تفسير سورة الأنفال

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الأنفال
مدنية. وآياتها : ست وسبعون آية، نزلت كلها في غزوة بدر الكبرى، حين اختلف الصحابة-رضي الله عنهم- في قسمة الغنائم، وهي الأنفال. ووجه المناسبة لما قبلها : تحريض المؤمنين على الطاعة، والانقياد في شأن الغنائم وغيرها حتى يتشبهوا بالملائكة في سرعة الانقياد والخضوع لله تعالى، في قوله :﴿ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ] الآية.

قال الحق جل جلاله :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يسألونك عن ﴾ قسمة ﴿ الأنفالِ ﴾ وهي الغنائم، سميت الغنيمة نفلاً لأنها عطية من الله تعالى، وزيادة فضل، كما يسمى ما يشترطه الإمام للشجاع المقتحم خطراً، نفلاً ؛ لأنه عطية له زيادة على سهمه، وكما سمى يعقوب عليه السلام نافلة ؛ لأنه عطية زائدة على ولد إبراهيم عليه السلام، حيث كان حفيده، ثم أجابهم الحق تعالى فقال :﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾ أي : أَمرها إلى الله ورسوله، يقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يأمره الله تعالى، وفي الوضع الذي يعينه له.
وسبب نزولها : اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم، هل في المهاجرين لفقرهم، أو في الأنصار لنصرهم، أو فيهما معاً. قال ابن جزي : وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش تحرسه وتؤنسه، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس، ورأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، اختلفوا فيما بينهم. فنزلت الآية. ه.
وقيل : شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله، فتسارع شبابهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، ثم طلبوا نفلهم، وكان المال قليلاً، فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم، وفئة تنحازون إلينا، فلا تختصوا بشيء دوننا، فنزلت، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء. ولهذا قيل : لا يلزم الإمام الوفاء بما وعد، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : لمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتل أَخي عُمَيْرٌ، وقتلتُ سَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وأخذتُ سَيْفَهُ وأتيتُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوهبته منه، فقال :" لَيْسَ هَذَا لِي، ولكن ضَعهُ في القَبض ". فَطَرحْتُهُ، وفي قلبي مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا الله من قَتَلِ أَخِي وأَخْذِ سَلَبي، فَمَا جَاوَزْتُها إلا قليلاً حتى نزلت سُورَةُ الأَنْفَال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سَأَلَتنِي السَّيف ولَيْس لِي، وإِنّهُ قد صَارَ لِي فاذْهَبْ فَخُذْهُ " ١.
﴿ فاتقوا الله ﴾ في المشاجرة والاختلاف، ﴿ وأَصلحوا ذات بينكم ﴾ أي : أصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمواددة وسلامة الصدور، ولمساعدة فيما رزقكم الله، وتسليم أمره إلى الله تعالى ورسوله، ﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ فيما يأمركم به ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ؛ فإن الإيمان يقتضي الاستماع والاتباع، أو إن كنتم كاملي الإيمان ؛ فإن كمال الإيمان يقتضي التمسك بهذه الخصال الثلاث : امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأنفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب ؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص : هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ : أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ، وعدد الرمال وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا " ١.
قال الشيخ زروق : وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله :﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾، ثم دل على موجباتها فقال :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم... ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ زادتهم إيماناً ﴾ : اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين، فهؤلاء إيمانهم دائما في الزيادة، وأرواحهم دائما في الترقي في المعرفة، يزيدون بالطاعة والمعصية ؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم :" وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول ". وقال أيضاً :" معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً " والله تعالى أعلم.


١ أخرجه أحمد في المسند ١/١٨٠..
ثم ذكر شروط كمال الإيمان، فقال :﴿ إنما المؤمنون ﴾ الكاملون في الإيمان :﴿ الذين إذا ذُكر الله وَجَلتْ قلوبُهم ﴾ ؛ خافت واقشعرت لذكره ؛ استعظاماً له وهيبة من جلاله، وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيقال له : اتق الله، فينزع عنها خوفاً من عقابه، ﴿ وإِذا تُلِيت عليهم آياته ﴾ القرآنية ﴿ زادتهم إيماناً ﴾ أي : يقيناً وطمأنينة بتظاهر الأدلة التي اشتملت عليها، أو بالعمل بموجبها.
وهو دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، بناء على أن العمل داخل فيه، والتحقيق : أن العمل خارج عنه، لكن نوره يتقوى به وينقص بنقصانه أو بالمعصية وسيأتي في الإشارة الكلام عليه.
ومن أوصاف أهل الإيمان : التوكل على الله والاعتماد عليه، كما قال :﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ وقد تقدم في " آل عمران " الكلام على التوكل١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأنفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب ؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص : هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ : أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ، وعدد الرمال وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا " ١.
قال الشيخ زروق : وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله :﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾، ثم دل على موجباتها فقال :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم... ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ زادتهم إيماناً ﴾ : اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين، فهؤلاء إيمانهم دائما في الزيادة، وأرواحهم دائما في الترقي في المعرفة، يزيدون بالطاعة والمعصية ؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم :" وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول ". وقال أيضاً :" معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً " والله تعالى أعلم.


١ انظر الجزء الأول، تفسير الآية ١٥٩ من سورة آل عمران..
ثم وصفهم بإقامة الدين فقال :﴿ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾ في الواجب والتطوع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأنفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب ؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص : هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ : أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ، وعدد الرمال وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا " ١.
قال الشيخ زروق : وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله :﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾، ثم دل على موجباتها فقال :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم... ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ زادتهم إيماناً ﴾ : اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين، فهؤلاء إيمانهم دائما في الزيادة، وأرواحهم دائما في الترقي في المعرفة، يزيدون بالطاعة والمعصية ؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم :" وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول ". وقال أيضاً :" معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً " والله تعالى أعلم.

﴿ أولئك هم المؤمنون حقاً ﴾ ؛ لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب، من الخشية والإخلاص والتوكل، ومحاسن أعمال الجوارح التي هي العِيار عليها، كالصلاة والصدقة، ﴿ لهم درجات عند ربهم ﴾ أي كرامات وعلو منزلة، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم، ﴿ ومغفرة ﴾ لما فرط من ذنوبهم، ﴿ ورزقٌ كريم ﴾ أعده لهم في الجنة، لا ينقطع مدده، ولا ينتهي أمده، بمحض الفضل والكرم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأنفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب، من حضرة الغيوب ؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، لا تزال تتوالى على القلوب، حتى تغيب عما سوى المحبوب، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً، وهذه غنائم خصوص الخصوص، وغنائم الخصوص : هي القرب من الحبيب، ومراقبة الرقيب، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد، وهذه غنائم العباد والزهاد، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب، والستر على العيوب، والنجاة من النار، ومرافقة الأبرار، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ : أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ، وعدد الرمال وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا " ١.
قال الشيخ زروق : وهذه هي الغنيمة الباردة، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله :﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾، ثم دل على موجباتها فقال :﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم... ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ زادتهم إيماناً ﴾ : اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة، وإيمان يزيد وينقص، وهو إيمان عامة المسلمين، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين، فهؤلاء إيمانهم دائما في الزيادة، وأرواحهم دائما في الترقي في المعرفة، يزيدون بالطاعة والمعصية ؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم، وفي الحكم :" وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول ". وقال أيضاً :" معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً " والله تعالى أعلم.

ثم تكلم على الخروج إلى غزوة بدر، فقال :
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾
قلت :﴿ كما أخرجك ﴾ خبر عن مبتدأ محذوف، أي : هذه الحال، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة، مثل حالهم في كراهية خروجك، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله :﴿ لله والرسول ﴾ أي : الأنفال تثبت لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك، يعني المدينة ؛ لأنها مسكنه أو بيته منها، وجملة :﴿ وإن فريقاً ﴾ حال مِن أخرجك، أي : أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك ﴿ ربُّك من بيتك بالحق ﴾ لقتال العدو، والحال أن ﴿ فريقاً من المؤمنين لكارهون ﴾ خروجك لذلك، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله، فإنهم راضون مستسلمون، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر، والهناء والسرور، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس، وما تحقق سير السائرين إلا بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، قال لابن عباس في حديث طويل :" وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْر كَثِير ". والله تعالى أعلم.
وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال ﴿ يُجادلونك في الحق ﴾ أي : يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق، حيث أرادوا الرجوع للمدينة، وقالوا : إنا لم نخرج لقتال، قالوا ذلك ﴿ بعد ما تَبَيّن ﴾ لهم أنهم منصورون أينما توجهوا، بإعلام الرسول لهم، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة ﴿ كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾ أي : يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت، وهو يشاهد أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة، وما كان فيهم إلا فارسان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقصد الجهاد، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ، ومعها أربعُون رَاكباً، فيهم أَبُو سُفْيان، وعمرو بنُ العاص، ومخرفة بن نوفل، وعمرو بن هِشَام، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام، فأخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فأعْجَبَهُم تلقيها، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ، فلما خرجُوا، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان، فسلك بالعير طريق السَاحِل، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيرهم، نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة، النَّجَاء، النجاء على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً.
وقد رأت، قبل ذلك بثلاث ليال، عاتكةُ بنت المطلب، رؤيا ؛ وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى : يا آل لكع، اخرجوا إلى مصارعكم، ثم تمثل على الكعبة، فنادى مثل ذلك، ثم أخذ حجراً فضرب به، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر، فحدثت بها العباس، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال : أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم ؟ لنتربص ثلاثاً، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم.
فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة، ومضى بهم إلى بدر، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذَفِران، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين : إما العيرُ وإما قُرَيْش، فاستشار فيه أصحابه، فقال بعضهم : ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له، وردد عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا : يا رسول الله، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال : انظرُ في أمْرِكَ، وامْضِ، فواللَّهِ لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلّفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال : امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك، فإنا معك حيثما أحببتَ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل :﴿ فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلاَ إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ "، يريدُ الأنصار ؛ لأنهم كانوا عددهم، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال : لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله ؟ فقال : أجَلْ، فقال : قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أرْدتَ، فوالذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ، وما نَكرَهُ أن تَلقى بِنَا عَدُوِّنَا، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ، فنشطه قوله، ثم قال :" سِيرُوا عَلَى بَركَةِ الله، وأبْشِرُوا ؛ فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ، واللهِ لكأني أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم ".
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر، فَبُني له هناك عريش، فجلس فيه هو وأبو بكر، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم، وقال : شاهت الوجوه، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها، ونزلت الملائكة في العنان، أي : السماء، فقتل منهم سبعون، وأُسر سبعون، وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من غزوة بدر، قيل له : عليك بالعير، فقال العباس وهو في وثاقه : لا يصلح، فقيل له : لم ؟ فقال له : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك، فكره بعضهم قوله، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً، وقد أنجزه الله ما وعده.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر، والهناء والسرور، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس، وما تحقق سير السائرين إلا بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، قال لابن عباس في حديث طويل :" وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْر كَثِير ". والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية قصة بدر، فقال :
﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾
قلت :﴿ وإذ ﴾ : ظرف لاذكر، محذوفة، و﴿ أنها لكم ﴾ : بدل اشتمال من ﴿ إحدى الطائفتين ﴾ ؛ والشوكة : الحدة، مستعارة من واحد الشوك، وسميت الحرب شوكة لحدة سلاحها.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكروا ﴿ إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ﴾ ؛ قريشاً أو عِيرهَم، وعدكم ﴿ أنها لكم وتَودون ﴾ ؛ وتتمنون ﴿ أنَّ غير ذات الشوكة ﴾ أي : ذات الحرب ﴿ تكونُ لكم ﴾ وهي العير، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلاً، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَدَدِهِمِْ وعُددهم، ﴿ ويريد الله أن يُحق الحق ﴾ أي : يظهر الحق، وهو الإسلام، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة، ﴿ بكلماته ﴾ أي : بإظهار كلماته العليا، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال، أو بأوامره للملائكة بالإمداد، أو بنفوذ كلماته الصادقة بهلاكهم، ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم.
ومعنى الآية : أنكم تُريدون أن تُصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق، وما يحصل لكم من فوز الدارين، وإنما فعل ما فعل من سوقكم إلى القتال ؛ ﴿ ليُحق الحق ويُبطل الباطل ﴾.
سورة الأنفال
مدنية. وآياتها : ست وسبعون آية، نزلت كلها في غزوة بدر الكبرى، حين اختلف الصحابة-رضي الله عنهم- في قسمة الغنائم، وهي الأنفال. ووجه المناسبة لما قبلها : تحريض المؤمنين على الطاعة، والانقياد في شأن الغنائم وغيرها حتى يتشبهوا بالملائكة في سرعة الانقياد والخضوع لله تعالى، في قوله :﴿ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ﴾ [ الأعراف : ٢٠٦ ] الآية.
﴿ ليُحق الحق ويُبطل الباطل ﴾ أي : ليُظهر الدين ويبطل الكفر.
قال البيضاوي : وليس بتكرار ؛ لأن الأول لبيان المراد، وما بينه وبين مرادهم من التفاوت، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على اختيار ذات الشوكة وقصره عليها. ه. وقال ابن جزي : ليس تكرار للأول ؛ لأن الأول مفعول يريد، وهذا تعليل لفعل الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة، وبالحق الثاني الإسلام، فيكون المعنى : أنه نصرهم ليظهر الإسلام، ويؤيد هذا قوله :﴿ ويُبطل الباطل ﴾ أي : يُبطل الكفر، ﴿ ولو كره المجرمون ﴾ ذلك، فإن الله لا بد أن يظهر دينه على الدين كله، ولو كره الكافرون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وعد الله المتوجهين إليه بالوصول إلى سر الخصوصية، وهي الولاية، لكن بعد المجاهدة والمحاربة للنفوس ؛ لأن الحضرة لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتدريب، وترى كثيراً من الناس يتمنون أن تكون لهم من غير حرب ولا قتال، ويريد الله أن يحق الحق بكشف الحجب عن القلوب، حتى لا يشاهدوا إلا الحق، ويُبطل الباطل، وهو السَّوي، ولا يكون في العادة إلا بعد موت النفوس وتهذيبها وتطهيرها بالرياضة على شيخ عارف. قال الششتري مترجماً عن لسان الحقيقة :
أن تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه

ثم ذكر إمدادهم بالملائكة، فقال :
﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :﴿ إذ ﴾ : بدل من ﴿ إذ يعدكم ﴾ أو متعلق بقوله :﴿ ليحق الحق ﴾ أو باذكر.
يقول الحق جلاله : واذكروا حين كنتم ﴿ تستغيثون ربكم ﴾ وتدعون بالغوث والنصر، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا علموا ألاّ محيص لهم عن القتال أخذوا يقولون : ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا.
وعن عمر رضي الله عنه : أنه نَظَرَ إلى المُشْرِكِينَ وهُمْ أَلفٌ، وإلى أَصْحَابِهِ وهُمْ ثَلاثُمائةٍ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةِ ومدَّ يديهِ يدعوه :" اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعدْتَنِي، اللهُم إن تَهْلِكْ هذه العصابة لم تُعْبَد في الأرْضِ "، فما زَالَ كَذَلِك َحتى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فقال أَبُو بكر، كَفَاكَ مُنَاشَدَتك رَبَّكَ، فإِنَّهُ سيُنْجِزُ لَكَ ما وَعَدَكَ " ١. وقد تقدم أن الأنبياء وكبراء الأولياء لا يقفون مع ظاهر الوعد والوعيد لسعة دائرة علمهم، بل لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، ولعل ذلك الوعد يكون متوقفاً على شروط أخفاها الحق تعالى ؛ لتظهر قهريته وانفراده بالعلم المحيط.
ولما استغاثوا بالله وأظهروا الحاجة إليه أجابهم فقال :﴿ فاستجاب لكم أني مُمدكم ﴾ ؛ مقويكم ومكثركم ﴿ بأَلْفٍ من الملائكة مُردفين ﴾ يتبع بعضهم بعضاً، ويتبع المؤمنين، فكانوا خلفهم ردْءاً لهم، فمن قرأ بفتح الدال فهو اسم مفعول، ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل، وصح معنى القراءتين، لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضاً، فمنهم تابعون ومتبوعون، ومن قرأ بالفتح فالمراد مردفين بالمؤمنين، فكانوا مقدمة الجيش، ومن قرأ بالكسر فالمراد مردفين للمؤمنين تابعين لهم، فكانوا ساقة للجيش.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إظهار الفاقة والابتهال لا يقدح في صحة التوكل على الكبير المتعال، بل هو شرف للإنسان، وتقريب من الكريم المنان، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى الله في كل شيء، والتعلق به في كل حال، ولو وعده بالنصر أو الإجابة، لا يقطع عنه السؤال، عبوديةً وتملقاً بين يدي الحبيب.
وقد اختلف الصوفية : أي الحالين أشرف : هل الدعاء والتضرع ؟ أو السكوت والرضى تحت مجاري الأقدار ؟ وقال بعضهم : يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه، صاحب رضى بقلبه، ليجمع بين الأمرين. قال القشيري : والأَوْلى أن يُقال : إن الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضلُ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل، وإنما يُعرف ذلك في الوقت ؛ لأن علم الوقت يحصل في الوقت، فإذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء ؛ فالدعاء منه أولى، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. هـ. وقد تقدم في آل عمران إشارة الإمداد١. وبالله التوفيق.


١ أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٥٨، وأحمد في المسند ١/٣٠، ٣٢..
ثم ذكر حكمة الإمداد بقوله :﴿ وما جعله الله ﴾ أي : الإمداد ﴿ إلا بُشرى ﴾ أي : بشارة بالنصر، ﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾ فيزول ما بها من الوجل لقلتكم، ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ ؛ لا يتوقف على سبب، ﴿ إن الله عزيز ﴾ لا يغلب ﴿ حكيم ﴾ في تدبير الأسباب وترتيبها رداء للقدرة الأزلية، فإمداد الملائكة، وكثرة العدد، والتأهب، وسائط، لا تأثير لها، فلا تحسبوا النصر منها، ولا تيأسوا منه بفقدها، فحكم الأزل جلّ أن يضاف إلى العلل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إظهار الفاقة والابتهال لا يقدح في صحة التوكل على الكبير المتعال، بل هو شرف للإنسان، وتقريب من الكريم المنان، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى الله في كل شيء، والتعلق به في كل حال، ولو وعده بالنصر أو الإجابة، لا يقطع عنه السؤال، عبوديةً وتملقاً بين يدي الحبيب.
وقد اختلف الصوفية : أي الحالين أشرف : هل الدعاء والتضرع ؟ أو السكوت والرضى تحت مجاري الأقدار ؟ وقال بعضهم : يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه، صاحب رضى بقلبه، ليجمع بين الأمرين. قال القشيري : والأَوْلى أن يُقال : إن الأوقات مختلفة، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضلُ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل، وإنما يُعرف ذلك في الوقت ؛ لأن علم الوقت يحصل في الوقت، فإذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء ؛ فالدعاء منه أولى، وإذا وجد إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم. هـ. وقد تقدم في آل عمران إشارة الإمداد١. وبالله التوفيق.

ثم ذكر تأمينهم، فقال :
﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾ * ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾
قلت :( إذا ) بدل ثان من ( إذ يعدكم )، أو متعلق بالنصر، لِمَا في ( عند الله ) من معنى الفعل، أو بإضمار اذكروا، ومن قرأ بضم الياء، فهو من أغشى، أي : غطى، ومن قرأ بالتشديد، فهو من غشي المضعف، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين، الكاف الأول والنعاس الثاني، ومن قرأ بالفتح والتخفيف، فهو من غشى يغشي ؛ المتعدي إلى واحد و( أمنة ) : مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا ﴿ إذ يُغشيكم ﴾، أي : حين كان يغشيكم ﴿ النُعاسَ ﴾ وأنتم في القتال، حين ينزل عليكم الأمْن من العدو بعد شدة الخوف، وذلك لأجل الأمن الذي نزل من الله عليكم بعد شدة خوفكم. قال ابن مسعود رضي الله عنه : النعاس عند حضور القتال علامة أَمْنٍ مِنَ العدو.
ثم ذكّرهم بمنة أُخرى، فقال :﴿ ويُنزل عليكم من السماء ماء ليُطهركم به ﴾ من الحدث والجنابة، ﴿ ويُذهب عنكم رجز الشيطان ﴾ أي : وسوسته وتخويفه إياهم من العطش، رُوي أنهم نزلوا في كثيب رمل دهس، تسوخ فيه الأقدام على ماء قليل، وناموا فاحتلم أكثرهم، فوسوس إليهم الشيطان، وقال : كيف تُنصرون وأنتم تصلون محدثين مجنبين، وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمُطروا ليلاً حتى جرى الوادي، فاتخذوا الحياض على عدوته، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الدهوسة، وهذا معنى قوله :﴿ وليَرِبطَ على قلوبكم ويُثبتَ به الأقدام ﴾ أي ؛ وليربط على قلوبكم بالوثوق على لطف وزوال ما وسوس إليهم الشيطان، وذهاب الكسل عنها. ﴿ ويُثبت به الأقدام ﴾ حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في مداحض الحرب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كان شيخ شيخنا يُشير على الفقراء، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس، بالنوم، ويقول ؛ من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس، فإنه يجد قلبه ؛ لأن النعاس أمنة من الله يذهب به رجز الشيطان وثقله، ويربط على القلوب في الحضرة ؛ لأنه زوال، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل.
وقوله تعالى :﴿ ويُنزل عليكم من السماء ماء ﴾ : هو ماء الغيب الذي يطهر القلوب من شهود السَّوى، ويذهب به رجز الشيطان، وهي ظلمة الأكوان، التي تنعقد في القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان، ويثبت به الأقدام، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة، التي هي تجلي الذات، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال. والله تعالى أعلم.

واذكروا أيضاً :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ﴾ أي : أُثبت أقدامكم حين أُوحي إلى الملائكة أني معكم في نصر المؤمنين وتثبيتهم ﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ بتكثير عددهم، أو بالبشارة لهم، أو بمحاربة أعدائهم، على قول من قال : إنهم باشروا القتال. ﴿ سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ والجزع حتى لا يثبتوا لقتالكم، يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة، أو استئناف ؛ إخباراً للمؤمنين عما يفعله بعدوهم عاجلاً وآجلاً. ثم قال للملائكة أو للمؤمنين :﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾ أي : أعاليها التي هي المذابح والرؤوس، ﴿ واضربوا منهم كل بَنَان ﴾ أي : أصابعهم، أي : جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كان شيخ شيخنا يُشير على الفقراء، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس، بالنوم، ويقول ؛ من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس، فإنه يجد قلبه ؛ لأن النعاس أمنة من الله يذهب به رجز الشيطان وثقله، ويربط على القلوب في الحضرة ؛ لأنه زوال، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل.
وقوله تعالى :﴿ ويُنزل عليكم من السماء ماء ﴾ : هو ماء الغيب الذي يطهر القلوب من شهود السَّوى، ويذهب به رجز الشيطان، وهي ظلمة الأكوان، التي تنعقد في القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان، ويثبت به الأقدام، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة، التي هي تجلي الذات، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر علة أمرهم بقتل الكفار، فقال :
﴿ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ * ﴿ ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾
قلت :( ذلكم ) : مبتدأ حُذف خبره، أي : ذلكم العقاب أو العذاب، أو خبر، أي : الأمر ذلكم، أو منصوب بمضمر يفسره فذوقوه، و( الكافرون ) : عطف على ( ذلكم )، أو نصب على المفعول معه، وقرئ بالكسر ؛ استئنافاً.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ذلك ﴾ الضرب لأعناق الكفار، أو الأمر به ﴿ بأنهم ﴾ ؛ بسبب أنهم ﴿ شاقوا ﴾ أي : خالفوا ﴿ الله ورسوله ﴾، وصاروا كأنهم في شق وهو في شق ؛ مبالغة في المخالفة والمباعدة، ﴿ ومن يشاقق الله ورسوله ﴾ ويبعد عنهما ﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ لكم من خالفه أو خالف رسوله، وهو تقرير للتعليل، أو وعيد بما أعد الله لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مخالفة الله ورسوله توجب الطرد والبعاد، وموافقة الله ورسوله توجب القربة والوداد، وهذا الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء : امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإكثار من ذكره، الاستسلام لقهره، والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبُعده، وهي مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، والغفلة عن ذكره، والتسخط عند نزول قهره، وعدم الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم ؛ بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة، حتى يُفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة، ﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾ بالله التوفيق.
﴿ ذلكم ﴾ العذاب ﴿ فذوقوه ﴾ وباشروا مرارته، ﴿ وأنَّ للكافرين عذابَ النار ﴾، والمعنى : ذُوقوا ما عجل لكم من النقمة في الدنيا مع ما يحل عليكم في الآخرة من عذاب النار، ووضع الظاهر موضع المضمر ؛ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب العاجل والآجل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مخالفة الله ورسوله توجب الطرد والبعاد، وموافقة الله ورسوله توجب القربة والوداد، وهذا الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء : امتثال أمره، واجتناب نهيه، والإكثار من ذكره، الاستسلام لقهره، والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبُعده، وهي مخالفة أمره، وارتكاب نهيه، والغفلة عن ذكره، والتسخط عند نزول قهره، وعدم الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم ؛ بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة، حتى يُفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة، ﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾ بالله التوفيق.
ثم نهى عن الفرار في الحرب، فقال :
﴿ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾ * ﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
قلت :( زحْفاً ) : مصدر، وزحف الصبي إذا دب على مقعده قليلاً قليلاً، سمى به الجيش المقابل للقتال ؛ لأنه يندفع للقتال شيئاً فشيئاً، ونصبه على الحال من فاعل " لقيتم " أو " من الذين كفروا ".
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا ﴾ زاحفين لهم، تدبون إليهم ويدبون إليكم، تريدون قتالهم متوجهين إليهم، ﴿ فلا تُولوهم الأدبارَ ﴾ بالانهزام عنهم، فإنه حرام، وهو من الكبائر، ويفيد بألا يكون الكفار أكثر من ثلثي المسلمين، فإن زادوا على ثلثي المسلمين حلَّ الفرار، وأن يكون المسلمون مسلحين، وإلا جاز الفرار ممن هو بالسلاح دونه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة : إذا لقيتم أعداءكم من القواطع ؛ كالحظوظ، والشهوات، وسائر العلائق، فاثبتوا حتى تظفروا، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم، إلا متحيزاً لقتال ؛ بإيثار بعض الرخص، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها، أو متحيزاً إلى جماعة من أكابر العارفين، فإنهم يُغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة، إذا ملكهم زمام نفسه، وفعل كل ما يُشيرون به عليه، فإن ذلك يُفضي به إلى الراحة بعد التعب، والمشاهدة بعد المجاهدة، إذا لا تجتمع المجاهدة في الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق.
قال القشيري ـ بعد كلامه على الآية : فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء يُنفقون على مريديهم من هِمَمِهم ؛ يجبرون كَسْرَهم وينوبون عنهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم، ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه، أو خالف شيخاً وهو يعرف فضله، وحَقَّه، فقد بَاءَ من الله بسخط، واللّهُ تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. هـ.

قلت : و( متحرفاً ) و( متحيزاً ) : حالان، و( إلا ) مُلغاة، ووزن متحيز : متفيْعل، لا متفعل، وإلا كان متحوزاً ؛ لأنه من حاز يحوز.
﴿ ومن يُولَّهم يومئذ دُبُره إلا متحرفاً لقتالِ ﴾، وهو أن يكرّ راجعاً أمام العدو ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو من مكائد الحرب، ﴿ أو متحيزاً إلى فئة ﴾ أي : منحازاً إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب، أو قريبة، فالتحيز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيز إلى المدينة، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضراً.
ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أنا فئة لكل مسلم. ورُوي عن ابن عمر : أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففَرُّوا إلى المدينة، فقلت : يا رَسُولَ اللَّهِ، نحن الفَرَّارُونَ، فقال :" أًنْتُم الكرَّارُونَ، وأنا فِئَتُكُمْ " ١.
فمن فرَّ من الجهاد بالشرط المتقدم ﴿ فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنمُ وبئس المصيرُ ﴾، ومن هذا يفهم أنه من الكبائر. قال البيضاوي : وهذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله :﴿ الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُم. . . ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الآية، وقيل : الآية خصوصة بأهل بيته والحاضرون معه في الحرب. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة : إذا لقيتم أعداءكم من القواطع ؛ كالحظوظ، والشهوات، وسائر العلائق، فاثبتوا حتى تظفروا، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم، إلا متحيزاً لقتال ؛ بإيثار بعض الرخص، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها، أو متحيزاً إلى جماعة من أكابر العارفين، فإنهم يُغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة، إذا ملكهم زمام نفسه، وفعل كل ما يُشيرون به عليه، فإن ذلك يُفضي به إلى الراحة بعد التعب، والمشاهدة بعد المجاهدة، إذا لا تجتمع المجاهدة في الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق.
قال القشيري ـ بعد كلامه على الآية : فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء يُنفقون على مريديهم من هِمَمِهم ؛ يجبرون كَسْرَهم وينوبون عنهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم، ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه، أو خالف شيخاً وهو يعرف فضله، وحَقَّه، فقد بَاءَ من الله بسخط، واللّهُ تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. هـ.


١ أخرجه أحمد في المسند ٢/٧٠..
ثم عزلهم عن الحول والقوة، فقال :
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : فَلَمْ تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم، وقلّة عُدتكم وعدَدكم، وكثرة عدوكم وعُدتهم، ﴿ ولكن اللَّه قتلهمْ ﴾ بواسطة مباشرتكم، حيث أيدكم وسلطكم عليهم، وإمداد الملائكة لكم، وإلقاء الرعب في قلوب عدوكم.
قال البيضاوي : رُوي أنه لما أَطلَّتْ قريش من العقنقل اسم جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بخُيَلائِهَا وفَخْرِهَا، يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي "، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ، وَقَال له : خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فارْمِهِمْ بِهَا، فلمَّا التَقَى الجَمعَان تناول كفّاً من الحَصْبَاءِ فَرَمَى بها في وُجُوهِهِم، وقال :" شَاهَتْ الوُجُوهُ " فَلَمْ يَبق مُشْرِكٌ إلا شُغِلَ بَعَيْنَيْهِ، فانْهَزَمُوا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل : قتلتُ وأسرتُ، فنزلت الآية، وإلغاء جواب شرط محذوف، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلَمْ تقتلوهم، ولكن الله قتلهم، ﴿ وما رميتَ ﴾ يا محمد رمياً توصلها إلى أعينهم. ولم تقدر عليه ﴿ إذْ رميتَ ﴾ أي : حين ألقيت صورة الرمي، ﴿ ولكنَّ الله رَمَى ﴾، أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعاً، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. ه. فالرمي، حقيقة، إنما وقع من الله تعالى، وإن ظهر حساً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما فعل ذلك ليقطع طرفاً من الكفار، ويحد شوكتهم، ﴿ وليُبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً ﴾ أي : ليختبر المؤمنين منه اختباراً حسناً، ليظهر شكرهم على هذه النعمة، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة ؛ بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات، ﴿ إن الله سميع ﴾ لاستغاثتهم ودعائهم، ﴿ عليم ﴾ بنياتهم وأحوالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم : فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم ؛ إذ لا طاقة لكم عليها، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد، حتى حييت بمعرفته، ويقول الشيخ : وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية، لا تأثير لك في شيء من ذلك.
حُكي أن الحلاج، لما كان محبوساً للقتل، سأله الشبلي عن المحبة، فقال : الغيبة عما سوى المحبوب، ثم قال : يا شبلي، ألست تقرأ كتاب الله ؟ فقال الشبلي : بلى، فقال : قد قال الله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾، يا شبلي ؛ إذ رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. هـ. والمقصود بذلك : تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.

﴿ ذلكم ﴾ أي : البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي، واقع لا محالة، أو الأمر ذلكم، ﴿ وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ أي : مضعف كيد الكافرين، ومبطل حيلهم، أي : المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم : فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم ؛ إذ لا طاقة لكم عليها، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد، حتى حييت بمعرفته، ويقول الشيخ : وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية، لا تأثير لك في شيء من ذلك.
حُكي أن الحلاج، لما كان محبوساً للقتل، سأله الشبلي عن المحبة، فقال : الغيبة عما سوى المحبوب، ثم قال : يا شبلي، ألست تقرأ كتاب الله ؟ فقال الشبلي : بلى، فقال : قد قال الله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾، يا شبلي ؛ إذ رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب. هـ. والمقصود بذلك : تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين. والله تعالى أعلم.

ولما أرادت قريش الخروج إلى غزوة بدر، تعلقوا بأستار الكعبة، وطلبوا الفتح، وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله :
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : لكفار مكة على جهة التهكم :﴿ إن تستفتحوا ﴾ أي : تطلبوا الفتح، أي : الحكم على أهْدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين ﴿ فقد جاءكم ﴾ الحكم كما طلبتم، فقد نصر الله أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه، ﴿ وإن تنتهوا ﴾ عن الكفر ومعاداة الرسول، ﴿ فهو خيرٌ لكم ﴾ ؛ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين، ﴿ وإن تعودوا ﴾ لمحاربته ﴿ نعد ﴾ لنصره، ﴿ ولن تغني ﴾ ؛ تدفع ﴿ عنكم فئتكم ﴾ ؛ جماعتكم ﴿ شيئاً ﴾ من المضار ﴿ ولو كثُرت ﴾ فئتكم، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثرة، ﴿ وإن الله مع المؤمنين ﴾ بالنصر والمعونة.
ومن قرأ بالفتح ؛ فعلى حذف الجار، أي : ولأن الله مع المؤمنين، وقيل : الخطاب للمؤمنين، والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال، والرغبة عما يختاره الرسول، فهو خير لكم، وإن تعودوا إليه نعد عليكم الإنكار، أو تهييج العدو، ولن تغني، حينئذٍ عنكم كثرتكم ؛ إذ لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم. قال البيضاوي.
الإشارة : إن تستفتحوا أيها المتوجهون، أي ؛ تطلبوا الفتح من الله في معرفته، فقد جاءكم الفتح، حيث صح توجهكم وتركتم حظوظكم وعلائقكم، لأن البدايات مَجْلاَةُ النهايات، من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو علامة القبول آجلاً، وإن تنتهوا عن حظوظكم وعوائقكم فهو خير لكم، وبه يقرب فتْحُكُم، وإن تعودوا إليها نعد إليكم بالتأديب والإبعاد، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئاً في دفع التأديب، أو البعد ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين الكاملين في الإيمان ؛ بالنصر والرعاية.
ثم أمر بالسمع والطاعة، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ﴾ فيما أمركم به ونهاكم عنه، ﴿ ورسولَه ﴾ فيما ندبكم إليه من الجهاد وغيره، ﴿ ولا تَولوا ﴾ أي : تُعرضوا عن الرسول ﴿ وأنتم تسمعون ﴾ القرآن يأمركم بالتمسك به، والاقتداء بهديه. والمراد بالآية : النهي عن الإعراض عن الرسول. وذكرُ طاعة الله إما هو للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول، لقوله :﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللَّه ﴾ [ النساء : ٨٠ ].
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لما غلب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه في الظاهر والباطن ؛ وهم العلماء الأتقياء، والعارفون الأصفياء. فمن تمسك بهم، واستمع لقولهم، فقد تمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بما جاءت به العلماء، فاز بالشريعة المحمدية، وكان من الناجين الفائزين. ومن تمسك بالأولياء العارفين، واستمع لهم، وتبع إرشادهم، فاز بالحقيقة الربانية، وكان من المقربين. ومن سمع منهم الوعظ والتذكير، ثم صرفه عن نفسه إلى غيره، يصدق عليه قوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ﴾.
ثم أكد النهي بقوله :﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا ﴾ بآذاننا، كالكفرة والمنافقين، ادَّعَوْا السماع، ﴿ وهم لا يسمعون ﴾ سماعاً ينتفعون به، فكأنهم لا يسمعون رأساً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لما غلب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه في الظاهر والباطن ؛ وهم العلماء الأتقياء، والعارفون الأصفياء. فمن تمسك بهم، واستمع لقولهم، فقد تمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بما جاءت به العلماء، فاز بالشريعة المحمدية، وكان من الناجين الفائزين. ومن تمسك بالأولياء العارفين، واستمع لهم، وتبع إرشادهم، فاز بالحقيقة الربانية، وكان من المقربين. ومن سمع منهم الوعظ والتذكير، ثم صرفه عن نفسه إلى غيره، يصدق عليه قوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ﴾.
وكان من شر الدواب التي أشار إليهم تعالى بقوله :
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ * ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن شر الدوابّ عند الله ﴾ ؛ وهو كل من يدب على وجه الأرض، ﴿ الصمُّ ﴾ عن سماع الحق، ﴿ البُكمُ ﴾ عن النطق به، ﴿ الذين لا يعقلون ﴾ الحق ولا يعرفونه، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها ؛ لإبطالهم ما مُيزوا به وفُضلوا لأجله، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار. قال ابن قتيبة : نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين، يعني يوم بدر، وحكمها عام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه، واستعمال العقل فيما يقربه إليه، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل، ولله در ابن البنا، حيث يقول في مباحثه :
وَاعْلَمْ أَنَّ عُصْبَةَ الجُهَّالِ بَهَائِمٌ في صُوَرِ الرِّجَال
واعلم أيضاً أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق، فأشغلها بعلم الشرائع، ولو علم فيها خيراً لأسمعها تلك الأسرار، ولو أسمعها، مع علمه بعدم قبولها، لتولت عنها وأعرضت ؛ لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.

﴿ ولو علِمَ الله فيهم خيراً ﴾ ؛ سعادة كتبت لهم، أو انتفاعاً بالآيات، ﴿ لأسمعهُم ﴾ سماع تَفَهُّم، ﴿ ولو أسمعهم ﴾، مع كونه قد علم الأخير فيهم، ﴿ لتولَّوا ﴾ عنه، ولم ينتفعوا به، وارتدوا بعد التصديق والقبول، ﴿ وهم مُّعرضون ﴾ عنه لعنادهم، وقيل : إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحيي لهم قُصي بن كلاب، ويشهد له بالرسالة، حتى يسمعوا منه ذلك، فأنزل الله :﴿ ولو عَلِمَ اللَّهُ فيهم خيراً لأسمعهم ﴾ كلامه بعد إحيائه، ﴿ ولو أسمعهم لتولوا وهم مُّعرضُون ﴾، لسبق الشقاوة في حقهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه، واستعمال العقل فيما يقربه إليه، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل، ولله در ابن البنا، حيث يقول في مباحثه :
وَاعْلَمْ أَنَّ عُصْبَةَ الجُهَّالِ بَهَائِمٌ في صُوَرِ الرِّجَال
واعلم أيضاً أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق، فأشغلها بعلم الشرائع، ولو علم فيها خيراً لأسمعها تلك الأسرار، ولو أسمعها، مع علمه بعدم قبولها، لتولت عنها وأعرضت ؛ لضيق صدرها وعدم التفرغ لها.

ثم دل على ما فيه حياة القلوب، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ﴾ أي : أجيبوه فيما دعاكم إليه، ﴿ وللرسول ﴾ فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان، ﴿ إذا دعاكم لما يُحييكم ﴾ من العلوم الدينية ؛ فإنها حياة القلب، كما أن الجهل موته، أو ﴿ إذا دعاكم لما يُحييكم ﴾ الحياة الأبدية، في النعيم الدائم، من العقائد والأعمال، أو من الجهاد، فإنه سبب بقائكم ؛ إذ تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم، أو الشهادة، لقوله تعالى :﴿ أَحيَاءُ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ ﴾
[ آل عمران : ١٦٩ ]، ووحد الضمير في قوله :﴿ إذا دعاكم ﴾ باعتبار ما ذكر، أو لأن دعوة الله تُسمع من الرسول.
وفي البخاري : أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بْنَ كَعْبٍ، وهو في الصَّلاة، فلم يجب، فلما فرغ أجاب، فقال له صلى الله عليه وسلم :" ما مَنَعَكَ أن تجيبني " ؟ فقال : كُنْتُ أُصلي، فقال :" أَلمْ تَسْمَعَ قوله :﴿ استَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول ﴾ " ١ فاختلف فيه العلماء، فقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة، فيُجيب، ويبقى على صلاته، وقيل : إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، كإنقاذ أعمى وشبهه.
ثم قال تعالى :﴿ واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المرء وقلبه ﴾ ؛ فينقله من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن اليقين إلى الشك ومن الشك إلى اليقين، ومن الصفاء إلى الكدر، ومن الكدر إلى الصفاء. وقيل البيضاوي : هو تمثيل لغاية قربه من العبد ؛ كقوله تعالى :﴿ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ ﴾ [ ق : ١٦ ]، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه ؛ فيفسخ عزائمه، ويغير مقاصده، ويحول بينه وبين الكفر، إن أراد سعادته، وبينه وبين الإيمان، إن قضى شقاوته. ه. ﴿ و ﴾ اعلموا أيضاً ﴿ أنه إليه تُحشرون ﴾ ؛ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم.
الإشارة : قد جعل الله، من فضله ورحمته، في كل زمان وعصر، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم، فهم خلفاء عن الله ورسوله، فمن استجاب لهم وصحبهم حيي قلبه، وتطهر سره ولبه، ومن تنكب عنهم ماتت روحه في أودية الخواطر والأوهام.
وقوله تعالى :﴿ واعلموا أن الله يَحُولُ بين المرء وقلبه ﴾ ؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وقلبه وهو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته، بالوقوف مع الحس، وشهود الفرق بلا جمع، ويعبر عنه أهل الفن بفَقْد القلب، فإذا قال أحدهم : فقدتُ قلبي، فمعناه : أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معاني أسرار الذات وأنوار الصفات، فيغيب عن نفسه وحسه، وعن سائر الأكوان الحسية، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب، وقد يكون بلا سبب ؛ اختباراً من الحق تعالى، هل يفزع إليه في فقدان أو يبقى مع حاله.
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال، في أول شرح عجائب القلب من الإحياء : إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب، وهو العالم بالله، والعامل لله، وهو الساعي إلى الله، والمتقرب إليه، المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع، والقلب هو المقبول عند الله، إذا سَلِمَ من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً في غير الله وهو المطالب والمخاطب، وهو المعاتب والمعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال : وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا جهله فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه، جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمان، إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم :﴿ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم ﴾ [ الحشر : ١٩ ] الآية. ه.
وقد أنشد من وجد قلبه، وعرف ربه، وغنى بما وجد، فقال :
أَنَا القُرآنُ والسَّبْعُ المَثَانِي وروحُ الرُّوح لا روح الأَوَاني
فؤادي عند معلوم مقيم تناجيه وعندكم لساني
فَلاَ تنْظُرْ بِطَرْفِكَ نَحْوَ جِسْمِي وعُدْ عن التنعم بالأواني
فأَسْرارِي تراءت مبهمات مُسَتَّرَةً بأَنْوار المَعَاني
فَمَنْ فَهِمَ الإشارة فليَصُنْها وإلاّ سوف يقتل بالسنانِ
كَحَلاَّج المحبة إذْ تبدَّتْ له شمسُ الحقيقة بالتداني
١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٨، باب ٢، والترمذي في ثواب القرآن باب ١، والحاكم في المستدرك١/٥٥٨..
ومن أسباب تشتت القلب وفقده دخول الفتنة عليه، الذي أشار إليه بقوله :
﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
قلت : دخلت النون في ( لا تصيبن ) ؛ لأنه في معنى النهي، على حد قوله :﴿ لاَ يَحطِمَنَّكُم سُلَيَمَان ﴾ [ النمل : ١٨ ] انظر البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله :﴿ واتقوا فتنة ﴾، إن نزلت ﴿ لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾، بل تعم الظالم وغيره، ثم يبعث الناس على نيتهم، وذلك كإقرار المنكَر بين أظهركم، والمداهنة في الأمر بالمعروف، واقتراف الكبائر، وظهور البدع، والتكاسل في الجهاد، وعن الفرائض، وغير ذلك من أنواع الذنوب، وفي الحديث :" لَتأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهُونَّ عن المُنْكَرِ، أو لَيَعُمَّنَّكُمْ اللَّهُ بِعَذَابِهِ " ١. أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة رضي الله عنها : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :" نعم، إذا كثُر الخبث " ٢.
قال القشيري. في معنى الآية : احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمُّ شؤمُها مَنْ تعاطاها ومن لم يتعاطاها. وغير المجرم لا يُؤخْذَ بجُرْم من أذنب، ولكن قد ينفرد واحدٌ بجُرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرّم، فبعد ألا يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم ؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحال، بل تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل ؛ بسبب تعصبه لهذا الظالم، ورضاه به. ه. وسيأتي تمامه في الإشارة.
وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل. ه. قال تعالى ؛ ﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ لمن ارتكب معاصيه وتسبب في فتنة غيره.
الإشارة : في القشيري، لما تكلم على تفسير الظاهر، قال : وأما من جهة الإشارة فإن العبدّ إذا باشر زلّةٍ بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة، وهي العقوبة المعجلة، ونصيب النفس من الفتنة العقوبة، والقلبُ إذا حصلت منه فتنة، وهو همه بما لا يجوز، تَعدَّتْ فتنته إلى السر وهي الحُجْبَةُ. وكذلك المُقَدًّمُ في شأنه، إذا فعل ما لا يجوز، انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى مُتَّبعِيهِ وتلامذتِهِ، فكان انقطاع تلك البركات عنهم نصيبهم من الفتنة، وهم لم يعملوا ذنباً، ويقال : إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر أصابتهم فتنة بتَرْكِهِم الإنكار عليهم فيما فعلوا من الإجرام.
ثم قال : ويقال : إنًّ الزاهد إذا انحط إلى رخصة الشرع في اخذ الزيادة من الدنيا بما فوق الكفاية وإن كانت من وجه حلال تعدت فتنتهُ إلى من يتخرج على يديه من المبتدئين، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة في الدنيا، وتَرْكِ التقلل، فيؤديه إلى الانهماك في أودية الغفلة في الأشغال الدنيوية. والعابد إذا جَنَحَ إلى سوء ترك الأوراد تعدَّى ذلك إلى ما كان ينشط في المجاهدة به، ويتوطَّن الكسل، ثم يحمله الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصير كما قيل٣ :
إن الشبابَ والفراغ والجدَةْ مفسدةٌ للمرء أي مفسده
فهذا يكون نصيبهم من الفتنة، والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظَّ له، نَظَرَ إليه المريدُ فتتداخله فتنة فَتْرَةٌ فيما هو به من الصدق المنازلة، فيكون ذلك نصيبه من فتنة العارف. وبالجملة : إذا غفل المَلِكُ، وتَشَاغَلَ عن سياسة رعيته، تَعَطَّلَ الجندُ والرعية، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة، وفي معناه أنشدوا :
رُعَاتُك ضيَّعوا بالجهل منهم غُنَيْمَاتٍ فَساسَتْها ذِئابُ
انتهى كلامه رضي الله عنه.
١ أخرجه الترمذي في الفتن (باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأحمد في المسند ٥/٣٨٨..
٢ أخرجه البخاري في الفتن باب ٤، ٢٨، ومسلم في الفتن حديث ١، ٢، وأحمد في المسند ١/٤٢٨، ٤٢٩..
٣ البيت لأبي العتاهية في نهاية الأرب ٣/٨٠، ومعاهد التنصيص ٢/٨٣، وليس في ديوانه..
ثم ذكرهم، فقال :
﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل ﴾ أي ؛ اذكروا هذه النعمة، حيث كنتم بمكة وأنتم قليل عَددكم مع كثرة عدوكم، ﴿ مستضعفون في الأرض ﴾ أي : أرض مكة، يستضعفكم قريش ويعذبونكم ويضيقون عليكم، ﴿ تخافون أن يتخطفكم الناسُ ﴾ أي : قريش، أو من عداهم، ﴿ فآواكم ﴾ إلى المدينة، وجعلها لكم مأوىً تتحصنون بها من أعدائكم، ﴿ وأَيَّدكم ﴾ أي : قواكم ﴿ بنصره ﴾ على الكفار، أو بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر، ﴿ ورزَقكم من الطيبات ﴾ ؛ من الغنائم، ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ هذه النعم.
والخطاب للمهاجرين، وقيل : للعرب كافة ؛ فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم، يخافون أن يتخطفهم الناس من كثرة الفتن، فكان القوي يأكل الضعيف منهم، فآواهم الله إلى الإسلام، فحصل بينهم الأمن والأمان، وأيدهم بنصره، حيث نصرهم على جميع الأديان، وأعزهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورزقهم من الطيبات، حيث فتح عليهم البلاد، وملكوا ملك فارس والروم، فملكوا ديارهم وأموالهم، ونكحوا نساءهم وبناتِهم، لعلهم يشكرون.
الإشارة : التذكير بهذه النعمة يتوجه إلى خصوص هذه الأمة، وهم الفقراء المتوجهون إلى الله، فهم قليل في كل زمان، مستضعفون في كل أوان، حتى إذا تمكنوا وتهذبوا، وطهروا من البقايا منَّ عليهم بالنصر والعز والتأييد، كما وعدهم بقوله :﴿ وَنُرِيدُ أًن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ فيِ الأَرضِ. . . ﴾ [ القصص : ٥ ] الآية، والغالب عليهم شكر هذه النعم، لَمَا خصهم به من كمال المعرفة. والله تعالى أعلم.
ثم نهاهم عن الخيانة، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ﴾ ؛ بتضييع أوامره، وارتكاب نواهيه، ﴿ والرسول ﴾ ؛ بمخالفة أمره وترك سنته، أو بالغلول في الغنائم، أو بأن تُبطنوا خلاف ما تظهرون.
قيل : نزلت في أبي لبابة في قصة بَني قُرَيْظَةَ. روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصرهم إِحْدَى وعشرين ليلةً، فَسَأَلوا الصُّلْحَ كما صَالَحَ إِخْوانَهُمْ بَني النَّضِير، عَلَى أَنْ يَصيروا إلى إخوانهم بأذْرِعَاتٍ وأريحا من الشَّام، فأبَى إلا أن يَنْزِلوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأبَوْا وقَالوا : أرْسِلَ لنا أبا لُبَابَةَ، وكان مُنَاصِحاُ لهُمْ ؛ لأنَّ عيَالهُ ومَالَهُ في أَيْدِيِهِمْ، فَبَعَثَه إليْهِمْ، فقالوا : ما تَرَى ؟ هَلْ نَنْزِلُ على حُكْم سَعْدٍ ؟ فأَشارَ إلى حَلْقِهِ، أنه الذَّبْحُ، فقال أبو لُبَابَة : فما زَالت قَدَمَاي حَتَّى عَلِمْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ الله ورسُولَهُ، فنزل وشدَّ نَفْسَهُ إلى ساريةٍ في المسجد، وقال : والله لا أَذُوقُ طعاماُ ولا شَرَاباً حتى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أيام حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيهِ، ثم تَابَ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ ؛ تِيب عَلَيْكَ فحُلّ نفسك، فقال : لاً والله أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلَّه، فقال صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلَّه، فقال : إِنَّ من تَمام تَوْبَتِي أن أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الّتِي أصَبْتُ فيها الذَّنْب، وأن أنخَلِعَ من مَالِي، فقال صلى الله عليه وسلم :" يَجْزِيكَ الثُّلثُ أنْ تَتَصَّدَّقَ بِه " ١.
ثم قال تعالى :﴿ وتخونوا أماناتكم ﴾ فيما بينكم، أو فيما أسر الرسول إليكم من السر فتفشوه، ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أن الخيانة ليست من شأن الكرام، بل هي من شأن اللئام، كما قال الشاعر :
لا يَكتُمُ السرَّ إلا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ فالسرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ
أو : وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خيانة الله ورسوله تكون بإظهار الموافقة وإبطان المخالفة، بحيث يكون ظاهره حسن وباطنه قبيح، وهذا من أقبح الخيانة، وينخرط فيه إبطان الاعتراض على المشايخ وإظهار الوفاق، وهو من أقبح العقوق لهم، وأما خيانة الأمانة فهي إفشاء أسرار الربوبية لغير أهلها، فمن فعل ذلك فسيف الشريعة فوق رأسه، إذا كان سالكاً غير مجذوب، لأن من أفشى سر الملك استحق القتل، وكان خائناً، ومن كان خائناً لا يُؤمن على السر، فهو حقيق أن ينزع منه، إن لم يقتل أو يتب، ولله در القائل :
سَأَكْتُم عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي وَلاَ أَنْثُرُ الدُّر النفيس على الْبَهَمْ
فإنْ قَدَّرَ اللَّهُ الكريمُ بلُطْفِهِ وَلاَ أَهلاً للعلوم وللحِكَمْ
بَذَلْتُ عُلومِي واسْتَفَدْتُ عُلُومَهُم وإِلاّ فمخزونٌ لديَّ ومُكْتَتَمْ


١ أخرجه عبد الرزاق في المصنف ٩٧٤٥..
﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادُكُم فتنةٌ ﴾ ؛ لأنه سبب الوقوع في الإثم والعقاب، أو محنة من الله تعالى ليبلوكم فيها، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة، كما فعل أبو لبابة. ﴿ وأنَّ الله عنده أجرٌ عظيم ﴾ لمن آثر رضا الله ومحبته عليهم، وراعى حُدود الله فيهم، فعلّقوا هممكم بما يؤديكم إلى أجره العظيم، ورضاه العميم، حتى تفوزوا بالخير الجسيم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خيانة الله ورسوله تكون بإظهار الموافقة وإبطان المخالفة، بحيث يكون ظاهره حسن وباطنه قبيح، وهذا من أقبح الخيانة، وينخرط فيه إبطان الاعتراض على المشايخ وإظهار الوفاق، وهو من أقبح العقوق لهم، وأما خيانة الأمانة فهي إفشاء أسرار الربوبية لغير أهلها، فمن فعل ذلك فسيف الشريعة فوق رأسه، إذا كان سالكاً غير مجذوب، لأن من أفشى سر الملك استحق القتل، وكان خائناً، ومن كان خائناً لا يُؤمن على السر، فهو حقيق أن ينزع منه، إن لم يقتل أو يتب، ولله در القائل :
سَأَكْتُم عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي وَلاَ أَنْثُرُ الدُّر النفيس على الْبَهَمْ
فإنْ قَدَّرَ اللَّهُ الكريمُ بلُطْفِهِ وَلاَ أَهلاً للعلوم وللحِكَمْ
بَذَلْتُ عُلومِي واسْتَفَدْتُ عُلُومَهُم وإِلاّ فمخزونٌ لديَّ ومُكْتَتَمْ

ثم دلهم على ما فيه دواء القلوب ومحو العيوب، فقال :
﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله ﴾، كما أمركم، ﴿ يجعل لكم فرقاناً ﴾ ؛ نوراً في قلوبكم، تُفرقون به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح. قال ابن جزي : وذلك دليل على أن التقوى تُنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة. ه. أو : نصراً يُفرق بين المحق والمبطل ؛ بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين، أو مخرجاً من الشبهات، أو نجاة مما تحذرون في الدارين من المكروهات، أو ظهوراً يشهر أمركم ويثبت صِيتَكم، من قولهم : فرقان الصبح، أي نوره، ﴿ ويُكفِّر عنكم سيئاتكم ﴾ أي : يسترها، فلا يفضحكم يوم القيامة، ﴿ ويغفرْ لكم ﴾ ؛ يتجاوز عن مساوئكم، أو يكفر صغائركم ويغفر كبائركم، أو يكفر ما تقدم ويغفر ما تأخر، ﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾، ففضله أعظم من كل ذنب، وفيه تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان، لا أن تقواهم أوجبت ذلك عليه، كالسيد إذا ما وعد عبده أن يعطيه شيئاً في مقابلة عمل أمره به، مع أنه واجب عليه لا محيد له عنه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الفرقان الذي يلقيه الله في قلوب المتقين من المتوجهين هو نور الواردات الإلهية، التي ترد على القلوب من حضرة الغيوب، وهي ثلاثة أقسام : وارد الانتباه : وهو نور يفرق به بين الغفلة واليقظة، وبين البطالة والنهوض إلى الطاعة، فيترك غفلته وهواه، وينهض إلى مولاه، ووارد الإقبال : وهو نور يفرق به بين الوقوف مع ظلمة الحجاب وبين السير إلى شهود الأحباب، ووارد الوصال : وهو نور يفرق به بين ظلمة الأكوان، ونور الشهود، أو بين ظلمة سحاب الأثر وشهود شمس العرفان.
وإلى هذه الواردات الثلاثة أشار في الحكم بقوله :" إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً، أورد عليك الوارد ليسلمك من يد الأغيار، ويحررك من رق الآثار، أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك ".
ثم ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم بما فعل معه من الحفظ والرعاية من أعدائه اللئام، فقال :
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر، يا محمد، نعمة الله عليك بحفظه ورعايته لك ﴿ إذ يمكُر بك الذين كفروا ﴾ من قريش، حين اجتمعوا في دار الندوة ﴿ ليُثْبِتُوكَ ﴾ أي : يحبسوك في الوثاق والسجن ﴿ أو يقتلوك ﴾ بسيوفهم، ﴿ أو يخرجوك ﴾ من مكة.
وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، خافوا على أنفسهم، واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، وقال : أنا من نجد، سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً، فقال أبو البحتري : أرى أن تحبسوه في بيت، وتسدوا منافذه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه فيها، حتى يموت، فقال الشيخ : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو : أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم، فلا يضركم ما صنع، فقال الشيخ : بئس الرأي، يُفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فتضربوه ضربة واحدة، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإن طلبوا العَقَلَ عقلناه. فقال الشيخ : صدق هذا الفتى، فتفرقوا على رأيه، فأتى جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، وأمره بالهجرة فبيت عليّاً رضي الله عنه على مضجعه، وخرج مع أبي بكر إلى الغار، ثم سافر مهاجراً إلى المدينة.
قال تعالى :﴿ ويمكرون ويمكر اللَّهُ ﴾ ؛ برد مكرهم عليهم، أو مجازاتهم عليه، أو بمعاملة الماكرين معهم، بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين في أعينهم، حتى تجرأوا على قتالهم، فقُتِلوا وأُسِروا، ﴿ والله خيرُ الماكرين ﴾ ؛ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، وإسناد أمثال هذا مما يحسن للمزاوجة، ولا يجوز إطلاقها ابتداء ؛ لما فيه من إيهام الذم. قاله البيضاوي.
الإشارة : وإذ يمكر بك أيها القلب الذين كفروا، وهم القواطع من العلائق والحظوظ والشهوات، ليحبسوك في سجن الأكوان، مسجوناً بمحيطاتك، محصوراً في هيكل ذاتك، أو يقتلوك بالغفلة والجهل وتوارد الخواطر والأوهام، أو يُخرجوك من حضرة ربك إلى شهود نفسك، أو من صحبة العارفين إلى مخالطة الغافلين، أو من حصن طاعته إلى محل الهلاك من موطن معصيته، أو من دائرة الإسلام إلى الزيغ والإلحاد، عائذاً بالله من المحن، والله خير الماكرين، فيرد كيد الماكرين، وينصر أولياءه المتوجهين والواصلين، وبالله التوفيق.
ثم ذكر مساوئ أهل المكر، فقال :
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾
قلت :" إذا " : ظرفية شرطية، خافضة لشرطها، معمولة لجوابها، أي قالوا وقت تلاوة الآيات : لو نشاء. . . إلخ.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذا تُتلى عليهم آياتنا ﴾ القرآنية ﴿ قالوا قد سمعنا ﴾ ما تتلوه علينا ﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين ﴾ أي : أخبارهم المسطورة أو أكاذيبهم المختلقة. قال البيضاوي ؛ وهذا قول النَّضْر بن الحارث، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنه كان قاصهم، أي : يقص عليهم أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن يقص أخبار الأنبياء قال : لو شئت لقلتُ مثل هذا، أو قول الذين ائتمروا في شأنه : وهذا غاية مكائدهم، وفرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك لسارعوا إليه، فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين، ثم قارعهم بالسيف، فلم يعارضوا، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلَبوا، خصوصاً في باب البيان ؟ ه. بالمعنى.
الإشارة : هذه المقالة بقيت سُنَّةً في أهل الإنكار على أهل الخصوصية، إذا سمعوا منهم علوماً لدنية، أو أسراراً ربانية، أو حِكماً قدسية، قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا، وهم لا يقدرون على كلمة واحدة من تلك الأسرار، وهذا الغالب على المعاصرين لأهل الخصوصية، دون من تأخر عنهم، فإنهم مغرورون عنده، ﴿ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلا ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
ثم ذكر استعجالهم للعذاب ؛ عنادا وعتوا، فقال :
﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾
قلت :" الحق " : خبر كان.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قالوا اللهم إن كان هذا ﴾ الذي أتى به محمد ﴿ هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماءِ ﴾ ؛ كأصحاب لوط، ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾، قيل : القائل هذا هو النَّضْر بن الحارث، وهو أبلغ في الجحود. رُوي أنه لما قال :﴿ إن هذا أساطير الأولين ﴾، قال له النبي صلى الله عليه وسلم :" ويلك إنه كلام الله " فقال هذه المقالة. والذي في صحيحي البخاري ومسلم : أن القائل هو أبو جهل١، وقيل : سائر قريش لمّا كذبوا الني صلى الله عليه وسلم دعوا على أنفسهم، زيادة في تكذيبهم وعتوهم. وقال الزمخشري : ليس بدعاء، وإنما هو جحود، أي : إن كان هو الحق فأمطر علينا، لكنه ليس بحق فلا تستوجب عقاباً. بالمعنى.
الإشارة : قد وقعت هذه المقالة لبعض المنكرين على الأولياء، فعجلت عقوبته، ولعل ذلك الولي لم تتسع دائرة حلمه ومعرفته، وإلا لكان على قدم نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال الله تعالى في شأنه :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. . . ﴾.
١ انظر البخاري في تفسير سورة ٨، باب ٣، ومسلم في المنافقين، حديث ٣٧..
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كان الله ليُعذبهم وأنت ﴾ موجود ﴿ فيهم ﴾، ونازل بين أظهرهم، وقد جعلتك رحمة للعالمين، خصوصاً عشيرتك الأقربين، ﴿ وما كان الله مُعَذِّبَهُم وهم يستغفرون ﴾ قيل : كانوا يقولون : غفرانك اللهم، فلما تركوه عُذبوا يوم بدر، وقيل : وفيهم من يستغفر، وهو من بقي فيهم من المؤمنين، فلما هاجروا كلهم عُذبوا، وقيل : على الفرض والتقدير، أي : ما كان الله ليعذبهم لو آمنوا واستغفروا.
قال بعض السلف : كان لنا أمانان من العذاب : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر، والمقصود من الآية : بيان ما كان الموجب لإمهاله لهم والتوقف على إجابة دعائهم، وهو وجوده صلى الله عليه وسلم أو من يستغفر فيهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم أماناً لأمته ما دام حياً، فلما مات صلى الله عليه وسلم بقيت سنته أماناً لأمته، فإذا أُميتت سنته أتاهم ما يوعدون من البلاء والفتن، وكذلك خواص خلفائه، وهم العارفون الكبار، فوجودهم أمان للناس. فقد قالوا : إن الإقليم الذي يكون فيه القطب لا يصيبه قحط ولا بلاء، ولا هرج ولا فتن ؛ لأنه أمان لذلك الإقليم، خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾ أي : وأيُّ شيء يمنع من عذابهم ؟ وكيف لا يعذبون ﴿ وهم يصُدُّون ﴾ الناس ﴿ عن المسجد الحرام ﴾ ؟ أي : يمنعُون المتقين من المسجد الحرام، ويصدون رسوله عن الوصول إليه. ﴿ وما كانوا أولياءَهُ ﴾ المستحقين لولايته مع شركهم وكفرهم، وهو ردٌّ لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت الحرام ؛ فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء. قال تعالى :﴿ إنْ أولياؤُه إلا المتقون ﴾ أي : ما المستحقون لولايته إلا المتقون، الذين يتقون الشرك والمعاصي، ولا يعبدون فيه إلا الله، ويعظمونه، حق تعظيمه. ﴿ ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ﴾ أن لا ولاية لهم عليه، وإنما الولاية لأهل الإيمان، وكأنه نبه بالأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ويعاند أو أراد به الكل، كما يراد بالقلة العدم. قاله البيضاوي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم أماناً لأمته ما دام حياً، فلما مات صلى الله عليه وسلم بقيت سنته أماناً لأمته، فإذا أُميتت سنته أتاهم ما يوعدون من البلاء والفتن، وكذلك خواص خلفائه، وهم العارفون الكبار، فوجودهم أمان للناس. فقد قالوا : إن الإقليم الذي يكون فيه القطب لا يصيبه قحط ولا بلاء، ولا هرج ولا فتن ؛ لأنه أمان لذلك الإقليم، خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تلاعبهم بالدين، فقال :
﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كان صلاتهم ﴾ التي يصلونها في بيت الله الحرام، ويسمونها صلاة، أو ما يضعون موضعها، ﴿ إلا مكاءً ﴾ أي : تصفيراً بالفم، كما يفعله الرعاة، ﴿ وتصديةً ﴾ أي : تصفيقاً باليد، الذي هو من شأن النساء، مأخوذ من الصدى، وهو صوت الجبال والجدران. قال ابن جزي : كانوا يفعلون ذلك إذا صلى المسلمون، ليخلطوا عليهم صلاتهم.
وقال البيضاوي : رُوي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، مشبكين بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلي، يخلطون عليه، ويرون أنهم يصلون أيضاً، ومساق الآية : تقرير استحقاقهم العذاب المتقدم في قوله :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾، أو عدم ولايتهم للمسجد، فإنها لا تليق بمن هذه صلاته. ه.
قال تعالى :﴿ فذوقوا العذاب ﴾ الذي طلبتم، وهو القتل والأسر يوم بدر، فاللام للعهد، والمعهود :( أو ائتنا بعذاب أليم )، أو عذاب الآخرة، ﴿ بما كنتم تكفرون ﴾ أي : بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً.
الإشارة : وما كان صلاة أهل الغفلة عند بيت قلوبهم إلا ملعبة للخواطر والهواجس، وتصفيقاً للوسواس والشيطان، وذلك لخراب بواطنهم من النور، حتى سكنتها الشياطين واستحوذت عليها، والعياذ بالله، فيقال لهم : ذوقوا عذاب الحجاب والقطيعة، بما كنتم تكفرون بطريق الخصوص وتبعدون عنهم. والله تعالى أعلم.
ولما سلمت عير قريش من النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت غزوة بدر، وكان مات فيها صناديدهم، حبس أبو سفيان ذلك المال، وأنفقه في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في ذلك وفي غيره، ممن أنفق في إعانة الكفار على حرب المسلمين قوله :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ * ﴿ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إنَّ الذين كفروا يُنفقون أموالهم ليصدوا ﴾ بذلك ﴿ عن سبيلِ الله ﴾، ويُحاربون الله ورسوله. قيل : نزلت في أصحاب العير ؛ فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا، ففعلوا، وقيل : في المطْعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش، يطعم كل واحد منهم، كل يوم، عشر جزر، وقيل : في أبي سفيان، استأجر ليوم أُحد ألفين من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية.
قال تعالى :﴿ فسينفقونها ﴾ بتمامها، ﴿ ثم تكون عليهم حسرةً ﴾ يتأسفون على إنفاقها من غير فائدة، فيصير إنفاقها ندماً وغمَّاَ، لفواتها من غير حصول المقصود، وجعل ذاتها تصير حسرة، وهي عاقبة إنفاقها ؛ مبالغةً. قال البيضاوي : ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال، وهو إنفاق بدر، والثاني عن إنفاقها فيما يُستقبل، وهو إنفاق غزوة أحد، ويحتمل أن يراد بهما واحد، على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبته، وهو لم يقع بعد. ه. قلت : وهذا الأخير هو الأحسن.
ثم ذكر وعيدهم فقال :﴿ والذين كفروا ﴾ أي ؛ الذين ثبتوا على الكفر منهم ؛ إذ أسلم بعضهم، ﴿ إلى جهنم يُحشرون ﴾ ؛ يُضمون ويُساقون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أنفق ماله في لهو الدنيا، وفرجتها، من غير قصدٍ حسن، بل لمجرد الحظ والهوى، تكون عليه حسرة وندامة، تنقضي لذاته وتبقى تبعاته، وهو من كفران نعمة المال، فهو معرض للزوال، وإن بقي فهو استدراج، وعلامة إنفاقه في الهوى : أنه إن أتاه فقير يسأله درهماً منعه، وينفق في النزهة والفرجة الثلاثين والأربعين، فهذا يكون إنفاقه حسرة عليه، والعياذ بالله.
﴿ ليميزَ الله الخبيثَ من الطّيبِ ﴾ ؛ الكافرين من المؤمنين، أو الفساد من الصلاح، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنفقه المسلمون في نصرته، أي : حشرهم إليه ليفرق بين الخبيث والطيب، ﴿ يجعل الخبيثَ بعضَهُ على بعض فيَركُمَه ﴾ أي : يجمعه، أو يضم بعضه إلى بعض، حتى يتراكموا من فرط ازدحامهم، ﴿ فيجعَلهُ في جهنم ﴾ كله، ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ الكاملون في الخسران، لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم، والإشارة تعود على الخبيث ؛ لأنه بمعنى الفريق الخبيث، أو على المنفقين ليصدوا عن سبيل الله. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل من أنفق ماله في لهو الدنيا، وفرجتها، من غير قصدٍ حسن، بل لمجرد الحظ والهوى، تكون عليه حسرة وندامة، تنقضي لذاته وتبقى تبعاته، وهو من كفران نعمة المال، فهو معرض للزوال، وإن بقي فهو استدراج، وعلامة إنفاقه في الهوى : أنه إن أتاه فقير يسأله درهماً منعه، وينفق في النزهة والفرجة الثلاثين والأربعين، فهذا يكون إنفاقه حسرة عليه، والعياذ بالله.
ثم ندب إلى التوبة، فقال :
﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل للذين كفروا ﴾ ؛ كقريش وغيرهم :﴿ إن ينتهوا ﴾ عن الكفر ومعاداة الرسول بالدخول في الإسلام، ﴿ يغفر لهم ما قد سلف ﴾ من ذنوبهم، ولو عظمت، ﴿ وإن يعودوا ﴾ إلى الكفر وقتاله ﴿ فقد مضت سُنَّتُ الأولين ﴾ أي : مضت عادتي مع الذين تحزبُوا على الأنبياء بالتدمير والهلاك، كعاد وثمود وأضرابهم، وكما فعل بهم يوم بدر، فليتوقعوا مثل ذلك، وهو تهديد وتخويف.
الإشارة : قل للمنهمكين في الذنوب والمعاصي : لا تقنطوا من رحمتي، فإني لا يتعاظمني ذنب أغفره، فإن تنتهوا أغفر لكم ما قد سلف، وأنشدوا :
يستوجب العَفْوَ الفتى، إذا اعترف *** بما جَنى، وما أتى، وما اقْتَرفْ
لقوله :( قُل للذين كفروا *** إنْ ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف )
وللشافعي رضي الله عنه :
فَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ الرَّجَا مِنَّي لعَفْوكَ سُل‍ما
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي، فَلَمّا قَرَنْتهُ *** بعَفْوِكَ رَبِّي، كانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا جُودِ وَفَضْلٍ وَمِنَّةٍ *** تَجُودُ وتَعْفُو مِنَّة وتَكَرُّمَا
فإن لم ينته المنهمك في الهوى فقد مضت سُنة الله فيه ؛ بالطرد والإبعاد، ويخاف عليه سوء الختام، والعياذ بالله.
ثم أمر بجهاد من لم ينته عن كفره، فقال :
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ * ﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾
يقول الحق جل جلاله : وقاتلوا من لم ينته عن كفره ﴿ حتى لا تكونَ فتنة ﴾، أي : حتى لا يوجد منهم شرك، فهو كقوله عليه السلام :" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إله إلاَّ الله " ١. ﴿ ويكون الدين كلُّه لله ﴾ بحيث تضمحل الأديان الباطلة ويظهر الدين الحق، ﴿ فإن انتهوا ﴾ عن الكفر وأسلموا، ﴿ فإن الله بما يعملون بصير ﴾ ؛ فيجازيهم على انتهائهم، وقرأ يعقوب بتاء الخطاب ؛ على معنى :﴿ فإن الله بما تعملون ﴾ يا معشر المسلمين ؛ من الجهاد، والدعوة إلى الإسلام، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ﴿ بصير ﴾ فيجازيهم، ويضاعف أجوركم بمن أسلم على أيديكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤمر المريد بجهاد القواطع والعلائق والخواطر، حتى لا يبقى في قلبه فتنة بشيء من الحس، ويكون القلب كله لله، فإن انتهت القواطع فإن الله بصير به، يجازيه على جهاده، ومجازاته : إدخال الحضرة المقدسة، مع المقربين، وإن لم ينته فليستمر على مجاهداته وانقطاعه إلى ربه، وليستنصر به في مجاهدته، فإن الله مولاه وناصره، وهو نعم المولى ونعم النصير.

١ روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٧، والزكاة باب ١، والصلاة باب ٢٨، والاستتابة باب ٣، والاعتصام باب ٢، ٢٨، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢، وأحمد في المسند ١/١١، ٧٨، ٢/٣١٤، ٣٤٥، ٣٧٧، ٤٢٣، ٤٣٩، ٤٧٥، ٥٠٢، ٥٢٧، ٥٢٨، ٣/١٩٩، ٢٢٤، ٣٠٠، ٣٣٢، ٣٣٩، ٣٩٤، ٤/٩، ٥/٢٤٦..
﴿ وإن تَولَّوا ﴾، ولم ينتهوا عن كفرهم، ﴿ فاعلموا أن الله مولاكم ﴾ ؛ ناصركم، فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم، ﴿ نِعْمَ المولى ﴾ ؛ فلا يضيع من تولاه، ﴿ ونِعْمَ النصير ﴾ ؛ فلا يغلب من نصره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤمر المريد بجهاد القواطع والعلائق والخواطر، حتى لا يبقى في قلبه فتنة بشيء من الحس، ويكون القلب كله لله، فإن انتهت القواطع فإن الله بصير به، يجازيه على جهاده، ومجازاته : إدخال الحضرة المقدسة، مع المقربين، وإن لم ينته فليستمر على مجاهداته وانقطاعه إلى ربه، وليستنصر به في مجاهدته، فإن الله مولاه وناصره، وهو نعم المولى ونعم النصير.
ثم ذكر قسم الغنائم التي تنشأ عن القتال، فقال :
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت :( فأن لله ) : مبتدأ حُذف خبره، أي : فكون خمسه لله ثابت، أو خبر، أي : فالواجب كون خمسه لله.
يقول الحق جل جلاله :﴿ واعلموا أنما غَنِمتُم من شيء ﴾ مما أخذتموه من الكفار ؛ قهراً بالقتال، لا الذي هربوا عنه بلا قتال، فكله للإمام فَيء، يأخذ حاجته ويصرف باقيه في مصالح المسلمين، ولا الذي طرحه العدو خوف الغرق، فلواجده، بلا تخميس، وكذا ما أخذه من كان ببلاد العرب على وجه التلصيص، فأما ما أخذه بالقتال : فللَّه ﴿ خُمُسَه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ ؛ الجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كقوله :﴿ واللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضُوه ﴾ [ التوبة : ٦٢ ]، وإنما المراد : قسم الخمس على الخمسة الباقية.
واختلف العلماء في الخمسة، فقال مالك : الرأي للإمام، يلحقه ببيت الفَيء، ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه، كما يعطي منه اليتامى والمساكين، وغيرهم، وإنما ذكر من ذكر على جهة التنبيه عليهم، لأنهم من أهم ما يدفع إليهم. وقال الشافعي : يعطي للخمسة المعطوفة على ( الله )، ولا يجعل لله سهماً مختصاً، وإنما ذكر ابتداء تعظيماً، لأن الكل ملكه، وسهم الرسول يأخذه الإمام، يصرفه في المصالح، فيعطي للأربعة المعطوفة على الرسول، ويفضل أهل الحاجة. قال مالك : لا يجب التعميم، فله أن يعطي الأحوج، وإن حرم غيره، ومبني الخلاف : هل اللام لبيان المصرف أو للاستحقاق، كما في آية الزكاة.
وقال أبو حنيفة : على ثلاثة أسهم، لليتامى والمساكين وابن السبيل، قال : وسقط الرسول وذوو القربى بوفاته عليه الصلاة والسلام. وقال أبو العالية : يقسم على ستةٍ، أخذاً بظاهر الآية، ويصرف سهم الله إلى الكعبة، وسهم الرسول في مصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى لأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة، ثم يعطى سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.
قال البيضاوي : وذوو القربى : بنو هاشم، وبنو المطلب، لِمَا رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى عليهما، فقال عثمان وجبير بن مطعم : هؤُلاء إِخْوانك بَنُو هِاشِمٍ لا ننكر فَضْلَهُمْ لمَكَانِك الذي جَعَلَك اللَّهُ مِنْهُمْ، أرأيت إخواننا من بَني المُطَّلِب، أعْطَيْتَهُمْ وحَرَمْتَنَا، وإنَّما نَحنُ وَهُمْ بمَنْزِلَةٍ وَاحِدةٍ ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام :" إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا في جَاهِلِيَّةٍ ولا إٍسْلاَم " وشَبَّكّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ١. وقيل : بنو هاشم وحدهم. قلت : وهو مشهور مذهب مالك وقيل : جميع قريش. ه.
ثم قال تعالى :﴿ إنْ كنتم آمنتم بالله ﴾، أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء، فسلموه إليه، واقنعوا بالأخماس الأربعة، ﴿ وما ﴾ وكذا إن كنتم آمنتم بما ﴿ أنزلنا على عبدنا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، في شأن الأنفال، ومن النصر والملائكة، ﴿ يوم الفرقان ﴾ ؛ يوم بدر، فإنه فرّق فيه بين الحق والباطل، ﴿ يوم التقى الجمعان ﴾ ؛ المسلمون والكفار، ﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ ؛ فيقدر على نصر القليل على الكثير، بالإمداد بالملائكة، وبلا إمداد، ولكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والوسائط، والله حكيم عليم.
الإشارة : واعلموا أنما غنمتم من شيء من العلوم اللدنية، والمواهب القدسية، والأسرار الربانية، بعد مجاهدة العلائق والعوائق، حتى صار دين القلب كله لله، فللَّه خمسه ؛ فناء، وللرسول ؛ بقاءً، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ؛ تعظيماً وآداباً. يعني : أن العلم بالله يقتضي بهذه الوظائف : الفناء في الله، بالغيبة عما سواه، وشهود الداعي الأعظم، وهو رسول الله، والأدب مع عباد الله، ليتحقق الأدب مع الله. ثم تعالى أعلم بأسرار كتابه.
١ أخرجه أبو داود في الخراج، وابن ماجه في الجهاد..
ثم بين يوم الفرقان، فقال :
﴿ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ * ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِيا أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيا أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾
قلت :( إذ ) : بدل من ( يوم الفرقان )، أو ظرف لالْتقى، أو لاذكر، محذوفة، والعدوة مثلث العين : شاطئ الوادي و( الدنيا ) أي : القربى، نعت له، و( القصوى ) : تأنيث الأقصى، وكان قياسه : قلب الواو ياء، كالدنيا والعليا ؛ تفرقة بين الاسم والصفة، فجاء على الأصل، كالقَود، وسُمع فيه :" القصيا " على الأصل، وهو شاذ. و( الركب ) : مبتدأ، و( أسفل ) : ظرف خبره.
يقول الحق جل جلاله : واذكروا ﴿ إذ أنتم بالعُدْوَة الدنيا ﴾ أي ؛ بعدوة الوادي القريبة من المدينة، ﴿ وهم ﴾ أي : كفار قريش، ﴿ بالعُدْوة القصوى ﴾ أي : البعيدة منها، ﴿ والركبُ ﴾ أي : العير التي قصدتكم، ﴿ أسفل منكم ﴾ أي : في مكان أسفل منكم، يعني الساحل، ثم جمع الله بينكم على غير ميعاد، ﴿ ولو تواعدتُم ﴾ لهذا الجمع، أنتم وهم للقتال، ثم علمتم حالكم وحالهم ﴿ لاختلفتم في الميعاد ﴾ ؛ هيبة منهم ؛ لكثرتهم وقلتكم، لتتحققوا أن ما اتفق لكم من الفتح والظفر ليس إلا صنيعاً من الله تعالى خارقاً للعادة، فتزدادوا إيماناً وشكراً، ﴿ ولكن ﴾ الله جمع بينكم من غير ميعاد ؛ ﴿ ليقضي اللَّهُ أمراً كان مفعولا ﴾ ؛ سابقاً في الأزل، وهو نصر أوليائه وقهراً أعدائه في ذلك اليوم، لا يختلف عنه ساعة. ﴿ ليَهلِكَ من هلك عن بينة ويحيى مَنْ حَيَّ عن بينة ﴾، أي : قدَّر ذلك الأمر العجيب ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة، فكل من عاينها ولم يؤمن قامت الحجة عليه. أو ليهلك بالكفر من هلك عن بينة وحجة قائمة عليه، ويحيى بالإيمان من حي به عن بينة من ربه، ﴿ وإنَّ الله لسميع عليمٌ ﴾ بكفر من كفر وإيمان من آمن، فيجازي كلاًّ على فعله. ولعل الجمع بين صفة السمع والعلم ؛ لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح والأسرار بالعُدوة القريبة من بحر الحقائق، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه، والقلب، الذي هو الركب المتنازع فيه، بينهما، أسفل من الروح، وفوق مقام النفس، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها، والحرب بينهما سجال تارة ترد عليه الواردات الإلهية، التي هي جند الروح، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد، فتجذبه إلى الحضرة.
وتارة ترد عليه الخواطر والهواجس الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً في سابق علمه، فإذا أراد الله عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار، حتى يراها كل شيء، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كُل شيء فتذهب عنه ظلمة الأغيار وإذا أراد الله خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار، وقوى عليه مدد الأغيار، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ الآية. والله تعالى أعلم.

واذكر أيضاً ﴿ إذْ يُريكَهُمُ الله في منامك قليلاً ﴾، كان صلى الله عليه وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم وتجرؤا على قتالهم، وكانوا قليلاً في المعنى، ﴿ ولو أراكَهُمْ كثيراً ﴾ في الحس ﴿ لفشلْتُمْ ﴾ لجبنتم، ﴿ ولتنازعتم في الأمر ﴾ ؛ في أمر القتال، وتفرقت آراؤكم، ﴿ ولكنَّ الله سلَّم ﴾ أي : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع ؛ ﴿ إنه عليمٌ بذات الصدور ﴾ أي : يعلم ما يكون فيها من الخواطر وما يغير أحوالها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح والأسرار بالعُدوة القريبة من بحر الحقائق، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه، والقلب، الذي هو الركب المتنازع فيه، بينهما، أسفل من الروح، وفوق مقام النفس، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها، والحرب بينهما سجال تارة ترد عليه الواردات الإلهية، التي هي جند الروح، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد، فتجذبه إلى الحضرة.
وتارة ترد عليه الخواطر والهواجس الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً في سابق علمه، فإذا أراد الله عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار، حتى يراها كل شيء، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كُل شيء فتذهب عنه ظلمة الأغيار وإذا أراد الله خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار، وقوى عليه مدد الأغيار، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ الآية. والله تعالى أعلم.

﴿ و ﴾ اذكر أيضاً ﴿ إذْ يُريكموهم ﴾ أي : يريكم الله الكفار، ﴿ إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ﴾، حتى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه : أتراهم سبعين ؟ فقال : أراهم مائة، تثبتاً وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، ﴿ ويُقلِّلكم في أعينهم ﴾، حتى قال أبو جهل : إن محمداً وأصحابه أَكَلَهُ جزور بفتح الهمزة والكاف جمع آكل، أي : قدر ما يكفيهم جذور في أكلهم.
قال البيضاوي : قللهم في أعينهم قبل التحام القتال ؛ ليجترئوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثّرهم حين رأوهم مثليهم ؛ لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الوقعة، فإن البصر، وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصارَ عن إبصار بعضٍ، مع التساوي في المرئي. ه.
وإنما فعل ذلك في الجهتين ؛ ﴿ ليقضيَ الله أمراً كان مفعولاً ﴾ أي : ليظهر الله أمراً كان سبق به القضاء والقدر، فكان مفعولاً في سابق العلم، لا محيد عنه، ومن شأن الحكمة إظهار الأسباب والعلل، كما أن من شأن القدرة إبراز ما سبق في الأزل، وإنما كرره ؛ لاختلاف الفعل المعلل به ؛ لأن الأول علة لالتقائهم من غير ميعاد، وهنا لتقليلهم في أعين الكفرة، أو للتنبيه على أن المطلوب من العبد هو النظر إلى سابق القدر، ليخف عليه ما يبرز منه من الشدائد والأهوال، ولذلك قال أثره :﴿ وإلى الله تُرجع الأمور ﴾، وإذا كانت الأمور كلها راجعة إلى الله تعالى فلا يسع العبد إلا الرضا والتسليم لكل ما يبرز منها، فكل ما يبرز من عند الحبيب حبيب. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأرواح والأسرار بالعُدوة القريبة من بحر الحقائق، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه، والقلب، الذي هو الركب المتنازع فيه، بينهما، أسفل من الروح، وفوق مقام النفس، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها، والحرب بينهما سجال تارة ترد عليه الواردات الإلهية، التي هي جند الروح، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد، فتجذبه إلى الحضرة.
وتارة ترد عليه الخواطر والهواجس الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً في سابق علمه، فإذا أراد الله عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار، حتى يراها كل شيء، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كُل شيء فتذهب عنه ظلمة الأغيار وإذا أراد الله خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار، وقوى عليه مدد الأغيار، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر، وإليه الإشارة بقوله :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ الآية. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر ما يقوي مدد الأنوار، وهو الصبر والذكر، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ * ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها آمنوا إذا لَقيتُم فئةً ﴾ ؛ جماعة من الكفار عند الحرب ﴿ وفاثبتُوا ﴾ للقائهم، ولا تفروا، ﴿ واذكروا الله ﴾ في تلك الحال سراً داعين له، مستظهرين بذكره، متوجهين لنصره، معتمدين على حوله وقوته، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال ؛ إذ لا يذكر الله تعالى في ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ بالظفر وعظيم النوال. قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي ألا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره١، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في جميع الأحوال. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم أيضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه في أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله. نفعنا الله بذكرهم. آمين.


١ يقبل عليه بشراشره: أي بجملته..
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ فيما يأمركم به وينهاكم عنه ؛ فإن الطاعة مفتاح الخيرات، ﴿ ولا تنازعوا ﴾ باختلاف الآراء كما فعلتم في شأن الأنفال، ﴿ فتفشلوا ﴾ وتجبنوا، ﴿ وتذهب ريحُكم ﴾ أي : ريح نصركم بانقطاع دولتكم، شبه النصر والدولة بهبوب الريح ؛ من حيث إنها تمشي على مرادها، لا يقدر أحد أن يردها، وقيل : المراد بها الريح حقيقة، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه الله من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول. وفي الحديث :" نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ " ١. ﴿ واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ بالمعونة والكلاءة والنصر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم أيضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه في أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله. نفعنا الله بذكرهم. آمين.


١ أخرجه البخاري في الاستسقاء باب ٢٦، والمغازي باب ٢٩، وبدء الخلق باب ٥، وأحادث الأنبياء باب ١، ومسلم في الاستسقاء حديث ١٧، وأحمد في المسند ١/٢٢٣، ٢٢٨، ٣٢٤، ٣٤١، ٣٥٥، ٣٧٣..
قلت :( بطراً ورئاء ) : مصدران في موضع الحال، أي : بطرين ومراءين، أو مفعول لأجله، ( ويصُدُّون ) : عطف على ( بطراً ) ؛ على الوجهين، أي : صادين، أو للصد.
﴿ ولا تكونُوا كالذين خرجُوا من ديارهم ﴾، يعني : أهل مكة، خرجوا ﴿ بطراً ﴾ أي : فخراً وشَرّاً ﴿ ورئاء الناس ﴾ ؛ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسولُ أبي سفيان، يقول لهم : ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل : لا والله حتى نأتي بدراً، ونشرب بها الخمور، وتغني علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فتسمع بنا سائر العرب، فتهابُنا، فوافوها، ولكن سُقوا بها كأس المنايا، وناحت عليهم النوائح ؛ مما نزل بهم من البلايا، فنهى الله المؤمنين أن يكون أمثالهم بطرين مراءين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص، لأن النهي عن الشيء أمرٌ بضده. ﴿ ويصدّون عن سبيل الله ﴾ أي : خرجوا ليصدوا الناس عن طريق الله، باتباع طريقهم، ﴿ والله بما يعملون محيطٌ ﴾ فيجازيهم عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم أيضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه في أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز.
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله. نفعنا الله بذكرهم. آمين.

ثم ذكر الباعث على خروج الكفار لغزوة بدر، فقال :
﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِياءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذْ زيّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم ﴾ السيئة، ومن جملتها : خروجهم إلى حربك ؛ بأن وسوس لهم، ﴿ وقال لا غالبَ لكم اليومَ من الناس وإني جارٌ لكم ﴾ قيل : قال لهم ذلك مقالة نفسانية، بأن ألقي في رُوعهم، وخيَّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون، لكثرة عَددهم وعُددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه في ذلك قربة مجيرة لهم من المكاره.
﴿ فلما تراءت الفئتان ﴾ أي : تلاقي الفريقان، ورأى بعضهم بعضاً، ﴿ نَكصَ على عقبيه ﴾ ؛ رجع القهقري، أي : بطل كيده، وعاد ما خيل لهم أنه مجير لهم سبب هلاكهم، ﴿ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ﴾، أي : تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حولهم، لمّا رأى إمداد المسلمين بالملائكة.
وقيل : إن هذه المقالة كانت حقيقة لسانِيَّة. رُوي أن قريشاً لما اجتمعت على المسير إلى بدر، ذكرت ما بينهم وبين بني كنانة من العداوة، فهموا بالرجوع عن المسير، فمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني، وقال : لا غالب لكم اليوم وإني جارٌ لكم، وإني مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل نكص على عقبيه، وكانت يده في يد الحارث بن هشام، فقال له : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحالة ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث، فانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة، قالوا : هزم النَّاسَ سُراقَةُ، فبلغه ذلك، فقال : والله ما شعرت بسيركم حتى بلغني هزيمتكم ! فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
وعلى هذا، يحتمل أن يكون معنى قوله :﴿ إني أخافُ الله ﴾ أي : أخاف أن يصيبني مكروهاً من الملائكة، أو يهلكني، ويكون هذا الوقت هو الوقت الموعود، إذ رأى فيه ما لم ير قبله. والأول : ما قاله الحسن، واختاره ابن حجر. وقال الورتجبي : أي : إني أخاف عذاب الله، وذلك بعد رؤية البأس، ولا ينفع ذلك، ولو كان متحققاً في خوفه ما عصى الله طرفة عين. ه.
وذكر ابن حجر عن البيهقي، عن عليّ كرم الله وجهه، قال : هبت ريح شديدة، فلم أر مثلها، ثم هبت ريح شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل، والثانية : ميكائيل، والثالثة : إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره، وأنا فيها. وعن عليّ أيضاً : قيل ليَّ ولأبي بكر يوم بدر : مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال. انتهى.
وقوله تعالى :﴿ والله شديدُ العقاب ﴾، يجوز أن يكون من كلام إبليس، وأن يكون مستأنفاً.
الإشارة : عادة الشيطان مع العوام أن يُغريهم على الطعن والإنكار على أولياء الله، وإيذائهم لهم، فإذا رأى غيرة الله على أوليائه نكص على عقبيه، وقال : إني منكم بريء ؛ إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب.
ثم ذكر مقالة المنافقين في شأن المسلمين، حيث خرجوا لغزوة بدر، فقال :
﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله : واذكروا ﴿ إذْ يقول المنافقون ﴾ من أهل المدينة، أو نفر من قريش كانوا أسلموا وبقوا بمكة، فخرجوا يوم بدر مع الكفار، منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو القبس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن ربيعة بن الأسود، وعلي بن أمية بن خلف، ﴿ و ﴾ هم ﴿ الذين في قلوبهم مرض ﴾ أي : شك ؛ لم تطمئن قلوبهم، بل بقي فيها شبهة، قالوا :﴿ غرَّ هؤلاء دينُهُم ﴾ أي : اغتر المسلمون بدينهم، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. فأجابهم الحق تعالى بقوله :﴿ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيزٌ ﴾ أي : غالب لا يذل من استجار به، وإن قلَّ، ﴿ حكيمٌ ﴾ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن دركه الفهم.
الإشارة : إذا عظم اليقين في قلوب أهل التقى أقدموا على أمور عظام، تستغرب العادة إدراكها، أو يغلب العطب فيها، فيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غرَّ هؤلاء طريقتهم، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز لا يُغلبْ، ولا يُغلبْ من انتسب إليه، وتوكل في أموره عليه، حكيم فلا يَخرج عن حكمته وقدرته شيء، أو عزيز لا يُذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ به، والتجأ إلى ذماره، حكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره، قاله في الإحياء. ثم قال : وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد هو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار، والتوكل على الواحد القهار. ه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر عاقبة أهل النفاق والريب، فقال :
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾
قلت : جواب ( لو ) محذوف أي : لرأيت أمراً عظيماً، و( الملائكة ) : فاعل ( يتوفى ) فلا يوقف على ما قبله، ويرجحه قراءة ابن عامر بالتاء، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير ( الله )، و( الملائكة ) مبتدأ، و( يضربون ) : خبر، والجملة : حال من ( الذين كفروا )، والرابط : ضمير الواو، وعلى هذا فيوقف على ما قبله، وعلى الأول ( يضربون ) : حال من الملائكة، ( وذُوقوا ) : عطف على ( يضربون ) على حذف القول، أي : ويقولون ذوقوا.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد، أو يا من تصح منكم الرؤية، حال ﴿ الذين كفروا ﴾ حين تتوفاهم ﴿ الملائكةُ ﴾ ببدر، أو مطلقاً، وهم ﴿ يضربون وجوهَهُم وأدبارَهم ﴾، أو حين يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، حال كونهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، أي : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر، فيعمونهم بالضرب، أو يضربون وجوههم وظهورهم، أو أستاهَهُم، لرأيت أمراً فظيعاً. ﴿ و ﴾ يقولون لهم :﴿ ذُوقوا ﴾ أي : باشروا ﴿ عذابَ الحريق ﴾ يوم القيامة ؛ بشارة لهم بما يلقون من العذاب في الآخرة. وقيل : تكون معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار منها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ذكر الحق جل جلاله حال الكاملين في العصيان في هذه الآية، وذكر في سورة النحل الكاملين في الطاعة بقوله :﴿ الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين ﴾ [ النحل : ٣٢ ] الآية، وسكت عن المخلطين، ولعلهم يرون طرفاً من هذا أو طرفاً من هذا، والله تعالى أعلم.
و( ذلك ) : مبتدأ، ( بما قدمت ) : خبر، و( أن الله ) : عطف على " ما " ؛ للدلالة على أن مقيدة بانضمامه إليه. انظر البيضاوي.
﴿ ذلك ﴾ العذاب إنما وقع بكم ﴿ بما ﴾ ؛ بسبب ﴿ قدمت أيديكم ﴾ أي : بما كسبتم من الكفر والمعاصي، ﴿ وأَنَّ الله ليس بظلام للعبيد ﴾ ؛ حتى يعذب بلا سبب، أو يهمل العباد بلا جزاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ذكر الحق جل جلاله حال الكاملين في العصيان في هذه الآية، وذكر في سورة النحل الكاملين في الطاعة بقوله :﴿ الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين ﴾ [ النحل : ٣٢ ] الآية، وسكت عن المخلطين، ولعلهم يرون طرفاً من هذا أو طرفاً من هذا، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حال المتقدمين من الجبابرة، فقال :
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ * ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾
قلت :( كدأب ) : خبر عن مضمر، أي : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، وهو عملهم وطريقتهم، التي دأبوا فيها، أي : داموا عليها.
يقول الحق جل جلاله : عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك، في استمرارهم على الكفر والمعاصي، كعادة ﴿ آل فِرعون والذين ﴾ مضوا ﴿ مِنْ قبلهم ﴾، ثم فسر دأبهم فقال :﴿ كفروا بآيات الله ﴾ الدالة على توحيده، المنزلة على رسله، ﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ كما أخذ هؤلاء، ﴿ إن الله قوي شديد العقاب ﴾ ؛ لا يغلبه في دفعه شيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، والشكر ؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه، كما قال الجنيد رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
( ذلك ) ؛ مبتدأ، و( بأنَّ الله ) : خبر، وقال سيبويه : خبر، أي : الأمر ذلك، والفاء سببية.
﴿ ذلك ﴾ العذاب الذي حل بهم، بسبب ذنوبهم وكفرهم ؛ لأن ﴿ الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم ﴾ فيبدلها بالنقمة، ﴿ حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي : حتى يبدلوا ما بأنفسهم، من حال الشكر إلى حال الكفر، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية، كتغيير قريش حالهم : من صلة الرحم، والكف عن التعرض لإيذاء الرسول ومن تبعه، بمعاداة الرسول، والسعي في إراقة دم من تبعه، والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها. إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة، ﴿ وأنَّ الله سميعٌ ﴾ لما يقولون :﴿ عليم ﴾ بما يفعلون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، والشكر ؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه، كما قال الجنيد رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
دأبهم في ذلك التغيير ﴿ كَدأْب آل فِرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آلَ فرعون ﴾ لمّا بدلوا وغيَّروا، ولم يشكروا ما بأيديهم من النعم، ﴿ وكلِّ ﴾ من الفرق المكذبة ﴿ كانوا ظالمين ﴾ ؛ فأغرقنا آل فرعون، وقتلنا صناديد قريش ؛ بظلمهم وما كنا ظالمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، والشكر ؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه، كما قال الجنيد رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.
ومن جملة كفران النعم، نقض العهد، كما أبان ذلك بقوله :
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ﴾ * ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾
قلت :( فهم لا يؤمنون ) : جملة معطوفة على جملة الصلة، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله ﴾ منزلة ﴿ الذين كفروا ﴾، تحقق كفرهم، وسبق به القدر، ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ أبداً ؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء. نزلت في القوم مخصوصين، وهم بنو قريظة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء : الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب... ﴾ الآية، أي : إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. هـ.

( والذين عاهدت ) : بدل بعضٍ من ( الذين كفروا ).
﴿ الذين عاهدتَّ منهم ﴾ أي : أخذت عَليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار، ﴿ ثم يَنقُضُونَ عهدَهم في كل مرةٍ ﴾ أي : يخونون عهدك المرة بعد المرة، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أُحد، وقالوا : نسينا، ثم عاهدهم، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعبُ بن الأشرف في ملأ منهم إلى مكة، فحالفوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم، ﴿ وهم لا يتقون ﴾ شؤم الغدر وتبعته، أو : لا يتقون الله في الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء : الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب... ﴾ الآية، أي : إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. هـ.

و( فشرد ) : جواب ( إما )، والتشريد : تفريق على اضطراب.
قال تعالى لنبيه الصلاة والسلام :﴿ فإما تَثقفنُهمْ ﴾ أي : مهما تصادفهم وتظفر بهم ﴿ في الحرب فشرِّدْ بهم ﴾ أي : فرِّق عنك من يُناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم، أو نكِّل بهم ﴿ من خَلْفَهم ﴾ ؛ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجرُ غيرهم ؛ ﴿ لعلهم يذكّرون ﴾ أي : لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء : الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب... ﴾ الآية، أي : إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. هـ.

﴿ وإما تَخَافَنَّ من قوم ﴾ معاهدين ﴿ خيانةً ﴾ أي : نقص عهد بأمارات تلوح لك، ﴿ فانبِذْ إليهم ﴾ أي : فاطرح إليهم عهدهم ﴿ على سواءٍ ﴾ أي : على عدل وطريق قصد في العداوة، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ، فإنه يكون خيانة منك، أو على سواء في العلم بنقض العهد، فتستوي معهم في العلم بنقض العهد، ﴿ إنَّ الله لا يُحب الخائنين ﴾ أي : لا يرضى فعلهم، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء : الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب... ﴾ الآية، أي : إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. هـ.

﴿ ولا تحسبن ﴾، يا محمد، ﴿ الذين كفروا سَبقُوا ﴾ قدرتنا، ونجوا من نكالنا ؛ ﴿ إِنهم لا يُعجزُون ﴾ أي : لا يفوتون في الدنيا والآخرة، فلا يعجزون قدرتنا، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم، بل اللَّهُ محيط بهم أينما حلوا. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء : الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب... ﴾ الآية، أي : إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. هـ.

ثم أمرهم بالاستعداد للحرب لمن نقض العهد، فقال :
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأعدوا لهم ﴾، أي : لناقضي العهد، أو لمطلق الكفار، ﴿ ما استطعتم من قوة ﴾، أي : ما قدرتم عليه من كل ما يتقوى به في الحرب. وعن عقبة ابن عامر، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر :" ألاَ إنَّ القُوَّة الرَّمْي " ١ قالها ثلاثاً، ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر ؛ لأنه أعظم القوى، ﴿ و ﴾ أعدوا لهم أيضاً ﴿ من رباط الخيل ﴾ أي : من الخيل المربوطة للجهاد، وهو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، بمعنى مفعول، أو مصدر، أو جمع ربيط ؛ كفصيل وفصال.
والمراد : الحث على استعداد الخيل العتاق التي تربط وتعلف بقصد الجهاد، وهو من جملة القوة، فهو من عطف الخاص على العام، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب. ولذلك قال :﴿ تُرهِبون به ﴾ أي : تخوفون بذلك الأعداء، أو بما ذكر من الخيل المربوطة، ﴿ عدو الله وعدوَّكم ﴾ يعني كفار مكة، ﴿ وآخرين من دُونهم ﴾ أي : من غيرهم من الكفرة، كفارس والروم وسائر الكفرة، ﴿ لا تعلمونَهم ﴾، أي ؛ لا تعرفونهم اليوم، ﴿ الله يعلمهم ﴾، وسيمكنكم منهم، فتقاتلونهم وتملكون ملكهم، ﴿ وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله ﴾، في شأن الاستعداد، وغيره مما يستعان به على الجهاد، ﴿ يُوف إليكم ﴾ جزاؤه، ﴿ وأنتم لا تُظلمون ﴾ بتضييع عمل أو نقص أجر، بل يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة، بسبعمائة أو أكثر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وأعدوا لجهاد القواطع والعلائق التي تعوقكم عن الحضرة، ما استطعتم من قوة، وهو العزم على السير من غير التفات، ومن رباط القلوب في حضرة الحق، تُرهبون به عدو الله، وهو الشيطان، وعدوكم، وهي النفس، وآخرين من دونهم : الحظوظ واللحوظ وخفايا خدع النفوس، لا تعلمونهم، الله يعلمهم ؛ كالرياء والشرك الخفي، فإنه يدب دبيب النمل، وما تنفقوا من شيء يُوف إليكم أضعافاً مضاعفة، بالعز الدائم والغنى الأكبر، وأنتم لا تُظلمون.
وقال الورتجبي : أَعلم الله المؤمنين والعارفين استعداد قتل أعداء الله، وسمى آلة القتال بقوة، وتلك القوة قوة الإلهية التي لا ينالها العارف من الله إلا بخضوعه بين يديه، بنعت الفناء في جلاله، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباس عظمته ونور كبريائه وهيبته، ويغريه إلى الدعاء عليهم، ويجعله منبسطاً، حتى يقول في سره : إلهي خذهم، فيأخذهم بلحظة، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه، ويسلي قلب وليه بتفريجه من شرور مُعارضيه ومنكريه، وذلك سهم رمى نفوس الهمة عن كنانة الغيرة، كما رمى نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى منكريه حين قال :" شاهت الوجوه "، وهذا الرمي من الله بقوله :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾.
سمعت أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان في غزو، وغلب المشركون على المؤمنين، فقيل له : لو دعوت الله، فنزل عن دابته وسجد، فهُزم المشركون في لحظة، وأُخذوا جميعاً، وأُسروا، وقُتلوا.
وأيضاً : وأعدوا : أي اقتبسوا من الله قوة من قوى صفاته لنفوسكم حتى يقويكم في محاربتها. قال أبو علي الروذباري، في قوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾، فقال : القوة هي الثقة بالله، قيل ظاهر الآية : إنه الرمي بسهام القِسي. وفي الحقيقة : رمي سهام الليالي في الغيب ؛ بالخضوع والاستكانة، ورمي القلب إلى الحق ؛ معتمداً عليه، راجعاً إليه عما سواه. ه.
ثم بيّن أن المعول على الله ونصرته، لا على السلاح والآلات بقوله :﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾، أي : قواك بقوته الأزلية، ونصرك بنصرته الأبدية، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك. ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم، وجمعهم على محبة الله ومحبة رسوله، بعد تباينها بتفرقة الهموم في أودية الامتحان، بقوله :﴿ وألَّف بين قلوبهم ﴾. وقال القشيري : الإشارة بقوله :﴿ تُرهبون ﴾ : إلى أنه لا يجاهد على رجاء غنيمةٍ ينالها، أو إشفاء صدر عن قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هي العليا. ه.
١ أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٦٧، وأبو داود في الجهاد باب ٢٣، والترمذي في تفسير سورة ٨، باب ٥، وابن ماجه في الجهاد باب ١٩، والدارمي في الجهاد باب ١٤، وأحمد في المسند ٤/١٥٧..
ثم دل على الصلح لمصلحة، فقال :
﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ * ﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإنْ جَنَحُوا للسَّلمْ ﴾ أي : وإن مالوا للصلح ﴿ فاجْنَح لها ﴾ أي ؛ فصالحهم، ومل إلى المعاهدة معهم، وتوكل على الله ؛ فلا تخف منهم أن يكونوا أبطنوا خداعاً ؛ فإن الله يعصمك من مكرهم ؛ ﴿ وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٢ ]، ﴿ إنه هو السميع ﴾ لأقوالهم، ﴿ العليم ﴾ بأحوالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها ؛ بأن ألقت السلاح، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح، وعقدت الرجوع عن هواها، والدؤوب على طاعة مولاها، فالواجب عقد الصلح معها، وتصديقها فيما تأمر به أو تَنْهَى عنه، مما يرد عليها، مع التوكل على مولاها، فإن خدعت بعد ذلك، أو رجعت إلى مألوفها، فالله يكفي أمرها، ويقوي صاحبها على درها، إما بسبب شيخ كامل، أو أخ صالح، فإن الصحبة فيها سر كبير، لا سيما مع أهل الصفاء، الذين صفت قلوبهم، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد، وحسن الظن والاعتقاد، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية. وبالله التوفيق.
﴿ وإنْ يُريدُوا أن يخدعُوك ﴾ بعد الصلح ﴿ فإن حَسْبَكَ الله ﴾ أي : فحسبك الله وكافيك شرهم، ﴿ هو الذي أيدك ﴾ أي : قواك ونصرك ﴿ بنصرِه ﴾ ؛ تحقيقاً، ﴿ وبالمؤمنين ﴾ ؛ تشريفاً، أو ﴿ بنصره ﴾ قدرة، ﴿ وبالمؤمنين ﴾ حكمةً، والقدرة والحكمة منه وإليه، فلا دليل عليه للمعتزلة حيث نسبوا الفعل للعبد، وقالوا : العطف يقتضي المغايرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها ؛ بأن ألقت السلاح، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح، وعقدت الرجوع عن هواها، والدؤوب على طاعة مولاها، فالواجب عقد الصلح معها، وتصديقها فيما تأمر به أو تَنْهَى عنه، مما يرد عليها، مع التوكل على مولاها، فإن خدعت بعد ذلك، أو رجعت إلى مألوفها، فالله يكفي أمرها، ويقوي صاحبها على درها، إما بسبب شيخ كامل، أو أخ صالح، فإن الصحبة فيها سر كبير، لا سيما مع أهل الصفاء، الذين صفت قلوبهم، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد، وحسن الظن والاعتقاد، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية. وبالله التوفيق.
﴿ وألَّفَ بين قلوبهم ﴾ مع ما كان فيها من زمن الجاهلية من المعصية والضغائن والتهالك على الانتقام، حتى لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، ثم صاروا كنفس واحدة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى :﴿ لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ﴾، في إصلاح ما بينهم، ﴿ ما ألفت بين قلوبهم ﴾ ؛ لتناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في
إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة بينهم، ﴿ ولكنَّ الله ألفَ بينهم ﴾ بقدرته البالغة ؛ فإنه المالك للقلوب يُقبلها كيف يشاء. ﴿ إنه عزيز ﴾ تام القدرة، لا يَعصي عليه ما يريده، ﴿ حكيم ﴾ يعلم كيف ينبغي أن يفعل ما يريده.
قيل : إن الآية نزلت في الأوس والخزرج، كان بينهم إِحنٌ وضغائن لا أمد لها، ووقائع هلكت فيها ساداتهم، فأنساهم الله ذلك، وألَّف بينهم بالإسلام، حتى تصادقوا وصاروا أنصار الدين. وبالله التوفيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها ؛ بأن ألقت السلاح، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح، وعقدت الرجوع عن هواها، والدؤوب على طاعة مولاها، فالواجب عقد الصلح معها، وتصديقها فيما تأمر به أو تَنْهَى عنه، مما يرد عليها، مع التوكل على مولاها، فإن خدعت بعد ذلك، أو رجعت إلى مألوفها، فالله يكفي أمرها، ويقوي صاحبها على درها، إما بسبب شيخ كامل، أو أخ صالح، فإن الصحبة فيها سر كبير، لا سيما مع أهل الصفاء، الذين صفت قلوبهم، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد، وحسن الظن والاعتقاد، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :( حسبك ) : مبتدأ، و( الله ) : خبر، ويصح العكس، و( من اتبعك ) : إما عطف على ( الله )، أي : كفاك الله والمؤمنون، أو في محل نصب على المفعول معه، أو في محل جر ؛ عطف على الضمير، على مذهب الكوفيين، أي : حسبك وحسب من اتبعك الله، والأول : أصح.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها النبي حَسْبُكَ الله ﴾ أي : كافيك الله، فلا تلتفت إلى شي سواه، أي : لَمّا مَنَنْتُ عليك بائتلاف قلوب المؤمنين في نصرتك، فلا تلتفت إليهم في محل التوحيد، فإني حسبك وحدي بغير معاونة الخلق، فينبغي أن تفرد القدم عن الحدوث في سيرك مني إليَّ، وأنا حسب المؤمنين عن كل ما دوني، وإن كان مَلَكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، ولا ينبغي في حقيقة التوحيد النظر إلى غيري، إنما أيدتك بواسطة المؤمنين، وذَكَرتُهم معي ؛ تشريفاً لأمتك، وستراً لقدرتي، وإظهار لكمال حكمتي، وإلا فقدرتي لا يفوتها شيء، ولا تتوقف على شيء ؛ " جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل ".
قال البيضاوي : نزلت الآية تأييداً في غزوة بدر، وقيل : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه. فنزلت. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في إسلامه.
الإشارة : ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب به ورثته الكرام، من الاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه، وتصحيح عقد التوحيد، والاعتماد على الكريم المجيد. والله تعالى أعلم.
ثم أمره بالتحريض على الجهاد، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مائَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ * ﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾
قلت : التحريض : هو الحث على الشيء والمبالغة في طلبه، وهو من الحرض، الذي هو الإشفاء على الهلاك.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها النبي حرّض المؤمنينَ ﴾ أي : حثهم ﴿ على القتال ﴾ أي : الجهاد. ثم أمرهم بالصبر والثبات للعدو بقوله :﴿ إنْ يكنْ منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا ﴾، وهذا خبر بمعنى الأمر، أي : يقاتل العشرون منكم المائتين، والمائة الألف، وليثبتوا لهم، ولا يصح أن يكون خبراً محضاً ؛ إذ لو كان خبراً محضاً لَمَا تخلف في الواقع، ولو في جزئية ؛ إذ خبره تعالى لا يخلف.
قال الفخر الرازي : حَسُن هذا التكليف لِما كان مسبوقاً بقوله :﴿ حسبُكَ الله ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ ؛ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً ؛ لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إذايته. ه.
وإنما كان القليل من المؤمنين يقاوم الكثير من الكفار ﴿ بأنهم ﴾ ؛ بسبب أنهم ﴿ قوم لا يفقهون ﴾، أي : لأنهم جهلة بالله واليوم الآخر، فلا يثبتون ثبات المؤمنين، رجاء الثواب والترقي في الدرجات، قتلوا أو ماتوا، بخلاف الكفار ؛ فلا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم، الذي هو الجهاد الأكبر، وإنما كان أكبر ؛ لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله، بخلاف النفس فإنها جاءت تحت الرماية خفية عدو حبيب، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها، ويهونوا لهم شأنها، فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت، وسهل علاجها، وإذا خِفت منها، وسوَّفت لها، طالت عليك وملكتك، ولا بد في جهادها من شيخ يريك مساوئها، ويعينك بهمته على قتلها، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها، وهي المعرفة بسيدها وخالقها. والله تعالى أعلم.
ولمّا كلفهم بهذا في أول الإسلام، وشقَّ ذلك عليهم، خفف عنهم فقال :﴿ الآن خففَ الله عنكم وعَلِمَ أن فيكم ضعفاً ﴾ ؛ فلا يقاوم الواحدُ منكم العشرة، ولا المائةُ الألفَ، ﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يَغْلِبُوا مائتين، وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله ﴾ ؛ أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين. وقيل : كان فيهم قلة، فلما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة ؛ للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد، والضعف : ضعف البدن، لا ضعف القلب.
قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار، وبقي العشر. ولذلك قال تعالى هنا :﴿ والله مع الصابرين ﴾ أي : بالنصر والمعونة، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده ؟.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم، الذي هو الجهاد الأكبر، وإنما كان أكبر ؛ لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله، بخلاف النفس فإنها جاءت تحت الرماية خفية عدو حبيب، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها، ويهونوا لهم شأنها، فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت، وسهل علاجها، وإذا خِفت منها، وسوَّفت لها، طالت عليك وملكتك، ولا بد في جهادها من شيخ يريك مساوئها، ويعينك بهمته على قتلها، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها، وهي المعرفة بسيدها وخالقها. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على أخذ الفداء من الأسارى، فقال :
﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ * ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ما كان لنبي أن يكونَ له أسرى ﴾ يقبضها ﴿ حتى يُثخِنَ ﴾ أي : يبالغ ﴿ في الأرض ﴾ ؛ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله. ﴿ تُريدون ﴾ بقبض الأسارى ﴿ عَرَض الدنيا ﴾ ؛ حطامها بأخذ الفداء منهم، ﴿ والله يُريدُ الآخرة ﴾ أي : يريد لكم ثواب الآخرة، الذي يدوم ويبقى، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه، ﴿ والله عزيز ﴾ يغلب أولياءه على أعدائه، ﴿ حكيم ﴾ يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها، كما أمر بالإثخان، ومَنَعَ مِنْ أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخيَّر بينه وبين المنِّ لما تحولت الحال، وصارت الغلبة للمؤمنين.
رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أُتِيَ يوم بدر بسَبْعِينَ أسِيراً، فيهم العَبَّاس وعَقيلُ بن أَبي طَالِبٍ، فاستأْذن فِيهِمْ ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه : قَومُكَ وأهلُك، اسْتَبِقهِمْ، لعلَّ الله يَتُوب عَلَيْهِمْ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أَصْحَابَكَ. وقال عمر رضي الله عنهم : اضْربْ أعْنَاقَهُمْ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر، وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ، فمكِّني من فُلاَن لنَسِيبٍ لَهُ ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ فلم يَهْو ذلك رسول الله صلى عليه وسلم، وقال :" إنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ من كُلّ لين، وإن الله ليُشَدِّدُ قُلوب رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ من الحِجَارَةِ، وإن مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم "، قال :﴿ فَمَن تَبِعَنيِ فَإِنَّهُ مِنّيِ وَمَن عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ]، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح، قال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَى الأَرضِ مِنَ الكَفِرينَ دِيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]. فخيَّر أصحابه، فأخذوا الفداء، فنزلت، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر يَبْكِيانِ، فقال : يا رسول الله : أخْبِرْنيِ، فَإنْ أجد بُكاء بَكَيْتُ، وإلا تَبَاكيْتُ ؟ فقال :" أبكِي على أصْحَابِكَ في أخْذِهُمُ الفداء، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدْنَى مِنْ هذِهِ الشَّجَرة " ١ لِشَجَرَة قَرِيبَةٍ.
والآية دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يجتهدون، وأنه قد يكون الخطأ، ولكن لا يقرون عليه. قاله البيضاوي. قال القشيري : أخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزاً لوجوب العصمة، ولكن قتلهم كان أَوْلى. ه. وقال ابن عطية : إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم، لا على الفداء ؛ لأن الله تعالى قد كان خيَّرهم، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين، كما تقدم في سورة آل عمران٢. ثم قال : والنبي عليه الصلاة والسلام خارج عن ذلك الاستبقاء. انظر تمامه في الحاشية.
فإن قلت : إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم، وهم لم يرتكبوا محظوراً ؟ فالجواب : أن العتاب تابع لعلو المقام، فالخواص يُعاتبون على المباح، إن كان فعله مرجوحاً، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم في أمر دنيوي، وهو الفداء، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه، ويدل عليه قوله :﴿ تُريدون عَرَض الدنيا ﴾، وهذا إنما كان في بعضهم، وجُلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم، عوضاً عن الدنيا، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاه، أو جمع المال، والتمتع بالحظوظ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده، وتعجيل العقوبة له، حتى إذا تداركه الله بلطفه، وسبقت له عناية من ربه، فيقال له حينئذٍ : لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.

١ أخرجه أحمد في المسند ١/٣٨٣..
٢ انظر الجزء الأول، تفسير الآية ١٦٥ من سورة آل عمران..
ثم قال تعالى في تمام عتابهم :﴿ لولا كتابٌ من الله سبق ﴾ أي : لولا حكم الله سبق إثباته في اللوح المحظوظ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده، أو أنه سيحل لكم الغنائم، أو ما سبق في الأزل من العفو عنكم، ﴿ لمسّكم فيما أخذتُم ﴾ ؛ من الفداء أو من الأسارى، ﴿ عذابٌ عظيم ﴾. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال، حيث نزلت :" لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ " ؛ وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم، عوضاً عن الدنيا، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاه، أو جمع المال، والتمتع بالحظوظ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده، وتعجيل العقوبة له، حتى إذا تداركه الله بلطفه، وسبقت له عناية من ربه، فيقال له حينئذٍ : لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.
ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال :﴿ فكلوا مما غنمتُم ﴾ من الكفار، ومن جملته : الفدية، فإنها من الغنائم، ﴿ حلالاً طيباً ﴾ أي : أكلاً حلالاً، فائدته : إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على المتقدمين. رُوي أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت :﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾، ووصفة بالطيب ؛ تسكيناً لقلوبهم، وزيادة في حليتها. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" أُعْطِيتُ خَمْساً لِيَ لَمْ يُعْطَهُنَّ أحّدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي : أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهُوراً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وخُصصتُ بِجَوَامعِ الكلمِ " ١. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى :﴿ واتقوا الله ﴾ في مخالفته ؛ ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي : يغفر لكم ما فرط، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم ؛ توسعةً عليكم. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم، عوضاً عن الدنيا، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاه، أو جمع المال، والتمتع بالحظوظ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده، وتعجيل العقوبة له، حتى إذا تداركه الله بلطفه، وسبقت له عناية من ربه، فيقال له حينئذٍ : لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.

١ أخرجه البخاري في التيمم باب ١..
ثم بشر الأسارى بخلف ما أخذ منهم من الفداء بأكثر منه، فقال :
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيا أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :( أسْرى ) : جمع أسير، ويجمع على أسارى. وقرئ بهما، و( خيراً مما ) : اسم تفضيل، وأصله : أًخْيَر، فاستغنى عنه بخير، وكذلك شر ؛ أصله : أشر، قال في الكافية :
وغالباً أغناهم خير وشر *** عن قولهم : أخيرُ منه وأشر
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ الذين أخذتم منهم الفداء :﴿ إنْ يعلم اللَّهُ في قلوبكم خيراُ ﴾ من الفداء.
رُوي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه ؛ كلَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، وابني أخويه : عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال : يا محمد، تركتني أتكففُ قريشاً ما بقيت، فقال له عليه الصلاة والسلام : وأين الذهب الذي دفعتَهُ لأُمِّ الفضلِ وقتَ خُرُوجك، وقلت لها : لا أدْري ما يصيبني في وَجْهي هذا، فإن حَدَثَ بي حدثٌ فهو لك، ولعبدِ الله، وعُبيد الله، والفضل، وقُثَم، قال له وما يُدْريكَ ؟ قال : أخبرني به ربي تعالى، قال : فأشهدُ أنكَ صادِقٌ، وأن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله، واللَّهِ لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سَوَادِ اللِّيْلِ.
قال العباس : فأبْدَلَني الله خيراً من ذلك، أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله، ولي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم يضرب أي : يتجر في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أَنَّ لي بها جميعَ أموالِ أهل مكَّة، وأنا أنتظرُ المغفرة مِنْ ربكم، يعني : الموعود بقوله تعالى :﴿ وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال للفقراء المتوجهين إلى الله، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم : إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، كصدق وإخلاص، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر، والسر الأشهر، الذي هو الفناء في الله، والغيبة عما سواه، وثمرته : المشاهدة التي تصحبها المكالمة، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته، وزكت تجارته، مع غفران الذنوب، وتغطية المساوئ والعيوب. وبالله التوفيق.

١ أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/٣٢٤..
﴿ وإنْ يُريدوا ﴾ ؛ الأسارى ﴿ خيانتك ﴾ ؛ بنقض ما عهدوك به، ﴿ فقد خانوا الله من قبلُ ﴾ ؛ بالكفر والمعاصي ﴿ فأمْكَنَ منهم ﴾ وأمكنك من ناصيتهم، فقُبِضوا وأُسروا ببدر، ﴿ والله عليمٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء، ﴿ حكيمٌ ﴾ فيما دبر وأمضى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقال للفقراء المتوجهين إلى الله، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم : إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، كصدق وإخلاص، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر، والسر الأشهر، الذي هو الفناء في الله، والغيبة عما سواه، وثمرته : المشاهدة التي تصحبها المكالمة، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته، وزكت تجارته، مع غفران الذنوب، وتغطية المساوئ والعيوب. وبالله التوفيق.
ثم بين فضائل المهاجرين والأنصار، ومنزلة من آمن ولم يهاجر، والذين هاجروا بعد الحديبية، تتميما للتحريض على الجهاد، فبدأ أولا بالمهاجرين والأنصار فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ * ﴿ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا ﴾ أوطانهم في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة الدين بالجهاد، ﴿ وجاهدوا بأموالهم ﴾ فصرفوها في الإعداد للجهاد، كالكراع والسلاح، وأنفقوها على المجاريح، ﴿ وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ؛ بمباشرة القتال، ﴿ والذين آوَوْا ﴾ رسول الله ومن هاجر معه، وواسوهم بأموالهم ﴿ ونصرُوا ﴾ دين الله ورسوله، ﴿ أولئك بعضُهم أولياءُ بعض ﴾ في التعاون والتناصر، أو في الميراث.
وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب، حتى نسخ بقوله :﴿ وَأُولُوا الأَرحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبعضٍ ﴾ [ الأحزاب : ٦ ].
ثم ذكر من لم يهاجر فقال :﴿ والذين آمنوا ولم يُهاجِروا ما لكم من ولايتهم من شيء ﴾ ؛ لا في النصرة، ولا في الميراث، ﴿ حتى يُهاجِروا ﴾ إليكم، ﴿ وإنِ استنصروكم ﴾ على المشركين ﴿ في ﴾ إظهار ﴿ الدين فعليكم النصرُ ﴾ أي : فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم، لئلا يستولي الكفر على الإيمان، ﴿ إلا على قوم ﴾ كان ﴿ بينكم وبينهم ﴾ عهد ﴿ ميثاق ﴾، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم. فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان، ﴿ والله بما تعملون بصيرٌ ﴾ لا يخفى عليه من أوفى ومن نقص.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل التجريد، ظاهراً وباطناً، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة وآوَوا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم، ونصروا الدين بالتذكير والإرشاد والدلالة على الله، أينما حلوا من البلاد، أولئك بعضهم أولياء بعض في العلوم والأسرار، وكذلك في الأموال. فقد قال بعض الصوفية :( الفقراء : لا رزق مقسوم، ولا سر مكتوم ). وهذا في حق أهل الصفاء من المتحابين في الله.
والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين، فقد نهى الله عن موالاتهم في علوم الأسرار وغوامض التوحيد ؛ لأنهم لا يطيقون ذلك ؛ لشغل فكرتهم الأسباب أو بالعلوم الرسمية، نعم، إن وقعوا في شبهة أو حيرة، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير في اعتقادهم. والله تعالى أعلم.

﴿ والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعضِ ﴾ في الميراث. ويدل بمفهومه، على منع التوارث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين. ﴿ إلا تفعلُوه ﴾ أي : إلا تفعلوه ما أُمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر، ﴿ تكن فتنةٌ في الأرضِ ﴾ ؛ باستيلاء المشركين على المؤمنين، ﴿ وفسادٌ كبير ﴾ بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم، أو : إلاّ تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق، تكن فتنة في الأرض، فلا يفي أحد بعهد أبداً، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أهل التجريد، ظاهراً وباطناً، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة وآوَوا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم، ونصروا الدين بالتذكير والإرشاد والدلالة على الله، أينما حلوا من البلاد، أولئك بعضهم أولياء بعض في العلوم والأسرار، وكذلك في الأموال. فقد قال بعض الصوفية :( الفقراء : لا رزق مقسوم، ولا سر مكتوم ). وهذا في حق أهل الصفاء من المتحابين في الله.
والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين، فقد نهى الله عن موالاتهم في علوم الأسرار وغوامض التوحيد ؛ لأنهم لا يطيقون ذلك ؛ لشغل فكرتهم الأسباب أو بالعلوم الرسمية، نعم، إن وقعوا في شبهة أو حيرة، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير في اعتقادهم. والله تعالى أعلم.

ثم أثنى على المهاجرين والأنصار، فقال :
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
قال البيضاوي : لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام، أي : مهاجرين، وأنصار، ومن آمن ولم يهاجر بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم، بتحصيل مقتضاه من الهجرة، والجهاد، وبذل المال، ونصرة الحق، ووعد لهم الوعد الكريم، فقال :﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ ؛ لا تبعة له، ولا فتنة فيه.
ثم ألحق بهم في الأمرين من يلتحق بهم ويتسم بسمتهم فقال :
﴿ والَّذيِنَ ءَامَنُوا مِن بَعدُ وَهَاجَرُوا وَجَهَدُوا مَعَكُم فَأُولَئِكَ مَنكُم. . . ﴾ أي : من جملتكم أيها المهاجرين والأنصار. ه.
ثم نسخ الميراث المتقدم، فقال :
﴿. . . وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأولُو الأرحامِ ﴾ من قرابة النسب، ﴿ بعضُهم أوْلى ببعض ﴾ في التوارث من الأجانب، وظاهره : توريث ذوي الأرحام، كالخال والعمة وسائر ذوي الأرحام، وبه قال أبو حنيفة، ومنعه مالك، ورأى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي في النساء، أو يراد بالأولية : غير الميراث، كالنصرة وغيرها. وقوله :﴿ في كتابِ الله ﴾ أي : في القرآن، أو اللوح المحفوظ. ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ من أمر المواريث وغيرها، أو عليم بحكمة إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولاً، بالقربة ثانياً، والله تعالى أعلم.
الإشارة : الناس ثلاثة : عوام، وخواص، وخواص الخواص. فالعوام : هم الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية. والخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية، ولم ينهضوا إلى مقام التجريد. وخواص الخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية وتجردوا ظاهراً وباطناً، خربوا ظواهرهم، وعمّوا بواطنهم، وهم الذين خاضوا بحار التوحيد، وذاقوا أسرار التفريد. وهم الذين أشار المجذوب إلى مقاومهم بقوله :
يا قارئين علم التوحيد *** هنا البحور إليَّ تغْبي
هذا مقام أهل التجريد *** الواقفين مع ربي
فأهل التجريد، كالمهاجرين والأنصار، وأهل الأسباب من أهل النسبة، كمن لم يهاجر من الصحابة، ومن تجرد بعدُ ودخل معهم، والتحق بهم. قال تعالى ؛ ﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ﴾، ومن لا نسبة له كمن لا صحبة له، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله، وصحبه، وسلم تسليماً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
Icon