ولمكّة: أمّ القرى وللدماغ: أمّ الرأس، وللوالدة: أم، وللراية:
أم، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال: أم، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار: أم، وكان عيسى (عليه السلام) يقول للماء: «هذا أبي»، وللخبز: «هذه أمّي» لأنّ قوام الأبدان بهما.
وإنّما قال أُمُّ الْكِتابِ ولم يقل أمّهات الكتب لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد.
وقيل: معناه كلمة واحدة ف هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ كما قال: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «١» أي كل واحد منهما آية.
وَأُخَرُ: جمع أخرى ولم يصرف لأنّه معدول عن أواخر، مثل عمر، وزفر وهو قاله الكسائي.
وقيل: ترك أخراه لأنّه نعت مثل جمع، وكسع لم يصرفا لأنّهما نعتان.
مُتَشابِهاتٌ: تشبه بعضها بعضا، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي: «المحكم: الناسخ الذي يعمل له».
«والمتشابه: المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به، هي رواية عطية عن ابن عباس».
روى علي ابن أبي طلحة عنه قال: «محكمات القرآن ناسخة، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به».
والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به.
زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال: قال ابن عباس: قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قال: هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «١» إلى آخر الآيات الثلاث، نظيرها في سورة بني إسرائيل وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «٢» الآيات.
وقال مجاهد، وعكرمة: «المحكم: ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه [يصدّق] بعضها بعضا».
قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكم: ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد.
والمتشابه: ما أحتمل من التأويل أوجها.
وقال ابن زبير: من المحكم ما ذكر الله تعالى في كتابه من قصص الأنبياء (عليهم السلام)، وفصلت وتنته لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأمّته، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها، وقصة هود في عشر آيات، وقصّة صالح في ثمان آيات، وقصة إبراهيم في ثمان آيات، وقصة لوط في ثمان آيات، وقصة شعيب في عشر آيات، وقصة موسى في آيات كثيرة.
وذكر [آيات] حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أربع وعشرين آية.
والمتشابه: هو ما أختلف به الألفاظ من قصصهم عند التكرير، كما قال في موضع من قصة نوح: قُلْنَا احْمِلْ «٣» وقال وفي موضع آخر: فَاسْلُكْ «٤».
(٢) سورة الإسراء: ٢٣.
(٣) سورة هود: ٤٠.
(٤) سورة المؤمنون: ٢٧. [.....]
وإن بعضهم قال: «المحكم: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه».
«والمتشابه: ما ليس لأحد الى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه» وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدّنيا، ومحوها.
وقال أبو فاختة: «المحكمات التي هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ فواتح السور منها يستخرج القرآن الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ «٣» منها استخرجت البقرة، والم اللَّهُ «٤» استخرجت آل عمران.
وقال ابن كيسان: «المحكمات حجتها واضحة، ودلائلها لائحة، لا حاجة بمن سمعها الى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه، بالنظر فيه يعرف العوّام تفصيل الحق فيه من الباطل».
وقال بعضهم: «المحكم ما أجمع على تأويله، والمتشابه ما ليس معناه واضح».
وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب.
وقال الشعبي: رأيت في بعض التفاسير «٥» أنّ المتشابه هو [ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه] «٦» محكم من وجه على معنى [بشدّة] [.....] «٧»، قال الله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «٨».
والمتشابه من وجه فهو إنّه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا.
وقال ابن عبّاس في رواية شاذان: المتشابه حروف التهجّي في أوائل السّور، وذلك
بأنّ حكام اليهود هم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له حيي:
(٢) سورة الأعراف: ١٠٧.
(٣) سورة البقرة: ١. ٢.
(٤) سورة آل عمران: ١. ٢.
(٥) راجع تفسير مجمع البيان: ٢/ ٢٤٢، عن تفسير الماوردي، وتفسير القرطبي: ٤/ ١٠.
(٦) زيادة منّا لتقويم المعنى.
(٧) كلمة غير مقروءة.
(٨) سورة هود: ١.
، فأنزل تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: أي ميل عن الحق، وقيل: شك.
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: اختلفوا في معنى هذه الآية،
فقال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: ألست تعلم أنّه كلمة الله وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: هم اليهود [أجهل] هذه الأمّة باستخراجه بحساب الجمل. وقال ابن جري:
هم المنافقون.
[قال] الحسن: هم الخوارج.
وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال: إن لم يكونوا آخرون فالسبابيّة ولا أدري من هم.
وقال بعضهم: هم جميع المحدثة.
وروي حمّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعا عن عبد الله بن أبي مليكة الفتح عن عائشة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الّذين يسألون عمّا تَشابَهَ مِنْهُ ويجادلون فيه الّذين عنى الله عزّ وجلّ فاحذروهم ولا تخالطوهم [٦] «٣».
ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: طلب الشرك قاله الربيع، والسدي، وابن الزبير، ومجاهد: ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم.
وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: تفسيره وعلمه دليله قوله تعالى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «٤».
وقيل: ابتغاء عاقبته، وطلب مدة أجل محمّد، وأمته من حساب الجمل، دليله قوله تعالى
(٢) سورة يونس: ١.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٩ بتفاوت، وتفسير الدرّ المنثور: ٢/ ٥، من طرق كلّها متفاوتة.
(٤) سورة الكهف: ٧٨.
قال: الأعشى:
على أنّها كانت تأوّل حبها... تأوّل ربعي السقاب فأصحبا «٢»
يقول: هذا السجي لها فانقرت لها وابتغتها، قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها.
فقال قوم: الواو في قوله الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون: آمَنَّا بِهِ.
وهو قول مجاهد والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، واختيار القتيبي قالوا: معناها يعلمونه ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فيكون قوله: يَقُولُونَ، حالا والمعنى: الراسخون في العلم قائلين آمنّا به.
قال ابن المفرغ الحميري:
أضربت حبك من امامه... من بعد أيام برامه
الريح تبكي شجوها... والبرق يلمع في الغمامة «٣»
أراد والبرق لا معا في غمامه وتبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى.
ودليل هذا التأويل قوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ «٤». ثم قال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «٥» الآية.
ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ «٦» : أي والذين تبؤوا الدار، ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. ثم أخبر عنهم أنّهم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «٧» الآية.
ولا شك في أنّ قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف على قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
(٢) الربعي: نتاج الربيع، وأصحب الرجل: إذا بلغ ابنه، والبيت في تفسير الطبري: ٣/ ٢٥٠. [.....]
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ١٧، واحكام القرآن للجصّاص: ٢/ ٧.
(٤) سورة البقرة: ١٧٧.
(٥) سورة الحشر: ٨.
(٦) سورة الحشر: ٩.
(٧) سورة الحشر: ١٠.
ومما يؤيد هذا القول أنّ الله تعالى لم ينزل كتابه إلّا لينتفع له مبارك، ويدل عليه على المعنى الذي اراده فقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ «٢»، وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «٣».
والمبين الظاهر، وقال: بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ «٤». فوصف جميعه بالتفصيل والتبيين وقال:
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «٥».
ولا يجوز أن تبيّن ما لا يعلم، وإذا جاز أن يعرفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوله لا يعلمه إلّا الله، جاز أن يعرفه الربانيون من أصحابه.
وقال: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «٦» ولا تؤمر باتّباع ما لا يعلم ولأنّه لو لم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضل لأنهم ايضا يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: ولأنّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية [قوما] يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلّا الله، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها.
وكان ابن عباس يقول: في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم.
وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممّن يعلم تأويله.
وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة: غِسْلِينٍ، وحَناناً، والأوّاه، والترقيم. وهذا إنّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسّرها.
وقال آخرون: الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الاستئناف وتم الكلام، وانقطع عند قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ثم ابتدأ وقال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ
(٢) سورة ص: ٢٩.
(٣) سورة الشعراء: ١٩٥.
(٤) سورة الأعراف: ٥٢.
(٥) سورة النحل: ٤٤.
(٦) سورة الأعراف: ٣.
وقال بعضهم: [اعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد] «١» أستأثر الله بعلمه دوننا، ونفسّره نحن، ولم نتعبد بذلك. بل ألزمنا العمل بأوامره واجتناب نواهيه، ومما يصدّق هذا القول قراءة عبد «٢» الله أنّ تأويله لا يعلم إلّا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به.
وفي حرف [] «٣» الراسخون في العلم آمنّا به.
ودليله أيضا ما روي عن عمر بن عبد العزيز، إنّه قرأ هذه الآية ثم قال: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن الى أن قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «٤».
وقال أبو نهيك الأسدي: إنّكم تصلون هذه الآية وإنّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربيّة وأشبه مظاهر الآية والقصة والله أعلم.
والرَّاسِخُونَ: الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يقال: (رسخ الإيمان في القلب فلان) فهو يرسخ رسخا ورسوخا وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ، وهذا كما يقال: مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر:
لقد رسخت في القلب منك مودة | للنبي أبت آياتها أن تغيرا «٥» |
[قيل:] الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم بعض الدارسين علم التوراة.
وروي عن أنس بن مالك [وأبي الدرداء وأبي أمامة] : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل من
(٢) في معاني القرآن للنحاس أنّها قراءة ابن عباس (١/ ٣٥١).
(٣) كلمة غير مقروءة في المخطوط. [.....]
(٤) تفسير الطبري: ٣/ ٢٤٩.
(٥) تفسير القرطبي: ٤/ ١٩ وفيه: الصدر، بدل القلب.
وقال وهيب: سمعت مالك بن أنس يسأل عن تفسير قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من هم؟ قال: العالم العامل بما علم تبع له.
وقال نافع بن يزيد: كما أن يقال الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المؤمنون بالله، المتذللون في طلب مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا [يحقّرون] من دونهم «٢».
وقال بعضهم: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: من وجد في عمله أربعة أشياء:
التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه «٣».
وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم: (آمَنَّا بِهِ) سمّاهم الله تعالى: الراسخين في العلم فرسوخهم في العلم قولهم: آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، ما علمناه وما لم نعلمه.
قال المبرد: زعم بعض الناس أن (عِنْدِ) هاهنا صلة ومعناه كل من ربّنا. وَما يَذَّكَّرُ:
يتعظ بما في القرآن.
إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: ذووا العقول ولبّ كل شيء خالصه [فلذلك قيل للعقل لب].
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨ الى ١٤]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا: أي ويقول الراسخون كقوله في آخر السورة: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٥٦.
(٣) فغني المحتاج: ٣/ ٦٠.
يقال: زاغ- يزيغ- ازاغة إذا مال.
وزاغ- تزيغ- زيغا- وزيوغا- وزيغانا إذا حال.
بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا: وفقنا لدينك، والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك.
وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً: وآتنا من لدنك رحمة وتوفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الهدى والإيمان.
وقال الضحاك: تجاوزا ومغفرة الصّدق [.....] «٢» على شرط السنة.
إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: تعطي. وفي الآية ردّ على القدرية.
وروي عن أسماء بنت يزيد: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر في دعائه: «اللهم [يا] مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» [٨] «٣».
قالت: فقلت: يا رسول الله وإنّ القلوب لتقلب؟. قال: نعم ما خلق الله من بني آدم من بشر إلّا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه، وإن شاء أقامه على الحق، فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنّه هو الوهاب «٤».
قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟
قال: بلى قولي: «اللهم ربّ محمّد النبي، اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلّات الفتن ما أحييتني» [٩] «٥».
وعن أبي موسى الأشعري قال: وإنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض «٦».
خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات «٧».
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) مسند أحمد: ٦/ ٣٠٢.
(٤) إلى هنا الحديث في تفسير ابن كثير: ١/ ٣٥٦.
(٥) مسند أحمد: ٦/ ٣٠٢.
(٦) الدرّ المنثور: ٢/ ٨.
(٧) المصدر السابق.
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شك فيه وهو يوم القيامة [... ] «٢» عند ما قرأ الآية [... ] «٣» ولذلك انصرف عن الخطر الى الخبر.
إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وهو مفعال من الوعد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ قرأ السلمي (يغني) بالياء المتقدمة من الفعل ودخول [الحائل] بين الاسم والفعل.
وقرأ الحسن (لن يغني) بالياء وسكون الياء الأخيرة «٤» كقول الشاعر:
كفى باليأس من أسماء كافي | وليس لسقمها إذا طال شافي |
كأن أيديهنّ بالقاع القرق | أيدي جوار يعاطين الورق |
ومعنى قوله (لن يغني) : أي لن ينفع، ولن يدفع وإنما سمى المال غنى لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب.
عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
قال الكسائي وقال أبو عبيدة: معناه عند الله شيئا، من بمعنى الحال.
أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ نظم الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ: عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون، وكفّار الأمم الخالية عاقبناهم ف لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ.
وأما معنى كَدَأْبِ: فقال [ابن عباس] وعكرمة ومجاهد والضّحاك وأبو روق والسدّي وابن زيد: كمثل آل فرعون [مع موسى] يقول كعب اليهود: لكفر آل فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
ربيع والكسائي وأبو عبيدة: كسنّة آل فرعون. الأخفش: كأمر آل فرعون.
قال امرؤ القيس:
(٢) كلمتان غير مقروءتان. [.....]
(٣) كلمتان غير مقروءتان.
(٤) فتح القدير: ١/ ٣٢٠، وتفسير القرطبي: ٤/ ٢١.
(٥) عن تفسير القرطبي: ٤/ ٢٢.
كدأبك من أم الحويرث قبلها | وجارتها أم الرباب بمأسل «١» |
وأدأب السير أدآبا، فإنّما يرجع معناه الى النّساب والحاك والعادة.
قال الشاعر «٢» :
لأرتحلن بالفجر ثمّ لادئبنّ
قال سيبويه: موضع الكاف رفع لأن الكاف للتشبيه تقوم مقام الاسم، وتقديره: دأبهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كدأب الأمم الماضية كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ:
فعاقبهم.
بِذُنُوبِهِمْ: نظيره قوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «٣».
وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ: قرأ إسحاق وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلق بالياء فيهما، الباقون بالتاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الأخبار عنهم أنّهم يحشرون ويقلبون، ومن قرأهما بالتاء فعلى الخطاب أي قلّ لهم إنكم ستغلبون وتحشرون وكلا الوجهين [صحيح] لأنه لم يوح إليهم، وإذا كان المخاطب بالشيء غير حاضر وكانت مخاطبته [في] الكلام بالتاء على الخطاب، وبالياء على الأخبار والأعلام كما تقول: (قل لغير الله ليضربن ولتضربن).
واختلف المفسرون في المعنى لهذه الآية من هم؟ فقال مقاتل: هم مشركو مكّة، ومعنى الآية قيل لكفّار مكّة: سَتُغْلَبُونَ يوم بدر وَتُحْشَرُونَ في الهجرة،
فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للكافرين يوم بدر: «إنّ الله غالبكم وحاشركم الى جهنّم» [١٠].
دليل التأويل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «٤».
وقال بعضهم: المراد بهذه الآية اليهود.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ يهود أهل المدينة قالوا لمّا هزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمّي الذي بشّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته
(٢) وهو زهير راجع تفسير مجمع البيان: ٢/ ٢٤٤ والمعنى: إلّا أن يمنعني ولادة طفل.
(٣) سورة العنكبوت: ٤٠.
(٤) سورة القمر: ٤٥. ٤٦.
وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا الى أهل مكّة، أبي سفيان وأصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتكون كلمتنا واحدة، ثم رجعوا الى المدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمّا أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا ببدر، وقدم الى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» [١١] «١».
فقالوا: يا محمّد لا يغرنّك أن لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة، لك والله لو قاتلناك لعرف منا البأس، فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا «٢» : يعني اليهود سَتُغْلَبُونَ وتهزمون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ في الآخرة، وهذه رواية عكرمة، وسعيد بن جبير عن أبن عباس.
قال: أهل اللغة اشتقاق جهنّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.
وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني النار قَدْ كانَ ولم يقل كانت لأنّ (آيَةٌ) تأنيثها غير حقيقي، وقيل: ردّها الى البيان أي: قد كان لكم بيان فذهب الى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس:
برهرهة رأدة رخصة... كخرعوبة البانة المنقطر «٣»
ولم يقل المنفطرة لأنّه ذهب الى القضيب، وقال الفراء: ذكّره لأنّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكّر الفعل وأنّثه:
إنّ امرؤا غرّه منكره واحدة بعدي... وبعدك في الدنيا لمغرور
وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو، فهذا وجهه، فمعنى الآية قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم سَتُغْلَبُونَ.
(٢) سورة آل عمران: ١٢.
(٣) الصحاح: ١/ ١١٩.
الْتَقَتا يوم بدر.
فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: طاعة لله وهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه،
وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، على عدّة أصحاب طالوت الّذين جازوا معه النهر وما جاز معه إلّا مؤمن، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار.
وكان صاحب راية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمبارزين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكانت الإبل في جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعين بعيرا والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمر الكندي، وفرس لمرثد بن أبي فهد العنزي «١»، وكان معهم من السلاح: ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلا من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وَأُخْرى وفرقة أخرى كافِرَةٌ: وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا مقاتلا وكانت خيلهم مائة فرس، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سبب ذلك أعين بن سفين، واختلف القرّاء في هذه الآية، قرأها منهم فِئَةٌ بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة.
وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين.
وقرأ ابن السميقع: فما!، على المدح.
وقرأ مجاهد: يقاتل بالياء ردّه الى القوم وجهان على لفظه، وقرأ الباقون بالتاء.
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن، وأبو جعفر، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء واختاره أبو حاتم، الباقون بالياء، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترون يا معشر اليهود والكفار أهل مكّة مثلي المسلمين.
ومن قرأ بالياء فاختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين، ثم له تأويلان أحده:
ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم، فالجواب أن يقول: هذا مثل وعندك عبد محتاج إليه وإلى مثله، احتاج إلى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة، ويقول: معي ألف وأحتاج الى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة آلاف، فإذا نويت أن يكون الألف داخلا في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة.
قال ابن مسعود: في هذه الآية نظرنا الى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحدا، ثم قللهم الله في أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل عددا من أنفسهم.
وقال ابن مسعود أيضا: لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل الى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا، وقال بعضهم:
الروية راجحة الى المشركين يعني: يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلّلهم الله في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤوا عليهم ولا ينصرفوا، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا «١» الآية.
محمّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ قال:
كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟ قالوا: ثلاثمائة وبضعة عشرة، قالوا: ما كنّا نراكم إلّا تضاعفون علينا، قال: وذلك ممّا نصر به المسلمون.
وقرأ السلمي يُرَوْنَهُمْ بضم الياء على ما لم يسمي فاعله وإن شئت على معنى الظن.
رَأْيَ الْعَيْنِ أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين، أي: في نظر العين يقال: رأيت الشيء رأيا ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلّا أنّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر.
وقال الأعشى:
فلما رأى لا قوم من ساعة | من الرأي ما أبصروه وما أكتمن |
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ: جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه، وإنّما حرّكت الهاء في الجمع ليكون فرقا بين جمع الاسم وبين جمع النعت لأنّ النعت لا تحرك نحو: ضخمة،
بيضة وبيضات، جوزة وجوزات.
وعن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشهوات» [١٢] «١».
مِنَ النِّساءِ: بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب الى الافتان.
وَالْبَنِينَ:
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لئن قلت ذلك إنّهم لثمرة القلوب وقرّة الأعين وإنّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة «٢».
وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ: المال الكثير بعضه على بعض.
ابن كيسان: المال العظيم، أبو عبيدة: تقول العرب هو أن لا يحدّ.
وقال الباقون: فلا محدود، ثم اختلفوا فيه،
فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القنطار: إثنا عشر ألف أوقية» [١٣] «٣».
وعن يزيد الرقاشي قال: دخلت أنا وثابت وناس معنا الى أنس بن مالك فقلنا له: يا أبا حمزة ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قيام الليل؟ قال أنس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدّى حقّه، ومن قرأ خمسمائة آية الى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدّق بقنطار قبل أن يصبح، قيل: وما القنطار؟ قال: ألف دينار.
سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال: القنطار ألف ومائتا أوقيّة، وهو قول ابن عمر ومثله
روي زر بن حبيش عن أبي بن كعب: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» [١٤] «٤».
وروى عطية عن ابن عباس وعبد الله بن عمر عن الحكم عن الضحاك: «إنّ القنطار ألف ومائتا مثقال».
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٣٠. [.....]
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٣٦٣.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٣٠.
روي حمزة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القنطار ألف دينار» [١٥] «١».
سعيد بن جبير عن عكرمة: هو مائة ألف ومائة من، ومائة [رطل] ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء [وبمكة] «٢» مائة رجل.
[وعن سفيان عن] إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال: القنطار: مائة رطل «٣».
فقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
أبو نظرة: مسك ثور ذهبا أو فضّة.
سعيد بن المسيّب وقتادة: ثمانون ألفا.
ليث عن مجاهد القنطار: سبعون ألفا.
شريك: أربعون ألف مثقال.
الحسن: القنطار دية أحدكم.
ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحّاك قال: إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة.
وروى الثمالي عن السدي قال: أربعة آلاف مثقال.
قال الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير [مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه] وأصلها من الإحكام يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سمّيت القنطرة المقنطرة «٤».
قال الضحاك: الْمُقَنْطَرَةِ: المحصّنة المحكمة.
قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال: قنطر إذا كثر.
السدي: المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
قال الفراء: المضعّفة كأن القنطار ثلاثة والْمُقَنْطَرَةِ تسعة.
(٢) كذا في المخطوط ولعلّه: والقناطر.
(٣) تفسير الطبري: ٣/ ٢٧٣.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٣٠، ونسبه للزجاج.
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: قيل سمّي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضّة لأنّه تنفض أي تفرق.
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ: الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه. واحده «فرس» كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها. واختلف العلماء في معنى «الْمُسَوَّمَةِ» فقال مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع: هي الراعية.
ومثله روى عطيّة عن ابن عباس والحسن: هي المرعيّة يقال: سامت الخيل يسوم سوما، فهي سائمة، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة، وسوّمتها تسويما فهي مسوّمة. قال الله:
فِيهِ تُسِيمُونَ «١».
وفيه قول الأخطل:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله | أولى لك ابن مسيمة الآجال «٢» |
حبيب بن أبي ثابت، وابن أبي نجيع عن مجاهد: المطهّمة الحسان ليث عنها المصوّرة، وعن عكرمة: تسويمها حسنها «٣».
السدّي: هي الرايعة، وكلها بمعنى واحد.
أبو عبيدة، والحسن، والأخفش، والقتيبيّ: المعلّمة. ومثله روى الوالبي عن ابن عباس.
قتادة: شيباتها وألوانها، المؤرّج المكويّة، المبرد: المعرفة في البلدان.
ابن كيسان: اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة، والمسيما وهي العلامة. يقال:
سومت الخيل تسويما إذا علمتها. قال الله تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «٤».
قال النابغة في صفة الخيل:
بسمر كالقداح مسوّمات | عليها معشر اشبها جنّ «٥» |
وفرسان الحفاظ بكل ثغر | يقودون المسوّمة العرابا |
(٢) الأغاني: ٨/ ٣١٩، (دار الكتب المصرية) وفيه: كابن البزيعة.
(٣) فتح القدير: ١/ ٣٢٤.
(٤) سورة آل عمران: ١٢٥.
(٥) جامع البيان للطبري: ٣/ ٢٧٧.
قال لبيد:
ولعمري لقد بلي كليب | كلّ قرن مسوّم القتال |
فصل في الخيل
«صفة خلقها»
روى الحسن بن علي عن أبيه علي (عليه السّلام) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب: إنّي خالق منك خلقا. فأجعله عزّا لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالا لأهل طاعتي، فقال الريح: أخلق. فقبض منها قبضة فخلق فيها فرسا.
فقال له: خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، عطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا جناح، وأنت للطلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحوني ويحمدونني، ويهلّلوني ويكبّروني، تسبّحين إذا سبّحوا، وتهلّلين إذا هلّلوا، وتكبّرين إذا كبّروا».
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من تسبيحة، وتحميدة وتمجيدة، وتكبيرة يكبّرها صاحبها وتسعه إلّا وتجيبه بمثلها» [١٦] «١».
ثم قال: «لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت: ربّ نحن ملائكتك نسبّحك، ونحمدك فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقاء أعناقها كأعناق البخت، قال: فلما أرسل الفرس الى الأرض فاستوت قدماه على الأرض صهل، فقيل: بوركت من دابّة أذلّ بصهيله المشركين، أذل به أعناقهم، أملأ منه آذانهم، وأرعب به قلوبهم.
فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال: أختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس. فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا. [يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين] بركتي عليك وعليه ما خلقت خلقا أحبّ الي منك ومنه» [١٧] «٢».
فضلها:
روى أبو صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة» [١٨] «٣».
(٢) كنز العمّال: ٤/ ٤٦٥، ح ١١٣٨٢، والدرّ المنثور: ٣/ ١٩٥، و: ٤/ ١١١.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٤٩. [.....]
وعن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليس من فرس عربي إلّا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم خولتني من خولتني من بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحبّ ماله وأهله إليه، أو من أحب ماله وأهله إليه» [١٩] «١».
شأنها:
عن أبي وهب الحسيني، وكانت له صحبة قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلّم «وارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها وأكفالها، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار، وعليكم بكل كميت أغرّ «٢» محجّل أو أشقر محجل، أو أدهم أغرّ محجّل» [٢٠] «٣».
وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي يكره الشكال «٤» من الخيل
، قال أبو عبد الرحمن: الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة، ورجل محجلة، وليس تكون الشكال إلا في الرجل «٥».
وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار» [٢١] «٦».
وجوهها:
زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخيل لثلاثة:
لرجل أجر، ولرجل ستر. ولرجل وزر، فأما الذي هو له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرّفن كانت أن آثارها وأرواثها حسنات له. ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها منه كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تقنّنا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر» [٢٢] «٧».
(٢) الأغر: هو ما له غرّة في جبهته بيضاء فوق الدرهم.
(٣) سنن النسائي: ٦/ ٢١٨.
(٤) الشكال: بياض في اليدين أو فقط في اليمنى والرجل اليمنى، وقيل: عكسه في اليسرى.
(٥) نيل الأوطار للشوكاني: ٨/ ٢٥٤.
(٦) مسند أحمد: ٢/ ١٣٦.
(٧) السنن الكبرى: ١٠/ ١٥.
وَالْأَنْعامِ: جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، جمع لا واحد له من لفظه.
وَالْحَرْثِ: يعني الزرع.
ذلِكَ: الذي ذكرت.
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا: لا عتاد المعاد والعقبى.
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: أي المرجع مفعل من أب، يؤوب أوبا مثل المتاب.
زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عبد الله بن الأرقم وهو يقول لعمر (رضي الله عنه) : يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها. فقال عمر: إذا رأيتني فارغا فائتني، فقال: يا أمير المؤمنين إنّك اليوم فارغ. قال: فما نطلق معه، فجيء بالمال. فقال: أبسطه قطعا، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبّ عليه ثم قال: «اللهم إنّك ذكرت هذه المال فقلت: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «٢» ثم قلت لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «٣» اللهم إنا لا نستطيع أن لا نفرح بما آتينا، اللهم أنفقه في حق، وأعوذ بك منه، قال: فأتى بابن له يحمله، يقال له عبد الرحمن، فقال: يا أبه هب لي خاتما.
قال: اذهب الى أمك تسقيك سويقا، فلم يعطه شيئا.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥ الى ٢٢]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
(٢) سورة آل عمران: ١٤.
(٣) سورة الحديد: ٢٣.
بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ: الذي ذكرت تم الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ: تقع خبر حرف الصلة.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ: قرأ العامة بكسر الراء. وروى أبو بكر عن عاصم: بضم الراء من الرضوان في جميع القرآن وهو لغة قيس وغيلان، وهما لغتان كالعدوان والعدوان والطغيان والطغيان.
زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله عزّ وجل لأهل الجنة: «يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول:
هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك».
فيقول: «ألا أعطكم أفضل من ذلك» فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» [٢٤] «١».
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن شئت جعلته محل (الَّذِينَ) على الجر ردا على قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا «٢». وإن شئت رفعته على الابتداء كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «٣». ثم قال في صفتهم مبتدئا: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ.
رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا صدّقنا.
فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا: أسترها علينا وتجاوزها عنا.
وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ: في أداء الأمر، وعن ارتكاب الزنى وعلى الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. وان شئت نصبتها وأخواتها على المدح، وإن شئت خفضتها على النعت.
وَالصَّادِقِينَ: في إيمانهم، قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية وَالْقانِتِينَ: المطيعين المصلين.
(٢) سورة آل عمران: ١٥.
(٣) سورة التوبة: ١١١.
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله ملكا ينادي: اللهم اعط منفقا خلفا، واعط ممسكا تلفا» [٢٥] «١».
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ: قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والكلبي والواقدي: يعني المصلين بالأسحار. نظير قوله وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «٢» أي يصلّون.
وقال يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي الزهري قال: قلت لزيد بن اسلم: من الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح «٣».
وكذلك قال ابن كيسان: يعني صلاة الصّبح في المسجد.
وقال الحسن: صلّوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا.
قال نافع: كان ابن عمي يحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، وإذا قلت: نعم، فيستغفر الله ويدعوا حتى الصبح «٤».
وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر يتهجّد في المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود (رضي الله عنه).
وروى صالح وحماد بن سلمة عن ثابت وأبان وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عزّ وجل يقول: «إني لأهمّ بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت الى عمّار بيوتي والى المتهجدين والى المتحابين فيّ، والى الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ صرفت عنهم» [٢٦] «٥».
محمد بن زاذان عن أم سعد قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ ثلاثة أصوات يحبهم الله عزّ وجلّ صوت الديك، وصوت الذي يقرأ القرآن، وصوت الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» [٢٧] «٦».
حمّاد بن سلمة عن سعيد الجريري قال: بلغنا أنّ داود نبي الله سأل جبرائيل (عليه السلام) : أي الليل أفضل؟ فقال: ما أدري إلا أنّ العرش يهتز من السحر «٧».
(٢) سورة الذاريات: ١٨.
(٣) تفسير الطبري: ٣/ ٢٨٤، وفيه: يرويه يعقوب عن زيد مباشرة.
(٤) مجمع الزوائد: ٩/ ٣٤٧.
(٥) كنز العمّال: ٧/ ٥٧٩، ح ٢٠٣٤٣.
(٦) كنز العمّال: ١٢/ ٣٣٥، ح ٣٥٢٨٥.
(٧) المصنّف لابن أبي شيبة: ٨/ ١١٥، وتاريخ بغداد: ٤/ ٥٤.
قال سفيان انّه إذا كان من أوّل الليل، نادى مناد: ألا ليقم العابدون، فيقومون فيصلّون ما شاء الله، ثم ينادي منادي في شطر الليل: ليقم القانتون، فيقومون كذلك يصلّون الى السحر.
فإذا كان نادى مناد: ألا ليقم المستغفرون، فيقومون فيستغفرون، ويقوم آخرون يصلّون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: اللهم ليقم الغافلون فيقومون، من فراشهم كأنهم نشروا من قبورهم.
وقال لقمان لابنه: «يا بني لا يكون الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم.
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت اختلف إليه. فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر الى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية. ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قالها مرارا. قلت: لقد سمع. فما شيئا فصلّيت معه وودعته، ثم قلت: آية سمّعتك نردّدها فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدث بها الى سنة. فلبثت على بابه ذلك اليوم، وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد مضت السنة، فقال: حدثنا أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي الجنة» [٢٨] «١».
خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية.. عند منامه خلق الله عزّ وجلّ له سبعين ألف ملك يستغفرون له الى يوم القيامة» [٢٩] «٢».
وعن الزبير بن العوام قال: قلت: لأدنونّ هذه [العشية] من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول، فحبست ناقتي من ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناقة رجل كان الى جنبه.
فسمعته يقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية. فما زال يردّدها حتى دفع.
يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما. فلما نزلت شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية، خرّوا سجّدا.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٤٢.
أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية.. فأسلم الرجلان.
واختلف القرّاء في هذه الآية. فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء: شَهِدَ اللَّهُ بالرفع والمدّ على معنى: هم شهداء يعني: الذين مرّ ذكرهم.
وروى المهلّب عن محارب بن دثار: شَهِدَ اللَّهَ منصوبة على الحال والمدح.
وقرأ الآخرون: شَهِدَ اللَّهُ على الفعل أي بيّن لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد: حكم الله، الفرّاء وأبو عبيدة: قضى الله، المفضّل: لعلم الله.
ابن كيسان: شَهِدَ اللَّهُ بتدبيره العجيب، وصنعه المتقن، وأموره المحكمة من خلقه أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وهذا كقول القائل:
ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد... وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد «١»
وقيل لبعض الأعراب: ما الدليل على أنّ للعالم صانعا؟
فقال: إنّ البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، وهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلّان على الصانع الخبير.
قال ابن عباس: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، وشهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» [٣٠].
وقرأ ابن مسعود: (أنّ لا آله إلا هو... )
وقرأ ابن عباس: شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: بكسر الألف جعله خبرا مستأنفا معترضا في الكلام على توهم الفاء، كأنه قال: فإنّه لا إله إلّا هو، قاله أبو عبيدة والمفضّل، وقال بعضهم: كسره لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسورا على الحكاية فتقديره قال الله:
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وَالْمَلائِكَةُ: قال المفضّل: معنى شهادة الله للإخبار والإعلام، ومعنى شهادة ملائكة
«١» أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة، وَأُولُوا الْعِلْمِ على شهادة الله تعالى.
والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظا كقوله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ «٢» والصلاة من الله «الرحمة» ومن الملائكة «الاستغفار والدعاء»، وَأُولُوا الْعِلْمِ: يعني الأنبياء (عليهم السلام).
وقال ابن كيسان: يعني المهاجرين والأنصار.
مقاتل: مؤمني أهل الكتاب، عبد الله بن سلام: وأصحابه: نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «٣»، وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «٤».
وقال السدي والكلبي: يعني علماء المؤمنين كلهم. فقرّب الله تعالى شهادة العلماء بشهادته لأن العلم صفة الله العليا ونعته العظمى. والعلماء أعلام الإسلام والسابقون الى دار السلام وسرج الأمكنة وحجج الأزمنة.
وروى صفوان عن سليم عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ساعة من عالم متّكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما» [٣١] «٥».
المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه لله حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وتذكره لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة والنار، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة، والميراث في الخلوة، والدليل على السرّاء والضرّاء، والسلاح على الأعداء، والقرب عند الغرباء، يرفع الله به أقواما ويجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم، ويبيّن آثارهم، ويرموا أعمالهم، وينهى الى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتهم تستغفر لهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأحرار، ومجالس الملوك، والفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، به يعرف الحلال والحرام، وبه توصّل الأرحام، إمام العمل والعقل تابعه، يلهم السعد أو يحرم إذا شقي» [٣٢] «٦».
(٢) سورة الأحزاب: ٥٦.
(٣) سورة الإسراء: ١٠٧.
(٤) سورة الرعد: ٤٣.
(٥) الجامع الصغير: ٢/ ٣٩، ح ٤٦٢٢. [.....]
(٦) تفسير الثعالبي: ٢/ ١٢.
وقال الفرّاء: هو نصب على القطع كأن أصله القائم، وكذلك هو في (عبد الله) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «١».
وقال أهل المعاني في قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ: أي مدبّر، رازق، مجازي بالأعمال كما يقال: فلان قائم بأمري: أي مدبّر له متعهد لأسبابه، وقائم بحق فلان: أي بحاله.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: كرّر لأنّ الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم.
وقال جعفر الصّادق: الأولى [وصف وتوحيد] والثانية رسم وتعليم يعني قولوا: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «٢».
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ: يعني [بالدين الطاعة والملّة] لقوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «٣».
وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف (إنّ) ردا على (أنّ) الأولى في قوله:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ يعني: شهد الله أنّه، وشهد أن الدين عند الله الإسلام، وكسر الباقون على الابتداء. والإسلام [من السلم: الإيمان و] الطاعة يقال: أسلم أي: دخل في السلم. وذلك كقولهم: أستى وأربع وأمحط واخبت: أي دخل فيها.
سفيان: قال قتادة: في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال: [شهادة] أن لا إله إلا الله. والإقرار بأنّها من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله ودلّ عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا جزى إلّا به.
وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، قال الربيع: إنّ موسى (عليه السلام) لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل، واستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليها، واستخلف يوشع بن نون.
فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء، ووقع الشر والإختلاف وذلك مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني: بيان ما في التوراة بَغْياً بَيْنَهُمْ: أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة فسلط الله عليهم الجبابرة.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٤٣.
(٣) سورة المائدة: ٣.
وقال محمد بن جعفر عن الزبير: نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هو الإنجيل في أمر عيسى (عليه السلام)، وفرّقوا القول فيه إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، بأن الله واحد، وأنّ عيسى عبده ورسوله بَغْياً بَيْنَهُمْ: أي للمعاداة والمخالفة.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: لا يحتاج الى عقد وقبض يد.
وقال الكلبي: نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمّوا باليهودية والنصرانية، قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ قال: دين الله هو الإسلام بغيا منهم فلمّا وجدا نظيره قوله: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «١» فقالت اليهود والنصارى: لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك، والدين هو الإسلام ونحن عليه.
فَإِنْ حَاجُّوكَ: خاصموك يا محمد في الدين، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ: أي انقدت [لأمر الله] لِلَّهِ: وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، إنّما خص الوجه لأنّه أكرم جوارح الإنسان، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه.
وقال الفرّاء: معناه أخلصت عملي لله.
يقال: أسلمت الشيء لفلان وسلمته له، أي دفعته إليه [......] «٢» ومن هذا يقال:
أسلمت الغلام إلى [....] «٣» وفي صناعة كذا. أي أخلصت لها.
والوجه: العمل كقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ: أي قصده وعمله. وقوله: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «٤».
وَمَنِ اتَّبَعَنِ: «من» في محل الرفع عطفا على التاء في قوله: أَسْلَمْتُ أي: ومن اتبعني أسلم كما أسلمت.
وأثبت بعضهم «٥» ياء قوله: اتبعني على الأصل، وحذفه الآخرون على لفظ ينافي المصحف [إذا وقعت فيه بغير ياء]. وأنشد:
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) كلمة غير مقروءة.
(٤) سورة الليل: ٢٠.
(٥) وهم نافع وأبو عمرو ويعقوب راجع تفسير القرطبي: ٤/ ٤٥.
كفاك كفّ ما تليق درهما | جودا وأخرى تعط بالسيف دما «١» |
ليس تخفى يسارتي قدر يوم | ولقد يخف شيمتي إعساري «٢» |
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: أي نهوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا:
فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسلمنا. فقال للنصارى: أتشهدون أنّ عيسى كلمة من الله وعبده ورسوله، فقالوا: معاذ الله.
وقال لليهود: إنّ عزير هو عبد الله ورسوله، قالوا: معاذ الله فذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ. بتبليغ الرسالة، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ: عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله وبأهل الثواب وبأهل العقاب.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ: يجحدون، بِآياتِ اللَّهِ: بحجّة وأعلامه، وقيل: هي القرآن، وقيل: هم اليهود والنصارى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ قرأ الحسن ويُقَتِّلُونَ بالتشديد فهما على تكثر.
وقرأ حمزة: (وتقاتلون الّذين يأمرون) اعتبارا بقراءة مسعود (وقاتلوا الذين يأمرون به)، ووجه هذه القراءة يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقد «قاتلوا الذين يأمرون» لأنه غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف. أي: ويقتلون النبيين بغير حق والذين يأمرون بالقسط، قال مقاتل: أراد به ملوك بني إسرائيل.
وقال معقل بن أبي سكين، وابن جريح: كان الوحي يأتي الى أنبياء بني إسرائيل، ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون. فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذّكرون قومهم فيقتلون أيضا. فهم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ.
وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبيا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف»، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ إلى قوله: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار ساعة واحدة، فقام مائة وإثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر
(٢) جامع البيان للطبري: ٣٠/ ٢١٧.
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس القوم قوم يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وبئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان» [٣٤] «١».
فَبَشِّرْهُمْ.. أخبرهم بعذاب أليم، وإنما أدخل الفاء [في خبرها] «٢» لأنه قوله: (الَّذِينَ) موضع الجزاء [ «وإنّ» لا تبطل معنى الجزاء لأنّها بمزلة الابتداء عكس: ليت] «٣».
وقيل: أدخل الفاء على الغاء أن وتقديره: «الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح.
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ: ذهبت وبطلت.
وقرأ أبو واقد والجرّاح: «حَبَطَتْ» بفتح التاء مستقبلة «تحبط» بكسر الباء وأصله من «الحبط» وهو أن ترعى الماشية [بلا دليل ورديع] «٤» فتنتفخ من ذلك بطونها، وربّما ماتت منه، ثم جعل كل شيء يهلك حبطا.
ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا إذ يلم» [٣٥] «٥».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٣٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ: أي نصيبا وحظا من الكتاب. يعني: اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ.
واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر الله تعالى إنّهم يدعون إليه فيعرضون عنه. فقال قوم:
هو القرآن.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: إنّ الله عزّ وجلّ جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه.
وقال قتادة: هم أعداء الله اليهود. دعوا الى حكم القرآن واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم فأعرضوا، وهم يجدونه مكتوبا في كتبهم.
(٢) زيادة منّا للإيضاح.
(٣) زيادة منّا للإيضاح، والمخطوط لا يقرأ. [.....]
(٤) هكذا الظاهر، وفي تفسير القرطبي (٣/ ٤٦) الحبط: هو فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها الكلأ فتنتفخ أجوافها وربّما تموت من ذلك.
(٥) صحيح ابن حبّان: ٨/ ٢٣، كنز العمّال: ٣/ ٢٠٤.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الآخرون: هي التوراة.
روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المقدس على جماعة من اليهود، فدعاهم الى الله عزّ وجلّ.
فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملّة إبراهيم. قالا: إنّ إبراهيم كان يهوديا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا، وكانا في شرف منهم، وكان في كتابهم الرجم. فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول الله رحمة في أمرهما، فرفعوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر: جرت علينا يا محمد. ليس عليهما الرجم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم. قالوا: قد أنصفتنا. قال فمن أعلمكم؟
فقالوا: رجل أعمى يسكن فدك، يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فقدم المدينة وكان جبرائيل (عليه السلام) قد وصفه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله: لأنت ابن صوريا؟ قال:
نعم. قال: أنت أعلم اليهود؟ قال كذلك يزعمون، قال: فدعا رسول الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب. فقال له: أقرأ. فلما أتى آية الرجم وضع كفه عليه وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول الله قد جاوزها ووضع كفه عليها، وقام ابن سلام الى ابن صوريا فرفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليهوديان المحصنان إذا زنيا، وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها» [٣٦] «١». فأمر رسول الله باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك غضبا شديدا، وانصرفوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ، فقد علمهم أنّها في التوراة.
وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ: أي فكيف يصنعون لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ: وهو يوم القيامة.
وَوُفِّيَتْ: ذكرت.
كُلُّ نَفْسٍ: برّ أو فاجر.
ما كَسَبَتْ: أي جزاء ما عملت من خير أو شر.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ: لا ينقصون من حسناتهم ولا يزداد على سيئاتهم.
روى الضحاك عن ابن عباس، قال: «أوّل راية ترفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود، فيقمعهم الله على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار».
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ،
قد روى الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما أراد الله أن ينزّل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وشَهِدَ اللَّهُ، وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ...
إلى بِغَيْرِ حِسابٍ تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطيور والعرش. فقال تعالى: وعزّتي وجلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه، وإلّا نظرت له بعيني في كل يوم سبعين مرة، وإلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلّا أعذته من كل عدو ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلّا الشرك».
قال قتادة: ذكر لنا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن عباس، وأنس بن مالك: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم. قالت: المنافقين واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس، هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق في عام الأحزاب. ثمّ قطع أربعين ذراعا بين كلّ عشرة، قال: فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منّا. وقال الأنصار:
سلمان منّا.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منّا أهل البيت» [٣٨].
قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقّت علينا. فقلنا يا سلمان: آت إلى رسول الله وأخبره خبر هذه الصخرة. فإمّا أن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمر، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة.
قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبّة تركية. فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها صلّى الله عليه وسلّم فكسرها،
الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصر بعد الحصر. [فطبقت الأحزاب فقال: المسلمون:
هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ «٣» الآية].
وقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تفتح لكم وأنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، قال: فأنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «٤» وأنزل الله في هذه القصة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «٥».
واختلف النحاة في وجه دخول الميم في هذا الاسم وأصله (الله) وفي نصبه.
وقال بعضهم: إنّما أدخل الميم في آخره بدلا من حرف النداء المحذوف من أوله لأنّ أصله (يا الله) فحذفت حرف النداء وأدخلت الميم خلفا منه.
كما قالوا: فم، ودم، وزرقم محذوف وستهم، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف «٦».
واحتجوا بأنّ نحوها من الأسماء والنعوت إذا حذف منها حرف أبدل مكانه ميم، ولمّا كان المحذوف من هذا الاسم حرفين كان البدل ميمين، فأدغمت إحداها في الأخرى فجاء التشديد
(٢) غير موجود في تفسير الطبري.
(٣) سورة الأحزاب: ٢٢.
(٤) سورة الأحزاب: ١٢.
(٥) تفسير الطبري: ٢١/ ١٦٣.
(٦) في المخطوط بياض صوّبناه من تفسير الطبري: ٣/ ٢٩٩.
وأنكر الآخرون هذه القول وقالوا: سمعنا العرب يدخل الميم فيه مع ياء النداء وأنشد الفرّاء:
وما عليك أن تقولي كلما | سبّحت أو هللت يا اللهمّ ما |
اردد علينا شيخنا مسلما | فإنّنا من خيره لن نعدما «١» |
يراد يا الله آتنا الخير أي: أقصدنا به ثمّ ضرب في الكلام حتى اختلطت به. فحذفت الهمزة استخفافا كقولهم: هلمّ إلينا كان أصله هل لم إلينا، أي أقصد أو أسرع. ثم كثرت هذه اللفظة حتى قالوا: لاهم بمعنى اللهم، وربما خفضوا ميمها أيضا، والله أعلم.
وقال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم في قوله: (اللهم) : تجمع سبعين اسما من أسمائه عزّ وجلّ مالك الملك. قال الله تعالى في بعض الكتب: أنا الله مالك الملوك ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإذا العباد أطاعوني جعلت عليهم رحمة، وإذا العباد عصوني جعلت عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم.
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني ملك النبوة، الكلبي: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: محمد وأصحابه، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: أبي جهل وصناديد قريش.
وقال معتصم: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: العرب. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: الروم والعجم وسائر الأمم.
السدّي: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آتى الله الأنبياء وأمر العباد بطاعتهم. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: نزع من الجبّارين وأمر العباد بخلافهم.
وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آدم وولده، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ إبليس وجنده.
وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: داود. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: جالوت.
وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: صخرا. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: سليمان (عليه السلام) كان يطعم الخبز الجواري ويأكل خبز الشعير، وكان يلبس المرقعة ولم ينظر أربعين سنة إلى السماء تخشّيا لله.
وكان يدخل المسجد فيرتاد فقيرا يقعد بجنبه، ويقول: مسكين جالس مسكينا وَتَنْزِعُ
وقال الشاعر:
ملكت نفسي فذاك ملك... ما مثله للأنام ملك
فصرت حرا بملك نفسي... فما لخلق عليّ ملك.
آخر:
من ملك النفس فحر [ضاهي] «٢»... والعبد من يملكه هواه
وقيل: هو ملك العافية. قال الله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «٣»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح منكم آمنا في سربه. معافى في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» [٣٩] «٤».
وقيل: هو القناعة.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ملوك أمتي القانع يوما بيوم، فمن أوتي ذلك فلم يقبله بقبوله ولم يصبر عليه شاكرا قصر عمله، وقل عقله» [٤٠].
وعن ابن المبارك قال: دخلت على سفيان الثوري بمكة، فوجدته مريضا شارب دواء، وبه غم شديد فسلمت عليه، وقلت: ما لك يا عبد الله؟ فقال: أنا مريض شارب دواء وبي غم شديد، فقلت: أعندك بصلة؟ قال: نعم، فقلت: آتيني بها فأتاني بها، فكسرتها ثم قلت: شمّها فشمّها فعطس عند ذلك فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فسكن ما به، فقال لي: يا بن المبارك أنت فقيه وطبيب. أو قال: عالم وطبيب، فقلت له: مجرّب يا أبا عبد الله. قال: فلمّا رأيته سكن ما به وطابت نفسه. قلت: إني أريد أن أسألك حديثا. فقال: سل ما شئت.
فقلت: أخبرني ما الناس؟ قال: الفقهاء. قلت: فما الملوك؟ قال: الزّهاد. قلت: فما الأشراف؟ قال: الأتقياء. قلت: فما الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الأحاديث ليستأكلوا به أموال الناس. قلت له: أخبرني رحمك الله: ما السفلة؟ قال: الظلمة. ثم ودّعته وخرجت من عنده.
قال: يا ابن المبارك عليك بهذا الخبر فإنه موجود رخيص قبل أن يغلوا فلا يوجد بالثمن.
وقال عبد العزيز بن يحيى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني الملك على المهين وقهر الشيطان. كما
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم» [٤١] «٥».
(٢) كذا في المخطوط.
(٣) سورة المائدة: ٢٠. [.....]
(٤) سنن الترمذي: ٤/ ٥.
(٥) مسند أحمد: ٣/ ١٥٦.
الحسين بن الفضل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني ملك الجنة كما آتى المؤمنين قال الله تعالى: وَمُلْكاً كَبِيراً «١»، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: كما نزع من الكفار وأهل النّار.
أبو عثمان: أراد (بالملك) : توفيق للإيمان والطاعة.
وحكى الأستاذ أبو سعيد الواعظ: إنّه سمع بعض زهّاد اليمن يقول: هو قيام الليل.
الشبلي: الاستغناء بالمكون عن الكونين.
الواسطي: افتخر الملوك بالملك. فأخبرهم الله تعالى أنّ الملك [زائل] «٢» عندهم لقوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ.
قالت الحكماء في هذه الآية: هذا إخبار عن كمال القدرة. وأنّ القادر على الكمال هو القادر على الشيء وضده، فأخبر أنّه قادر على أن يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: قال عطا: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: المهاجرين والأنصار، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: فارس والروم.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: محمدا وأصحابه حين دخلوا مكة وعشرة آلاف ظاهرين عليها، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: أبا جهل وأصحابه حين حزّوا رؤوسهم وألقوا في القليب.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالإيمان والمعرفة. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالخذلان والحرمان.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالتمليك والتسليط. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بسلب الملك وتسليط عدوه عليه.
الورّاق: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بقهر النفس ومخالفة الهوى. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: باتباع الهوى.
الكياني: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بقهره الشيطان. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بقهر الشيطان لنا.
وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالقناعة والرضا. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالخزي والطمع.
قال الثعلبي (رحمه الله) : وسمعت السلمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول: سمعت بنان الحمّال يقول: الحرّ عبد ما طمع. والعبد حر ما قنع.
(٢) كلمة غير مقروءة والظاهر ما أثبتناه.
وقال عيسى (عليه السلام) لأصحابه: لأنتم أغنى من الملوك.
قالوا: كيف يا روح الله ولسنا نملك شيئا؟ قال: أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها، وعندهم أشياء ولا تكفيهم.
وللشافعي (رضي الله عنه) :
ألّا يا نفس أن ترضي بقوت | فأنت عزيزة أبدا غنية |
دعي عنك المطامع والاماني | فكم أمنية جلبت منيّة «٢» |
أفادتني القناعة كل عز | وهل عزّ «٣» أعزّ من القناعة |
فصيّرها لنفسك رأس مال | وصيّرها مع التقوى بضاعة «٤» |
وقال الحسن بن الفضل: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالجنة والرؤيا. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالنار والحجاب.
بِيَدِكَ الْخَيْرُ: يعني الخير والشر، فأكتفي بذكر الخير فإنّه الأفضل والأغلب كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٥» : أي الحر والبرد إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ: [أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر] حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة [وهو أطول ما يكون]، والليل تسع ساعات، [وهو أقصر ما يكون] «٦».
وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ: حتى يكون الليل خمس [عشر] «٧» ساعة، والنهار تسع ساعات فما نقص عن هذا زيد في الآخر نظير قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «٨».
(٢) روضة الواعظين للفتال النيشابوري: ٤٥٧.
(٣) في المصدر: وأين غنى.
(٤) كشف الخفاء: ٢/ ١٠٢.
(٥) سورة النحل: ٨١.
(٦) ما بين معكوفين زيادة عن تفسير القرطبي: ٤/ ٥٦.
(٧) تفسير الطبري: ٣/ ٣٠٣
(٨) سورة الزمر: ٥.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال ابن مسعود وابن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك وإبراهيم والسدّي وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الرحمن بن زيد: يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان.
عكرمة والكلبي: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير.
أبو مالك: يخرج النخلة من النواة، ويخرج النواة من النخلة، ويخرج السنبلة من الحبة والحبّة من السنبلة.
الحسن: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد يدل عليه قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.. «١».
معمر عن الزهري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة، فقال:
من هذه؟ قالت: إحدى خالاتك، فقال: إن خالاتي بهذه البلاد [كثير] أي خالاتي هذه؟ قالت:
هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: «سبحان الله الذي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» [٤٢].
وكانت امرأة صالحة. وكان مات أبوها كافرا «٢».
الفرّاء: يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب.
وقال أهل الإشارة: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تستقر فيه، والسّقطة من لسان العارف.
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا «٣» بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر:
اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وقال المقاتلان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودّة لكفار مكة فنهاهم الله عزّ وجل عن ذلك.
(٢) مجمع الزوائد: ٩/ ٢٦٤، جامع البيان للطبري: ٣/ ٣٠٦. [.....]
(٣) في المصدر: كظنوا.
وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم، قال: لا يتخذوا المؤمنين بالرفع خبرا عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ «١».
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريا تقيا، وكان له حلفاء من اليهود، فلمّا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدوّ، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية «٢».
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عدّة المسلمين، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: وفيه اختصار، أي ليس من دين الله في شيء.
وقال الحسن والسدّي: ليس من الولاية في شيء، فقد بريء الله منه، ثم استثنى فقال:
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً: يعني: إلّا أن تخافوا منهم مخافة.
وقرأ أبو العالية عن الحسن، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد: تقية على وزن نقية، [وخالفهما] أبو حاتم قال: لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلّا بالألف.
قرأ حمزة والكسائي وخلف: «تقية» بالاحتجاج فكان الياء.
وقرأ الباقون «تُقاةً» بالتضميم. وأختاره أبو عبيدة.
وقرأ الأخفش: «تقاءة» مثل تكأة ويؤده ونحوها، وهي مصدر [أتقى] ومثال تقيه تقاة وتقية وتقي وتقوى «٣»، وإذا قلت: أتقنت كان مصدره الاتقاء، وإنّما قال: «تَتَّقُوا» من الأتقياء، ثم قال: «تُقاةً» «٤» ولم يقل اتّقاء لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحدا واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون: التقيت فلانا لقاء حسنا.
وقال القطامي في وصف غيث:
قد لجّ بجانب الجبلين... «٥»..... ركام يحفر الترب احتفارا
(٢) سورة المصدر السابق.
(٣) راجع مجمع البيان: ٢/ ٢٧٣.
(٤) أقول: وأصلها: وفاة فأبدلت الواو المضمومة تاء استثقالا لها.
(٥) كلمة غير مقروءة.
وأما معنى الآية فقال المفسرون: نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلّا أن يكون الكفّار ظاهرين غالبين، أو يكون المؤمن في قوم كفّار ليس فيهم غيره، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يسفك دما حراما، أو مالا حراما، أو يظهر الكافرين على عورة المؤمنين، فالمتّقي لا يكون إلّا مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر.
عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب، قال: ورد رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقال: ما أراني إلّا قد هلكت، قال: مالك؟ قال: قد عذّبني قريش. فقلت: ما قالوا؟ قال: كيف كان قلبك؟ قال: مطمئن، قال: فإن عادوا لك فعد لهم مثل ذلك، قالها ثلاث مرات.
المسيب بن عبيدة عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: خالطوا النّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا يكون به ريبة.
وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد «٣» : أنا كنت أحبّ إلى أبيك منك، وأنت أحبّ إليّ من أبي «٤» ولذا أوصيك بخصلتين: خالص المؤمن وخالق «٥» الكافر فإنّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن، ويحق عليك أن تخالص المؤمن «٦».
وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنّه قال: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منه لئلا يراني
. وقال: الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عبادة.
وأنكر قوم التقيّة اليوم:
فقال معاذ بن جبل عن مجاهد: كانت التقيّة في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأمّا اليوم فقد أعزّ الله عزّ وجل الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتّقوا من عدوهم.
(٢) سورة المزمّل: ٨.
(٣) في المصدر: لابن يزيد.
(٤) في تاريخ دمشق: ابني.
(٥) في تاريخ دمشق (٢٤/ ٩٨) خالف.
(٦) مسند ابن راهويه: ٣/ ١٠١٧.
التقيّة باللسان والقلب مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. قال سعيد: ليس في الإسلام تقيّة إنّما التقيّة في أهل الحرب.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ: أي يخوّفكم الله على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه.
قال المفسرون: من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه.
وقال أهل المعاني: معناه ويحذّركم الله إيّاه لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١» : أي ليقتل بعضكم بعضا.
وقال الأعشى:
يوما بأجود نائلا منه إذا | نفس البخيل تجهمت سؤالها «٢» |
وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ: قلوبكم من مودة الكفّار. أَوْ تُبْدُوهُ: من موالاتهم قولا وفعلا، يَعْلَمْهُ اللَّهُ: وقال الكلبي: أي ستروا ما في قلوبكم لرسول الله من التكذيب، ويظهرون بحربه. وقال: يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويحفظ عليكم حتى يحاربكم به ويعاقبكم عليه، ثم قال: وَيَعْلَمُ: رفع على الاستئناف كقولهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ «٣» بالرفع.
وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «٤»، ثم قال: وَيُحِقُّ الْحَقَّ: وكيف يخفى عليه موالاتكم الكافرين وميلكم إليهم، مودّة بالقلب: أي معونة بالقلب والفعل.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ: نصب يوما، نزع حرف الصفة أي في يوم. وقيل: نصب بإضمار فعل، أي: اذكروا واتقوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً: موفرا لم يبخس منه شيء. قراءة العامة بنصب الضاد على المفعول قد صدّهم قوله:
(٢) حقائق التأويل للشريف الرضي: ٧٩. [.....]
(٣) سورة التوبة: ١٤. ١٥.
(٤) سورة الشورى: ٢٤.
وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ: جعل بعضهم خبرا في موضع النصب، وأعمل فيها الوجود وجعل عملت صلة لها، أي: ويجد عملها، وجعله بعضه خبرا مستأنفا، وحينئذ يجوز في تَوَدُّ الرفع، والجزم، دليل هذا التأويل: قراءة عبد الله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ. لَوْ أَنَّ بَيْنَها:
بين النفس وَبَيْنَهُ: يعني بين السوء أَمَداً بَعِيداً: والأمد: الأجل والغاية الّتي ينتهي إليها.
قال الله: أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً «٢»، وقال: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ «٣».
قال النابغة:
ألا لمثلك أو من أنت سابقة | بسبق الجواد إذا ستويا على الأمد |
مقاتل: كما بين المشرق والمغرب.
قال الحسن: ليس أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا ولا يودّ لو أن يعلمه.
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: أي بالمؤمنين منهم.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الآية،
قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهم يحبّون الله، فقالوا: يا محمّد إنّا نحب ربّنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وجعل اتّباع نبيه علما لحبّه تعالى.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش: يا محمّد إنّا نعبدها حبّا لله، لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، فقال الله تعالى: قُلْ يا محمّد إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وأنا رسوله إليكم وحجّته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ اليهود لمّا قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، أنزل الله هذه الآية، فلمّا نزلت عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
(٢) سورة الجن: ٢٥.
(٣) سورة الحديد: ١٦.
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وكان عظيم قولكم في عيسى حبّا لله سبحانه وتعالى وتعظيما له فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، أي: اتّبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله، وحب المؤمنين لله إتباعهم أمره وقصدهم طاعته ورضاه، وحبّه عزّ وجلّ للمؤمنين [منّة] عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم وذلك قوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو أحمد محمد بن ابراهيم الصريمي قال: أنشدنا علي بن محمد قال: أنشدني الحسن بن إبراهيم البجلي لعبد الله بن المبارك:
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه | هذا لعمري في الفعال قبيح |
لو كان حبّك صادقا لأطعته | إنّ المحب لمن يحبّ مطيع «١» |
فلما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي [لأصحابه: إنّ محمّدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبّه] كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم «٣»، فنزل: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا عن طاعتهما. فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ: لا يرضى فعلهم ولا شيء لهم ولا يغفر لهم.
وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى الإمام فقد عصاني» [٤٤] «٤».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٤٣]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
(٢) الجامع الصغير للسيوطي: ٢/ ٨٥، ح ٤٩٣٥.
(٣) زاد المسير لابن الجوزي: ١/ ٣١٩.
(٤) المصنّف للكوفي: ٧/ ٥٦٦.
نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
يعني: إنّ الله اصطفى هؤلاء الّذين قالوا بالإسلام، وأنتم على غير دين الإسلام، واصطفى [افتعل] من الصفوة وهو الخالص من كل شيء، يعني: اختاروا واستخلصوا آدم أبو البشر ونوحا شيخ المرسلين، وآل إبراهيم وآل عمران.
قال بعضهم: أراد بآل إبراهيم وآل عمران: إبراهيم وعمران نفسهما، كقوله عزّ وجلّ:
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «١» : يعني موسى وهارون (عليهم السلام).
قال الشاعر:
ولا تبك ميتا بعد ميّت أحبّه | علي وعبّاس وآل أبي بكر «٢» |
قال الباقون: آلَ إِبْراهِيمَ: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنّ محمّدا (عليه السلام) من آل إبراهيم وآل عمران.
وقال مقاتل: هو عمران بن يصهر بن فاهاث «٣» بن لاوي بن يعقوب وآله موسى وهارون.
قال الحسن ووهب بن منبه: هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود وآله مريم وعيسى.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٦٣.
(٣) وروي: قاهث، راجع تفسير الطبري: ١/ ٤٠٠.
الفرّاء على [القطع] لأنّ الذريّة نكرة وآل إبراهيم وآل عمران معرفة «٣».
الزجّاج: نصب على البدل. وقيل: على النكرة أي اصطفى ذريّة بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ:
وقيل: على الحال أي بعضها من ولد بعض. وقال أبو روق: بعضها على دين بعض «٤».
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: قال الحروي: لمّا مات الحسن البصري وكان مماته عشية الجمعة، فلمّا صلّى النّاس الجمعة حملوه، فلم [تترك الصلاة] في المسجد الجامع بالبصرة منذ كان الإسلام إلّا يوم ممات الحسن، فإن الناس اتّبعوا جنازته فلم يبق أحد يصلّي في المسجد صلاة العصر.
قال الجزائري: سمعت مناديا ينادي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه.
الأعمش عن أبي وائل، قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ، فقال ابن عباس ومقاتل: هو عمران بن مايان وليس هو بعمران أبو موسى وبينهما ألف وثلاثمائة سنة، وكان بنو مايان «٥» رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقال ابن إسحاق «٦» : هو عمران بن أشهم بن آمون بن ميثا بن حوقتا بن إحرين بن يونام بن عواريا بن إمضيا بن ياوس بن جربهوا بن يارم بن صف شاط بن لمساين بن يعمر بن سليمان بن داود (عليه السلام).
إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً: أي جعلت الذي في بطني محرّرا نذرا منّي لك، والنذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٦٣، والقول للسهيلي. [.....]
(٣) تفسير الطبري: ٣/ ٣١٨.
(٤) مجمع البيان: ٥/ ٨٤.
(٥) وروي: ماتان. ماثان.
(٦) في تاريخ الطبري (١/ ٤١٨) : عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن إحزيق بن يوثام بن عزريا ابن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو بن يارم بن يهشافاظ بن أسا بن أبيا بن رجعم بن سليمان.
وفي تاريخ دمشق: مريم بن عمران بن هاثان بن المعاذر بن اليود بن اجبن بن صادوق بن عيازور بن الياقيم بن أيبود بن زربائيل بن شالتان بن يوحينا بن لرشتيا بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أجاز بن يوثام بن عزريا بن بورام بن يوسافاط بن أسا بن إيبا بن رضيعم بن سليمان، أقول: الاختلاف في الأغلب من اختلاف قراءة المخطوطات.
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» [٤٥].
قال الأعشى:
غشيت لليلي بليل خدورا | وطالبتها ونذرت النذورا «٢» |
وقال جميل:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي | وحموا لقائي يابثين لقوني |
ومُحَرَّراً: نصب على الحال.
وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما: فإن الحر رجل إذا حرّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من [الأنبياء] والعلماء إلّا ومن نسل محرّرا ببيت المقدس، ولم يكن محرّرا إلّا الغلمان، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى، فحرّرت أمّ مريم ما في بطنها.
وكان القصة في ذلك أنّ زكريّا وعمران تزوجا أختين، وكانت إيشاع «٣» بنت فاقود أم يحيى عند زكريّا وحنّة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وقد كان أمسك على حنّة الولد حتى أيست وعجزت، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك شهوتها للولد، ودعت الله أن يهب لها ولدا وقالت: اللهم لك عليّ إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذرا وشكرا، فحملت بمريم فحرّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت! أرأيت إن كان ما في
(٢) تاريخ دمشق: ٢٠/ ١٤٠ ط دار الفكر، وديوان الأعشى: ٨٨ ط بيروت.
(٣) لسان العرب: ١٢/ ١٥١.
فَلَمَّا وَضَعَتْها: أي ولدتها وإذا هي جارية، فالهاء في قوله: وَضَعَتْها راجعة إلى النذيرة أي مريم من حنّة، لذلك أنّث.
قالَتْ: عذرا وكانت ترجوا أن تكون غلاما ولذلك حررت.
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى: اعتذار إلى الله عزّ وجلّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ: [ما ظنّت] «١» عن السدي، وقرأ [العامّة بتسكين التاء] وقرأ علي وأبو ميثم النجفي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: وُضَعَتْ بضمّ التاء جعلوها من كلام أمّ مريم «٢».
وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى: في خدمة الكنيسة والعبّاد الذين فيها لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس والأذى.
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ: وهي بلغتهم: [الخادمة والعبادة، وكانت أجمل النساء في وقتها وأفضلها] «٣».
روى أبو زرعة عن أبي هريرة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع:
مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد» [٤٦] «٤».
وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ: آمنها وأجيرها بك. وَذُرِّيَّتَها: وأولادها.
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ: الطريد اللعين المرمي بالشهب.
ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود إلّا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها» [٤٧] ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:
وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «٥».
سعيد عن قتادة قال: «كل أدمي طعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم وأمه جعل بينهما حجاب فأصاب الطعن الحجاب ولم ينفذ إليها منه شيء» [٤٨].
(٢) راجع مجمع البيان: ٢/ ٢٨٠، وفتح القدير: ١/ ٣٣٤، وفيه زيادة: وقرأ ابن عباس بكسر التاء.
(٣) قصص الأنبياء للثعلبي: ٣٧١. ٣٧٤.
(٤) تفسير الطبري: ٣/ ٣٢٦، وتفسير الدرّ المنثور: ٢/ ١٩، مورد الآية.
(٥) مسند أحمد: ٢/ ٢٧٥، وأخرجاه في الصحيحين.
وقال وهب بن منبه: «لمّا ولد عيسى (عليه السلام) أتى الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام منكّسة، فقال: هذا لحادث حدث، وقال: مكانكم، فطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلم يجد شيئا، ثمّ طار أيضا فوجد عيسى قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله فلم يصل إليه إبليس فرجع إليهم، فقال: إنّ نبيا قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلّا أنا بحضرتها إلّا هذه، فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة «١».
فَتَقَبَّلَها: أي تقبل الله من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر، يقال: قبل ولأن الشيء إذا رضيه يقبله قبولا بالفتح مصدر، مثل الزارع والزروع والقبول، ولم يأت غير هذه الثلاثة، والقياس الضم مثل الدخول والخروج، قاله أبو عمرو الكسائي والأئمّة، وقال بعضهم: معنى التقبّل: التكفّل في التربية والقيام بشأنها.
وقال الحسن: قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل «٢».
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ: ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له: المصدر على غير المصدر.
قال الفرّاء: مثل قولك تكلمت كلاما.
قال الفطامي: وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه اتباعا.
وقال آخر: وإن مشيتم تعاودنا عوادا، ولم يقل: تعاودوا.
وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: ولم يقل: إنباتا.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ يقول: سلك بها طريق السعداء وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد.
ابن جريج: أَنْبَتَها ربها في غذائه ورزقه نَباتاً حَسَناً حتى تمت امرأة بالغة تامة.
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا: قال المفسرون: أخذتها أمّ مريم حين ولدتها، فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها [لأن] عندي خالتها.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٦٩. [.....]
قال السدي: هو نهر الأردن، فألقوا أقلامهم في الماء، فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم [ورسبت] في النهر، قاله ابن إسحاق وجماعة.
وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان «٢» الماء [فذهب بها الماء]، فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها.
قال ابن إسحاق: فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محرابا: أي غرفة في المسجد، وجعل بابه إلى وسطها، لا يرقى إليها إلّا بسلّم مثل باب الكعبة، فلا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم.
كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً: يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّا طريّا. قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا فإنّها كانت إذا رزقها الله شيئا وسألت عنه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ.
«٣»
[أخبرنا عبد الله بن حامد بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقام أيّاما لم يطعم طعاما، حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئا، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنيّة هل عندك شيء آكل فإنّي جائع؟» فقالت: لا والله بأبي أنت وأمّي، فلمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت: لأوثرنّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة من طعام، فبعثت حسنا وحسينا إلى جدّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك، قال: «فهلمّي به»، فأتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه،
(٢) في التفاسير: جرية.
(٣) السقط مستدرك من المؤلّف نفسه في كتابه قصص الأنبياء: ٣٧٢. ٣٧٣.
فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى علي رضي الله عنه، ثم أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا.
قالت فاطمة: وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل الله فيها بركة وخيرا [٤٩] «٢».
قال أهل التفسير: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاما على الكبر، فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.
قال الله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: أي فعند ذلك. و «هنا» إشارة إلى الغاية كما أن «هذه» إشارة إلى الحاضر.
والكاف: اسم المخاطب وكسرت اللام لالتقاء الساكنين.
قال المفضل بن سلمة: أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا.
دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه. قالَ رَبِّ: أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره، استغني بكسر الباء عن الياء. هَبْ لِي:
أعطني، مِنْ لَدُنْكَ: من عندك. وفي لدن أربع لغات «٣» : لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها، ولد بفتح اللام وضم الدال وحذف النون، ولدن بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون، ولدن بضم اللام وجزم الدال وفتح النون.
قال الفرّاء: وهي يخصّص بها على الإضافة، وترفع على مذهب مذ «٤»، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:
(٢) بطوله في قصص الأنبياء للثعلبي: ٣٧٣. ٣٧٤، وتفسير ابن كثير مسندا: ١/ ٣٦٨، والدرّ المنثور: ٢/ ٢٠، وسبل الهدى والرشاد: للشامي: ٩/ ٤٨٣، و ١١/ ٤٧. والبداية والنهاية لابن كثير: ٦/ ١٢٢.
(٣) راجع لسان العرب: ١٣/ ٣٨٥.
(٤) راجع تاج العروس: ٩/ ٣٣٢. ٣٣٣.
ما زال مهري مزجر الكلب منهم | لدن غدوة حتى دنت لغروب «١» |
كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى | وأنت خليفة ذاك الكمال «٣» |
فما تزدري من حية جبلية سكات | إذا ما غض ليس بأدردا «٤» |
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ: أي سامعه وقيل مجيبه، لقوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ: أي فأجيبون. وقولهم: سمع الله لمن حمده: أي أجابه.
وأنشد:
دعوت الله حتى خفت ألا | يكون الله يسمع ما أقول «٥» |
قتادة عن أنس بن مالك قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيما رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئا» [٥٠] «٦».
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ: قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: فناداه بالياء، وأبو عمارة وأبو عبيدة، وقرأ الباقون: بالتّاء واختاره أبو حاتم: فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إن شئت أنّثت وإن شئت ذكّرت، إلّا أنّ من قرأ بالتاء فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا «٧»، ومن ذكّر خلها.
(٢) سورة مريم: ٥.
(٣) الصحاح: ٤/ ١٣٥٦.
(٤) الصحاح: ١/ ٢٥٣.
(٥) الفائق في غريب الحديث: ٢/ ١٥٨.
(٦) تفسير القرطبي: ٤/ ٧٢.
(٧) سورة الحجرات: ١٤. [.....]
الملائكة بنات الله فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم.
وروى الشعبي أن ابن مسعود قال: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء وذكّروا القرآن «١».
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء. وأراد بالملائكة هاهنا: جبريل وحده وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل: يا زكريا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى فذلك قوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ:
يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ «٢» : يعني جبريل وحده، وقوله في النحل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ»
: يعني جبريل ما يروح بالوحي لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل (عليه السلام)، يأت عليه قوله ابن مسعود، فناداه جبريل وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ: وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: ركب فلان في السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وخرج على بغال البريد، وإنما على بغل واحد، وسمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «٤» : يعني نعيم بن مسعود. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «٥» : يعني أبا سفيان ونحوها كثرة.
وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا فيجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يبعث إلّا ومعه جمع منهم فهي على هذا.
وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ: يعني في المسجد، نظيره قوله: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ «٦» : أي المسجد، وقوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «٧» : أي المسجد، وهو مفعال من الحرب، قيل: سمي بهذا لأنّه تحارب فيه الشيطان، كما قيل: مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن، وفخّمه الآخرون.
(٢) سورة آل عمران: ٤٢.
(٣) سورة النحل: ٢.
(٤) سورة آل عمران: ١٧٣.
(٥) سورة آل عمران: ١٧٣.
(٦) سورة مريم: ١١.
(٧) سورة ص: ٢١.
وقرأ الباقون: بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال: فنادته الملائكة أن الله يبشرك.
وقرأ عبد الله: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ يا زكريا إن الله يبشرك: اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة: موضعين هاهنا وفي التوبة يُبَشِّرُهُمْ «١» ومريم وفي الحجر إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ «٢»، وفَبِمَ تُبَشِّرُونَ «٣» وفي سبحان والكهف وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «٤»، وفي مريم موضعين: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ولِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وفي حم عسق: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ «٥» فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة، وهو قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها: حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها.
وقرأ يحيى بن رئاب والكسائي خمسة منها مخففة، موضعين هاهنا وفي سبحان والكهف وعسق.
وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفا واحدا وهو قوله: في حم، عسق... ذلِكَ النبي الَّذِي يَبْشُرُ اللَّهُ عِبادَهُ.
وقرأها كلها حميد بن قيس: بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها.
الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يبشر، قال الشاعر:
يا أمّ عمرو أبشري بالبشرى... موت ذريع وجراد عظلي «٦»
ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود. قال الشاعر:
نشرت عوالي إذا رأيت حيفة... ماسك من الحجّاج تعلى كتابها
(٢) سورة الحجر: ٥٣.
(٣) سورة الحجر: ٥٤.
(٤) سورة البقرة: ٢٢٣، والتوبة: ١١٢.
(٥) سورة الشورى: ٢١. ٢٣.
(٦) الجراد العظلى: الذي لا يبرح، ومراده بأمّ عمرو: أمّ عامر كناية عن الضبع راجع تفسير القرطبي: ٤/ ٧٥، والبيت أيضا في كتاب العين: ٢/ ٨٥.
وإذا رأيت الباهشين «١» إلى العلى | غبرا أكفهم بقاع ممحل |
فأعنهم وأبشر بما بشروا به | وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل «٢» |
روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه: إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لرجل: إن الله يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاما.
ومن قرأ بالتشديد من بشر يبشر بشيرا وهو أعرب اللغات وأفصحهم. قال جرير:
يا بشر حق لوجهك التبشير | هلا غضبت لنا وأنت أمير «٤» |
بِيَحْيى: هو اسم لا يجري لمعرفته، والمزايد في أوله مثل: يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم لأجل الياء وفخّمه الآخرون، وجمعه «يحيون» مثل موسون وعسون، واختلفوا فيه لم سمي «يحيى».
قال ابن عباس: لأن الله أحيا به عقر أمه. قتادة: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان. بعضهم:
لأن الله أحيا قلبه بالنبوة.
الحسن بن الفضل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية.
ما روى عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من أحد إلّا ويلقى الله عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلّا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها.
قال الثعلبي: [سمعت] الأستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول: سمي بذلك لأنه أستشهد والشهداء أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
(٢) لسان العرب: ٤/ ٦٢.
(٣) تفسير الطبري: ٣/ ٣٤٢.
(٤) شرح شافية ابن الحاجب: ٤/ ٣٢٨.
(٥) سورة المزمّل: ١٧. ١٨.
(٦) سورة الصافّات: ١١٢.
(٧) سورة الحجر: ٥٥.
قال الثعلبي: وسمعت أبا منصور [الجمشاذي] يقول: عن عمر بن عبيد الله المقدسي:
أوحى الله إلى إبراهيم الخليل: أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها: أني مخرج منكما عبدا لا يموت بمعصيتي اسمه حيي فهبي له من اسمك حرفا، فوهبت له أول حرف من اسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة.
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ: نصب على الحال مِنَ اللَّهِ: يعني عيسى (عليه السلام) سمي كلمة لأن الله قال له: كُنْ من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه كان بها، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني خالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى (عليهما السلام).
وقال أبو عبيدة وعبد العزيز بن يحيى: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وآياته، يقول: أنشدني كلمة فلان:
أي قصيدته.
وَسَيِّداً: من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود، وهو الرئيس الذي يتّبع وينتهى إلى قوله.
قال المفضل: أراد سيدا في الدين.
شريك عن أبي روق عن الضحاك قال: السيد الحسن الخلق.
وروى شريك بإسناده أيضا عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل.
سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم. قتادة: سيد في العلم والصوم، سعيد بن جبير:
الحليم، الضحّاك: التقي، عكرمة: الذي لا يغضب، مجاهد: الكريم على الله، ابن زيد:
الشريف الكبير، سفيان الثوري: الذي لا يحسد.
روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال: الحسود لا يسود.
قال الخليل بن أحمد: مطاعا.
الزجّاج: هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه.
أحمد بن عاصم: السيد القانع بما قسم له.
أبو بكر الورّاق: الراضي بقضاء الله تعالى.
أبو زيد البسطامي: هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره، لم يحدث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السخي.
روى ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سيدكم يا بني سلمة؟
قالوا: جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان. قال: وأيّ داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن جموح «١».
روى عبد الله بن عباس: إنه كان قاعدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه بضعة عشر رجلا عليهم ثياب السفر، فسلموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى القوم، ثم قالوا: من السيد منكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فعرفوا أنه رسول الله، فقالوا: فما في أمتك سيد، قال: بلى رجل أعطى مالا حلالا ورزق سماحة، وأدنى الفقراء وقلت شكايته «٢».
وروى أن أسد بن عبد الله قال لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص.
فقال: أما نحن فلا نسود إلّا من يعطينا رحله، ويفرش لنا عرضه، ويعطينا ماله. فقال: والله إن السودد فيكم لغال.
وَحَصُوراً: أصله من الحصر وهو الحبس، يقال: حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منه، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، ومنه إحصار العدو. قال الله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «٣» : أي محبسا. ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسه ولا يظره حصر.
قال جرير:
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا | حصرا بسرك يا أميم ضنينا «٤» |
وقال سعيد بن المسيب والضحّاك: هو العنّين الذي لا ماء له، ودليل هذا التأويل ما
روى أبو صالح عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلّا يحيى بن زكريا فإنه كان سَيِّداً وَحَصُوراً» [٥٢].
(٢) الدرّ المنثور: ٦/ ١٩٧.
(٣) سورة الإسراء: ٨.
(٤) الصحاح: ٢/ ٦٣١.
وقال المبرد: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني... لا بالحصور ولا فيها بسوار «٢»
فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة قالَ رَبِّ: يا سيدي قاله لجبرائيل (عليه السلام)، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين.
وقال الحسن بن الفضل: إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل.
أَنَّى يَكُونُ: من أين يكون، لِي غُلامٌ: ابن. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ: قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل: هذا من المقلوب: أي قد بلغت الكبر كما يقال: بلغني الجهد:
أي إني في جهد، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ [بي] ما أريد [أن] يقطعه، وأنشد المفضل:
كانت فريضة ما زعمت... كما كانت الزناء فريضة الرجم «٣»
وقيل معناه: وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني.
قال الكلبي: كان يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة، وقيل: ابن تسع وتسعون سنة «٤»، فذلك قوله: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ: أي عقيم لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف، يعقر عقرا وعقارة، وقيل: تكلم حتى أعقر بكسر القاف يعقر عقرا إذا أبقى فلم يقدر على الكلام.
وقال عامر بن الطفيل:
ولبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا... جبانا فما عذري لدى كل محضر «٥»
وإنما حذف الهاء لاختصاص الإناث بهذه، وقال به تارة الخليل «٦».
(٢) لسان العرب: ٤/ ١٩٤.
(٣) تفسير الطبري: ٢/ ١١١، وزاد المسير: ٥/ ٢٤، ولسان العرب: ١٤/ ٣٥٩، والبيت للجعدي وفيه:
ما تقول كما. [.....]
(٤) وقيل: ثمان وتسعون راجع تفسير البغوي: ١/ ٢٩٩، وقيل غير ذلك راجع زاد المسير: ١/ ٣٢٨.
(٥) فتح الباري: ٦/ ٣٣٧.
(٦) عبارة غير مقروءة والظاهر ما ذكرناه.
امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل [ | ] «١» امرأتي عنى عاقر، وشخص عاقر. |
قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ: فإن قيل: لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعد ما بشرته به الملائكة أكان ذلك [شكّ في صدقهم] أم أنّ [ذلك منه استنكارا لقدرة ربّه] «٢» ؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان فكيف الأنبياء (عليهم السلام) ؟
قيل: إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان، فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله لأوحاه إليك خفيا، كما (ناداك) خفيا وكما يوحى إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعا للوسوسة.
والجواب الثاني: إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ: أي فكيف يكون لي ولد؟ أتجعلني وامرأتي شابين؟ أم ترزقنا ولدا على كبرنا؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء؟ قال ذلك مستفهما لا منكرا، وهذا قول الحسن وابن كيسان.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً: علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك.
قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ: تكف عن الكلام.
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً: تقبل بكلمتك على عبادتي وطاعتي لا أنه حبيس لسانه عن الكلام، ولكنه نهي عنه يدل عليه قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ.
قال بعض أهل المعاني وقال أكثر المفسرين: عقد لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مساءلة الملائكة إياه، فلم يصدر على الكلام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً: إشارة.
قال الفرّاء: ويكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي شبه الهمس.
وقرأ الأعمش: رَمَزاً: بفتح الميم وهو الصلاة كالطلب به.
وقال عطا: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلّا رمزا.
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يعني جبرئيل وحده.
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٣٥٠.
وَطَهَّرَكِ: من [مسيس] الرجل «١». وقال السدي: كانت مريم لا تحيض.
وَاصْطَفاكِ: بالتحرير في المسجد، عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ: عالمي زمانها ولا يحرر غيرها.
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي: أطيعي وأطيلي الصلاة، لِرَبِّكِ: كلمت به الملائكة شفاها.
قال [الأوزاعي] : لمّا قالت لها الملائكة ذلك، قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا «٢».
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٤ الى ٥٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
ذلِكَ: الذي ذكرت من حديث زكريا ومن حديث ويحيى ومريم وعيسى، مِنْ أَنْباءِ:
أخبار، الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ: ردّ الكناية إلى ذلك فلذلك ذكر. وَما كُنْتَ: يا محمد، لَدَيْهِمْ: عندهم، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ سهامهم وقداحهم للاقتراع في الماء واحدها: قلم، وقيل: [أقلامهم التي كانوا يكتبون بها] «٣» التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء.
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ: [....] «٤».
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ٨٤.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٨٦.
(٤) كلام غير مقروء.
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وقرأ أبو السماك «١» وهب بن يزيد العدوي: (بِكِلِمَةٍ) مكسورة الكاف مجزومة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ.
اسْمُهُ: رد كناية إلى عيسى وكذلك ذكر. وقيل: رده إلى الكلام لأن الكلمة والكلام واحد.
الْمَسِيحُ: قال بعضهم: هو فعيل بمعنى المفعول يعني: أنه مسح من الأقذار وطهر.
وقيل: مسح بالبركة.
وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن «٢».
وقيل: لأنه مسح القدمين لا أخمص له.
وقيل: مسحه جبرئيل بجناحه من الشيطان حتى لم يكن للشيطان فيه سبيل في وقت ولادته.
وقال بعضهم: هو بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم، وسمي ذلك لأنه كان يمسح المرضى فيبرءون بإذن الله.
قال الكلبي: سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصره.
وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض يخوضها ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول الميم فيه زائدة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: المسيح الملك.
وقال أبو تميم النخعي: المسيح الصديق، فإما هو المسّيح بكسر الميم وتشديد السين، وقال غيره: هذا قول لا وجه له بل الدجال مسيح أيضا فعيل بمعنى مفعول لأنه ممسوح إحدى العينين كأنها عين طافية، ويكون بمعنى [السائح] «٣» لأنه يسيح في الأرض فيطوف الأرض كلها إلّا مكة والمدينة وبيت المقدس.
قال الشاعر:
١١/ ٣٤٧، وإكمال الكمال: ٤/ ٣٥٤.
(٢) زاد المسير: ١/ ٣٣١، وهو قول أبو سليمان الدمشقي.
(٣) في المخطوط: الساحل، ولم نجده في التفاسير.
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً: نصب على الحال، أي شريفا [ذا جاه وقدر] «٢».
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى ثواب الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صغيرا قبل [أوان] «٣» الكلام.
روى ابن أبي [نجيح] عن مجاهد قال: قالت مريم (عليها السلام) : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدثته. فإذا شغلني عنه إنسان سبّح في بطني وأنا أسمع «٤».
وَكَهْلًا: قال مقاتل: يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء.
وقال الحسن بن الفضل: (كَهْلًا) بعد نزوله من السماء.
وقال ابن كيسان: أخبرهما أنّه يبقى حتّى يكتهل.
وقيل: يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ: صبيّا وَكَهْلًا نبيّا [ولم يتكلّم في المهد من الأنبياء] «٥» إلّا عيسى (عليه السلام)، فكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة.
وقال مجاهد: وَكَهْلًا أي عظيما والعرب تمدح بالكهولة لأنّها أعظم؟ على في احتناك السنّ، واستحكام العقل، وجودة الرأي والتجربة.
وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي فهو من العباد الصالحين.
قالَتْ رَبِّ يا سيّدي بقولها لجبرئيل أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يعني رجل.
قالَ كَذلِكِ اللَّهُ: كما تقولين يا مريم ولكن الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً:
[... ] «٦».
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: كما يريد.
قال بعض أهل المعاني: ذكر القول هاهنا بيان وزيادة إلى ذكره ليتعارف النّاس به سرعة كون الشيء فيما بينهم.
وقال آخرون: هذا وقع على الموجود في علمه وإرادته وتحت قدرته وإن كان معدوما في ذاته.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٩٠، نسبه للأخفش. [.....]
(٣) كذا الظاهر.
(٤) المصنف لابن أبي شيبة: ٧/ ٤٦٠ ما ذكره في فضل عيسى.
(٥) زيادة يقتضيها السياق وعبارة المخطوط مشوشة.
(٦) سقط في أصل المخطوط.
وَيُعَلِّمُهُ: قرأ أهل المدينة ومجاهد وحميد والحسن وعاصم: بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله تعالى كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ: قد جرى ذكره عزّ وجلّ.
وقال المبرد: ردّوه على قوله إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ... وَيُعَلِّمُهُ وقرأ الباقون بالنون على التعظيم، واحتجّ أبو عمرو في ذلك لقوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ...
الْكِتابَ: أي الكتابة والخط والعلم.
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا: أي ونجعله رسولا.
إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: فترك ذكره لأن الكلام عليه، كقول الشاعر:
ورأيت بعلك «١» في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا «٢»
أي وحاملا رمحا.
وأنشد الفرّاء لرجل من عبد القيس:
علفتها تبنا وماء باردا... حتى شتت همالة عيناها «٣»
يعني سقيتها ماء باردا.
قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله (وَرَسُولًا) مضخمة والرسول حالا للهاء، تقديره: ويعلّمه الكتاب رسولا «٤»، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى (عليه السلام) «٥».
روى محمد بن إسكندر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل».
[٥٤] «٦» فلمّا بعث قال لهم:
[... ] «٧».
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٣٧٤.
(٣) لسان العرب: ٢/ ٢٨٧.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٩٣.
(٥) وهو حديث أبي ذر الطويل، راجع تفسير القرطبي.
(٦) البداية والنهاية: ٢/ ١٨٢ بتفاوت.
(٧) سقط في أصل المخطوط.
قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ: والآية مِنْ رَبِّكُمْ: يصدّق قولي ويحقق رسالتي.
قال الخليل والفرّاء: أصلها بآيّة بتشديد الياء فثقل عليهم التشديد فأبدلوا لانفتاح ما قبل التشديد وتقديرها فعله.
وقال الكسائي: هي في الأصل أبيه مثل فاطمة فحذفت أحدى الياءين فلمّا قال ذلك عيسى لبني إسرائيل. قالوا: وما هي؟ قال: إنّي، قول نافع بكسر الألف على الاستئناف وإضمار القول.
وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي.
أَخْلُقُ: أي أصور وأقدّر.
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: قرأ الزهري وأبو جعفر: كهيّة بتشديد الياء. والآخرون بالهمزة. والهيئة الصورة المهيّأة، وهي من قولهم هيأت الشيء إذا قصرته وأصلحته. وقرأ أبو جعفر (الطائر) بالألف، والباقون بغير ألف.
فَأَنْفُخُ فِيهِ: أي في الطين.
فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ: قرأه العامة على الجمع لأنّه خلق طيرا كثيرا.
وقرأ أهل المدينة: (طائرا) على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير، لأنه لم يخلق غير الخفّاش، وإنمّا خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا، ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وهي تحيض وتطير.
وقال وهب: كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ليتميّز فعل الخلق من خلق الله، وليعلموا أنّ الكمال لله تعالى.
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ: أي أشفيهما وأصححهما فقال: أبرأ الله المريض من أبرأ- وبرىء- هو يبرأ- وبريء- مبرأ- برأوا فيهما جميعا. واختلفوا في الأكمه:
فقال عكرمة والأعمش، ومجاهد والضحّاك: [هو الذي] يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل.
ابن عباس وقتادة: هو الذي ولد أعمى ولم يبصر ضوء قط، الحسن والسّدي: هو [الأعمى، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى وان كان بصيرا] «١» هو المعروف من كلام العرب يقال: كمهت عينه تكمه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها.
كمهت عيناه حتى ابيضّتا... فهو يلحى نفسه لمّا نزع «١»
قال رؤبة:
وكيد مطال وخصم [مبده] «٢»
هدجن فإن تكلم [... ] «٣» الأكمه هرّجت بالسّبع وقد صحت به، والأبرص الذي به وضح.
وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان [الغالب] على زمن عيسى الطبّ فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك داعيا لا دواء له.
وقال وهب: ثم اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه. إنّما كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان.
وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ: قيل: أحيا أربعة أنفس: عازر «٤» وكان صدّيقا فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهم ربّ السموات السّبع والأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأخبرهم أنّي أحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر. قال: فقام عازر وودكه تقطر، فخرج من قبره وبقي وولد له.
وابن العجوز مرّ به ميّتا على عيسى (عليه السلام) على سرير يحمل فدعا الله عيسى (عليه السلام) فجلس على سريره ونزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له.
والبنت العاقر «٥» قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت فبقيت وولد لها.
وسام بن نوح دعا عيسى (عليه السلام) باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه. فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكني دعوتك باسم الله الأعظم. قال: ولم يكونوا
(٢) لسان العرب: ١٣/ ٤٧٦. [.....]
(٣) سقط في أصل المخطوط.
(٤) في تفسير القرطبي: ٤/ ٩٥: العاذر.
(٥) عند القرطبي: بنت العاشر.
بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت. فدعا الله عزّ وجلّ ففعل.
قال الكلبي: كان عيسى (عليه السلام) يحيي الأموات ب: يا حىّ يا قيّوم.
وَأُنَبِّئُكُمْ: أخبركم، بِما تَأْكُلُونَ: ممّا أعاينه، وَما تَدَّخِرُونَ: وما ترزمونه، فِي بُيُوتِكُمْ: حتى تأكلوه، وهو يفعلون من دخرت وقرأ مجاهد وأيوب السختياني: تذخرون، بالذال المعجمة وسكونها وفتح الخاء من ذخر يذخر ذخرا.
قال الكلبي: فلما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص وأحيى الموتى قالوا: هذا سحر، ولكن أخبرنا بما نأكل وما ندّخر وكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه وبما يأكل في عشائه.
وقال السدي: كان عيسى (عليه السلام) إذا كان في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع أبوهم، ويقول للغلام انطلق، فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا. فينطلق الصبي إلى أهله، ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون له من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم. قالوا: ليسوا عندنا. فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون. ففتحوا عليهم، فإذا هم خنازير «١»، ففجئنا لذلك في بأس [... ] «٢» بنو إسرائيل، فلمّا خافت عليه أمه حملته على حميّر لها، وخرجت به هاربة إلى مصر.
وقال قتادة: إنّما هذا في المائدة وكان خوانا ينزل عليهم إنّما كانوا كالمنّ والسلوى، وأمر القوم أن لا يخونوا لا يخبئوا لغد، وحذّرهم البلاء إن فعلوا ذلك [... ] «٣» وخونوا. فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منه. فمسخهم الله خنازير.
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لكم.
لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً عطفها على قوله: وَرَسُولًا.
لِما بَيْنَ يَدَيَّ: لما قبلي.
مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ: من اللحوم والشحوم. وقالوا أيضا:
يعني كل الذي حرّم عليهم من الأطبّاء، و (بعض) يكون بمعنى «كل» ويكون كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «٤»
(٢) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(٣) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٩٦.
وقال آخر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا... حنانيك بعض الشر أهون من بعض «١»
يريد بعض الشر أهون من كله.
وقرأ إبراهيم النخعي: حرم مثل كرّم أي [صار حراما].
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: يعني ما ذكرنا من الآفات، وأما تعدّها لأنّها جنس واحد في [الدلالة].
على رسالته.
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ.
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى: [... ].
وقال أبو عبيد: عرف.
مقاتل: رأى. نظر.
قرأه ضحّاك: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ. وقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا.
مِنْهُمُ الْكُفْرَ: وأرادوا قتله استنصر عليهم وقال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ: قال السدي: كان بسبب ذكر أنّ عيسى (عليه السلام) لمّا [بعثه الله] إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمّه يسيحون في الأرض، فنزل في قرية [على رجل فضافهم] «٢» وأحسن إليهم، وكان كبير المدينة جبّار معتد. فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا، فدخل منزله، ومريم عند امرأته فقالت: ما شأن زوجك أراه كئيبا؟ قالت: لا تسأليني. قالت:
أخبريني لعلّ الله يفرّج كربته. قالت: إنّ لنا ملكا [يجعل على كل رجل يوما يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر]. فإن لم يفعل عاقبه، واليوم نوبتنا وليس لذلك [عندنا سعة]. قالت: فقولي له لا تهتم، فإنّي آمر ابني فيدعو له، فيكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى في ذلك. فقال عيسى: إن فعلت ذلك كان في ذلك شر، قالت: لا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا.
قال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فأملأ قدورك وخوابيك، ففعل ذلك. فدعا الله عيسى فحوّل القدر لحما ومرقا وخبزا وما في الخوابي خمرا لم ير النّاس مثله قط. فلمّا جاء الملك أكل فلمّا شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا. قال الملك: فإنّ خمري
(٢) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
فقال عيسى: فإن أحييته تتركوني وأمّي نذهب حيث نشاء. قال: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش بادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه. فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا.
وذهب عيسى وأمّه فمرّا بالحواريين وهم يصطادون السمك. فقال عيسى: ما تصنعون؟
قالوا: نصطاد السمك. قال: أفلا [تمشون] حتى نصطاد النّاس؟ قالوا: كيف ذلك. قالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله. فآمنوا به وانطلقوا معه. فهم الحواريون وذلك قوله فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «١».
قال السدي وابن جريج والكسائي: مع الله، تقول العرب: الذّود إلى الذّود إبل.
وقال النابغة.
فلا تتركوني بالوعيد كأنني | إلى النّاس مطليّ به القار أجرب «٢» |
وقال آخر «٣» :
ولوح ذراعين في بدن «٤» | إلى جؤجؤ رهل المنكب «٥» |
نظيره قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «٦» : أي مع أموالكم.
وقال الحسن وأبو عبيدة [من أنصاري في السبيل إلى الله] «٧»، تعني في: أي من أعواني في الله؟: أي في ذات الله وسبيله.
(٢) لسان العرب: ١٥/ ٤٣٥ وفيه تتركني بدل تتركوني.
(٣) في المصدر: البيت للجعدي.
(٤) في المصدر: بركة.
(٥) لسان العرب: ١٥/ ١٦٧. [.....]
(٦) سورة النساء: ٢.
(٧) زيادة عن تفسير القرطبي: ٤/ ٩٧.
وإن ملتقى «١» الحيّ الجميع تلاقني | إلى ذروة البيت الكريم المضمّد «٢» «٣» |
وقال أبو ذؤيب:
بأري التي تأري اليعاسيب «٤» أصبحت | إلى شاهق دون السماء ذؤابها درجها «٥» |
فقال السدّي: كانوا ملّاحين يصطادون السمك.
وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا صيّادين سمّوا حواريين لبياض ثيابهم.
وقال أبو أرطأة: كانوا قصّارين سمّوا بذلك لأنّهم كانوا يحوّرون الثياب أي يبيّضونها.
وقال عطاء: سلّمت مريم عيسى إلى أعمال سري، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قوما قصارين وصبّاغين، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه. فاجتمع عنده ثياب، وعرض له سفر. فقال لعيسى: إنّك قد تعلّمت هذه الحرفة، وأنا خارج في سفر إلى عشرة أيّام، وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد أعلمت على كل صنف منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغا منها وقت قدومي. فخرج وطبخ عيسى (عليه السلام) جبّا واحدا على لون واحد أدخله جميع الثياب. وقال لها: كوني بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في جبّ واحد فقال: ما فعلت؟ قال: قد فرغت منها. قال: أين هي؟ قال: في الجب. قال:
كلّها؟ قال: نعم.
قال: كيف تكون كلها أحمر في جبّ واحد؟ فقد أفسدت تلك الثياب. قال: قم فانظر.
فأخرج عيسى ثوبا أحمر وثوبا أصفر وثوبا أخضر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها.
فجعل الحواري يتعجب ويعلم أنّ ذلك من الله، وقال للنّاس: تعالوا وانظروا إلى ما صنع. فآمن به وأصحابه فهم الحواريون.
وروى يوسف الفريابي عن مصعب قال: الحواريون إثنا عشر رجلا اتّبعوا عيسى بن مريم،
(٢) في المصدر: المصمد.
(٣) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ٤٨٣.
(٤) اليعسوب: أمير النحل.
(٥) لسان العرب: ١/ ٣٧٩.
وقال الضحّاك: سمّوا حواريين لصفاء قلوبهم.
وقال عبد الله بن المبارك: سمّوا حواريين لأنّهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحسنها. قال الله تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «١».
وأصل الحور عند العرب شدة البياض. يقال: رجل أحور وامرأة حوراء، شديد بياض نفلة العينين. ويقال للدقيق الأبيض: الحواري، وكل شيء بيّضته فقد حوّرته. ويقال للبيضاء من النساء حواريّة.
قال ابن [حلّزة] «٢» :
فقل للحواريات يبكين غيرنا | ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح «٣» |
فقلت أنّ الحواريات تغطية «٤» | إذا زيّن «٥» من تحت الجلابيب «٦» |
وقال الكلبي وأبو روق: الحواريون أصفياء عيسى وكانوا إثنا عشر رجلا.
الحسن: الحواريون الأنصار والحواري الناصر.
النضر بن شميل: الحواريون: خاصة الرجل. عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال:
الحواري: الوزير.
(٢) في المصدر: أبو جلدة.
(٣) الصحاح: ٢/ ٦٤٠.
(٤) في المصدر: معطبة.
(٥) في المصدر: تفتلن.
(٦) لسان العرب: ٤/ ٢١٩.
والحواري في كلام العرب الضامن خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه. يدل عليه ما
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ حواري وحواريي الزبير بن العوّام» [٥٥] «١».
وروى أبو سفيان بن معمر قال: قال قتادة: إنّ الحواريّين كلهم من قريش. أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عروة وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. قال: الحواريون وأسماؤهم في سورة المائدة.
نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ: أعوان دين الله ورسوله.
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ: من كتابك.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى.
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين شهدوا لأنبيائك بالصّدق.
قال عطاء: مع النبيّ لأنّ كل نبيّ شاهد أمّته [....] «٢» مع محمّد وأمّته «٣».
وَمَكَرُوا: يعني كبار بني إسرائيل الذين أحسّ عيسى منهم الكفر ودبّروا في قتل عيسى.
والمكر ألطف التدبير. وذلك أنّ عيسى بعد إخراج قومه إيّاه وأمّه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهمّوا بقتله وتواطأوا على القتل. فذلك مكرهم به.
وقال أهل المعاني: المكر. السعي في الفساد في ستر ومداجاة، وأصله من قول العرب:
مكر الليل.
وَمَكَرَ اللَّهُ: قال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. قال الله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ «٤» قال ابن عباس: معناه كلّما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة.
(٢) كلمة سقط في أصل المخطوط.
(٣) راجع زاد المسير: ١/ ٣٣٦ مورد الآية.
(٤) سورة الأعراف: ١٨٢.
«٢».
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا «٣» |
فديتك قد جعلت على هواكا | فنفسي لا تنازعني سواكا |
أحبك لا ببعضي بل بكلي | وإن لم يبق حبك لي حراكا |
ويقبح [من] سواك الفعل عندي | وتفعله فيحسن منك ذاكا «٦» |
إن تخليته إيّاهم مع المكر به. مكر منه بهم، ومكر الله تعالى خاص بهم في هذه الآية إلقاء الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب ورفع عيسى إلى السماء.
قال ابن عباس: إنّ ملك بني إسرائيل أراد قتل عيسى، وقصده أعوانه. فدخل خوخة فيها كوّة، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء. فقال الملك: لرجل منهم خبيث أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى فخرج إلى النّاس فخبرّهم أنّه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى.
وقال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل فأسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فلمّا أرادوا صلبه أظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه رجلا يقال له يهودا وهو الذي دلّهم عليه. وذلك أنّ عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم، ثم قال: ليكفرنّ أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه. فأتى
(٢) سورة النساء: ١٤٢.
(٣) لسان العرب: ٣/ ١٧٧.
(٤) نسبه في إفحام المخاصم (٣٩) لسمنون.
(٥) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
(٦) إفحام المخاصم لشيث بن إبراهيم: ٣٩.
إنّ الله قد رفعني ولم يصبني إلّا خير وأنّ هذا الصّبي شبّه لهم. فلما كان بعد سبعة أيّام. قال الله عزّ وجلّ لعيسى: اهبط على مريم في المحراب موضع لأمّه في خبائها فإنّها لم يبك عليك أحد بكاها، ولم يحزن عليك أحد حزنها.
ثم لتجمع لك الحواريين حيث هم في الأرض. دعاه الله تعالى فأهبط الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريين حيث هم في الأرض دعاه الله تعالى ثم رفعه إليه.
وتلك الليلة هي الليلة التي يدخن فيها النّصارى، فلمّا أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ.
وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أفضل المعاقبين. قال أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثة عشر سنة ودارت بعيسى بيت اللحم من أرض أورشليم لمضي خمسة وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل. ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الكلدانيين وأوحى الله عز وجلّ لأمّه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين، وعاشت أمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ اختلفوا في معنى التوفّي هاهنا:
وَرافِعُكَ: من الدّنيا.
إِلَيَّ: من غير موت، يدلّ عليه قوله فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني إلى السماء وأنا حيّ لأنّ قومه إنّما تنصّروا بعد رفعه لا بعد موته. وعلى هذا القول للتوفّي تأويلان:
أحدهما: إنّي رافِعُكَ إِلَيَّ وافيا لن ينالوا منك. من قولهم: توفّيت كذا واستوفيته أي أخذته تامّا.
والآخر: إنّي مسلّمك، من قولهم: توفيت منه كذا أي سلّمته. وقال الربيع بن أنس:
معناه أنّي منيمك ورافعك إليّ من قومك، يدل عليه قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «٢» : أي ينيمكم لأنّ النوم أخو الموت، وقوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «٣».
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إنّي مميتكم، يدلّ عليه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «٤»، وقوله وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ «٥» وله على هذا القول تأويلان:
أحدهما: ما قال وهب: توفّى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه.
والآخر: ما قاله الضحّاك وجماعة من أهل المعاني: إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّي رافعك إليّ...
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ومتوفّيك بعد إنزالك من السماء كقوله عز وجلّ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى «٦».
وقال الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق | عليك ورحمة الله السّلام «٧» |
(٢) سورة الأنعام: ٦٠.
(٣) سورة الزمر: ٤٢.
(٤) سورة السجدة: ١١.
(٥) سورة يونس: ٤٦. [.....]
(٦) سورة طه: ١٢٩.
(٧) معاني القرآن للنحاس: ١/ ٤٠٠، تفسير القرطبي: ٤/ ١٠٠.
جمعت وعيبا نخوة ونميمة | ثلاث خصال لسن من ترعوي |
وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأنبياء إخوة لعلّات شتّى ودينهم واحد، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم لأنّه لم يكن بيني وبينه نبيّ، وإنّه عامل على أمّتي وخليفتي عليهم، إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال، وليسلكنّ الروحاء حاجّا أو معتمرا أو كلتيهما جميعا، ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال، ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الأغنام، ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضا، ويلبث في الأرض أربعين سنة» [٥٦] «١».
وفي رواية كعب: «أربعا وعشرين سنة، ثم يتزوج ويولد، ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه في حجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم» [٥٧] «٢».
وقيل للحسن بن الفضل: هل تجد نزول عيسى (عليه السلام) في القرآن. فقال: نعم.
قوله: وَكَهْلًا، وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنّما معناه وَكَهْلًا بعد نزوله من السماء.
وعن محمد بن إبراهيم أنّ أمير المؤمنين أبا جعفر حدّثه عن الآية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي في أوسطها» «٣» [٥٨].
وقال أبو بكر محمد بن موسى الواسطي: معناه إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن شهواتك وحطوط نفسك، ولقد أحسن فيما قال لأنّ عيسى لمّا رفع إلى السّماء صار حاله كحال الملائكة.
وَرافِعُكَ إِلَيَّ: قال البشالي والشيباني: كان عيسى على [....] «٤» فهبّت ريح فهرول عيسى (عليه السلام) فرفعه الله عزّ وجلّ في هرولته، وعليه مدرعة من الشعر.
قال ابن عباس: ما لبس موسى إلا الصوف وما لبس عيسى إلا الشعر حتى رفع.
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٣٩٦ بتفاوت.
(٣) كنز العمال: ١٤/ ٢٦٩ ح ٣٨٦٨٢.
(٤) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
وقيل: معناه رافِعُكَ بالدرجة في الجنّة ومقرّبك إلى الإكرام وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا:
أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم.
وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ: قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي: هم أهل الإسلام الذين اتّبعوا دينه وسنّته من أمّة محمّد فو الله ما اتّبعه من دعاه ربا فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ظاهرين مجاهرين بالعزة والمنعة والدليل والحجة.
الضحّاك ومحمد بن أبان: يعني الحواريّين فوق الذين كفروا، وقيل: هم الرّوم.
وقال ابن زيد: وجاعل النّصارى فوق اليهود. فليس بلد فيه أحد من النّصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستذلّون مقهورون، وعلى هذين القولين يكون معنى الاتّباع الادّعاء والمحبة لا اتّباع الدّين والملّة.
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ: من الدين وأمر عيسى (عليه السلام).
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا: بالقتل والسّبي والذّلّة والجزية وَالْآخِرَةِ: بالنار.
وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ: قرأ الحسن وحفص ويونس:
بالياء، والباقون بالنون.
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ: أي هذا الذي ذكرته.
نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هو القرآن.
وقيل: هو اللوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش في درّة بيضاء، والحكيم: هو الحكم من الباطل.
قال مقاتل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ الآية: وذلك
أنّ وفد نجران قالوا: يا رسول الله مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنّه عبد؟ قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله عز وجلّ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ في كونه خلقا من غير أب
: تم الكلام.
ثُمَّ قالَ لَهُ: يعني لعيسى.
كُنْ فَيَكُونُ: يعني فكان.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ:
قال الفرّاء: رفع لخبر ابتداء مضمر يعني هو الحق أي هذا الحق. وقال أبو عبيدة: هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره في قوله: مِنْ رَبِّكَ، وقيل بإضمار فعل أي حال الحق، وإن شئت رفعته بالضمّة ونويت تقديما وتأخيرا تقديره من ربّك الحق كقولهم: منك يدك، وإن كان مثلا.
فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمّته لأنّه لم يكن ينهاه في أمر عيسى.
فَمَنْ حَاجَّكَ: خاصمك وجادلك بأمر يا محمد.
فِيهِ: في عيسى.
مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: بأنه عبد الله ورسوله.
فَقُلْ تَعالَوْا: قرأ الحسن وأبو واقد الليثي وأبو السمّاك العدوي: تَعالُوا بضم اللام، وقرأ الباقون بفتحها والأصل فيه تعاليوا لأنّه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضّمة على الياء فسكنت ثم حذفت وبقيت [اللام على محلّها وهي عين الفعل] «١» ضم فإنّه نقل حركة الياء المحذوفة التي هي لام الفعل إلى اللام.
قال الفرّاء: معنى تعال كأنّه يقول ارتفع.
نَدْعُ: جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم فيه سقوط الواو.
أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ: وقيل: أراد نفوسهم، وقيل: أراد الأزواج.
ثُمَّ نَبْتَهِلْ: نتضرّع في الدّعاء. قاله ابن عباس.
مقاتل: نخلص في الدعاء.
الكلبي: نجهد ونبالغ في الدّعاء. الكسائي وأبو عبيدة: نلتعن بقول: لعن الله الكاذب منّا، يقال: عليه بهلة الله، وبهلته: أي لعنته.
قال لبيد: في قدوم سادة من قولهم نظر الدهر إليهم فابتهل.
لَعْنَتَ اللَّهِ: مصدر. عَلَى الْكاذِبِينَ: منّا ومنكم في أمر عيسى،
فلمّا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثمّ نأتيك غدا. فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال:
والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما لاعن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن نعلم ذلك لنهلكنّ. فإن رأيتم إلّا البقاء لدينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد غدا رسول الله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي (رضي الله عنه) خلفها وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فأمّنوا.
فقال أسقف نجران: يا معشر النّصارى إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم. فأبوا. قال: فإنّي أنابذكم بالحرب. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي سكّة ألفا في صفر وألفا في رجب. فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. وقال: والذي نفسي بيده إنّ العذاب قد نزل في أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولا ستأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا «١».
قال الله تعالى:
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ إلى فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا عن الإيمان.
فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ: الّذين يعبدون غير الله ويدعون النّاس إلى عبادة غيره.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية.
قال المفسرون: قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم فأتاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد إنّا اختلفنا في إبراهيم ودينه فزعمت النصارى أنّه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى النّاس به. وقالت اليهود: بل كان يهوديا وأنّهم على دينه وأولى النّاس به. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا وأنا على دينه فأتبعوا دينه الإسلام. فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتّخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا. وقالت النصارى: والله يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير.
وكذلك كان يقولها ابن مسعود قال: دعا فلان إلى السّواء أي إلى النصف، وسواء كل شيء وسطه. قال الله فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «١»، وإنّما قيل للنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها.
وسواء نعت للكلمة إلا أنّه مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنث. فإذا فتحت السين مدّت، وإذا كسرت أو ضمّت قصرت. كقوله عزّ وجلّ: مَكاناً سُوىً «٢» : أي مستو به ثم فسّر الكلمة فقال: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ: محل (أن) رفع على إضمار هي «٣».
قال الزجاج: محلّه رفع [بمعنى أنه لا نعبد] «٤»، وقيل: محله نصب بنزع حرف الصفة معناه: بأن لا نعبد إلا الله.
وقيل: محله خفض بدلا من الكلمة أي تعالوا أن لا نعبد إلّا الله.
وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ: كما فعلت اليهود والنصارى. قال الله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال عكرمة: هو سجود بعضهم لبعض.
وقيل معناه: لا تطع في المعاصي أحدا، وفي الخبر من أطاع مخلوقا في معصية الله فكأنّما سجد سجدة لغيره.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: أنتم لهم اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ: مخلصون بالتوحيد،
وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية إلى قيصر وملوك الروم، «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم...
سلام عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.
«أمّا بعد.... فإنّي أدعوك إلى الإسلام أسلم تسلم. أسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فلن تملكوا إلا أربع سنين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، يا أهل الكتاب تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية» [٥٩] «٥».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٧٤]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
(٢) سورة طه: ٥٨.
(٣) التقدير: هي أن لا نعبد إلّا الله، وقيل موضع «أن» خفض على البدل من «كلمة».
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ١٠٦.
(٥) مسند أحمد: ١/ ٢٦٣، صحيح البخاري: ١/ ٦، كنز العمال: ٤/ ٣٨٤ ح ١٠٠٣٥.
وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ: بعد مهلك إبراهيم بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة.
أَفَلا تَعْقِلُونَ: بعرض حجّتكم وبطلان قولكم.
ها أَنْتُمْ: قرأه أهل المدينة بغير همز ولا مدّ إلا بقدر خروج الألف الساكنة، وقرأ أهل مكّة مهموزا مقصورا على وزن هعنتم، وقرأ أهل الكوفة بالمدّ والهمز، وقرأ الباقون بالمدّ دون الهمز.
واختلفوا في أصله فقال بعضهم: أصله أنتم والهاء تنبيها. وقال الأخفش: أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم: هرقت وأرقت.
هؤُلاءِ: مبني على الكسر، وأصله أولاء فدخلت عليه هاء التنبيه، وفيه لغتان: القصر والمد، ومن العرب من يعضها.
أنشد أبو حازم «١» :
لعمرك أنا والأحاليف هؤلا | لفي محنة أطفالها لم تفطم «٢» |
حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: يعني في أمر محمد، لأنهم كانوا يعلمونه مما يجدون من نعته في كتابهم فحاجّوا به بالباطل.
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: من حديث إبراهيم فليس في كتابكم أنّه كان يهوديا أو نصرانيا.
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ١٠٨ وفيه: أظفارها لم تقلم.
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً: فالحنيف الّذي يوحّد ويحج ويضحّي ويختن ويستقبل القبلة وهو أسهل الأديان وأحبّها إلى الله وأهله أكرم الخلق على الله.
وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ:
قال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنّه كان يهوديا وما بك إلّا الحسد لنا، فأنزل الله هذه الآية «١».
روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رفعه. دخل حديث بعضهم في بعض. قالوا: لما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا: إنّ لنا في الّذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأرا بمن قتل منكم ببدر. فاجمعوا مالا وهدوه إلى النجاشي لعلّه يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم.
فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط بالهدايا، الأدم وغيره. فركبا البحر وأتيا الحبشة فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، وسلّما عليه وقالا له: إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبّون، وإنّهم بعثونا إليك لنحذّرك هؤلاء القوم الّذين قدموا عليك لأنّهم قوم رجل كذّاب خرج فينا فزعم أنّه رسول الله، ولم يبايعه أحد منّا إلا السفهاء وإنّا كنّا قد ضيّقنا عليهم الأمر. وألجأناهم إلى شعب أرضنا لا يدخل إليهم أحد. ولا يخرج منهم أحد. قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليه الأمر. بعث إليك ابن عم له ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا: وآية ذلك أنّهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها النّاس رغبة عن دينك وسنّتك.
قال: فدعاهم النّجاشي فلمّا حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله. فقال النّجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه. ففعل جعفر. فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمّته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه. فقال: ألا تسمع كيف يدخلون بحزب الله وما أجابهم النجاشي. فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له.
فقال عمرو: ألا ترى إنّهم يستكبرون أن يسجدوا لك. فقال لهم النّجاشي: ما منعكم ألّا تسجدوا لي وتحيّوني بالتحيّة التي يحيّيني بها من أتى من الآفاق. قالوا: نسجد لله الّذي خلقك
قال: تكلّم. قال: إنّك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحبّ أن أجيب عن أصحابي فمن هذين الرّجلين أن يتكلّم أحدهما وينصت الآخر. فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلّم.
فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين. أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنّا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم. فقال النجاشي: أعبيد هم يا عمرو أم أحرار؟ قال: لا، بل أحرار كرام.
فقال النجاشي: نجّوا من العبودية، ثم قال جعفر: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق؟ فاقتصّ منّا.
فقال عمرو: لا ولا قطرة. فقال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال النّاس بغير حق فعلينا إيفاؤها.
فقال النّجاشي: قل يا عمرو. وإن كان قنطارا. فعليّ قضاؤه قال: لا ولا قيراط. قال النّجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنّا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، وتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره. ولزمناه نحن فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا.
فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الّذي اتبعتموه؟ قال جعفر: أمّا الدين الذي كنّا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنّا نكفر بالله ونعبد الحجارة. وأما الذي تحولنا إليه فدين الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي:
يا جعفر تكلّمت بأمر عظيم فعلى رسلك. فأمر النجاشي فضرب بالناقوس. فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب. فلمّا اجتمعوا عنده قال النّجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى.
هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّا مرسلا؟ فقالوا: اللهم نعم. قد بشرّنا به عيسى (عليه السلام) فقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: هيه: أي هات ماذا يقول لكم هذا الرّجل؟ وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟ فقالوا: يقرأ علينا كتاب الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بحسن الجوار، وصلة الرحم، ويأمر للوالدين واليتيم، ويأمر بأن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال: اقرأ عليّ شيئا ممّا يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والرّوم. فغاضت أعين النّجاشي وأصحابه من الدمع. وقالوا: يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطّيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النّجاشي.
فقال: إنّهم يشتمون عيسى وأمّه. فقال النّجاشي: ما تقولون في هذا؟ فقرأ جعفر عليهم سورة مريم فلمّا أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النّجاشي نفسه من سواكه قدر ما يقذي العين وقال: ما زاد المسيح على ما يقولون.
ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبّكم أو
ثم ردّ النّجاشي على عمرو وأصحابه المال الّذي حملوه، وقال: إنّما هديّتكم رشوة إلي.
فاقبضوها، ولكنّ الله ملّكني ولم يأخذ مني رشوة. قال جعفر: فانصرفنا فكنّا في خير دار، وأكرم بلد وأنزل الله ذلك اليوم في خصومتهم على رسوله وهو في المدينة «١» إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: على مثله.
وَهذَا النَّبِيُّ: يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.
روى مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ ولاء من النبيّين وإنّ وليّي منهم أبي وخليل ربّي ثم قرأ الآية إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ... » [٦٠].
وَدَّتْ: تمنّت.
طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.... الآية: نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمّار ابن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، قد مضت هذه القصة في سورة البقرة.
وَدَّتْ: تمنّت. طائِفَةٌ: جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود.
لَوْ يُضِلُّونَكُمْ: يزلّونكم عن دينكم ويردّوكم إلى الكفر. وقال ابن جرير: يهلكونكم كقول الأخطل يهجو جرير بن عطية:
كنت القذى في موج أكدر مزبد... قذف الآتي به فضّل ضلالا «٢»
أي هلك هلاكا.
وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ.
يا أَهْلَ الْكِتابِ: يعني اليهود والنّصارى. لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ: يعني القرآن وبيان نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: إنّ نعته مذكور في التوراة والإنجيل.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ: تخلطون الْحَقَّ بِالْباطِلِ: الإسلام باليهوديّة والنصرانيّة.
وقال ابن زيد: التوراة الّتي أنزل الله على موسى بالباطل الّذي غيّرتموه، وحرّفتموه، وضيّعتموه، وكتبتموه بأيديكم.
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٦٨.
وقرأ أبو مجلز: تلبّسون بالتشديد. وقرأ حسن بن عمير: تلبسوا وتكتموا بغير نون ولا وجه له.
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا: الآية.
قال الحسن والسّدي: تواطأ إثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عربية، وقال بعضهم لبعض: أدخلوا دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم، وقالوا: إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقالوا: إنّهم أهل.
وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: هذا في تبيان القبلة لما صرفت إلى الكعبة. فشقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم. فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالّذي أنزل على محمد من أمر الكعبة، وصلّوا إليها أول النّهار ثمّ اكفروا آخر النّهار، وارجعوا إلى قبلتكم الصّخرة لعلّهم يقولون أهل الكتاب هم أعلم منّا فيرجعون إلى قبلتنا، فحذّر الله نبيّه مكر هؤلاء وأطلعه على سرّهم. فأنزل: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ: أوّله وسمّي الوجه وجها لأنّه أحسنه، وأول ما يواجه به الناظر فيرى، ويقال لأول الشيب وجهه.
قال الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك | فليأت نسوتنا بوجه نهار «١» |
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: هذا من كلام اليهود أيضا بعضهم لبعض ولا تؤمنوا ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم أي وافق ملّتكم وصلّى إلى قبلتكم واللام في قوله لِمَنْ: صلة. يعني ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم اليهوديّة كقول الله تعالى قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ «٢» قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ الآية: اختلف القرّاء والعلماء فيه، فقرأت العامّة: أن يؤتى بالفتح من الألف وقصرها ووجه هذه القراءة إنّ هذا الكلام معترض بين
(٢) سورة النمل: ٧٢.
، ولا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من العلم والحكمة والحجّة في المنّ والسلوى، وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات. ولا تؤمنوا أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لأنّكم أصحّ دينا منه، وهذا معنى قول مجاهد والأخفش.
وقال ابن جريج وابن زيّاب: قالت اليهود لسفلتهم: لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كراهية أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث علموا ما علمتم وحينئذ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ: يقولون عرفتم أنّ ديننا حقّ فلا تصدّقوهم لئلّا يعلموا مثل ما علّمتم ولا يحاجّوكم عند ربكم، ويجوز أن يكون على هذا القول لا مضمرا كقوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «١» يكون تقديره وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ لئلّا يؤتى أحد من العلم مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وألا يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ.
وقرأ الحسن والأعمش: إن يؤتى بكسر الألف ووجه هذه القراءة إنّ هذا كلّه من قول الله بلا اعتراض وأن يكون كلام اليهود تاما عند قوله إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ومعنى الآية: قُلْ يا محمد إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى ما يؤتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا أمّة محمد أَوْ يُحاجُّوكُمْ، يعني إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم وقوله: عِنْدَ رَبِّكُمْ أي عند فضل ربّكم لكم ذلك ويكون (أنّ) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي.
وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن وأبي مالك ومقاتل والكلبي. وقال الفرّاء: ويجوز أن يكون (أو) بمعنى حتّى كما يقال: تعلّق به أو يعطيك حقّك أي حتى يعطيك حقّك.
وقال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك «٢» إنّما | نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «٣» |
والمعنى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ما أعطى أحدا مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدّين والحجّة حتّى يحاجّوكم عند ربّكم.
وقرأ ابن كثير: أن يؤتى بالمدّ وحينئذ يكون في الكلام إختيار تقديرها: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونهم ولا تؤمنون بهم وهذا قول قتادة والربيع.
(٢) في المصدر: عيناك.
(٣) كتاب العين: ٨/ ٤٣٨.
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الآية.
قال أبو حاتم: إنّ معناه الآن فحذف لام الجزاء استخفافا وأبدلت مدّه كقراءة من قرأ:
أَنْ كانَ ذا مالٍ أي الآن كان.
وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ويكون أو بمعنى أن لأنّها حرفا شك وجزاء ويوضع أحدهما موضع الآخر وتقدير الآية: وإن يحاجّوكم يا معشر المؤمنين عند ربّكم فقل يا محمد: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ ونحن عليه.
ويحتمل أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين ويكون نظم الآية: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا معشر المؤمنين [فلا تشكّو عند تلبيس اليهود] «١» ف قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ.
وإن حاجّوكم ف قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ.
فهذه وجوه الآيات باختلاف القرآن. ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فيكون قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ إلى آخر الآية من كلام الله عزّ وجلّ. وذلك إنّ الله تعالى مثبّت لقلوب المؤمنين ومشحذ لبصائرهم لئلّا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم أي: ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ولا تصدّقوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الدين والفضل، ولا تصدّقوا أن يُحاجُّوكُمْ في دينكم عِنْدَ رَبِّكُمْ فيقدرون على ذلك ف إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ: فتكون الآية كلّها خطاب الله عز وجلّ للمؤمنين عند تلبيس اليهود عليهم لئلّا يزلّوا ولا يرتابوا والله أعلم. يدل عليه قول الضحّاك قال: إنّ اليهود قالوا: إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا فبيّن الله تعالى أنّهم هم المدحضون أي المغلوبون، وإنّ المؤمنين هم الغالبون.
وقال أهل الإشارة في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإنّ من لا يوافقكم لا يرافقكم.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ: بنبوّته ودينه ونعمته.
مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: وقال أبو حيّان: إجمال القول يبقى مع رجاء الرّاجي وخوف الخائف.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٨٥]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: الآية: قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في اليهود كلّهم، أخبر الله تعالى إنّ فيهم أمانة وخيانة. والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل.
فإن قيل: فأيّ فائدة في هذه الأخبار وقد علمنا أنّ النّاس كلّهم لم يزالوا كذلك منهم الأمين ومنهم الخائن.
قلنا: تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يأتمونهم على أموالهم أو يغترّوا بهم لاستحلالهم أموال المؤمنين.
وهذا كما
روي في الخبر: أتراعون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كي يحذره النّاس.
وقال بعضهم: الأمانة راجعة إلى من أسلم منهم، والخيانة راجعة إلى من لم يسلم منهم.
وقال مقاتل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من الذّهب فأدّاه إليه فمدحه الله.
وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: في مخاض بن عازورا وذلك أنّ رجلا من قريش استودعه دينارا فخانه.
وفي قوله تَأْمَنْهُ: قراءتان.
قرأ الأشهب العقيلي: تيمنه بكسر التاء وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف ابن مسعود ما لك لا تيمنّا.
وقراءة العامّة تَأْمَنْهُ بالألف. والدينار أصله دنّار فعوّض من إحدى النّونين ياء طلبا للخفّة لكثرة استعماله، يدلّ عليه أنّك تجمعه دنانير.
وفي قوله يُؤَدِّهِ وأخواته خمس قراءات.
فقرأها كلّها أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة: ساكنة الهاء.
وقرأ أبو جعفر ويعقوب: مختلسة مكسورة. وقرأ سلام: مضمومة مختلسة. وقرأ الزهري:
مضمومة مشبعة.
وقرأ الآخرون: مكسورة مشبعة فمن سكّن الهاء فإنّ كثيرا من النحاة خطّئوه، لأن الجزم ليس في الهاء إذا تحرك ما قبلها والهاء اسم المكنّى والأسماء لا تجزم.
قال الفرّاء: هذا مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها فيقول: ضربته ضربا شديدا، كما يسكّنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع.
وأنشد:
لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع | مال إلى أرطأة حقف «١» فاضطجع «٢» |
أنا ابن كلاب وابن أوس | فمن يكن قناعه مغطيّا فإنّي لمجتلى «٣» |
فإن يكن غثّا أو سمينا فإنّه | سيجعل عينيه لنفسه مغمضا |
(٢) لسان العرب: ٥/ ٣٠٤.
(٣) الصحاح: ٦/ ٢٤٤٧.
إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً: قرأ يحيى وثابت والأعمش وطلحة بكسر الدّال، والباقون بالضّم.
من ضمّ فهو من دام. يدوم، ومن لغة العالية. ومن كسر فله وجهان، قال بعضهم: هو أيضا من دام يدوم إلا أنّه على وزن فعل. يفعل، يقول دمت تدوم مثل مت. تموت، قاله الأخفش. وليس في الأفعال الثلاثيّة فعل- يفعل بكسر العين في الماضي وضمّها في الغابر من الصحيح الآخر فإنّ فضل. يفضل، ونعم. ينعم، ومن المعتلّ متّ. أموت ودمت. أدوم وهما لغة تميم.
قال أكثر العلماء: من كرام- يدام- فعل- يفعل مثل خاف- يخاف، وهاب يهاب.
قائِماً: قال ابن عبّاس: ملحا.
مجاهد: مواظبا. سعيد بن جبير: مرابطا. قتادة: قائما تقتضيه. السّدي: قائما على رأسه.
العتيبي: مواظبا بالاقتضاء وأصله إنّ المطالب للشيء يقوم فيه والتّارك له يقعد عنه، ودلالة قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: عاملة بأمر الله غير تاركة.
أبو روق: يعترف بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن سألته إيّاه في الوقت حينما تدفعه إليه يردّه عليك وإن أنظرته وأخّرته أنكر وذهب به وذلك الاستحلال والخيانة.
بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ: أي في حال العرب. نظيره هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «١»... سَبِيلٌ: إثم وحرج. دليله قوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «٢» وذلك إنّ اليهود قالوا لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلّها الله لنا لأنّهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم في دينهم يقولون لم يجعل الله لهم في كتابنا حرمة.
الكلبي: قالت اليهود إنّ الأموال كلّها كانت لنا فما كانت في أيدي العرب منها فهو لنا وإنّما ظلمونا وغصبونا ظلما فلا سبيل علينا في أخذنا إيّاه منهم.
(٢) سورة التوبة: ٩١.
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وفي الحديث: لما نزلت الآية قال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنّها موفاة «١» إلى البرّ والفاجر» «٢» [٦١].
وروى أبو إسحاق الهمداني عن صعصعة: إنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل المدينة الدّجاجة أو الشاة قال ابن عبّاس: ويقولون ماذا قال: يقولون:
ليس علينا بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «٣» إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ثمّ قال الله تعالى ردّا عليهم: بَلى: أي ليس كما قالوا ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ: الذي عاهد الله في التوراة من الإيمان بمحمّد والقرآن وأداء الأمانة.
والهاء في قوله بِعَهْدِهِ راجعة إلى الله عزّ وجلّ قد جرى ذكره في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. ويجوز أن تكون عائدة إلى أَوْفى.
وَاتَّقى: من الكفر والخيانة ونقض العهد.
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: من هذه صفته.
وعن الحسن: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنّه مؤمن، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [٦٢] «٤».
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ائتمن على أمانة فأدّاها ولو شاء لم يؤدّها زوّجه الله من الحور العين ما شاء» [٦٣] «٥».
الحسن عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «التّاجر الصّدوق الأمين مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» [٦٤] «٦».
وهب عن حذيفة قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر،
(٢) فتح القدير: ١/ ٣٥٤، تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٢٧.
(٣) سورة آل عمران: ٧٥.
(٤) كنز العمال: ١/ ١٧١.
(٥) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٢٧.
(٦) المستدرك: ٢/ ٦.
ثم حدّثنا عن رفعهما فقال: «ينام الرّجل النومة فينزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتثرا وليس فيه شيء». ثم أخذ حذيفة حصاة فدحرجها على ساقه قال: فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتّى يقال له: فلان رجلا أمينا، وحتّى يقال للرّجل: ما أجلده، ما أعقله، وأظرفه وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان. ولقد أتى عليّ حين ولا أبالي أيّكم بايعت لئن كان مسلما ليردّن على إسلامه ولئن كان يهوديا أو نصرانيا ليردّن على ساعيه فأنا اليوم فما كنت لأبايع رجلا منكم إلّا فلانا وفلانا «٢».
وقيل: أكمل الدّيانة ترك الخيانة، وأعظم الجناية خيانة النّاس.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا: اختلفوا في نزول هذه الآية:
فقال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رئيس اليهود كتبوا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمّد صلى الله عليه وسلّم وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا إنّه من عند الله لئلا يفوتهم الرّشى والمأكل التي كانت لهم على أتباعهم.
وقال الكلبي: إنّ ناسا من علماء اليهود أولي فاقة كانوا ذوي حظ من علم التوراة فأصابهم سنة. فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه فسألهم كعب: هل تعلمون أنّ هذا الرّجل رسول الله في كتابكم؟ فقالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنّا نشهد إنّه عبد الله ورسوله، قال كعب: قد كذبتم عليّ فأنا أريد أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا.
قالوا: فإنّه شبّه لنا. فرويدا حتى نلقاه. قال: فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته، ثم أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلّم فكتموه ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا: قد كنّا نرى رسول الله فأتيناه، فإذا هو ليس بالنعت الّذي نعت لنا وأخرجوا الّذي كتبوه. ففرح بذلك كعب، ومكرهم فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، نظيرها قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «٣» الآية.
وروى منصور بن أبي وائل قال: قال عبد الله: من حلف على عين يستحقّ بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان. فأنزل الله تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية.
وقال الأشعث بن قيس: فيّ نزلت، وكانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى
(٢) مسند أحمد: ٥/ ٣٨٣.
(٣) سورة البقرة: ١٧٤.
«من حلف على عين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» [٦٦] «١».
فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ... الآية.
وقال ابن جريج: إنّ الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أرض كانت في يده لذلك ليعزّره في الجاهلية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أقم بيّنتك؟». قال الرجل: ليس يشهد لي على الأشعث بن قيس أحد. قال: «لك يمينه» [٦٧]. فقام الأشعث وقال: أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فردّ إليه أرضه وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة مخافة أن يبقى في يده شيء من حقّه فهو لعقب ذلك الرجل من بعده «٢».
وروى بادان عن ابن عباس قال: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي استعدى عليه عبدان بن أشرع فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحلف، فلمّا همّ أن يحلف نزلت هذه الآية. فامتنع امرئ القيس أن يحلف وأقرّ لعبدان بحقّه ودفعه إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لك عليها الجنّة.
وقال مجاهد والشعبي: أقام رجلا سلعته أوّل النّهار فلمّا كان آخره جاء رجل فساومه فحلف لقد منعها أوّل النّهار من كذا ولولا المساء لما باعها به. فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ: أي يستبدلون بعهد الله وإيفاء الأمانة وَأَيْمانِهِمْ الكاذبة ثَمَناً قَلِيلًا.
أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: ونعيمها وثوابها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلاما ينفعهم ويسرّهم. قاله المفسرون، وقال المفضل: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: بقبول حجّة يحتجّون بها.
وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يحسن إليهم ولا يكلمهم خيرا. يقال نظر فلان لفلان، ونظر إليه إذا رحمه وأحسن إليه.
قال الشاعر:
فقلت انظري ما أحسن النّاس كلّهم... لبني غلّة صدبان قد شفّه الوجد
وعن أبي عمرو الجوني قال: ما نظر الله إلى شيء إلا رحمه ولو قضى أن ينظر إلى [أهل] النّار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم.
روى عبد الله بن كعب عن أبي أمامة الخازني: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة»، فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا قال: «وإن كان قضيبا من أراك» [٦٨] «٣».
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٤٣٦.
(٣) مسند أحمد: ٥/ ٢٦٠.
[٦٩] «١».
وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:
رجل على فضل ما بالطريق فمنع ابن السّبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلّا لم يف له، ورجل يساوم سلعته بعد العصر. فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدّقه الآخر وأخذها.
وروى الحارث الأعور عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم واليمين الفاجرة. فإنّها تدع الدّيار بلاقع من أهلها» [٧٠] «٢».
وروى معمّر في رجل من بني تميم عن أبي الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«اليمين الفاجرة تعقم الرحم» [٧١] «٣».
العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب» [٧٢] «٤».
وَإِنَّ مِنْهُمْ: يعني من أهل الكتاب الذين تقدّم ذكرهم وهم اليهود.
لَفَرِيقاً: طائفة وهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصّف، وحيي بن الأخطب، وأبو ياسر وحيي وسبعة بن عمرو الشاعر.
يَلْوُونَ: قرأ أهل المدينة يُلَوُّونَ مضمومة الياء مفتوحة اللام مشدّدة الواو على التكثير.
وقرأ حميد: يلون بواو واحدة على نية الهمز، ثم ترك الهمزة ونقل حركتها إلى اللام.
وقرأ الباقون بواوين ولام ساكنة مخففة ومعناها جميعا يعطفون أَلْسِنَتَهُمْ: بالتحريف المتعنّت وهو ما غيّروا من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرّجم. يقال: لوى لسانه عن كذا أي غيّره، ولوى الشيء عمّا كان عليه إذا غيّره إلى غيره، ولوى فلانا عن رأيه، إذا أماله عنه، ومنه: ليّ الغريم، قال النابغة الجعدي:
(٢) كنز العمال: ١٦/ ٩٦ ح ٤٤٠٥٢.
(٣) كنز العمال: ١٦/ ٦٩٦ ح ٤٦٣٨٠.
(٤) شرح مسلم: ٢/ ١٢٦.
ونظيره قوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا... الآية.
لِتَحْسَبُوهُ: لتظنّوا ما حرّفوا مِنَ الْكِتابِ: الذي أنزله الله.
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ... وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: إنّهم كاذبون.
وروى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: إنّ الآية نزلت في اليهود والنّصارى جميعا والذين هم حرّفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض وألحقوا به ما ليس منه فأسقطوا منه الدين الحنفي، فبيّن الله تعالى كذبهم للمؤمنين.
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الآية.
قال الضحّاك ومقاتل: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني عيسى (عليه السلام) أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ يؤتى الحكمة. نزلت في نصارى أهل نجران.
وقال ابن عباس وعطاء: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ: يعني القرآن وذلك
أنّ أبا رافع القرظي من اليهود والرئيس من نصارى أهل نجران قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» [٧٣] «٢». فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن: بلغني أنّ رجلا قال: يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله» [٧٤] «٣». فأنزل الله ما كانَ لِبَشَرٍ: يعني ما ينبغي لبشر
، كقوله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً «٤» وكقوله ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا «٥» : يعني ما ينبغي.
وقال أهل المعاني: هذه اللام منقولة وأن بمعنى اللام، وتقدير الآية: ما كان لبشر ليقول ذلك. نظير قوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «٦» : أي ما كان الله ليتخذ ولدا وقوله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «٧» أي ما كان لنبىّ ليغلّ. والبشر جميع بني آدم لا واحد من لفظه: كالقوم والجيش، ويوضع موضع الواحد والجمع.
(٢) تفسير الطبري: ٣/ ٤٤١.
(٣) أسباب نزول الآيات: ٧٤، تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٣١.
(٤) سورة النساء: ٩٢.
(٥) سورة النور: ١٦.
(٦) سورة مريم: ٣٥.
(٧) سورة آل عمران: ١٦١.
ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: نصب على العطف، وروى محبوب عن أبي عمرو: ثمّ يقولُ بالرفع على الاستئناف.
كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ: قال ابن عباس: هذه لغة مزينة تقول للعبيد عباد.
وَلكِنْ كُونُوا: أي ولكن يقول كونوا، فحذف القول.
رَبَّانِيِّينَ: اختلفوا فيه:
فقال عليّ وابن عباس والحسن والضحّاك: كونوا فقهاء علماء.
مجاهد: فقهاء وهم دون الأحبار. أبو رزين وقتادة والسّدّي: حكماء علماء، وهي رواية عطية عن ابن عباس. وروى سعيد بن جبير عنه: فقهاء معلّمين.
وقال مرّة بن شرحبيل: كان علقمة من الرّبانيّين الذين يعلّمون النّاس القرآن.
وروى الفضل بن عياض عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: حكماء أتقياء.
ابن زيد: ولاة النّاس، وقادتهم بعضهم متعبدين مخلصين.
عطاء: علماء حكماء نصبا لله في خلقه. أبو عبيد: لم يعرف العرب الرّبانيّين.
أبو [عبيد] : سمعت رجلا عالما يقول: الرّباني: العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي.
العارف بأنباء الأمّة وما كان وما يكون.
المؤرّخ: كونوا ربّانيّين تدينون لربّكم، كأنّه فعلاني من الربوبية.
وقال بعضهم: كان في الأصل ربّي، فأدخلت الألف للتضخيم وهو لسان السريّانية، ثم أدخلت النون لسكون الألف كما قيل: صنعاني وبحراني وداراني.
المبّرد: الرّبانيون: أرباب العلم واحدها ربّان وهو الذي يرث العلم ويربّب النّاس أي يعلّمهم ويصلحهم فيقوم بأمرهم، والألف والنون للمبالغة. كما قالوا: ريّان وعطشان وشبعان وغوثان ونعسان من النّعاس ووسنان ثم ضمّ إليه ياء النسبة كما قيل. وقال الشاعر:
لو كنت مرتهنا في الحقّ أنزلني | منه الحديث وربّاني أحباري «٢» |
وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس: مات ربّاني هذه الأمّة.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٢٢.
تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ: قرأ السلمي والنخعي وابن جبير والضحّاك وأهل الكوفة: تُعَلِّمُونَ بالتشديد من التعليم، واختاره أبو عبيدة، وقرأ الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم، واختاره أبو حاتم، وقال أبو عمرو: وتصديقها وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فلم يقل يدرسون وقرأ الحسن تُعَلِّمُونَ، التاء والعين وتشديد اللام على معنى تعلمون، وقرأ أبو عبيدة: تُدْرِسُونَ من أدرس يدرس. وقرأ سعيد بن جبير: تُدَرِّسُونَ من التدريس. الباقون: يدرسون من الدرس أي يقرءون، نظيره في سورة الأعراف وَدَرَسُوا ما فِيهِ «٣».
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا عبد مملوك إلّا ولله عزّ وجلّ عليه حقّ واجب أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه، ثم تلا هذه الآية وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» «٤».
وَلا يَأْمُرَكُمْ: قرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة: وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا على قوله ثُمَّ يَقُولَ.
وقيل: على إضمار أنّ وهو على هذه القراءة مردود على البشر. وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف والانقطاع من الكلام الأوّل، يدلّ عليه قراءة عبد الله وطلحة ولن يأمركم ثمّ اختلفوا فيه، فقرأ الأكثر على معناه وَلا يَأْمُرَكُمْ الله. وقال ابن جريح: وَلا يَأْمُرَكُمْ محمد عليه الصّلاة والسّلام، وقيل: وَلا يَأْمُرَكُمْ البشر.
أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: كقول قريش وبني مليح حيث قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود والنّصارى حيث قالوا في المسيح وعزير ما قالوا.
أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: على ظهر التعجّب والإنكار، يعني: لا يفعل هذا.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، قرأ سعيد بن جبير لَمَّا بتشديد الميم، وقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي بجرّ اللام وتخفيف الميم.
وأما الباقون: بفتح اللام وتخفيف الميم، فمن فتح اللام وخفّف الميم فقال الأخفش: هي
(٢) سورة مريم: ٢٩. [.....]
(٣) سورة الأعراف: ١٦٩.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ١٢٢.
وقال الفرّاء: من فتح اللام جعلها لاما زائدة لقوله: اليمين إذا وقعت على جملة صيّرت فعل ذلك الجزاء على هيئة فعل، وصيّرت جوابه كجواب اليمين، والمعنى: أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به، للّام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ.
وقال المبرّد والزجّاج: هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء كما تدخل على أن، ومعناه: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، اللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب الجزاء كقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ «١» ونحوه.
وقال الكسائي: لَتُؤْمِنُنَّ: متصل بالكلام الأول وجواب الجزاء في قوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ، ومن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الذي، ومعناه: الذي آتيتكم يعني: أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي أمامهم من كتاب وحكمة ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من بعد الميثاق لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف، وهو كما نقول في الكلام أخذت ميثاقك لتفعلن كذا وكذا كأنك قلت: استحلفتك لتفعلن.
وقال صاحب النظم: من كسر اللام فهو بمعنى بعد يعني: بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كقول النابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها | لستة أعوام وذا العام سابع «٢» |
قرأ أهل الكوفة: آتيناكم على التعظيم، وقرأ الآخرون: آتَيْتُكُمْ على التفريد، وهو الاختيار لموافقة الخط كقوله: وَأَنَا مَعَكُمْ «٣» والقول مثمر في الآية على الأوجه الثلاثة تقديرها: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ).
واختلف المفسّرون في معنى هذه الآية، فقال قوم: إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء أن
(٢) لسان العرب: ٤/ ٥٦٩.
(٣) سورة آل عمران: ٨١.
وقال علي (رضي الله عنه) : لم يبعث الله نبيا. آدم ومن بعده. إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بأخذ العهد على قومه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه
، وقال آخرون: إنّما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين، وهو قول مجاهد والربيع.
قال مجاهد: هذا خلط من الكتاب وهو من قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، قالوا: ألا ترى إلى قوله ثم جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وإنّما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين.
وقال بعضهم: إنّما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم [ليؤمنن به]، ففرد الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع، وهذا معنى قول ابن عباس وهذا أولى بالصواب.
قال الله: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي وقبلتم على ذلك عهدي، نظير قوله تعالى: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ «١» أي فاقبلوه، وقوله تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي لا يقبل منها فداء، وقوله: يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها، قالُوا أَقْرَرْنا.
قال الله: فَاشْهَدُوا على أنفسكم وعلى أتباعكم وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عليكم وعليهم.
قال ابن عباس: فَاشْهَدُوا: يعني فاعلموا، قال الزجّاج: فَاشْهَدُوا أي فبيّنوا لأن الشاهد هو الذي عين دعوى المدّعى، وشهادة الله للنبيين بيّنوا أمر نبوتهم بالآيات والمعجزات، وقال سعيد بن المسيب: قال الله تعالى للملائكة: فَاشْهَدُوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الإقرار والإشهاد فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ العاصون، الخارجون عن الإيمان.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الآية.
قال ابن عباس: اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم (عليه السلام) كل فرقة زعمت أنّه أولى بدينه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ
وهو قراءة الحسن وحميد ويعقوب وسلام وسهل وصفوان بالياء لقوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
وَلَهُ أَسْلَمَ خضع وانقاد من في السموات والأرض طَوْعاً والطوع الانقياد والاتباع بسهولة من قولهم: فرس طوع العنان، أي منقاد وَكَرْهاً والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس، كرها بضم الكاف وهما مصدران وضعا موضع الحال، كأنّه قال: وله أسلم من في السموات والأرض طائعين وكارهين، واختلفوا في قوله طَوْعاً وَكَرْهاً،
فروى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: «الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض» [٧٥] «١».
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي فإنّ أصحابي أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف السيف» [٧٦] «٢».
وقال الحسن والمفضّل: الطوع لأهل السموات خاصة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعا ومنهم من أسلم كرها.
ابن عباس: عبادتهم لله أجمعين طوعا وكرها وانقيادا له.
الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: كل بني آدم أقرّ على نفسه أنّ الله ربّي وأنا عبده، فهذا الإسلام لو استقام عليه، فلمّا تكلّم به صار حجة عليه، ثم أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومنهم من شهد أنّ الله ربّي وأنا عبده، ثم أخلص العبودية فهذا الذي أسلم طوعا، وقال الضحّاك: هذا حين أخذ منه الميثاق وأقرّ به.
مجاهد: طَوْعاً: ظل المؤمن وَكَرْهاً: ظل الكافر، يدلّ عليه قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «٣»، وقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «٤».
الشعبي: هو استعاذتهم به عند اضطرارهم، يدلّ عليه قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «٥».
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٢٨.
(٣) سورة الرعد: ١٥.
(٤) سورة النحل: ٤٨.
(٥) سورة العنكبوت: ٦٥.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «١».
الكلبي: طَوْعاً: الذين ولدوا في الإسلام، وَكَرْهاً: الذين أجبروا على الإسلام.
عكرمة: وَكَرْهاً: من اضطرته [الحجة] إلى التوحيد، يدلّ عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «٢»، وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «٣».
ابن كيسان: وَلَهُ أَسْلَمَ أي خضع مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيما صيّرهم عليه وصوّرهم فيه وما يحدث فهم لا يمتنعون عليه، كرهوا ذلك أو أحبوه.
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «٤» الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية.
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية نزلت في اثني عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة ولحقوا بمكة كفارا منهم: الحرث بن سويد الأنصاري أخو الحلاس بن سويد، وطعمة بن أشرف الأنصاري، ومقيس بن صبابة الليثي، وعبد الله بن أنس بن خطل من بني تميم بن مرة، ووجوج بن الأسلت، وأبو عاصم بن النعمان، فأنزل الله فيهم: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٩٢]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
(٢) سورة الزخرف: ٨٧.
(٣) سورة العنكبوت: ٦١. [.....]
(٤) سورة آل عمران: ٨٣.
قال الشاعر:
كيف نومي على الفراش ولمّا | تشمل الشام غارة شعواء «١» |
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «٣» أي لا يرشدهم ولا يوفقهم، وهو خاص فيمن علم الله عز وجل منهم، وأراد ذلك منهم، وقيل: معناه: لا يثيبهم ولا ينجيهم [إلى الجنة]. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ... «٤» إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وذلك
أنّ الحرث بن سويد لما لحق بالكفار ندم، فأرسل إلى قومه أن اسألوا رسول الله هل له من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٥» لما كان، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه، فقال الحرث: إنّك والله ما علمت لصدوق، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصدق منك، وأنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة، فرجع الحرث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه ولحق بالروم فتنصّر، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً....
قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية في اليهود، كَفَرُوا بعيسى (عليه السلام) والإنجيل بَعْدَ إِيمانِهِمْ بأنبيائهم وكتبهم، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن.
أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى، كَفَرُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما رأوه وعرفوه بَعْدَ إِيمانِهِمْ بنعته وصفته في كتبهم، ثُمَّ ازْدادُوا ذنوبا في حال كفرهم. مجاهد: نزلت في الكفار كلهم، أشركوا بعد إقرارهم بأنّ الله خالقهم، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه.
الحسن: كلّما نزلت عليم آية كفروا بها فازدادوا كفرا. قطرب: كما ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد رَيْبَ الْمَنُونِ.
(٢) سورة التوبة: ٧.
(٣) سورة التوبة: ١٩.
(٤) سورة آل عمران: ٨٧.
(٥) سورة آل عمران: ٨٩.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية، فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد سبقت حكمة الله تعالى في قبول توبة من تاب؟ قلنا: اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: لن يقبل توبتهم عند الغرغرة والحشرجة.
قال الحسن وقتادة وعطاء: لن يقبل توبتهم لأنّهم لا يؤمنون إلّا عند حضور الموت، قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ... الآية.
مجاهد: لن يقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر. ابن عباس وأبو العالية: لن يقبل توبتهم ما أقاموا على كفرهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي حشوها، وقدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها ذهبا، نصب على التفسير في قول الفراء.
وقال المفضّل: ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم، كقولك: عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، وإذا قلت: عشرون درهما فسّرت العدد، وكذلك إذا قلت: هو أحسن الناس، فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في أي شيء هو، فإذا قلت: وجها أو فعلا منه فإنّك بيّنته ونصبته على التفسير، وإنّما نصبته لأنّه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلمّا خلا من هذين نصب لأنّ النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه، وقال الكسائي: نصب ذهبا على إضمار من، أي من ذهب كقولهم: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي من صيام.
وَلَوِ افْتَدى بِهِ:
روى قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقال لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك»
[٧٧] «١»، قال الله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «٢».
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ: يعني الجنّة، قاله ابن عباس ومجاهد وعمر بن ميمون والسدّي، وقال عطية: يعني الطاعة.
أبو روق: يعني الخير، مقاتل بن حيان: التقوى، الحسن: لن يكونوا أبرارا.
(٢) سورة آل عمران: ٩١.
مجاهد والكلبي: هذه الآية منسوخة، نسختها آية الزكاة.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أراد بهذه الآية الزكاة يعني: حتى تخرجوا زكاة أموالكم، وقال عطاء: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحّاء أشحّاء، تأملون العيش، وتخشون الفقر، وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغي به وجه الله تعالى فإنّه من الذي عنى الله سبحانه بقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حتى التمرة.
وروي أنّ أبا طلحة الأنصاري كان من أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بئر ماء «١»، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنّ الله يقول:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإنّ أحبّ أموالي إليّ بئر ماء وإنّها صدقة أرجو برّها وذخرها عند الله عز وجل، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ، ذلك مال رابح لك وقد عرفت «٢» ما قلت، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» [٧٨] «٣».
فقال له: أفعل يا رسول الله، فقسّمها في أقاربه وبني عمّه.
وروى معمّر عن أيوب وغيره قال: لما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جاء زيد بن حارثة بفرس كانت له يحبّها وقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد. فكان زيدا واجدا في نفسه وقال: إنّما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنّ الله قد قبلها منك» [٧٩] «٤».
وقال حوشب: لمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قالت امرأة لجارية لها لا تملك غيرها: أعتقك وتقيمين معي غير أنّي لست أشرط عليك ذلك، فقالت: نعم، فلمّا أعتقتها ذهبت وتركتها فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته به فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دعيها فقد حجبتك عن النار، وإذا سمعت بسبيي قد جاءني فأتيني» [٨٠].
وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قالوا: كتب عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) أن يبتاع جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها
(٢) في المصدر: «سمعت».
(٣) سنن الدارمي: ١/ ٣٩٠، وصحيح البخاري: ٢/ ١٢٦.
(٤) الدر المنثور: ٢/ ٥٠، تفسير القرطبي: ٤/ ١٣٢.
وروى حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال: خطرت على قلبي هذه الآية:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ... فتذكرت ما أعطاني الله، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة فقلت: هي حرة لوجه الله، ولولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله عز وجل لنكحتها.
ويقال: ضاف أبا ذر الغفاري ضيف فقال للضيف: إنّي مشغول فاخرج إلى أبواء فإنّ لي بها إبلا فأتني بخيرها، فذهب وجاء بناقة مهزولة فقال له أبو ذر: جئتني بشرها، فقال: وجدت خير الإبل فحلها فتذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
وعن رجل من بني سليم يقال له عبد الله بن سيدان عن أبي ذر قال: في المال ثلاث شركاء: القدر لا يستأمرك أن تذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت أو فعل، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم، والثالث أنت فإن استطعت أن لا يكون أعجب إليك مالا فإنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنّ هذا الجمل كان مما أحب من مالي فأحببت أن أقدّمه لنفسي.
وروي عن ربيع بن خيثم أنّه وقف سائل على بابه، فقال: أطعموه سكرا فقيل: ما يصنع هذا بالسكّر فنطعمه خبزا فهو أنفع له، فقال: ويحكم أطعموه سكّرا فإنّ الربيع يحب السكّر.
وروي عن الربيع بن خيثم أيضا أنّه جاءه سائل في ليلة باردة، فخرج إليه فرآه كأنّه مقرور قال: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فنزع برتشا له وأعطاه إياه وذكر أنّه كساه عروة.
وبلغنا أن زبيدة أم جعفر اتخذت مصحفا في تسعين قطعة كتب بالذهب على الرق وجعلت ظهورها من الذهب مرصعة بالجواهر، فبينما هي تقرأ القرآن ذات يوم فقرأت هذه الآية، فلم يكن شيء أحبّ إليها من المصحف، فقالت: عليّ بالصاغة، فأمرت بالذهب والجواهر حتى بيعت وأمرت حتى حفرت الآبار وأشرف الحياض بالبادية.
وقال أبو بكر الورّاق: دلّهم بهذه الآية على الفتوة، وقال: لن تنالوا برّي بكم إلّا ببرّكم إخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم وما تحبّون، فإذا فعلتم ذلك نالكم برّي وعطفي.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: أي فإنّ الله يجازي عليه لأنّه إذا علمه جازى عليه، وتأويل (ما) تأويل الشرط والجزاء وموضعها نصب لينفقوا، المعنى: وأي شيء ينفقون فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ١٠٣]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية.
قال أبو روق والكلبي: كان هذا حين
قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنا على ملة إبراهيم».
فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه» [٨١] «١» فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرّمه فإنّه كان محرّما على نوح وإبراهيم هاجرا حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ المحلل لكم اليوم كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ.
إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ وهو يعقوب عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ.
واختلف المفسّرون في ذلك الطعام، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وأبو مجلز: هي العروق وكان [سبب] ذلك أنّ يعقوب (عليه السلام) اشتكى عرق النساء، وكان أصل وجعه ذلك، ما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك أنّ يعقوب بن إسحاق كان قد نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له: يا يعقوب إنّك رجل قوي، هل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، ثم غمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك، ثم قال: أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنّك قد كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجا، فلمّا قدمها يعقوب أراد ذبح ابنه ونسي قول الملك، فأتاه الملك فقال: أنا غمزتك هذه الغمزة للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أن عصابة حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه عليه، فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحبّ الطعام والشراب إلى نفسه، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها» [٨٢] «٢» فقالوا: اللهم نعم.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أصاب يعقوب عرق النساء ووصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل، فقالت اليهود: إنّا حرّمنا على أنفسنا لحوم الإبل لأنّ يعقوب حرّمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية.
وقال الحسن: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لحوم الجزور تعبدا لله عز وجل فسأل ربّه عز وجل أن يجيز له ذلك، فحرّمه الله على ولده، وقال عكرمة: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ زائدة الكبد والكليتين والشحم إلّا ما على الظهور، وروى ليث عن مجاهد قال: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لحوم الأنعام ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرّم على إسرائيل بعد نزول التوراة، وقال السدي:
إنّ الله لما أنزل التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمونها قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب (عليه السلام)، وقال عطية: إنّما كان ذلك حراما عليهم لتحريم إسرائيل ذلك عليهم وذلك أنّ إسرائيل قال حين أصابه عرق النساء: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرّما عليهم في التوراة.
وقال الكلبي: لم يحرّمه الله عليهم في التوراة وإنّما حرّم عليهم بعد التوراة لظلمهم وكفرهم، وكان بنو إسرائيل كلما أصابوا ذنبا عظيما حرّم الله عليهم طعاما طيبا، أو صبّ عليهم
(٢) مسند أحمد: ١/ ٢٧٣ بتفاوت يسير.
وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك علينا حراما، ولا حرّم الله عليهم في التوراة وإنّما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتّباعا لأبيهم، وأضافوا تحريمه إلى الله فكذّبهم الله تعالى فقال:
قُلْ لهم يا محمد فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها حتى يتبين أنّه كما يقول لا كما قلتم، فلم يأتوا، فقال الله فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
«٣».
وروى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عرق النساء يأخذ أليّة كبش عربي لا صغير ولا كبير فيقطع صغارا فيخرج أهالته فيخرج على ثلاث قسم، ويأكل كل يوم على ريق النفس «٤»، قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة فشفاهم الله «٥».
وروى شعبة أنّه رأى شيخا في زمن الحجاج بن يوسف يقول لعرق النساء: أقسم عليك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينّك بنار أو لألحقنك بموسى، قال شعبة: فإنّه يقول ذلك ويمسح على ذلك الموضع فيبرأ بإذن الله.
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الآية.
قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقال اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وقرأ ابن السميقع: وَضَعَ بفتح الواو والضاد يعني وضعه الله لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وليس ذلك في بيت المقدس وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وليس ذلك في بيت المقدس وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وليس ذلك في بيت المقدس.
واختلف العلماء في تأويل قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ فقال بعضهم: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند ما خلق الله السماء والأرض فخلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الأرض فدحيت الأرض من تحتها، هذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد وقتادة والسدي.
(٢) سورة الأنعام: ١٤٦.
(٣) سورة آل عمران: ٩٤.
(٤) مسند أحمد: ٣/ ٢١٩ بتفاوت يسير وموجود بتمامه في تفسير القرطبي: ٤/ ١٣٦.
(٥) المستدرك على الصحيحين: ٢/ ٢٩٢.
يروى أنّ علي بن الحسين سئل عن بدء الطوفان، فقال: إنّ الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور الذي ذكره الله، وقال للملائكة: طوفوا به ودعوا العرش، فطافت الملائكة به وتركوا العرش، وكان أهون عليهم، ثم أمر الله الملائكة الذين يسكنون في الأرض أن يبنوا له في الأرض بيتا على مثاله وقدره، فبنوا، واسمه الضراح، وأمر من في الأرض من خلقه أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وقيل: هو أول بيت بناه آدم في الأرض، قاله ابن عباس.
وقال الضحاك: إنّ أول بيت وضع فيه البركة وأحسن من الفردوس الأعلى.
وروى سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي (رضي الله عنه) فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت كان في الأرض؟ قال: لا، فأين كان قوم نوح وعاد وثمود، ولكنه أول بيت مبارك وهدى وُضِعَ لِلنَّاسِ.
وقيل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يحج إليه لله، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل:
هو أول بيت جعل قبلة للناس.
وقال الحسن والكلبي والفراء: معناه: إن أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه، يدل عليه قوله: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «١» يعني مساجدهم وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ «٢» يعني المساجد.
إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه سئل عن أول مسجد وُضِعَ لِلنَّاسِ، قال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» [٨٣] «٣»، وسئل: كم بينهما قال: أربعون عاما حيث ما أدركتك الصلاة فصلّ فثم سجد للذي ببكة.
قال الضحاك والمدرج: هي مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، فتقول: سبد رأسه وسمد، واغبطت عليه الحمى واغمطت، وضربة لازم ولازب.
وقال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة: المسجد والبيت، ومكة: الحرم كله.
وقال الآخرون: مكة اسم البلد كله، وبكة موضع البيت والمطاف، وسمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها: أي يزدحمون، يبكي بعضهم بعضا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض، ويمر بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلّا بمكة.
(٢) سورة النور: ٣٦.
(٣) مسند أحمد: ٥/ ١٦٧.
إذا الشريب أخذته أكه | فخلّه حتى يبك بكه «١» |
وقال عبد الرحمن بن الزبير: سميت بكة لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها، فلم يقصدها جبار يطلبها إلّا وقصمه الله، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مكت الفصيل ضرع أمّه وامتكّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، قال الشاعر:
مكّت فلم تبق في أجوافها دررا «٢»
عن الحسين عن ابن عباس قال: ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة ترفع فيها الحسنات بكل واحدة مائة ألف ما يرفع بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض يكتب لمن صلّى فيها ركعة واحدة بمائة ألف ركعة ما يكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب لمن تصدّق فيها بدرهم] واحد يكتب له مائة ألف درهم ما يكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب] لمن فيها شراب الأحبار ومصلى الأخيار إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ما مس شيئا أحد فيها إلّا كانت تكفير الخطايا إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا فيها آمن له الملائكة فيقولون: آمين آمين ليس إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة [.......] «٣»
إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ورد إليها جميع النبيين [ما قد] صدر إلى مكة، وما أعلم بلدة يحشر فيها من الأنبياء والأبرار والفقهاء والعباد من الرجال والنساء ما يحشرون من مكة أي يحشرون وهم آمنون يوم القيامة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كل يوم من روح الجنّة ورائحتها ما ينزل بمكة حرسها الله «٤».
مُبارَكاً: نصب على الحال وَهُدىً لِلْعالَمِينَ: لأنه قبلة المؤمنين فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ:
قرأ ابن عباس: آية بينة.
مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [.......] «٥»
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٣٨.
(٣) كلمات غير مقروءة في المخطوط.
(٤) بطوله في فضائل مكة للبصري مع تفاوت: ٢٠.
(٥) سقط في أصل المخطوط من الآية ٩٧ إلى الآية ١٠٢. [.....]
[حدثنا ابن حميد قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله المزني عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الضابحى عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئا من ذلك] «١».
فأخذتم [بحدّه] في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، فلمّا انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ، وكان أول مقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما، فإنّ أسعد ابن خالتي، ولولا ذاك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني الأشهل، وكلاهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حرسه ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في حائط، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد جاءك والله، فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس نكلّمه، قال: فوقف عليهما مشتّما، فقال: ما جاء بكما إلينا؟
تسفّهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكرهه، قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن.
قال: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهّر ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهّر ثوبه، وشهد بشهادة الحق، ثم قام وصلّى ركعتين، ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلمّا وقف على
وفي الحديث أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقروك، فقام سعد مغضبا مبادرا للذي ذكره له، فأخذ الحربة منه، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيدا إنّما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما مشتّما ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره، وقد قال لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن تبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته قد كفاك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهّر ثوبك وتشهد بشهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين، فقام فاغتسل فطهّر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلمّا رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلمّا وقف عليه قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلّا مسلما ومسلمة ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسيد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها رجال ونساء من المسلمين إلّا ما كان من بني أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف [وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه] «١» كان فيهم أبو قيس الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا: إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية.
قال كعب بن مالك- وكان شهد ذلك-: فلمّا فرغا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، فكنّا نكتم عمّن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، وكلّمناه وقلنا له: يا جابر إنّك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنّك ترغب بك عمّا أنت فيه أن نكون حطبا للنار غدا، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه
فإن كنتم ترون أنكم وافون له ما دعوتموه إليه و [مانعوه] «١» ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن دعوه فإنّه في عز ومنعة.
قال: فقلنا: سمعا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك ولربك ما شئت.
قال: فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وقال: «أبايعكم على أن تمنعوني عمّا تمنعون منه نساءكم».
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة [وإنّا] «٢» ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول. والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالا. يعني اليهود. وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك [الله] أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم وأنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام» [٨٤] «٣»، فأخرجوا اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس».
قال عاصم بن عمر بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العباس بن
(٢) في المخطوط: نسانا.
(٣) الطبقات الكبرى: ١/ ٢٢٣.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا والله زنا العقبة اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك». ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إلى رحالكم». فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم».
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا [ف] غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا وقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. وصدقوا لم يعلموا. وبعضنا ينظر إلى بعض، فقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ. وأنت سيد من ساداتنا. مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟
قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إليّ وقال: والله لتنتعلنّهما، فقال أبو جابر: والله أخفظت الفتى فاردد إليه نعليه. قال: قلت: لا أردهما، قال: والله صلح، والله لئن صدق لأسلبنه.
قال: ثم انصرف أبو جابر إلى المدينة، وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إنّ الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها» [٨٥] «٢».
فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم الأنصار، فكان ممن هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، ثم عبد الله بن
(٢) بطوله في تاريخ الطبري: ٢/ ٨٨ إلى ٩٤، ومسند أحمد: ٣/ ٤٦٢.
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ «٢» وفي حم السجدة فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ «٣» وفي الكهف:
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً «٤».
بِنِعْمَتِهِ: بدينة الإسلام إِخْواناً في الدين والولاية، نظيره قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «٥».
وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا. وأشار بيده إلى صدره. حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» [٨٦] «٦».
أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، وشبك بين أصابعه «٧».
الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: المؤمنون كرجل واحد.
قال: «المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر» [٨٧] «٨».
وَكُنْتُمْ يا معشر الأوس والخزرج عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. قال الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سجله | نابتة فوق شفاها بقله |
(٢) المائدة: ٣١.
(٣) فصلت: ٢٣.
(٤) الكهف: ٤١.
(٥) سورة الحجرات: ١٠.
(٦) مسند أحمد: ٢/ ٢٨٨. ٦٧. ٢٧٧.
(٧) صحيح البخاري: ١/ ١٢٣. [.....]
(٨) مسند أحمد: ٤/ ٢٧٧.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١١٥]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي ولتكونوا أمة من صلة، كقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «١»، ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا «٢» الأوثان وإنها رجس. واللام في قوله وَلْتَكُنْ لام الأمر. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: الإسلام وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعنا ابن الزبير يقرأ: (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم). وروي مثله عن عثمان [........] «٣».
فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
روى حسان بن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» [٨٨] «٤».
(٢) في المخطوط بعدها: من.
(٣) بياض في مصوّرة المخطوط.
(٤) الكامل لابن عدي: ٦/ ٨٤.
عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول الله، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلّا ائتمرنا به، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلّا انتهينا عنه، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، فقال: «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله» [٩٠] «١».
الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأسا فجعل ينقر في موضعه، وقال له أصحابه: أي شيء تصنع، تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال: هو مكاني، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا» [٩١] «٢».
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له» [٩٢].
وقال أبو الدرداء: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم.
وقال حذيفة اليماني: يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
وقال الثوري: إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه محمودا عند القوم فاعلم أنه مداهن «٣».
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. الآية. قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمّة.
عن عبد الله بن شدّاد قال: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار، كلاب النار. مرتين أو ثلاثة. شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم. [قيل] : أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: «إن هو من جل رأي رأيته، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول
(٢) المعجم الأوسط: ٣/ ١٤٩ بتفاوت.
(٣) سير أعلام النبلاء: ٧/ ٢٧٨.
وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمقامي فيكم ثم قال: «من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ «٢» وهو من الاثنين أبعد» [٩٣] «٣».
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ،... يَوْمَ نصب على الظرف، أي في يوم، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب (تِبيض وتِسود). بكسر التاءين. على لغة تميم.
وقرأ الزهري: (تبياض وتسواد). فأما الذين [اسوادت] «٤».
و [المعنى] «٥» تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين. وقيل: يوم تبيض وجوه المخلصين، وتسود وجوه المنافقين.
وقال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه قريظة والنضير. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى «٦»، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن. ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم، فيأتهم الله عز وجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعا مؤمنا، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزنا شديدا واسودت وجوههم فيقولون: ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا ف وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ فيقول الله للملائكة: انظروا كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.
(٢) الفذّ: الفرد. كتاب العين: ٨/ ١٧٧. فذ.
(٣) المصنف لعبد الرزاق: ١١/ ٣٤١.
(٤) في المخطوط: اسودن.
(٥) في المخطوط: معنى.
(٦) سورة: النساء: ١١٥. [.....]
ثم بين حالهم ومآلهم فقال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ، فيه اختصار يعني:
فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ واختلفوا فيه فروى الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «٥»، فيعرفهم الله عز وجل يوم القيامة بكفرهم فيقول: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يوم الميثاق.
قال الحسن: هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
وقال يونس بن أبي مسلم: سألت عكرمة عن هذه الآية فقال: لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام، ولكني سأجمل لك: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم، مصدقين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، ولما بعث كفروا به، فذلك قوله أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ.
وقال الآخرون: هم من أهل ملتنا.
قال الحارث الأعور: سمعت عليا (رضي الله عنه) على المنبر يقول: «إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار» [٩٤]. ثمّ قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الآية.
ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان [أَكَفَرْتُمْ]، يدل عليه
حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يأتي على أمتي زمان يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا» [٩٥] «٦».
وقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم.
ودليل هذه التأويلات قوله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «٧»
(٢) يونس: ٢٧.
(٣) القيامة: ٢٢.
(٤) القيامة: ٢٤- ٢٢.
(٥) الأعراف: ١٧٢.
(٦) المصنّف: ٨/ ٥٩٣، مسند ابن راهويه: ١/ ٤٠١.
(٧) الزمر: ٦٠.
أصحابي، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» [٩٦] «١».
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ: جنّة الله هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ فيعاقبهم بلا جرم.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ.
الآية. قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ هم الذين هاجروا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. وروى جويبر عن الضحاك قال: هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم. يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
وعن عمر بن الحصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى «٢» من رآني» [٩٧] «٣».
الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» [٩٨] «٤».
وقال آخرون: هم جمع المؤمنين من هذه الأمة وقوله: كُنْتُمْ يعني أنتم كقوله: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «٥» أي من هو في المهد. وإدخال (كان) واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد، كقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا «٦» وقال في موضع آخر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «٧».
وقال محمد بن جرير «٨» : هذا بمعنى التمام، وتأويله: خلقتم ووجدتم خير أمة.
(٢) كذا في المخطوط مكرّرة.
(٣) المعجم الصغير: ٢/ ٣٤، ومعرفة علوم الحديث للحاكم: ٢٨٨.
(٤) مسند أحمد: ٣/ ١١، وسنن الترمذي: ٥/ ٣٥٧.
(٥) مريم: ٢٩.
(٦) الأعراف: ٨٦.
(٧) الأنفال: ٢٦. [.....]
(٨) جامع البيان للطبري: ٤/ ٦٢.
للناس من صلة قوله: خَيْرَ أُمَّةٍ: يعني أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام. قتادة هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم، فهم خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.
مقاتل بن حيان: ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضا، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير أمم الناس.
وقال آخرون: قوله: لِلنَّاسِ من صلة قوله: أُخْرِجَتْ ومعناه ما أخرج الله للناس أمّة خيرا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهم خير أمة أقامت وأخرجت للناس، وعلى هذا تتابعت الأخبار.
روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: «إنكم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» [٩٩] «١».
وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، منها ثمانون من هذه الأمة» [١٠٠] «٢».
نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أمة إلّا وبعضها في النار، وبعضها في الجنّة، وأمتي كلّها في الجنة» [١٠١] «٣».
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» [١٠٢] «٤».
وعن أنس قال: أتى رسول الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأمم كانوا يمنعون على الصراط [.......] «٥» حتى أتت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم غرّا محجلين قال: فقلت: من هؤلاء الأنبياء؟ قالوا: لا، قلت: مرسلون؟ قالوا: لا، فقلت: ملائكة؟ قالوا: لا، فقلت: من هؤلاء؟
قالوا: أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم غرّا محجلين عليهم أثر الطهور، فلما أصبح الأسقف أسلم.
(٢) المعجم الأوسط: ١/ ١٧٢.
(٣) تاريخ بغداد: ٩/ ٣٨٤.
(٤) المعجم الأوسط: ٤/ ٢٣١.
(٥) كلمة غير مقروءة.
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أمتي أمة مرحومة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلا من الكفّار فيقول: هذا فداؤك من النار» [١٠٤] «٢».
وعن أنس قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا بصوت يجيء من شعب، قال: «يا أنس، انطلق فانظر ما هذا الصوت»، قال: فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول: «اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها». فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأعلمته ذلك فقال: «انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: من أنت؟». فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أقرىء منّي رسول الله السلام وقل له: أخوك الخضر يقول [أسألك] «٣» أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها» [١٠٥] «٤».
وقيل لعيسى (عليه السلام) : يا روح الله، هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: «علماء حلماء حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلّا الله» «٥».
وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لم لم تسلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتابا مختوما، وقال: لا تفكّ ختمه. فرأيت في المنام أيام عمر (رضي الله عنه) قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنّة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمّهاتهم.
وقال يحيى بن معاذ: هذه الآية مدحة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ليمدح قوما ثم يعذبهم.
(٢) بتفاوت في المعجم الصغير: ١/ ١٠، والمعجم الأوسط: ١/ ٥.
(٣) بياض في مصوّرة المخطوط، والظاهر ما أثبتناه.
(٤) الإصابة: ٢/ ٢٦٠، والمستدرك على الصحيحين: ٢/ ٦٧٤، ح ٤٢٣١.
(٥) تاريخ دمشق: ٤٧/ ٣٨٢.
وقال في موضع آخر: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «٣» إذ لم يكن رأس آية.
قال الشاعر:
ألم تسأل الربع القديم فينطق
أي فهو ينطق.
قال الأخفش: قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء خارج من أول الكلام، كقول العرب:
ما اشتكى شيئا إلّا خيرا، قال الله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً «٤» ولأن هذا الأذى لا يضرهم. ومعناه لكن آذى.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا: حيثما وجدوا ولقوا، يعني: حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون إِلَّا بِحَبْلٍ: عهد من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ: محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، يعني: إلّا أن يعتصموا بحبل، كقول الشاعر:
رأتني بحبليها فصدّت مخافة | وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق |
وقال آخر:
حنتني حانيات الدهر حتى | كأني خامل أدنو لصيد |
قريب الخطو يحسب من رآني | ولست مقيدا أني بقيد |
(٢) المرسلات: ٣٦.
(٣) فاطر: ٣٦. [.....]
(٤) النبأ: ٢٥.
وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ إلى لَيْسُوا سَواءً. الآية. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود: ما آمن بمحمد إلّا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم دينا غيره «٢»، فأنزل الله تعالى لَيْسُوا سَواءً وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعدا، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم: في الكلام إضمار تقديره:
ليسوا سواء «٣». مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب:
عصيت إليها القلب إني لأمرها | مطيع فما أدري أرشد طلابها |
وهذا قول مجموع مقدم كقولهم: (أكلوني البراغيث) و (ذهبوا أصحابك). وقال: تمام القول عند قوله: لَيْسُوا سَواءً وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ثم قال لَيْسُوا سَواءً يعني المؤمنين والفاسقين، ثم وصف الفاسقين فقال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، ثم وصف المؤمنين فقال: أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. فهو مردود على أول الكلام، وهو مختار محمد بن جرير «٤» والزجاج، قال: وإن شئت جعلت قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ابتداء لكلام آخر لأنّ ذكر الفريقين قد جرى، ثمّ قال: ليس هذان الفريقان سواء وهم، ثمّ ابتدأ فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.
قال ابن مسعود: معناها لا يستوي اليهود وأمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم. ابن عباس: أُمَّةٌ قائِمَةٌ مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه. مجاهد: عادلة، السدي: مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقيل: قائمة في الصلاة. قال الأخفس أمة قائمة أي ذو أمّة قائمة، والأمّة: الطريقة، من قولهم: أممت الشيء أي قصدته. قال النابغة:
وهل يأتمن «٥» ذو أمّة وهو طائع.
أي ذو طريقة.
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ٢/ ٤٥.
(٣) كذا في المخطوط، وهناك علامة سقط على كلمة سواء، لكن لم يشر لهذا السقط في هامش مصوّرة المخطوط.
(٤) تفسير الطبري: ٤/ ٧١.
(٥) كذا في المخطوط، والظاهر أنّه يأتمر.
يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يقرءون كتاب الله. قال مجاهد: يتبعون، يقال: تلاه، أي اتّبعه. قال الشاعر:
قد جعلت دلوي تسيلينني... ولا أريد تبع القرين «٢»
إني لم أردهما [... ] «٣».
أي تستتبعني.
آناءَ اللَّيْلِ، أي ساعاته، وإحداها إني مثل نحي وأنحاء وإنى مثل معى.
قال الشاعر:
حلو ومر كعطف القدح شيمته... في كل إني قضاء الليل ينتعل «٤»
أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر.
قال الراجز في اللغة الأخرى:
لله درّ جعفر أي فتى... مشمّر عن ساقه كلّ إنى
وقال السدي: آناءَ اللَّيْلِ جوفه.
الأوزاعي عن حسان عطية قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم» [١٠٦] «٥».
وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يصلون لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، نظيره قوله:
وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يصلّون وفي القرآن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «٦» أي صلوا، وقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا «٧». واختلفوا في نزول الآية ومعناها فقال بعضهم: هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال: إنا نجد كلاما من كلام [الرب] «٨» أيحسب راعي إبل وغنم، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل.
(٢) الصحاح: ٦/ ٢٢٧٣.
(٣) كلمتان غير مقروءتين.
(٤) لسان العرب: ١٤/ ٥٠. إنى.
(٥) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٣٦٨.
(٦) الفرقان: ٦٠.
(٧) النجم: ٦٢.
(٨) في المخطوط: العرب. [.....]
عاصم عن زرين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عز وجل ذه الساعة غيركم» [١٠٧] «١»
، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسُوا سَواءً حتى بلغ قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
وروى الثوري عن منصور قال: بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
وقال عطاء في قوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى (عليه السلام) وصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة «٢» بن أنس، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فصدقوه ونصروه.
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف: بالياء فيهما، اخبار عن الأمة القائمة. وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وهي اختيار أبي حاتم. وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا: الياء والتاء.
ومعنى الآية وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ: فلن يقدروا ثوابه، ولن يجحدوا جزاءه بل يشكر [لهم] «٣» ويجازون عليه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: المؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١٢٩]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
(٢) كذا في المخطوط.
(٣) في المخطوط: لكم.
َلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
، قال يمان: يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم كعب وأصحابه.
مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وضرب الله مثلا فقال مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
، قال ابن عباس: يعني السموم الحارة التي تقتل، ومنه خلق الله الجان. ابن كيسان: الصر ريح فيها صوت ونار.
سائر المفسرين: برد شديد.
ابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
: زرع قوم لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعصية ومنع حق الله عز وجل أَهْلَكَتْهُ
. ومعنى الآية: مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه، قال الله تعالى:
ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
بالكفر والمعصية ومنع حق الله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ. الآية.
عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال: «هم الخوارج» [١٠٨] «١».
أولئك خلصائي نعم وبطانتي | وهم عيبتي من دون كلّ قريب |
ولم تأل عن خير لأخرى باديه «١» وقال امرؤ القيس:
وما المرء مادامت حشاشة نفسه | بمدرك أطراف الخطوب ولا آل «٢» |
الخبال: الشر والفساد، قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «٣» ونصب خَبالًا على المفعول الثاني لأن الإلو تتعدى إلى مفعولين. وإن شئت: المصدر، أي يخبلونكم خبالا. وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما يقال أوجعته ضربا أي بالضرب وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ قراءة العامة بالتاء لتأنيث البغضاء. ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة مِنْ أَفْواهِهِمْ بالشتيمة والوقيعة في المسلمين. وقيل: باطلاع المشركين على أسرار المؤمنين. وقيل: هو مثل قوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «٤».
(٢) لسان العرب: ٦/ ٢٨٤.
(٣) التوبة: ٤٧.
(٤) محمّد: ٣٠.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» [١٠٩] «١».
فأتوا الحسن فأخبروه بذلك، فقال: إنّما «٢»
قوله: «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا»
، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. وأما
قوله: «لا تستضيئوا بنور «٣» المشركين»
، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية.
وقال عياض الأشعري: وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فقال: إن عندنا كاتبا حافظا نصرانيا من حاله كذا وكذا. فقال: ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية، وقوله لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «٤» ؟ هلا اتخذت حنيفيّا! قال: قلت: له دينه ولي ديني، ولي كتابته، لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أدنيهم إذ قصاهم الله «٥».
ها أَنْتُمْ أُولاءِ،... ها تنبيه، وأَنْتُمْ كناية للمخاطبين من الذكور، أُولاءِ اسم الجمع المشار إليه تُحِبُّونَهُمْ خبر عنهم. ومعنى الآية: أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار، وَلا يُحِبُّونَكُمْ هم لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل: معنى يُحِبُّونَهُمْ تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة، وَلا يُحِبُّونَكُمْ هم لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم.
قتادة: في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه «٦».
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم، ف إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا
(٢) كذا في المخطوط، والظاهر أنّها: أمّا.
(٣) مرّت في أوّل الحديث بلفظ: بنار.
(٤) المائدة: ٥١.
(٥) راجع تفسير القرطبي: ٤/ ١٧٩.
(٦) تفسير الطبري: ٤/ ٨٧. [.....]
إذا رأوني أطال الله غيظهم | عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم «١» |
وقد صالحوا قوما علينا أشحّة | يعضّون غيضا خلفنا بالأنامل |
فالجواب: أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة.
وقال محمد بن جرير: خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه يدعو عليهم بالهلاك كمدا ممّا بهم من الغيظ، قل يا محمد: اهلكوا بغيظكم «٢» : إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير وشر. روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم «٣». يعني صاحب هوى، ولقد دخلوا في هذه الآية: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ الآية.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ، قرأ السلمي بالياء. الباقون بالتاء. يعني: إن تصبكم أيها المؤمنون حَسَنَةٌ بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم تَسُؤْهُمْ: تحزنهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ مساءة بإخفاق سريّة لكم، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم «٤»، أو حدث ونكبة يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا وتخافوا ربّكم لا يَضُرُّكُمْ: لا ينقصكم كَيْدُهُمْ شيئا.
واختلفت القراءة فيه فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: لا يَضِرُكُمْ. بكسر الضاد [وراء] خفيفة. واختاره أبو حاتم، يقال: ضار يضير ضيرا مثل باع يبيع بيعا، ودليله في القرآن: لا ضَيْرَ «٥». وهو جزم على جواب الجزاء.
(٢) جامع البيان للطبري: ٤/ ٨٩.
(٣) الطبقات الكبرى: ٧/ ٢٢٤.
(٤) تفسير الطبري: ٤/ ٩٠.
(٥) الشعراء: ٥٠.
أحدهما: أنه أراد الجزم وأصله لا يضرركم فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعا لأقرب الحركات إليها وهي الضاد طلبا للمشاكلة كقولهم: مرّ يا هذا.
والوجه الثاني: أن يكون (لا) بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه، تقديره: وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم. قاله الفرّاء وأنشد:
فإن كان لا يرضيك حتى تردني | إلى قطري لا إخالك راضيا «٢» |
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ. الآية. نظم الآية: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا، فاذكروا ذلك اليوم أو غدا بينكم تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ واختلفوا في هذا اليوم الذي عنى الله تعالى بقوله:
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فقال الحسن: هو يوم بدر. وقال مقاتل: هو الأحزاب. وقال سائر المفسرين: هو أحد، وهو أثبت. يدل عليه قوله في عقبه: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وهذا إنما كان يوم أحد.
قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال: «تأخر».
وذلك أن المشركين نزلوا بأحد. على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما. يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول.
ولم يدعه قط قبلها. واستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلّا أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
(٢) التبيان في تفسير القرآن: ٢/ ٥٧٥.
وقال بعض أصحابه: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا. فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة فو الذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة. فقال: «بما؟». فقال: بأني أشهد أن لا إله إلّا الله، وأني لا أفر من الزحف، قال: «صدقت». فقتل يومئذ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد رأيت في منامي بقرا فأوّلتها خيرا، ورأيت في ذباب «١» سيفي ثلما فأوّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها» [١١٠] «٢».
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة [فيقاتل] «٣» في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا.
فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال صلّى الله عليه وسلّم: « [إنه ليس لنبي] «٤» أن يلبس [لامته] «٥» أن يضعها حتى يقاتل» [١١١] «٦».
وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس، فراح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم الجمعة بعد ما صلّى بأصحابه الجمعة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أحد ما كان، فذلك قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ
، قرأ يحيى بن ثاب: (تبوي) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من (أبوى يبوي) مثل (أروى يروي). وقرأ الباقون: مهموزة مشددة يقال: بوأت تبوئة، وأبويتهم إبواء، إذا أوطنتهم، وتبوّءوا إذا تواطنوا، قال الله تعالى أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «٧»، وقال وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ٩٤. ٩٥.
(٣) في مصوّرة المخطوط: فيقال.
(٤) من مجمع الزوائد، وفي مصوّرة المخطوط علامة سقط لكن لم يشر إليه في الهامش.
(٥) من مجمع الزوائد، وفي المخطوط: لامتها.
(٦) مجمع الزوائد: ٦/ ١٠٧.
(٧) يونس: ٨٧. [.....]
وقرأ ابن مسعود: تبوئ للمؤمنين.
مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، أي مواطن وأماكن، قال الله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «٣»، وقال: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «٤». وقرأ أشهب: (مقاعد للقتال). وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا: تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو أسامة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد في ألف رجل، وقيل: تسعمائة وتسعين رجلا، وقال الزجاج: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أبي: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما وحافظهما.
وقرأ ابن مسعود: (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع، كقوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «٥». وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وقال جابر بن عبد الله: ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ قال الشعبي: كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي: ذكرت قول [الشعبي] «٦» لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الجار؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه قط أحد غيرنا، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفارة «٧».
(٢) العنكبوت: ٥٨.
(٣) القمر: ٥٥.
(٤) الجن: ٩.
(٥) الحجّ: ١٩.
(٦) في المخطوط: الشافعي.
(٧) تفسير الطبري: ٤/ ٩٩.
وقد مدحت القول في غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه وجيزا مجملا فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق.
ذكر مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
جميع ما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ستّ وعشرون غزوة، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماء لبني سليم، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد، ثم غزوة نجران: موضع بالحجاز فوق الفرع، ثم غزوة أحد ثم غزوة الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة بني قردة، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح: فتح مكة، ثم غزوة حنين لقي فيها، ثم غزوة الطائف حاصر فيها، ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وأحد في شوال سنة ثلاث، والخندق، وبني قريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق، وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك.
ذكر سراياه صلّى الله عليه وسلّم
روي عن مقسم قال: كانت السرايا ستّا وثلاثين، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة «١»، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفائض. وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة. وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار «٢» من أرض الحجاز، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع لقوا فيها، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن
(٢) الخرار: آبار عن يسار الحجّة قريب من خم. الطبقات الكبرى: ٢/ ٥.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليغزوه فقتله، وغزوة الأمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأصيبوا بها، وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفا لهم من جهينة، قتله أسامة بن زيد، وهو الذي
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة فيه: «من لك؟ من لك لا إله إلّا الله؟» [١١٢].
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلي «٢» وعذرة وغزوة، [أبي قتادة] «٣» وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها، وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ: جمع ذليل مثل عزيز وأعزة ولبيب وألبّة. وأراد هاهنا قلّة العدد، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ واختلفوا في هذه الآية: فقال قتادة: [... ] «٤» يوم بدر أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة
(٢) بلي: قبيلة ينسبون إلى أبي بلي، وهو جدّ عمر بن شاس. الأنساب (السمعاني) : ١/ ٣٩٦.
(٣) كلمة غير مقروءة، وما أثبتناه من المغازي: ٢/ ٧٩٦.
(٤) كلمة غير مقروءة، وما أثبتناه من المغازي: ٢/ ٧٩٦.
وقال عمر بن أبي إسحاق: لما كان يوم أحد انجلى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبقي سعد بن مالك يرمي، وفتى شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال: ارم أبا إسحاق، ارم أبا إسحاق. كرتين. فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف «٢».
وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إلى قوله مُسَوِّمِينَ، فلما بلغ الكرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدّهم أمدّهم الله أيضا بخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف.
وقال آخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته فاتقوا محارمه أن يمدّهم في حروبهم كلها فلم يصبروا ولم يتقوا إلّا في يوم الأحزاب فأمدهم الله تعالى حتى حاصروا قريظة.
قال عبد الله بن أوفى: كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغسل، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال: «يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟». فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئا حتى أتينا بني قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح الله لنا فتحا يسيرا وانقلبنا بنعمة الله وفضل.
وقال قوم: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا، فلم يصبروا فلم يمدوا ولا بملك واحد [و] لو أمدّوا لما هزموا. وهو قول عكرمة والضحاك. وكان هذا يوم أحد حين انصرف أبو سفيان وأصحابه وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخاف أن يدخل المشركون المدينة، فبعث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقال: «اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأناجزنهم».
(٢) الدر المنثور: ٢/ ٧٠.
وفي قراءة أبي (ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم)، أي يعطيكم ويعينكم.
قال المفضل: [كل] «٢» ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمده يمده إمدادا، وكل ما كان على جهة الزيادة قيل: مدّه يمدّه مدّا، ومنه قوله: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ «٣».
وقال بعضهم: المد في الشر، والإمداد في الخير. يدل عليه قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «٤» وقوله وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «٥».
وقال في الخير أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ «٦» وقال: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ. وقال وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «٧».
وقال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ «٨». وقال: وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ «٩»، وقال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «١٠»، مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «١١» مُنْزَلِينَ. قرأ أبو حيوة: بكسر الزاي، مخفّفا، يعني منزلين النصر. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعمر ابن ميمون وابن عامر مشددة مفتوحة الزاي على التكثير. وتصديقه قوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «١٢».
وقوله: مُسَوِّمِينَ. وقرأ الآخرون: بفتح الزاي خفيفة. ودليله قوله: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «١٣» وقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها «١٤». وتفسير الإنزال: جعل الشيء من علو إلى سفل، ثم قال: بَلى وهو تصديق لقول الله تعالى وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
إِنْ تَصْبِرُوا لعدوّكم وَتَتَّقُوا معصية ربكم.
(٢) في المخطوط: على.
(٣) لقمان: ٢٧.
(٤) البقرة: ١٥.
(٥) مريم: ٧٩.
(٦) الأنفال: ٩.
(٧) الإسراء: ٦.
(٨) المؤمنون: ٥٥.
(٩) الطور: ٢٢.
(١٠) نوح: ١٢.
(١١) الأنفال: ٩.
(١٢) الأنعام: ١١١.
(١٣) الفرقان: ٢١. [.....]
(١٤) التوبة: ٢٦.
تفور علينا قدرهم فيديمها | ويفثأها عنا إذا حميها غلا |
فقال عمير بن إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه يوم بدر: «تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت «٣» بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم».
الضحاك وقتادة: [بالعهن] «٤» في نواصيها وأذنها. مجاهد:
كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها [معلّمة]، الربيع: كانوا على خيل بلق،
عليّ وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم
، هشام بن عروة الكلبي: عمائم صفر مرخاة على أكتافهم.
وقال عبد الله بن الزبير: إن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء وعمامة صفراء يوم بدر، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوّمين بعمائم صفر «٥».
وروى الزبير بن المنذر عن جدّه أبي أسيد وكان بدريّا قال: لو كان بصري فرّج عنه، ثم ذهبتم معي إلى بدر لأريتكم الشعب التي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم «٦»، وقال عكرمة: كانت عليهم سيماء القتال، السديّ: سيماء المؤمنين.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني: هذا الوعد والمدد إِلَّا بُشْرى لتستبشروا به. وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ولتسكن قلوبكم إليه، فلا تجزع من كثرة عدوّكم وقلّة عددكم.
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن العزّ والحكم له وهو: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نظيرها في
(٢) سورة هود: ٤٠، سورة المؤمنون: ٢٧.
(٣) المصنف: ٨/ ٣٤٦، تفسير القرطبي: ٤/ ١٩٦.
(٤) العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.
(٥) كنز العمال: ١٠/ ٤٥.
(٦) تفسير الطبري: ٤/ ١٠٩.
أَوْ يَكْبِتَهُمْ بالخيبة فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لم ينالوا شيئا ممّا كانوا يرجون من الظفر بكم.
وقال الكلبي: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أو يهزمهم بأن يصرعهم لوجوههم. المؤرّخ: يخزيهم. النضر بن شميل: يغيظهم، المبرّد: يظفر عليهم، السديّ: يلعنهم، أبو عبيدة: يهلكهم، قالوا: وأهل النظر [يرون] «٤» التاء منقلبة عن الدال، لأن الأصل فيه يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، ويقول العرب للعدوّ: أسود الكبد، قال الأعشى:
فما أجشمت من إتيان قوم | هم الأعداء والأكباد سود «٥» |
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية،
فقال عبد الله بن مسعود: أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوا على المدبرين عنه من أصحابه يوم أحد، وكان عثمان منهم، فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك وتاب عليهم، فأنزل هذه الآية
، وقال عكرمة وقتادة: أدمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله.
وشجّ عتبة بن أبي وقاص رأسه، وكسر رباعيته فدعا عليه، وقال: «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا» قال: وما حال عليه الحول حتى مات كافرا، فأنزل الله هذه الآية «٦».
وقال الكلبي والربيع: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقد شجّ في وجهه وأصيبت رباعيته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه
(٢) سورة الأنفال: ٧.
(٣) سورة الحجر: ٦٦.
(٤) زيادة عن المسير: ٢/ ٢٧.
(٥) زاد المسير: ٢/ ٢٧، وتاج العروس: ٨/ ٢٢٩.
(٦) تفسير الطبري: ٤/ ١١٧.
، يدلّ عليه ما
روى أبو بكر بن عياش، عن حميد، عن أنس قال: لمّا كان يوم أحد شجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فوق حاجبه وكسرت رباعيته وجرح في وجهه، فجعل يمسح الدم في وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم» «١»، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
، وقال سعيد بن المسيّب. والشعبي. ومحمد بن إسحاق بن يسار: لمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشتدّ غضب الله على من دمى وجه نبيّه» «٢». علت عالية من قريش على الجبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « [اللهم إنه] لا ينبغي لهم أن يعلونا»، فأقبل عمر ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم، ونهض رسول الله إلى صخرة ليعلوها وقد كان ظاهر بين درعين فلم يستطع، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة الجنة» «٣»، فوقفت هند والنسوة معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجدعنّ الآذان والأنوف، حتى أخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّا، وبقرت من كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع فلفظتها، ثم علت صخرة مشرفة فصرخت:
نحن جزيناكم بيوم بدر | والحرب بعد الحرب ذات سعر |
ما كان من عتبة لي من صبر | أبي وعمي وأخي وبكري |
شفيت صدري وقضيت نذري | شفيت وحشي من غليل صدري «٤» |
فيك. فلمّا كان يوم أحد قتل فبقر بطنه وجدعت أذنه وأنفه، فقال رجل سمعه: أمّا هذا فقد أعطي في نفسه ما سأل في الدنيا، والله يعطيه ما سأل في الآخرة.
قالوا: فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله عليهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عطاء: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أحد أربعين يوما يدعو على أربعة من ملوك كندة:
مسرح، وأحمد، ولحي، وأخيهم العمردة، وعلى معن من هذيل، يقال لهم: لحيان، وعلى بطون من سليم وعلى ذكوان وعصبة والقارة، وكان يقول: «اللهم أشدد وطاءك على مضر
(٢) تاريخ الطبري: ٢/ ٢٠١.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ١٨٢.
(٤) عيون الأثر: ١/ ٤٢٤، والبداية والنهاية: ٤/ ٤٢ مع تفاوت في عجز البيت الثاني.
وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ألعن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أميّة» «٢»، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «٣» وأسلموا فحسن إسلامهم.
الزهري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركوع: «ربّنا لك الحمد اللهم العن فلانا وفلانا»، دعا على ناس من المنافقين فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية «٤».
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بئر معونة وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميرهم المنذر بن عمرو، وبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، ليعلّموا الناس القرآن والعلم، فقتلهم جميعا.
عامر بن الطفيل: وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فلما قتل رفع بين السماء والأرض، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا وحزن عليهم شهرا فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
وهذه الآية وإن كانت لفظا للعموم، فالمراد منها الخصوص تقديرها: ليس لك من الأمر بهواك شيء. واللام في قوله: (لَكَ) بمعنى (إليّ) كقوله: إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ «٥» وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «٦» ونحوهما.
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ | لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وهو وجه حسن. |
ثم قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
قرأ أبو جعفر وشيبة: مضعّفة.
عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً «٧» هو أن الرجل كأن يكون له على الرجل مال فإذا حل الأجل طلبه من
(٢) المصدر السابق: ٢/ ٩٣، والدر المنثور: ٢/ ٧١.
(٣) سورة آل عمران: ١٢٨.
(٤) صحيح البخاري: ٥/ ٣٥، وسنن الدارمي: ١/ ٣٧٤.
(٥) سورة آل عمران: ١٩٣.
(٦) سورة الأعراف: ٤٣.
(٧) سورة آل عمران: ١٣٠.
فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمر الربا فلا تأكلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ثم خوفهم فقال: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وفيه دليل على أن النار مخلوقة ردّا على الجهمية، لأن المعدوم لا يكون معدا وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا فلا تعذبوا وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية.
قال عطاء: إن المسلمين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله عزّ وجلّ منّا وكانوا إذا أذنبوا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة في عتبة بابهم: اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا، فسكت عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله تعالى وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة.
وحذف أهل المدينة والشام الواو منه.
واختلفوا في العلة الجالبة لهذه المغفرة:
فقال ابن عباس: سارعوا إلى الإسلام، أبو العالية وأبو روق: إلى الهجرة،
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إلى أداء الفرائض
، عثمان بن عفان: الإخلاص، أنس بن مالك: هي التكبيرة الأولى، سعيد بن جبير: إلى أداء الطاعة، يمان: إلى الصلاة الخمس، الضحاك: إلى الجهاد عكرمة: إلى التوبة، مقاتل: إلى الأعمال الصالحة، أبو بكر الوراق: إلى اتّباع الأوامر والانتهاء عن الزواجر، سهل بن عبد الله: إلى السنّة، بعضهم: إلى الجمع والجماعات.
وَجَنَّةٍ يعني إلى جنة عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي عرضها كعرض السماوات والأرض كقوله ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «١» أي كبعث نفس واحدة.
قال الشاعر:
حسبت بغام راحلتي عناقا | وما هي ويب غيرك بالعناق «٢» |
ودليل هذا التأويل قوله في سورة الحديد: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «٣» يعني لو بسطت ووصل بعضها إلى بعض إنما أخص العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها. يدل عليه قول الزهري إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلّا الله كقوله مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها «٤» فوصف البطانة بحسن ما يعلم من الزينة إذ معلوم أن الظواهر يكون أحسن وأنفس من البطائن.
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٧٨٥، لسان العرب: ١/ ٨٠٥.
(٣) سورة الحديد: ٢١.
(٤) سورة الرحمن: ٥٤. [.....]
وقال جرير:
لجّت أمامة في لومي وما علمت | عرض السماوة روحاتي ولا بكري «١» |
يجبن بنا عرض الفلاة | وما لنا عليهنّ إلّا وخدهن سقاء «٢» |
كأنّ بلاد الله وهي عريضة | على الخائف المطلوب كفه حابل «٣» |
وقال يعلي بن مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلا عن يساره قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] فأين النار؟ فقال رسول الله: «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار» [١١٣] «٥».
وروى طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه قالوا:
أرأيت قولكم وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر (رضي الله عنه) : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنما لمثلها في التوراة.
وسئل أنس بن مالك عن الجنة: أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: أي أرض وأي سماء تسع الجنة؟ قيل: وأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع.
(٢) لسان العرب: ١٤/ ٣٩٢، تاج العروس: ١٠/ ٣٨٢.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٠٥.
(٤) سورة هود: ١٠٧.
(٥) تفسير الطبري: ٤/ ١٢٢.
أخبرنا أحمد بن عبد الله، [ثنا زيد بن عبد العزيز أبو جابر ثنا جحدر ثنا بقية ثنا الأوزاعي عن الزهري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] «١»
: «الجنة دار الأسخياء» «٢».
وروى الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار» [١١٤] «٣».
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ آية بينة على الواحد أراد مقام إبراهيم وحده، وقال: أثر قدميه في المقام آية بينة.
وقرأ الباقون: آياتٌ بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر، وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من أن يهاج فيه، لأنه حرم، وذلك بدعاء إبراهيم (عليه السلام) حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً «٤» وكان في الجاهلية من دخله ولجأ إليه آمن من الغارة والقتل ولم يزده الإسلام إلّا شدة.
وكتب أبو الخلد إلى ابن عباس: أن أول من لاذ بالحرم الحيتان الصغار والكبار هربا من الطوفان، وقيل: مَنْ دَخَلَهُ عام عمرة القضاء مع محمد صلّى الله عليه وسلّم كانَ آمِناً دليله قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «٥».
وقال أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر تقديرها: ومن دخلوه فأمنوه، كقوله:
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «٦» أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. وقيل:
(وَمَنْ دَخَلَهُ) لقضاء النسك معظما له عارفا لحقه متقربا إلى الله عزّ وجلّ كانَ آمِناً يوم القيامة وهذا
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار»
«٧» [١١٥] أي في نهار يوم القيامة.
يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يقول: من حجه ودخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
(٢) مسند الشهاب: ١/ ١٠٢ والموضوعات لابن الجوزي: ٢/ ١٨٥.
(٣) سنن الترمذي: ٣/ ٢٣١، ح ٢٠٢٧.
(٤) سورة البقرة: ١٢٦.
(٥) سورة الفتح: ٢٧.
(٦) سورة البقرة: ١٩٧.
(٧) مسند الشهاب- ابن سلامة-: ١/ ٢٥٢.
من النار.
وقال جعفر الصادق (رضي الله عنه) : مَنْ دَخَلَهُ على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كانَ آمِناً من عذابه.
وقال أبو النجم القرشي الصوفي: كنت أطوف بالبيت فقلت: يا سيدي، قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من أي شيء؟ فسمعت من ورائي [قائلا] يقول: آمنا من النار، فالتفت فلم أر شيئا.
ويدل على صحة هذا التأويل ما
روى أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من مات في أحد الحرمين بعثه الله عزّ وجلّ مع الآمنين» «١» [١١٦].
وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة» «٢» [١١٧].
وروى شقيق بن سلمة عن ابن مسعود قال: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على ثنية المقبرة وليس هما يومئذ مقبرة، وقال:
«بعث الله من هذه البقعة من هذا الحرم كله سبعين ألفا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ | بِغَيْرِ حِسابٍ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر» «٣». |
«من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام» «٤» [١١٨].
وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم: اذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري فتقول: لست بسائرة حتى أعطي سؤلي. فينادي ملك من جو السماء: سلي تعط. فتقول الكعبة: يا رب شفّعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين. فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك. قال: فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين، فيجتمعون حول الكعبة يلبّون ثم يقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول:
لست بسائرة حتى أعطي سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعط، فتقول الكعبة: يا رب
(٢) كشف الخفاء: ١/ ٣٥١. [.....]
(٣) كنز العمال: ١٢/ ٢٦٢، ح ٣٤٩٦٠.
(٤) كنز العمال: ١٢/ ٢١٠، ح ٣٤٧٠٤.
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
قال عكرمة: لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «٢» قالت اليهود: فنحن مسلمون فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين، واللام في قوله لله لام الإيجاب والإلزام، أي قد فرض وأوجب على الناس حجّ البيت. قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي: حِجُّ، بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة.
وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر، وهي لغة أهل نجد.
وقرأ الباقون: بالفتح كل القرآن، وهي لغة أهل الحجاز.
واختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، فهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد.
وقال الحسن الجعفي الفتح [المصدر] والكسر اسم الفعل، ثم قال: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اعلم أن شرائط وجوب الحج تسعة أشياء هي: البلوغ والعقل والإسلام والحرية
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه» «٣» [١١٩].
ولقوله صلى الله عليه وسلّم: «أيّما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه حجة أخرى، وأيّما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى» [١٢٠] «٤».
وأراد بالهجرة هاهنا: الإسلام وتخلية الطريق، وهي أن يكون الطريق آمنا مسلوكا، لا مانع فيه من عدو ونحوه، فإن كان غير مسلوك لم يجب الحج.
(٢) سورة آل عمران: ٨٥.
(٣) مسند أحمد: ٦/ ١٠٠ بتفاوت.
(٤) المعجم الأوسط: ٣/ ١٤٠، نصب الراية: ٣/ ٧٥.
فقال الشافعي (رضي الله عنه) : الاستطاعة وجهان: أن يكون مستطيعا بدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج، والثاني: أن يكون معضوبا «٤» في بدنه لا يثبت على مركبه، وهو قادر على من يطعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وغير أجرة، وأما المستطيع بالمال: فقد لزمه فرض الحج بالسنّة، لحديث الخثعمية، فأما المستطيع بنفسه: فهو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون على الراحلة، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج، فإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما يسقط فرض الحج عنه، فإن كان قادرا على المشي مطبقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة ونحوهما، فالمستحب له أن يحج ماشيا، رجلا كان أو امرأة.
قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة، لأنه أقوى وهذا على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج، لأنه يصير كلّا على الناس، وهذا الذي ذكرت من أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج، وهو قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومن التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق، دليلهم ما
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما السبيل إلى الحج؟ قال: «الزاد والراحلة» [١٢١] «٥».
ومثله روى ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك.
روى الحرث عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا وراحلة تبلغانه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، فإن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «٦» [١٢٢].
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) المعضوب: الزمن الذي لا حراك به.
(٥) الدر المنثور: ٢/ ٥٦.
(٦) سنن الترمذي: ٢/ ١٥٤.
فما الحاج؟ قال: « [الشعث التفل] » «١» قال: فما أفضل الحج؟ قال: «العج «٢» والثج» «٣» [١٢٣].
وقال مالك: إذا قدر على المشي ووجد الزاد والراحلة لزمه الحج بلا خلاف، وإن لم يجد الزاد والراحلة وقدر على المشي نظر، فإن كان مالكا للزاد فعليه فرض الحج لكل حال، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق اختلف هذا باختلاف حال الرجل، فإن كان من أهل المروات وممّن لا يكسب بنفسه لم يجب عليه، وإن كان ممن يكسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إذا كان عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج، فأوجب مالك على المطبق للمشي الحج إذا لم يكن له زاد وراحلة، وهذا قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة.
وقال الضحاك: إن كان شابا صحيحا ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجته، فقال: له قائل ما كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت. فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بمكة أكان تاركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا «٤» أي مشاة.
قالوا: ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب أن لا يكون من فرض وجوبها الزاد والراحلة كالصلاة والصيام، فإذا [تقرر] أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج على قول أكثر أهل العلم، فوجب أن يبيّن كيفية اعتبار الراحلة والنفقة، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس.
وأما الراحلة: فهي ما لا يلحقه مشقة شديدة في الركوب عليها، وأما النفقة: فإن كان ذا أهل وعيال يجب عليه نفقتهم، فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور والحج فرض على التراخي، وكان تقديم إنفاق العيال أولى وأهم.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت»
«٥» [١٢٤] فإذا لم يكن له أهل وعيال فلا بد من نفقته لذهابه، وهل يعتبر فيه الرجوع أم لا؟ فيه قولان للفقهاء:
(٢) العج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن. [.....]
(٣) المصنف- الكوفي-: ٤/ ٥٣٥.
(٤) سورة الحج: ٢٧.
(٥) مسند أحمد: ٢/ ١٦٠.
وقال الآخرون: يعتبر، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، لأنه قال في الإملاء: لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهبا وجائيا. فأطلق ولم يفرّق، وهذا أولى بالصواب، لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه، ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرّب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن، فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها، لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم.
قال الشافعي: في الأم: فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج.
وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لأنه قدّمه على نفقة أهله، فكأنه قال: بعد هذا كله.
وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكنا وخادما لأهله، فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟
قال أبو العباس بن شريح: لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته.
وقال الآخرون: بل عليه أن يحج من أصل البضاعة، وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج، وكذلك البضاعة، وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر، فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج، فهذا القول في أحد وجهي الاستطاعة، فأما الوجه الآخر: فهو أن يكون مغصوبا في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال، أو يكون فضو الخلقة ابتداء، أو يكون مريضا مزمنا شديدا لا يرجى برؤه، أو يكون شيخا كبيرا ضعيفا ولكن يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه، فهذا أيضا مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون قادرا على مال يستأجر عليه من يحج، فإنه يلزمه فرض الحج، وهذا قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)
روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهّز رجلا يحج عنك.
وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق.
والثاني: أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه، فهذا أيضا يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهوية.
وقال مالك: إذا كان مغصوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج بالمال أو بغير المال، أو كان عاجزا فلا يلزمه فرض الحج، ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال بل إن أوصى أن يحج عنه حج بعد موته عنه من الثلث وكان تطوعا، واحتج بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «١» فأخبر أنه ليس له إلّا ما سعى فمن قال له ما سعى غيره، فقد خالف ظاهر الآية ويقول عزّ وجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «٢» وهذا غير مستطيع، لأن الحج هو القصد إلى البيت بنفسه ومن طريق الاعتبار هو أنه غير متمكن من الحج بنفسه، فوجب أن لا يلزمه الحج عن نفسه، كما لو كان مغصوبا لا مال له، ولأن كل عبادة لا يدخلها النيابة مع القدرة عليها، فوجب أن لا يدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة وعكسه الزكاة، ودليل الشافعي وأصحابه ما
روى الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، فهل يجزي أن أحج عنه؟ فقال: «نعم»، فقالت: فهل ينفعه ذلك؟ فقال (عليه السلام) :«أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي؟» قالت: نعم، قال: «فدين له! أحق» «٣» [١٢٥].
فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها نفسها له بأن تحج عنه، فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى، فأما إن بذل له المال دون الطاعة، والصحيح أن لا يلزمه قبوله والحج به عن بنفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا، وأما من به مرض يرجى زواله كالبرسام والحمى الشديدة وغيرهما فلا يجوز له أن يحج عنه، لأنه لم ييأس عن الحج بنفسه فلم يحج له، كالصحيح وعكسه المغصوب.
وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يحج عن نفسه ولو حج عنه وبرأ سقط عنه فرض الحج والله أعلم.
وَمَنْ كَفَرَ.
قال الحسن وابن عباس وعطاء والضحاك: جحد فرض الحج.
مجاهد: هو ما أن حج لم يره برا وإن قعد لم يره مأثما.
وروى سفيان عن منصور عنه وَمَنْ كَفَرَ بالله واليوم الآخر، يدل عليه ما
روى ابن عمر
(٢) سورة آل عمران: ٩٧.
(٣) صحيح ابن خزيمة: ٤/ ٣٤٦.
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في اليهود حيث قالت: الحج إلى [... ] «٢» واجب.
الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان كلهم فخطبهم، وقال: «إن الله عزّ وجلّ كتب عليكم الحج فحجّوا» فآمنت إليه أهل ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «٣».
عطاء بن السائب: (وَمَنْ كَفَرَ) بالبيت.
ابن زيد: (وَمَنْ كَفَرَ) بهذه الآيات التي ذكرها الله في قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ.
قال السدي: أما مَنْ كَفَرَ فهو من وجد ما يحج عنه ثم لم يحج حتى مات فهو كفره به.
فصل في إيجاب الحج
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة مالكم وحجّوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم» «٤» [١٢٦].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «حجّوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» «٥» [١٢٧].
وقال ابن مسعود: حجّوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلّا نفقت «٦».
وروى عبد الرحمن بن أبي سابط عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» «٧»
[١٢٨].
وحدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يحج لم يقبل الله منه يوم القيامة عملا... » [١٢٩].
شعبة عن قتادة عن الحسين قال: قال عمر (رضي الله عنه) : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية.
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ٢٩.
(٤) صحيح ابن خزيمة: ٤/ ١٢ بتفاوت.
(٥) كشف الخفاء: ١/ ٣٥٠.
(٦) كشف الخفاء: ١/ ٣٥٠.
(٧) سنن الدارمي: ٢/ ٢٩.
وقرأ الحسن: تَصِدُّونَ، بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان، صدّ وأصدّ مثل صل اللحم وأصل، وخمّ وأخم.
ودليل قراءة العامة قوله تعالى: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى «١» وقوله: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «٢» ونظائرهما.
تَبْغُونَها تطلبونها عِوَجاً زيغا وميلا، والكلام حال على الفعل، مجازه: لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجا.
قال أبو عبيدة: العوج بالكسر في الدين والقول والعمل، والعوج بالفتح في الجدار والحائط وكل شخص قائم وَأَنْتُمْ شُهَداءُ الآن في التوراة مكتوب: إن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام، وإن فيه نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
قال زيد بن أسلم: مرّ شاس ابن قيس اليهودي. وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الطعن في المسلمين شديد الحسد لهم. على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه قال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم
(٢) سورة الفتح: ٢٥.
«يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم إليه كفارا الله الله» [١٣٠] فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيدهم من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين. فأنزل الله في شأن شاس بن قيس «١».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني الأوس والخزرج إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني شاسا وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ.
قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله علينا فأومى إلينا بيده فكففنا وأصلح الله ما بيننا فما كان من شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما رأيت قط يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، ثم قال على وجه التعجب وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ يعني ولم تكفرون وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ من القرآن وَفِيكُمْ رَسُولُهُ محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قال قتادة: في هذه الآية علمان بيّنان: نبي الله وكتاب الله، فأمّا نبي الله فقد مضى وأمّا كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يمتنع بالله ويتمسك بدينه وطاعته فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق واضح.
وقال ابن جريج: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) أي يؤمن بالله، وأصل العصم والعصمة المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصم.
قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم | إذا ما أعظم الحدثان نابا «٢» |
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ٣٧، تفسير القرطبي: ٤/ ١٥٧.
يظل من خوفه الملاح معتصما | بالخيزرانة بعد الأين والنجد «١» |
إذا أنت جازيت الإخاء بمثله | وآسيتني ثم اعتصمت حباليا «٢» |
وما كاد لما أن علته يقلها | بنهضته حتى أكلان واعتصما |
قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية وصال حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعد ذلك منهم رجلان: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له ورضى الله بحكمه في بني قريظة، وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا، فقال الخزرجي: أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم لقتلنا ساداتكم، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر.
فقال الأوسي: قد كان الإسلام متأخرا زمانا طويلا فهلّا فعلتم ذلك، فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب حمارا وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا.
وقال عطاء: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر وقال: «يا معشر المسلمين ما لي أوذى في أهلي». يعني الطعن في قصة الإفك، وقال: «ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلّا معي».
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله وأكفيك أمره وأنصرك عليه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكنه احتملته الحمية فقال لسعد
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ٣٧.
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حَقَّ تُقاتِهِ أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر» [١٣١] «٢».
وقال أبو عثمان: أن لا يعصى طرفة عين.
مجاهد: أن يجاهدوا حَقَّ جِهادِهِ.
ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم.
الحسن: هو أن تعطيه فيما تعبده.
قال الزجاج: أي اتقوا فيما يحق عليكم أن تتقوه واسمعوا وأطيعوا.
قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا وشق عليهم فأنزل الله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «٣» فنسخت هذه الآية.
قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ إلّا هذا.
وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
قال طاوس: معناه اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مؤمنون.
وقيل: مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عزّ وجلّ.
وقال المفضل: المحسنون الظن بالله.
وروى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرّت على أهل الأرض معيشتهم فكيف بمن هو طعامه» «٤».
وعن أنس بن مالك قال: لا يتقى الله عبد حَقَّ تُقاتِهِ حتى يخزن من لسانه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أصل الحبل السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة، ولذلك سمّي الأمان حبلا، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف.
(٢) المصنف- الكوفي-: ٨/ ١٦٣.
(٣) سورة التغابن: ١٦.
(٤) مسند أحمد: ١/ ٣٣٨.
وإذا تجوزها حبال قبيلة | أخذت من الأخرى إليك حبالها «١» |
فقال ابن عباس: تمسكوا بدين الله.
وروى الشعبي عن ابن مسعود أنه قال في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال الجماعة.
وقال ابن مسعود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير ممّا تحبون في الفرقة.
وقال مجاهد وعطاء: بالعهد.
قتادة والسدي والضحاك: هو القرآن، يدل عليه ما
روى عن الحرث أنه قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت عليا كرم الله وجهه فقلت: ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث؟ فقال: وقد فعلوا؟ فقلت: نعم، فقال: أما أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنها ستكون فتنة» قال: قلت: فما الخروج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلّا أن قالوا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «٢» من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خذها إليك يا أعور» [١٣٢] «٣».
وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول الم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة» [١٣٣] «٤».
(٢) سورة الجن: ١.
(٣) الدر المنثور: ٦/ ٣٣٧.
(٤) تفسير القرطبي: ١/ ٥.
وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحد هما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض» [١٣٥] «٢».
فقال مقاتل بن حيان: (بِحَبْلِ اللَّهِ) أي بأمره وطاعته.
أبو العالية: بإخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ. ابن زيد: بالإسلام.
وَلا تَفَرَّقُوا كما تفرقت اليهود والنصارى.
وروى الأوزاعي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتي ستفترق على اثنى وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة» فقيل يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده، وقال: «الجماعة» [١٣٦] ثم قرأ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا «٣».
وروى أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد: نحن حبل الله الذي قال الله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
أخبرني محمد بن كعب القرظي عن أبي سعيد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله رضى لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا: رضى لكم أن تعبدوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وأن تعتصموا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لمن ولّاه الله أمركم، وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» «٤» [١٣٧].
وعن عبد الله بن بارق الحنفي عن سماك- يعني الحنفي- قال: قلت لابن عباس: قوم يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا تمنعهم؟ فقال: لا يا حنفي أعطهم صدقتهم وإن أتاك أهدل الشفتين منتفش المنخرين- يعني زنجيا- فأعطه، فنعم القلوص قلوص يأمن بها المرؤوس عروسه ووطنه- يعني امرأته- وقربة اللبن يا حنفي الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله: جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
(٢) مسند أحمد: ٥/ ١٨٢. بتفاوت.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ٤٤.
(٤) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٢٨٥.
قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار قال: كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب سمير وحاطب، وذلك أن سميرا هو سمير بن زيد ابن مالك أحد بني عمرو بن عوف، قيل: حليفا لملك بن عجلان، [والآخر من] «١» الخزرج يقال له: حاطب بن أبحر من مزينة، فوقعت بين القبيلتين الحرب، فزعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان سبب ألفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجا أو معتمرا وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته، فقدم سويد مكة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فتصدّى له حين سمع به، فدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام.
فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة لقمان، يعني حكمته، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعرضها عليّ» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل، هذا قرآن أنزله الله عليّ نورا وهدى» [١٣٨] فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم فجلس إليهم فقال:
«هل لكم إلى خير ممّا جئتم له؟» قالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى [الله أن يعبدوا الله و] لا يشركوا بالله شيئا وأنزل عليّ الكتاب» [١٣٩] ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا: أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت أياس وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، وهم ستة نفر أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن ملك، وقطبة بن عارف، وعقبة ابن عامر، وجابر بن عبد الله.
قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال: وكان ممّا صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودا كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّنا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم لك وستقدم عليهم فتدعوهم إلى حربهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا. فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشاهم فيهم تبق لهم دار من دور الأنصار إلّا وفيها ذكر من رسول الله حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلاني الخزرجي وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو فهؤلاء خزرجيون، وأبو الهيثم بن التيهان واسمه ملك وعويمر بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يزنوا إلى آخر الآية ثم قال: «إن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك [فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم] «١».
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «السخي الجهول أحبّ إلى الله من العالم البخيل» «٢» [١٤١].
عبد السلام بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «السماح شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار» «٣» [١٤٢].
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه، والكافين غضبهم عن
(٢) كنز العمال: ٦/ ٣٩٢، ح ١٦٢١٠.
(٣) روضة الواعظين: ٣٨٥.
قال أعشى باهلة يصف رجلا نحّارا للإبل وهي تفزع منه:
قد تكظم البزل «١» منه حين تبصره | حتى تقطع في أجوافها الجرر «٢» |
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «٣» وقال: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ «٤» وقال: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ «٥» وقال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ «٦».
وقال عبد المطلب بن هاشم:
فحضضت قومي فاحتبست قتالهم | والقوم من خوف المنايا كظم «٧» |
وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم الغيظ وهو يقدر على إنفاذه دعاه الله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيّره من أي الحور يشاء» [١٤٤] «٩».
أنشدنا أبو القاسم محمد بن حبيب قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال:
أنشدنا ابن أبي الزنجي ببغداد قال: أنشدنا العرجي:
وإذا غضبت فكن وقورا كاظما | للغيظ تبصر ما تقول وتسمع |
فكفى به شرفا تصبر ساعة | يرضى بها عنك الإله وترفع «١٠» |
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٠٦.
(٣) سورة يوسف: ٨٤.
(٤) سورة النحل: ٥٨.
(٥) سورة القلم: ٤٨.
(٦) سورة غافر: ١٨.
(٧) تفسير القرطبي: ٩/ ٢٤٩. [.....]
(٨) لسان العرب: ١/ ٦١٧.
(٩) سنن الترمذي: ٣/ ٢٥١، ح ٢٠٩٠.
(١٠) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٠٨.
قال الرباحي والكلبي: عن المملوكين، وقال زيد بن أسلم ومقاتل: عمّن ظلمهم وأساء إليهم،
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند ذلك: «إن هؤلاء في أمتي قليل إلّا من عصم الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» «١» [١٤٥].
وعن أبي هريرة أن أبا بكر (رضي الله عنه) كان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبتسم، ثم ردّ أبو بكر (رضي الله عنه) عنه بعض الذي قال، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني وأنت تبتسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت، فقال: «إنك حين كنت ساكتا كان معك ملك يرد عنك فلما تكلمت وقع الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد يقعده الشيطان،. ثمّ قال.: يا أبا بكر ثلاث كلّهن حق: أنه ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفوا عنها إلّا أعز الله نصره، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد به كثرة إلّا زاده الله قلة وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة إلّا زاده الله بها كثرة» [١٤٦] «٢».
وقال عروة بن الزبير:
لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا | حتى يذلوا، وإن عزّوا لأقوام |
ويشتموا فترى الألوان مشرقة | لا صفح ذل ولكن صفح أحلام «٣» |
قال مقاتل: يعني إن هذه الأشياء إحسان ومن فعل ذلك فهو محسن وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
قال الحسن: الإحسان أن يعمّ ولا يخص كالريح والشمس والمطر.
سفيان الثوري: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فإن الإحسان إلى المحسن [مزاجرة] «٤» كلمة السوق خذ وهات.
السقطي: الإحسان أن يحسن وقت الإمكان، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان.
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو العباس عبد الله بن محمد الجماني:
ليس في كل ساعة وأوان | تتهيأ صنائع الإحسان |
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٤٣٦.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ١٢٧.
(٤) هكذا في الأصل.
فإذا أمكنت فبادر إليها | حذرا من تعذر الإمكان «١» |
إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية.
قال ابن عباس: قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا ذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبهم مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك وأذنك، افعل كذا، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير من ذلك» فقرأ عليهم هذه الآيات «٣».
وقال عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فهل لك فيه؟ قالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: آخا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله، فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها فدخلت المرأة بيتا فتبعها فاتقته بيدها، فقبّل يدها ثم ندم وانصرف، فقالت له: والله ما حفظت غيبة أخيك ولا نلت حاجتك، فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله.
فقالت: لا أكثر الله في الاخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا، وطلبه الثقفي حتى وجده، فأتى به أبا بكر (رضي الله عنه) رجاء أن يجدا راحة عنده فخرجا، وقال الأنصاري: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر له القصة، فقال أبو بكر:
ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم لقى عمر (رضي الله عنه) فقال: مثل ذلك، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً
هي صفة لاسم متروك تقديره: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني قبيحة خارجة عمّا أذن الله فيه، وأصل الفحش القبيح والخروج عن الحد، ولذلك قيل للمفرط في الطول أنه فاحش الطول، والكلام القبيح غير [القصد] فالكلام فاحش والمتكلم به مفحش.
(٢) كنز العمال: ٣/ ٣٧٥.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ١٢٧.
وقال مقاتل والكلبي: وهو ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل.
الأصم: فعلوا فاحشة الكبائر أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالصغائر، وقيل: فَعَلُوا فاحِشَةً فعلا وظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قولا.
ذَكَرُوا اللَّهَ قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله عزّ وجلّ، مقاتل والواقدي:
تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، مقاتل بن حيان: ذَكَرُوا اللَّهَ باللسان عند الذنوب فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي وهل يغفر الذنوب إلّا الله وما يغفر الذنوب إلّا الله فلذلك رفع. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا واختلفوا في معنى الإصرار:
فقال أكثر المفسرين: معناه لم يقيموا ولم يدوموا ولم يثبتوا عليه، ولكنهم تابوا وأقرّوا واستغفروا.
قتادة: إيّاكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدما قدما في معاصي الله، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك.
وقال الحسن: إتيان العبد ذنبا عمدا إصرارا، السدي: الإصرار السكوت وترك الاستغفار،
وفي الخبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «١» [١٤٨].
وروى عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار»
«٢» [١٤٩] وأصل الإصرار الثبات على الشيء.
قال الحطيئة: يصف الخيل:
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا | غلالتها بالمحصدات أصرّت «٣» |
(٢) مسند الشهاب: ٢/ ٢٠٤.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١١.
السدي: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم قد أذنبوا. وقيل: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الإصرار ضار، فإن ترك الإصرار خير من التمادي، كما قيل:
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه | إن الجحود الذنب ذنبان «١» |
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أذنب ذنبا وعلم أن له ربّا يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر» «٢» [١٥٠].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجلّ: من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي» «٣» [١٥١].
وقال عبيد بن عمير: في بعض الكتب المنزلة: يا بن آدم إنك ما دعوتني وما رجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي.
وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرّ رجل ممّن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فحدث نفسه بشيء ثم قال: أنت أنت وأنا أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب ثم خرّ لله ساجدا، فقيل له ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له» «٤» [١٥٢].
وقيل: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم إن استغفروا غفر لهم وإن التوبة تمحق الحوبة.
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي إلى الْعامِلِينَ ثواب المطيعين.
يقال: أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي.
وقال شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
وقال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية إلى آخرها.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، قال ابن زيد: أمثال. المفضّل: أمم، والسنّة الأمّة.
قال الشاعر:
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١٢. بتفاوت.
(٣) المصنف- الكوفي-: ٧/ ٩٠.
(٤) تاريخ بغداد: ٩/ ٩٤، كنز العمال: ٤/ ٢٢٥، ح ١٠٢٧٦.
ما عاين الناس من فضل كفضلكم | ولا رأوا مثلكم في سالف السنن «١» |
قال لبيد:
من معشر سنّت لهم آباؤهم | ولكل قوم سنّة وإمامها «٢» |
وإن الألى بالطف من آل هاشم | تأسوا فسنوا للكرام التآسيا «٣» |
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ آخر أمرهم الْمُكَذِّبِينَ منهم، وهذا في يوم أحد. يقول: فإذا أمهلهم واستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأوليائه وهلاك أعدائه، هكذا قال ابن إسحاق هذا الذي ذكرت.
هذا القرآن بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ من الجهالة لِلْمُتَّقِينَ خاصّة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٥]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢١٦.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ١٣٤، لسان العرب: ١٤/ ٣٥.
وَلا تَهِنُوا أي ولا تضعفوا ولا تخيبوا يا أصحاب محمد على جهاد أعدائكم بما قاتلوكم يوم أحد من القتل والقرح وَلا تَحْزَنُوا على ظهور أعدائكم وعلى ما أصابكم من المصيبة والهزيمة، وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة، ومن الأنصار سبعون رجلا.
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي لكم تكون العاقبة والنصر والظفر.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إذ كنتم، ولأنكم مؤمنون.
قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشعب فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تعل علينا اللهم لا قوة لنا إلّا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر» «١» [١٥٣] فأنزل الله تعالى هذه الآية، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل، فرموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «٢».
وقال الكلبي: نزلت هذه الآية بعد يوم أحد، حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرج إلّا من شهد معنا بالأمس» «٣» واشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودليله قوله عزّ وجلّ: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ «٤» الآية.
وقيل: (وَلا تَهِنُوا) لما نالكم من الهزيمة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنيمة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقضاء الله ووعده.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ الآية.
قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهكذا يفعل برسولك؟» «٥» [١٥٤] فأنزل الله تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ جرح يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر.
(٢) فتح الباري: ٧/ ٢٦٨.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٧٧.
(٤) سورة النساء: ١٠٤.
(٥) أسباب نزول الآيات: ٨٣.
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: بضم القاف حيث كان، وهي قراءة ابن مسعود.
وقرأ الباقون: بفتح القاف، وهي قراءة عائشة واختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، قالا: لأنهما لغة تهامة والحجاز، لغتان مثل الجهد والوجد والوجد.
وقال بعضهم: القرح بالفتح الجراحات واحدتها قرحة، والقرح بالضم وجع الجراحة.
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوما عليهم ويوما لهم وذلك أنّ الله عزّ وجلّ أدل المسلمين من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأدال المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا منهم خمسة وسبعين.
قال أنس بن مالك: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن
، ونظير هذه الآية قوله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ «١» يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر، يعني المثلى والأسرى.
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس لهم أن يعلونا» [١٥٥] قال: فمكث أبو سفيان ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب؟ فقال عمر (رضي الله عنه) : هذا رسول الله وهذا أبو بكر وها أنا عمر. فقال أبو سفيان: يوما بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال.
فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
فقال: إنكم لتزعمون ذلك فقد خبنا إذا وخسرناهم.
قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون قتلاكم مثلى ولم يكن ذلك على رأي سراتنا ثم ركبته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه.
قال الثعلبي: أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن الكارزي قال: أنشدنا محمد بن القاسم الجمحي:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة... وفي كل حادثة يؤتمر
يهينون من حقروا فقره... وإن كان فيهم تقي أو تبر
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني وإنما كانت هذه المداولة لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليرى الله الذين كفروا منكم ممّن نافقوا فيهزأ بعضهم من بعض. وقيل: معناه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن يكلّفهم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني يطهّرهم من ذنوبهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يفنيهم ويهلكهم وينقصهم ثم عزّاهم فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ... (وَيَعْلَمَ) نصب على الظرف، وقيل: بإضمار أن الخفيفة.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وذلك أنهم تمنوا أن يكون لهم يوم كيوم بدر فأراهم الله تعالى يوم أحد فذلك قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي أسبابه وآثاره وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية.
قال أهل التفسير وأصحاب المغازي: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد الله بن جبير. أحد بني عمر. وعمر بن عوف. وهو أخو خوات بن جبير. على الرماة وهم خمسون رجلا.
فقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لا نؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا، ولا تبرحوا مكانا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
الدر في المخانق... والمسك في المفارق
إن تقبلوا نعانق... ونفرّق النمارق
أو تدبروا نفارق... فراق غير وامق «٢»
وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديدا حتى حميت الحرب.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان رجلا شجاعا يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
(٢) الطبقات الكبرى: ٢/ ٤٠، تاج العروس: ٦/ ٤١٨. [.....]
أنا الذي عاهدني خليلي | ونحن بالسفح لدى النخيل |
ألّا أقوم الدهر في الكيول | أضرب بسيف الله والرسول |
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش، فأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزبير بن العوّام: فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، فأقبل عبد الله بن قمية يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير. وهو صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، ويوم أحد وكان اسم رايته العقاب. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قمية فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله، فقال: إني قتلت محمدا وصاح صارخ: ألا أن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوا الناس ويقول: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» [١٥٧] فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست، وقى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانها فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا فقال: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول:
عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها.
قال رسول الله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» [١٥٨] فلما كان يوم أحد ودنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول: قتلني محمد، واحتمله أصحابه فقالوا: ليس عليك
فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لقد ورث الضلالة عن أبيه | أبي حين بارزه الرسول |
أتيت إليه تحمل رم عظم | وتوعده وأنت به جهول |
يقول فكيف يحيى الله هذا | وهذا العظم عار ومستحيل «٢» |
وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا | أبا جهل لأمهما الهبول |
وأفلت حارث لما شغلنا | بأسر القوم، أسرته فليل] «٣» |
ألا من مبلغ عني أبيّا | فقد ألقيت في جوف السعير |
تمنى بالضلالة من بعيد | وقول الكفر يرجع في غرور |
فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ | كريم الأصل ليس بذي فجور |
له فضل على الأحياء طرّا | إذا نابت ملمّات الأمور «٤» |
فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن ربّ
(٢) السيرة النبوية لابن هشام: ٣/ ٦٠٢، السيرة النبوية- ابن كثير-: ٣/ ٦٩، ولم يرد البيت الأخير في المصادر.
(٣) أثبتناه من المصادر، وما في الأصل هكذا:
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يحيا بأمر الله ليس كما تقول | فالى حلفه بالله إني |
سأقتله فكان هو القتيل | فابكوا يا بني خلف جميعا |
رجالا كلهم رجس ضلول | وقد قتلت بنو النجار |
منكم أمية إذ يغوث [يا عقيل] | وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا |
(٤) السيرة النبوية لابن هشام: ٣/ ٦٠٢، السيرة النبوية لابن كثير: ٣/ ٦٩.
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه... والله أعلى وأمجد
قد شق له من اسمه ليجله... فذو العيش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين... والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله ضوءا منيرا وهاديا... يلوح كما لاح الصقيل المهنّد «١»
روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد» [١٥٩] «٢».
وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمّيتم الولد محمدا فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلّا خيرا لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلّا قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين» «٣» [١٦٠].
وعن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الرجل: إنما أدعوا ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي» «٤» [١٦١].
وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجمعوا بين
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٣٤٠.
(٣) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٤٠٧.
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٢٤٨.
وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ولد لك غلام نحلته اسمي وكنيتي» «٢» [١٦٣].
أَفَإِنْ ماتَ على فراشه أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ رجعتم إلى دينكم الأول الكفر وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ المؤمنين.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي، وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات قال: فأقبل أبو بكر (رضي الله عنه) حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجّى ببردة خيبر، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبدا، ثم ردّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر فأنصت قال: فأبى إلّا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. فقال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم.
قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلّا أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني وما ينبغي لنفس أن تموت.
وقال الأخفش: اللام في قوله: (لِنَفْسٍ) مقتولة تقديره: ما كانت نفس لتموت (إلّا بإذن الله) بعلم الله، وقيل: بأمره.
(٢) الطبقات الكبرى: ٥/ ٩٢، تاريخ دمشق: ٥٤/ ٣٢٧.
قال مقاتل: من اللوح المحفوظ، ونصب الكتاب على المصدر يعني: كتب الله كتابا مؤجلا، كقوله: رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ «١» وصُنْعَ اللَّهِ وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وقيل: هو إغراء أي: آمنوا بالقدر المقدور.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله، ونظيرها قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ «٢» الآية.
وقال أهل المعاني: الآية مجملة ومعناها: نؤته من نشاء ما قدرناه له، دليله قوله عزّ وجلّ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «٣» نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة.
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي الموحدين المطيعين. والقراءة بالنون لقوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها.
قرأ الأعمش: وسيجزي بالياء، يعني الله سبحانه.
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» «٤» [١٦٤].
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٦ الى ١٥٥]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
(٢) سورة الشورى: ٢٠.
(٣) سورة الإسراء: ١٨. [.....]
(٤) صحيح ابن حبان: ٢/ ١١٣.
وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة: (وكأين) مهموزا ممدودا مخففا على وزن فاعل، وهو اختيار أبي عبيد، اعتبارا بقول أبي بن كعب لزر بن حبيش: (كاين) بعد سورة الأحزاب. فقال:
كذا آية.
وقرأ ابن محيصن: (كأي) ممدودا بغير نون.
وقرأ الباقون: (وَكَأَيِّنْ) مشدودا بوزن كعيّن، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد.
وأنشد المفضل:
وكائن ترى في الحي من ذي صداقة | وغيران يدعو ويله من حذاريا «١» |
كأين من أناس لم يزالوا | أخوهم فوقهم وهم كرام «٢» |
كأين أبدنا من عدوّ يغزنا | وكأين أجرنا من ضعيف وخائف «٣» |
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٢٨.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٢٩.
وقرأ الآخرون: (قاتَلَ)، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، فمن قرأ (قاتَلَ) فلقوله:
فَما وَهَنُوا ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعد ما قتلوا، ولقول سعيد بن جبير: ما سمعنا أن نبيا قط قتل في القتال.
وقال أبو عبيد: إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم.
ومن قرأ (قتل) فله ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون القتل واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة (قتل) فيكون في الآية إضمار معناه ومعه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه، ويقول: خرجت معي تجارة، أي ومعي.
والوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين، ويكون وجه الكلام: قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني فلان، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله: فَما وَهَنُوا راجعا إلى الباقين الذين لم يقتلوا.
والوجه الثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير.
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة: (رُبِّيُّونَ) بضم الراء، وهي لغة بني تميم.
الباقون: بالكسر، وهي اللغة الفاشية [العالية].
والربيون جمع الربّية وهي الفرقة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع.
السدي: جموع كثير.
قال حسان:
وإذا معشر تجافوا عن الحق | حملنا عليهم ربيا «١» |
الرعية، وقال بعضهم: هم الذين يعبدون الرب، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته
قرأه العامة: بفتح الهاء، وقرأ قعنب أبو السماك العدوي: بكسر الهاء، فمن فتحه فهو من وهن يهن وهنا، مثل وعد يعد وعدا، قاله المبرد وأنشد:
إن القداح إذا اجتمعن فرامها | بالكسر ذو جلد وبطش أيد |
عزّت ولم تكسر وإن هي بددت | قالوهن والتكسير للمتبدد «١» |
فقال الكسائي: هو من وهن يوهن وهنا، مثل وجل يوجل وجلا.
قال الشاعر:
طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن | ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن «٢» |
قال قتادة والربيع: يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله، السدي: وما ذلّوا، عطاء: وما تضرّعوا، مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم، أبو العالية: وما جبنوا، المفضل والقتيبي: وما خشعوا، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه، مثل معطير من العطر ومنديل من الندل، وهو دفعه من واحد إلى آخر، وأصل الندل السوق، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم.
وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ.
قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: (قَوْلُهُمْ) بالرفع على اسم كان وخبره في قوله: أَنْ قالُوا.
وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان والاسم في أن، قالوا تقديره: وما كان قولهم إلّا قولهم كقوله: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ «٣» وما كانَ حُجَّتَهُمْ «٤» ونحوهما، ومعنى الآية: وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل نبيّهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني خطايانا الكبار، وأصله مجاوزة الحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا كيلا تزول وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد فَآتاهُمُ اللَّهُ، وقرأ الجحدري: فأثابهم الله من
(٢) تاريخ مدينة دمشق: ٤٩/ ١٣٣.
(٣) سورة الأعراف: ٨٢.
(٤) سورة الجاثية: ٢٥.
فقال علي (رضي الله عنه) : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم
، يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فتنقلبوا مغبونين ثم قال بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وحافظكم على دينكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي.
قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلّا الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به.
وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها.
سَنُلْقِي قرأ أيوب السختياني: سيلقي بالياء يعني الله عزّ وجلّ لقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ، قرأ الباقون: بالنون على التعظيم أي سنقذف، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الخوف وثقل عينه، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون.
بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ هو (ما) المصدر، تقديره باشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر عن مصيرهم فقال: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام الكافرين.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ،
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، فقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعد بالنصر والظفر، وهو قوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الآية، وقول رسول الله للرماة: «لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم»
«١» [١٦٥]، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ وذلك
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» «٢» [١٦٦].
وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم
(٢) مسند أحمد: ١/ ٢٨٧.
قال الشاعر:
حسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت | بقيتهم قد شردوا وتبددوا «١» |
قال روبة:
إذا شكونا سنة حسوسا | تأكل بعد الأخضر اليبيسا «٢» |
وقال الآخرون: هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا: وفي قوله: وَتَنازَعْتُمْ مقحمة زائدة، ونظم الآية: حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم وفشلتم أي جبنتم وضعفتم، ومعنى التنازع الاختلاف، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض،
وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هزم المشركون وقالوا: انهزم القوم فما مقامنا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح فصارت دبورا بعد ما كانت صبا، وانتفضت صفوف المسلمين، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار، فقتل بعضهم بعضا وما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس ألا إن محمدا قد قتل، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين.
مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا.
وقال عبد الله بن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد فنزلت هذه الآية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ردّكم عنهم بالهزيمة لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، قاله أكثر المفسرين، ونظيره: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ «٣».
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٣٥، لسان العرب: ٢/ ٤٤.
(٣) سورة البقرة: ٥٢. [.....]
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين.
قرأه العامة: (تُصْعِدُونَ) بضم التاء وكسر العين.
وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء.
وقرأ ابن محيصن وشبل: إذ يصعدون ويلوون بالياء، يعني المؤمنين. ثم رجع إلى الخطاب فقال وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ على البلوى.
قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره، والإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج، قال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب.
قال الأعشى:
إلّا أيهذا السائلي أين أصعدت | فإنّ لها من بطن يثرب موعدا «١» |
وأنشد أبو عبيدة:
لقد كنت تبكين على الإصعاد | فاليوم سرحت وصاح الحادي «٢» |
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمنهزمين: «لقد ذهبتم فيها عريضة» «٣» [١٦٧].
وقرأ أبي بن كعب: إذ تصعدون في الوادي، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. وقال المفضل: صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد.
ولا يلوون على أحد يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم، لا يلتفت بعض إلى بعض هربا.
وقرأ الحسن: ولا يلون بواو واحدة اتباعا للخط، كقولك: استحببت واستحبت على أحد.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٣٩.
(٣) تفسير القرطبي: ٤/ ١٩٤.
قال الشاعر:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه | أداهم سودا أو محدرجة سمرا» |
قال الحسن: يعني بغم المشركين يوم بدر.
وقال آخرون: الباء بمعنى على، أي غمّا على غمّ، وقيل: غَمًّا بِغَمٍّ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة، وقيل: الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» [١٦٨] ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، ثم أشرف عليهم، فلما نظر المسلمون إليهم، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» [١٦٩] ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعا «٣».
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ (ما) في موضع خفض أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم، وهمّكم ما أنتم فيه غما قد أصابكم قبل.
فقال الفضل: (لا) صلة معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه، وترككم المركز كقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «٤».
(٢) الصحاح: ١/ ٣٠٥، لسان العرب: ٢/ ٢٣٢.
(٣) تاريخ الطبري: ٢/ ٢٠١- ٢٠٢.
(٤) سورة الحديد: ٢٩.
روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلّا كالحلم يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا
، فأنزل الله تعالى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ يا معشر المؤمنين وأهل اليقين، أَمَنَةً يعني أمنا، وهي مصدر كالعظمة والغلبة، وقرأ ابن محيصن: أَمْنَةً بسكون الميم.
نُعاساً بدل من الأمنة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (تغشي) بالتاء ردا إلى الأمنة، وقرأ الباقون: بالياء ردا إلى النعاس، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه.
قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر.
روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلّا وهو يميد تحت جحفته من النعاس.
قال أبو طلحة: وكنت ممّن ألقي عليه النعاس يومئذ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه.
وَطائِفَةٌ يعني المنافقين، وهب بن قشير وأصحابه، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله: يَظُنُّونَ... قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي حملتهم على الهمّ، يقال: أمر مهم، ومنه قول العرب: همّك ما أهمّك.
يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا قد قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كظن أهل الجاهلية والشرك يَقُولُونَ هَلْ لَنا أي ما لنا، لفظ استفهام ومعناه هل مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني النصر قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
قرأ أبو عمرو ويعقوب: (كُلُّهُ) على الرفع بالابتداء وخبره في قوله: لِلَّهِ وصار هذا الابتداء والجملة خبرا لإنّ، كما يقول: إن عبد الله وجهه حسن، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانيا وحسن خبره، وجملة الكلام خبر للابتداء الأول.
وقرأ الباقون: (كُلَّهُ) بالنصب على البدل، وقيل: على النعت.
وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يعني به التكذيب بالقدر، وذلك أنّهم يظنوا في القدر، فقال الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا
وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا، فقال الله: قل لهم: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ لخرج.
وقال ابن أبي حيوة: (لَبُرِّزَ) بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول.
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ، قرأ قتادة: القتال إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ليختبر الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ يخرج ويطهّر ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير أو شر إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا انهزموا مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين والمشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ.
قال المفضل: حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة.
وقال القتيبي: طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت عليها، أي طلبت عجلته، واستعجلته طلبت عمله، وقيل: أزل واستزل بمعنى واحد.
وقال الكلبي: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ حينما كسبوا، أي بشؤم ذنوبهم، قال المفسرون:
بتركهم المراكز، وقال الحسن: ما كَسَبُوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة.
وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدرا؟ قال: لا، قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا، قال: أفكان من الذين تولّوا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ؟ قال: نعم، فقيل له: إن هذا يرى أنك قد عبته، فقال: عليّ به، أمّا بدر فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له بسهمه، وأما بيعة الرضوان فقد بايع [له] «١» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان [فإن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] فاذهب فاجهد عليّ جهدك «٢».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٦٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
(٢) المصنف لابن أبي شيبة: ٧/ ٤٩٠ وما بين المعكوفتين بياض في المخطوط استدركناه منه.
لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً يعني قولهم وظنهم حزنا فِي قُلُوبِهِمْ والحسرة الاغتمام على فائت كان تقدر بلوغه.
قال الشاعر:
فوا حسرتي لم أقض منهما لبانتي | ولم أتمتع بالجوار وبالقرب «١» |
قرأ ابن كثير وطلحة والأعمش والحسن وشبل وحمزة والكسائي وخلف: (يعملون) بالياء، الباقون: بالتاء.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ.
قرأ نافع وأكثر أهل الكوفة ما كان من هذا الباب: بكسر الميم، وقرأ الآخرون: بالضم، فمن ضمّه فهو من قال: يموت كقولك من كان يكون كنت، ومن قال يقول قلت، ومن كسر فهو من مات يمات متّ كقولك من خاف يخاف خفت ومن هاب يهاب هبت.
قرأه العامة: (تجمعون) بالتاء لقوله: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ... أَوْ مُتُّمْ، وقرأ حفص: بالياء على الخبر عن الغالبين، يعني خير ممّا يجمع الناس من الأموال.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ... أَوْ مُتُّمْ... لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ في العاقبة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي فبرحمة من الله (ما) صلة كقوله عزّ وجلّ: فَبِما نَقْضِهِمْ «١» وعَمَّا قَلِيلٍ «٢» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ «٣».
وقال بعضهم: يحتمل لأن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم أي سهّلت لهم أخلاقك وكثر احتمالك، ولم يسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد.
يقال: لآن له يلين لينا وليانا إذا رقّ له وحسن خلقه.
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا يعني جافيا سيء الخلق قاسي القلب قليل الاحتمال، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ، والأنثى فظة، والجمع فظاظ.
وأنشد المفضل:
وليس بفظ في الأداني والاولى | يؤمون جدواه ولكنه سهل «٤» |
أموت من الضر في منزلي | وغيري يموت من الكظة |
ودنيا تجود على الجاهلين | وهي على ذي النهى فظة «٥» |
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لنفروا وتفرقوا عنك يقال: فضضتهم وانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا.
قال أبو النجم يصف إبلا:
مستعجلات القبض غير جرد | ينفض عنهنّ الحصى بالصّمد «٦» |
منه العطاء ومنه الثناء.
(٢) سورة المؤمنون: ٤٠.
(٣) سورة ص: ١١.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٤٩. [.....]
(٥) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٤٨، والكظة: البطنة.
(٦) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٤٩.
وشرت الدابة وشورته، إذا استخرجت جريه وأعلمت خبره وتفنن لما يظهر من حالها مستورا، وللموضع الذي يشور فيه أيضا يتولد، وقد يكون أيضا من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشار ومشتار إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه.
وقال عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له | وحديث مثل ماذي مشار «١» |
فقال بعضهم: هو خاص في المعنى وإن كان عاما في بعض اللفظ، ومعنى الآية:
وشاورهم فيما يسر عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر.
قال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكان الحرب عند الغزو.
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شقّ عليهم، فأمر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشاورهم في الأمر الذي يريده، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم وأطيب لأنفسهم، وإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم وأن القوم إذا عزموا وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم الله لهم على الأرشد.
قال الشافعي (رضي الله عنه) : ونظير هذا
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البكر تستأمر في نفسها» «٢»
[١٧٠] إنما أمرنا استئذآنها لاستطابة نفسها وإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها.
وكمشاورة إبراهيم (عليه السلام) ابنه حين أمر بذبحه.
وقال الحسن: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده، ودليل هذا التأويل ما
روى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما شقي عبد قط بمشورة وما سعد باستغناء برأي»
«٣» [١٧١]، يقول الله عزّ وجلّ:
(٢) مسند أحمد: ١/ ٢١٩.
(٣) مسند الشهاب: ٢/ ٦.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير من ظهرها» «٢» [١٧٢].
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني عمي:
إذا كنت في حاجة مرسلا... فأرسل حكيما ولا توصه
وإن ناب أمر عليك التوى... فشاور لبيبا ولا تعصه
ونص الحديث إلى أهله... فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإله... تبين ذلك في شخصه «٣»
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر الضرير، قال أبو سلمة المؤدب:
شاور صديقك في الخفي المشكل... واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذلك نبيّه... في قوله شاورهم وتوكل «٤»
فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لا على مشاورتهم.
وقرأ جعفر الصادق (رضي الله عنه) وجابر بن زيد: (فَإِذا عَزَمْتُ) بضم التاء أي عزمت لك ووفقتك وأنشدتك فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ
، والتوكل التفعل من الوكالة يقال: وكّلت الأمر إلى فلان فتوكل أي ضمنه وقام به، فمعنى قوله: (توكل) أي قم بأمر الله وثق به واستعنه.
فصل في التوكل
اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل:
فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه: أول مقام التوكل، أن يكون العبد بين يدي الله
(٢) سنن الترمذي: ٣/ ٣٦١، ح ٢٣٦٨.
(٣) ورد أبياتا متناثرة في مصادر عدّة، راجع: تفسير القرطبي: ٤/ ٢٥١، كشف الخفاء: ١/ ٣٤١، ترجمة ١٠٩١، نهج السعادة: ٧/ ٢٨٢.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٥٠.
أبو تراب النخشبي: التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ. بشر الحافي: الرضا، وعن ذي النون وقد قال له رجل: يا أبا الفيض ما التوكّل؟ قال: خلع الأرباب وقطع الأسباب. فقال:
زدني فيه حالة أخرى. فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وقال إبراهيم الحواص: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله، ابن الفرجي: ردّ العيش لما يوم واحد وإسقاط غم غد، وعن علي الروذباري قال: مراعاة التوكل ثلاث درجات:
الأولى منها: إذا أعطى شكر وإذا منع صبر.
والثانية: المنع والإعطاء واحد.
والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه، لعلمه باختيار الله ذلك له.
وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصا حسنا فقلت:
أجني أم إنسي؟ فقال: بل جنيّ. فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة. قلت: بلا زاد؟ قال: نعم، فينا أيضا من يسافر على التوكل. فقلت له: ما التوكل؟ قال: الأخذ من الله.
ذو النون أيضا: هو انقطاع المطامع.
سهل أيضا: معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصفر والأرض عنده كالحديد، لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين.
وعن بعضهم: هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه.
وقال آخر: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره.
الجنيد (رحمه الله) : التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك، وتعرض ممّن دونه.
النوري: هو أن يفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبرا، قال الله عزّ وجلّ:
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا «١» وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل.
وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادا على خالق الأرض والسماوات.
وعن محمد بن عمران قال: قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال:
أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أشغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه.
وعن أبي موسى [الوبيلي] «١» قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ، لم تخف مع الله شيئا.
قال أبو موسى: [ذهبت] إلى أبي يزيد البسطامي: أسأله عن التوكل، فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، [وإذا] جاء الجواب من الباب فانصرف: لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئا.
قال أبو موسى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل «٢» فأقمت بها سنة، ثم اعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال: زرتني مرحبا بالزائرين [لا] أخرجك، قال: فأقمت عنده شهرا لا يقع لي شيء إلّا أخبرني قبل أن أسأله فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك.
قال لي: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، حدثتني أمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت، وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل، اجعلها فائدة وانصرف. فجعلتها فائدة وانصرفت.
وروى طاوس اليماني (رحمه الله) قال: رأيت أعرابيا قد جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك حتى أخرج إليها.
فخرج الأعرابي وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنه ما سرق مني شيء وما سرق إلّا منك. فقال طاوس: فنحن كذلك مع الأعرابي إذا رأينا رجلا من رأس أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي وقال له: هاك راحلتك وما عليها. فقيل له: وما حالك؟ فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس فقال: يا سارق مدّ يدك فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فقطعها به وعلقها في عنقي وقال: انزل فرد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي.
(٢) مدينة بأرمينية.
روى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجلّ ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق ممّا في يديه» «٢» [١٧٤].
وكان عمر (رضي الله عنه) يتمثل بهذين البيتين:
هوّن عليك فإن الأمور... بأمر الإله مقاديرها
نفس ليأتيك مصروفها... ولا عادك عنك مقدورها «٣»
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعينكم الله من عدوكم فَلا غالِبَ لَكُمْ في يوم بدر وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يترككم ولا ينصركم، والخذلان: القعود عن النصرة والاستسلام للهلكة والمكروه، ويقال للبقرة والظبية إذا تركت ولدها وتخلفت عنها: خذلت فهو خذول.
قال طرفة:
خذول تراعي ربربا بخميلة... تناول أطراف البرير وترتدي «٤»
وأنشد:
نظرت إليك بعين جارية... خذلت صواحبها على طفل «٥»
وقرأ أبو عبيد بن عمير: (وَإِنْ يُخْذِلْكُمْ) بضم الياء وكسر الذال، أي نجعلكم مخذولين ونحملكم على الخذلان والتخاذل كما فعلتم بأحد.
فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الآية.
روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروى جويبر بن الضحاك عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما وقع في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بإبرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
(٢) مسند الشهاب: ١/ ٢٣٤. [.....]
(٣) كنز العمال: ١٦/ ١٥٧، ح ٤٤١٩٤، بتفاوت.
(٤) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٥٤.
(٥) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٥٤.
نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا فهو له، وأن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟» قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل ظننتم أن نغل ولا نقسم» «١» [١٧٥] فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى بعضهم عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث طلائع فغنمت، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية.
قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي (عليه السلام) وقد غلّ طوائف من أصحابه.
وفي بعض التفاسير: أن الأقوياء ألحّوا عليه يسألونه عن المغنم، فأنزل الله عزّ وجلّ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ فيعطي قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية ولا يحرم أحدا.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذا في الوحي يقول: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ويكتم شيئا من وحي الله عزّ وجلّ رغبة أو رهبة أو مداهنة، وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
فأما التفسير فقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: (يَغَلُّ) بفتح الياء وفتح الغين، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة.
وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الغين وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي حاتم، فمعناه أن يخون، والمراد به الأمة.
وقال بعض أهل المعاني: اللام فيه منقولة، معناه: ما كان النبي ليغل، وما كان الله عزّ وجلّ أن يتخذ من ولد، أي ما كان الله ليتخذ من ولد.
وقال بعضهم: هذا من ألطف التعريض لها بأن [برأ ساحة] النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، دلّ على أن الغلول في غيره، ونظيره قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «٢» وهذا معنى قول السدي.
وقال المفضل: معناه ما كان يظن به ذلك ولا يشبهه ولا يليق به، فاحتج أهل هذه القراءة بقول ابن عباس: كيف لا يكون له أن يغل وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء يقتل
(٢) سورة سبأ: ٢٤.
أحدهما: أن يكون من الغلول، أي ما كان النبي أن يغل، أي أن يخان، يعني أن تخونه أمّته.
والوجه الآخر: أن يكون من الإغلال، معناه ما كان لنبي أن يخون أو ينسب إلى الخيانة أو يوجد خائنا أو يدخل في جملة الخائنين، فيكون أغل وغلل بمعنى واحد، كقوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «١» وقوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «٢».
وقال المبرد: تقول العرب: أكفرت الرجل بمعنى جعلته كافرا ونسبته إلى الكفر وحملته عليه ووجدته كافرا ولحقته بالكافرين.
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال الكلبي: يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له: انزل فخذه، فينزل فيحمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم كلفه أن ينزل إليه فيخرجه فيفعل ذلك.
وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما خطيبا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره وقال: «لا ألقينّ أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم بصامت يقول: يا رسول الله اغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة «٣» يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» »
[١٧٦].
وحدث سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو في النار» فوجدوا عليه عباءة قد غلّها «٥».
وحدث الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له أبو اللبيبة «٦» على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي له، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم
(٢) سورة الطارق: ١٧.
(٣) الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل.
(٤) صحيح البخاري: ٤/ ٣٧، تفسير الطبري: ٤/ ٢١١، ومصنف ابن أبي شيبة: ٧/ ٧١١.
(٥) تاريخ دمشق: ٤/ ٢٧٩.
(٦) في تفسير الطبري: ٤/ ٢١٢ (ابن التبية)، وفي السنن الكبرى: ٤/ ١٥٨ (أبو اللبتية).
وعن زيد بن خالد: أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صلّوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: «إن صاحبكم غلّ في سبيل الله» ففتشنا متاعه لذلك، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين «٢».
وعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر فلم يغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع قال: فتوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو وادي القرى وقد أهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال له مدعم فبينا مدعم يحطّ رجل رسول الله إذ جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا». فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شراك من نار أو شراكان من نار» «٣» [١٧٨].
وعن عبيد الله بن عمير قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيجمعه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة فقال: «أسمعت قد نادى ثلاثا؟» قال: نعم، قال: «فما منعك أن تجيء به» فاعتذر إليه، فقال: «كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك» «٤».
وعن صالح بن محمد بن مائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غلّ فسئل سالم عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعه واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسأل رجل سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه «٥».
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد حرقوا متاع الغال وضربوه وفي بعض الروايات ومنعوه سهمه.
وعن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر
(٢) مسند أحمد: ٤/ ١١٤.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ٢١٣. [.....]
(٤) سنن أبي داود: ١/ ٦١٥، ح ٣٧١٢، صحيح ابن حبان: ١١/ ١٩٧.
(٥) الدر المنثور: ٣/ ٩٢.
وقال ابن عباس: يعني أن من اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ومن باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ مختلف المنازل عند الله تعالى، فلمن اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ الكرامة والثواب العظيم، ولمن باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ المهانة والعذاب الأليم.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
قال بعضهم: لفظ الآية عام ومعناها خاص، إذ ليس حي من أحياء العرب إلّا وقد قلّدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس فيهم نسب إلّا بني تغلب، فإن الله طهّره منهم لما فيهم من دنس النصرانية إذ ثبتوا عليها، وبيان هذا التأويل قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «١».
وقال الآخرون: (هو) أراد به المؤمنين كلهم، ومعنى قوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بالإيمان والشفقة لا بالنسب كما يقول القائل: أنت نفسي، يدل عليه قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «٢» الآية.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ وقد كانوا من قبل بعثه، وهو رفع على الغاية لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. أَوَلَمَّا أوحين أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين قُلْتُمْ أَنَّى هذا من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا والوحي ينزل علينا وهم مشركون.
وروى عبيدة السلماني عن علي قال: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك للناس فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى بها على قتال عدونا، منّا عدتهم فليس في ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى يوم بدر «٣»
، فمعنى قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ على هذا التأويل أي: بأخذكم الفداء واختياركم القتل.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَما أَصابَكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بأحد
(٢) سورة التوبة: ١٢٨.
(٣) انظر: تفسير الطبري: ٤/ ٢٢٢.
وقال السدي والفراء وأبو عون الأنصاري: أي كثروا سواد المسلمين، ورابطوا إن لم تقاتلوا، كون ذلك دفعا وقمعا للعدو قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ وهم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة، قال الله: هُمْ لِلْكُفْرِ أي إلى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي في الإيمان يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وذلك أنهم كانوا ينكرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبيّن الله عزّ وجلّ نفاقهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في النسب لا في الدين، وهم بهذا واحد وَقَعَدُوا يعني وقعد هؤلاء القاعدون عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا وانصرفوا عن محمد وقعدوا في بيوتهم ما قُتِلُوا قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إن الحذر لا يغني عن القدر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٨]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الآية.
قال بعضهم: نزلت هذه الآية في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وقال آخرون: نزلت في شهداء أحد، وكانوا سبعين رجلا، أربعة من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
وروى ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب
قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا، كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه، فقال الله تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إلى قوله أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» [١٧٩] «١».
قال قتادة والربيع: ذكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال: جعل الله عزّ وجلّ أرواح شهداء أحد في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فأطلع الله تعالى عليهم اطلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربّنا ألسنا نسرح في الجنة في أيّها شئنا، ثم اطلع عليهم الثانية فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟
فقالوا: ربّنا أليس فوق ما أعطيتنا شيئا إلّا أن نحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى فيك قال: لا. فقالوا: فتقرئ نبيّنا منّا السلام وتخبره بأن قد رضينا ورضي عنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال جابر بن عبد الله: قتل أبي يوم أحد وترك عليّ بنات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألّا أبشرك يا جابر» قلت: بلى يا نبي الله قال: «إنّ أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله وكلمه كلاما فقال: يا عبد الله سلني ما شئت قال: أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا، فقال: يا عبد الله إني قضيت أن لا أعيد خليقة إلى الدنيا. قال: يا ربّ فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة. قال الله تعالى: أنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية» «٢» [١٨٠].
حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلّا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى» «٣» [١٨١].
وقال بعضهم: نزلت في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك على ما
روى محمد بن
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٦٨.
(٣) مسند أحمد: ٣/ ١٢٦.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أخشى عليهم أهل نجد» فقال أبو براء: أنا لهم جار. أي هم في جواري- فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الضمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهير مولى أبي بكر، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، فساروا حتى نزلوا بين معونة- وهي أرض بين أرض بني عامر- وحرة بني سليم، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء، فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال حرام: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت وربّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا. فاستصرخ قبائل من بني سليم عصبة ورعيل وذكوان فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوهم في رجالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف ثم قاتلوهم حتى قتلوا من آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق «١».
وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فلم ينبههما على مصاف أصحابهما إلّا الطير يحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني
«هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا» [١٨٣] فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.
وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة: أن عامر بن الطفيل كان يقول: من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه، قالوا: هو عامر بن فهيرة «١».
قالوا وقال حسان بن ثابت يحرض أبي براء على عامر بن الطفيل:
فتى أم البنين ألم يرعكم | وأنتم من ذوائب أهل نجد |
نهكم عامر بأبي براء | ليخفره وما خطأ كعمد |
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي | فما أحدثت في الحدثان بعدي |
أبوك أبو الحروب أبو براء | وخالك ماجد حكم بن سعد «٢» |
لقد طارت شعاعا كل وجه | خفارة ما أجار أبو براء |
بني أم البنين أما سمعتم | دعاء المستغيث مع النساء |
وتنويه الصريخ بلى ولكن | عرفتم أنه صدّق اللقاء «٣» |
وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرورا تحسروا على الشهداء وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله عزّ وجلّ تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم وَلا تَحْسَبَنَّ ولا تظنن وروى هشام عن أهل الشام: (يحسبن)
(٢) تاريخ الطبري: ٢/ ٢٢١.
(٣) تاريخ الطبري: ٢/ ٢٢١.
وقرأ ابن أبي عبلة: أحياءً نصبا أي أحسبهم أحياء عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وقال بعضهم: يعني أحياء في الدنيا حقيقة «١»، وقيل: [في العالم] وقيل: بالثناء والذكر، كما قيل:
موت التقي حياة لا فناء لها | قد مات قوم وهم في الناس أحياء «٢» |
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ويأكلون ويتنعمون كالأحياء، وقيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في فضل كل مجاهد يكون في الدنيا إلى يوم القيامة، لأنهم سلوا أمر الجهاد، فيرجع أجر من يقتدي بهم إليهم، نظيره قوله: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً «٣» الآية، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض.
يقال: أربعة لا تبلى أجسادهم: الأنبياء والعلماء والشهداء وحملة القرآن.
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السلميين، كانا قد خرّب السيل قبرهما وكانا في قبر واحد وهما من شهداء أحد، وكان قبرهما ممّا يلي السيل، فحفر عنهما ليغيّروا عن مكانهما فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد وبين يوم حفر عنهما ستة وأربعون سنة. وقيل: سمّوا أحياء لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زمّلوهم في كلومهم ودمائهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك» «٤» [١٨٤].
وقال عبيد بن عمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف يوم أحد مرّ على مصعب بن عمير
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٦٩. [.....]
(٣) سورة المائدة: ٣٢.
(٤) السير الكبير: ١/ ٢٣٢، ح ٢٩٤.
فَرِحِينَ نصب على الحال والقطع من قوله يُرْزَقُونَ.
وقرأ ابن السميقع: (فارحين) بالألف، وهما لغتان كالفره والفاره والحذر والحاذر والطمع والطامع والبخل والباخل.
بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من ثوابه وَيَسْتَبْشِرُونَ يفرحون، وأصله من البشرة، لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على منهاجهم من الإيمان والجهاد، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم فصاروا من كرائم الله عزّ وجلّ إلى مثل ما صاروا هم إليهم، فهم لذلك مستبشرون.
وقال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه من تقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال: تقدم فلان عليك يوم كذا وتقدم فلان يوم كذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني بأن لا خوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ يعني وبأن الله في محل الخفض على قوله: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.
وقرأ الكسائي والفرّاء والمفضل ومحمد بن عيسى: (وَإِنَّ اللَّهَ) بكسر الألف على الاستثناء، ودليلهم قراءة ابن مسعود والله (لا يضيع أجر المؤمنين).
قال الكلبي باسناده: إن العبد إذا لقى العدو في سبيل الله، فتح له باب من السماء وأطلعت عليه زوجتاه من الحور العين، فإذا أقبل على العدو يقاتلهم قالتا: اللهم وفقه وسدّده، وإذا أدبر عن العدو قالتا: اللهم أعف وتجاوز، فإذا قتل يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة فيقول لهم: انظروا إلى عبدي بذل نفسه ودمه ابتغاء مرضاتي، فتقول الملائكة: يا ربّ أفلا تذهب فتنصره على من يريد قتله؟ فيقول لهم: خلّوا عن عبدي، فقد سهر ونصب في طلب مرضاتي، أحبّ لقائي وأحببت لقاءه. فينزل إليه زوجتاه من الحور العين، ويأمر الله الملائكة أن يأتوه من آفاق الأرض، فيحبونه ويبشرونه بالجنة والكرامة من الله تعالى، فإذا فعلوا ذلك بعث الله إليهم:
(٢) كنز العمال: ١٠/ ٣٨١، ح ٢٩٨٩٢.
وعن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟
قال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقته العضباء ونحن منقلبون من غزوة، فسألته عمّا سألتني عنه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها، يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلّا ضعفت له، وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، اليوم مثل عمر الدنيا، فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت، ونادى مناد: الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيب التي أخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويقول الله تعالى: أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين، في كل غرفة سبعون بابا، على كل باب سبعون مصراعا من ذهب، وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة، وفي كل غرفة سبعون خيمة، في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب قوائمها الدر والزبرجد، مزمولة بقضبان الزمرد، على كل سرير أربعون فراشا، غلظ كل فراش أربعون ذراعا، على كل فراش زوجة من الحور العين عُرُباً أَتْراباً» «١».
فقال الشاب: يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة؟ قال: «هي الغنجة الرضية المرضية الشهية، لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة، صفر الحلي بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ،
فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم، ممّا يرون من بهائهم، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جوارا فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية» «١».
وروى مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي: رجل كانت له صحبة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويؤمن الفزع الأكبر وعذاب القبر، ويحلّى بحلية الإيمان» «٢»
[١٨٦].
ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته فأتاه رجل أسود فقال: يا رسول الله إني أسود قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟ قال: «في الجنة» قال: فحمل عليهم فقاتل حتى قتل، قال: فجاء رسول الله (عليه السلام) حتى وقف على رأسه فقال: «لقد بيّض الله وجهك وطيّب ريحك وأكثر مالك» ثم قال:
«لقد رأيت زوجتيه من الحور العين في الجنة تنازعانه جبة له من صوف، ليدخلا بينه وبين جبته» «٣» [١٨٧].
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يجد الشهيد من القتل في سبيل الله إلّا كما يجد أحدكم مسّ القرصة» «٤» [١٨٨].
وفي غير هذا الحديث: «عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح» «٥» [١٨٩].
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله عبادا يصونهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم ويحييهم في عافية ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء» «٦» [١٩٠].
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية، وذلك
أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا عن
(٢) المصنف- الكوفي-: ٤/ ٥٨٥.
(٣) البداية والنهاية- ابن كثير-: ٤/ ٢١٨. بتفاوت.
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٢٩٧.
(٥) كنز العمال: ٤/ ٤٠٥.
(٦) كنز العمال: ٤/ ٤٢٦. بتفاوت.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدّك يعني أبا بكر والزبير لمن الذين قال الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ.
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب: أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا، قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذّن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فو الله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلّا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت أيسر جرحا من أخي وكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرّن على بقيتهم فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟
قال: محمد قد خرج في أصحابه بطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال:
قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي | إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل |
تردي بأسد كرام لا تنابلة | عند اللقاء ولا خرق معاذيل |
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة | لمّا سمعوا برئيس غير مخذول |
وي لابن حرب من لقائكم | إذا تغطمطت البطحاء بالجيل |
إني نذير لأهل السير ضاحية | ولكل ذي إربة منهم ومعقول |
من جيش أحمد لا وحش قنابله | وليس يوصف ما أثبت بالقيل |
قالوا: نريد المدينة نريد الميرة.
قال: فهل أنتم مبلّغون محمدا عني برسالة أرسلكم بها وأحمّل لكم إبلكم هذه زبيبا بسوق عكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه إنا قد أجمعنا إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومرّ الركب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان.
فقال رسول الله وأصحابه: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الثالثة إلى المدينة وقد ظفر في وجهه بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غرة الجمحي
، هذا قول أكثر المفسرين.
وقال مجاهد وعكرمة: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعدنا بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك بيننا وبينك إن شاء الله» [١٩١] فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية من الظهران، ثم ألقى الله عزّ وجلّ الرعب في قلبه قبل الرجوع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من جهتهم أحبّ إليّ من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنّا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو يضمنها.
أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها.
قال: بئس الرأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراكم فلم يفلت منكم إلّا شريد، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب رسول الله الخروج، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» [١٩٢] فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. يريدون أن يرعبوا المسلمين، فيقول المؤمنون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، حتى لقوا بدر. وهو ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة، فسماهم أهل مكة جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم تشربون السويق، فلم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين ببدر، ووافوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوها وأصابوا الدرهم والدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين «١». فذلك قوله تعالى:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
ومحل (الَّذِينَ) خفض على صفة المؤمنين تقديره وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ المستجيبين لله والرسول ومعنى الاستجابة: الاجابة والطاعة، نظيره قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي»
فليطيعوا لي مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي نالهم الجراح والكلوم، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو وَاتَّقَوْا معصيته وطاعته أَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب كثير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ومحل (الَّذِينَ) خفض أيضا مردود على الذين الأول، وأراد (بالناس) نعيم ابن مسعود في قول مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي، وهو على هذا التأويل من العام الذي أريد به الخاص، نظيره قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «٣» يعني محمدا وحده، وقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «٤» يريد الرجال وحده.
وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد ب (الناس) الركب من عبد القيس وقد مضت قصتهم.
وقال السدي: لما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه للمسير إلى ميعاد أبي سفيان، أتاهم
(٢) سورة البقرة: ١٨٦.
(٣) سورة النساء: ٥٤. [.....]
(٤) سورة غافر: ٥٧.
وقيل: (الناس) ساروا الناس في هذه الآية هم المنافقون.
وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي سفيان فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا كثيرة فاجتنبوهم. فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني أولئك القوم من بني هذيل إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم فَزادَهُمْ ذلك إِيماناً يعني تصديقا ويقينا وقوة وجرأة.
ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه
روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» «١» [١٩٣].
عطاء: إنما مجادلة أحدكم في الحق، فيكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: فيقولون: ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا ويصومون معنا ويحجّون معنا فأدخلتهم النار. قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من قد عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يقول لهم: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول فمن كان في قلبه ذرة «٢».
وعن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: فماذا أولت يا رسول الله؟ قال:
«الدين» «٣» [١٩٤].
وعن هذيل بن شرحبيل عن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض أو بإيمان هذه الأمة لربح به» «٤» [١٩٥].
(٢) مسند أحمد: ٣/ ٩٤.
(٣) مسند أحمد: ٥/ ٣٧٤، صحيح البخاري: ٨/ ٧٥.
(٤) كنز العمال: ١٢/ ٤٩٣، بنقص يسير.
وعن عبد الله بن عمرو بن هند قال: قال علي كرم الله وجهه: إن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضا، حتى يبيضّ القلب كله، وإن النفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازدادت سوادا، حتى يسوّد القلب كله، والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض القلب ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود القلب.
وعن عمير بن حبيب بن خماشة قال: الإيمان يزيد وينقص. فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟
قال: إذا ذكرنا ربّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيقنا فذلك نقصانه.
وعن محمد بن طلحة عن زبيد عن زر قال: كان عمر ممّا يأخذ الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيمانا.
وعن محمد بن فضيل عن أبيه عن سماك عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه:
امشوا بنا نزدد إيمانا.
وعن الحرث بن عمير عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزيد وينقص.
وعن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: الإيمان يزداد وينقص.
الحرث بن الحصين عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينقص.
أبو حذيفة: إن عمر بن عبد العزيز قال: الإيمان يزيد وينقص.
سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلّا نقص من إيمانه.
وعن عثمان بن سعد الدارمي قال: سألت محمد بن كثير العبدي عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم بلا شك.
وقال: سألت أبا حذيفة موسى بن مسعود عن الإيمان قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم.
قال: وسألت عارم بن الفضل عن الإيمان، فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت:
أكان حماد بن يزيد يقوله؟ قال: نعم.
قال: وسألت سليمان بن حرب عن الإيمان، فقال: مثل ذلك.
قال: وسمعت مسلم بن إبراهيم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال: وسألت علي بن عبد الله المديني عن الإيمان، قال: قول وعمل ونية، قلت: أينقص ويزداد؟ قال: نعم يزداد وينقص حتى لا يبقى منه شيء.
قال: وسألت عمر بن عون الواسطي عن الإيمان فقال: مثل ذلك. قال: وسمعت يحيى بن يحيى يقول: الإيمان قول وعمل والناس يتفاضلون في الإيمان. قال: وسألت أحمد بن يونس عن الإيمان. قال: هو عمل يزيد وينقص.
قال: وسألت عبد الله بن محمد [الطفيل] وكان متّقيا عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، فأروه عني.
قال: وسألت أبا بويه الجيلي عن الإيمان فقال: قول وعمل يزيد وينقص.
قال: وسمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومن كره الاستثناء فقد أخطأ السنّة. قلت: أكان أبو إسحاق الفراري يقوله؟ قال: كان أبو إسحاق يخرج من المصيصة «١» من لا يقول الإيمان يزيد وينقص.
قال: وسمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت يوسف بن أسباط يقول: الإيمان يزيد وينقص.
قال: وسمعت الحسين بن عمر السجستاني يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال الحسن: وكان وكيع بن الجراح وعمر بن عمارة وابن أبي برزة وزهير بن نعيم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قوله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا وثقتنا، والنون والألف مخفوضتان بالإضافة كقولك: حسب زيد درهم، لان حسب اسم وإن كان في مذهب الفعل ألا ترى ضمة الثانية.
قال الشاعر:
فتملأ بيتنا إقطا وسمنا | وحسبك من غنى شبع وريّ «٢» |
(٢) الصحاح: ٥/ ٢١٣٨، تاج العروس: ٥/ ٣٩٢.
قال الواقدي: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي المانع. نظيره قوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا «١» أي مانعا، وقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا «٢».
عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كان آخر ما تكلم به رسول الله إبراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» «٣» [١٩٦].
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين فقال المقضي عليه:
حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحمد على الكيس ويلوم على العجز، وإذا غلبك أمر فقل:
حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» «٤» [١٩٧].
فَانْقَلَبُوا فانصرفوا ورجعوا، نظيره قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ «٥» أي رجعوا.
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعافية لم يلقوا بها عدوا وبراء جراحهم وَفَضْلٍ بربح وتجارة، وهو ما أصابوا من السوق فربحوا لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ينالهم سوء ولا أذى ولا مكروه وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة الله وطاعة رسوله، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يعني ذلك الذي قال لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، من فعل الشيطان ألقى في أفواههم يرهبوهم ويجبنوا عنهم يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم بأوليائه، أي أولياء إبليس حتى يخوّف المؤمنين بالكافرين.
وقال السدي: يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم، نظيره قوله عزّ وجلّ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «٦» أي ببأس، وقوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «٧» وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ «٨» أي بيوم الجمع
(٢) سورة الإسراء: ٦٥.
(٣) السنن الكبرى: ٦/ ١٥٤، والجامع الصغير: ١/ ٦.
(٤) المعجم الكبير: ١٨/ ٥٤، كنز العمال: ٣/ ٨٦.
(٥) سورة يوسف: ٦٢.
(٦) سورة الكهف: ٢. [.....]
(٧) سورة غافر: ١٥.
(٨) سورة الشورى: ٧.
وروى يحيى بن اليمان عن طلحة عن عطاء أنه كان يقرأ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.
وروى محمد بن مسلم بن أبي وضاح قال: حدثنا علي بن خزيمة قال: في قراءة أبي بن كعب: يخوفكم بأوليائه.
فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ في ترك أمري إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بوعدي فإني المتكفل لكم بالنصر والظفر وَلا يَحْزُنْكَ.
قرأ نافع: (يَحْزُنُكَ) بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع ما في القرآن من هذا الفعل، إلّا التي في الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «١» فإنه بفتح الياء وضم الزاي، وضده أبو جعفر، وقرأ ابن محيصن كلها بضم الياء وكسر الزاي.
الباقون كلها بالفتح وضم الزاي، وهما اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان، حزن يحزن وأحزن يحزن إلّا أن اللغة العالية الفصيحة: حزن يحزن وأحزنته قال الشاعر:
مضى صحبي وأحزنني الديار «٢»
الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ.
قرأه العامة: هكذا، وقرأ طلحة بن مصرف: يسرعون.
قال الضحاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار.
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بمسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم أهله يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ نصيبا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي هذه الآية ردّ على القدرية.
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ استبدلوا الكفر بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فإنهم يضرون أنفسهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
قراءة حمزة وأبي بحتريه: بالتاء.
الباقون: بالياء، فمن قرأ بالياء ف (الَّذِينَ) في محل الرفع على الفاعل تقديره: ولا يحسبن الكفار أن إملاءنا خير لهم.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٨٥.
كقول الشاعر:
فما كان قيس هلكه هلك واحد... ولكنه بنيان قوم تهدّما «٢»
فرفع (هلك) على البدل، من الأول، والإملاء الإمهال والتأخير والإطالة في العمر والإنسان في الأجل، ومنه قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «٣» أي حينا طويلا ويقال: عشت طويلا، أي تمليت حينا، وأصله من الملاوة والملا وهما الدهر.
قال الشاعر:
وقد أراني للغوالي مصيدا... ملاوة كأن فوقي جلدا «٤»
والملوان: الليل والنهار.
قال تميم بن مقبل:
ألا يا ديار الحي... بالسبعان أمل عليها بالبلى «٥»
ثم قال أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ نمهلهم لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ نزلت هذه الآية في مشركي قريش.
قال مقاتل: قال عطاء: في قريظة والنضير.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله» «٦» [١٩٨].
وقال ابن مسعود: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلّا والموت لها، فأما الفاجرة فمستريح ومستراح منه، وقرأ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ الآية، وأما البرّة فقرأ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ.
(٢) تفسير القرطبي: ٣/ ٤٤، البداية والنهاية: ٨/ ٣٥.
(٣) سورة مريم: ٤٦.
(٤) لسان العرب: ٣/ ١٢٥.
(٥) لسان العرب: ٨/ ١٥٠.
(٦) مسند أحمد: ٥/ ٤٠.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٩ الى ١٨٦]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، اختلفوا في نزولها:
فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا من يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال السدي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليّ أمّتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم (عليه السلام) وأعلمت من يؤمن بي ومن لا يؤمن» فبلغ ذلك المنافقين واستهزؤا وقالوا:
زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر به ممّن لم يخلق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام على المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال [القوم] «١» حملوني وطعنوا في حلمي، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا أنبأتكم» [١٩٩].
فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة»، فقام عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيّا فاعف عنّا عفا الله عنك.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ... ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟» ثم نزل عن المنبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
(٢) أسباب النزول للواحدي: ٨٨، باختلاف، ومصنف بن أبي شيبة: ٨/ ٦٩٨، وتفسير الطبري: ٧/ ١١٠.
وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمنين والمنافقين، فأنزل الله عزّ وجلّ ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ واختلفوا في حكم الآية ونظمها:
فقال بعضهم: الخطاب للكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين.
وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، ومعنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وعلى هذا القول هو من خطاب التلوين، رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله: وَجَرَيْنَ بِهِمْ «١».
وكقول الشاعر:
يا لهف نفسي كان جلدة خالد | وبياض وجهك للتراب الأعفر «٢» |
قرأ الحسن وقتادة وأهل الكوفة: بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
الباقون: بفتح الياء مخففا.
يقال: بان الشيء يميّزه ميزا وميّزه تميّزا، إذا فرّقه وامتاز وانماز هو بنفسه.
قال أبو معاذ يقال: مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين، فإذا كانت أشياء قلت:
ميّزتها تمييزا، ومثله إذا جعلت الشيء الواحد شيئين، قلت: فرّقت بينهما، ومنه فرق الشعر، فإن جعلت أشياء قلت: فرقه وفرقها تفريقا، ومعنى الآية: حتى يميّز المنافق من المخلص فيميّز الله المؤمنين يوم أحد من المنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قتادة: حتى يميّز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد، ونظيرها في سورة الأنفال. ابن
(٢) تفسير الطبري: ١/ ١٠١. [.....]
الضحاك: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرّق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين.
وقال بعضهم: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ وهو المذنب، مِنَ الطَّيِّبِ وهو المؤمن، يعني حتى يحط الأوزار من المؤمن ما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بالغيب فيطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «١».
وقال السدي: وما كان الله ليطلع محمدا صلّى الله عليه وسلّم على الغيب ولكن الله اجتباه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
وروى الفضل بن موسى عن رجل قد سمّاه قال: كان عند الحجاج منجم فأخذ الحجاج حصيات لم يعدّهن وقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم، ثم اعتقله الحجاج، فأخذ حصيات لم يعدّهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب وحسب ثم أخطأ ثم حسب أيضا فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك؟ قال: فما الفرق بينهما؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب فحسبت وأصبت، وإن هذا لم يعرف عددها فصار غيبا ولا يعلم الغيب إلّا الله.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ.
من قرأ بالياء جعل هو [ابتداء] وجعل الاسم مضمرا وجعل الخير خيرا بحسبان تقديره:
ولا تحسبن الباخلون البخل خيرا لهم، فاكتفا بذكر (يَبْخَلُونَ) من البخل كما تقول في الكلام: قد قدم زيد فسررت به، وأنت تريد سررت بقدومه.
قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه | وخالف والسفيه إلى خلاف «٢» |
هو
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٢٩٠.
(٣) سورة الأنفال: ٣٢.
ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل، كما ذكرنا في آية الإملاء «٢»، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ يعني البخل شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.
قال المبرد: السين في قوله: سَيُطَوَّقُونَ سين الوعيد وتأويلها: سوف يطوقون، واختلفوا في معنى الآية:
فقال قوم: معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه، تقول: أنا مالك، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي [وائل] وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي، ويدل عليه ما
روى أبو وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلّا جعل له شجاع في عنقه يوم القيامة» [٢٠٠] ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصداق من كتاب الله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «٣».
وعن رجل من بني قيس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلّا أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه» [٢٠١] ثم تلا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ «٤» الآية.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلّا مثله الله شجاعا أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلّا استعاذ منه حتى دنا من صاحبه، فإذا دنا من صاحبه أعوذ بالله منك، قال: لم تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنّم»
وتصديق ذلك في القرآن سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «٥» [٢٠٢].
فقال إبراهيم النخعي: معناه يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من نار.
مجاهد: يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة.
المؤرّخ: يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق، يقال: طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة.
(٢) سبق في تفسير قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ٩٨. والسنن الكبرى: ٤/ ٨٩.
(٤) تفسير الطبري: ٤/ ٢٥٤، تفسير ابن كثير: ١/ ٤٤٢.
(٥) تفسير الطبري: ٧/ ٢٣٧، تفسير ابن كثير: ٢/ ١٣٣، (بتفاوت).
هشام بن عروة عن أبيه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تخالط الصدقة مالا إلّا أهلكته» «٢» [٢٠٤].
عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حبس قوم الزكاة إلّا حبس الله عنهم القطر» «٣» [٢٠٥].
وعن الحسن البصري قال: كان أعرابي صاحب ماشية، وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه، فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه، فلما انتبه قال: والله لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيرا. قال: وكان بعد ذلك يقسم.
قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله قال: أنشدنا العلائي قال: أنشدني المهدي بن سابق:
يا مانع المال كم تضمن به | أتطمع بالله في الخلود معه |
هل حمل المال ميت معه | أما تراه لغيره جمعه «٤» |
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «٥» الآية، ومعنى قوله:
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «٦»، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «٧».
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء، الباقون: بالتاء.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.
(٢) كتاب المسند للشافعي: ٩٩، السنن الكبرى: ٤/ ١٥٩.
(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١٠/ ٢٠٨، السنن الكبرى: ٩/ ٢٣١، (ولا منع) بدل (ما حبس).
(٤) روضة الواعظين: ٣٨٥، نهج السعادة: ٨/ ٢٤٦.
(٥) سورة النساء: ٣٧.
(٦) سورة الأنعام: ٣١. [.....]
(٧) سورة مريم: ٤٠.
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يستقرض منّا وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، [والقائل فنحاص بن عازوراء] «٢» عن ابن عباس.
وروى الحسن: أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب «٣».
قال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق: كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له:
أشيع، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) لفنحاص: اتق الله وأسلم إنك لتعلم أن محمدا قد جاءكم بالحق من عند الله يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «٤» فأمن وصدّق واقرض اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب.
قال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربّنا يستقرضنا أموالنا ولا يستقرض إلّا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنيا ما أعطاناه ربّي، فغضب أبو بكر (رضي الله عنه) وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد أنظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «ما الذي حملك على ما صنعت؟» [٢٠٦] فقال يا رسول الله: إن عدوّ الله قد قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله عزّ وجلّ ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر (رضي الله عنه) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا من الإفك والفرية على الله عزّ وجلّ فنجازيه به «٥».
وقال مقاتل وابن عبيد: سيحفظ عليهم، الكلبي: سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوا في الدنيا، الواقدي: سيؤمن الحفظة من الكتاب، نظيره قوله: وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ «٦».
قرأ حمزة والأعمش والأعرج: بياء مضمومة.
(٢) راجع زاد المسير: ٢/ ٦٥.
(٣) تفسير الطبري: ٤/ ٢٥٩.
(٤) سورة الأعراف: ١٥٧.
(٥) أسباب النزول: ٨٩.
(٦) سورة الأنبياء: ٩٤.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيعذب بغير ذنبه الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا الآية.
قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن تابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا، فإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن جئتنا به صدقناك «١»، فأنزل الله عزّ وجلّ الَّذِينَ قالُوا يعني وسمع الله قول الذين قالوا
، ومحل (الَّذِينَ) خفض ردّا على الذين الأول إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا وأوصانا في كتبه على ألسنة رسله.
أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ أي لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ فيكون ذلك دلالة على صدقه، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عزّ وجلّ من زكاة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة مثل الرفعان من الرّفع [والغنيان] من الغنى، ويكون اسما ومصدرا فمثال الاسم: السلطان والبرهان، ومثال المصدر: العدوان والخسران.
وكان عيسى بن عمر يقرأ: قُرُبان فبضم الراء والقاف كما يقال في جمع ظلمة: ظلمات، وفي جمع حجرة: حجرات.
قال المفسرون: كانت القرابين والغنائم تحل لبني إسرائيل، فكانوا إذا قرّبوا قربانا وغنموا غنيمة فإن تقبل منهم ذلك جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف، فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة وتحرقهما، فيكون ذلك علامة القبول، وإذا لم يقبل بقي على حاله.
وقال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطائب اللحم فيضعونها في وسط البيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربّه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجدا فيوحي الله عزّ وجلّ إليه بما شاء.
قال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة: من جاءكم من أحد يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان، قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم قُلْ يا محمد قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعني زكريا
قال امرؤ القيس:
لمن طلل أبصرته فشجاني | كخط زبور في عسيب يماني «١» |
عرفت الديار كخط الدويّ | يحبره الكاتب الحميري «٢» |
وقال عكرمة ومقاتل والواقدي: يعني بالزبر أحاديث من كان قبلهم، نظيرها في سورة الحج والملائكة.
وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ الواضح المضيء كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ.
قرأه العامة: بالإضافة، وقرأ الأعمش: (ذائقةٌ) بالتنوين، (الموتَ) نصبا، وقال: لأنها لم تذق بعد.
وقال أمية بن الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هدما | للموت كأس والمرء ذائقها «٣» |
وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ توفون جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ إن خيرا فخير وإن شرا فشر فَمَنْ زُحْزِحَ نجا وأزيل عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ظفر بما يرجوا ونجا ممّا يخاف وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني منفعة ومتعة، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى، قاله أكثر المفسرين.
(٢) كتاب العين: ٨/ ٩٤.
(٣) لسان العرب: ٦/ ١٨٨.
(٤) لم نجده بهذا النص في المصادر الكثيرة المتوفرة لدينا، وورد بنحوه في تفسير الطبري: ٢٩/ ٢٦٦، وتفسير القرطبي: ١٩/ ١٣٧.
قتادة: هي متاع متروكة توشك أن تضمحل بأهلها، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم، والغرور الباطل، ونظيرها في سورة الحديد.
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «١» [٢٠٨].
أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها فاقرءوا إن شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» «٢».
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ الآية.
قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وفنحاص، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى فنحاص بن عازورا سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه كتابه، وقال لأبي بكر: «لا تفتت عليّ بشيء حتى يرجع»، فجاءه أبو بكر (رضي الله عنه) وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: قد أحتاج ربّكم إلى أن يمده، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تفتت بشيء حتى يرجع»، فكفّ ونزلت هذه الآية «٣».
وقال الزهري: نزلت في كعب بن الأشرف وذلك أنه كان يهجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويسب المؤمنين ويحرض المشركين على النبي وأصحابه في شعره وينسب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من لي بابن الأشرف».
فقال محمد بن سلمة الأنصاري: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك» فرجع محمد بن سلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلّا ما تعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاه فقال: «لم تركت الطعام والشراب؟» قال: يا رسول الله قد قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا؟
قال: «إنما عليك الجهد» فقال: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول، قال: «قولوا ما
(٢) تفسير الطبري: ٤/ ٢٦٥، تفسير القرطبي: ٤/ ٣٠٢. [.....]
(٣) الدر المنثور: ٢/ ١٠٦.
وهو ابو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة. وعباد بن بشر بن وقش والحرث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر فمشى معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع الغرقد ثم وجّههم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم» «١» [٢٠٩].
ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك بحاجة أريد ذكرها لك فأكتم عليّ. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل بلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس.
فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا.
فقال أبو نائلة: إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: إنّا نستحي أن يعير أبناؤنا. فقال: هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين.
قال: أترهنونني نساءكم؟ قالوا: أنت أجمل الناس ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك، ولكنّا نرهنك الحلقة- يعني السلاح- ولقد علمت حاجتنا اليوم إلى السلاح.
فقال: نعم ائتوني بسلاحكم، فأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته، وأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة.
قال: إن هؤلاء لو وجدوني نائما ما أيقظوني وإنه أبو نائلة أخي.
قالت: فكلمهم من فوق الحصن. فأبى عليها إلّا أن ينزل إليهم، فتحدث معهم ساعة ثم قالوا: يا بن الأشرف هل لك أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال: إن شئتم فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيب عروس قط. قال: إنه طيب أم فلان، يعني امرأته ثم مشى ساعة ثم عاد بمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة فعاد لمثلها، ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال: اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا «٢».
(٢) تاريخ الطبري: ٢/ ١٧٩.
نعم. قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة «١»، فأنزل الله في شأن كعب بن الأشرف لَتُبْلَوُنَّ لتخبرن
واللام للتأكيد، وفيه معنى القسم، والنون تأكيد القسم.
فِي أَمْوالِكُمْ بالحوادث والعاهات والخسران والنقصان.
وَأَنْفُسِكُمْ بالأمراض، وقيل بمصائب الأقارب والعشائر.
قال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم.
قال الحسن: هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة.
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود والنصارى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب، أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من حق الأمور وجدّ الأمور وخيرها، قال عطاء: من حقيقة الإيمان.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٩٥]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
الباقون: بالتاء واختاره أبو حاتم، فمن قرأ بالتاء فعلى إضمار القول، أي قال: ليبيننه، ودليله قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «١» ومن قرأ بالياء فلقوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به.
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني المأكل فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.
قال قتادة: هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئا فليعلّمه، وإيّاكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله، قال الله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، وقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «٢».
ثابت بن البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ.
أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة لجاما من نار» ».
وعن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألقيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني؟ فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال: حدثني. فقلت: حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا» قال: فحدثني بأربعين حديثا «٤».
(٢) سورة النحل: ٤٣.
(٣) كنز العمال: ١٠/ ١٩١.
(٤) تفسير مجمع البيان: ٢/ ٤٦٧.
وقوله: لا تَحْسَبَنَّ بالتاء، وفتح الباء إعادة تأكيد.
وقرأ الضحاك وعيسى: (لا تَحْسَبُنَّ) بالتاء وضم الباء، أراد محمدا وأصحابه.
وقرأ محمد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر: بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين، أي فلا تحسبن أنفسهم، واختلفوا فيه فيمن نزلت هذه الآية.
روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: يا رسول الله لو خرجت إلى الغزو لغزونا معك، فإذا خرج (عليه السلام) خلفوا عنه وفرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، فإذا قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان وهو يومئذ أمير المدينة فقال مروان لرافع: في أي شيء أنزلت هذه الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا؟ فقال رافع: أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر تخلفوا عنهم، فأنكر مروان وقال: ما هذا؟ فجزع رافع من ذلك وقال لزيد بن ثابت: أنشدك الله هل تعلم ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال زيد: نعم، فخرجا من عند مروان، فقال زيد لرافع وهو يمزح معه: أما تحمد في ما شهدت لك وقال رافع: وأي شيء هذا؟ أحمدك على أن تشهد بالحق؟ قال زيد: نعم قد حمد الله على الحق أهله.
وقال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار، يفرحون بإضلالهم الناس، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وقولهم إنهم علماء وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على هدى ولا خير.
الضحاك والسدي: هم يهود أهل المدينة كتبوا إلى يهود اليمن والشام وأطراف الأرض:
أن محمدا ليس برسول فاثبتوا على دينكم. فاجتمعت كلمتهم على الكفر بمحمد والقرآن ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا فنحن على دين إبراهيم ونحن أهل العلم الأول، وليسوا كذلك.
مجاهد: هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس تبديلهم الكتاب، وجهدهم إياه عليه.
سعيد بن جبير: هم اليهود فرحوا بما أعطى الله إبراهيم وهم براء من ذلك.
قتادة ومقاتل: أتت يهود خيبر النبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك وإنّا على رأيكم ونحن لكم ردأ، وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عنده قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟
قال: عرفناه وصدقناه، فقال لهم المسلمون: أحسنتم هكذا فافعلوا، فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله لهم هذه الآية.
وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: نزلت في ناس من اليهود جهّزوا جيشا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنفقوا عليهم، وقرأها إبراهيم (بما أوتوا) ممدودا أي أعطوا.
وقرأ سعيد بن جبير أوتوا أي أعطوا.
قال الله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
عن عطاء بن أبي رباح قال: دخلت مع ابن عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمر:
أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله؟ فبكت فأطالت ثم قالت: كل أمر رسول الله عجب، أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ؟ فقلت: والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك، فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض، فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ؟ فقال: «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا» ثم قال:
«وما لي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليّ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
الآية. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» «١» [٢١٠].
وعن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات؟ فقالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟
قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ادع لنا ربّك يجعل لنا الصفا ذهبا، فأنزل الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ثم وصفهم فقال:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً.
قال علي وابن عباس والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنبه، يسر من الله وتخفيف.
وقال سائر المفسرين: أراد به ذكر الله تعالى، ووصفهم بالمداومة عليه، إذ الإنسان قلما يخلوا من معنى هذه الحالات الثلاثة، نظيره قوله في سورة النساء.
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «١» [٢١٢].
ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذكر الله تعالى علم الإيمان وبرء من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النيران» «٢» [٢١٣].
وقال الله تعالى لموسى (عليه السلام) : يا موسى اجعلني منك على بال ولا تنس ذكري على كل حال، وليكن همّك ذكري فإنّ الطريق إليّ.
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إنّ لها صانعا قادرا ومدبرا حكيما.
روى حماد عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسري به إلى السماء السابعة فإذا ريح ودخان وأصوات قال: فقلت: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذه الشياطين يحرقون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.
وكان ابن عور يقول: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء الزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة. وحكى أن سفيان الثوري صلّى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه. وكان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكره.
(٢) ذكره قطب الدين الرواندي في لب اللباب كما في مستدرك الوسائل: ٥/ ٢٨٥ ح ٥٨٦٨.
وقال أبو الأحوص: بلغني أن عابدا يعبد في بني إسرائيل ثلاثين سنة. وكان الرجل منهم إذا تعبّد ثلاثين سنة أظلته غمامة. ولم ير شيئا، فشكى ذلك إلى والده. فقال له: يا بني فكّر هل أذنبت ذنبا منذ أخذت في عبادتك؟ قال: لا، ولا أعلمني هممت به منذ ثلاثين سنة. قال: يا بني بقيت واحدة إن نجوت منها رجوت أن يظلك؟ قال: وما هي؟ قال: هل رفعت طرفك إلى السماء ثم رددته بغير فكرة؟ قال: كثير. قال: من هاهنا أتيت. ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ذهب به إلى لفظ الخلق ولو ردّه إلى السماوات والأرض، لقال: هذه باطلا عبثا هزلا، بل خلقته لأمر عظيم.
وانتصاب (الباطل) من وجهين: أحدهما: بنزع الخافض، أي للباطل وبالباطل، والآخر:
على المفعول الثاني.
سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أهنته.
وقال المفضل: أهلكته، وأنشد:
أخزى الإله من الصليب عبيده | واللابسين قلانس الرهبان «٢» |
واختلف أهل التأويل في هذه الآية:
فروى قتادة عن أنس في قوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: إنك من تخلد في النار.
وروى الثوري عن رجل عن ابن المسيب في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقال: هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
وروى أبو هلال الرّاجي عن قتادة في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ إنك من تخلد في النار، ولا نقول كما قال أهل حروراء، حدثنا بذلك أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يخرج قوم من النار» «٤» [٢١٥].
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٣١٦.
(٣) سورة هود: ٧٨. [.....]
(٤) تفسير القرطبي: ٩/ ١٠٢، بتفاوت يسير.
وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل الحياء، يقال: خزي يخزي، خزاية إذا استحيا.
قال ذو الرمّة:
خزاية أدركته عند جوليه | من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب «١» |
حرجا وكر كرور صاحب نجدة | خزي الحرائر أن يكون جبانا «٢» |
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم يُنادِي لِلْإِيمانِ أي إلى الإيمان، كقوله: لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «٣».
وقيل: اللام بمعنى أجل.
قال قتادة: أخبركم الله عزّ وجلّ عن مؤمني الإنس كيف قالوا وعن مؤمني الجن كيف قالوا، فأما مؤمنوا الجن فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «٤» وأما مؤمنوا الإنس فقالوا رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ... فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي في جملة الأبرار رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ على ألسنة رسلك كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٥».
وقرأ الأعمش: (رسلك) بالتخفيف.
وَلا تُخْزِنا لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنّا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ يعني قيل: ما وجه قولهم: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وقد علموا وزعموا أن الله لا يخلف الميعاد، والجواب عنه: إن لفظه الدعاء، ومعناه الخبر تقديره: (واغفر لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) ولا تُخْزِنا، وتؤتينا ما وعدتنا على ألسن رسلك من الفضل
(٢) غريب الحديث: ٤/ ٣٦، ولسان العرب: ١٤/ ٢٢٧.
(٣) سورة الأنعام: ٢٨.
(٤) سورة الجن: ١- ٢.
(٥) سورة يوسف: ٨١.
وقال بعضهم: إنما سألوا ربّهم تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وإعزاز الدين، لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا: قد علمنا أنك لا تخلف وعدك من النصر والظفر على الكفار، ولكن لا صبر لنا على حكمك، فعجّل خزيهم وانصرنا عليهم.
ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز وعده، ومن أوعد على عمل عقابا فهو فيه بالخيار» «١» [٢١٦].
عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألني عمرو بن عبيد: أيخلف الله وعده؟ قلت: لا. قال: فيخلف الله وعيده؟ قلت: نعم. قال: ولم؟ قلت: لأن في خلفه الوعد علامة ندم وفي خلفه الوعيد إظهار الكرم، ثم أنشأ يقول:
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي | ولا أختبي من خشية المتهدد |
إني وإن أوعدته أو وعدته | لمخلف إيعادي ومنجز موعدي «٢» |
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قال: من قرأ في ليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ/ إلى آخرها كتبت له بمنزلة قيام ليلة.
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ.
روى أبو بكر الهذلي عن الحسن قال: ما زالوا يقولون: ربّنا ربّنا حتى استجاب لهم ربّهم.
وروى عن الصادق أنه قال: من حزّ به أمر فقال خمس مرات: ربنا أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: اقرؤا إن شئتم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً إلى قوله تعالى الْمِيعادَ.
فأما نزول الآية:
فقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء بشيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٣١٨، الصحاح: ١/ ٤٦.
أَنِّي أي بأني أو لأني، نصب بنزع الخافض.
وقرأ عيسى بن عمر: (إني) بكسر الألف، كأنه أضمر القول أو جعل الاستجابة قولا.
لا أُضِيعُ لا أحبط ولا أبطل عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
قال الكلبي: يعني من الدين والنصرة والموالاة، وقيل: حكم جميعكم في الثواب واحد، وقيل: كلكم من آدم وحواء.
الضحاك: رجالكم بشكل نسائكم في الطاعة ونساؤكم بشكل رجالكم في الطاعة، نظيرها قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «١».
فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي في طاعتي، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة وآذوهم وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا.
قرأ محارب بن دثار: (وقَتَلوا) بفتح القاف وَقاتَلُوا.
وعن يزيد بن حازم قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ: (وقتلوا وقتلوا) يعني أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين ثم قتلهم المشركون.
وقرأ أبو رجاء والحسن وطلحة: (وقاتلوا وقتّلوا) مشددا.
قال الحسن: يعني إنهم قطّعوا في المعركة.
وقرأ عاصم وأبو عبيد وأهل المدينة: (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) يريد أنهم قاتلوا ثم قتلوا.
وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (وقتلوا وقاتلوا) ولها وجهان:
أحدهما وقاتل من بقي منهم، تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتلوا بعضهم. والوجه الآخر:
بإضمار (قد) أي وقتلوا وقد قاتلوا.
قال الشاعر:
تصابى وأمسى علاه الكبر «٢»
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
قال الكسائي: نصب (ثَواباً) على القطع، وقال المبرد: مصدر ومعناه: لآتينهم ثوابا.
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ٣١٩.
عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يدعوا يوم القيامة بالجنة ويأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربّنا نسبح الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا، فيقول الله عزّ وجلّ: هؤلاء عبادي الذين أُوذُوا فِي سَبِيلِي، فيدخل عليهم الملائكة يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» «١» [٢١٧].
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٠]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نزلت في مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما يرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية.
وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله لا يَغُرَّنَّكَ.
وقرأ يعقوب: (يغرنْك) وأخواتها ساكنة النون.
وأنشد:
لا يغرنك عشاء ساكن... قد يوافي بالمنيات السحر «٢»
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا: ضربهم وتصرفهم في البلاد للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب والمطالب، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره، لأنه لم يغيّر لذلك.
قال قتادة في هذه الآية: والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئا من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك، نظيره قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ «٣»، ثم قال: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هو متاع قليل بلغة فانية ومتعة زائلة، لأن كل ما هو فان فهو قليل.
(٢) راجع تفسير القرطبي: ٤/ ٣١٩.
(٣) سورة غافر: ٤.
روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري قال:
سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع» «١» [٢١٨].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا فيما مضى إلّا كمثل ثوب شق باثنين وبقي خيط إلّا وكان ذلك الخيط قد انقطع» «٢» [٢١٩].
ثُمَّ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ.
قرأ أبو جعفر: بتشديد النون، الباقون: بتخفيفه.
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا.
قرأ الحسن والنخعي: (نُزْلًا) بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقّله الآخرون، والنزل الوظيفة المقدرة لوقت.
قال الكلبي: جزاء وثوابا من عند الله، وهو نصب على التفسير، كما يقال: هو لك صدقه وهو لك هبة، قاله الفراء.
وقيل: هو نصب على المصدر، أي انزلوا نزلا، وقيل: جعل ذلك نزلا.
وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من متاع الكفار.
الحسن عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي صلّى الله عليه وسلّم انحرافة فرأى عمر (رضي الله عنه) أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال عمر: وما لي لا أبكي وكسرى قيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى.
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» قال: بلى. قال:
«هو كذلك» «٣» [٢٢٠].
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية، اختلفوا في نزولها:
(٢) الجامع الصغير: ٢/ ٥٣٤ ح ٨١٦٦، كنز العمال: ٣/ ٢٣١ ح ٦٣٠١.
(٣) مسند أحمد: ٢/ ١٤٠.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم».
قالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي»، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلّى عليه ركعتين وكبّر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: «استغفروا له» [٢٢١].
فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
عطاء: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، وأثني وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني التوراة والإنجيل خاشِعِينَ لِلَّهِ خاضعين متواضعين، وهو نصب على الحال والقطع لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني لا يحرّفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأجل المأكلة والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا.
قال الحسن: (اصْبِرُوا) على دينكم فلا تدعوه لشدة ولا رخاء ولا سرّاء ولا ضرّاء، قتادة:
(اصْبِرُوا) على طاعة الله، الضحاك ومقاتل بن سليمان: (اصْبِرُوا) على أمر الله عزّ وجلّ، مقاتل ابن حيان: (اصْبِرُوا) على فرائض الله، زيد بن أسلم: على الجهاد، الكلبي: على البلاء.
قالت الحكماء: الصبر ثلاثة أشياء: ترك الشكوى، وصدق الرضا، وقبول القضاء. وقيل:
الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنّة.
وَصابِرُوا يعني الكفار، قاله أكثر المفسرين.
قال عطاء والقرظي: (وَصابِرُوا) الوعد الذي وعدكم، وَرابِطُوا يعني المشركين، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه وإن لم يكن له مركب، قال الله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ «٢».
(٢) سورة الأنفال: ٦٠.
المرابطة اعتقال المبارزين في الحرب، وأصل الربط الشد، ومنه قيل للخيل: الرباط، ويقال:
فلان رابط الجأش، أي قوي القلب.
قال لبيد:
رابط الجأش على كل وجل «١»
قال عبيد: داوموا واثبتوا.
عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي: أنهم كانوا في جند المسلمين، فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل: ألا أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكون لك عونا على الجند، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رابط يوما أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلّا لحاجة، ومن مات مرابطا في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار» «٢» [٢٢٢].
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رابط يوما في سبيل الله جعل الله عزّ وجلّ بينه وبين النار سبعة خنادق، كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين» «٣» [٢٢٣].
وفيه قول آخر وهو ما روى مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن صالح قال: قال لي سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا؟ قال: قلت: لا. قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، ولكنّه انتظار الصلاة خلف الصلاة. ودليل هذا التأويل ما
روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط» «٤» [٢٢٤].
وقال أصحاب اللسان في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا عند صيام النفس على احتمال الكرب وَصابِرُوا على مقابلة العناء والتعب وَرابِطُوا في دار أعدائي بلا هرب.
وَاتَّقُوا اللَّهَ بهمومكم من الالتفات إلى السبب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غدا بلقائي على بساط الطرب.
(٢) المصنف لابن أبي شيبة: ٤/ ٥٩٠. وكنز العمال: ٤/ ٢٣٢٧ باختلاف.
(٣) تحفة الاحوذي: ٥/ ٢٠٧، مجمع الزوائد: ٥/ ٢٨٩.
(٤) تفسير الطبري: ٤/ ٢٩٣، والسنن الكبرى: ٢/ ٦٢، وتفسير القرطبي: ٤/ ٣٢٣.