وقد ذُكر سيدنا نوح في القرآن الكريم في ثلاثة وأربعين موضعا، وجاء تفصيل عن قصته في سورة هود، وهنا في سورة نوح. وجادله قومه كثيرا، وحاول معهم أن يهديهم بشتى الوسائل والطرق، ولكنهم أبوا ذلك... و﴿ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ﴾ سورة هود. فرد عليهم بما قصه الله تعالى في قوله :﴿ قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، هو ربكم وإليه ترجعون ﴾ هود ٣٣.
وفي سورة نوح هنا يقول :﴿ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا، فلم يزدهم دعائي إلا فرارا... ﴾.
فلما بلغ نوح درجة اليأس من إيمان بعد تلك المدة الطويلة التي أقامها فيهم يدعوهم، كان ما قصه الله تعالى بقوله :﴿ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ﴾ هود٣٦.
عندئذ توجه نوح إلى ربه بالدعاء عليهم :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا، إنك إن تذرهم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ﴾.
ثم دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة :﴿ رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا ﴾.
ﰡ
قراءات :
قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو : أن اعبدوا الله بكسر النون لالتقاء الساكنين. والباقون : أنُ اعبدوا الله بضم النون.
فعصاه قومُه ولم يستجيبوا له فقال : يا رب، لقد دعوتُ قومي لعبادتك ليلاً ونهاراً.
قراءات :
قرأ الجمهور : دعائي بفتح الياء. وقرأ الكوفيون ويعقوب : دعائي بإسكان الياء كما هو في المصحف.
استغشَوا ثيابهم : تغطوا بها لئلا يروا.
وإني كلّما دعوتُهم لتغفرَ لهم، سدُّوا مسامعَهم بأصابعهم وغطوا رؤوسهم بثيابهم حتى لا يسمعوا الحقَّ وأصروا على كفرهم ﴿ واستكبروا استكبارا ﴾.
مدرارا : غزيرا.
يُغِثْكم ويُرْسِلِ الأمطار عليكم غزيرةً تُخصِب أرضَكم وتُحيي زروعكم.
وقارا : عظمة وإجلالا.
بعد أن دعاهم نوح إلى الله في السرّ والعلَن، وطلبَ إليهم أن يَستغفِروه حتى يرزقَهم الغيثَ كي يحسِّن وضعَهم، ويمدّهم بالأموال والبنين.. وحاولَ أن يهذِّب نفوسهم بأن يتّبعوا مكارمَ الأخلاق، استنكر نوحٌ على قومه وتعجّب من إعراضِهم كيف لا يهابون الله ولا يخافون من قُدرته وعظَمته.
﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ﴾ مختلفةً فكنتم نطفةً في الأرحام، ثم علقةً، ثم مُضغةً،
ثم عِظاما، ثم كسا العظام لحماً، ثم أنشأكم خَلْقاً آخر ﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ].
ثم ينبّهُهُمْ إلى هذا الكونِ العجيب وهذه السماواتِ وإتقان صُنْعِها.
واللهُ جعلَ لكم الأرضَ مبسوطةً.
بعدَ أن يئس نوحٌ من قومه في هذه المدَّة الطويلة التي قضاها بينَهم توجّه إلى ربه وقال : ربّ إنهم عَصَوني واتَّبعوا طواغيتَهم من الأغنياءِ الأقوياء الذين لن تزيدَهم أموالُهم وأولادُهم إلا خُسرانا.
وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونَسْراً : أسماء أصنام كانوا يعيدونها.
وقالوا لأتباعهم : لا تتركوا آلهتكم التي تعبُدونها ولا تتركوا وَدّاً ولا سُواعاً
ولا يغوثَ ويعوقَ ونَسْرا.
قراءات :
قرأ نافع : ودا بضم الواو. والباقون : ودا بفتح الواو.
وبسببِ ذُنوبهم أغرقَهم الله بالطوفان، وأُدخِلوا بعدَ ذلك ناراً عظيمة. وذلك يومَ القيامة، ولم يجِدوا لهم أنصاراً يَحْمُونَهم من عذابِ الله.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : مما خطاياهم، والباقون : مما خطيئاتهم.
ثم قال نوح بعدَ يأسِه الشديد :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً... ﴾
يا ربّ، لا تترك على الأرضِ أحَداً من الكافرين،
ثم طلب نوح الغفرانَ لنفسه ولأبوَيه وللمؤمنين والمؤمنات، وأعادَ الدعاءَ على الكافرين مرّةً أخرى فقال :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً ﴾.
أي : خُسراناً وبُعداً من رحمتك. أما سيدُنا محمد الرسولُ العربي الكريم فإنه لم يَدْعُ على قومه بل دَعا لهم أكثرَ من مرَةٍ وكان يقول :« اللهمّ اهدِ قومي فإنهم
لا يَعلمون » وقد استجابَ له. ونسأل اللهَ تعالى أن يهديَ العربَ إلى سَواء الطريق ويجمع كلمتَهم، ويوحّد صفوفَهم ليواجهوا عدوَّهم المشترك، وأن يقوّوا صِلَتَهم بجميع المسلمين ﴿ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٢٩ ].