تفسير سورة الأنفال

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾ [ آية٣٠ ] الآية وهي خمس وسبعون آية كوفية

﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ ﴾، وذلك" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يوم بدر: " إن الله وعدني النصر أو الغنيمة، فمن قتل قتيلاً، أو أسر أسيراً، فله من عسكرهم كذا وكذا، إن شاء الله ومن جاء برأس، فله غرة "، فلما تواقعوا انهزم المشركون وأتباعهم سرعان الناس، فجاءوا بسبعين أسيراً، وقتلوا سبعين رجلاً، فقال أبو اليسر الأنصارى: أعطنا ما وعدتنا من الغنيمة، وكان قتل رجلين، وأسر رجلين: العباس بن عبد المطلب، وأبا عزة ابن عمير بن هشام بن عبد الدار، وكان معه لواء المشركين يوم بدر، قال سعد بن عبادة الأنصاري، من بني ساعدة، للنبي صلى الله عليه وسلم: ما منعنا أن نطلب المشركين كما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة، ولا جبناً عن العدو، ولكن خفنا أن نعري صفك، فتعطف عليك خيل المشركين، أو رجالنهم، فتصاب بمصيبة، فإن تعط هؤلاء ما ذكرت لهم، لم يبق لسائر أصحابك كبير شىء، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ ﴾، يعني النافلة التي وعدتهم، يعنى أبا اليسر، اسمه كعب بن عمرو الأنصاري، من بنى سلمة بن جشم ابن مالك، ومالك بن دخشم الأنصارى، من بنى عوف بن الخزرج. فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلِ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ ٱلأَنفَالُ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾، يقول: ليرد بعضكم على بعض الغنيمة.
﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ فى أمر الصلح.
﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [الآية: ١]، يعنى مصدقين بالتوحيد، فأصلحوا.
ثم نعتهم، فقال: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ ﴾ في أمر الصلح.
﴿ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾، يعنى تصديقاً مع إيمانهم مع تصديقهم بما أنزل الله عليهم قبل ذلك من القرآن.
﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [آية: ٢]، يعني وبه يثقون. ثم نعتهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾، يعنى يتمون الصلاة، ركوعها، وسجودها في مواقيتها.
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ من الأموال ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾ [الآية: ٣] في طاعة ربهم.﴿ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾، لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
﴿ لَّهُمْ ﴾ بذلك ﴿ دَرَجَاتٌ ﴾، يعنى فضائل ﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ في الآخرة في الجنة.
﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم.
﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [آية: ٤]، يعني حسن في الجنة، فلما نزلت هؤلاء الآيات، قالوا: سمعنا وأطعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تقسم الغنيمة حتى رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقسم بينهم بالسوية، ورفع الخمس منه.
قوله: ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ ﴾، وذلك" أن عير كفار قريش جاءت من الشام تريد مكة فيها أبو سفيان بن حرب، وعمرو بن العاص، وعمرو بن هشام، ومخرمة بن نوفل الزهري، في العير، فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدهم، فبعثوا عمرو بن ضمضم الغفاري إلى مكة مستغيثاً، فخرجت قريش، وبعث النبى صلى الله عليه وسلم عدي بن أبي الزغفاء عيناً على العير؛ ليعلم أمرهم، ونزل جبريل، عليه السلام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعير أهل مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إن الله يعدكم إحدى الطائفتين، إما العير، وإما النصر والغنيمة، فما ترون؟، فأشاروا عليه، بل نسير إلى العير، وكرهوا القتال، وقالوا: إنا لم نأخذ أهبة القتال، وإنما نفرنا إلى العير، ثم أعاد النبي صلى الله عليه وسلم المشورة، فأشاروا عليه بالعير " ". فقال سعد بن عبادة الأنصاري: يا رسول الله، انظر أمرك فامض له، فوالله لو سرت بنا إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ففرح النبى صلى الله عليه وسلم، حتى عرف السرور فى وجهه، فقال المقداد بن الأسود الكندى: إنا معك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لهم معروفاً، فأنزل الله عز وجل: ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ ﴾ ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾ [آية: ٥] للقتال، فلذلك ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ في أمر الغنيمة، فيها تقديم. ثم قال: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ ﴾ لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله.
﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾ [آية: ٦].
﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّائِفَتِيْنِ ﴾ العير أو هزيمة المشركين وعسكرهم.
﴿ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ ﴾، يعني العير.
﴿ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ يقول: يحقق الإسلام بما أنزل إليك.
﴿ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾، يعنى أصل الكافرين ببدر. ﴿ لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ ﴾، يعنى الإسلام.
﴿ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ ﴾، يعني الشرك، يعني عبادة الشيطان.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ ﴾، يعني كفار مكة.
قوله: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ﴾، وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين يوم بدر، وعلم أنه لا قوة له بهم إلا بالله، دعا ربه، فقال: " اللهم إنك أمرتني بالقتال، ووعدتني بالنصر، وإنك لا تخلف الميعاد "، فاستجاب له ربه، فأنزل الله: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ﴾ في النصر.
﴿ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾ يوم بدر.
﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ [آية: ٩]، يعني متتابعين، كقوله في المؤمنين:﴿ رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾[المؤمنون: ٤٤]، وقوله:﴿ طَيْراً أَبَابِيلَ ﴾[الفيل: ٣]، وقوله:﴿ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾[هود: ٥٢]، يعني متتابع قطرها. فنزل جبريل، عليه السلام، في ألف من الملائكة، فقام جبريل، عليه السلام، في خمسمائة ملك عن ميمنة الناس، معهم أبو بكر، ونزل ميكائيل، عليه السلام، فى خمسمائة على ميسرة الناس، معهم عمر فى صورة الرجال، عليهم البياض، وعمائم البيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم، فقاتلت الملائكة يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم الأحزاب، ولا يوم خيبر. ثم قال: ﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ ﴾، يعني مدد الملائكة.
﴿ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ﴾، يعني لتسكن إليه قلوبكم.
﴿ وَمَا ٱلنَّصْرُ ﴾، وليس النصر.
﴿ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾، وليس النصر بقلة العدد ولا بكثرته، ولكن النصر من عند الله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الآية: ١٠].
﴿ عَزِيزٌ ﴾، يعني منيع.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أمره، حكم النصر. وقوله: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ ﴾، وذلك أن كفار مكة سبقوا النبى صلى الله عليه وسلم إلى ماء بدر، فخلفوا الماء وراء ظهورهم، ونزل المسلمون حيالهم على غير ماء، وبينهم وبين عدوهم بطن واد فيه رمل، فمكث المسلمون يوماً وليلة يصلون محدثين مجنبين، فأتاهم إبليس، لعنه الله، فقال لهم: أليس قد زعمتم أنكم أولياء الله على دينه، وقد غلبتم على الماء تصلون على غير طهور، وما يمنع القوم من قتالكم إلا ما أنتم فيه من العطش والبلاء، حتى إذا انقطت رقابكم من العطش، قاموا إليكم فلا يبصر بعضكم بعضاً، فيقرنونكم بالحبال، فيقتلون منكم من شاءوا، ثم ينطلقون بكم إلى مكة. فحزن المسلمون وخافوا، وامتنع منهم النوم، فعلم الله ما في قلوب المؤمنين من الحزن، فألقى الله عليهم النعاس أمنة من الله ليذهب همهم، وأرسل السماء عليهم ليلاً، فأمطرت مطراً جواداً حتى سالت الأودية، وملؤوا الأسقية، وسقوا الإبل، واتخذوا الحياض، واشتدت الرملة، وكانت تأخذ إلى كعبى الرجال، وكانت باعة المؤمنين رجال لم يكن معهم إلا فارسان: المقداد بن الأسود، وأبو مرثد الغنوى، وكان معهم ستة أدرع، فأنزل الله ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ ﴾ ﴿ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ﴾ من الأحداث، والجنابة.
﴿ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ ﴾، يعنى الوسوسة التى ألقاها في قلوبكم والحزن.
﴿ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ ﴾ بالإيمان من تخويف الشيطان.
﴿ وَيُثّبِّتَ بِهِ ﴾، يعنى بالمطر.
﴿ ٱلأَقْدَامَ ﴾ [آية: ١١].
﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ ﴾، ولما وصف القوم، أوحى الله عز وجل.
﴿ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ﴾، فبشروا ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بالنصر، فكان الملك في صورة بشر فى الصف الأول، فيقول: أبشروا، فإنكم كثير، وعددهم قليل، فالله ناصركم، فيرى الناس أنه منهم، ثم قال ﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ ﴾ بتوحيد الله عز وجل يوم بدر، ثم علمهم كيف يصنعون، فقال: ﴿ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ ﴾، يعنى الرقاب، تقول العرب: لأضربن فوق رأسك، يعنى الرقاب.
﴿ وَٱضْرِبُواْ ﴾ بالسيف ﴿ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [آية: ١٢]، يعنى الأطراف.﴿ ذٰلِكَ ﴾ الذى نزل بهم ﴿ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، يعنى عادوا الله ورسوله.
﴿ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ ﴾، يعنى ومن يعاد الله ﴿ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ١٣] إذا عاقب.﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ القتل.
﴿ فَذُوقُوهُ ﴾ يوم بدر في الدنيا، ثم قال: ﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ بتوحيد الله عز وجل مع القتل، وضرب الملائكة الوجوه، والأدبار أيضاً، لهم فى الآخرة ﴿ عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ١٤].
﴿ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله عز وجل يوم بدر ﴿ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ ﴾ [آية: ١٥]﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ ﴾، يعنى مستطرداً يريد الكرة للقتال.
﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ ﴾، يقول: أو ينحاز إلى صف النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يقول: فقد استوجب من الله الغضب.
﴿ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ﴾، يعنى ومصيره جنهم.
﴿ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾، يعنى ما قتلتوهم، وذلك أن الرجل من المؤمنين كان يقول: فعلت وقتلت، فنزلت: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾ ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ﴾، وذلك" أن النبى صلى الله عليه وسلم حين صاف المشركين، دعا بثلاث قبضات من حصى الوادى ورمله، فناوله على بن أبى طالب، فرمى بها فى وجوه العدو، وقال: " اللهم ارعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم، فملأ الله وجوههم وأبصارهم من الرمية، فانهزموا عند الرمية الثالثة، وتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم "، فذلك قوله: ﴿ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً ﴾، يعنى القتل والأسر.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [الآية: ١٧] به.﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ النصر.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ ﴾، يعنى مضعف.
﴿ كَيْدِ ٱلْكَافِرِين ﴾.
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ ﴾، وذلك أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام، كأن فارساً دخل المسجد الحرام، فنادى: يا آل فهر من قريش، انفروا فى ليلة أو ليلتين، ثم صعد فوق الكعبة، فنادى مثلها، ثم صعد أبا قبيس، فنادى مثلها، ثم نقض صخرة من الجبل فرفعها المنادى، فضرب بها الجبل فانفلقت، فلم يبق بيت بمكة إلا دخلت قطعة منه فيه، فلما أصبحت أخبرت أخاها العباس وجلاً، وعنده أبو جهل ابن هشام، فقال أبو جهل: يا آل قريش، ألا تعذرونا من بنى عبد المطلب، إنهم لا يرضون أن تنبأ رجالهم حتى تنبأت نساؤهم، ثم قال أبو جهل للعباس: تنبأت رجالكم وتنبأت نساؤكم، والله لتنتهن، وأوعدهم، فقال العباس: إن شئتم ناجزناكم الساعة. فلما قدم ضمضم بن عمرو الغفارى، قال: أدركوا العير أو لا تدركوا، فعمد أبو جهل وأصحابه، فأخذوا بأستار الكعبة، ثم قال أبو جهل: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم القبيلتين، ثم خرجوا على كل صعب وذلول ليعينوا أبا سفيان، فترك أبو سفيان الطريق وأغز على ساحل البحر، فقدم مكة وسبق أبو جهل النبى صلى الله عليه وسلم ومن معه من المشركين إلى ماء بدر، فلما التقوا، قال أبو جهل: اللهم اقض بيننا وبين محمد، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره، ففعل الله عز وجل ذلك، وهزم المشركين وقتلهم، ونصر المؤمنين. فأنزل الله فى قول أبى جهل: ﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ ﴾، يقول: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فقد نصرت من قلتم.
﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من القتال.
﴿ وَإِن تَعُودُواْ ﴾ لقتالهم.
﴿ نَعُدْ ﴾ عليكم بالقتل والهزيمة بما فعلنا ببدر.
﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ﴾، يعنى جماعتكم شيئاً.
﴿ وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾ فئتكم.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١٩] فى النصر لهم.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾، يعنى صدقوا بتوحيد الله عز وجل: ﴿ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ فى أمر الغنيمة.
﴿ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ ﴾، يعنى ولا تعرضوا عنه، يعنى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [آية: ٢٠] المواعظ. ثم وعظ المؤمنين، فقال: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا ﴾ الإيمان ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [آية: ٢١]، يعنى المنافقين. ثم قال: ﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ﴾ عن الإيمان.
﴿ البُكُمُ ﴾، يعنى الخرس لا يتكلمون بالإيمان ولا يعقلون.
﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٢٢]، يعنى ابن عبد الدار بن قصى، وأبو الحارث بن علقمة، وطلحة بن عثمان، وعثمان، وشافع، أبو الجلاس، وأبو سعد، والحارث، والقاسط بن شريح، وأرطاة بن شرحبيل. ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ ﴾، يعنى لأعطاهم الإيمان: ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُم ﴾، يقول: ولو أعطاهم الإيمان.
﴿ لَتَوَلَّوا ﴾، يقول: لأعرضوا عنه: ﴿ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [آية: ٢٣]، لما سبق لهم فى علم الله من الشقاء، وفيهم نزلت:﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً... ﴾إلى آخر الآية [الأنفال: ٣٥].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ في الطاعة فى أمر القتال.
﴿ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾، يعنى الحرب التى وعدكم الله، يقول: أحياكم بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، فكان ذلك لكم حياء.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾، يقول: يحول بين قلب المؤمن وبين الكفر، وبين قلب الكافر وبين الإيمان.
﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آية: ٢٤] في الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم.﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً ﴾ تكون من بعدكم، يحذركم الله، تكون مع على بن أبى طالب.
﴿ لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾، فقد أصابتهم يوم الجمل، منهم: طلحة، والزبير، ثم حذرهم فقال: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَاب ﴾ [آية: ٢٥] إذا عاقب. ثم ذكرهم النعم، فقال: ﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ﴾، يعنى المهاجرين خاصة.
﴿ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يعنى أهل مكة.
﴿ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ ﴾، يعنى كفار مكة، نزلت هذه الآية بعد قتال بدر، يقول: ﴿ فَآوَاكُمْ ﴾ إلى المدينة والأنصار.
﴿ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ﴾، يعنى وقواكم بنصره يوم بدر.
﴿ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾، يعنى الحلال من الرزق وغنيمة بدر.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يعنى لكى.
﴿ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٢٦] تشكرون ربكم فى هذه النعم التى ذكرها فى هذه الآية.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ﴾، يعنى أبا لبابة، وفيه نزلت هذه الآية، نظيرها فى المتحرم ﴿ وَتَخُونُوۤاْ ﴾ [التحريم: ١٠] يعنى فخالفتاهما فى الدين، ولم يكن فى الفرج، واسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوف، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح على مثل صلح أهل النصير، على أن يسيروا إلى إخواتهم إلى أذرعات وأريحا فى أرض الشام، وأبى النبى صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا إلا على الحكم، فأبوا، وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحهم، وهو حليف لهم، فبعثه النبى صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما أتاهم، قالوا: يا أبا لبابة، أتنزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأشار أبا لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح، فلا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة وولده معهم، فغش المسلمين وخان، فنزلت فى أبى لبابة ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ ﴾ ﴿ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٧] أنها الخيانة. ثم حذرهم، فقال ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾، يعنى بلاء؛ لأنه ما نصحهم إلا من أجل ماله وولده؛ لأنه كان فى أيديهم.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ ﴾، يعني جزاء ﴿ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٢٨]، يعني الجنة.﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، فلا تعصوه.
﴿ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ﴾، يعنى مخرجاً من الشبهات.
﴿ وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، يعنى ويمحو عنكم خطاياكم.
﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾، يقول: ويتجاوز عنكم.
﴿ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [آية: ٢٩].
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وذلك أن نفراً من قريش، منهم: أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وهشام بن عمرو، وأبو البحتري بن هشام، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبى معيط، وعيينة بن حصن الفزارى، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأبي بن خلف، اجتمعوا فى دار الندوة بمكة يوم، وهو يوم السبت ليمكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم إبليس فى صورة رجل شيخ كبير، فجلس معهم، فقالوا: ما أدخلك في جماعتنا بغير إذننا، قال: إنما أنا رجل من أهل نجد، ولست من أهل تهامة، قدمت مكة فرأيتكم حسنة وجوهكم، طيبة ريحكم، نقية ثيابكم، فأحببت أن أسمع من حديثكم، وأستر عليكم، فإن كرهتم مجلسى خرجت من عندكم، فقالوا: هذا رجل من أهل نجد، وليس من أهل تهامة، فلا بأس عليكم منه، فتعملوا بالمكر بمحمد. فقال أبو البحترى بن هشام، من بنى أسد بن عبد العزى: أما أنا فرأيى أن تأخذوا محمداً، فتجعلوه فى بيت، وتسدوا بابه، وتدعوا له كوة، يدخل منها طعامه وشرابه حتى يموت، قال إبليس: بئس والله الرأى رأيتم، تعمدون إلى رجل له فيكم صغو قد سمع به من حولكم، فتحبسونه فتعطمونه وتسقونه فيوشك الصغو الذى له فيكم أن يقاتلكم عليه، فيفسد جماعتكم ويسفك دماءكم، فقالوا: صدق والله الشيخ. فقال هشام بن عمرو، من بنى عامر بن لؤى: أما أنا، فرأيى أن تحملوا محمداً على بعير، فيخرج من أرضكم، فيذهب حيث شاء، ويليه غيركم، قال إبليس: بئس والله الرأى رأيتم، تعمدون إلى رجل قد شتت وأفسد جماعتكم، واتبعه منك طائفة، فتخرجوه إلى غيركم، فيفسدهم كما أفسدكم، فيوشك والله أن يقبل بهم عليكم ويتولى الصغو الذى له فيكم، قالوا: صدق والله الشيخ. فقال أبو جهل بن هشام المخزومي: أما أنا، فرأيي أن تعمدوا إلى كل بطن من قريش، فتأخذوا من كل بطن رجلاً، ثم تعطوا كل رجل منهم سيفاً، فيضربونه جميعاً بأسيافهم، فلا يدري قومه من يأخذون به، وتؤدي قريش ديته، قال إبليس: صدق والله الشاب، إن الأمر لكما قال، فتفرقوا على قول أبي جهل. فنزل جبريل، عليه السلام، فأخبره بما ائتمر به القوم، وأمره بالخروج، فخرج النبى صلى الله عليه وسلم من ليلته إلى الغار، وأنزل الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من قريش ﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾، يعنى ليحبسوك فى بيت، يعني أبا البحتري بن هشام.
﴿ أَوْ يَقْتُلُوكَ ﴾، يعنى أبا جهل.
﴿ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ من مكة، يعني به هشام بن عمرو.
﴿ وَيَمْكُرُونَ ﴾ بالنبي صلى الله عليه وسلم الشر.
﴿ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ﴾ بهم حين أخرجهم من مكة فقتلهم ببدر، فذلك قوله: ﴿ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ ﴾ [آية: ٣٠] أفضل مكراً منهم، أنزل الله:﴿ أَمْ أَبْرَمُوۤاْ ﴾، يقول: أم أجمعوا على أمر،﴿ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾[الزخرف: ٧٩]، يقول: لنخرجنهم إلى بدر فنقتلهم، أو نعجل أرواحهم إلى النار. قوله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾، يعنى القرآن.
﴿ قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا ﴾ القرآن، قال ذلك النضر بن الحارث بن علقمة، من بني عبد الدار بن قصي، ثم قال: ﴿ إِنْ هَـٰذَآ ﴾ الذى يقول محمد من القرآن ﴿ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ [آية: ٣١]، يعنى أحاديث الأولين، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يحدث عن الأمم الخالية، وأنا أحدثكم عن رستم واسفنديار كما يحدث محمد، فقال عثمان بن مظعون الجمحي: اتق الله يا نضر، فإن محمداً يقول الحق، قال: وأنا أقول الحق، قال عثمان: فإن محمداً يقول: لا إله إلا الله، قال: وأنا أقول: لا إله إلا الله، ولكن الملائكة بنات الله. فأنزل الله عز وجل فى حم الزخرف، فقال:﴿ قُلْ ﴾يا محمد:﴿ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ ﴾[الزخرف: ٨١]، أول الموحدين من أهل مكة، فقال عند ذلك: ألا ترون قد صدقنى: ﴿ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ ﴾، قال الوليد بن المغيرة: لا والله ما صدقك، ولكنه قال: ما كان للرحمن ولد، ففطن لها النضر، فقال: ﴿ وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا ﴾ ما يقول محمد ﴿ هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ٣٢]، يعنى وجيع. فأنزل الله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ﴾، يعنى أن يعذبهم ﴿ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ بين أظهرهم حتى يخرجك عنهم كما أخرجت الأنبياء عن قومهم.
﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [آية: ٣٣]، يعنى يصلون لله، كقوله:﴿ وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾[الذاريات: ١٨]، يعنى يصلون، وذلك أن نفراً من بنى عبد الدار، قالوا: إنا نصلي عند البيت، فلم يكن الله ليعذبنا ونحن نصلي له. ثم قال: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ إذ لم يكن نبي ولا مؤمن بعد ما خرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من أهل مكة.
﴿ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾ المؤمنين.
﴿ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ ﴾، يعني أولياء الله.
﴿ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ ﴾، يعني ما أولياء الله ﴿ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ الشرك، يعني المؤمنين أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٣٤]، يقول: أكثر أهل مكة لا يعلمون توحيد الله عز وجل. وأنزل الله عز وجل فى قول النضر أيضاً حين قال:﴿ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، يعنى وجيع، أنزل:﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ... ﴾[المعارج: ١] إلى آيات منها. ثم أخبر عن صلاتهم عند البيت، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ ﴾، يعنى عند الكعبة الحرام.
﴿ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾، يعني بالتصدية الصفير والتصفية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فى المسجد الحرام، قام رجلان من بني عبد الدار بن قصي من المشركين عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، فيصفران كما يصفر المكاء، يعنى به طيراً اسمه المكاء، يعنى به طيراً اسمه المكاء، ورجلان عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فيصفقان بأيديهما ليخلطا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وقراءته، فقتلهم الله ببدر هؤلاء الأربعة، ولهم يقول الله ولبقية بني عبد الدار: ﴿ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ﴾، يعني القتل ببدر.
﴿ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آية: ٣٥] بتوحيد الله عز وجل.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾، وذلك أن رءوس كفار قريش استأجروا رجالاً من قبائل العرب أعواناً لهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأطعموا أصحابهم كل يوم عشر جزائر ويوماً تسعة، فنزلت: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ ﴿ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى عن دين الله.
﴿ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾، يعنى ندامة.
﴿ ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾، يقول: تكون عليهم أموالهم التى أنفقوها ندامة على إنفاقهم، ثم يهزمون، ثم أخبر بمنزلتهم فى الآخرة، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ بتوحيد الله.
﴿ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ﴾ فى ألآخرة ﴿ يُحْشَرُونَ ﴾ [آية: ٣٦].
﴿ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ ﴾، يعنى يميز الكافر من المؤمن، ثم قال: ﴿ وَيَجْعَلَ ﴾ فى الآخرة ﴿ ٱلْخَبِيثَ ﴾ أنفسهم ﴿ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ [آية: ٣٧]، يعنى المطعمين فى غزوة بدر، أبا جهل والحارث ابنا هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأبا البحترى بن هشام، والنضر بن الحارث، والحكم بن حزام، وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفل، كلهم من قريش.
﴿ قُل ﴾ يا محمد ﴿ لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ بالتوحيد.
﴿ إِن يَنتَهُواْ ﴾ عن الشرك ويتوبوا.
﴿ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ من شركهم قبل الإسلام.
﴿ وَإِنْ يَعُودُواْ ﴾ لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتوبوا.
﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ﴾ [آية: ٣٨]، يعنى القتل ببدر، فحذرهم العقوبة لئلا يعودوا فيصيبهم مثل ما أصابهم ببدر. ثم قال للمؤمنين ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، يعنى شركاً ويوحدوا ربهم.
﴿ وَيَكُونَ ﴾، يعني ويقوم ﴿ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾، ولا يعبد غيره.
﴿ فَإِنِ انْتَهَوْاْ ﴾ عن الشرك فوحدوا ربهم.
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٣٩].
﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يقول: وإن أبوا أن يتوبوا من الشرك.
﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ ﴾ يا معشر المؤمنين.
﴿ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ ﴾، يعني وليكم.
﴿ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ ﴾ حين نصركم.
﴿ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ ﴾ [آية: ٤٠]، يعني ونعم النصير لكم كما نصركم ببدر، وكانت وقعة بدر ليلة الجمعة فى سبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكانت وقعة أُحُد فى عشر ليال خلت من شوال يوم السبت بينهما سنة.
﴿ وَٱعْلَمُوۤا ﴾ يخبر المؤمنين ﴿ أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ يوم بدر.
﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ ﴾، يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾، يعني الضعيف نازل عليك.
﴿ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ ﴾، يعني صدقتم بتوحيد الله وصدقتم بـ ﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا ﴾ من القرآن ﴿ يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ ﴾، يعني يوم النصر فرق بين الحق والباطل، فنصر النبي صلى الله عليه وسلم وهزم المشركين ببدر ﴿ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾، يعني جمع النبي صلى الله عليه وسلم ببدر، وجمع المشركين، فأقروا الحكم لله في أمر الغنيمة والخمس، وأصلحوا ذات بينكم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٤١]، يعني قادر فيما حكم من الغنيمة والخمس. ثم أخبر المؤمنين عن حالهم التى كانوا عليها، فقال: أرأيتم معشر المؤمنين: ﴿ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا ﴾، يعني من دون الوادي على شاطئ مما يلي المدينة.
﴿ وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ ﴾ من الجانب الآخر مما يلي مكة، يعني مشركي مكة، فقال: ﴿ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾، يعني على ساحل البحر أصحاب العير أربعين راكباً أقبلوا من الشام إلى مكة، فيهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل، وعمرو بن هشام.
﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ ﴾ أنتم والمشركون.
﴿ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن ﴾ الله جمع بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد، أنتم ومشركو مكة.
﴿ لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً ﴾ فى علمه.
﴿ كَانَ مَفْعُولاً ﴾، يقول: أمراً لا بد كائناً؛ ليعز الإسلام وأهله، ويذل الشرك وأهله.
﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ ﴾ بالإيمان ﴿ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٤٢].
﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ يا محمد في التقديم ﴿ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً ﴾، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فى المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما رأى، فقالوا: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق والقوم قليل، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين فى أعين الناس، لتصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً ﴾ حين عاينتموهم ﴿ لَّفَشِلْتُمْ ﴾، يعني لجبنتم وتركتم الصف.
﴿ وَلَتَنَازَعْتُمْ ﴾، يعني واختلفتم.
﴿ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ ﴾، يقول: أتم المسلمون أمرهم على عدوهم، فهزموهم ببدر.
﴿ إِنَّهُ ﴾ الله ﴿ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ٤٣]، عليم بما فى قلوب المؤمنين من أمر عدوهم.﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ ﴾ يا معشر المسلمين ﴿ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ ﴾، يعنى فى أعين المشركين، وذلك حين التقوا ببدر، قلل الله العدو فى أعين المؤمنين، وقلل المؤمنين فى أعين المشركين ليجترئ بعضهم على بعض في القتال.
﴿ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً ﴾ فى علمه ﴿ كَانَ مَفْعُولاً ﴾، ليقضي الله أمراً لا بد كائناً ليعز الإسلام بالنصر ويذل أهل الشرك بالقتل والهزيمة.
﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ [آية: ٤٤]، يقول: مصير الخلائق إلى الله عز وجل، فلما رأى عدو الله أبو جهل وقتله.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾، يعنى صدقوا بتوحيد الله عز وجل.
﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ﴾، يعني كفار مكة ببدر.
﴿ فَٱثْبُتُواْ ﴾ لهم.
﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ ﴾، يعني لكي ﴿ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٤٥].
﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ فيما أمركم به فى أمر القتال.
﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ ﴾، يقول: ولا تختلفوا عند القتال.
﴿ فَتَفْشَلُواْ ﴾، يعني فتجبنوا.
﴿ وَتَذْهَبُ رِيحُكُمْ ﴾، يعني الصبا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: " قال:" نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ".
﴿ وَٱصْبِرُوۤاْ ﴾ لقتال عدوكم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ٤٦]، يعني فى النصر للمؤمنين على الكافرين بذنوبهم وبعملهم. ثم وعظ المؤمنين، فقال: ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ ﴾، ليذكروا بمسيرهم، يعني ابن أمية، وابن المغيرة المخزومي، وذلك أنهم كانوا رءوس المشركين في غزوهم بدر، فقال أبو جهل حين نجت العير وسارت إلى مكة، فأشاروا عليه بالرجعة، قال: لا نرجع حتى ننزل على بدر فننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، فتسمع العرب بمسيرنا، فذلك قوله:﴿ بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ ﴾ليذكروا بمسيرهم ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّه ﴾، يقول: ويمنعون أهل مكة عن دين الإسلام.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط ﴾ [آية: ٤٧] أحاط علمه بأعمالهم.﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، وذلك أنه بلغهم أن العير قد نجت، فأرادوا الرجوع إلى مكة، فأتاهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكنانى، من بنى مدلج بن الحراث، فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وعدوكم قليل، فتأمن عيركم، ويسير ضعيفكم.
﴿ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ على بني كنانة، أنكم لا تمرون بحي منهم إلا أمدكم بالخيل والسلاح والرجال، فأطاعوه ومضوا إلى بدر لما أراد الله من هلاكهم، فلما التقوا نزلت ملائكة ببدر مدداً للمؤمنين، عليهم جبريل، عليه السلام، ولما رأى إبليس ذلك، نكص على عقبيه، يقول: استأخر وراءه. فذلك قوله: ﴿ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ ﴾ فئة المشركين.
﴿ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ﴾، يقول: استأخر وراءه، وعلم أنه لا طاقة له بالملائكة، فأخذ الحارث بن هشام بيده، فقال: يا سراقة، على هذا الحال تخذلنا؟ ﴿ وَقَالَ ﴾ إبليس: ﴿ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾، فقال الحارث: والله ما نرى إلا خفافيش يثرب، فقال إبليس: ﴿ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ٤٨]، وكذب عدو الله ما كان به الخوف، ولكن خذلهم عند الشدة، فقال الحارث لإبليس وهو في صورة سراقة: فهلا كان هذا أمس، فدفع إبليس فى صدر الحارث، فوقع الحارث، وذهب إبليس هارباً، فلما انهزم المشركون، قالوا: انهزم بالناس سراقة، وهو بعض الصف، فلما بلغ سراقة سار إلى مكة، فقال: بلغني أنكم تزعمون بأني انهزمت بالناس، فوالذي يحلف به ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، قالوا له، ما أتيتنا يوم كذا وكذا، فحلف بالله لهم أنه لم يفعل، فلما أسلموا علموا أنما ذلك الشيطان.﴿ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾، يعني الكفر، نزلت في قيس بن الفاكه، ولم يتجمع جمع قط منذ يوم كانت الهزيمة أكثر من يوم بدر، وذلك أن إبليس جاء بنفسه، وجاء كل شيطان موكل بالدنيا، إلا شيطان موكل بآدمي، وكفار الجن كلهم، وسبعمائة من المشركين عليهم أبو جهل بن هشام، وكان قبل ذلك في ألف رجل، فرد منهم أبي بن شريق ثلاثمائة من بنى زهرة، وذلك أن أبي بن شريق خلا بأبى جهل، فقال: يا أبا الحكم، أكذاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: والله ما يكذب محمد صلى الله عليه وسلم على الناس، فكيف يكذب على الله، وكان يسمى قبل النبوة الأمين؛ لأنه لم يكذب قط. فقال أبو جهل: ولكن إذا كانت السقاية فى بني عبد مناف، والحجابة والمشورة والولاية، حتى النبوة أيضاً، فلما سمع أبي بن شريق قول أبي جهل: إن محمداً لم يكذب، رد أصحابه عن قتال محمد، عليه السلام، فخنس، فسمى الأخنس بن شريق؛ لأنه خنس بثلاثمائة رجل من بني زهرة يوم بدر عن قتال محمد، عليه السلام، وبقي سبعمائة عليهم أبو جهل بن هشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فى ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وسبعين من مؤمني الجن، وألف من الملائكة عليه جبريل، عليه السلام، فكان جبريل على خمسمائة على ميمنة الناس، وميكائيل على خمسمائة فى ميسرة الناس، ولم تقاتل الملائكة قتالاً قط إلا يوم بدر وكانوا يومئذ على صور الرجال، وعلى قوة الرجال على خيول بلق، وكان جبريل، عليه السلام، يسير أمام صف المسلمين، ويقول: أبشروا، فإن النصر لكم، وما يرى المسلمون إلا أنه رجل منهم.﴿ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾، يعني الكفر، نزلت فى قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، والعلاء بن أمية بن خلف الجمحي، وعمرو بن أمية بن سفيان بن أمية، كان هؤلاء المسلمون بمكة، ثم أقاموا بمكة مع المشركين، فلم يهاجروا إلى المدينة، فلما خرج كفار مكة إلى قتال بدر، خرج هؤلاء النفر معهم، فلما عاينوا قلة المؤمنين شكوا في دينهم وارتابوا، فقالوا: ﴿ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ ﴾، يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾، يعني المؤمنين، يعني يثق به فى النصر.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾، يعني منيع فى ملكه.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٤٩] فى أمره حكم النصر.
فلما قتل هؤلاء النفر من المشركين، ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ يا محمد.
﴿ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله ﴿ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾، يعني ملك الموت وحده.
﴿ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ فى الدنيا، ثم انقطع الكلام، فلما كان يوم القيامة دخلوا النار، تقول لهم خزنة جهنم: ﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴾ [آية: ٥٠].
﴿ ذٰلِكَ ﴾ العذاب ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ من الكفر والتكذيب.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [آية: ٥١]، يقول: ليس يعذبهم على غير ذنب. ثم نعتهم، فقال: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، يقول: كأشباه آل فرعون فى التكذيب والجحود.
﴿ وَ ﴾ كأشباه ﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، أي من قبل فرعون وقومه من الأمم الخالية، قوم نوح، وعاد، وثمود، وإبراهيم، وقوم شعيب.
﴿ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعني بعذاب الله بأنه ليس بنازل بهم فى الدنيا.
﴿ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ ﴾، يعني فأهلكهم الله.
﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾، يعني بالكفر والتكذيب.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ ﴾ في أمره حين عذبهم.
﴿ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ٥٢] إذا عاقب.﴿ ذٰلِكَ ﴾ العذاب ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ ﴾ على أهل مكة، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، ثم بعث فيهم محمداً رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه النعمة التى غيروها، فلم يعرفوا ربها، فغير الله ما بهم من النعم، فذلك قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٥٣].
ثم قال: ﴿ كَدَأْبِ ﴾، يعنى كأشباه ﴿ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ وقومه فى الهلاك ببدر.
﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾، يعني الذين قبل آل فرعون من الأمم الخالية.
﴿ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾، يعني بعذاب ربهم فى الدنيا بأنه غير نازل بهم.
﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾، يقول: فعذبناهم بذنوبهم فى الدنيا وبكفرهم وبتكذيبهم.
﴿ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ ﴾، يعني آل فرعون والأمم الخالية الذين كذبوا فى الدنيا.
﴿ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ [آية: ٥٤]، يعني مشركين.
﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى بتوحيد الله.
﴿ فَهُمْ ﴾، يعني بأنهم ﴿ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٥٥]، وهم يهود قريظة، فمنهم حيي بن أخطب اليهودي وإخوته، ومالك بن الضيف. ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ﴾ يا محمد.
﴿ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ﴾، وذلك أن اليهود نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم يقولون: نسينا وأخطأنا، ثم يعاهدهم الثانية، فينقضون العهد، فذلك قوله:﴿ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ﴾، يعني فى كل عام مرة.
﴿ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ﴾ [آية: ٥٦] نقض العهد.﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ ﴾، يقول: فإن أدركتهم في الحرب، يعني القتال، فأسرتهم.
﴿ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾، يقول: نكل بهم لمن بعدهم من العدو وأهل عهدك.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [آية: ٥٧]، يقول: لكي يذكروا النكال، فلا ينقضون العهد. ثم قال: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَ ﴾، يقول: وإن تخافن ﴿ مِنْ قَوْمٍ خَيَانَةً ﴾، يعني بالخيانة نقض العهد.
﴿ فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ ﴾، يقول: على أمر بين، فارم إليهم بعهدهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ ﴾ [آية: ٥٨]، يعني اليهود.﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله، يعني كفار العرب.
﴿ سَبَقُوۤاْ ﴾ سابقي الله بأعمالهم الخبيثة.
﴿ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾ [آية: ٥٩]، يقول: إنهم لن يفوقوا الله بأعمالهم الخبيثة حتى يعاقبهم الله بما يقولون.
ثم قال: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ ﴾، يعني السلاح؛ وهو الرمي.
﴿ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾، يعني كفار العرب.
﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ﴾، يقول: لا تعرفهم يا محمد، يقول: ترهبون فيما استعددتم به آخرين من دون كفار العرب، يعني اليهود، لا تعرفهم يا محمد.
﴿ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾، يقول: الله يعرفهم، يعني اليهود، ثم قال: ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ ﴾ من أمر السلاح والخيل.
﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾، يقول: يوفر لكم ثواب النفقة.
﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ٦٠]، يقول: وأنتم لا تنقصون يوم القيامة. ثم ذكر يهود قريظة، فقال: ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا ﴾، يقول: إن أرادوا الصلح فأرده، ثم نسختها الآية التي في سورة محمد صلى الله عليه وسلم:﴿ فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ ﴾[محمد: ٣٥]، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾، يقول وثق بالله، فإنه معك فى النصر إن نقضوا الصلح.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لما أرادوا من الصلح.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ٦١] به. ثم قال: ﴿ وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ ﴾ يا محمد بالصلح لتكف عنهم، حتى إذا جاء مشركو العرب، أعانوهم عليك، يعني يهود قريظة.
﴿ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ ﴾، يعني هو الذى قواك ﴿ بِنَصْرِهِ ﴾، يعني جبريل، عليه السلام، وبمن معه.
﴿ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٦٢] من الأنصار يوم بدر، وهو فاعل ذلك أيضاً، وأيدك على يهود قريظة. ثم ذكر الأنصار، فقال: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ بعد العداوة التى كانت بينهم فى أمر شمير وحاطب، فقال: ﴿ لَوْ أَنفَقْتَ ﴾ يا محمد على أن تؤلف بين قلوبهم ﴿ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ بعد العداوة في دم شمير وحاطب بالإسلام.
﴿ إِنَّهُ عَزِيزٌ ﴾، يعني منيع فى ملكه.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٦٣] فى أمره، حكم الألفة بين الأنصار بعد العداوة.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَ ﴾ حسب ﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٦٤] بالله عز وجل، نزلت بالبيداء فى غزاة بدر قبل القتال، وفيها تقديم.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ ﴾، يعني حضض المؤمنين على القتال ببدر.
﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ ﴾، يعني يقاتلوا.
﴿ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ ﴾، يعني يقاتلوا.
﴿ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بالتوحيد، كفار مكة ببدر.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ [آية ٦٥] الخير، فجعل الرجل من المؤمنين، يقاتل عشرة من المشركين، فلم يكن فرضه الله لا بد منه، ولكن تحريض من الله ليقاتل الواحد عشرة. فلم يطق المؤمنون ذلك، فخفف الله عنهم بعد قتال بدر، فأنزل الله: ﴿ ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ ﴾، يعني بعد قتال بدر.
﴿ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ ﴾ عدة ﴿ مِّئَةٌ ﴾ رجل ﴿ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾، يعني يقاتلوا مائتين.
﴿ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ ﴾ رجل ﴿ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ٦٦] فى النصر لهم على عدوهم، فأمر الله أن يقاتل الرجل المسلم وحده رجلين من المشركين، فمن أسره المشركون بعد التخفيف، فإنه لا يفادى من بيت المال إذا كان المشركون مثل المؤمنين، وإن كان المشركون أكثر من الضعف، فإنه يفادى من بيت المال، فينبغي للمسلمين أن يقاتلوا الضعف من المشركين إلى أن تقوم الساعة، وكانت المنزلة قبل التخفيف لا يفتدى الأسير إلى على نحو ذلك.﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ﴾ من قبلك يا محمد ﴿ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ ﴾ عدوه ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ ويظهر عليهم.
﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا ﴾، يعنى المال، وهو الفداء من المشركين، نزلت بعد قتال بدر.
﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ ﴾ لكم ﴿ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ﴾، يعنى منيع فى ملكه.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٦٧] فى أمره، وذلك أن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء ولا المؤمنين قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وأخبر الله الأمم: إنى أحللت الغنائم للمجاهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المؤمنون إذا أصابوا الغنائم جمعوها ثم أحرقوها بالنيران، وقتلوا الناس والأسارى والدواب، وهذا فى الأمم الخالية، فذلك قوله: ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ ﴾ فى تحليل الغنائم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فى علمه فى اللوح المحفوظ، ثم خالفتم المؤمنين من قبلكم.
﴿ لَمَسَّكُمْ ﴾، يعني لأصابكم ﴿ فِيمَآ أَخَذْتُمْ ﴾ من الغنيمة ﴿ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٦٨].
ثم طيبها لهم وأحلها، فقال: ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ ﴾ ببدر.
﴿ حَلاَلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ ذو تجاوز لما أخذتم من الغنيمة قبل حلها.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٦٩] بكم إذ أحلها لكم،" وكان النبي صلى الله عليه وسلم جعل عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت، أولياء القبض يوم بدر، وقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وانطلق بالأسارى فيهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وذلك أن العباس بن عبد المطلب يوم أسر أخذ منه عشرين أوقية من ذهب، فلم تحسب له من الفداء، وكان فداء كل أسير من المشركين أربعين أوقية من ذهب، وكان أول من فدى نفسه أبو وديعة ضمرة بن صبيرة السهمي، وسهيل بن عمرو، من عامر بن لؤي، القرشيان. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " أضعفوا الفداء على العباس، وكلف أن يفتدي ابني أخيه، فأدى عنهما ثمانية أوقية من ذهب، وكان فداء العباس بثمانين أوقية، وأخذ منه عشرين أوقية، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانين أوقية، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتنى ما حييت أسأل قريشاً بكفي، وقال له صلى الله عليه وسلم: أين الذهب الذى تركته عند امرأتك أم الفضل؟ فقال العباس: أي الذهب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك قلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بى ما حدث، فهو لك ولولدك، فقال: يا ابن أخي، من أخبرك؟ قال: الله أخبرنى، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول قط قبل اليوم، قد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر، وأشهد ألا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، وكفرت بما سواه. "
وأمر ابني أخيه فأسلما، ففيهما نزلت: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ ﴾، يعني العباس وابني أخيه: ﴿ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ﴾، يعني إيماناً، كقوله:﴿ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ﴾[هود: ٣١]، يعني إيماناً، وهذا في هود.
﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ من الفداء، فوعدهم الله أن يخلف لهم أفضل ما أخذ منهم.
﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ ذنوبكم.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لما كان منهم من الشرك من ذنوبهم، ذو تجاوز.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٧٠] بهم في الإسلام.﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ ﴾، يعني الكفر بعد إسلامهم واستحيائك إياهم: ﴿ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ ﴾، يقول: فقد كفروا بالله من قبل هذا الذي نزل بهم ببدر.
﴿ فَأَمْكَنَ ﴾ الله ﴿ مِنْهُمْ ﴾ النبى، عليه السلام، يقول: إن خانوا أمكنتك منهم فقتلتهم وأسرتهم كما فعلت بهم ببدر.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بخلفه.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٧١] فى أمره، حكم أن يمكنه منهم. فقال العباس بعد ذلك: لقد أعطاني الله خصلتين، ما من شىء هو أفضل منهما، أما أحدهما: فالذهب الذى أخذ مني، فآتاني الله خيراً منه عشرين عبداً، وأما الثانية: فتنجيز موعود الله الصادق، وهو المغفرة، فليس أحد أفضل من هذا. ومن كان من أسارى بدر وليس له فدى، فإنه يدفع إليه عشرة غلمان يعلمهم الكتاب، فإذا حذقوا برئ الأسير من الفداء، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استشار أصحابه فى أسارى بدر، فقال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: اقتلهم، فإنهم رءوس الكفر وأئمة الضلال، وقال أبو بكر: لا تقتلهم، فقد شفى الله الصدور وقتل المشركين وهزمهم، فآدهم أنفسهم، وليكن ما نأخذ منهم فى قوة المسلمين وعوناً على حرب المشركين، وعسى الله أن يجعلهم أعواناً لأهل الإسلام فيسلموا. فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر الصديق، وكان النبى صلى الله عليه وسلم رحيماً، وأبو بكر أيضاً رحيماً، وكان عمر ماضياً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر، ففاداهم، فأنزل الله عز وجل: توفيقاً لقول عمر:﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" أحمد الله إن ربك واتاك على قولك "، فقال عمر: الحمد لله الذى واتاني على قولي فى أسارى بدر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لو نزل عذاب من السماء؛ ما نجا منا أحد إلا عمر بن الخطاب، إنه نهاني فأبيت "
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوابتوحيد الله.
﴿ وَهَاجَرُواْ ﴾ إلى المدينة.
﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ العدو ﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، فهؤلاء المهاجرون، ثم ذكر الأنصار، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ آوَواْ ﴾، يعنى ضموا النبى صلى الله عليه وسلم إلى أنفسهم بالمدينة.
﴿ وَّنَصَرُوۤاْ ﴾ النبى صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الأنصار، ثم جمع المهاجرين والأنصار، فقال: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ فى الميراث؛ ليرغبهم بذلك فى الهجرة، فقال الزبير بن العوام ونفر معه: كيف يرثنا غير أوليائنا، وأولياؤنا على ديننا فمن أجل أنهم لم يهاجروا لا ميراث بيننا، فقال الله بعد ذلك: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعني صدقوا بتوحيد الله.
﴿ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ﴾ إلى المدينة، ثم قال: ﴿ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ فى الميراث ﴿ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ ﴾ إلى المدينة، ثم قال: ﴿ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾ يا معشر المهاجرين إخوانكم الذين لم يهاجروا إليكم، فأتاهم عدوهم من المشركين، فقاتلوهم ليردوهم عن الإسلام.
﴿ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ ﴾ فانصروهم، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾، يقول: إن استنصر الذين لم يهاجروا إلى المدينة على أهل عهدكم، فلا تنصروهم.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٧٢].
﴿ وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله.
﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ فى الميراث والنصرة.
﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ ﴾، أى إن لم تنصروهم على غير أهل عهدكم من المشركين فى الدين.
﴿ تَكُنْ فِتْنَةٌ ﴾، يعني كفر.
﴿ فِي ٱلأَرْضِ وَ ﴾ يكن ﴿ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [آية: ٧٣] فى الأرض.﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعني صدقوا بتوحيد الله.
﴿ وَهَاجَرُواْ ﴾ من مكة إلى المدينة.
﴿ جَاهَدُواْ ﴾ العدو ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى في طاعة الله، فهؤلاء المهاجرون، وإنما سموا المهاجرين؛ لأنهم هجروا قومهم من المشركين، وفارقوهم إذ لم يكونوا على دينهم، قال ﴿ وَٱلَّذِينَ آوَواْ ﴾، يعني ضموا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنفسهم بالمدينة.
﴿ وَّنَصَرُوۤاْ ﴾ النبى صلى الله عليه وسلم فهؤلاء الأنصار، ثم جمع المهاجرين والأنصار، فقالوا: ﴿ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾، يعني المصدقين ﴿ حَقّاً لَّهُمْ ﴾ بذلك ﴿ مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [آية: ٧٤]، يعني رزقاً حسناً فى الآخرة، وهي الجنة.
ثم قال بعد ذلك: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ ﴾ هؤلاء المهاجرين والأنصار.
﴿ وَهَاجَرُواْ ﴾ من ديارهم إلى المدينة.
﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ العدو ﴿ مَعَكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ ﴾ فى الميراث، ثم نسخ هؤلاء الآيات بعد هذه الآية.
﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾ فى الميراث، فورث المسلمون بعضهم بعضاً، من هاجر ومن لم يهاجر فى الرحم والقرابة.
﴿ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٧٥] فى أمر المواريث حين حرمهم الميراث، وحين أشركهم بعد ذلك. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن أبي يوسف، عن الكلبي، عن أبي صالح، قال: إن الخمس كان يقسم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم: لله ولرسوله سهم، ولذي القربى سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، قال: وقسمه عمر، وأبو بكر، وعثمان، وعلي، على ثلاثة أسهم، أسقطوا سهم ذي القربى، وقسم على ثلاثة أسهم، وإنما يوضع من أولئك فى أهل الحاجة والمسكنة، ليس يعطى الأغنياء شيئاً، فهذا على موضع الصدقة. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن محمد بن عبد الحق، عن أبي جعفر محمد بن علي، عليه السلام، قال: قلت له: ما كان رأي علي، عليه السلام، في الخمس؟ قال: رأي أهل بيته، قال: قلت: فكيف لم يمضه على ذلك حين ولى؟ قال: كره أن يخالف أبا بكر وعمر. حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم صفياً لنفسه، ويأخذ مع ذوي القربى، ويأخذ سهم الله تعالى ورسوله، ثم يأخذ مع المقاتلة، فكان يأخذ من أربعة وجوه صلىالله عليه وسلم.
Icon