ﰡ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (الرَّحْمَنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)(الرَّحْمَنُ) اسم من أسماء الله تعالى.
لا يقال لغيره، وهو في الكتب المتقدمَة، ومعناه الكثير الرحمة.
* * *
وقوله: (عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)
معناه يسَّرهُ لأن يذكر.
* * *
وقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (٤)
قيل إنه يعني بالِإنسان ههنا النبي - ﷺ - عَلَّمَهُ البَيَانَ. علمه القرآن الذي فيه بيان كل شيء.
وقيل الإنسان ههنا آدم - ﷺ -.
ويجوز في اللغة أن يكون الِإنسان اسماً لجنس الناس جميعاً، ويكون على هذا المعنى عَلَّمَه البَيانَ جعله مميزاً حتى انفصل الِإنسان من جميع الحيوان.
* * *
وقوله تعالى: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (٥)
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) مرفوعان بالابتداء.
وقوله (بِحُسْبَانٍ) يَدُل عَلَى خبرِ الابتداء
ويكون المعنى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يجريان بحسابٍ، وبكون أيْضاً معنى
(بِحُسْبَانٍ) أنهما، يَدُلانِ على عدد الشهور والسنين وجميع الأوقات.
* * *
وقوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (٦)
مما ليس له سَاق.
والشَجَرُ كل ما له ساق، ومعنى سجودهما دوران الظل
معهما كما قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ).
وقد قيل إنَّ النجم أيضاً يراد به النجوم.
وهذا جائز أن يكون، لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - قد أعلمنا أن النجم يسجد، فقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ).
ويجوز أن يكون النجم ههنا يعني به ما نبت على وجه الأرض وما طلع
من نجوم السماء، يقال لكل ما طلع: قَدْ نَجَمَ.
* * *
وقوله: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧)
المعنى رفعها فوق الأرض وأمسكها أن تقع على الأرض، ووضع
الميزان لينتصف بعض الناس من بعض.
وقيل: الميزان ههنا العدل، لأن المعادَلةَ موازنة الأشياء.
* * *
وقوله: (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨)
ألا يجاوزوا القدر والعدل.
ويجوز (أَلَّا تَطْغَوْا) بمعنى اللام، " لأن ْ لَا تَطْغَوْا "
وتكون (أَلَّا تَطْغَوْا) على النهي ومعنى " أن " التفسير.
فيكون المعنى - واللَّه أعلم - ووضع الميزان أي لا تطغوا في الميزان.
ويدل عليه المعطوف عليه وهو قوله:
(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (٩)
القراءة بضم التاء، وروى أهل اللغة: أَخْسَرْت المِيزَانَ وَخَسَرْتُ، فعلى
ولا تقرأنَّ بها إلا أن تثبت رواية صَحيحةٌ عن إمام في القراءة.
وقد رُوِي أن إنساناً قرأ بها من المتقدمين ولكنه ليس مِمن أخذت عنه
القراءة ولا له حرف يقرأ بِه.
* * *
وقوله: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (١٠)
الأنَامُ الِإنْسُ والجِنُّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (١١)
معنى (الأكمام) ما غَطَّى وكل شجرة تخرج ما هو مُكَمَّم فهي ذات أَكمام وأَكمامُ النخلة ما غَطى جُمّارَها من السَّعَف والليف والجِذْع وكلُّ ما أَخرجته النخلة فهو ذو أَكمام فالطَّلْعة كُمُّها قشرها ومن هذا قيل للقَلَنْسُوة كُمَّة لأنها تُغَطِّي الرأْس ومن هذا كُمّا القميص لأنهما يغطيان اليدين.
* * *
وقوله عزَّ وجل: (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (١٢)
ويقرأ والريحانَ، وأكثر القراءة (والريْحَانُ).
والعصف ورق الزرع ويقال التِّبْن هو العصْفُ، ويقال العَصْفَة (١)
قال الشاعر.
تَسْقي مَذانِبَ قد مَالَتْ عَصِيفتُها... جُدُورُها من أَتِيِّ الماء مَطْمُومُ
ويروى بأتِيَ الماء.
ومعنى (ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) ذو الورق [والرِّزقُ]، العرب تقول: سبْحَانَ
اللَّه وَرَيْحانه.
قال أهل اللغة: معناه واسترزاقه، قال النمر بن تولب.
سلام الإِله وريحانه... ورحمته وسماء درر
قال: معنى ريحانه رزقه لمن قرأ، (والريْحَانِ) عطف على العصف، ومن
قوله: ﴿والحب ذُو العصف والريحان﴾: قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: النصبُ على الاختصاص، أي: وأخُصُّ الحبَّ، قاله الزمخشري. وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ. الثاني: أنَّه معطوفٌ على الأرض. قال مكي: «لأنَّ قولَه» والأرضَ وَضَعَها «، أي: خلقها، فعطف» الحَبَّ «على ذلك». الثالث: أنَّه منصوبٌ ب «خَلَق» مضمراً، أي: وخلق الحَبَّ. قال مكي: «أو وخَلَقَ الحَبَّ» وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده، فإنَّ مصاحفَ الشامِ «ذا» بالألف. وجَوَّزوا في «الرَّيْحان» أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ «الرَّيْحان» عطفاً على «العَصْفِ»، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ. والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة، أي: وفيها أيضاً هذه الأشياءُ. ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط، وهو أعظمُها، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ. ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه، أي: وفيها الرَّيْحانُ أيضاً، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ، أي: وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم.
والعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ. وقيل: التِّبْنُ. وأصلُه كما قال الراغب: مِن «العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ، أي: يُقْطَعُ من الزَرْع» وقيل: هو حُطامُ النباتِ. والريحُ العاصف: التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك. والرَّيْحان في الأصل: مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم: «سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه»، أي: استِرْزاقُه وقيل: الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ.
وفي الرَّيْحان قولان، أحدُهما: أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ. والأصلُ: رَوْحان. قال أبو علي: «فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في» أَشاوى «. والثاني: أن يكون أصلُه رَيْوِحان، على وزن فَيْعِلان، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا: كَيْنُوْنة وبَيْنُونة. والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت. قال مكي:» ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ «. ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال:» وقال بعضُ الناسِ «فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
أيضاً ههنا الرزق.
فذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق
الِإنسان وتعليم البيان ومن خلق الشمسِ والقمر والسماء والأرض ثم خاطب
الِإنس والجن فقال:
* * *
(فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١٣)
أي: فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ من هذه الأشياء المذكورة، لأنها كلها منعم
بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم
والوصلة إلى حياتكم، والآلاء واحدها أَلَى وَإِلْيٌ (١)، وكل ما في السورة من قوله (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فمعناه على ما فسَّرْناه، فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (١).
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤)
وقال في موضع آخر: (إنَا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)
وقال: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)
وقال: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ).
وهذه الألفاظ التي قال الله عزَّ وجلَّ إنه خلق الِإنسان منها مختلفة
اللفظ وهي في المعنى راجعة إلى أصل وَاحدٍ.
فأصل الطين التراب.
فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه خلق آدم من تراب جُعِلَ طيناً ثم انتقل فصار
كالْحمَأ ثم انتقل فصار صَلْصَالًا كالْفَخار، والصلصال اليابس، فهذا كله أصله التراب وليس فيه شيء ينقض بعضه بعضاًء وإنما شرحنا هذا لأن قوماً من
قوله: ﴿آلآءَ الله﴾ أي نِعَمه، وهو جمعٌ مفردُه» إلْيٌ «بكسر الهمزة وسكونِ اللام كحِمْل وأحمال، أو» أُلْي «بضم الهمزة وسكون اللام كقُفل وأقفال، أو» إلَى «بكسرِ الهمزة وفتح اللام كضِلَع وأضلاع وعِنب وأعناب، أو» أَلَى «بفتحها كقفا وأقفاء، قال الأعشى:
٢٢٢٨... أبيضُ لا يَرْهَبُ الهُزال ولا
يقطعُ رَحْمي ولا يَخُونُ إلى... يُنشد بكسر الهمزة وهو المشهور وبفتحها ومثله» الآناء «جمع إنْي أو أُنْي أو إنَى أو أَنَى. وقال الأخفش:» إنْوٌ «. والآناء: الأوقات كقوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ [طه: ١٣٠]. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥)
والمارج اللهب المختلط بسواد النَّار.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)
يعنى به مشرقَي الشمس وكذلك القمر، ومغربي الشمس والقَمَر، فأحَدُ
المشرقين مشرق الشتاء والآخر مشرق الصيف، وكذلك المغربان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (٢٦)
معناه على الأرض.
* * *
قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (٣١)
يعني بالثقلين الِإنس والجن.
ويجوز ُ (سَنَفْرَغُ لَكُمْ) بفتح الراء.
ويجوز (سَيَفْرُغُ) - بفتح الياء -
ويجوز (سَيُفْرَغ لكم) - بضم الياء وفتح الراء -
ومعناه سنقصد لِحِسَابِكُمْ، واللَّه لا يَشْغَلُه شأن عن شأن.
والفراغ في اللغة على ضربين:
أحدهما الفراغ من شُغلٍ
والآخر القصد للشيء، تقول: قد فرغت مما كنت فيه.
أي قد زال شغلي به، وتقول: سَأتَفَرغ لفلانٍ، أي سأجْعَلُ قَصْدِي له (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (٣٣)
والأقطار النَواحي.
(لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).
أي حيثما كنتم شاهدتم حجةً لِلَّهِ وسلطاناً تدل على أنه واحدٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (٣٥)
ويقرأ (ونحاسٍ) - بكسر السين -
والنحاس الدُّخان، والشواظ اللهب الذي لا دُخَانَ معه.
قوله: ﴿سَنَفْرُغُ﴾: قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي: سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى. والباقون من السبعة بنون العظمة، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ. وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ، وتحتمل وجهَيْن، أحدهما: أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ. والثاني: أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ. وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال «سَنِفْرَغُ» بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ. وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم: «وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ. والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ» سَنِفْرَغُ «بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ. وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء. والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء. ورُوي عن أبي عمروٍ. وقد تقدَّم قراءةُ» أيها «في النور. والفَراغُ هنا استعارةٌ. وقيل: هو القَصْدُ. وأُنْشِد لجرير:
٤١٧٦ ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ... فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً
وأنشد الزجاج:
٤١٧٧................................ فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ» سَنَفْرُغُ إليكم «أي: سَنَقْصِدُ إليكم. والثَّقَلان: الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ. وقيل: لثِقَلِهم بالذنوب. وقيل: الثَّقَلُ: الإِنسُ لشَرَفَهم. وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة. والثَّقَل. العظيم الشريف. وفي الحديث:» إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي «
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
معنى مرج خلط، يعني البحر الملح والبحر العذب.
وقوله تعالى: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يبغِيَانِ).
البرزخ الحاجز، وهو حاجز من قدرة اللَّه، لا يبغيان لا يَبْغي الملح
على العذب فيختلط به، ولا العذب على الملح فيختلط به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢)
(المرجان) صغار اللؤلؤ، واللؤلؤ اسم جامع للحَبِّ الذي يخرج من البحر.
وقال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرج من البحر الملح لأنه قد ذكرهما وَجَمَعَهُمَا، فإذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما، ومثل ذلك قوله عزَّ وجلَّ:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦).
والشمس في السماء الدنْيَا إلَّا أنه لما أجمل ذكر السبع كان ما في إحداهن
فِيهِنَ، ويقرأ: (يُخْرَجُ مِنْهُمَا) بضم الياء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (٢٤)
الجواري الوقف عليها بالياء، وإنما سقطت الياء في اللفظ لسكون
اللام.
والاختيار وصلها، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذلك جائز على بعد.
ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء.
ويقرأ " المُنْشِآت " - بكسر الشين - والفتح أجود في الشين.
ومعنى المنشئآت المرفوعات الشُّرُع.
والمنشِئَات على معنى الحاملات الرافعات الشرع، ومعنى كالأعلام
كالجبال، قال الشاعر:
والجواري السُفُن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (٣٧)
معنى (وَرْدَةً) صارت كلون الورد، وذلك في يوم القيامة.
ومعنى (كَالدِّهَانِ) تتلون من الفزع الأكبر تَلَوْن الدهان المختلفة.
والدِّهَان جمع دُهْنٍ، ودليل ذلِك قَوله (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)
أي كالزيت الذي قد أُغْلِيَ.
وقيل (فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) أي فكانت كلون فرسٍ وردَةٍ.
والكَمِيتُ الوردُ يتلون فيكون في الشتاء لونه خلاف لونه في الصيف.
ويكون في الفصل لونه غير لونه في الشتاء والصيف.
* * *
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (٣٩)
وقال في موضع آخر (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)
فإذا كان ذلك اليوم كانت سيما المجرمين سواد الوجه والزرقة.
ودليل ذلك قوله: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)
أي بعلامتهم هذه، ودليل ذلك قوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)، وقوله: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢).
قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ويلقون في النار.
وذلك أشد لعذابهم، والتشويه بهم.
* * *
وقوله: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍءَانٍ (٤٤)
يعني (آنٍ). قد أنى يأنى فهو آنٍ إذا انتهى في النضج والحرارة، فإذا
استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل، فيطاف
بهم مرَّةً إلى الحميم ومرة إلى النار.
أسْتَجِيرُ باللَّه وبرحمته منها.
ثم أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما لمن اتقاه وخافه فقال:
* * *
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦)
قيل من أراد معصية فذكر ما عليه فيها فتركها خوفاً من اللَّه - عزَّ وجلََّّ -
ورهبةَ عِقَابه ورجاء ثوابه فله جنتانِ.
ثم وصفهما فقال:
* * *
(ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (٤٨)
والأفنان جمع فَنٍّ، أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعْيُن من كل
فَنٍّ، والأفنان الألْوانُ، والأفنان الأغصَانُ، واحدها فنَن، وهو أجود الوجهين (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلََّّ: (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (٥٢)
الزوجان النوعان.
* * *
وقوله: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (٥٦)
معناه فيهن حورٌ قاصرات الطرف، قد قَصَرْنَ طرفَهُنَّ على أزوَاجِهِنَ لا
ينظرن إلى غيرهم.
* * *
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ).
لَمْ يَمْسَسْهُنَّ.
ويقرأ " لَمْ يَطْمُثْهُنَّ "، وهي في القراءة قليلة، وفي اللغة
وقال عكرمة في قوله تعالى (ذَواتَا أَفْنانٍ) قال ظِلُّ الأغصانِ على الحِيطانِ وقال أَبو الهيثم فسره بعضهم ذَواتا أغصانٍ وفسره بعضهم ذواتا أَلوان واحدها حينئذ فَنّ وفَنَنٌ كما قالوا سَنٌّ وسَنَنٌ وعَنٌّ وعَنَنٌ قال أَبو منصور واحدُ الأَفنان إذا أَردت بها الأَلوان فَنٌّ وإذا أردْتَ بها الأغصان فواحدها فَنَنٌ أَبو عمرو شجرة فَنْواء ذات أَفنان قال أبو عبيد وكان ينبغي في التقدير فَنَّاء ثعلب شجرة فَنَّاء وفَنْواء ذات أَفْنانٍ وأَما قَنْواء بالقاف فهي الطويلة قال أَبو الهيثم الفُنُون تكون في الأغصان والأغصان تكون في الشُّعَبِ والشُّعَبُ تكون في السُّوق وتسمى هذه الفُروعُ يعني فروعَ الشجر الشَّذَبَ والشَّذَبُ العِيدانُ التي تكون في الفُنون ويقال للجِذعِ إذا قطع عند الشَّذَب جِذْعٌ مُشَذَّبٌ قال امرؤ القيس يُرادَا على مِرْقاةِ جِذْعٍ مُشَذَّبِ يُرادا أي يُدارا يقال رادَيْتُه ودارَيْتُه والفَنَنُ الفَرْع من الشجر والجمع كالجمع وفي حديث سِدْرة المُنْتَهَى يسير الراكب في ظِلِّ الفَنَنِ مائةَ سَنةٍ وامرأَة فَنْواء كثيرة الشعر والقياس في كل ذلك فَنَّاء وشعَر فَيْنان قال سيبويه معناه أَن له فنوناً كأَفنانِ الشجر ولذلك صرف ورجل فَيْنان وامرأَة فَينانة قال ابن سيده وهذا هو القياس لأَن المذكر فَيْنان مصروف مشتق من أَفنان الشجر وحكي ابن الأَعرابي امرأَة فَيْنَى كثيرة الشعر مقصور قال فإن كان هذا كما حكاه فحكم فَيْنان أن لا ينصرف قال وأُرى ذلك وهَماً من ابن الأَعرابي وفي الحديث أَهلُ الجنة مُرْدٌ مُكَحَّلون أُولو أَفانِين يريد أُولو شُعور وجُمَم وأَفانِينُ جمع أَفنان وأَفنانٌ جمع فَنَنٍ وهو الخُصلة من الشعر شبه بالغصن قال الشاعر يَنْفُضْنَ أَفنانَ السَّبيبِ والعُذَرْ يصف الخيلَ ونَفْضَها خُصَل شعر نواصيها وأَذنابها وقال المَرَّار أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّد بعدَما أَفْنانُ رأْسِك كالثَّغام المُخْلِسِ؟ يعني خُصَلَ جُمَّة رأْسِه حين شاب أَبو زيد الفَينان الشعر الطويل الحسَنُ قال أَبو منصور فَيْنانٌ فَيعال من الفَنَن والياء زائدة التهذيب وإن أَخذت قولهم شعر فَيْنانٌ من الفَنَن وهو الغصن صرفته في حالي النكرة والمعرفة وإن أَخذته من الفَيْنة وهو الوقت من الزمان أَلحقته بباب فَعْلان وفَعْلانة فصرفته في النكرة ولم تصرفه في المعرفة وفي الحديث جاءَت امرأَةٌ تشكو زوجَها فقال النبي ﷺ تُرِيدينَ أن تزَوَّجِي ذا جُمَّةٍ فَينانة على كل خُصلة منها شيطان الشعر الفَيْنانُ الطويل الحسن والياء زائدة ويقال فَنَّنَ فلانٌ رأْيه إذا لَوَّنه ولم يثبت على رأْي واحد والأَفانِينُ الأَساليب وهي أَجناس الكلام وطُرُقه ورجل مُتفَنِّنٌ أي ذو فُنون وتَفنَّنَ اضطرب كالفَنَن وقال بعضهم تَفنَّن اضطرب ولم يَشْتقَّه من الفَنن والأَول أَولى قال لو أَن عُوداً سَمْهَريّاً من قَنا أو من جِيادِ الأَرْزَناتِ أَرْزَنا لاقى الذي لاقَيْتُه تَفنَّنا والأُفْنونُ الحية وقيل العجوز وقيل العجوز المُسِنَّة وقيل الداهية وأَنشد ابن بري لابن أَحمر في الأُفْنون العجوز شَيْخٌ شآمٍ وأُفْنونٌ يَمانِيةٌ من دُونِها الهَوْلُ والمَوْماة والعِلَلُ وقال الأَصمعي الأُفْنون من التَّفَنُّن قال ابن بري وبيت ابن أَحمر شاهد لقول الأَصمعي وقولُ يعقوب إنَّ الأُفْنون العجوز بعِيدٌ جدّاً لأَنَّ ابنَ أَحمر قد ذكر قبل هذا البيت ما يَشْهَد بأَنها محبوبته وقد حال بينه وبينها القَفْرُ والعِلل والأُفْنون من الغُصن المُلتفُّ والأُفنون الجَرْيُ المختلط من جَرْي الفرس والناقة والأُفنون الكلام المُثبَّجُ من كلام الهِلْباجة وأُفْنون اسم امرأَة وهو أَيضاً اسم شاعرسمي بأَحد هذه الأَشياء والمُفَنَّنة من النساء الكبيرة السيئة الخُلُق ورجل مُفَنَّنٌ كذلك والتَّفْنِينُ فِعْلُ الثَّوْب إذا بَلِيَ فتفَزَّرَ بعضهُ من بعض وفي المحكم التَّفْنِينُ تفَزُّر الثوب إذا بَليَ من غير تشقق شديد وقيل هو اختلاف عمَله برِقَّة في مكان وكثافة في آخر وبه فسرابن الأَعرابي قول أَبانَ بن عثمان مَثَلُ اللَّحْن في الرجل السَّريِّ ذي الهيئة كالتَّفنِين في الثوب الجيِّد وثوب مُفَنَّنٌ مختلف ابن الأَعرابي التَّفْنِينُ البُقعة السَّخيفة السَّمِجة الرقيقة في الثوب الصفيق وهو عيب والسَّريُّ الشريف النفيس من الناس والعربُ تقول كنتُ بحال كذا وكذا فَنَّةً من الدهر وفَيْنةً من الدهر وضَرْبة من الدهر أي طرَفاً من الدهر والفَنِينُ وَرَمٌ في الإبط ووجع. اهـ (لسان العرب. ١٣/ ٣٢٦).
الِإنسى يغشى (١).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (٥٨)
قال أهل التفسير وأهل اللغة: هن في صفاء الياقوت وبياض المرجان
والمرجان صغار اللؤلؤ وهو أشد بياضاً.
وقوله: (فِيهنَّ) وإنما ذكر جنَّتَين يعني من هاتين الجنتين
وما أعد لصاحب هذه القصة غير هاتين الجنَّتَين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠)
أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يُحْسَنَ إليه في الآخرةِ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (٦٢)
أي لمن خاف مقام ربه جنتان وله من دونهما جَنَّتان.
والجنة في لغة العرب البستان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مُدْهَامَّتَانِ (٦٤)
يعني أنهما خَضْراوَانِ تضرب خضرتهما إلى السَّواد، وكل نبت أخضَر فتمام
خضرته ورِيِّه أن يضرب إلى السَّوَادِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (٦٦)
جاء في التفسير أنهما ينضخان كُلً خَير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)
قال قوم: إن النخل والرَّمَّان ليسا من الفاكهة.
وقال بعض أهل اللغَةِ، منهم يونس النحوي، وهو يتلو الخليل في القدم والحذق: إن الرَّمَّان والنخل من أفضل الفاكهة، وإنما فُصِلاَ بالواو لفضلهما، واستشهد في ذلك بقوله تعالى:
(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ).
فقال لفضلهما فصِلَا بالواو
قال ابن الجوزي:
وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيِّ. اهـ (زاد المسير. ٨/ ١٢٢).
قيل الإستبرق الديباج الصفيق جدًّا نحو ما يعمل للكعبة والبطائن ما يلي
الأرض.
وقوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ).
أي ما يجنى من ثمرهما إذا أرادوه دنا من أفواههم حتى يتناوَلوه
بإفواههم وأيديهم.
* * *
وقوله: (فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (٧٠)
أصْلُه في اللغَة خَيِّرات، والمعنى أنَّهن خَيرات الأخلاق حسان الخلق.
وقد قرئ بها - أعني بتشديد الياء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (٧٢)
الخيام في لغَةِ العَرَبِ جَمْع خَيْمَةٍ.
والخيام شيئانِ: الخيام الهوادج والخيام البيوت.
وجاء في التفسير أن الخيمة من هذه الخيام من دُرَّةٍ مجَوَّفَةٍ.
ومعنى (مَقْصُورَاتٌ) مُخَدَّرات، قد قصرن على أزْوَاجِهِنَّ.
* * *
وقوله: (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (٧٦)
وقرئت (على رَفَارفَ خُضْرٍ وعَبَاقِرَيَّ حِسَانٍ) (١).
القراءة هي الأولى، وهذه القراءة لا مخرج لها في العربية، لأن
الجمع الذي بعد ألفه حرفان نحو مساجد ومفاتيح لا يكون فيه مثل عباقري
لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب. لو جمعت " عبقري " كان جمعه
قوله: ﴿رَفْرَفٍ﴾: الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ. وقيل: بل هو اسمُ جمعٍ، نقلهما معاً مكيٌّ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب. وقال الجوهريُّ: «ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ، الواحدةُ رَفْرَفة» واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ: أي: ارتفع في الهواء. ورَفْرَفَ بجناحَيْه: إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع. وقال الراغب: «رفيفُ الشجر: انتشارُ أغصانِه. ورَفَّ الطائرُ: نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ. ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ. ومنه» ماله حافٌّ ولا رافٌّ «، أي: مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه. والرَّفْرَفُ: المنتشِرُ من الأوراقِ. وقولُه ﴿على رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾: ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض. وقيل: الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ. وذكر الحسن أنه المَخادُّ» انتهى. وقال ابن جُبير: «رياضُ الجنَّة، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن. وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ. ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه: ﴿والنخل بَاسِقَاتٍ﴾ [ق: ١٠] وبالمفرِد. وحَسَّنَ جَمْعَه هنا جَمْعُ حِسان. وقرأ العامَّةُ» رَفْرَفٍ «وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم» رَفارِفَ خُضْرٍ «بالجمع وسكونِ الضاد. وعنهم أيضاً» خُضُرٍ «بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء. وقيل: هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ. وأُنْشد لطرفة:
٤١٩٨ أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا... جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ
وقال آخر:
٤١٩٩ وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف... ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ
وقرؤوا» عباقِرِيَّ «بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ. وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ. وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ» وعباقِرِيٍّ «منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ» رَفارِفٍ «بالصرف. وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ» عباقِرِيَّ «إنَّه لما جاوزَ» رفارِفَ «الممتنعَ امتنع مُشاكلةً. وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ: إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك ﴿سَلاسلاً وأَغْلالاً﴾ [الإِنسان: ٤] كما سيأتي.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً» خَضَّارٍ «كضَرَّاب بالتشديد. وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ.
والجمهورُ» وعَبْقِرِيٍّ «منسوب إلى عَبْقَر، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا: هذا عَبْقريٌّ. وفي الحديث:» فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه «والمرادُ به هنا قيل: البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ. وقيل: هي الزَّرابِيُّ. وقيل: الطَّنافِسُ. وقيل: الدِّيباج. وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ، كما تقدَّم في رَفْرفَ. وقيل: هو واحدٌ دالٌّ على الجمع، ولذلك وُصِف بحسان.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
فالأصل أن واحده عبقريَّةٌ، والجمع عبقري، كما تقول ثَمَرَةَ وثَمَر ولوزَةٌ ولوْزٌ.
ويكون أيضاً عبقري اسماً للجنس، فالقراءة هي الأولى.
وأما تفسير (رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ) فقالوا: الرَّفْرَفُ ههنا رياض الجنَّةِ
وقالوا: الرفرف الوسائد، وقالوا المحابس، وقالوا أيضاً فضول المحابس
للفرش.
فأما العبقري، فقالوا: البُسُط، وقالوا: الطنافِسُ المبْسُوطَةُ والذي
يدل على هذا من القرآن قوله: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦).
فالنمارق الوسائد، والزرابى البسط.
فمعنى " رفرف " ههنا، و " عَبْقَرِيْ " أنه الوسائد والبُسط.
ويدل - واللَّه أعلم - على أن الوسائد ذوات رَفْرَفَ.
وأصل العبقري في اللغة صفة لكل ما بولغ في وصفه، وأصله أن عبقر
اسم بلد كان يوَشَّى فيه البسط وغيرها، فنسب كل شيء جيد، وكل ما بولغ في وصفه إلى عبقر. قال زهير:
بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَريةٌ... جَديرون يوماً أَن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا
* * *
وقوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٧٧)
أي: فَبِأَيِّ نعم رَبِّكما التي عددت عليكما يا معشر الجن والِإنس تكذبان.
فإنما ينبغي أن يعظِّما الله ويمجداه، فختم السورة بما ينبغي أن يمجَّدَ به
- عزَّ وجلَّ - ويُعظَّم - فقال عزَّ وجلَّ: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٧٨). (١)
قوله تعالى: ﴿تبارك اسمُ ربِّكَ﴾ فيه قولان.
أحدهما: أن ذِكْر «الاسم» صِلَة، والمعنى: تبارك ربُّك.
والثاني: أنه أصل.
قال ابن الأنباري: المعنى: تفاعل من البَرَكة، أي: البَرَكة تُنال وتُكْتَسَب بذِكْر اسمه.
وقد بيَّنّا معنى «تبارك» في [الأعراف: ٥٤]، وذكرنا في هذه السورة معنى ﴿ذي الجلال والإكرام﴾ [الرحمن: ٢٧]، وكان ابن عامر يقرأ: «ذو الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الشام؛ والباقون: «ذي الجلال» وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والعراق، وهم متفقون على الموضع الأول أنه «ذو». اهـ (زاد المسير. ٨/ ١٢٩).