تفسير سورة النّور

التفسير المنير
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الانصراف، وتفويضه بالإذن لمن شاء، وتعظيم مجلسه ومناداته بأدب جم وحياء وتبجيل يليق به وبرسالته.
ميزة سورة النور
[سورة النور (٢٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
الإعراب:
سُورَةٌ أَنْزَلْناها سُورَةٌ: خبر مبتدأ محذوف، وأَنْزَلْناها: صفة ل سُورَةٌ وتقديره: هذه سورة منزلة. وقرئ (سورة) بالنصب على تقدير فعل، وأَنْزَلْناها: مفسر له، وتقديره: أنزلنا سورة أنزلناها، أو اتبعوا سورة، أو اتل سورة.
وهذا على رأي الجمهور القائلين: الابتداء بالنكرة لا يجوز، وقال الأخفش: لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة: مبتدأ، وأنزلنا: خبره.
البلاغة:
سُورَةٌ.. التنكير للتفخيم، أي هذه سورة عظيمة الشأن أنزلها الله. وفيه تنبيه على الاعتناء بها، ولا ينفي الاعتناء بما عداها.
أَنْزَلْناها... وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إطناب لتأكيد العناية بها، وهو ذكر للخاص بعد العام للاهتمام به.
المفردات اللغوية:
سُورَةٌ السورة: طائفة من آيات القرآن، محددة البدء والنهاية شرعا بالتوقيف أي النقل الثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم والوحي الإلهي بوساطة جبريل عليه السلام. أَنْزَلْناها أعطيناها الرسول وأوحينا بها إليه، والتعبير بالإنزال الذي هو صعود إلى نزول وإشارة إلى العلو، للدلالة على أن هذا القرآن من عند الله المتعالي على كل شيء، وكل من دونه نازل عنه في المرتبة، فلا يفهم من ذلك أنه تعالى في جهة.
121
وَفَرَضْناها الفرض: التقدير، أو قطع الشيء الصلب، والمراد هنا الإيجاب أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. وقرئ وَفَرَضْناها بالتشديد لكثرة المفروض فيها آياتٍ جمع آية، وهي العلامة، والمراد هنا جملة من القرآن الكريم متصلة الكلام تحقق غرضا معينا.
بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون وتتعظون وتتقون المحارم، ولعل هنا يراد بها الإعداد والتهيئة.
التفسير والبيان:
هذه السورة أوحيناها وأعطيناها الرسول صلّى الله عليه وسلم وفرضنا ما فيها من أحكام كأحكام الزنى والقذف واللعان والحلف على ترك الخير والاستئذان، وغض البصر، وإبداء الزينة للمحارم وغيرهم، وإنكاح الأيامى، واستعفاف من لم يجد نكاحا، ومكاتبة الأرقاء، وإكراه الفتيات على البغاء، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، والسلام على المؤمنين.
وأنزلنا فيها دلائل واضحة، وعلامات بينة على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته تعالى. وتكرار وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لكمال العناية بشأنها، كما هي الحال في ذكر الخاص بعد العام.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن سورة النور متضمنة آيات بينات ترشد إلى النظام الأقوم والسلوك الأمثل في الأسرة والمجتمع، يقصد بها تحقيق العفاف والصون وحماية العرض، واتقاء المحرّمات، وتوفير السكينة والطمأنينة القلبية البعيدة عن الشواغل والهواجس الشيطانية الداعية إلى المعصية والرذيلة.
كما أن في هذه الأحكام تذكيرا وعظة للمؤمنين، وتربية للنفوس، وتحقيقا للتقوى التي يستشعر بها المؤمن التقي جلال الله وعظمته، وعلمه وقدرته،
122
وحسابه على كل صغيرة وكبيرة، لهذا افتتحت السورة بما ينبه على العناية بها، والاهتمام بأحكامها وهي ما يأتي:
الحكم الأول والثاني حد الزنى وحكم الزناة
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢ الى ٣]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
الإعراب:
الزَّانِيَةُ.. مبتدأ، خبره مقدم محذوف، أي فيما يتلى عليكم الزانية والزاني. أو خبره:
فَاجْلِدُوا والفاء زائدة، فاء الفصيحة، أفصحت عن جواب سائل سمع حكم الزاني، فقال:
فكيف الحكم؟ وصلح هذا الفعل أن يكون خبرا للمبتدأ، وإن كان أمرا، بتقدير: أقول: فاجلدوا، أو يجعله محمولا على المعنى، كأنه يقول: الزانية والزاني كل واحد منهما مستحق للجلد. وأل في الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي موصولة، ونظرا لشبه كل منهما بالشرط دخلت الفاء في الخبر.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحريض وإغراء.
المفردات اللغوية:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أي غير المحصنين، والزنى: مقصور في اللغة الفصحى، وهي لغة الحجازيين، وقد يمدّ في لغة أهل نجد، والزنى من الرجل: وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك. والزنى من المرأة: تمكينها الرجل أن يزني بها. وإنما قدم الزانية لأن الزنى في الأغلب
123
يكون بتعرض المرأة للرجل وعرض نفسها عليه بأساليب متنوعة، ولأن مفسدة الزنى وعاره يصيبها أكثر من الرجل، فهي المادة الأصلية في الزنى.
فَاجْلِدُوا الجلد: ضرب الجلد، وهو حكم البكر غير المحصن، لما ثبت في السنة أن حدّ المحصن هو الرجم. والإحصان: بالحرية والبلوغ والعقل والدخول في نكاح صحيح، وبالإسلام عند الحنفية.
رَأْفَةٌ شفقة وعطف. فِي دِينِ اللَّهِ في حكمه وطاعته. وَلْيَشْهَدْ يحضر عَذابَهُما الجلد. طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة: تطلق على الواحد فأكثر، والمراد هنا جمع يحصل به التشهير، وأقلها ثلاثة. وحضور الطائفة: زيادة في العقاب لأن التشهير قد يؤثر أكثر مما يؤثر التعذيب.
لا يَنْكِحُ يتزوج، أي أن الغالب المناسب لكل من الزانية والزاني نكاح أمثاله، فإن التشابه علة الألفة والتضام، والمخالفة سبب النفرة. وقدم الزاني هنا لأن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة في الزواج بالنساء لأن الرجل أصل فيه لأنه الراغب والطالب. وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي حرم نكاح الزواني على المؤمنين الأخيار لأنه تشبه بالفساق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.
سبب النزول: نزول الآية (٣) :
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً:
أخرج النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول (أو أم مهدون) وكانت تسافح، فأراد رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فأنزل الله: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد، يحمل من الأنبار إلى مكة حتى يأتيهم، وكانت امرأة بمكة صديقة له يقال لها عناق، فاستأذن النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينكحها، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ
124
مُشْرِكَةً
الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا مرثد: «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة» الآية، فلا تنكحها.
وقال المفسرون: الآية إما أنها نزلت في مرثد بن أبي مرثد المذكور، وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبي صلّى الله عليه وسلم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء اللائي كن بالمدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وظاهر الآية تحريم العفيفة على الزاني، والزانية على العفيف.
التفسير والبيان:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ: هذه الآية شروع في بيان الأحكام التي أشير إليها في الآية السابقة: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها، وهي تبين حد الزناة.
والمعنى أن عقوبة الزانية والزاني الحرين البالغين العاقلين البكرين غير المحصنين بالزواج هي الجلد لكل منهما مائة جلدة. والحكمة في البدء في حد الزنى بالمرأة وفي حد السرقة بالرجل لأن دواعي الزنى تحدث غالبا من المرأة، وعاره عليها أشد، وأثره فيها أدوم، وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال، وهم عليها أجرأ من النساء وأخطر، فقدموا عليهن.
وظاهر الآية أن حد الزناة مطلقا هو الجلد مائة، لكن ثبت في السنة القطعية المتواترة التفريق بين حد المحصن وغير المحصن، أما حد المحصن فهو الرجم بالحجارة حتى الموت، بالسنة القولية والفعلية
أخرج البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة».
وأخرج أصحاب الكتب الستة ما عدا ابن ماجه، ومالك في الموطإ وأحمد في مسنده عن أبي هريرة
125
وزيد بن خالد الجهني أن أعرابيين أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أحدهما:
يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا- أجيرا- على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمئة شاة ووليدة- أمة- فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا: الرجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك مائة جلدة، وتغريب عام، واغد يا أنيس- رجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها.
وروى جماعة من الصحابة في الصحاح وغيرها بالنقل المتواتر أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف بالزنى أمام الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو في المسجد أربع مرات، فأمر الرسول برجمه.
وروى مسلم وأحمد وأبو داود عن بريدة أن امرأة من بني غامد أقرت بالزنى، فرجمها الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد أن وضعت.
وأنكر الخوارج مشروعية حد الرجم لأنه لا يتنصف، فلا يصح أن يكون حدا للمحصنات من الحرائر، والله تعالى جعل حد الإماء نصف حد المحصنات الحرائر في قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء ٤/ ٢٥]، ولأن الرجم لم يذكر في القرآن في حد الزنى، ولأن آية الجلد عامة لكل الزناة، فلا تخصص بخبر الواحد المروي في حد الرجم.
ورد الجمهور على تلك الأدلة بأن التنصيف وارد في الجلد، فبقي ما عداه وهو الرجم على عمومه، وبأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح، فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول آية الجلد، وأما تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهو جائز عندنا، بل إن أحاديث الرجم ثابتة بالتواتر المعنوي، والآحاد في تفاصيل الصور والخصوصيات.
126
وشروط الإحصان: البلوغ والعقل والحرية والدخول في زواج صحيح، وأضاف أبو حنيفة ومالك شرط الإسلام، فلا يرجم الذمي، ورد عليهما بأن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر برجم يهوديين.
وأما حد غير المحسن وهو البكر: فليس الجلد مائة جلدة فقط، وإنما يضم إليه تغريب (نفي) سنة، بدليل ما ثبت في السنة، ومنها قصة العسيف المتقدمة: «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» ومنها
ما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا البخاري والنسائي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرّجم»
إلا أن جلد الثيب لم يستقر عليه التشريع المعمول به في السنة النبوية، وأصبح المطبق هو الرجم فقط، كما تقدم.
والقول بالتغريب هو رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: ليس التغريب من الحد، وإنما هو تعزير مفوض إلى رأي الإمام وحكمه. وما يزال الظاهرية يقولون بوجوب جلد الثيب ورجمه، أخذا بحديث عبادة السابق.
وعموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يشمل المسلم والكافر، غير أن الحربي لا يحد حد الزنى لأنه لم يلتزم أحكامنا، وأما الذمي فيجلد في رأي الجمهور، وروي عن مالك رحمه الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى.
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ أي لا يحملنكم العطف والشفقة على ترك حد الزناة، فهو حكم الله تعالى، ولا يجوز تعطيل حدود الله، والواجب التزام النص، والغيرة على حرمات الله، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة عن عائشة رضي الله عنها: «والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي فأقيموا الحدود على من زنى،
127
وشددوا عليه الضرب غير المبرح ليرتدع هو وأمثاله، إن كنتم تصدقون بالله وبالآخرة التي يجري فيها الحساب والجزاء. وهذا ترغيب شديد وحض أكيد وإلهاب على تطبيق وتنفيذ حدود الله. وفي ذكر اليوم الآخر تذكير للمؤمنين بما فيه من العقاب تأثرا بعاطفة اللين في استيفاء الحد،
جاء في الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا، فيقال له: لم فعلت ذلك؟ فيقول: يا ربّ رحمة بعبادك فيقول له: أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به في النار».
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولتكن إقامة الحد علانية، أمام فئة من المسلمين، زيادة في التنكيل للزانيين، فإنهما إذا جلدا بحضرة الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، وأكثر تقريعا وتوبيخا وتأنيبا لهما.
والطائفة: أقلها واحد، وقيل: اثنان فأكثر، وقيل: ثلاثة نفر فصاعدا، وقيل: أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي في شهادة الزنى إلا أربعة فأكثر، وقيل: خمسة، وقيل: عشرة فصاعدا.
وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي نفر من المسلمين، ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا. وهذا أولى الآراء في تقديري.
ويثبت الزنى بأحد أمور ثلاثة:
١- الإقرار أو الاعتراف: وهذا هو الواقع فعلا في عهود الإسلام.
٢- البينة أو الشهادة: أي شهادة أربعة رجال أحرار عدول مسلمين على التلبس بالزنى فعلا، ورؤية ذلك بالعين المجردة، وهذا نادر جدا لم يحصل إلا قليلا.
٣- الحبل عند المرأة بلا زوج معروف لها.
128
وحكمة حد الزنى:
الحفاظ على الأعراض والحقوق، ومنع اختلاط الأنساب، وتحقيق العفاف والصون، وطهر المجتمع، والحيلولة دون ظهور اللقطاء في الشوارع، وانتشار الأمراض الجنسية الخطيرة، كالزّهري والسيلان، وتكريم المرأة نفسها، وعدم إهدار مستقبلها.
روي عن حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى، فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا: فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة: فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار».
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.. الآية: هذا خبر خرج مخرج الغالب فلا يقصد به التحريم الاصطلاحي، وإنما التنزه والابتعاد والترفع، والمعنى: أن الشأن في الزاني الفاسق الفاجر ألا يرغب إلا في نكاح أمثاله من النساء الزانيات الفاسقات، فهو عادة لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يميل إلى الزواج بالفاسقة الخبيثة أو المشركة مثلها التي لا تهتم عادة لحرمة العرض، ولا تأبه بشأن التعفف.
وكذلك الشأن في الزانية الخبيثة لا يرغب فيها غالبا إلا زان خبيث مثلها أو مشرك لا يتعفف عادة.
وبدئ بالزاني هنا، وبالزانية في الآية السابقة لأن هذه الآية تتحدث عن النكاح وإبداء الرغبة فيه بالخطبة، والعادة أن ذلك يكون من الرجل، لا من المرأة، أما أكثر دواعي الزنى فتكون من المرأة فبدئ بها كما بينا، فهي المادة في الزنى، وأما في النكاح فالرجل هو الأصل لأنه الراغب والطالب عادة.
129
وليس معنى الجملتين في الآية هنا واحدا، فإن الجملة الأولى تصف الزاني بأنه لا يرغب في العفيفات المؤمنات، وإنما يميل إلى الزانية والمشركة، والجملة الثانية تصف الزانية بأنه لا يرغب فيها المؤمنون الأعفاء، وإنما يميل إليها الفجار والمشركون، فكان المعنى مختلفا إذ لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في مثله أن الزانية لا يرغب فيها غير أمثالها، وكانت الآية موضحة وجود التلاؤم والانسجام والتفاهم والاقتران من كلا الطرفين: الرجل والمرأة. وقد سمعنا كثيرا اليوم أن الممثلين والممثّلات ونحوهم من أهل الفن لا يتزوج الواحد منهم أو الواحدة إلا بمحترف فنا مماثلا لأن عنصر الغيرة في زعمهم يجب أن يرتفع، ليستمر الفريقان في عملهما، وإلا تعرض الزواج للهدم والفسخ والزوال، فكما لا يألف العفيف ولا يقبل غير العفائف، كذلك لا تقبل العفيفة الشريفة بحال إسفاف زوجها وتبذّله، واختراقه حدود الصون والعفة، ولربما كانت المرأة أشد غيظا وغضبا وتحرقا من الرجل في هذا، وقد يكون العكس، والمعول عليه وجود الدين والخلق والإحساس المرهف وتوافر الغيرة الدينية على الحرمات والأعراض، والبعد عن جعل العلاقة بين الرجل والمرأة مجرد علاقة مادية شهوانية، كما هو الشائع اليوم لدى الماديين الملحدين الذين رفعوا مسألة العرض من قاموس الأخلاق والقيم، سواء في الشرق أو الغرب.
وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي حرّم التزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال الفجار على المؤمنين الأتقياء، والمراد بالتحريم التنزه والتعفف مبالغة في التنفير لأنه تشبّه بالفسّاق، وتعرض للتهمة، وتسبب لسوء المقالة، والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد.
وهذا رأي الجمهور كأبي بكر وعمر وجماعة من التابعين وفقهاء الأمصار جميعا، فيجوز نكاح الزانية، والزنى لا يوجب تحريمها على الزوج، ولا يوجب الفرقة بينهما، ويؤيدهم
ما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة
130
قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة، وأراد أن يتزوجها، فقال: أوله سفاح، وآخره نكاح، والحرام لا يحرم الحلال».
وما أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا تمنع يد لامس! قال صلّى الله عليه وسلم: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي، قال:
فاستمتع بها.
وهو دليل على جواز نكاح الزانية، وعلى أن الزوجة إذا زنت لا ينفسخ نكاحها.
وقوله: «لا تمنع يد لامس»
معناه الزانية، وأنها مطاوعة من راودها، لا ترد يده. وقوله: «غرّبها» أي أبعدها بالطلاق، وهذا دليل آخر على جواز نكاح الفاجرة.
وقوله: «فاستمتع بها»
أن لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها، والاستمتاع بالشيء: الانتفاع به إلى مدة، ومنه سمي نكاح المتعة، ومنه آية: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ [غافر ٤٠/ ٣٩].
وأما حكم الحرمة في الآية فمخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخ بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور ٢٤/ ٣٢] فإنه يتناول المسافحات.
وقال جماعة من السلف (علي وعائشة والبراء، وابن مسعود في رواية عنه) : إن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها
وقال علي: إذا زنى الرجل فرّق بينه وبين امرأته
وكذلك هي إذا زنت. ودليلهم أن الحرمة في الآية على ظاهرها، والخبر في قوله الزَّانِي لا يَنْكِحُ.. بمعنى النهي، وأحاديث منها
ما رواه أبو داود عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ديّوث»
ومنها
ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة:
العاقّ لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والدّيّوث، وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنّان بما أعطى»
.
131
وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك، حتى تستتاب، فإن تابت، صح العقد عليها، وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهذه الآية كقوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء ٤/ ٢٥] وقوله سبحانه: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ [المائدة ٥/ ٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على الأحكام التالية:
١- تحريم الزنى:
الزنى من الكبائر لأن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٨]. ولأن الله سبحانه أوجب الحد فيه وهو مائة جلدة، وشرع فيه الرجم. ونهى المؤمنين عن الرأفة، وأمر بإشهاد الطائفة المؤمنة للتشهير، ولحديث حذيفة المتقدم: «يا معشر الناس، اتقوا الزنى، فإن فيه ست خصال..»
والزنى: وطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح بمطاوعتها، أو هو إيلاج (إدخال) فرج في فرج مشتهى طبعا محرّم شرعا. فإذا كان ذلك وجب الحد.
أما اللواط: فحكمه عند الشافعي في الأصح ومالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد حكم الزنى، فيكون اللائط زانيا، فيدخل في عموم الآية، ويحد حد الزنى عند الشافعي بدليل
ما روى البيهقي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
132
«إذا أتى الرجل الرجل، فهما زانيان»
وحده عند المالكية والحنابلة: الرجم، ويرى بعض الحنابلة أن الحد في اللواط القتل، إما برميه من شاهق، وإما بهدم حائط عليه، وإما برميه بالحجارة.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يعزر اللوطي فقط، ولا يحد إذ ليس في اللواط اختلاط أنساب، ولا يترتب عليه غالبا حدوث منازعات تؤدي إلى قتل اللائط، وليس هو زنى، ولا يتعلق به المهر، فلا يتعلق به الحد، ولأنه صلّى الله عليه وسلم أباح قتل المسلم بإحدى ثلاث: زنى المحصن، وقتل النفس بغير حق، والردة. ولم يذكر فاعل اللواط لأنه لا يسمى زانيا، ولم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء.
واتفق الفقهاء على أن السحاق والاستمناء باليد يشرع فيه التعزير والتأديب والتوبيخ.
وأما إتيان البهائم: فاتفق أئمة المذاهب الأربعة على تعزير فاعله بما يراه الحاكم رادعا له لأن الطبع السليم يأبى ذلك، وفي سنن النسائي عن ابن عباس:
«ليس على الذي يأتي البهيمة حد» وهذا موقوف له حكم المرفوع.
وأما إتيان الميتة: ففيه عند الجمهور غير المالكية التعزير لأن هذا ينفر الطبع منه، فلا يحتاج إلى حد زاجر، وإنما يكفي فيه التأديب.
وأوجب المالكية فيه الحد لأنه وطء في فرج آدمية، فأشبه وطء المرأة الحية. والخلاصة: أن كل فعل من هذه الأفعال حرام منكر، يجب اجتنابه.
٢- وجوب الحد في الزنى:
وهذا هو الذي استقر عليه التشريع، وكانت عقوبته في مبدأ الإسلام حبس المرأة، وتعيير الرجل وإيذاءه بالقول: لقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
133
سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما، فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً
[النساء ٤/ ١٥- ١٦].
ثم نسخ ذلك، بدليل
ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه من الحديث المتقدم أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيّب بالثيب جلد مائة والرجم».
وحد الزنى نوعان: حد الثيب (المتزوج) وحد البكر (غير المتزوج).
أ- أما حد الثيب: فهو باتفاق جماهير العلماء الرجم فقط، للأحاديث المتقدمة القولية والفعلية الدالة على مشروعيته، والتي بلغت مبلغ التواتر، فيخصص بها عموم القرآن، كما أنه في رأي الجمهور يخصص القرآن بخبر الواحد.
وفي رأي الظاهرية وإسحاق وأحمد في رواية عنه: الجلد والرجم، عملا بظاهر حديث عبادة المتقدم.
ويرى الخوارج أن حد الثيب هو جلد مائة فقط، وأما الرجم فهو غير مشروع، للأدلة السابقة الثلاثة، والتي أجيب عنها.
واتفق الفقهاء على أن حد الثيب من الأرقاء هو الجلد فقط كحد البكر، وأنه لا رجم في الأرقاء.
ب- وأما حد البكر: فهو في رأي الحنفية الجلد مائة فقط، دون تغريب، عملا بصريح الآية، ولا يزاد عليها شيء بخبر الواحد، وأما التغريب فهو مفوض إلى رأي الإمام حسبما يرى من المصلحة في ذلك.
وهو في رأي الجمهور: الجلد مائة ونفي عام، فيغرب في رأي الشافعية والحنابلة إلى بلد آخر بعيد عن بلده بمقدار مسافة القصر (٨٩ كم)
لحديث عبادة
134
المتقدم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام».
ويسجن الرجل عند المالكية في البلد التي غرب إليها. ولا تغرب المرأة باتفاق هؤلاء خشية الزنى بها مرة أخرى.
وأما الذمي المحصن: فحده في رأي الحنفية والمالكية الجلد لا الرجم،
لما رواه إسحاق بن راهويه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن»
وهذا قول يرجح على الفعل الثابت عنه صلّى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين، وبالقياس على إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع، فيكون إحصان الرجم مثله، لكمال النعمة في الحالين.
وحده في رأي الشافعي وأحمد وأبي يوسف: الرجم إذا ترافع إلينا لما
ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتي بيهوديين زنيا، فأمر برجمهما،
ولأن الكافر كالمسلم يحتاج إذا زنى إلى الردع، ولأن الكفار الذميين ملتزمون بأحكام شريعتنا. أما
حديث «من أشرك بالله فليس بمحصن»
فلا ينطبق على الذمي لأنه في مصطلحنا لا يسمى مشركا. وأما القياس على حد القذف وأنه لا حد على من قذف كافرا فهو قياس مع الفارق لأن الشرع أوجب هذا الحد تكريما للمسلم ورفعا للعار عنه، وغير المسلم لا حاجة له لذلك، لتساهله عادة.
٣- صاحب الولاية في إقامة الحد:
إن المطالب بتطبيق الحد هو الإمام الحاكم أو نائبه باتفاق العلماء لأن الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأولياء الأمر من الحكام لأن هذا حكم يتعلق بإصلاح الناس جميعا، وذلك منوط بالإمام، وإقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، والإمام ينوب عنهم فيها إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود، ومنعا للفوضى، والعودة إلى عادة الجاهلية في الأخذ بالثأر.
وأضاف الإمامان مالك والشافعي: السادة في شأن العبيد، لكن عند مالك
135
في الجلد دون القطع، وعند الشافعي في قول: في كل جلد وقطع. ودليلهما
ما أخرجه الستة غير السنائي من قوله صلّى الله عليه وسلم في الأمة: «إن زنت فاجلدوها».
وما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم، من أحصن ومن لم يحصن».
وما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه.
وقال الحنفية: لا يملك السيد أن يقيم حدا ما، للآية: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا... والخطاب بلا شك للأئمة دون سائر الناس، ولم يفرق في المحدودين بين الأحرار والعبيد. وأما الأحاديث فيراد بها رفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليقيموا الحد عليهم، وفعل ابن عمر رأي له لا يعارض الآية. والجلاد يكون من خيار الناس وفضلائهم، حسبما يختار الإمام.
٤- أداة الجلد:
أجمع العلماء على
أن الجلد يجب بالسوط الذي لا ثمرة له، وهو الوسط بين السوطين، لا شديد ولا ليّن، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم.
وقال مالك والشافعي: الضرب في الحدود كلها سواء، ضرب غير مبرّح (غير شديد). ضرب بين ضربين لأنه لم يرد شيء في تخفيف الضرب ولا تثقيله.
وقال الحنفية: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف، احتجاجا بفعل عمر الذي خفف في ضرب الشارب.
٥- صفة الجلد وطريقة الضرب ومكانه عند الجمهور:
أن يكون مؤلما لا يجرح ولا يقطع (يبضع) ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، عملا بقول عمر الذي أتى بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، ولأن قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ معناه النهي عن التخفيف في الجلد.
136
ومواضع الضرب في الحدود والتعزير: ظهر الإنسان في رأي مالك
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: «البينة وإلا حدّ في ظهرك»
وسائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج والرأس في رأي الجمهور.
وكيفية ضرب الرجال والنساء مختلف فيها، فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يجزي عنده إلا في الظهر، وقال الحنفية والشافعية: يجلد الرجل وهو واقف، والمرأة وهي قاعدة، عملا بقول علي رضي الله عنه.
وتجريد المجلود في الزنى مختلف فيه أيضا، فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما:
يجرّد ما عدا ما بين السرة والركبة لأن الأمر بالجلد يقتضي مباشرة جسمه، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب. وقال الأوزاعي: الإمام مخير، إن شاء جرّد وإن شاء ترك.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه لا يجرد المحدود في الحدود كلها فيما عدا الفرو والحشو، فإنه ينزع عنه، فإنه لو ترك عليه ذلك، لم يبال بالضرب، عملا بقول ابن مسعود: «ليس في هذه الأمة مدّ ولا تجريد».
٦- الشفاعة في الحدود:
يراد بآية وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه، وهو دليل على تحريم الشفاعة في إسقاط حد الزنى لأنها تعطيل لإقامة حد الله تعالى، وكذلك تحرم الشفاعة في سائر الحدود، لما
أخرجه الخمسة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأسامة بن زيد حين تشفع في فاطمة بنت الأسود المخزومية التي سرقت قطيفة وحليا: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
137
وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادّ الله عز وجل».
كذلك يحرم على الإمام الحاكم قبول الشفاعة في الحدود، لما أخرجه مالك عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: «أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا، حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا بلغ السلطان، لعن الشافع والمشفع».
٧- الترغيب في إقامة الحدود:
دل قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الحث على إقامة الحد، وامتثال أمر الله تعالى وتنفيذ أحكامه على النحو الذي شرعها.
٨- حضور إقامة الحد:
دل ظاهر قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ على وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين، للتنكيل والعبرة والعظة، لكن الفقهاء اختلفوا في ذلك:
فقال الحنفية والحنابلة: ينبغي أن تقام الحدود كلها في ملأ من الناس لأن المقصود من الحد هو زجر الناس. والطائفة في قول أحمد والنخعي: واحد.
وقال المالكية والشافعية: يستحب حضور جماعة، وهما اثنان في القول المشهور لمالك، وأربعة على الأقل في رأي الشافعية وفي قول مالك والليث.
٩- حكمة الحد:
إن الحد عقوبة تجمع بين الإيلام الخفيف والاستصلاح، أما الإيلام فلقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما فسميت العقوبة عذابا، ويراد من هذه العقوبة أيضا الزجر والإصلاح لأنه يمكن أن يراد من العذاب: ما يمنع المعاودة كالنكال، فيكون الغرض منه الاستصلاح.
138
١٠- هل الآية منسوخة؟
إن آية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً...
منسوخة في رأي أكثر العلماء بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور ٢٤/ ٣٢] لذا قال الحنفية: إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها. وقال غير الحنفية أيضا: إن التزوج بالزانية صحيح، وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته.
وروي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر رضي الله عنه، فجلدهما مائة جلدة، ثم زوّج أحدهما من الآخر مكانه، ونفاهما سنة، وهذا ما يحدث الآن في المحاكم الشرعية. وروي مثل ذلك عن عمر وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم.
وقال ابن عباس: أوله سفاح وآخره نكاح. ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط (بستان) ثمرة، ثم أتى صاحب البستان، فاشترى منه ثمره، فما سرق حرام، وما اشترى حلال.
وقال بعض العلماء المتقدمين: الآية محكمة غير منسوخة، وبناء عليه قالوا من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها. وقال بعض هؤلاء: لا ينفسخ النكاح بذلك، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت، ولو أمسكها أثم، ولا يجوز التزوج بالزانية، ولا من الزاني، بل إذا ظهرت التوبة يجوز النكاح حينئذ. وأدلتهم تقدم ذكرها.
١١- عموم التحريم:
حرم الله تعالى الزنى في كتابه، سواء في أي مكان في العالم، فحيثما زنى الرجل فعليه الحد، وهذا قول الجمهور (مالك والشافعي وأبي ثور وأحمد) قال ابن المنذر: دار الحرب ودار الإسلام سواء، ومن زنى فعليه الحدّ، على ظاهر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.
وقال الحنفية في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك، ثم
139
خرج إلى دار الإسلام، لم يحدّ لأن الزنى وقع في مكان لا سلطان للإمام المسلم عليه، لكن يكون زناه حراما وإن لم يجب عليه الحد، وعليه التوبة من الحرام.
الحكم الثالث حد القذف
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
الإعراب:
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ثَمانِينَ منصوب على المصدر، وجَلْدَةٍ تمييز منصوب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا الَّذِينَ إما منصوب على الاستثناء، كأنه قال: إلا التائبين، وإما مرفوع على الابتداء، وخبره فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإما مجرور على البدل من الهاء والميم في لَهُمْ.
البلاغة:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ استعارة، أستعير لفظ الرمي (وهو الإلقاء بالحجارة ونحوها) لشيء معنوي وهو القذف باللسان، بجامع الأذى في كل منهما.
غَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعيل.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقذفون العفائف الحرائر البالغات العاقلات المسلمات، ولا فرق بين الذكر والأنثى، وتخصيص المحصنات مراعاة للواقعة، أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع، والرمي: الإلقاء بشيء يضر أو يؤذي، أستعير للسب بالزنى لما فيه من الأذى والضرر، أما القذف بغير الزنى مثل يا فاسق، يا شارب الخمر فيوجب التعزير ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لإثبات زناهن برؤيتهم، وهو جمع شهيد، وهو الشاهد، وسمي بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم وأمانة.
140
ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة عند الشافعية، وتعتبر عند أبي حنيفة فَاجْلِدُوهُمْ اجلدوا كل واحد منهم وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي تسقط عدالتهم، فلا تقبل لهم أي شهادة كانت بعدئذ لأنه مفتر. ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد عند الشافعية لترتب الجزاءين على القذف على السواء جوابا للشرط، دون ترتيب بينهما، فيحصلان دفعة واحدة، ويتوقف عدم قبول شهادته عند أبي حنيفة على استيفاء الحد. وقوله: أَبَداً أي ما لم يتب، وعند أبي حنيفة: إلى آخر عمره وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ المحكوم بفسقهم لإتيانهم كبيرة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عن القذف وَأَصْلَحُوا أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد، أو طلب العفو (الاستحلال) من المقذوف. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم قذفهم رَحِيمٌ بهم بإلهامهم التوبة. وبالتوبة ينتهي فسقهم وتقبل شهادتهم عند الشافعية، ولا تقبل عند الحنفية لأن الاستثناء يكون راجعا إلى الجملة الثالثة وهي: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في رأيهم، وإلى أصل الحكم وجميع الجمل في رأي الشافعية، لكن تستثنى الجملة الأولى، فلا يسقط الحد بالتوبة بالاتفاق، حفاظا على حق العبد، ويبقى الاستثناء في ظاهره عائدا إلى رد الشهادة والتفسيق.
المناسبة:
بعد التنفير من نكاح الزانيات وإنكاح الزناة، نهى الله تعالى عن القذف وهو الرمي بالزنى، وذكر حده في الدنيا وهو الجلد ثمانين، وعقوبته في الآخرة وهو العذاب المؤلم ما لم يتب القاذف.
ودلت القرائن على أن المراد الرمي بالزنى بإجماع العلماء لتقدم الكلام عن الزنى، ووصف النساء بالمحصنات وهن العفائف عن الزنى، ولاشتراط إثبات التهمة بأربعة شهود، ولا يطلب هذا العدد إلا في الزنى، ولانعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنى، كالرمي بالسرقة وشرب الخمر والكفر، فمجموع هذه القرائن الأربع يجعل المراد هو الرمي بالزنى.
التفسير والبيان:
هذه الآية تبين حكم قذف المحصنة وهي الحرة البالغة العاقلة العفيفة، يجلد قاذفها ثمانين جلدة، وكذلك يجلد قاذف الرجل العفيف اتفاقا، وقذف الرجل
141
داخل في حكم الآية بالمعنى، كدخول تحريم شحم الخنزير في تحريم لحمه. وذكر النساء، لأن رميهن بالفاحشة أشنع، والزنى منهن أقبح، أما السرقة فالرجل عليها أجرأ وأقدر، فبدأ به في آية حد السرقة.
وفي التعبير بالإحصان إشارة إلى أن قذف العفيف رجلا أو امرأة موجب لحد القذف، أما المعروف بفجوره فلا حد على قاذفه، إذ لا كرامة للفاسق.
والمعنى: إن الذين يسبّون النساء العفيفات الحرائر المسلمات برميهن بالزنى، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة بأربعة شهود رأوهن متلبّسات بالزنى، أي لم يقيموا البينة على صحة القذف الذي قالوه، لهم ثلاثة أحكام:
الأول- أن يجلد القاذف ثمانين جلدة. والجلد: الضرب.
الثاني- أن ترد شهادته أبدا، فلا تقبل في أي أمر مدة العمر.
الثالث- أن يصير فاسقا ليس بعدل، لا عند الله ولا عند الناس، سواء كان كاذبا في قذفه أو صادقا. والفسق: الخروج عن طاعة الله تعالى، وهذا دليل على أن القذف كبيرة من الكبائر، لما يترتب عليه من التشنيع وهتك حرمة المؤمنات. لكن شرط القاذف الذي نصت عليه الآية: عجزه عن الإتيان بأربعة شهود، وتقضي قواعد الشرع أن يكون من أهل التكليف: وهو البالغ العاقل المختار، العالم بالتحريم حقيقة، أو حكما كمن أسلم حديثا ومضت عليه مدة يتمكن فيها من معرفة أحكام الشرع.
وشرط المقذوف المرمي بنص الآية: أن يكون محصنا: وهو المكلف (البالغ العاقل) الحر، المسلم، العفيف عن الزنى. فشرائط إحصان القذف خمسة: هي البلوغ والعقل باعتبارهما من لوازم العفة عن الزنى، والحرية لأنها من معاني الإحصان، والإسلام،
لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم: «من
142
أشرك بالله فليس بمحصن»
والعفة عن الزنى، فلا يعتبر كل من المجنون والصبي والعبد والكافر والزاني محصنا، فلا يحد قاذفهم، لكن يعزر للإيذاء. ويلاحظ أن ظاهر الآية يتناول جميع العفائف، سواء كانت مسلمة أو كافرة، وسواء كانت حرة أو رقيقة، إلا أن الفقهاء قالوا شرائط الإحصان في القذف خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والعفة عن الزنى. وإنما اعتبرنا الإسلام للحديث المتقدم، واعتبرنا العقل والبلوغ
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عائشة: «رفع القلم عن ثلاثة»
ومنهم الصبي والمجنون، واعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة، فلا يعظم عليه التعيير بالزنى، واعتبرنا العفة عن الزنى لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانيا، فالقاذف صادق في القذف، فلا يحد، وكذلك إذا كان المقذوف وطئ امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لأن فيه شبهة الزنى.
وإذا كان العبد أو الكافر عفيفا عن الزنى، فيصبح محصنا من وجه، وغير محصن من وجه آخر، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه.
وكان ينبغي جعل التزوج من صفات الإحصان، إلا أن العلماء أجمعوا على عدم اعتباره هنا، وهو كون المرمي زوجة أو زوجا، بدليل الآيات التالية في اللعان، فتكون آية اللعان مخصصة لعموم الموصول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ.
وظاهر الآية: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يدل على أنه يشترط لتحقق القذف الموجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، وتاء بِأَرْبَعَةِ تفيد في ظاهرها اعتبار كونهم من الرجال، ويؤكد ذلك أنه لا تعتبر شهادة النساء في الحدود اتفاقا.
ولم تشترط الآية أكثر من كون الرجال الأربعة أهلا للشهادة، لكن العلماء
143
اختلفوا في اشتراط كون الشاهد عدلا، فقال الشافعية: تشترط عدالة الشاهد، وقال الحنفية: لا تشترط عدالة الشاهد. فإذا شهد أربعة فساق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كالقاذف، ولا يحدون عند الحنفية، ويدرأ الحد عن القاذف لأنه تثبت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذا عن المقذوف.
وظاهر عموم الآية أنه يكفي أن يكون زوج المقذوفة أحد الشهود الأربعة، وقد أخذ الحنفية بهذا الظاهر، وقال مالك والشافعي: لا يعتبر الزوج أحد الشهود، ويلاعن الزوج ويحد الشهود الثلاثة الآخرون لأن الشهادة بالزنى قذف، ولم يكتمل نصاب الشهادة المطلوب.
وظاهر إطلاق الآية أنه يصح مجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين، وبه أخذ المالكية والشافعية، وذلك كالشهادة في سائر الأحكام. وقال أبو حنفية: لا تقبل شهادتهم إلا إذا كانوا مجتمعين غير متفرقين، فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا، ولم يأت بأربعة شهداء، فوجب عليه الحد، ولم يعد صالحا للشهادة. ونقل ذلك أيضا عن مالك.
وظاهر الآية أيضا أن القاذف يجلد إذا أتى بشاهدين أو ثلاثة فقط، وكذلك يجلد هؤلاء الشهود إذا لم يكملوا النصاب، بدليل فعل عمر الذي أمر بجلد ثلاثة شهود وهم شبل بن معبد وأبو بكرة (نفيع بن الحارث) وأخوه نافع شهدوا بالزنى على المغيرة بن شعبة، وأما رابعهم زياد فلم يجزم بحدوث حقيقة الزنى.
والخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً هم أولياء الأمر الحكام، وظاهر هذا العموم يشمل الحر والرقيق، فحدهما ثمانون جلدة، وبه أخذ ابن مسعود والأوزاعي والشيعة، وأجمع بقية الفقهاء على أن حد الرقيق في القذف النصف وهو أربعون جلدة. ودل هذا الظاهر أيضا أن الحاكم يقيم الحد ولو من غير طلب المقذوف، وبه أخذ ابن أبي ليلى، وقال الجمهور: لا يحد إلا بمطالبة
144
المقذوف، وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف، حدّه ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول. والخلاصة: أن الإمام لا يقيم حد القذف إلا بمطالبة المقذوف في المذاهب الأربعة.
وفي إقامة حد القذف: مراعاة لحق الله تعالى في حماية الأعراض، ولحق العبد الذي انتهكت حرمته، لكن اختلف الفقهاء في المغلّب في هذا الحد:
فقال الشافعية: يغلّب حق العبد باعتبار حاجته، وغنى الله عز وجل.
وذهب الحنفية إلى تغليب حق الله تعالى لأن استيفاءه يحقق مصلحة العبد أيضا. وتظهر ثمرة الخلاف في أمثلة منها:
أ- إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فيسقط عند الحنفية تغليبا لحق الله تعالى، وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يتولى ورثته المطالبة به تغليبا لحق العبد.
ب- وإذا قذف شخص جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة، فالحنفية يقولون بتداخل الحد، ويكفي للجميع حد واحد، تغليبا لحق الله تعالى كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر، ولا يتداخل الحد عند الشافعية، وعليه لكل واحد حد تغليبا لحق العباد.
ج- وإذا عفا المقذوف عن الحد، يسقط عند الشافعية تغليبا لحق العبد، ولا يسقط عند الحنفية بعد طلب إقامته.
وبما أن مجموع العقوبات الثلاث مرتب على القذف بالعطف بالواو، فترد شهادة القاذف ولو قبل جلده في رأي الشافعي، ولا ترد شهادته إلا بعد جلده في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الواو وإن لم تقتض الترتيب، لكن المراد الترتيب
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو مرفوعا: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في فرية»
أي قذف، ورواه الدارقطني عن عمر في كتابه إلى أبي موسى.
145
ورد شهادة القاذف عام يشمل ما إذا كانت الشهادة واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، ويشمل شهادة من قذف وهو كافر ثم أسلم، إلا أن الحنفية استثنوا الكافر إذا حد في القذف ثم أسلم، فإن شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة، لاستفادته بالإسلام عدالة جديدة.
ورد شهادة القاذف هي من تمام الحد في رأي الحنفية، عملا بظاهر الآية التي رتب الله فيها على القذف عقوبتين، فكان الظاهر أن مجموعهما حد القذف. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد لأن الحد عقوبة بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، ولأن
قول النبي صلّى الله عليه وسلم لهلال بن أمية فيما أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس: «البينة أو حد في ظهرك»
يدل على أن الجلد هو تمام الحد.
ويلزم على قول الحنفية أن الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، أما الآخرون فلا يرون توقف رد الشهادة على طلب المقذوف.
ثم استثنى الله تعالى حال التوبة فقال:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إلا الذين رجعوا عن قولهم وندموا على فعلهم، وأصلحوا حالهم وأعمالهم، فلم يعودوا إلى قذف المحصنات، قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة، فإن الله غفور ستار لذنوبهم، رحيم بهم، فيقبل توبتهم، ويرفع عنهم صفة الفسق التي وسموا بها.
قال الشافعي: توبة القاذف: إكذابه نفسه، والمعنى كما فسره الاصطخري من أصحاب الشافعي: أن يقول: كذبت فيما قلت، فلا أعود لمثله، وفسره أبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي: لا يقول: كذبت لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: (كذبت) كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على
146
ما قلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه. ورجح أبو الحسن اللخمي أن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف.
وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، تكون بينه وبين ربه، ومضمونها الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود.
وقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فترفع التوبة الفسق فقط، ويبقى مردود الشهادة دائما، وإن تاب وأصلح، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة أو إلى الكل؟
يلاحظ كما ذكرنا أن الآية ذكرت ثلاثة أحكام بثلاث جمل متعاطفة بالواو، معقبة بالاستثناء، فاتفق العلماء على أن الاستثناء لا يرجع هنا إلى الجملة الأولى، فلا يسقط الحد بتوبة القاذف، للمحافظة على حق العبد وهو المقذوف.
وانحصر الخلاف في عود الاستثناء إلى الجملتين الثانية والثالثة، أي رد الشهادة والفسق، فقال الحنفية: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط، فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة أبدا لأن قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، لدفع توهم أن القذف لا يكون سببا لثبوت صفة الفسق بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة، توجه الاستثناء إليها وحدها.
وقال الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : يعود الاستثناء إلى كلتا الجملتين الثانية والثالثة لأن جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عما قبلها لأنها ليست من تتمة الحد، وجملة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تبين علة رد الشهادة، فإذا ارتفع الفسق الذي هو علة بالتوبة، ارتفع المعلول الذي هو رد الشهادة، فهذه الجملة تعليل، لا جملة مستقلة بنفسها، أي لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟.
147
ولا يثور هذا الخلاف بين الفريقين إذا قامت قرينة أو دليل على أن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة أو إلى الجمل كلها، كما في المثالين الآتين:
الأول- قوله تعالى في دية القتل الخطأ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء ٤/ ٩٢] فيه قرينة تدل على أن الاستثناء عائد إلى الدية لا إلى تحرير الرقبة لأن التحرير حق الله تعالى، وتصدق الولي لا يسقط حق الله تعالى.
الثاني- قوله تعالى في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة ٥/ ٣٤] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإن التقييد في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، وهي قوله سبحانه: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لأن التوبة تسقط العذاب الأخروي، سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن لهذا التقييد فائدة إلا سقوط الحد، فهذا الاستثناء راجع إلى الجميع بالاتفاق.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- أرشدت الآية إلى وجوب حد القاذف ثمانين جلدة إذا عجز عن إثبات تهمته بأربعة شهود، وإلى الحكم برد شهادته، وصيرورته فاسقا، إلا إذا تاب فتقبل شهادته وترتفع صفة الفسق عنه في رأي الجمهور، وتزول عنه صفة الفسق فقط بالتوبة في مذهب الحنفية، ويظل مردود الشهادة أبدا وإن تاب.
٢- وللقذف شروط تسعة عند العلماء: شرطان في القاذف: وهما العقل والبلوغ لأنهما أصلا التكليف.
وشرطان في المقذوف به: وهو أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد: وهو عند الجمهور غير الحنفية: الزنى واللواط، أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي.
148
وخمسة شروط في المقذوف: وهي العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها.
٣- واتفق العلماء على أن القذف بصريح الزنى يوجب الحد، أما القذف بالتعريض والكناية، مثل ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فقال مالك: هو قذف.
وقال الشافعي: هو قذف إن نوى وفسره به فقال: أردت به القذف. وقال أبو حنيفة: ليس ذلك قذفا، لما فيه من شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
٤- وذهب الجمهور إلى أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم، ولكنه يعزر، وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم.
٥- وإذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك وقال الآخرون من الأئمة: ليس بقذف لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها، ويعزّر.
٦- وأما شرط أداء الشهادة وهو كون ذلك في مجلس واحد ففيه رأيان للعلماء كما تقدم: رأي يشترط اجتماع الشهود في مجلس واحد، ورأي لا يشترط ذلك، ويصح أداؤهم الشهادة متفرقين.
٧- إن رجع أحد الشهود، وقد رجم المشهود عليه في الزنى، فقال الجمهور:
يغرم ربع الدية، ولا شيء على الآخرين. وقال الشافعي: إن قال: تعمدت ليقتل، فالأولياء بالخيار: إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا عفوا، وأخذوا ربع الدية، وعليه الحدّ.
٨- صفة حد القذف فيها رأيان أيضا: قال أبو حنيفة: هو من حقوق الله تعالى والمغلب فيه حق الله، وقال الجمهور: هو من حقوق الآدميين. وفائدة الخلاف: أنه على الرأي الأول تنفع القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى،
149
ولا يورث الحد ولا يسقط بالعفو، وعلى الرأي الثاني: لا تنفع القاذف التوبة حتى يسامحه المقذوف، ويورث الحد، ويسقط بالعفو. وقد ذكر سابقا آثار أخرى للخلاف.
قال ابن العربي: والصحيح أنه حق الآدميين، والدليل أنه يتوقف على مطالبة المقذوف، وأنه يصح له الرجوع عنه.
٩- الشهادة تكون على معاينة الزنى، يرون ذلك كالمرود في المكحلة، وفي موضع واحد في رأي مالك، فإن لم يتحقق ذلك جلد الشهود، كما بينا.
١٠- إذا تاب القاذف قبلت شهادته في رأي الجمهور لأن ردها كان لعلة الفسق، فإذا زال بالتوبة، قبلت شهادته مطلقا قبل الحد وبعده. ولا تقبل شهادته مدة العمر وإن تاب في رأي الحنفية. ويترجح الرأي الأول بأن التوبة تمحو الكفر، فما دونه أولى،
وبقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
وإذا قبل الله التوبة من العبد، كان قبول العباد أولى.
١١- تسقط شهادة القاذف في رأي الشافعي وابن الماجشون بنفس قذفه، ولا تسقط في رأي مالك وأبي حنيفة حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم تردّ شهادته.
١٢- تجوز شهادة المحدود بحد القذف بعد التوبة في كل شيء مطلقا في رأي الأكثرين. وقال ابن الماجشون: من حد في قذف أو زنى، فلا تجوز شهادته في شيء من وجوه الزنى، ولا في قذف ولا لعان، وإن كان عدلا.
١٣- إذا لم يجلد القاذف بأن مات المقذوف قبل أن يطالب القاذف بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان، أو عفا المقذوف، فالشهادة مقبولة لأن النهي عن قبول الشهادة معطوف على الجلد.
150
وقد بينا أن الشافعي ومثله الليث والأوزاعي قالوا: ترد شهادة القاذف بالقذف نفسه، وإن لم يحد لأنه بالقذف يفسق لأنه من الكبائر، فلا تقبل شهادته حتى تصح براءته بإقرار المقذوف له بالزنى أو بقيام البينة عليه.
ويرى أبو حنيفة ومالك أنه لا ترد شهادة القاذف إلا بعد جلده وصيرورته محدودا في القذف، للحديث المتقدم الذي رواه الديلمي وابن أبي شيبة عن ابن عمرو: «المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا محدودا في قذف».
١٤- لا تكفي التوبة الشخصية أو القلبية لإعادة اعتبار القاذف وقبول شهادته لأن الأمر متعلق بحق الغير وهو المقذوف، بل لا بد من إعلانها، لذا قال تعالى: وَأَصْلَحُوا أي بإظهار التوبة. وقيل: وأصلحوا العمل، لكن هذا لا يناسب هنا.
الحكم الرابع حكم اللعان أو قذف الرجل زوجته
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
151
الإعراب:
إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل مرفوع من شُهَداءُ وهم: اسم كان، ولَهُمْ خبرها.
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ شهادة: إما مبتدأ وخبره إما أربع أو محذوف تقديره:
فعليهم شهادة أحدهم، وإما خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالحكم شهادة أحدهم أربع شهادات.
وأَرْبَعُ خبر المبتدأ: فَشَهادَةُ ويكون بِاللَّهِ متعلقا ب شَهاداتٍ. وعلى قراءة النصب يكون منصوبا على المصدر، والعامل فيه شهادة لأنها في تقدير (أن) والفعل، أي أن يشهد أربع شهادات بالله.
وَالْخامِسَةُ إما مبتدأ وما بعده خبر، وإما معطوف بالرفع على أَرْبَعُ. وعلى قراءة النصب إما صفة مصدر مقدر أي أن تشهد الشهادة الخامسة، أو معطوف على أَرْبَعُ شَهاداتٍ.
وأَنَّ لَعْنَتَ: منصوب بتقدير حذف حرف جر، أي وتشهد الخامسة بأن لعنة الله عليه.
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ أن وصلتها في موضع رفع، أي ويدرأ عنها العذاب شهادتها.
وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ في موضع نصب ب تَشْهَدَ.
وَالْخامِسَةُ معطوف على أَرْبَعُ وبالرفع: مبتدأ وما بعده خبر.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: لم يذكر جوابإيجازا واختصارا لدلالة الكلام عليه، أي لعاجلكم بالعقوبة، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة.
البلاغة:
تَوَّابٌ حَكِيمٌ صيغة مبالغة على وزن: فعّال، وفعيل.
الصَّادِقِينَ والْكاذِبِينَ بينهما طباق.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ.. حذف الجواب للتهويل والزجر، ليكون أبلغ في البيان.
المفردات اللغوية:
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ يقذفونهن بتهمة الزنى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وقع ذلك لجماعة من الصحابة، وهو هلال بن أمية رأى رجلا على فراشه مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رمى به زوجته من الزنى لَعْنَتَ اللَّهِ اللعنة: الطرد من رحمة الله، وهذا لعان الرجل، وحكمه: سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينه وبين زوجته بنفس اللعان فرقة فسخ عند الشافعية
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن ابن عمر: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا»
وبتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة،
152
ومن أحكامه أيضا: نفي الولد إن تعرّض له فيه، وثبوت حد الزنى على المرأة لقوله تعالى:
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي ويدفع عنها الحد: حد الزنى الذي ثبت بشهادته.
لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنى غَضَبَ اللَّهِ سخطه وتعذيبه فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالستر في ذلك تَوَّابٌ يقبل التوبة في ذلك وغيره حَكِيمٌ فيما حكم به في ذلك وغيره. وجوابتقديره: لبين الحق في ذلك وعاجل بالعقوبة من يستحقها.
سبب النزول:
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء «١»، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق، يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك».
فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزل الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، فأنزل الله عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وأخرجه أحمد بلفظ: لما نزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟
قالوا: يا رسول الله، لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط، فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته.
فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله، ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا «٢» مع رجل لم يكن لي أن أنحيّه ولا أحركه، حتى
(١) نسبة إلى أمه السحماء.
(٢) امرأة لكاع: لئيمة وقيل: ذليلة النفس.
153
آتي بأربعة شهداء، فو الله لا آتي بهم، حتى يقضي حاجته.
قال: فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه، فوجد عند اهله رجلا، فرأى بعينه، وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال له: إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه.
واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلا أن يضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم هلال بن أمية، ويبطل شهادته في الناس.
فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد أن يضربه، فأنزل الله عليه الوحي، فأمسكوا عنه، حتى فرغ من الوحي، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية. وأخرج أبو يعلى مثل هذه الرواية من حديث أنس.
وفي رواية: لما نزلت الآية المتقدمة في الذين يرمون المحصنات، وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة! والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه، والله أغير مني» ؟!
وأخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: اسأل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، فقتله، أيقتل به، أم كيف يصنع به؟
فسأله عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم السائل، فلقيه عويمر «١»، فقال: ما صنعت؟ قال: ما صنعت؟ إنك لم تأتني بخبر، سألت
(١) هو عويمر بن زيد بن الجدّ بن العجلاني.
154
رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فعاب السائل، فقال عويمر: فو الله لآتين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلأسألنه، فسأله، فقال: إنه أنزل فيك وفي صاحبك.. الحديث.
أي فيمن وقع له مثل ما وقع لك.
قال الحافظ ابن حجر: اختلف الأئمة في هذه المواضيع، فمنهم من رجّح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما. وإلى هذا جنح النووي، وتبعه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد.
قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
وقال القرطبي: والمشهور أن نازلة هلال كانت قبل، وأنها سبب الآية.
وقيل: نازلة عويمر بن أشقر كانت قبل وهو حديث صحيح مشهور خرجه الأئمة. قال السهيلي: وهو الصحيح. وقال الكلبي: والأظهر أن الذي وجد مع امرأته شريكا عويمر العجلاني لكثرة ما
روي ان النبي صلّى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته.
والمهم أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور:
أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ عنها وأنها منفصلة عنها.
وثانيها: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أنها تشمل الأجنبية والزوجة على السواء.
وثالثها: أن هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج.
155
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير الزوجات بالزنى، بيّن الله تعالى حكم قذف الزوجات الذي هو في حكم الاستثناء من الآية المتقدمة، تخفيفا عن الزوج لأن العار يلحقه، ومن الصعب أن يجد بيّنة، وفي تكليفه إحضار الشهود إحراج له، ويعذر بالغيرة على أهله، وأيضا فإن الغالب أن الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا صادقا، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه.
التفسير والبيان:
فرّج الله تعالى بهذه الآية عن الأزواج وأوجد لهم المخرج إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البينة، وهو أن يحضرها إلى الحاكم، فيدعي عليها بما رماها به، فيلاعنها كما أمر الله عز وجل، بأن يحلفه الحاكم أربع شهادات بالله، في مقابلة أربعة شهداء، إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنى، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود يشهدون بصحة قذفهم، وإنما كانوا هم الشهود فقط، فالواجب عليهم أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى، والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن:
الطرد من رحمة الله.
فإذا قال ذلك بانت منه بهذا اللعان نفسه عند جمهور العلماء غير الحنفية، وحرمت عليه أبدا، ويعطيها مهرها، ويسقط عنه حد القذف، وينفي الولد عنه إن وجد، ويتوجه عليها حد الزنى.
وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ..- إلى قوله-: إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي ويدفع عنها حد الزنى أن تحلف بالله أربعة أيمان: إن زوجها كاذب فيما رماها به
156
من الفاحشة، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما يقول.
وسبب التفرقة بينهما بتخصيصه باللعنة، وتخصيصها بالغضب هو التغليظ عليها لأنها سبب الفجور ومنبعه، بإطماعها الرجل في نفسها.
ثم بيّن الله تعالى ما تفضل به على عباده من الفضل والنعمة والرحمة بهذا التشريع إذ جعل اللعان للزوج طريقا لتحقيق مراده. وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها، فقال:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أي ولولا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته وإحسانه ورحمته ولطفه ورأفته من تشريع ما به فرج ومخرج من الشدة والضيق، وتمكين من قبول التوبة، لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من أموركم، ولفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم، وأنقذكم من الورطة باللعان، فمن صفاته الذاتية أنه كتب الرحمة على نفسه، وأنه التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة، وأنه حكيم فيما يشرعه، ويأمر به، وينهى عنه، فإنه بالرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه، يدرأ عنه العقاب الدنيوي وهو الحد، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبر بقوله: حَكِيمٌ لا رحيم مع أن الرحمة تناسب التوبة لأن الله أراد الستر على عباده بتشريع اللعان بين الزوجين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على مشروعية حكم اللعان بين الزوجين، وكيفية اللعان، ولا بدّ من توضيح الأحكام التالية التي أصّلها الفقهاء بنحو جلي:
157
١- آيات اللعان وآية القذف:
جاء ذكر آيات اللعان بعد آية قذف المحصنات غير الزوجات، فرأى علماء الأصول من الحنفية أن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها، فيكون قذف الزوجة منسوخا إلى بدل وهو اللعان.
وذهب الأئمة الآخرون إلى أن آيات اللعان مخصصة لعموم آية القذف، فتكون هذه الآية مختصة بالمحصنات غير الزوجات، وآيات اللعان خاصة بالزوجات، ويكون موجب قذف المحصنة الحدّ فقط، ثم استثني من ذلك الزوجة، فيكون موجب قذفها الحد أو اللعان.
٢- وحكمة اللعان:
كما بينا التخفيف على الأزواج الذين لا يتيسر لهم إثبات زنى زوجاتهم بأربعة شهود.
٣- هل ألفاظ اللعان شهادات أم أيمان؟:
يرى الحنفية أن ألفاظ اللعان شهادات لظاهر الآيات التي ذكر فيها لفظ الشهادة خمس مرات وهي: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي ليس لهم بينة، ثم قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي بينته المشروعة في حقه، ثم قال: أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ ثم قال: أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وهذه المواضع الثلاثة هي أخبار مؤكدة بالشهادة، ورتبوا على ذلك أنه يشترط في المتلاعنين أهلية الشهادة.
وذهب الجمهور إلى أن ألفاظ اللعان أيمان، لا شهادات لأن قوله تعالى:
أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ قسم أو أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة، كما قال تعالى:
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون ٦٣/ ١] ثم قال تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ [٢].
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» «١».
ورتبوا على ذلك أنه لا يشترط في المتلاعنين إلا أهلية اليمين.
(١) رواه ابو داود بإسناد لا بأس به.
158
قال ابن العربي: والفيصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدّعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره، هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر «١».
والحكمة في تكرار الشهادات التغليظ والتشدد في أمر خطير يترتب عليه الحد والتشنيع وفسخ الزواج ونفي الولد إن وجد والتحريم المؤبد.
٤- شروط المتلاعنين:
ترتب عند العلماء على الخلاف في ألفاظ اللعان:
شهادات أو أيمان اختلافهم في أوصاف المتلاعنين أو شروطهم، فاشترط الحنفية والأوزاعي والثوري في الزوج الملاعن أن يكون أهلا للشهادة على المسلم، وفي الزوجة أيضا أن تكون أهلا للشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا يصح اللعان إلا من زوجين حرين مسلمين لأن اللعان عندهم شهادة، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا أو حرية ورقا.
وأدلتهم قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وأن كلمات اللعان من الزوج شهادات مؤكدات بأيمان، وهي بدل من الشهود، ولأن لعان الزوجة معارضة للعان الزوج. وأما كونها ممن يحد قاذفها فلأن اللعان بدل عن الحد في قذف الأجنبية.
وروى ابن عبد البر عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين».
وروى الدارقطني عن ابن عمرو أيضا مرفوعا: «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان».
وذهب الجمهور إلى أن اللعان يصح من كل زوجين: مسلمين أو كافرين، عدلين أو فاسقين، محدودين في قذف أو غير محدودين، حرين أو عبدين
(١) أحكام القرآن: ٣/ ١٣٣٢
159
لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلم سمى اللعان يمينا، فقال لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولد شبيه بشريك بن سحماء:
«لولا الأيمان لكان لي ولها شأن».
٥- وترتب على الخلاف السابق أيضا الاختلاف في ملاعنة الأخرس
، فقال الجمهور: يلاعن لأنه ممن يصح طلاقه وظهاره وإيلاؤه، إذا فهم ذلك عنه.
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة.
٦- إذا قذف الرجل زوجته بعد الطلاق
، فإن كان هنالك نسب يريد أن ينفيه أو حمل يتبرأ منه، لاعن، وإلا لم يلاعن.
ولا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في حالة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبا، فتأتي امرأته بولد في مغيبه، وهو لا يعلم، فيطلّقها فتنقضي عدتها، ثم يقدم فينفيه، فله أن يلاعنها بعد العدة، ولو بعد وفاتها، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما. ولو مات الزوج قبل اللعان ترث عند الحنفية.
وإذا كانت المرأة حاملا لاعن عند الجمهور قبل الوضع،
لأن النبي صلّى الله عليه وسلم لا عن قبل الوضع، وقال: «إن جاءت به كذا فهو لأبيه، وإن جاءت به كذا فهو لفلان».
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن إلا بعد أن تضع، لاحتمال كون الانتفاخ بسبب ريح أو داء.
وإذا قذف بالوطء في الدبر لزوجه لاعن عند الجمهور لأنه دخل تحت عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأن اللواط عنده لا يوجب الحد.
٧- إذا قذف زوجته ثم زنت
وثبت الزنى قبل التعانه، فلا حدّ على القاذف ولا لعان في رأي أكثر أهل العلم، لظهور أمر قبل استيفاء الحد واللعان
160
يمنع وجوب الحد وصحة اللعان. وقال الثوري والمزني: لا يسقط الحدّ عن القاذف لأن المقذوف كان محصنا في حال القذف، ويعتبر الإحصان والعفة حال القذف لا بعده.
ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا، فالزوج يلاعن لدفع الحد عنه، والزوجة لدرء العقاب وهو حد الزنى. فإن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدرء الحد، ولم تلاعن هي لأنها لو أقرت لم يلزمها شيء.
٨- إذا شهد أربعة على امرأة بالزنى، أحدهم زوجها
، فإن الزوج في رأي المالكية يلاعن وتحدّ الشهود الثلاثة إذ لا يصح أن يكون أحد الشهود. وقال أبو حنيفة: إذا شهد الزوج والثلاثة، قبلت شهادتهم، وحدّت المرأة.
٩- إذا أبى الزوج اللعان
، فلا حدّ عليه عند أبي حنيفة، ويسجن أبدا حتى يلاعن لأن الحدود لا تؤخر. وقال الجمهور: إن لم يلاعن الزوج حدّ لأن اللعان له براءة كالشهود للأجنبي، فإن لم يأت الأجنبي بأربعة شهود حدّ، فكذلك الزوج إن لم يلاعن.
وإذا امتنعت الزوجة من اللعان ترجم في رأي الجمهور. ولا ترجم عند الحنفية.
١٠- كيفية اللعان:
بعد نزول آيات اللعان
أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بدعوة عويمر العجلاني وزوجته وشريك بن سحماء، وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها، فقال: يا رسول الله، أقسم بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنها حبلى من غيري.
فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت، فقالت:
يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور، وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي، ويتحدث، فحملته الغيرة على ما قال.
161
فنودي «الصلاة جامعة» فصلى العصر، ثم قال لعويمر: قم وقل: أشهد بالله، إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها حبلى من غيري، وإني من الصادقين، ثم قال: قل: أشهد بالله، إنها زانية، وإني ما قربتها منذ أربعة شهور، وإني لمن الصادقين، ثم قال: قل: لعنة الله على عويمر (أي نفسه) إن كان من الكاذبين فيما قال، ثم قال: اقعد.
وقال لخولة: قومي، فقامت، وقالت: أشهد بالله، ما أنا بزانية، وإن عويمرا زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة: إني حبلى منه، وقالت في الرابعة: أشهد بالله، إنه ما رآني على فاحشة قط، وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما.
وفي رواية أخرى لابن عباس عند الإمام أحمد: «فلما كانت الخامسة، قيل له: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ففرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهما، وقضى ألا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى
162
ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها، فعليه الحد، وقضى ألا بيت لها عليه، ولا قوت لها، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها.
وقال: «إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين، فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فهو الذي رميت به» فجاءت به على النعت المكروه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن».
يفهم من الآية وهذه الحادثة كيفية اللعان، وهو أن يقول الحاكم للملاعن:
قل أربع مرات: أشهد بالله، إني لمن الصادقين، وفي المرة الخامسة، قل: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
وتشهد المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ويكتفى بدلالة الحال والقرائن عن ذكر متعلق الصدق والكذب، أي فيما رماها به من الزنى ونفي الولد، وفيما اتهمها به.
ولا بد من الحلف خمس مرات من كل منهما، ولا يقبل من الزوج إبدال اللعنة بالغضب، ولا يقبل من الزوجة إبدال الغضب باللعنة.
وظاهر الآية وهو مذهب الجمهور البداءة في اللعان بما بدأ الله به، وهو الزوج، وفائدته درء الحد عنه، ونفي النسب منه
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «البينة وإلا حدّ في ظهرك»
ولو بدئ بالمرأة قبله لم يجز لأنه عكس ما رتبه الله تعالى.
وقال أبو حنيفة: يجزئ إن بدأت هي بلعانها. وسبب الخلاف: أن الجمهور يرون أن لعان الزوج موجب للحد على الزوجة، ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من المعقول أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها، فلا حاجة لأن يتأخر لعانها عن لعانه.
163
وإذا كانت المرأة حاملا، وأراد الزوج نفي الحمل عنه قال: وأن هذا الحمل ليس مني، وهذا رأي الجمهور، وقال أبو حنيفة: لا لعان لنفي الحمل، وينتظر حتى تضع، فيلاعن لنفيه.
وإذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه، تعرض له في اللعان.
ويقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد. ويعظهما القاضي أو نائبه عند ابتداء اللعان وقبل الخامسة من الشهادات، بأن يذكرهما ويخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا.
ويحضر اللعان جمع من عدول المسلمين.
١١- آثار اللعان وما يترتب عليه: يترتب على اللعان:
أولا-
إسقاط حد القذف عن الزوج، وإيجاب حد الزنى على الزوجة لأن الله تعالى قال: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ والشهادة من الأجنبي تسقط حد القذف عن القاذف، وتوجب حد الزنى على المقذوف، والله تعالى أقام شهادة الزوج مقام شهادة الأجنبي. ثم قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ والمراد منه عذاب الدنيا لأن (أل) للعهد المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي عذاب حد الزنى، ولا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة لأن لعان الزوجة إن كانت كاذبة لا يزيدها إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا. ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلم لخولة بنت قيس: «الرجم أهون عليك من غضب الله»
فقد فسر صلّى الله عليه وسلم العذاب المدروء عنها بالرجم.
وأصرح من ذلك
قوله لخولة قبل الشهادة الخامسة: «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة»
أي الحد، لا الحبس. وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته،
164
ولكن لعانه لا يوجب حد الزنى على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود، أو بالإقرار أربع مرات.
ويترتب على هذا الخلاف: حكم الممتنع عن اللعان من الزوجين، فعلى رأي الجمهور كما تقدم: إن امتنع الزوج من اللعان يحد لأن اللعان رخصة له، فلما أبى أن يلاعن، فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فصار حكمه وحكم غير الزوج سواء. وإن امتنعت الزوجة يقام عليها حد الزنى وهو الرجم إن كانت محصنة.
وعلى رأي الحنفية: إذا امتنع الزوج من اللعان، حبس حتى يلاعن، كما بينا لأن اللعان حق توجه عليه، يستوفيه الحاكم منه بالقهر والتعزير، فيكون له حبسه حتى يلاعن أو يكذب نفسه في القذف، فيقام عليه حده. ورأي الجمهور هو الصواب عملا بظاهر الآية.
ثانيا-
يترتب على اللعان أيضا نفي الولد، كما ثبت في حادثة هلال بن أمية.
ثالثا-
الفرقة بين المتلاعنين: قال مالك وأحمد: بتمام اللعان تقع الفرقة بين الزوجين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان، ولا يحل له مراجعتها أبدا لا قبل الزواج من زوج آخر ولا بعده، كما
ثبت في السنة الصحيحة، روى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا».
ورأى الشافعي أن الفرقة تحصل بمجرد لعان الزوج لأنها فرقة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوج إلا في دفع العذاب (حد الزنى) عن نفسها. واتفق الشافعي ومالك وأحمد على وقوع التحريم المؤبد بين المتلاعنين. وهذا هو الظاهر من الآيات.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقع الفرقة باللعان حتى يفرق الحاكم بينهما
165
لقول ابن عمر وابن عباس: «فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين المتلاعنين»
فأضاف الفرقة إليه،
وقال صلّى الله عليه وسلم: «لا سبيل لك عليها».
وإن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب لقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء ٤/ ٣] وقوله سبحانه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء ٤/ ٢٤].
١٢- ما يحتاج إليه اللعان:
يحتاج اللعان إلى أربعة أشياء:
الأول- عدد الألفاظ وهو أربع شهادات، كما تقدم.
الثاني- المكان: وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان: إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها.
الثالث- الوقت: وذلك بعد صلاة العصر.
الرابع- جمع الناس: بأن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا. فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والزمان والمكان مستحبان.
١٣- إذا قذف الرجل مع زوجته أجنبيا:
فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحد للأجنبي.
وقال أحمد: عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء ذكر المقذوف في لعانه أم لا.
وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه، سقط الحدّ له، كما يسقط للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حدّ له.
ودليل أحمد والشافعي أنه صلّى الله عليه وسلم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سماه صريحا، وأن الزوج مضطر إلى قذف الزاني.
166
١٤- استدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين،
لقول الزوج: «لعنة الله عليه» مما يدل على جواز لعن الشخص المقطوع بكذبه.
واستدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر لأن الزوج إن كان صادقا فزوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.
١٥- قال العلماء: لا يحل للرجل قذف زوجته
إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا، والأولى به تطليقها، سترا عليها، ما لم يترتب على فراقها مفسدة. فإن أتت بولد علم أنه ليس منه، وجب عليه نفيه، وإلا كان بسكوته مستلحقا ما ليس منه، وهو حرام، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أن الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء، فإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي، وإن استبرأها بحيضة، حلّ النفي، على رأي القائلين بأن الحامل لا تحيض «١».
الحكم الخامس قصة الإفك
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
(١) انظر مذكرات تفسيرات الأحكام للأستاذ المرحوم محمد علي السايس: ٣/ ١٣٣- ١٤٤
167
الإعراب:
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ: خبر إِنَّ ويجوز أن ينصب، ويكون خبر إِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ.
168
البلاغة:
في المواضع المختلفة، أي هلا للحض بقصد التوبيخ على التقصير والتسرع في الاتهام.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ طباق بين الشر والخير.
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ طباق بين الهيّن والعظيم.
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ الأصل أن يقال: ظننتم، لكن استعمل بطريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، مبالغة في التوبيخ، ولفت نظر إلى أن الإيمان يقتضي حسن الظن.
سُبْحانَكَ معناه تنزيه الله تعالى عند رؤية عجائب صنعه، للإشارة إلى أن مثل ذلك لا يخرج عن قدرته، ثم استعمل في كل متعجب منه.
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه تهييج وتقريع. لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ استعارة، شبه سلوك طريق الشيطان بمن يتبع خطوات غيره خطوة خطوة.
أَنْ يُؤْتُوا فيه إيجاز بالحذف، أي ألا يؤتوا، حذفت منه (لا) لدلالة المعنى.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ المراد أبو بكر الصدّيق، وخاطبه بصيغة الجمع للتعظيم.
المفردات اللغوية:
بِالْإِفْكِ أبلغ الكذب وأسوأ الافتراء على عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين بقذفها.
عُصْبَةٌ جماعة، وكثر إطلاقها على العشرة إلى الأربعين، وهم عبد الله بن أبيّ، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين وزوجة طلحة بن عبيد الله، ومن ساعدهم. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ لا تظنوه شرا أيها المؤمنون غير العصبة، وهو خطاب مستأنف، والشر: ما غلب ضرره على نفعه. بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يأجركم الله به، ويظهر براءة عائشة وكرامتكم على الله، بإنزال ثماني عشرة آية «١» في براءتكم، وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن أساء الظن بكم، كما ذكر البيضاوي.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه من السوء، مختصا به. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ أي تولى معظمه من الخائضين، وهو عبد الله بن
(١) الظاهر أن هذه الآيات هي (١١- ٢٨) المختتمة بقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
والأصح ما رواه الطبراني عن الحكم بن عتبة أن الله أنزل فيها خمس عشرة آية، أي إلى الآية (٢٦).
169
أبيّ، فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، أو في الدنيا، بأن جلدوا، وصار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق، وحسان أعمى وأشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر. هلا. ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ ظن بعضهم ببعض. إِفْكٌ مُبِينٌ كذب بيّن واضح، وفيه التفات أي ظننتم أيها العصبة وقلتمهلا، للحث على فعل ما بعدها.
جاؤُ العصبة. بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ شاهدوه. عِنْدَ اللَّهِ في حكمه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ لولا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره، أي لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو والمغفرة، المقرران لكم.
لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ لمسّكم عاجلا أيها العصبة فيما خضتم فيه عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، يستحقر دونه اللوم والجلد.
إِذْ ظرف لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ. تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي يرويه بعضكم عن بعض، وأصله: تتلقونه، وهو بمعنى تتلقفونه، فحذف منه إحدى التاءين. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً تظنونه امرأ يسيرا لا إثم فيه، أو لا تبعة فيه. وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي وهو في حكم الله عظيم في الوزر والإثم، والمعنى: هذه ثلاثة آثام مترتبة، علّق بها استحقاق العذاب العظيم وهي تلقي الإفك بألسنتهم، والتحدث به من غير تحقق، واستصغارهم شأنه، وهو عظيم عند الله وفي حكمه.
ما يَكُونُ لَنا ما ينبغي لنا وما يصح. سُبْحانَكَ تعجب ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب، تنزيها لله تعالى من أن يصعب عليه مثله، ثم كثر استعماله في كل متعجب. بُهْتانٌ كذب مختلق يبهت السامع، لعدم علمه به. يَعِظُكُمُ ينصحكم وينهاكم.
أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا لمثله، أو في أن تعودوا لمثله. أَبَداً ما دمتم أحياء مكلفين. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فتتعظون بذلك، فإن الإيمان يمنع عنه.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالأحوال كلها، وبما يأمر به وينهى عنه. حَكِيمٌ في تدبيره.
يُحِبُّونَ يريدون أي العصبة. أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر وتظهر. الْفاحِشَةُ الفعل القبيح المفرط القبح، وهو الزنى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا مؤلم وهو حد القذف.
وَالْآخِرَةِ بدخول النار أو السعير، رعاية لحق الله تعالى. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في الضمائر، ويعلم انتفاء الفاحشة عن المؤمنين. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أي أنتم أيها العصبة بما قلتم من الإفك لا تعلمون وجودها فيهم.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تكرار لبيان المنة بترك تعجيل العقاب، للدلالة على
170
عظم الجريمة. وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بكم، وجواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة.
خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرق تزيينه ونزغاته ووساوسه، بإشاعة الفاحشة. فَإِنَّهُ أي المتّبع. يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أي القبيح المفرط في القبح. وَالْمُنْكَرِ ما تنكره النفوس وتنفر منه وينكره الشرع. وهو بيان لعلة النهي عن اتباعه.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق إلى التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها. ما زَكى ما طهر من دنس الذنوب. مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أيها العصبة بما قلتم من الإفك.
أَبَداً آخر الدهر، أي ما طهر من هذا الذنب بالتوبة أحدا مطلقا. يُزَكِّي يطهر من الذنب. مَنْ يَشاءُ بقبول توبته منه. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهم. عَلِيمٌ بنياتهم.
وَلا يَأْتَلِ لا يحلف، من الألية وهي الحلف. أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين.
وَالسَّعَةِ في المال أي أصحاب الغنى والثراء، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه. أَنْ يُؤْتُوا على ألا يؤتوا. وَلْيَعْفُوا لما فرط منهم أي يمحوا الذنوب.
وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته، فتخلقوا بأخلاقه.
سبب النزول أو قصة الإفك في السنة النبوية الصحيحة:
روى الأئمة منهم أحمد، والبخاري تعليقا، ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت «١» : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر، أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه، فأقرع بيننا في غزوة غزاها «٢»، فخرج فيها سهمي (نصيبي)
وخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني،
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٦٨ وما بعدها.
(٢) هي غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع.
171
أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار «١» قد انقطع.
فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على البعير الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه.
وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني، فيرجعون إلي.
فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمي ثم الذّكواني قد عرّس «٢» من وراء الجيش، فأدلج «٣»، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه «٤» حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظّهيرة «٥».
(١) الجزع: خرز معروف في سواده بياض كالعروق، وظفار: مدينة باليمن.
(٢) التعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل للاستراحة في بقعة، ثم يرتحلون. [.....]
(٣) أدلج: سار من أول الليل.
(٤) الاسترجاع: أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(٥) وسط النهار عند الظهر أي وقت الظهيرة.
172
فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت «١» حين قدمناها شهرا، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني «٢» في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي،
إنما يدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول: «كيف تيكم؟»
- تي: إشارة إلى المؤنث- فذلك الذي يريبني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت «٣»، وخرجت معي أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف «٤» قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرّية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح- وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب- فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي، حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها «٥»، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت، تسبّين رجلا شهد بدرا؟
فقالت: أي هنتاه «٦»، ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت:
فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي،
(١) اشتكى عضوا من أعضائه: مرض وأحس بألم فيه.
(٢) يريبني: يوقعني في الريبة والشك.
(٣) نقه من المرض: صحّ.
(٤) المتبرّز: موضع التبرز، والكنف: جمع كنيف: المكان المخصص لقضاء الحاجة.
(٥) المرط: واحد المروط: وهي أكسية من صوف أو خزّ كان يؤتزر بها.
(٦) هنتاه: الهنة: هي الشيء الذي يستقبح، والمراد هنا الندبة المشوبة بالتعجب من الفعلة القبيحة لمسطح.
173
دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم، ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت له:
أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال: نعم
، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فجئت أبوي، فقلت لأمي:
يا أمتاه، لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنية، هوّني عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر.
قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بريرة فقال: «هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟» فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن- أي ما- رأيت منها أمرا قطّ أغمصه «١» عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله.
فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي- يعني عبد الله بن أبي- فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا
(١) غمصه: استصغره ولم يره شيئا.
174
رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي».
فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا، ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت، لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.
فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة، كذبت، لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان:
الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسلّم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء.
فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، وتاب، تاب الله عليه».
فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله، فقال: والله ما أدري ما أقول
175
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت- وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرا من القرآن-: والله لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدّقنّي، إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف ١٢/ ١٨].
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا- والله أعلم حينئذ أني بريئة- وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن والله، ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء «١» عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات، من ثقل القول الذي أنزل عليه.
فسرّي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: «أبشري يا عائشة، أمّا الله عزّ وجلّ فقد برّأك» فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآيات العشر كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر رضي الله عنه، وكان ينفق على
(١) البرحاء: الشدة والانتفاضة من الجهد أو الألم.
176
مسطح بن أثاثة، لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله- وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال:
والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وسلم عن أمري، فقال: «يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟» فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، فعصمها الله تعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتني الصدّيقة بنت الصدّيق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، المبرّأة من السماء.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف النساء الأجنبيات غير المحارم، وحكم قذف الزوجات، أبان الله تعالى في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك من المنافقين، وذكر فيها جملة من الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها، والزواجر التي كان ينبغي عدم التعرض لها، وهي تسعة كما سيأتي بيانه.
التفسير والبيان:
هذه الآيات العشر التي برأ الله فيها عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، غيرة من الله تعالى لها، وصونا لعرض نبيه صلّى الله عليه وسلم، فقال سبحانه:
177
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي إن الذين أتوا بالإفك وهو أبلغ الكذب والافتراء جماعة منكم، لا واحد ولا اثنان، أي ما أفك به على عائشة، بزعامة زعيم المنافقين عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق هذا الكذب، وتواطأ مع جماعة صغيرة، فأصبحوا يروجونه ويذيعونه بين الناس، حتى دخل في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وبقي شيوع الخبر قريبا من شهر، حتى نزل القرآن. وفي التعبير بعصبة إشارة إلى أنهم فئة قليلة.
وقوله تعالى: مِنْكُمْ أي منكم أيها المؤمنون لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا.
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي لا تظنوا- يا آل أبي بكر وكل من تأذى بذلك الكذب واغتم، بدليل قوله تعالى مِنْكُمْ- أن ذلك هو شر لكم وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لاكتسابكم به الثواب العظيم، وإظهار عناية الله بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم. يتلى إلى يوم القيامة، وتهويل الوعيد لمن تكلم في حقكم.
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكل واحد تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة نصيب من عذاب عظيم بقدر ما خاض فيه، أو عقاب ما اكتسب.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ أي والذي تحمل معظم ذلك الإثم منهم، وهو في رأي الأكثرين عبد الله بن أبي، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، فإنه أول من اختلق هذا الخبر، أو أنه كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه، فمعظم الشر كان منه، أما عذابه في الدنيا فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع، وأما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار.
178
وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، قال ابن كثير: وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك، لما كان لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشعره، وهو الذي
قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هاجهم وجبريل معك» «١».
ثم أدب الله تعالى المؤمنين الذين خاض بعضهم في ذلك الكلام السوء في قصة عائشة رضي الله عنها، وزجرهم بتسعة أمور:
١-إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي هلا حين سمعتم كلام الأفاكين في عائشة ظننتم بها خيرا، عملا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن، وقلتم صراحة معلنين البراءة: هذا إفك مبين، أي كذب مختلق واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها فإن الذي وقع لم يكن ريبة، لمجيئها راكبة على راحلة صفوان بن المعطّل في وقت الظهيرة، والجيش بكماله يشاهدون ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم يكشف كل سوء وينفي كل شك، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة، بل كان يحدث- لو قدّر- خفية مستورا.
وهذا أدب جم، وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن المؤمن لا يظن بالمسلمين إلا خيرا.
٢-جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أي هلا جاؤوا على ما قالوه بشهود أربعة يشهدون على ثبوت ما جاؤوا به، وصحة ما قالوا، ومعاينتهم ما رموها به، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون. وهذا من الزواجر.
(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٧٢
179
٣- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ أي ولولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ورحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وهذا من الزواجر أيضا. ولَوْلا هنا لامتناع الشيء لوجود غيره.
٤- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي لولا تفضل الله عليكم ورحمته لمسّكم العذاب حين تلقيكم أي تلقفكم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك يسيرا سهلا، وهو في شرع الله وحكمه أمر خطير عظيم، من عظائم الأمور وكبائرها، لما فيه من تدنيس بيت النبوة بأقبح الفواحش،
ورد في الصحيحين: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يدري ما تبلغ، يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض»
وفي رواية: «لا يلقي لها بالا».
وهذا أيضا من الزواجر، فقد وصفهم الله بارتكاب ثلاثة آثام، وعلّق مسّ العذاب العظيم بها، وهي:
الأول- تلقي الإفك بألسنتهم، أي الاهتمام بالسؤال عنه وبإشاعته، لا مجرد السماع عفوا، وإنما يأخذه بعضهم من بعض، ويذيعه.
الثاني- التكلم بما لا علم لهم به ولا دليل عليه، وهذا منهي عنه في قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء ١٧/ ٣٦]، وهو شبيه بقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
[آل عمران ٣/ ١٦٧].
الثالث- استصغار ذلك، وهو عند الله تعالى عظيم الإثم، موجب لشديد العقاب.
180
وهذا يدل على أمور ثلاثة: هي أن القذف من الكبائر، لقوله تعالى:
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وأن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها، وإنما بالواقع، فربما كان جاهلا لعظمها، لقوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وأن الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، فربما كان من الكبائر.
٥- وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ هذا من الآداب، فهو تأديب آخر بعد الأمر الأول بظن الخير، والمعنى: هلا حين سمعتم ما لا يليق من خبيث الكلام قلتم: ما ينبغي لنا وما يصح، ولا يحل لنا أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا نذكره لأحد إذ لا دليل عليه، سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي إنا نعجب من عظم الأمر، وننزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه صلّى الله عليه وسلم فاجرة، فهذا بهتان عظيم واختلاق أثيم، وإيذاء للنبي صلّى الله عليه وسلم، والله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب ٣٣/ ٥٧].
وإذا جاز أن تكون امرأة نبي كافرة، كامرأة نوح ولوط لأن الكفر لم يكن مما ينفر عندهم، فلا يجوز أن تكون امرأة أي نبي فاجرة لأن ذلك من أعظم المنفّرات.
والخلاصة: أن العقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، لما فيه من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم، كما يمنعان ألا يعاقب هؤلاء القاذفين الأفاكين على عظيم ما اقترفوه وخاضوا فيه من الافتراء، وهو مدعاة للتعجب منه.
٦- يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هذا من الزواجر يحذر الله تعالى فيه المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا، أي في المستقبل ما دمتم أحياء مكلفين، ويعظكم بهذه المواعظ
181
والإنذارات، كيلا تعودوا لمثل هذا الفعل، إن كنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه وتعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلم، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ويوضح لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله عليم بما يصلح عباده، مطّلع على أحوالهم، فيجازي كل امرئ بما كسب، حكيم في شرعه وقدره، وتدبير شؤون خلقه، وتكليفه بما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة.
٧- إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هذا أدب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء، معناه: إن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة ومحبة لها، وإن الذين يرغبون في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنى في أوساط المؤمنين، لهم عذاب مؤلم في الدنيا وهو حد القذف، وفي الآخرة بعذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور، ولا يخفى عليه شيء، ويعلم ما في القلوب من الأسرار، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص العلم والإحاطة بالأشياء والاعتماد على القرائن والأمارات لا تعملون تلك الحقائق.
أخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته».
ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره.
وهذا التأديب التربوي له مغزاه العميق، فإن شيوع الفاحشة في مجتمع يجرئ الناس على الإقدام عليها، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها. والآية تدل على أن مجرد حب إشاعة الفاحشة كاف في إلحاق العذاب، فالذين يشيعونها فعلا أشد جرما وإثما وتعرضا للعقاب. ومنشأ حب إشاعة الفاحشة هو الحقد والكراهية،
182
والاستعلاء على الناس وحسدهم على ما يتمتعون به من تماسك واستقرار ومحبة ووئام، فيعمل الحاقد الكاره الحاسد كابن أبي على تقويض أركان هذا المجتمع، والغض من كرامته، والنيل من عرضه وسمعته، ظنا منه أن هذا شرف له.
٨- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي لولا الفضل الإلهي والرحمة لكان أمر آخر، والجواب المحذوف هو: لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق الأقوم، وحذّر من مغبّة الاستمرار في وجهة الانحراف، وبيّن خطر هذا الفعل الشنيع وهو الطعن بعرض بيت النبوة، فله الحمد والمنة، لذا حذر في الآية التالية من اتباع وساوس الشيطان فقال:
٩- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي يا أيها المؤمنون المصدّقون بالله ورسوله لا تسيروا في طرائق الشيطان ومسالكه، ولا تسمعوا لوساوسه وتأثيراته وما يأمر به، في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فإن من يتبع وساوس الشيطان ويقتفي آثاره خاب وخسر لأنه- أي الشيطان- لا يأمر إلا بالفحشاء (ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبّحه العقل ونفّر منه) فلا يصح لمؤمن طاعته، وهذا تنفير وتحذير صريح.
والله تعالى، وإن خص المؤمنين في هذه الآية بالنهي عن اتباع وساوس الشيطان، فهو نهي لكل المكلفين، بدليل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فكل المكلفين ممنوعون من ذلك.
وحكمة تخصيص المؤمنين بالذكر هي أن يتشددوا في ترك المعصية، لئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.
183
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ هذا التكرار لتأكيد المنة والنعمة على العباد، والمعنى: ولولا تفضل الله عليكم بالنعم، ورحمته السابغة، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، ما طهر أحدا من ذنبه، ولا خلصه من أمراض الشرك والفجور والأخلاق الرديئة، وإنما عاجله بالعقوبة، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ [النحل ١٦/ ٦١]، قال الرازي: إذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى، سمّي زكيا.
وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي والله تعالى القدير الحكيم يطهر من يشاء من خلقه، بقبول توبتهم، وتوفيقهم إلى ما يرضيه، مثل قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من قصة الإفك، والله سميع لأقوال عباده، ولا سيما في حالتي الوقوع في المعصية والإخلاص في التخلص منها، والبراءة من آثامها، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبالأقوال والأفعال، وبمن أصر على إشاعة الفاحشة ومن تاب منها، ومجاز كل إنسان بما قدّم.
وهذا حث واضح على التطهر من الذنوب، والإقبال على التوبة بإخلاص.
وبعد تأديب أهل الإفك ومن سمع كلامهم، أدب الله تعالى أبا بكر لما حلف ألا ينفق على مسطح أبدا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف ألا ينفق على مسطح، وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فقال تعالى:
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، والسعة في المال والثروة ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا. وفيه دليل على
184
فضل أبي بكر رضي الله عنه وشرفه، وحث على صلة الرحم، فهذا في غاية الترفق والعطف في صلة الأرحام.
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أي ليعفوا عن المسيء، ويصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، وليعودوا إلى صلتهم الأولى، فإن من أخطأ مرة يجب ألا يتشدد في العقاب عليه، وقد عوقب مسطح بالحد والضرب، وكفى ذلك، وزلق زلقة تاب الله عليه منها.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ألا تريدون أن يستر الله عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح عنك: «من لا يرحم لا يرحم» «١» والله غفور لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم فلا يعذبهم بزلّة حدثت ثم تابوا عنها، فتخلقوا بأخلاق الله تعالى.
وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصدّيق إلى القول: «بلى، والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربّنا» ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: «والله لا أنزعها منه أبدا».
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه جملة من الآداب والزواجر، أرشدت إليها قصة الإفك، وهي تربية عالية للمجتمع، وصون لأخلاقه من التردي والانحدار، ونبذ للعادات السيئة في إشاعة الأخبار دون علم ولا تثبت، وقد دلت الآيات على ما يلي:
١- إن داء الأمة ينبع من داخلها، وأخطر داء فيها زعزعة الثقة بقادتها ومصلحيها، وتوجيه النقد الهدام لهم، ومحاولة النيل من عرضهم وسمعتهم
(١) هذا حديث صحيح أخرجه الطبراني عن جرير بلفظ: «من لا يرحم لا يرحم، ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتب عليه».
185
وكرامتهم، فأهل الإفك ليسوا من الأعداء الخارجين، وإنما هم- في الظاهر- عصبة من المؤمنين.
٢- ليس في الأشياء خير محض ولا شر محض، وإنما ما غلب نفعه على ضرره فهو خير، وما غلب ضرره على نفعه فهو شر، فحقيقة الخير: ما زاد نفعه على ضره، والشرّ: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيرا لا شرّ فيه هو الجنة، وشرّا لا خير فيه هو جهنم. أما البلاء النازل على الأولياء فهو خير لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الآخرة. لذا كان حديث الإفك خيرا على عائشة وأهلها آل أبي بكر، وعلى صفوان بن المعطّل المتهم البريء، فقال تعالى:
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.
وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة رضوان الله عليهم. وقيل كما ذكر ابن إسحاق: كان حصورا لا يأتي النساء. وقال: والله ما كشفت كنف أنثى قط، يريد بزنى. وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع وعشرين في زمان عمر. وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.
٣- للذين خاضوا في إثم الإفك جزاء وعقاب في الدنيا والآخرة، وهم الذين أصروا على التهمة، أما الذين تابوا وهم حسان ومسطح وحمنة، فقد غفر الله لهم.
٤- إن زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ هو الذي تولى كبر حديث الإفك، واختلاق معظم القصة، والترويج لها وإشاعتها بين المسلمين. وهل جلد هو وغيره؟
روى الترمذي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحا وحسانا وحمنة.
وذكر القشيري عن ابن عباس قال:
جلد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أبيّ ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار.
186
وقال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلّى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على قولين:
أحدهما- أنه لم يحدّ أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبّده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. وعقب القرطبي على ذلك قائلا: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن فإن الله عزّ وجلّ يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أي لم يأتوا بشهود أربعة على صدق قولهم.
والقول الثاني- أن النبي صلّى الله عليه وسلم حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش. قال القرطبي: المشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ: حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي. وهذا- أي تعيين الذين حدّوا- رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعدّ له في الآخرة عذابا عظيما، فلو حدّ في الدنيا، لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار القاذف وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ.
وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف، حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة،
وقد قال صلّى الله عليه وسلم في الحدود من حديث عبادة بن الصامت الذي أخرجه مسلم بلفظ: «ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له»
أي أن الحدود كفارات لمن أقيمت عليه.
٥- على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا ببعضهم خيرا، لذا عاتبهم الله تعالى بقوله: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً أي ببعضهم أو
187
بإخوانهم، فالواجب على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا أو يذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلّها المؤمن، وحلّة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
٦- إن إثبات تهمة الزنى إما بالإقرار أو بأربعة شهود، فقوله تعالى:
جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ توبيخ لأهل الإفك على تقصيرهم في الإثبات، أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا إحالة على المذكور في آية القذف السابقة. وإذ لم يأتوا بالشهداء فهم في حكم الله كاذبون.
٧- إن أحكام الدنيا في الإثبات ونحوه تجري على الظاهر، والسرائر إلى الله عزّ وجلّ، أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس، إن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمّناه وقرّبناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدّقه، وإن قال: إن سريرته حسنة.
٨- تكرّر الامتنان من الله تعالى على عباده في قصة القذف مرتين في قوله:
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي لولا فضله ورحمته لمسّكم بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا.
٩- وصف الله الخائضين في قصة الإفك بارتكاب آثام ثلاثة: تلقي الإفك بألسنتهم وإشاعته بينهم، والتكلم بما لا علم لهم به، واستصغارهم ذلك وهو عظيم الوزر، ومن العظائم والكبائر. وهذا يدل أن القذف من الكبائر، وأن عظم
188
المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، وأنه يجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرّم.
١٠- عاتب الله جميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار خبر الإفك، وألا يحكيه أو ينقله بعضهم عن بعض، وأن ينزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه صلّى الله عليه وسلم، وأن يحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه. والغيبة: أن يقال في الإنسان ما فيه.
وإن وصف الإيمان يجب أن يكون باعثا لهم على هذا التخلق والأدب.
١١- دلّ قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي في عائشة، قال الإمام مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب، ومن سبّ عائشة قتل لأن الله تعالى يقول: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. وقال ابن كثير: وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وهذا ردّ على ما قال ابن العربي: «قال أصحاب الشافعي: من سبّ عائشة رضي الله عنها أدّب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة: «والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه»

أي لا يكمل إيمانه، لا أنه سلب الإيمان.
وبوائقه: شروره وآثامه ودواهيه.
١٢- إن الذين يحبون إشاعة الفاحشة (الفعل القبيح المفرط القبح) في المؤمنين المحصنين والمحصنات كعائشة وصفوان رضي الله عنهما لهم عذاب أليم في الدنيا بالحدّ، وفي الآخرة بعذاب النار أي للمنافقين، أما الحدّ للمؤمنين فهو كفارة. والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء، والناس لا يعلمون بذلك.
189
١٣- نهى الله المؤمنين وغيرهم عن اتباع مسالك الشيطان ومذاهبه لأنه لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر.
١٤- لله تعالى وحده الفضل في تزكية المؤمنين وتطهيرهم وهدايتهم، لا بأعمالهم.
١٥- على المؤمن التخلق بأخلاق الله، فيعفو عن الهفوات والزلات والمزالق، فإن فعل، فالله يعفو عنه ويستر ذنوبه، وكما تدين تدان، والله سبحانه قال:
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن جرير: «من لا يرحم لا يرحم».
١٦- في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان معصية كبيرة لا يحبط الأعمال لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان وكذلك سائر الكبائر ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر ٣٩/ ٦٥].
١٧- من حلف على شيء ألا يفعله، فرأى أن فعله أولى من تركه، أتاه وكفّر عن يمينه.
١٨- قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.
١٩- دلت هذه الآية على أن أبا بكر أفضل الناس بعد النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الله وصفه بصفات عجيبة في هذه الآية، دالة على علو شأنه في الدين، أورد الرازي أربع عشرة صفة مستنبطة من هذه الآية: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ منها أنه وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه
190
رضي الله عنه، كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق. ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لا الخصوص، على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خاليا عن المعصية «١».
٢٠- قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برّأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برّأها الله تعالى بالقرآن فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برّأها الله بكلامه من القذف والبهتان «٢».
جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
الإعراب:
يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الْحَقَّ بالنصب: صفة ل دِينَهُمُ ومن قرأ بالرفع جعله صفة اللَّهُ وفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول الذي هو دِينَهُمُ.
(١) انظر تفسير الرازي: ٢٣/ ١٨٧- ١٩٠ [.....]
(٢) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢١٢
191
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أُولئِكَ مبتدأ، ومُبَرَّؤُنَ خبر المبتدأ. ومِمَّا يَقُولُونَ جار ومجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب مُبَرَّؤُنَ. ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ جملة في موضع خبر آخر ل أُولئِكَ.
البلاغة:
يَعْمَلُونَ ويَعْلَمُونَ جناس ناقص.
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ مقابلة.
المفردات اللغوية:
الْمُحْصَناتِ العفيفات. الْغافِلاتِ البعيدات عن المعاصي والفواحش، السليمات الصدور، والنقيات القلوب. الْمُؤْمِناتِ بالله ورسوله. لُعِنُوا طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بحد القذف. دِينَهُمُ جزاءهم. الْحَقَّ الثابت الذي يستحقونه.
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته، الظاهر الألوهية، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البيّن، أي العادل الظاهر عدله، وقد حقق لهم جزاءه الذي كانوا يشكّون فيه. أو أن وعد الله ووعيده هو العدل الذي لا جور فيه.
الْخَبِيثاتُ من النساء. لِلْخَبِيثِينَ من الرجال. وَالطَّيِّباتُ من النساء.
لِلطَّيِّبِينَ من الناس، أي اللائق بالخبيث مثله، وبالطيب مثله. أُولئِكَ الطيبون من الرجال والطيبات من النساء ومنهم عائشة أم المؤمنين وصفوان الصحابي التقي الورع المجاهد المتهم زورا وبهتانا. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي يقول الخبيثون والخبيثات من الرجال والنساء فيهم لَهُمْ للطيبين والطيبات. مَغْفِرَةٌ ستر. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة، وقد افتخرت عائشة بأشياء منها: أنها خلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقا كريما. قال البيضاوي: ولقد برّأ الله أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات، مع هذه المبالغات، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن الضحّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي
192
صلّى الله عليه وسلم خاصة: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رميت بما رميت به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندي إذ أوحي إليه، ثم استوى جالسا، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ حتى بلغ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ.
وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت:
لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية
، وهو مرسل صحيح الإسناد.
المناسبة:
بعد بيان خبر الإفك وعقاب الأفاكين، وتأديب الخائضين، ذكر الله تعالى براءة عائشة صراحة، وذكر مع ذلك حكما عاما وهو أن كل من قذف مؤمنة عفيفة بالزنى، فهو مطرود من رحمة الله، وله عذاب عظيم.
وهذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصدّيق رضي الله عنهما.
193
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يتهمون بالفاحشة والفجور النساء المؤمنات بالله ورسوله العفائف البعيدات عن تلك التهمة، ومثلهم الرجال، هم مطردون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وعليهم غضب الله وسخطه، ولهم في الآخرة عذاب شديد كبير، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر،
أخرج الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وأخرج أبو القاسم الطبراني عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة».
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن عذابهم يوم القيامة يوم تشهد عليهم أعضاؤهم الألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل إذ إن الله ينطقها بقدرته، كما ذكر في آية أخرى:
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت ٤١/ ٢١].
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول:
كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار»
.
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي في
194
ذلك اليوم يوفيهم الله حسابهم أو جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
قال الزمخشري رحمه الله وجزاه عن تفسيره الدقيق جدا للقرآن الكريم خير الجزاء: ولو فلّيت «١» القرآن كله، وفتّشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله تعالى قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث، لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين «٢».
يفهم من هذا الكلام ومن كلام الفخر الرازي أن الله تعالى عاقب هؤلاء القذفة بثلاثة أشياء: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة، وهو وعيد شديد، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على أعمالهم، وإيفاؤهم جزاء عملهم. والدين بمعنى الجزاء مثل قولهم: «كما تدين تدان» وقيل: بمعنى الحساب كقوله تعالى:
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح، والحق: هو أن الجزاء الموفى هو القدر المستحق لأنه الحق، وما زاد عليه هو الباطل.
ثم أورد الله تعالى دليلا ماديا حسيا على براءة عائشة فقال:
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ..
(١) جعلها بعضهم: قلبت.
(٢) تفسير الكشاف: ٢/ ٣٨٠ وما بعدها.
195
أي النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثون الزناة من الرجال للخبيثات من النساء لأن اللائق بكل واحد ما يشابهه في الأقوال والأفعال، ولأن التشابه في الأخلاق والتجانس في الطبائع من مقومات الألفة ودوام العشرة. وذلك كقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور ٢٤/ ٣].
وعلى هذا يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء، أي شأن الخبائث يتزوجن الخباث، أي الخبائث، وشأن أهل الطيب يتزوجن الطيبات.
ويجوز أن يكون المراد من الخبيثات الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، والمعنى: الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس: والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس.
وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درة الطيبين وخيرة الأولين والآخرين، فالصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات، فيبطل ما أشاعه أهل الإفك. ويكون الكلام جاريا مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. والرأي الأول هو الظاهر.
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي أولئك الطيبون والطيبات كصفوان وعائشة بعداء مبرؤون مما يقوله أهل الإفك والبهتان الخبيثون والخبيثات.
وأولئك المبرؤون لهم مغفرة عن ذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب ورزق كريم عند الله في جنات النعيم، كما في قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب ٣٣/ ٣١].
عن عائشة رضي الله عنها: «لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجني
196
ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ولقد توفّي وإن رأسه لفي حجري ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّته الملائكة في بيتي وإن الوحي لينزل عليه في أهله، فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه وإني لابنة خليفته وصدّيقه ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيّبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» تعني قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
١- إن الذين يرمون بالزنى أو الفاحشة النساء المحصنات العفائف، أو الرجال المحصنين قياسا واستدلالا أو يقذفون غيرهم، ومن هؤلاء عائشة وسائر زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم، لعنوا في الدنيا والآخرة، واللعنة في الدنيا: الإبعاد وضرب الحد وهجر المؤمنين لهم، وإساءة سمعتهم، وإسقاط عدالتهم، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله بالعذاب في جهنم.
والأصح كما رجح المفسرون أن بقية أمهات المؤمنين في هذا الحكم وغيره كعائشة رضوان الله عليهن، فقاذفهن ملعون في الدنيا والآخرة، ومن سبّهن فهو كافر، كما ذكر ابن كثير.
وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى. ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون إلا أنه غلّب المذكر على المؤنث، أي أن الرمي أو القذف بالزنى كبيرة وحرام من أي مكلف، وعلى أي مكلف: ذكر أو أنثى.
197
٢- ولهم حكم آخر غير اللعنة وهو شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وتكلمهم يوم القيامة عند الحساب بما تكلموا به وبما عملوا في الدنيا.
٣- وحكم ثالث أيضا هو أن حسابهم وجزاءهم ثابت مستحق لهم بالقدر المستحق المناسب لعملهم أو قولهم لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل.
٤- النساء الخبيثات للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات. وهذا ما اختاره النحاس، وهو الظاهر. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول.
٥- دل قوله تعالى صراحة: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ على براءة عائشة وصفوان رضي الله عنهما مما يقول الخبيثون والخبيثات.
الحكم السادس الاستئذان لدخول البيوت وآدابه
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
198
الإعراب:
فِيها مَتاعٌ مرفوع بالظرف على مذهب سيبويه، كما يرتفع على مذهب الأخفش والكوفيين لأن الظرف جرى وصفا للنكرة.
المفردات اللغوية:
بُيُوتاً جمع بيت وهو المسكن. تَسْتَأْنِسُوا تستأذنوا إذ بالاستئذان يحصل الأنس للزائر وأهل البيت. وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فيقول الواحد: السلام عليكم أأدخل، كما ورد في الحديث. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغير استئذان. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون، أو تتذكرون خيريته، فتعملوا به. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ بعد الاستئذان. هُوَ الرجوع. أَزْكى خير وأطهر. لَكُمْ من القعود على الباب. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول بإذن وغير إذن. عَلِيمٌ مطلع على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فيجازي كل إنسان بعمله.
جُناحٌ حرج وإثم بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالخانات والحوانيت والفنادق. فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي حق تمتع وانتفاع، كالاستظلال من الحر والإيواء من البرد وتحزين الأمتعة والجلوس للمعاملة من شراء أو بيع. تُبْدُونَ تظهرون. تَكْتُمُونَ تخفون في دخول غير بيوتكم من قصد صلاح أو غيره. وهذا وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٧) :
أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية.
199
نزول الآية (٢٩) :
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ
الآية.
المناسبة:
بعد بيان حكم قذف المحصنات وقصة أهل الإفك، ذكر الله تعالى ما يليق بذلك، وهو آداب الدخول إلى البيوت من الاستئذان والسلام، منعا من الوقوع في التهمة، باقتحام البيوت دون إذن والتسلل إليها، أو حدوث الخلوة التي هي مظنة التهمة أو طريق التهمة التي تذرع بها أهل الإفك للوصول إلى بهتانهم وافترائهم، ومراعاة لأحوال الناس رجالا ونساء الذين لا يريدون لأحد الاطلاع عليها ولأن النظر والاطلاع على العورات طريق الزنى.
التفسير والبيان:
هذه آداب اجتماعية شرعية ذات مدلول حضاري، وتمدن رفيع لما فيها من تنظيم لحياة المجتمع وأحوال الأسر في البيوتات، حفظا لروابط الود والمحبة، وإبقاء على حسن العشرة وتبادل الزيارات بين المؤمنين، فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله لا تدخلوا بيوت غيركم حتى يؤذن لكم، وحتى تسلموا على أهل البيت، حتى لا تنظروا إلى عورات غيركم، ولا
200
تطلعوا إلى ما لا يحل لكم الاطلاع عليه، ولا تفاجئوا الساكنين الوادعين، فتحرجوهم أو تزعجوهم، فيحدث الاشمئزاز، والتضايق، والكراهية.
فلا بد إذن من الاستئذان قبل الدخول والسلام خارج الباب لمعرفة الداخل، وكان السلام هو المألوف في الماضي حيث لم تكن أبواب الدور محكمة الإغلاق والستر بنحو كاف كاليوم إذ لم يكن للدور حينئذ ستور.
والاستئناس: الاستعلام (طلب العلم) والاستكشاف، من آنس الشيء:
إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، فمن أراد دخول بيت غيره عليه أن يستأنس، أي يتعرف من أهله ما يريدون من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان، بدليل قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور ٢٤/ ٥٩]. وكان ابن عباس على الأصح فيما روي عنه يفسر الاستئناس بالاستئذان، ولا يحصل الاستئناس إلا بعد حصول الإذن بعد الاستئذان.
ويكون الاستئذان ندبا ثلاث مرات، فإن أذن للزائر وإلا انصرف، كما
ثبت في الصحيح لدى مالك وأحمد والشيخين وأبي داود عن أبي موسى وأبي سعيد معا أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا، فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له، فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال: ما أرجعك؟ قال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فلينصرف» الحديث.
وظاهر الآية أنه لا بد قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، إلا أن الأول مطلوب على سبيل الوجوب، والثاني على سبيل الندب كما هو حكم السلام في كل موضع. لكن الواجب في الاستئذان هو مرة واحدة، وأما الثلاث فهو مندوب، كما تقدم.
201
والظاهر أن الاستئذان متقدم على السلام لأن الأصل في الترتيب الذّكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبه قال بعض العلماء، والجمهور على تقديم السلام على الاستئذان، بدليل ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله عنه:
«السلام قبل الكلام» وما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم،
وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «السلام على رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟».
والسلام يكون أيضا ثلاثا كما
أخرج الإمام أحمد عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلّى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا، ورد عليه سعد ثلاثا.
والحكمة من الاستئذان والسلام تحاشي الاطلاع على العورات، بدليل
ما رواه أبو داود عن هزيل قال: جاء رجل (قال عثمان: سعد) فوقف على باب النبي صلّى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب،- قال عثمان: مستقبل الباب- فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم «هكذا عنك- أو هكذا- فإنما الاستئذان من النظر»
وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح».
والمراد من هذين الحديثين أن من أدب الاستئذان ألا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يجعله عن يمينه أو شماله، وألا ينظر إلى داخل البيت،
روي أن أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب»
وذلك سواء أكان الباب مغلقا أم مفتوحا فإن الطارق قد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه.
202
والاستئذان واجب ولو كان الطارق أعمى لأن من عورات البيوت ما يدرك بالسمع، وقد يتأذى أهل البيت بدخول الأعمى، وأما
الحديث المتقدم:
«إنما جعل الاستئذان من أجل البصر»
فهو بحسب الغالب المعتاد.
ولا فرق في وجوب الاستئذان بين الرجال والنساء، والمحارم وغير المحارم لأن الحكم عام، ولو كان الزائر والدا أو ولدا،
قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم- فيما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار-: أأستأذن يا رسول الله على أمي؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت عليها؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا، قال: «فاستأذن عليها».
وأخرج ابن جرير والبيهقي عن ابن مسعود قال: «عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم».
وروى الطبري عن طاوس قال: «ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم»
وعلى هذا يكون الاستئذان على المحارم واجبا وتركه غير جائز، واستدل ابن عباس عن ذلك بقوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولم يفرق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم محرم.
وقوله تعالى: بُيُوتاً نكرة في سياق النهي فتفيد العموم الشامل للبيوت المسكونة وغير المسكونة، لكن الآية التالية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يقتضي حمل الآية الأولى على المسكونة فقط، ويصير المعنى: أيها المخاطبون لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا.
ثم ذكر تعالى حكمة الأمر بالاستئذان والسلام فقال:
ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يعني الاستئذان والسلام خير وأفضل للطرفين: المستأذن وأهل البيت، من الدخول بغتة، ومن تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال: حييتم صباحا، وحييتم مساء،
203
ودخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف. وقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ متعلق بمحذوف، أي أنزل عليكم أو أرشدكم ربكم لتتذكروا وتتعظوا، وتعملوا بما هو أصلح لكم.
وكلمة خَيْرٌ هنا أفعل تفضيل، وكلمة «لعل» للتعليل، والحكم المعلل بها مفهوم مما سبق، أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب وبيّنه لكم، ليكون متذكرا منكم دائما، فتعملوا بموجبه.
ثم ذكر تعالى حكم حالة أخرى هي حالة فراغ البيوت من أهلها فقال:
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً، فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي إن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فلا يحل الدخول في هذه الحالة لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولأن للبيوت حرمة، وفيها خبيئات لا يريد أحد الاطلاع عليها، فإن المانع من الدخول ليس الاطلاع على العورات فقط، بل وعلى ما يخفيه الناس عادة. وإذن الصبي والخادم لا يبيح الدخول في البيوت الخالية من أصحابها، فإن كان صاحب الدار موجودا فيها، اعتبر إذن الصبي والخادم إذا كان رسولا من صاحب الدار، وإلا لم يجز الدخول.
وقوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً المدار فيه على ظن الطارق، فإن كان يظن أنه ليس بها أحد، فلا يحل له أن يدخلها.
لكن يستثني بداهة وشرعا حالة الضرورة، كمداهمة البيت لحرق أو غرق أو مقاومة منكر أو منع جريمة ونحو ذلك.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ: ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي إن طلب منكم صاحب البيت الرجوع، فارجعوا فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، والوقوف على
204
الأبواب، أو القعود أمامها بعد أن تردوا، ففي ذلك ذل ومهانة وعيب، وإحراج لصاحب البيت.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أي أن الله عليم بنياتكم وأقوالكم وأفعالكم، فيجازيكم عليها. وهذا وعيد لمن يخالف ما أرشد الله إليه، فإن القصد من هذا الإخبار هنا تقرير الجزاء على هذه الأعمال.
ثم بيّن الله تعالى حكم البيوت غير المسكونة، فقال:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي لا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كالفنادق وحوانيت التجار والحمامات العامة ونحوها من الأماكن العامة، إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وإيواء الأمتعة، والمعاملة بيعا وشراء وغيرهما، والاغتسال، ونحو ذلك.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي إن الله تعالى عليم بما تظهرونه من استئذان عند الدخول، وما تضمرونه من قصد سيء من حب الاطلاع على عورات الناس. وهذا وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون البيوت للاطلاع على عوراتها، وهو شبيه بالوعيد الذي ختمت به الآية السابقة.
وهذه الآية الكريمة أخص من سابقتها، ومخصصة لعموم الآية المتقدمة المانعة مطلقا من دخول بيوت الآخرين، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، بغير إذن، كالبيت المستقل المعد للضيف بعد الإذن له فيه أول مرة، ولم يكن مجرد غرفة ضمن غرف أخرى.
205
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- تحريم دخول بيت الآخرين من غير استئذان وجوبا، وسلام وتحية ندبا، ويكون السلام قبل الاستئذان، كما دلت السنة.
والسنة في الاستئذان كما تقدم أن يكون ثلاث مرات لا يزاد عليها. وصورة الاستئذان أن يقول الشخص رجلا كان أو امرأة، بصيرا أو أعمى: السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن لم يجبه أحد استأذن ثلاثا ثم ينصرف من بعد الثلاث.
قال مالك: الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع.
وقال المالكية: إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا، سمع وفهم، ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم، سلم عليهم ثلاثا، وإذا كان الغالب هذا فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث، ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه، فينبغي للمستأذن أن ينصرف لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه، فخرج مستعجلا فقال:
«لعلنا أعجلناك..» الحديث.
أما اليوم حيث اتخذ الناس الأبواب والأجراس، فصار الاستئذان بقرع الباب أو بدق الجرس، فإن طلب من الطارق التعريف بنفسه وجب عليه ذلك، منعا من الإزعاج والتخويف أو الإحراج والمضايقة.
206
ولا يستقبل المستأذن الباب بوجهه، وإنما يقف يمينا وشمالا، بحيث إذا فتح الباب لا يقع النظر فجأة على ما يكره صاحب البيت.
وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت أبواب النبي صلّى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير «١».
ودليل التعريف بشخص الداخل
ما روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: استأذنت على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «من هذا» ؟
فقلت: أنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أنا أنا» كأنه كره ذلك لأن قوله: «أنا»
لا يحصل بها تعريف، وإنما أن يذكر اسمه، كما فعل عمر وأبو موسى رضي الله عنهما.
ولكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة، وكان الناس في الماضي يسلمون، ثم تركوا السلام لاتخاذ الأبواب التامة الستر، المحكمة الإغلاق. وهذا في بيت الآخرين.
أما في بيت الإنسان الخاص، فلا حاجة فيه للإذن إن كان فيه الأهل (الزوجة). والسنة السلام إذا دخل. قال قتادة: إذا دخلت على بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم. فإن كان فيه مع الأهل أمك أو أختك، فقال العلماء: تنحنح واضرب برجلك حتى تنتبها لدخولك لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها، وأما الأم والأخت فقد تكونان على حالة لا تحب أن تراهما فيه.
وإذا دخل بيت نفسه وليس فيه أحد، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، كما قال قتادة. والملائكة ترد عليه.
وإذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب الباب، فطعن أحدهم عينه
(١) ذكره أبو بكر علي بن ثابت الخطيب في جامعه.
207
فقلعها، فقال الشافعي وأحمد: لا شيء عليه،
لما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم، ففقئوا عينه، فقد هدرت عينه»
وعبارة مسلم: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم، حلّ لهم أن يفقؤوا عينه».
وروى سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لمن اطلع في إحدى حجراته، وكانت في يده مدرى يحك بها رأسه: «لو كنت أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك».
وقال أبو حنيفة ومالك: إن فقأ عينه فعليه الضمان من قصاص أو أرش (تعويض أو دية) لعموم قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة ٥/ ٤٥]. ثم إن الاعتداء جناية، يستوجب الأرش أو القصاص. أما الأحاديث السابقة فهي منسوخة، وكان ذلك قبل نزول قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل ١٦/ ١٢٦]. ويحتمل أن يكون ذلك على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر، وهو يريد شيئا آخر كما
جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال: «قم فاقطع لسانه»
وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة. وكذلك هذا يحتمل أن يراد بفقء العين أن يعمل به عملا حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره.
٢- تحريم الدخول إلى بيت الآخرين إذا لم يوجد فيه صاحبه حتى يؤذن له، وهذا مستفاد من الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها، التقدير: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا، وإلا فارجعوا، فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا.
208
ولا فرق في وجوب الاستئذان وتحريم الدخول بغير إذن بين أن يكون الباب مغلقا أو مفتوحا.
ويجوز الإذن من الصغير والكبير، وقد كان أنس بن مالك يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم.
٣- قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لأهل التجسس على البيوت، وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز.
٤- إباحة الدخول في البيوت غير المسكونة والأماكن العامة كالفنادق والحوانيت والحمامات العامة ونحوها، إذا كان الدخول لمصلحة أو حق انتفاع كالمبيت والمعاملة والاغتسال وإيداع الأمتعة ونحو ذلك.
وعلى هذا تكون آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ.. لرفع حكم الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل الاطلاع على الحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم.
الحكم السابع حكم النظر والحجاب
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
209
الإعراب:
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ يَغُضُّوا مجزوم بجواب قل، ومِنْ هنا لبيان الجنس.
وقال الزمخشري: للتبعيض. وزعم الأخفش أنها زائدة، أي قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، والأكثرون على خلافه لأن من لا تزاد في حال الإيجاب، وإنما تزاد حال النفي.
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ غَيْرِ بالجر: صفة ل التَّابِعِينَ أو بدل منهم لأنه ليس بمعرفة صحيحة لأنه ليس بمعهود. وقرئ بالنصب غير على الحال أو الاستثناء. قال مكي رحمه الله تعالى: ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع.
البلاغة:
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ فيه إيجاز بالحذف، أي عما حرّم الله، لا عن كل شيء.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ مجاز مرسل، والمراد مواقع الزينة، من إطلاق الحال وإرادة المحل، مبالغة في الأمر بالتستر والتصون.
المفردات اللغوية:
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي يكفّوا البصر عما لا يحل لهم النظر إليه. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عما لا يحل لهم فعله بها. وسبب التفرقة بين غض البصر بذكر مِنْ وبين حفظ الفروج دون ذكر من: أن غض البصر فيه توسع إذ يجوز النظر إلى المحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وإلى وجه المرأة الأجنبية وكفيها، وقدميها في إحدى الروايتين، وأما أمر الفروج فمضيق، كما ذكر
210
في الكشاف، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، أي فالأصل في الفروج الحظر، وفي النظر الإباحة. وتقديم الغض على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنى.
أَزْكى خير وأطهر. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ بالأبصار والفروج، فيجازيهم عليه.
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال. وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتستر أو التحفظ عن الزنى، أي بحفظ فروجهن عما لا يحل لهن فعله بها. يُبْدِينَ يظهرن. زِينَتَهُنَّ كالحلي والثياب والأصباغ، أو لا يظهرن مواضع الزينة لمن لا يحل أن تبدي له. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم، فإن في سترها حرجا. وقيل: المراد هو الوجه والكفان، فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين لأنها ليست بعورة، والوجه الثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة. قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم القريب النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة والتعليم والمعاملة وتحمل الشهادة.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب: جمع جيب: وهو فتحة في أعلى الجلباب (أو الثوب) يبدو منها بعض الصدر. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي الخفية، أو مواضع الزينة، وهي ما عدا الوجه والكفين، وكرر ذلك لبيان من يحل له الإبداء ومن لا يحل له. إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أزواجهن، جمع بعل: أي زوج، فإنهم هم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدن الزوجة، حتى الفرج مع الكراهة. أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ.. إلى قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ رفعا للحرج بسبب كثرة المعاشرة والمخالطة والمداخلة، وقلة توقع الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسة الأقارب، فيجوز لهم نظره إلا ما بين السرة والركبة، فيحرم نظره لغير الأزواج. وخرج بقوله: نِسائِهِنَّ الكافرات، فلا يجوز في رأي الجمهور للمسلمات الكشف أمامهن لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال. وأجاز الحنابلة ذلك لأن المراد جنس النساء أو كلهن.
وما ملكت أيمانهن: هم العبيد والجواري (الإماء).
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الْإِرْبَةِ الحاجة إلى النساء، أي غير أولي الحاجة إلى النساء، وهم الشيوخ الهرمى الذين لا يحدث لهم انتشار ذكر، وقيل: البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم، ولا يعرفون شيئا من أمور النساء، وفي المجبوب والخصي خلاف. أَوِ الطِّفْلِ الأطفال، لعدم تمييزهم. لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا على عورات النساء للجماع، ولم يعرفوا ذلك لعدم بلوغهم حد الشهوة أو لصغرهم، فيجوز الإبداء لهم ما عدا ما بين السرة والركبة.
والطِّفْلِ جنس وضع موضع الجمع، اكتفاء بدلالة الوصف، أو أنه يطلق على الواحد والجمع.
211
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي الخلخال الذي يتقعقع فإن ذلك يلفت النظر ويورث الميل عند الرجال، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة، وأدل على المنع من رفع الصوت. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مما وقع لكم من النظر الممنوع. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي بسعادة الدارين، وتنجون من الإثم لقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلا مرّ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال:
والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت برتين «١» من فضة، واتخذت جزعا (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الجزع، فصوّت، فأنزل الله وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية.
(١) برتين من فضة: مفرد برة، والبرة: الخلخال، وكل حلقة من سوار وقرط.
212
المناسبة:
الآية واضحة الاتصال بما قبلها، فإن الدخول إلى البيوت مظنة الاطلاع على العورات، لذا أمر المؤمنون والمؤمنات بغض البصر بصورة حكم عام يشمل المستأذن للدخول إلى البيوت وغيره، فيجب على المستأذن التحلي به عند الاستئذان والدخول، منعا من انتهاك الحرمات المنهي عنها، كما يجب على النساء عدم إبداء الزينة لأحد إلا للمحارم، لما في ذلك من الفتنة الداعية إلى الوقوع في الحرام، كالنظر الذي هو أيضا بريد الزنى، فالجامع بين حكم النظر والحجاب سد الذرائع إلى الفساد.
التفسير والبيان:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي قل يا محمد لعبادنا المؤمنين: كفّوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، فلا تنظروا إلا إلى ما أباح لكم النظر إليه. والتعبير بالمؤمنين: إشارة إلى أن من شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر. وليس المراد بغض البصر إغماض العين وإطباق أجفانها، بل المراد جعلها خافضة الطرف من الحياء، ومِنْ للتبعيض أي يغضوا بعض أبصارهم، فلا يحملقوا بأعينهم في محرم، ويكون المراد حينئذ توبيخ من يكثر التأمل في المحرم، كما حدث في سبب النزول الذي أخرجه ابن مردويه، وللتفرقة في الأمر بين غض البصر وحفظ الفروج، فإن الأصل في الفروج التحريم إلا ما استثني، وأما النظر فالأصل فيه الإباحة إلا ما استثني كما بينا.
فإن وقع البصر على محرّم من غير قصد، وجب إغضاء الطرف وصرف النظر عنه سريعا
لما رواه مسلم في صحيحة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن نظر
213
الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري».
وروى أبو داود عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة».
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله، لا بدّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقّه، قالوا:
وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»
.
وسبب الأمر بغض البصر هو سدّ الذرائع إلى الفساد، ومنع الوصول إلى الإثم والذنب، فإن النظر بريد الزنى، وقال بعض السلف: النظر سهم سمّ إلى القلب، ولذلك جمع الله في الآية بين الأمر بحفظ الفروج، والأمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى المحظور الأصلي وهو الزنى، فقال:
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي من ارتكاب الفاحشة كالزنى واللواط ومن نظر أحد إليها، كما
روى أحمد وأصحاب السنن: «احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك».
وقال تعالى مبينا حكمة الأمر بالحكمين:
ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي إن غض البصر وحفظ الفرج خير وأطهر لقلوبهم، وأنقى لدينهم، كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته، أو في قلبه.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغض بصره، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها»
وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه».
وأزكى الذي هو أفعل التفضيل للمبالغة في أن
214
غض البصر وحفظ الفرج يطهران النفوس من دنس الرذائل. والمفاضلة على سبيل الفرض والتقدير، أو باعتبار ظنهم أن في النظر نفعا.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ أي إن الله عليم علما تاما بكل ما يصدر عنهم من أفعال، لا تخفى عليه خافية، وهذا تهديد ووعيد، كما قال تعالى: يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر ٤٠/ ١٩] فهو يعلم استراق النظر وسائر الحواس، والخبرة: العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء.
أخرج البخاري في صحيحة تعليقا ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كتب على ابن آدم حظّه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرّجلين الخطا، والنفس تمنّي وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه».
وخلافا لما عليه غالب الخطابات التشريعية من دخول النساء في الحكم بخطاب الرجال تغليبا، أمر الله تعالى المؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج كما أمر الرجال، تأكيدا للمأمور به، وبيان بعض الأحكام التي تخصهن وهي النهي عن إبداء الزينة، والحجاب، والامتناع عن كل ما يلفت النظر إلى زينتهن، فقال تعالى:
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي وقل أيها الرسول أيضا للنساء المؤمنات: اغضضن أبصاركن عما حرم الله عليكن من النظر إلى غير أزواجكن، واحفظن فروجكن عن الزنى ونحوه كالسحاق، فلا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا، في رأي كثير من العلماء، بدليل
ما رواه أبو داود والترمذي عن أم سلمة: «أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما
215
أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلت: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو عمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟».
وفي الموطأ عن عائشة أنها احتجبت عن أعمى، فقيل لها:
إنه لا ينظر إليك، قالت: لكنني أنظر إليه.
وأجاز جماعة آخرون من العلماء نظر النساء إلى الرجال الأجانب بغير شهوة فيما عدا ما بين السرة والركبة، بدليل ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة، وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت. وهذا الرأي أيسر في عصرنا.
وأصحاب الرأي الثاني وهو جواز النظر بغير شهوة يحملون الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي الله عنها من الأعمى كان ورعا منها، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار متنقبات، حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة في الحكم بين الرجال والنساء.
ثم ذكر الله تعالى الأحكام الخاصة بالنساء وهي ما يلي:
١- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب حين التحلي بها وهي كل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها، فيكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه بالأولى، أو لا يظهرن مواضع الزينة بإطلاق الزينة وإرادة مواقعها، بدليل قوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها والثاني هو الأولى لأن الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي، وعلى كل حال هناك تلازم بين الزينة وموضعها، والغاية هي النهي عن أجزاء الجسد التي تكون
216
محلا للزينة، كالصدر والأذن والعنق والساعد والعضد والساق.
وأما ما ظهر منها فهو الوجه والكفان والخاتم، كما نقل عن ابن عباس وجماعة، وهو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له
بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
وهو حديث مرسل.
وبناء عليه قال الحنفية والمالكية، والشافعي في قول له: إن الوجه والكفين ليسا بعورة، فيكون المراد بقوله: ما ظَهَرَ مِنْها ما جرت العادة بظهوره.
وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا لأن الحرج في سترهما أشد منه في ستر الكفين، لا سيما أهل الريف. وعن أبي يوسف: أن الذراعين ليستا بعورة، لما في سترهما من الحرج.
وذهب الإمام أحمد، والشافعي في أصح قوليه إلى أن بدن الحرة كله عورة، للأحاديث المتقدمة في نظر الفجأة، وتحريم متابعة النظر،
ولما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، فطفق الفضل ينظر إلى امرأة وضيئة خثعمية حين سألته، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلم بذقن الفضل، فحول وجهه عن النظر إليها.
ويكون المراد بقوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ما ظهر بنفسه من غير قصد.
والراجح فقها وشرعا أن الوجه والكفين ليسا بعورة إذا لم تحصل فتنة، فإن خيفت الفتنة وحصلت المضايقة وكثر الفساق وجب ستر الوجه. وأما أدلة الفريق الثاني فمحمولة على الورع والاحتياط ومخافة الفتنة والاسترسال في مزالق الشيطان.
217
ويجوز شرعا استثناء وللضرورة النظر إلى الأجنبية كحال الخطوبة والشهادة والقضاء والمعاملة والمعالجة والتعليم، ففي كل هذه الأحوال يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط، ويجوز للطبيب إذا لم توجد طبيبة النظر إلى موضع العلة أو الداء للعلاج.
٢- وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي ليسدلن ويرخين أغطية الرؤوس على أعلى أجزاء الصدر لستر الشعور والأعناق والصدور. والضرب هنا:
السدل والإلقاء والإرخاء، والخمر: جمع خمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والجيوب: جمع جيب: وهو فتحة في أعلى الثوب يبدو منها بعض النحر.
وهذا أمر إرشاد لستر بعض مواضع الزينة الباطنة عند النساء، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن مروطهن (أزرهن) فاختمرن بها.
٣- وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أي لا يظهرن زينتهن الخفية إلا لأزواجهن فهم المقصودون بالمتعة والنظر، أو آباء النساء والأجداد، أو آباء الأزواج أو أبناء النساء أو أبناء الأزواج أو الإخوة والأخوات وبني الإخوة أو بني الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم، فكل هؤلاء محارم يجوز للمرأة أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج، وهؤلاء هم الأقارب من النسب وهم خمسة أنواع، وفيهم نوعان من الأقارب لأجل المصاهرة وهما آباء الأزواج وأبناء الأزواج، ولكن لم تذكر الآية من المحارم النسبية الأعمام والأخوال لأن العمومة والخؤولة بمنزلة الأبوة. كذلك لم تذكر المحارم من الرضاع ولكن نصت السنة عليهم
فيما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
218
أَوْ نِسائِهِنَّ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ، أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ هؤلاء بقية الأنواع الذين يجوز للمرأة إظهار الزينة فيما عدا ما بين السرة والركبة، وهم النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الحاجة إلى النساء وهم الأجراء والأتباع الذين لا شهوة عندهم إلى النساء، كالخصيان والمجبوبين والمعتوهين، والأطفال الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن لصغرهم وعدم اطلاعهم على القضايا الجنسية.
لكن وقع خلاف بين العلماء في النساء والمماليك والتابعين والأطفال، أما النساء: فقال الجمهور: المراد النساء المسلمات أي نسائهن في الدين، دون نساء أهل الذمة، فلا يجوز للمسلمة إظهار شيء من جسمها ما عدا الوجه والكفين أمام المرأة الكافرة، لئلا تصفها لزوجها أو غيره، فهي كالرجل الأجنبي بالنسبة لها.
أما المسلمة فتعلم أن ذلك حرام، فتنزجر عنه،
أخرج الشيخان في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها، كأنه ينظر إليها».
روى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: «أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانه من قبلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها».
وقال جماعة منهم الحنابلة: إن المراد بهن عموم النساء المسلمات والكافرات، فتكون الإضافة في قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ للمشاكلة والمشابهة أي من جنسهن، وتكون عورة المرأة بالنسبة للمرأة مطلقا ما بين السرة والركبة فقط.
وأما ما ملكت أيمانهن: فقال الأكثرون: يشمل الرجال والنساء، فيجوز أن
219
تظهر المرأة على رقيقها من الرجال والنساء ما عدا ما بين السرة والركبة
لما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك».
وذهبت طائفة إلى أن ذلك مخصوص بالإماء فقط لأن العبد رجل كالحر الأجنبي في التحريم.
وأما التابعون غير أولي الإربة أي الحاجة إلى النساء: فهم الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم من غير أن تكون لهم حاجة في النساء ولا ميل إليهن، واختلف العلماء في المراد بهم فقيل: إنه الشيخ الفاني الذي فنيت شهوته، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا، أو المجبوب، أو الخصي أو الممسوح أو خادم القوم للعيش أو المخنث. والمعتمد أن المراد به: كل من ليس له حاجة إلى النساء، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب،
أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم مخنّث، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو ينعت امرأة يقول: إذا أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلن عليكن» فأخرجه من المنزل.
وأما الأطفال الذين لم يطلعوا على عورات النساء: فهم الذين لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن، ولم يظهر عندهم الميل الجنسي القوي لصغر سنهم، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، أما المراهق أو القريب من المراهقة قبل البلوغ الذي يحكي ما يرى، ويفرّق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء، بدليل وجوب استئذان الطفل عند
220
دخول البيوت، في أوقات ثلاثة، بيّنها الله تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.. الآية [النور ٢٤/ ٥٩].
وقال جماعة آخرون: لا يحرم على المرأة إبداء زينتها للطفل إلا إذا كان فيه تشوق إلى النساء، سواء أكان مراهقا أم غير مراهق، والإباحة هنا أوسع مما قرره أصحاب الرأي الأول.
ثم نهى الله تعالى عما يكون وسيلة أو ذريعة إلى الفتنة فقال:
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يجوز للمرأة أن تدق برجليها في مشيتها، ليعلم الناس صوت خلاخلها لأنه مظنة الفتنة والفساد، ولفت الأنظار، وإثارة مشاعر الشهوة، وإساءة الظن بأنها من أهل الفسوق، فإسماع صوت الزينة كإبدائها وأشد، والغرض التستر.
وهذا يشمل كل ما يؤدي إلى الفتنة والفساد كتحريك الأيدي بالأساور، وتحريك الجلاجل (المقصات) في الشعر، والتعطر والتطيب والزخرفة عند الخروج من البيت، فيشم الرجال طيبها، ويفتتنون بزخارفها
روى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا»
يعني زانية.
وأخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل من الجنابة».
واللام في قوله: لِيُعْلَمَ لام العاقبة أو الصيرورة، فهي منهية عن الضرب بالأرجل أمام الرجال الأجانب مطلقا، سواء قصدت إعلامهم أم لم تقصد، فإن عاقبة الضرب بالأرجل ذات الخلاخل، ومثلها (الأحذية الحالية ذات الكعاب العالية) أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة، فتقع الفتنة بها.
221
واستدل الحنفية بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة، فإنها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى.
والظاهر أن صوت المرأة ليس بعورة إن أمنت الفتنة، بدليل أن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال الأجانب.
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي ارجعوا إلى طاعة الله والإنابة إليه أيها المؤمنون جميعا، وافعلوا ما أمركم به من هذه الصفات والأخلاق الحميدة، واتركوا ما نهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج والدخول إلى بيوت الآخرين بلا استئذان وما كان عليه الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وخوطبوا بصفة الإيمان للتنبيه على أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال وعلى التوبة والاستغفار من الهفوات والزلات، فإن التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- وجوب غض البصر من الرجال والنساء عما لا يحل من جميع المحرّمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله لأن البصر مفتاح الوقوع في المنكرات، وشغل القلب بالهواجس، وتحريك النفس بالوساوس، وبريد السقوط في الفتنة أو الزنى، ومنشأ الفساد والفجور.
٢- وجوب حفظ الفروج أي سترها عن أن يراها من لا يحل، وحفظها من التلوث بالفاحشة كالزنى واللواط، واللمس والمفاخذة والسحاق.
٣- تحريم الدخول إلى الحمام بغير مئزر، قال ابن عمر: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمّام في خلوة، أي في وقت لا يوجد فيه الناس أو قلة الناس.
222
وذكر الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اتقوا بيتا يقال له الحمّام، قيل: يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار، فقال: إن كنتم لا بد فاعلين فأدخلوه مستترين».
٤- إن غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين، وأبعد من دنس الذنوب، والله مطّلع عالم بأفعال العباد ونيات القلوب وهمسات الألسن، واستراق السمع والبصر، وبكل شيء، لا تخفى عليه خافية، ويجازي على ذلك كله.
٥- العورات أربعة أقسام:
أ- عورة الرجل مع الرجل: يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة، وهما ليستا بعورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الركبة عورة.
وقال مالك: الفخذ ليست بعورة أي في الصلاة لا في النظر، والدليل على أنها عورة ما
روي عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلم مرّ به في المسجد، وهو كاشف عن فخذه، فقال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الحاكم عن محمد بن عبد الله بن جحش: غطّ فخذك، فإن الفخذ عورة»
وقال لعلي رضي الله عنه فيما رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن علي: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت».
أما الأمرد فلا يحل النظر إليه.
ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش
لما روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد».
وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة لما
روى أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا»، قال: أيلتزمه ويقبّله؟ قال: «لا»، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم».
223
ب- وعورة المرأة مع المرأة: كعورة الرجل مع الرجل، لها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، وعند خوف الفتنة لا يجوز، ولا تجوز المضاجعة.
والأصح أن المرأة الذمية (غير المسلمة) لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين، والله تعالى يقول: أَوْ نِسائِهِنَّ وليست الذمية من نسائنا.
ج- وعورة المرأة مع الرجل: إن كانت أجنبية عنه فجميع بدنها عورة، ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لحاجتها لذلك في البيع والشراء. ولا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض، وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره، للآية: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ.
وأجاز أبو حنيفة النظر مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة. ولا يجوز أن يكرر النظر إليها،
للحديث المتقدم: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة».
ويجوز النظر للخطبة،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان والطبراني عن أبي حميد الساعدي: «إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم»
ويجوز النظر عند البيع ليعرفها عند الحاجة، وكذلك يجوز عند تحمل الشهادة النظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. أما النظر للشهوة فهو محظور
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد والطبراني عن ابن مسعود: «العينان تزنيان».
كذلك يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمرأة للمعالجة، ويجوز للختّان أن ينظر إلى فرج المختون لأنه موضع ضرورة، ويجوز تعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنى، وإلى فرج المرأة لتحمل شهادة الولادة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. ويصح النظر لبدن المرأة للإنقاذ من غرق أو حرق وتخليصها منه.
224
وأما إذا كانت المرأة ذات محرم من الرجل بنسب أو رضاع أو مصاهرة فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وقال جماعة منهم أبو حنيفة:
بل عورتها معه: ما لا يبدو عند المهنة.
وأما إذا كانت المرأة زوجة: فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها، حتى إلى فرجها، غير أنه يكره النظر إلى الفرج.
د- وعورة الرجل مع المرأة: إن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل: جمع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه، والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل لأن بدن المرأة في ذاته عورة، بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة، ولا تكرار النظر إلى وجهه،
للحديث السابق: «احتجبا منه»
أي عن ابن أم مكتوم، وإن كان أعمى.
وإن كان زوجا فلها أن تنظر إلى جميع بدنه، غير أنه يكره النظر إلى الفرج، كما يكره له أيضا.
ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال، وله ما يستر عورته لأنه
روي أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عنه، فقال فيما رواه البخاري والترمذي وابن ماجه: «الله أحق أن يستحيي منه»
وقال فيما أخرجه الترمذي عن ابن عمر: «إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله» «١».
٦- أمر الله تعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين إلا الوجه والكفين حذرا من الافتتان، والزينة نوعان: ظاهر وباطن، أما الظاهر فمباح لكل الناس من المحارم والأجانب. وأما الباطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سمّاهم الله تعالى في هذه الآية.
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٢٠٢- ٢٠٤
225
أما السّوار: فقالت عائشة: هو من الزينة الظاهرة لأنه في اليدين.
وقال مجاهد: هو من الزينة الباطنة لأنه خارج عن الكفين، وإنما يكون في الذراع. وأما الخضاب فهو- في رأي ابن العربي- من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
٧- يجب على المرأة ستر شعرها وعنقها ومقدم صدرها، لقوله تعالى:
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمار: ما تغطي به المرأة رأسها. روى البخاري عن عائشة قالت: رحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شققن أزرهن فاختمرن بها.
٨- استثنى الله تعالى من الرجال الذين لا يجوز للمرأة إبداء زينتها لهم المحارم ومن في حكمهم وهم الأزواج، وآباءهن وكذا الأجداد، سواء من جهة الأب أو الأم، وأبناء الأزواج ذكورا وإناثا، والإخوة الأشقاء أو لأب أو لأم، وأبناء الإخوة كذلك. ويلحق بهم الأعمام والأخوال، وهؤلاء هم الأقارب من جهة النسب، ومثلهم الأقارب من جهة الرضاع، وجميع هؤلاء يسمون المحارم.
ومن الاستثناء: النساء والمماليك العبيد والإماء المسلمات والكتابيات، في رأي الأكثرين، وقيل: الإماء فقط، والتابعون غير أولي الإربة وهم المسنون الضّعفة أو البله، أو العنّين أو الممسوح، وهم في المعنى متقاربون، والأطفال الذين لم يفهموا شيئا عن عورات النساء، ولم يظهر فيهم الميل الجنسي لصغر سنهم.
٩- يحرم على المرأة فعل ما شأنه الإيقاع في الفتنة والفساد والتبرج والتعرض للرجال، كالضرب بالنعال، والتعطر والتزين عند الخروج من البيت. فإن ضربت المرأة بنعلها فرحا بحليها فهو مكروه كما ذكر القرطبي.
١٠- التوبة على المؤمنين والمؤمنات واجبة وفرض متعين بلا خلاف بين
226
الأمة، فإن كل إنسان محتاج إلى التوبة لأنه لا يخلو من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تترك التوبة في كل حال، ويلزم تجديد التوبة كلما تذكر الإنسان ذنبه لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه.
أخرج أحمد والبخاري والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة».
وشروط التوبة أربعة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها.
الحكم الثامن والتاسع والعاشر زواج الأحرار ومكاتبة الأرقاء والإكراه على الزنى
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
227
الإعراب:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الَّذِينَ مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم الذين يبتغون الكتاب. أو فَكاتِبُوهُمْ هو الخبر، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط.
المفردات اللغوية:
الْأَيامى جمع أيّم: وهي من الحرائر كل من ليس لها زوج، بكرا كانت أو ثيبا، وكل من ليس له زوج من الأحرار وَالصَّالِحِينَ للزواج والقيام بحقوقه مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ عباد: جمع عبد، وإماء: جمع أمة وهي الرقيقة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي غني ذو سعة لا تنفذ نعمته إذ لا تنتهي قدرته عَلِيمٌ بخلقه يبسط الرزق ويقدر على مقتضى حكمته.
لْيَسْتَعْفِفِ ليجتهد في العفة لا يَجِدُونَ نِكاحاً لا يتمكنون من مؤن النكاح وأسبابه المالية من مهر ونفقة، ويجوز أن يراد بالنكاح: ما ينكح به حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يوسع عليهم من فضله، فيجدون ما يتزوجون به الْكِتابَ المكاتبة: وهي أن يقول السيد لمملوكه:
كاتبتك على كذا من الأقساط، فإن أديتها فأنت حر، فهي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدي مالا لسيده، فيعتق، أو هي إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال مقسطا فَكاتِبُوهُمْ الأمر فيه للندب عند أكثر العلماء إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي أمانة وقدرة على الكسب والاحتراف لأداء مال الكتابة، وقيل: صلاحا في الدين وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أمر للسادة بإعطاء المكاتبين شيئا من المال للاستعانة به في أداء ما التزموه لكم، أو حط شيء من مال الكتابة، وهو للوجوب عند الأكثر، ويكفي أقل ما يتمول. وقيل: ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا. وقيل:
أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهما من الزكاة، ويحل للمولى السيد وإن كان غنيا لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ لا تكرهوا إماءكم على الزنى إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً تعففا عنه، وهذا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه، وإن جعل شرطا للنهي بقوله: وَلا تُكْرِهُوا فلا مفهوم للشرط، أي لا يلزم من عدم إرادة التحصن جواز الإكراه، فهو حرام مطلقا. نزلت في عبد الله بن أبي كان له ست جوار يكرههن على الكسب بالزنى غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لهن رحيم بهن، والإكراه لا ينافي المؤاخذة، فلا يقال: إن المكرهة غير آثمة، فلا حاجة إلى المغفرة، ولذا حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص عند جماعة كالشافعية. لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتطلبوا بالإكراه الكسب.
228
مُبَيِّناتٍ مفصّلات ما تحتاجون إلى بيانه من الأحكام والحدود والآداب. وعلى قراءة فتح الباء يكون المعنى: مبيّن فيها ما ذكر وَمَثَلًا أي قصة عجيبة وهي قصة عائشة ويوسف ومريم مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي ومثلا من أمثال من قبلكم، أي من جنس أمثالهم وأخبارهم العجيبة، كقصة يوسف ومريم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي عظة يوعظ بها المتقون، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالعظة.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٣) :
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحو يطب بن عبد العزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حو يطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب.
نزول آية: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ:
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مسيكة وأميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية.
وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنى، فأتتا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشكتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
229
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى عما لا يحل مما يفضي إلى السفاح أو الزنى المؤدي إلى اختلاط الأنساب كغض البصر وحفظ الفروج، أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج الحافظ للأنساب وبقاء النوع الإنساني وترابط الأسرة ودوام الألفة وحسن تربية الأولاد، فقال: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والخطاب للأولياء والسادة.
التفسير والبيان:
موضوع الآيات بيان طائفة من الأحكام والأوامر، أولها الأمر بالتزويج.
الحكم الثامن- ما يتعلق بالزواج:
قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ أي زوجوا أيها الأولياء والسادة أو أيتها الأمة جميعا بالتعاون وإزالة العوائق من لا زوج له من الرجال والنساء الأحرار والحرائر، ومن فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم وقدرة على القيام بحقوق الزوجية وساعدوهم على الزواج بالإمداد بالمال، وعدم الإعاقة من التزويج، وتسهيل الوسائل المؤدية إليه. والصحيح أن الخطاب للأولياء، وقيل: للأزواج.
وظاهر الأمر في رأي الجمهور للندب والاستحباب والاستحسان لأنه كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء، ولم ينكر أحد عليهم، ولأنه ليس للولي إجبار الأيم الثيب لو أبت التزوج، ولاتفاق العلماء على أنه لا يجبر السيد على تزويج عبده وأمته.
وذهبت طائفة من العلماء كالرازي إلى أن ظاهر الأمر هنا للوجوب على كل من قدر عليه،
لخبر الصحيحين عن ابن مسعود: «يا معشر الشباب من استطاع
230
منكم الباءة- مؤن الزواج- فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء».
ولما
جاء في السنن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فيما رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم».
ورتبوا على القول بالوجوب ألا يجوز النكاح إلا بولي.
والمراد بالصلاح: معناه الشرعي وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه. وقيل:
المراد به المعنى اللغوي وهو أهلية النكاح والقيام بحقوقه. والعباد كالعبيد: جمع عبد وهو الذكر من الأرقاء. والإماء جمع أمة، وهي الأنثى الرقيقة. وقوله وَالصَّالِحِينَ بتغليب الذكور على الإناث، واعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى الأحرار والحرائر لأنه عنصر مشجع على التغاضي من قبل السيد عن منافع العبيد والإماء، فلا يدفعهم إلى التزويج إلا استقامة هؤلاء المماليك وصلاحهم أو ظن قيامهم بحقوق الزوجية.
واستدل الإمام الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على جواز تزويج الولي البكر البالغة بدون رضاها لأن الخطاب في الآية للأولياء، فهم المأمورون بالتزويج لمن لهم الولاية عليهم، سواء كانت المولية كبيرة أم صغيرة، وسواء رضيت أم لم ترض. ولولا وجود أدلة أخرى من السنة على أنه لا يزوج الولي الثيب الكبيرة بغير رضاها، لكان حكمها حكم البكر الكبيرة، لعموم الآية. لكن
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس: «البكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها»
يدل على وجوب استئذانها واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية.
واستدل الشافعية بالآية على أن المرأة لا تلي عقد الزواج لأن المأمور بتزويجها وليها، لكن الأولى حمل الخطاب في الآية على أنه خطاب للناس جميعا بندبهم إلى المساعدة في التزويج، فيؤخذ حكم مباشرة العقد من غير هذه الآية.
واستدل بعض الحنفية بظاهر الآية: وَأَنْكِحُوا على أنه يجوز للحر أن
231
يتزوج بالأمة، ولو كان مستطيعا مهر الحرة. ورد الشافعية بأن قوله تعالى:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا- مهرا- أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء ٤/ ٢٥] أخص من هذه الآية، والخاص مقدم على العام. كما أن العلماء أجمعوا على أن عموم الأيامى في الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مقيد بشروط: ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة كالجمع بين الأختين ونحوهما كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.
واستدل العلماء بقوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ على أمرين:
الأول- أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته بدون رضاهما.
والثاني- أنه لا يجوز للعبد ولا للأمة أن يتزوجا بغير إذن السيد، منعا من تفويت استعمال حقه، ويؤيده
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه، فهو زان».
ثم أزال الله تعالى التعلل بعدم وجدان المال فقال:
إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ هذا وعد بالغنى للمتزوج، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، سواء فقر الخاطب أو المخطوبة، ففي فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ولا حد لقدرته، عليم بأحوال خلقه، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على وفق الحكمة والمصلحة.
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله».
وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. إلا أن إغناء المتزوج مشروط بالمشيئة لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة ٩/ ٢٨] وقوله هنا: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي يعلم المصلحة فيعطي بالحكمة.
232
وضمير إِنْ يَكُونُوا راجع إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء، فيكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة. وقيل: إنه يرجع إلى الأيامى الأحرار والحرائر فقط لأن المراد بالإغناء في قوله تعالى:
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هو تمليك ما يحصل به الغنى، والأرقاء لا يملكون.
واستدل بعض العلماء بالآية على عدم جواز فسخ الزواج بالعجز عن النفقة لأن الله تعالى لم يجعل الفقر مانعا من التزويج في ابتداء الأمر، فلا يمنع استدامة الزواج بالأولى. وعلى كل حال فإن المقصود بالآية أنه يندب ألا يرد الخاطب الفقير ثقة بما عند الله، كذلك يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر.
ويفهم من الآية أنه يندب للفقير أن يتزوج ولو لم يجد مؤن الزواج لأنه إذا ندب الولي إلى تزويج الفقير، ندب الفقير نفسه إلى الزواج.
وبعد الأمر بتزويج الحرائر والإماء أغنياء أو فقراء، وضع القرآن العلاج لحال العاجز عن وسائل الزواج، ولم يجد أحدا يزوجه، فقال تعالى:
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من نفقات الزواج، ويكون المراد بالنكاح حقيقته الشرعية، وبالوجدان التمكن منه، ويجوز أن يراد بالنكاح هنا ما ينكح به، كركاب الذي هو اسم آلة لما يركب به. والمراد بالآية توجيه العاجزين عما يتزوجون به أن يجتهدوا في التزام جانب العفة عن إتيان ما حرم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون، فالتعفف عن الحرام واجب المؤمن، وفي الآية وعد كريم من الله بالتفضل عليهم بالغنى، فلا ييأسوا ولا يقلقوا.
جاء في الحديث الصحيح المتقدم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه
233
بالصوم، فإنه له وجاء»
والباءة: مؤن الزواج من مهر ونفقة وغيرها.
واستدل بعض العلماء بالآية على أنه يندب ترك الزواج لمن لا يملك أهبته مع التوقان، وحينئذ يكون هناك تعارض مع الآية السابقة التي تندب إلى الزواج، فقال الشافعية: هذه الآية مخصصة للآية السابقة، أي أن تلك الآية في الفقراء الذين يملكون أهبة الزواج، وهذه الآية في الفقراء العاجزين عن أهبة الزواج.
ويرى الحنفية تأويل هذه الآية، وأن النكاح أي المنكوحة ككتاب بمعنى مكتوب، ويكون الأمر بالاستعفاف هنا محمولا على من لم يجد زوجة له، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين، لكن قوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يجعل هذا التأويل بعيدا.
الحكم التاسع- مكاتبة الأرقاء:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم المكاتبة على أداء مال معين في مدة معينة، فاعقدوا معهم عقد الكتابة إذا كانوا من أهل الصلاح والتقوى، والأمانة، والقدرة على الكسب وأداء المال المشروط لسيده. وقد فسر الخير بتفسيرات قيل:
إنه الأمانة والقدرة على الكسب، وهو تفسير ابن عباس والشافعي. وقيل: إنه الحرفة، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي في السنن: «إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلّا على الناس»، وقيل: إنه المال، وهو مروي عن علي وجماعة، وقيل: إنه الصلاح والإيمان وهو تفسير الحسن البصري، وهذا يقتضي ألا يكاتب غير المسلم، وفيه تشدد.
والجمهور على أن الأمر في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ للإرشاد والندب والاستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه،
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
وكما لا يجب عليه بيعه
234
ممن يعتقه في الكفارة ولا يجبر، لا تجب عليه الكتابة ولا يجبر عليها، فالعقود كلها تقوم على التراضي.
وقال داود الظاهري وجماعة من التابعين: الأمر للوجوب، لما رواه البخاري تعليقا وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال:
سألني سيرين المكاتبة، فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقبل علي بالدّرّة، وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ فكاتبه.
ويجوز عملا بظاهر إطلاق الآية فَكاتِبُوهُمْ أن يكون البدل حالا أو مؤجلا بقسط واحد أو أكثر، وهو مذهب الحنفية وأصحاب مالك. ومنع الشافعية الكتابة على بدل حال لأن الكتابة تشعر بالتنجيم (التقسيط) ولأن المكاتب عاجز عن الأداء في الحال، فيرد إلى الرق، ولا يحصل مقصود الكتابة.
كذلك منعوا الكتابة على أقل من نجمين (قسطين) لأنه عقد إرفاق وتعاون، ومن تمام الإرفاق التنجيم. وهذا خلاف ظاهر الآية.
والكتابة مشروطة في الآية بظن الخير في المكاتب، فإن لم يعلم فيه الخير، لم تجب ولم تندب، بل ربما تكون الكتابة محرمة، كما إذا علمنا أن المكاتب يكتسب بطريق الفسق، أو الموت جوعا. كما تحرم الصدقة والقرض لمن يصرفهما في محرّم.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي أعطوهم أيها السادة شيئا من مال الكتابة كالربع أو الثلث أو السبع أو العشر، وكل ذلك مروي عن التابعين، أو أقل متمول كما قال الشافعي. وحط شيء من مال الكتابة أولى من الإيتاء لأنه المأثور عن الصحابة. والإيتاء عند الجمهور مندوب للمساعدة والخلاص، وذهب الشافعي إلى أن الإيتاء واجب، وفي معناه الحط، عملا بظاهر الآية.
وقال جماعة من العلماء: إن الأمر متوجه إلى الناس كافة من سهم الزكاة في قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ أي في تحرير الرقاب، وهو مذهب الحنفية،
235
والأمر حينئذ للوجوب. ويؤيده
الحديث المتقدم عن أبي هريرة: «ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله».
قال ابن كثير: والقول الأول أشهر، أي جعل الخطاب للسادة، لا لجماعة المسلمين لأن الخطاب في الزكاة فرض متعين، والآية هنا تضيف على الزكاة مطلبا آخر على السادة.
الحكم العاشر- الإكراه على البغاء:
نهى الله تعالى المؤمنين عن جمع المال من طرق حرام فقال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى، سواء أردن التعفف عنه أو لا، طلبا لعروض الدنيا المادية من مال وولد وغيرهما. وقوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً شرط لحدوث الإكراه وقيد لبيان الواقع الذي بسببه نزلت الآية، بدليل ما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام ونزلت الآية، وكذلك بينا في سبب النزول أن عبد الله بن أبي كان له جوار يكرههن على الزنى كسبا للمال.
فالتقييد بقيدي إرادة التحصن وابتغاء عرض الحياة الدنيا لا مفهوم له، ويحرم الإكراه مطلقا سواء وجد هذان القيدان أم لا، وإنما جاء ذلك بقصد النص على عادة أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فنص على ذلك للتشنيع، ثم إن قيد إرادة التحصن شرط في تصور الإكراه وتحققه وليس شرطا للنهي، لكن في الحقيقة ذكر الإكراه مغن عن هذا القيد، فيتصور بإكراه غير التي تريد الزنى، ثم حدث الإجماع على تحريم الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن أو إرادة التحصن والتعفف.
والتعبير بإن في قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بدل «إذا» للإشعار
236
بوجوب الانتهاء عن الإكراه في حال التردد والشك بإرادة التحصن، فيكون تحريم الإكراه عند تحقق الوقوع أشد وأقبح وأولى.
وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن يحدث منه الإجبار على البغاء للإماء فإن الله غفور لهن، رحيم بهن من بعد إكراههن.
وهذا يشعر أنه ولو حدث الزنى بالإكراه فهو ذنب وإثم، بدليل المغفرة، ولأن مثل هذا الفعل لا يخلو من مطاوعة.
وواضح أن المغفرة عائدة إلى المكرهات، وهو رأي أكثر العلماء، ويؤيده قراءة ابن مسعود: «من بعد إكراههن لهن غفور رحيم». وقال بعضهم: المغفرة عائدة إلى المكرهين بشرط التوبة، وهو فتح باب الأمل أمامهم، وهو تأويل ضعيف بعيد لأن فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى، والحال حال تهويل وتشنيع على من أقدم على الإكراه.
وبعد تفصيل هذه الأحكام وبيانها ذكر الله تعالى فضائل هذه السورة، أو وصف القرآن بصفات ثلاث هي:
١- وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي أنزلنا في هذه السورة وغيرها آيات مفصّلات الأحكام والحدود والشرائع التي أنتم بحاجة إليها.
٢- وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي وأنزلنا أيضا قصة عجيبة من مثل أخبار الأمم المتقدمة وهي قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف ومريم عليهما السلام. فقوله: وَمَثَلًا أي ومثلا من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم، يعني قصة عائشة رضي الله عنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام.
٣- وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أي وأنزلنا مواعظ وزواجر لمن اتقى الله وخاف
237
عذابه، مثل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور ٢٤/ ٢] وقوله عز وجل: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور ٢٤/ ١٢].
أي أن هذه الأوصاف إما لما في هذه السورة من أحكام ومواعظ وأمثال، وإما لجميع ما في القرآن من الآيات البينات والأمثال والمواعظ، والأول رأي الزمخشري، والثاني رأي الرازي وابن كثير.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أحكاما رئيسة كبري ثلاثة هي ما يتعلق بالزواج، ومكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى.
١- أما ما يتعلق بالزواج: فقد ذكر الله تعالى حكم زواج القادرين على تكاليفه، والعاجزين عن أهبته.
أ- فإن كان الشخص قادرا على الزواج صحيا وماليا، فالله تعالى يأمر الأولياء بالتزويج، تحقيقا للعفة والستر والصلاح، فإن الزواج طريق التعفف.
والصحيح أن الخطاب للأولياء، لذا قال أكثر العلماء: في الآية دليل على أن المرأة ليس لها أن تزوج نفسها بغير ولي.
وقال أبو حنيفة: إذا زوجت المرأة نفسها ثيبا كانت أو بكرا بغير ولي من كفء لها جاز.
وحكم الزواج يختلف باختلاف حال الإنسان من خوف الوقوع في الزنى ومن عدم صبره، ومن قوته على الصبر وزوال خشية الزنى، فإن خاف الهلاك في الدّين أو الدنيا أو فيهما فالزواج حتم فرض، وإن لم يخش شيئا وكانت الحال معتدلة، فقال الشافعي: الزواج مباح، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: هو مستحب. دليل الرأي الأول: أن الزواج قضاء لذة، فكان مباحا كالأكل
238
والشرب، ودليل الرأي الثاني
الحديث الصحيح المتفق عليه بين الشيخين وأحمد عن أنس: «من رغب عن سنتي فليس مني».
ونهى الحق تعالى عن الامتناع عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة، ووعد بالغنى للمتزوجين الطالبين رضا الله والاعتصام من معاصيه، في قوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. فإن وجد متزوج لا يستغني، فلا يخل بمعنى الآية، إذ لا يلزم من هذا دوام الغنى واستمراره، بل لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد، فالمال غاد ورائح، أو أن الغنى مرتبط بمشيئة الله تعالى، ويكون معنى الآية: يغنيهم الله من فضله إن شاء كقوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد ١٣/ ٢٦].
وهذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ دليل على تزويج الفقير، ولا يقول: كيف أتزوج وليس لي مال فإن رزقه على الله. وقد زوّج النبي صلّى الله عليه وسلم المرأة التي أتته تهب له نفسها لمن ليس له إلا إزار واحد، وليس لها بعد ذلك فسخ الزواج بالإعسار لأنها دخلت عليه. وليس في الآية دلالة على منع التفريق بسبب الإعسار بعد أن تزوجت المرأة موسرا، وإنما يفرّق بينهما لقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء ٤/ ١٣٠]. كل ما في الأمر أن الآية وعد بالإغناء لمن تزوج فقيرا.
ب- وأما إن كان الشخص عاجزا عن تكاليف الزواج، فالله يأمره بالاجتهاد في التعفف، فقال: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ... الخطاب لمن يملك أمر نفسه، لا لمن زمامه بيد غيره، فإنه يقوده إلى ما يراه، كالمحجور عليه.
والاستعفاف: طلب أن يكون عفيفا، والله يأمر بهذه الآية كل من تعذّر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه أن يستعفف.
ولما كان أغلب الموانع عن الزواج عدم المال وعد تعالى بالإغناء من فضله،
239
فيرزقه ما يتزوج به، أو يجد امرأة ترضى باليسير من الصداق، أو تزول عنه شهوة النساء.
وقوله تعالى: لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي طول (مؤن) نكاح، فحذف المضاف. أو يراد به ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة، كاللّحاف: اسم لما يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، فعلى هذا لا حذف في الآية.
وعلى هذا من تاقت نفسه إلى الزواج إن وجد التكاليف المالية فالمستحب له أن يتزوج، وإن لم يجدها فعليه بالاستعفاف، فإن أمكن ولو بالصوم، فإن الصوم له وجاء، كما جاء في الخبر الصحيح. ومن لم تتق نفسه إلى النكاح فالأولى له التخلي لعبادة الله تعالى.
٢- وأما مكاتبة الأرقاء من عبيد وإماء فهي أمر مستحب شرعا لأن الشرع يتشوف إلى تحرير الأنفس البشرية، وإذا تحرر الإنسان ملك نفسه، واستقل واكتسب وتزوج إذا أراد، فيكون الزواج أعف له. والكتابة: عقد بين السيد وعبده، وهي في الشرع: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجّما عليه (مقسطا) فإذا أدّاه فهو حرّ.
وتطلب الكتابة إن علم السيد في المكاتب خيرا، أي دينا وصدقا وصلاحا، ووفاء بالمعاملة، وأمانة وقدرة على الاكتساب، وإلا لم تطلب. واختلف العلماء في كتابة من لا حرفة له، فكرهه الأوزاعي وأحمد وإسحاق، ورخص فيه مالك وأبو حنيفة والشافعي.
وتكون الكتابة بقليل المال وكثيره، وعلى أنجم (أقساط) ولا خلاف في ذلك بين العلماء. وقال الشافعي: لا بدّ فيها من أجل، وأقلها ثلاثة أنجم، وقال الجمهور: تجوز ولو على نجم (قسط) واحد. ولا تجوز حالّة البتة عند الشافعي وتجوز عند الحنفية وأصحاب مالك.
240
والمكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء
لقوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم».
وهو متفق عليه بين المذاهب.
وإذا عجز المكاتب عن قسط، ولم يطالبه السيد، لا تنفسخ الكتابة ما داما على ذلك ثابتين.
وإذا أدى المكاتب ما التزم به عتق، ولا يحتاج إلى إعتاق السيد، ويعتق معه أولاده الذين ولدوا أثناء الكتابة، ولا يعتق الولد قبل الكتابة إلا بشرط.
وقد أمر الله السادة بإعانة المكاتبين في مال الكتابة إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم، أو يحطّوا عنهم شيئا من مال الكتابة.
٣- وأما الإكراه على الزنى أو الإجارة على الزنى: فهو حرام قطعا، سواء أرادت الفتاة ذلك أو امتنعت عنه، فلا فرق في حرمة هذا الإكراه بين حال إرادة التحصن (التعفف) أو حال عدم إرادته، كما لا فرق بين قصد الكسب الدنيوي والأولاد أو عدم قصده. وبالرغم من حرمة فعل المستكرهة فإن الله غفور للمكرهات رحيم بهن فإن الإكراه أزال العقوبة الدنيوية، وهو عذر للمكرهة، أما المكره فلا عذر له فيما فعل. وما أشبه الأمس باليوم فإن المرأة أصبحت في عصرنا أداة للسياحة واستقطاب الزبائن والدعاية.
٤- عدد الله تعالى في قوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ.. على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات الواضحات، وفيها من أمثال الماضين للتحفظ عما وقعوا فيه، وهي أيضا موعظة وعبرة لمن اتقى الله وخاف عقابه.
241
الله منوّر السموات والأرض بدلائل الإيمان وغيرها
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
الإعراب:
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ مَثَلُ مبتدأ، وكَمِشْكاةٍ خبره، وهاء نُورِهِ إما عائدة على الله تعالى، أو على المؤمن، أو الإيمان في قلب المؤمن.
دُرِّيٌّ صفة: كَوْكَبٌ، وهو منسوب إلى الدّر، أو أصله (درّيء) بالهمز من الدرء، فقلبت الهمزة ياء، وأدغمت في الياء قبلها، والدرء: الدفع، ومعناه أنه يدفع الظلمة لتلألئه.
زَيْتُونَةٍ بدل أو عطف بيان.
البلاغة:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ نُورُ من إطلاق المصدر على اسم الفاعل للمبالغة، أي منوّر كل شيء، كأنه عين نوره. ومن فسر ذلك بأنه هادي أهل السموات والأرض ببراهينه وبيانه، فهو استعارة.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ تشبيه تمثيلي، شبه نور الله الذي جعله في قلب المؤمن بالمصباح في كوة (طاقة) داخل زجاجة، تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن، سمي تمثيليا لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
اللَّهُ نُورُ أي ذو نور يهدي به أهل السموات والأرض، أو منور السموات والأرض، من
242
طريق المجاز. وأصل النور: ما به الإضاءة الحسية التي بها تبصر العين، ويطلق شرعا على ما به الاهتداء والإدراك، فأهل السموات والأرض أي العالم كله يهتدون بنوره. مَثَلُ نُورِهِ أي صفة نوره العجيبة الشأن في قلب المؤمن كَمِشْكاةٍ أي كوّة أو طاقة مسدودة غير نافذة من الخلف.
مِصْباحٌ سراج. زُجاجَةٍ قنديل. كَأَنَّها أي الزجاجة والنور فيها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ نجم مضيء. والدري: منسوب إلى الدر اللؤلؤ، أو من الدرء: أي الدفع لدفعه الظلام بسبب تلألئه. مِنْ شَجَرَةٍ أي من زيت. لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي لا شرقية فقط تقع عليها الشمس أحيانا، ولا غربية فقط تتعرض للشمس أحيانا أخرى، وإنما هي موقع وسط تقع عليها الشمس طول النهار، وتتعرض للهواء المعتدل دون حرّ أو برد، فتكون ثمرتها أنضج وأطيب، وزينها أجود الزيوت وأصفاها.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي يكاد يضيء بنفسه من غير نار لصفائه وتلألئه وفرط وبيصه. نُورٌ عَلى نُورٍ نور متضاعف، فإن نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، فهو نور فوق نور، اجتمع فيه نور السراج (المصباح) وبهاء الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل الإشعاع. ومعنى تشبيه نور الله بنور هذا المصباح لتقريب الأمر إلى الأذهان: هو تمثيل الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات في جلاء مدلولها، وظهور مضمونها بالمشكاة المنعوتة بالأوصاف المذكورة.
أو تمثيل لما نور الله به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث من مصباحها. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يهدي الله لهذا النور الثاقب وهو دلالة الآيات أو دين الإسلام أو إيمان المؤمن من يشاء من عباده. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يبين الله الأمثلة للناس، تقريبا لأفهامهم، وتصويرا للمعقول بالمحسوس توضيحا وبيانا، ليعتبروا فيؤمنوا. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا كان أو خفيا، وفيه وعد ووعيد، لمن تدبرها، ولمن لم يكترث بها.
المناسبة.
بعد بيان الشرائع والأحكام الجزئية العملية (أحكام الفقه) والأخلاق والآداب (علم الأخلاق) انتقل البيان الرباني إلى دائرة العقيدة والإيمان وهي الإلهيات، فذكر الله تعالى مثلين:
أحدهما:
بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، فتنوير العالم كله بالآيات الكونية والآيات المنزلة على رسوله دليل واضح قاطع على وجود الله تعالى ووحدانيته
243
وقدرته وعلمه وسائر صفاته العليا، وهو أيضا هاد إلى صلاح الدنيا والآخرة.
الثاني:
بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وهو موضوع الآيات التالية بعدئذ.
التفسير والبيان:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله منور العالم كله وهاديه بما أقام فيه من أدلة في الكون على وجوده وتوحيده، وبما أنزل على رسله من الآيات البينات الواضحات، فمن اهتدى بذلك النور واستنار قلبه بهداية الله فاز بسعادة الدنيا والآخرة. وهذا هو النور المعنوي. أما النور الحسي فواضح أيضا أن الله هو مصدر النور، وخالق النور، وما حي الظلام، ومدبر الكون بنظام دقيق ثابت، وله عليه الهيمنة التامة والشاملة والمستمرة في كل لحظة وزمان.
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي شبيه هذا النور وهو نور الله القائم في صفحة الكون وبيان القرآن وما أودعه في قلب المؤمن من الإيمان كنور مصباح في قنديل زجاجي صاف مزهر، موضوع في مشكاة (كوّة أو طاقة) لينبعث النور في اتجاه معين تقتضيه الحاجة، وكأن زجاج هذا المصباح (السراج أو القنديل) في إضاءته كوكب عظيم ونجم ضخم من الكواكب السيارة مثل الزّهرة وعطارد والمشتري.
والظاهر أن الضمير في نُورِهِ عائد إلى الله عز وجل، في تنويره الكون، وهدايته قلب المؤمن.
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي أن زيت المصباح يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة كثيرة المنافع، زرعت في جبل
244
عال أو في صحراء، ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها فقط، أو غروبها فقط، بسبب ظل حاجت للشمس فيما عدا ذلك، بل هي في مكان وسط تتعرض للشمس حالتي الطلوع والغروب ومن أول النهار إلى آخره، فهي شرقية غربية تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي أن زيتها لصفائه وبريقه وإشراقه كأنه يضيء بنفسه، قبل إضاءته ومسّ النار له لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا، ثم رئي من بعيد، يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء، كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم، ازداد نورا على نور، وهدى على هدى. قال يحيى بن سلام: قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبيّن له، لموافقته له، وهو المراد من
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في التاريخ وأبو داود عن أبي سعيد الخدري: «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» «١».
نُورٌ عَلى نُورٍ أي هو نور مترادف متضاعف، قد اجتمعت فيه المشكاة (الطاقة) والزجاجة والمصباح والزيت، لجعل النور قويا مشعا لا مجال لأي تقوية أخرى فيه، فالمشكاة تحصر النور في اتجاه واحد غير مشتت ولا موزع، وبهاء الزجاجة يزيد الإنارة والتلألؤ وانعكاس الضوء، والقنديل مصدر الطاقة الإشعاعية الكافية التي لا تتوافر فيما سواه، وصفاء الزيت ونقاؤه من أهم عوامل الاحتراق الكامل وتوافر الإضاءة الكاملة.
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يرشد الله إلى هدايته ويوفق من يختاره من عباده، بالنظر وإعمال الفكر وتدبر آي الكون.
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أي يبين الله تعالى للمكلفين من الناس دلائل الإيمان ووسائل الهداية، ويبصرهم بما خفي عليهم من أمور الحق في صور
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٢٣٧
245
مختلفة، بضرب الأمثال، وعقد التشبيهات، وتصوير المعاني بصور المحسوسات المألوفة، لترسيخها في الأذهان، وتثبيتها في أعماق الفؤاد والنفس، فيصير الإيمان راسخا في القلب كالجبال الراسيات. وهذا من مزايا القرآن البلاغية الرائعة أنه يصور المعقولات والمعاني بصور الماديات والمحسوسات.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي والله عالم علما تاما شاملا بجميع الأشياء المعقولة والحسية، الباطنة والظاهرة، يمنح الهداية لمن كان أهلا لها، مستعدا لتلقيها. وهذا وعد لمن أعمل فكره ووعى وسائل الهداية، ووعيد لمن أعرض، فلم يتدبر ولم يتفكر فيها، ولم يكترث بها.
والخلاصة: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسّته ازداد ضوءا على ضوء، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء ازداد هدى على هدى، ونورا على نور.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآية لا يراد بها ظاهرها وإنما هي مؤولة، وتأويلها مختلف فيه، وأصح التأويلات ما ذكره جمهور المتكلمين وابن عباس وأنس «١» : وهو أن الله هادي أهل السموات والأرض، وهداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات، وتلك الهداية هي الآيات البينات القائمة في الكون والمنزلة على الرسل بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بالغ النهاية في الصفاء.
ومثل نور الله أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، مثل المصباح الذي تكاملت فيه وسائل الإنارة وهي المشكاة (الكوّة في الحائط غير النافذة)
(١) تفسير الرازي: ٢٣/ ٢٣١ وما بعدها.
246
وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، والزجاجة لأنها جسم شفّاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج، فصارت الزجاجة في الإنارة والضوء كالكوكب الدرّي المتلألئ، والزيت الصافي النقي النابع من زيتون شجرة كثيرة المنافع، تتعرض للشمس والهواء طوال النهار، فهي ليست شرقية فحسب وهي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها لوجود الساتر الحاجب إذا غربت، وليست غربية فحسب عكس الشرقية: وهي التي تصيبها الشمس إذا غربت ولا تصيبها وقت الشروق، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقية غربية، في صحراء واسعة من الأرض، لا يواريها عن الشمس شيء، وهو أجود لزيتها.
والأنوار مترادفة متضاعفة مجتمعة مع بعضها، كذلك قلب المؤمن يزداد إيمانا وهداية بأضواء القرآن وهداية الله تعالى.
والله تعالى يبين الأشياء بالأمثال الحسية وغيرها تقريبا إلى الأفهام، وهو عليم بكل شيء يحقق المراد، وبمن هو أهل للهداية والضلال.
فهذا مثل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار: معناه تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ.
ونُورٌ عَلى نُورٍ: معناه أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور، وهذا النور عزيز لا يناله إلا من أراد الله هداه، والله أعلم بالمهديّ والضالّ.
وأما ما لا تعلق له بالآية: فيجوز أن يقال: لله تعالى نور، من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء، ونور جميع الأشياء: منه ابتداؤها، وعنه صدورها.
247
وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة، جلّ وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا «١» وهو تعالى خالق النور الحسي في السموات والأرض، ومدبّرهما على أحسن نظام وأتمه وأدقه، ونوّر السماء بالملائكة وبالكواكب، والأرض بالأنبياء وبالشرائع وبالفطرة السليمة والعقل النيّر المرشد إلى الخير، فلو تفكر إنسان بعقل حرّ بريء متجرد من التأثر باتجاه معين أو عقيدة سابقة، لآمن بالله تعالى ربا وإلها واحدا إيمانا كاملا. يتزايد وينمو ويتبلور بهداية القرآن وآياته البينات، والله أعلم.
المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
الإعراب:
فِي بُيُوتٍ إما صفة كَمِشْكاةٍ في قوله تعالى: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ وتقديره:
كمشكاة كائنة في بيوت، أو متعلق بقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها. يُسَبِّحُ فعل مضارع، وفاعله رِجالٌ ومن قرأ بضم الياء وفتح الباء يُسَبِّحُ كان رِجالٌ مرفوعا بفعل مقدر دلّ عليه يُسَبِّحُ كأنه قيل: من يسبحه؟ فقال: رجال، أي يسبحه رجال. وعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مصدر مضاف إلى المفعول، أي عن ذكرهم الله. وَإِقامِ الصَّلاةِ: الأصل أن تقول:
(١) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢٥٦- ٢٦٤
248
وإقامة الصلاة، إلا أنه حذفت التاء تخفيفا لأن المضاف إليه صار عوضا عنها، كما صار عوضا عن التنوين، كما صارت (ها) في يا أيها عوضا عن المضاف إليه.
البلاغة:
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ إطناب بذكر الخاص بعد العام لأن الصلاة من ذكر الله.
تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
فِي بُيُوتٍ متعلق بما قبله، أي كمشكاة في بعض بيوت أو توقد في بعض بيوت. أو متعلق ب يُسَبِّحُ الآتي. والبيوت هنا: المساجد المخصصة لذكر الله لأن الصفة تلائمها.
أَذِنَ أمر وقضى. أَنْ تُرْفَعَ بالتعظيم أي تعظم وتطهر عن الأدناس والأنجاس وعن لغو الأقوال، أو ترفع بالبناء. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بتوحيده. يُسَبِّحُ يصلي أو ينزه ويقدس.
بِالْغُدُوِّ مصدر بمعنى الغداة أو الغدوات، أي أول النهار. وَالْآصالِ جمع أصيل، وهو العشي أو العشايا، أي آخر النهار من بعد الزوال.
رِجالٌ أي ينزهونه ويسبحونه رجال، أي يصلون له فيها بالغدوات والعشايا.
لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ أي لا تشغلهم معاملة رابحة، سواء بالتجارة أو الصناعة أو غيرهما.
وَلا بَيْعٌ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعاوضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة، فإن الربح يتحقق بالبيع، ويتوقع بالشراء، والثاني هو الأولى. إِقامِ الصَّلاةِ إقامتها لوقتها. وَإِيتاءِ الزَّكاةِ ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. تَتَقَلَّبُ تضطرب وتتغير من الهول والخوف في يوم القيامة، فهو اليوم المراد.
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق ب يُسَبِّحُ أو لا تُلْهِيهِمْ أو يَخافُونَ. أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي أحسن جزاء أو ثواب عملهم، وأَحْسَنَ بمعنى حسن.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى كون نوره سبيلا لهداية عباده، بما أقام لهم من الآيات البينات، ذكر هنا حال المنتفعين بذلك النور.
249
التفسير والبيان:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ هذا متعلق بما قبله أي كمشكاة كائنة في مساجد أمر الله أن ترفع بالبناء أو التعظيم بتطهيرها من الأنجاس الحسية، والمعنوية مثل الشرك والوثنية ولغو الحديث، ويخصص الدعاء والعبادة فيها لله، ويذكر فيها اسم الله بتوحيده، أو بتلاوة كتابه.
قال قتادة: هي هذه المساجد، أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. وقال ابن عباس: «المساجد: بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض». وقال عمرو بن ميمون:
«أدركت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون: المساجد بيوت الله، وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها».
وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا لله يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة».
والسبب في جعل المشكاة في مساجد: أن المصباح الموضوع في الزجاجة الصافية إذا كان في المساجد كان أعظم وأضخم، فكان أضوأ، فكان التمثيل به أتم وأكمل، كما قال الرازي.
يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي ينزه الله ويقدسه ويصلي في تلك المساجد في أوائل النهار بكرة وغدوة، وأواخره في الآصال والعشايا رجال لا تشغلهم الدنيا والمعاملات الرابحة عن ذكر الله وحده، وإقامة الصلاة لوقتها، وأداء الزكاة المفروضة عليهم للمستحقين.
وقوله: رِجالٌ فيه إشعار بهمتهم العالية، وعزيمتهم الصادقة، التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه، وشكره وتوحيده وتنزيهه،
250
كما قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب ٣٣/ ٢٣]. والمراد بقوله: عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ غير الصلاة، منعا من التكرار. وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة.
وشبيه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون ٦٣/ ٩].
ويستدل بكلمة رِجالٌ على أن صلاة الجماعة مطلوبة من الرجال، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما
رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها».
وروى الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن».
وتخصيص المساجد بالذكر لأنها مصدر إشعاع عقدي وفكري وتنظيمي وسلوكي وعلمي وسياسي في حياة المسلمين.
وسبب انصراف الرجال إلى العبادة الخوف من عذاب الله كما قال: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أي إن الرجال الذين يؤدون الصلاة جماعة في المساجد يخافون عقاب يوم القيامة الذي تضطرب فيه القلوب والأبصار من شدة الفزع والهول، كقوله تعالى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم ١٤/ ٤٢] وقوله عز وجل: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الدهر ٧٦/ ١٠].
وعاقبة أمرهم ما قال الله تعالى:
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يذكرون الله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ليثيبهم الله ثوابا يكافئ حسن عملهم، فهم الذين
251
يتقبل حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويضاعف لهم الجزاء الحسن، كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام ٦/ ١٦٠] وقوله سبحانه:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦] وقوله عز وجل: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة ٢/ ٢٦١]. وقال الله تعالى في
الحديث القدسي فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي إن الله تعالى واسع الفضل والإحسان يرزق من يريد ويعطي من يشاء، بغير عدّ ولا إحصاء، والله على كل شيء قدير.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن أول موضع تظهر فيه هداية الله ونوره هو في المساجد التي يشيد بناءها المؤمنون، ويعمرونها بالصلاة والأذكار في أوائل النهار وأواخره، والمساجد المخصوصة لله تعالى بالعبادة تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن.
روى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ الله عز وجل فليحبني، ومن أحبّني فليحبّ أصحابي، ومن أحب أصحابي، فليحبّ القرآن، ومن أحبّ القرآن فليحبّ المساجد، فإنها أفنية الله أبنيته، أذن الله في رفعها، وبارك فيها، ميمونة ميمون أهلها، محفوظة محفوظ أهلها، هم في صلاتهم، والله عز وجل في حوائجهم، هم في مساجدهم والله من ورائهم».
٢- يأمر الله بعمارة المساجد عمارة حسية بالبناء، وعمارة معنوية بالصلاة
252
وتلاوة القرآن والأذكار وحلقات التعليم، كما قال تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ١٨]
وقال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن ماجه عن عليّ: «من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة»
وروى ابن ماجه في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من أخرج أذى من المسجد، بنى الله له بيتا في الجنة»
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، إن الله تعالى يقول: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أما زخرفة المساجد فبعضهم أباحها لأن فيها تعظيم المساجد، والله تعالى أمر بتعظيمها في قوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي تعظّم. وروي عن عثمان أنه بنى مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالسّاج «١»
وحسّنه. قال أبو حنيفة: لا بأس بنقش المساجد بماء الذهب، ونقش عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وبالغ في عمارته وتزيينه، زمن ولايته على المدينة قبل خلافته، ولم ينكر عليه أحد ذلك.
وكرهه قوم لما
أخرجه أبو داود عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد».
وتصان المساجد وتنزه عن الروائح الكريهة والأقوال السيئة وغيرها، وذلك من تعظيمها،
جاء في الحديث الصحيح عند الشيخين عن جابر: «من أكل ثوما أو بصلا فلا يغشانا في مساجدنا» أو «فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته».
والمساجد فيما ذكر كلها سواء،
للحديث المتقدم ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال في غزوة تبوك فيما رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة- يعني الثّوم- شيئا فلا يقربنا في المسجد».
(١) أحسن أنواع الخشب المأخوذ من شجر معروف في الهند.
253
وتصان المساجد أيضا عن البيع والشراء وجميع الأشغال الدنيوية لما
أخرجه مسلم عن بريدة من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي نادى على الجمل الأحمر: «لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له».
وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلّق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة.
ولكن
روي في حديث آخر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم رخص في إنشاد الشعر في المسجد.
ويكره رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره في رأي مالك وجماعة،
لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد، فليقل: لا ردّها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا».
وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع الصوت في الخصومة (التقاضي) والعلم لأنه لا بد لهم من ذلك.
ويجوز عند المالكية النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء، ومن لا بيت له، فقد أنزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صفّة المسجد رهطا من عكل. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب، لا أهل له، في مسجد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. ويكره عند الشافعية النوم في المساجد.
ويسن الدعاء عند دخول المسجد
روى مسلم عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك».
وبعد الدخول يسن صلاة ركعتين تحية المسجد لما
روى مسلم أيضا عن أبي قتادة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس».
٣- وصف الله تعالى المسبّحين في المساجد بأنهم المراقبون أمر الله، الطالبون
254
رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا. قال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة، تركوا كل شغل وبادروا. وهم أيضا في مبادرتهم إلى صلاة الجماعة في المساجد يخافون عذاب يوم القيامة.
٤- يكافئ الله ويجازي على الحسنات ويضاعف الثواب إلى عشر أمثاله.
والله يرزق من يشاء من عباده من غير أن يحاسبه على ما أعطاه إذ لا نهاية لعطائه.
حال الكافرين في الدنيا وخسرانهم في الآخرة
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
الإعراب:
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ: كَسَرابٍ: جار ومجرور في موضع رفع خبر المبتدأ وهو أعمالهم. وبِقِيعَةٍ في موضع جر صفة سراب أي كسراب كائن بقيعة، وقيعة: جمع قاع كجيرة جمع جار، ويَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً جملة فعلية في موضع جرّ صفة ل كَسَرابٍ أيضا.
وشَيْئاً منصوب على المصدر، أي لا شيء هناك.
يَغْشاهُ مَوْجٌ جملة فعلية في موضع جر صفة ل بَحْرٍ. ومِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ وكذا مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ يرتفع موج وسحاب بالظرف عند سيبويه، وعند الأخفش لجريه صفة على المذكور المرفوع بأنه فاعل. وكَظُلُماتٍ إما مرفوع بدلا من سَحابٌ أو على تقدير مبتدأ محذوف، أي هي ظلمات، وإما مجرور بدلا من كَظُلُماتٍ الأولى.
255
البلاغة:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وكذلك أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ كل منهما تشبيه تمثيلي رائع وبديع.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي حالهم على ضدّ حال المؤمنين، فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها في الآخرة لاغية مخيبة للآمال. كَسَرابٍ هو ما يرى في عين الإنسان أثناء سيره في الفلاة من لمعان الشمس وقت الظهيرة في شدة الحر، فيظن أنه ماء جار أو راكد على وجه الأرض. بِقِيعَةٍ جمع قاع، أي فلاة، وهو ما انبسط من الأرض. يَحْسَبُهُ يظنه.
الظَّمْآنُ العطشان، وخص الظمآن بالذكر لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند ما تمسّ الحاجة إلى الظفر بثمرة عمله. حَتَّى إِذا جاءَهُ جاء ما تو همه ماء أو جاء موضعه. لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً مما ظنه أو حسبه، وكذلك الكافر يحسب أن عمله كالصدقة ينفعه، حتى إذا مات وقدم على ربه، يجد عمله لم ينفعه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي عند عمله. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ جازاه عليه في الدنيا.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب.
أَوْ كَظُلُماتٍ أي والذين كفروا أعمالهم السيئة في الدنيا كالظلمات المتراكمة وأَوْ إما للتخيير فإن أعمال الكفار لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة في لج البحر والأمواج والسحاب، وإما للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، وإن كانت قبيحة فكالظلمات، وإما للتقسيم باعتبار وقتين وهو الظاهر، فإنها كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة.
فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق، أو ذي لجّ وهو معظم الماء، والمقصود: بحر عميق الماء كثيره ذو طبقات. يَغْشاهُ يغطيه. مِنْ فَوْقِهِ الظلمة الأولى أي الموج. مِنْ فَوْقِهِ والظلمة الثانية أي الموج الثاني، والمراد بظلمات البحر: أمواج متراكمة مترادفة، والمراد بالسحاب: سحاب غطى النجوم وحجب أنوارها. والسحاب: غيم. كَظُلُماتٍ أي هذه ظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول وظلمة الثاني، وظلمة السحاب. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أخرج الناظر يده في هذه الظلمات وهي أقرب شيء إليه. لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب من رؤيتها فضلا عن أن يراها.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله لم يهتد، والمراد من لم يوفقه لأسباب الهداية لم يكن مهتديا.
256
سبب النزول: نزول الآية (٣٩) :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدّين، فلما جاء الإسلام كفر.
وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافرا.
المناسبة:
بعد بيان حال المؤمنين، وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبسببه يتمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان حال الكافرين، فإنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل من الحالين مثلا، أما المثل الأول الدال على الخيبة في الآخرة فهو قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وأما المثل الثاني لأعمالهم في الدنيا فهو أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي أن أعمالهم في الدنيا كظلمات في بحر.
التفسير والبيان:
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لحالي الكفار في الآخرة والدنيا، أو لنوعي الكفار: الداعي لكفره، والمقلد لأئمة الكفر، كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: ناريا ومائيا، وكما ضرب لما يقرّ في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائيا وناريا أيضا.
أما المثل الأول هنا فهو قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي إن الأعمال الصالحة التي يعملها الكفار الذين جحدوا توحيد
257
الله وكذبوا بالقرآن وبالرسول المنزل عليه، أو الدعاة إلى كفرهم، الذين يظنون أنها تنفعهم عند الله، وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب آمالهم في الآخرة ويلقون خلاف ما قدّروا، شبيهة بسراب يراه الإنسان العطشان في فلاة أو منبسط من الأرض، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه. وأعمالهم الصالحة: مثل صلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء وإقامة المشاريع الخيرية.
وهكذا حال الكافرين في الآخرة يحسبون أعمالهم نافعة لهم، منجّية من عذاب الله، فإذا جاء يوم القيامة وقوبلوا بالعذاب، فوجئوا أن أعمالهم لم تنفعهم، وإنما يجدون زبانية الله تأخذهم إلى جهنم، التي يسقون فيها الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.. الآيات [الكهف ١٨/ ١٠٢- ١٠٦]. وقال تعالى هنا: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أي ووجد عقاب الله وعذابه الذي توعد به الكافرين، فجازاه الله الجزاء الأوفى على عمله في الدنيا، والله سريع المجازاة، لا يشغله حساب عن حساب، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣]. هذا حالهم في الآخرة، أو حال الكفار الدعاة إلى الكفر.
والخلاصة: أن الكفار سيصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم.
أما المثل الثاني لحالهم في الدنيا أو حال الكفار الجهلة المقلدين لأئمة الكفر فهو كما قال تعالى:
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أي إن مثل أعمال الكفار التي يعملونها في الدنيا على غير هدى،
258
أو مثل الذين يقلدون غيرهم، مثل ظلمات متراكمة في بحر عميق كثير الماء، تغمره الأمواج المتلاطمة، ويحجب نور الكواكب السماوية غيم كثيف، فهي ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، وكذا الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وهذه الظلمات حجبت عنه رؤية الحق وإدراك ما في الكون من عظات وآيات ترشد إلى الطريق الأقوم. قال الحسن: الكافر له ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل. وقال ابن عباس: شبهوا قلبه وبصره وسمعه بهذه الظلمات الثلاث.
والمقصود من هذا المثل بيان أن الكافر تراكمت عليه أنواع الضلالات في الدنيا، فصار قلبه وبصره وسمعه في ظلمة شديدة كثيفة، لم يعد بعدها قادرا على تمييز طرق الصواب ومعرفة نور الحق. لذا قال تعالى: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي إن تلك الظلمات الثلاث ظلمات متراكمة مترادفة، بعضها يعلو البعض الآخر، حتى إنه إذا مدّ الإنسان يده، وهي أقرب شيء إليه، لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها، ومعنى «لم يكد» : لم يقارب الوقوع، والذي لم يقارب الوقوع لم يقع.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يهده الله ولم يوفقه إلى الهداية، فهو هالك جاهل خاسر، في ظلمة الباطل لا نور له، ولا هادي له، كقوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف ٧/ ١٨٦]. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد ١٣/ ٣٣]، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ [إبراهيم ١٤/ ٢٧]. وهذا مقابل لما قال في مثل المؤمنين يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ.
259
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات مثلين لأعمال الكفار فهي إما كسراب خادع في فلاة أو صحراء، وإما كظلمات، والمثل الأول كما اختار الرازي دال على خيبة الكافر في الآخرة، والثاني دال على كون أعمالهم في متاهات وضلالات وظلمات يصعب اختراقها وتجاوزها، لكون قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم في ظلمة حالكة، يتخبط فيها، فلا يدري ما هو الصواب، وهو أيضا جاهل لا يدري أنه لا يدري.
ويستفاد من الآيات أن شرع الله ونظامه هو النور الصحيح المرشد لخيري الدنيا والآخرة، وأما التشريع المخالف لشرع الله فهو كالسراب الخادع، والظلمات المتراكمة. وهذا كله في مجال العقيدة. أما في مجال التحضر الدنيوي فقد يكون الكافر مبدعا فيها، متفوقا في إدراك غوامض الحياة، مبتكرا وسائل التقدم والمدينة، ولكنه عن الآخرة والنجاة فيها غافل جاهل.
قال ابن عباس في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي من لم يجعل الله له دينا فماله من دين، ومن لم يجعل الله له نورا يمشي به يوم القيامة، لم يهتد إلى الجنة كقوله تعالى: وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد ٥٧/ ٢٨].
والسبب في إحباط أعمال الكافر وإهدارها: أنها لا تعتمد على أصل صحيح وهو الإيمان بالله تعالى، والله لا يقبل عملا إلا من مؤمن معترف بالله وبصفاته، موحد له توحيدا تاما كاملا لتصح نية عمله.
والخلاصة: أن المثلين المذكورين في الآيتين هما تحذير وتنبيه للكفار، فمن عقل كلام الله وتدبر فيه، صحح اعتقاده، فيصلح له عمله ويستقيم في الدنيا، ومن ظل مصرا على كفره، معرضا عن التأمل في آيات ربه، لقي جزاء عسيرا، وعقابا أليما، ولم ينفعه أي عمل صالح، ينجّيه من عذاب الله يوم القيامة.
260
الأدلة الكونية على وجود الله وتوحيده
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
الإعراب
صَافَّاتٍ حال.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ، مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى للابتداء لأن السماء ابتداء الإنزال، والثانية: للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، وهي مع المجرور في موضع المفعول، والثالثة: لبيان الجنس لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، وتقديره: فيها شيء من برد، وهو مرفوع بالظرف لأن الظرف صفة الجبال.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ من قرأ بفتح الياء تكون باء في بِالْأَبْصارِ للتعدية، ومن قرأ بضم الياء كانت الباء زائدة.
261
البلاغة:
فَيُصِيبُ بِهِ وَيَصْرِفُهُ بينهما طباق.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ استعارة، شبه تعاقب الليل والنهار بتقليب الأشياء المادية.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ لِأُولِي الْأَبْصارِ بينهما جناس تام لأن المراد بالأولى العيون وبالثانية العقول والقلوب.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والثقة بالوحي أو بالدليل. يُسَبِّحُ ينزّه ويقدّس ذاته عن كل نقص، والصلاة من التسبيح. مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ:
لتغليب العقلاء. وَالطَّيْرُ جمع طائر، وهو تخصيص لما فيها من الدليل الباهر على وجود الخالق وقدرته، بجعل الأشياء الثقيلة تقف في الجو. صَافَّاتٍ باسطات أجنحتها في الهواء بعملية القبض والبسط. كُلٌّ كل واحد مما ذكر، أو من الطير. قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ تعميم بعد تخصيص، أي أن الله عالم بكل شيء من أفعالهم ومجازيهم عليها. وقوله: يَفْعَلُونَ فيه تغليب العقلاء.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله مالك السموات والأرض وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات، حاكم متصرف فيهما إيجادا وإعداما، لأنه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات والأفعال. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي وإليه المرجع والمآب.
يُزْجِي يسوق برفق وسهولة، ومنه البضاعة المزجاة يزجيها كل أحد أي يزهد فيها بسهولة. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يضم بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة. ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم، جمع خلل، كجبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ من الغمام، وكل ما علاك فهو سماء. مِنْ جِبالٍ فِيها من قطع عظام في السماء، وهو بدل بإعادة الجارّ. مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال، ومفعول يُنَزِّلُ محذوف، أي ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من جنس البرد، مأخوذ من برد بردا، والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت، ولم تحلّلها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحابا، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا، وإن اشتد البرد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا، وإلا نزل بردا، وكل ذلك لا بد وأن يستند إلى إرادة الله الحكيم، وإليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير للبرد.
يَكادُ يقرب. سَنا بَرْقِهِ ضوء البرق الذي في السحاب، والبرق: جمع برقة.
262
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة، وذلك أقوى دليل على كمال القدرة من حيث توليد الضدّ من الضدّ، أي النار من البارد. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، فيأتي بكل منهما بدل الآخر، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك وهو الأولى. إِنَّ فِي ذلِكَ التقليب، وفيما تقدم ذكره.
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ للدلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عن الحاجة، لمن يتأمل ذلك من أهل العقول والبصائر.
دَابَّةٍ حيوان يدب على الأرض، وتستعمل عرفا للدواب ذوات الأربع. مِنْ ماءٍ هو جزء مادته، أو ماء مخصوص وهو النطفة، تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما لا يتولد عن النطفة. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والهوام من الحشرات، وإنما سمي الزحف مشيا بطريق الاستعارة أو المشاكلة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والأنعام، ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب، فإنها تعتمد في المشي على أربع. وتذكير الضمير في قوله: فَمِنْهُمْ والتعبير بمن لتغليب العقلاء، والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة. والترتيب في إيراد هذه المخلوقات لتقديم ما هو أدل على القدرة. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر، على اختلاف الصور في الأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى ما استنارت به قلوب المؤمنين بالهداية، وما أظلمت به قلوب الكافرين بالضلالة، أتبع ذلك ببيان أدلة التوحيد والقدرة، فذكر منها أربعة: الأول- تسبيح المخلوقات، والثاني- إنزال الأمطار، والثالث- اختلاف الليل والنهار، والرابع- أنواع الحيوانات.
التفسير والبيان:
النوع الأول- تسبيح المخلوقات:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي ألم تعلم بالدليل أيها النبي وكل مخاطب أن الله سبحانه ينزّهه ويقدّسه كل من في
263
السموات والأرض من العقلاء وغيرهم من الملائكة والإنس والجن والجمادات، ومنها الطير الباسطات القابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء لكيلا تسقط، تنزيها يدركه المتأمل بعقله السليم إذ تكوينها بخصائصها المتفاوتة يدل بذاته على وجود الخالق لها.
والتنزيه يدل على اتصاف الخالق بجميع صفات الكمال، ويبطل قول الكفار الذين جعلوا الجمادات شركاء لله، ونسبوا إليه الولد، وهي من مخلوقاته وإيجاده. قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق.
وذكر الطير مع دخولها بما سبق لما فيها من دلالة خاصة على بديع الصنع الإلهي، وكمال القدرة الإلهية، ولطف التدبير لمبدعها لأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجة واضحة على كمال قدرة الخالق المبدع.
والافتتاح بقوله أَلَمْ تَرَ يشير إلى أن تسبيح الكائنات لله عزّ وجلّ أمر واضح يصل إلى حد العلم الذي لا شك فيه.
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أي كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزّ وجلّ. والله عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، سواء في حال الطاعة أو المعصية، ومجازيهم عليها.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي إن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما خلقا وإماتة، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا معقّب لحكمه، وإليه وحده مصيرهم ومعادهم يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء، ويجازي بما أراد، كقوله تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم ٥٣/ ٣١].
264
والخلاصة: إن عظمة الكون، وإبداع السموات والأرض، وما بثّ الله فيهما من كائنات حية وجامدة، وروعة ما نشاهده من تركيب الإنسان، وتنوع عالم الحيوان في البر والبحر والجو، وما يقوم به أضخم الحيوان وأصغره، وتفنّن النحل في بناء البيوت وتكوين العسل، وحيل العناكب الضعيفة في اصطياد الحشرات، وعجائب أعمال الطيور، وتصرف الرّب في المخلوقات إيجادا وإعداما، بدءا وإعادة، كل ذلك دليل قاطع محسوس على وجود الإله الخالق المبدع، والرّب الواحد المتصرف، الذي لا ربّ سواه، ولا معبود بحق غيره.
هذا أول دليل كوني على وجود الله وقدرته ووحدانيته، وهو شامل لعدة أدلة، كل دليل منها كاف وحده في تكوين القناعة، ويمكن تصنيف ما ذكر في الآيتين الأوليين في دليلين إجماليين: دليل العبودية في العالمين العلوي والسفلي، ودليل الملك المطلق ووحدة مصير الخلائق إلى الله تعالى.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وهذان دليلان آخران في الآيتين التاليتين على قدرة الله وتوحيده:
النوع الثاني- إنزال المطر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. إلى قوله: يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب كيفية تكوين المطر وإنزاله، إنه تعالى يسوق بقدرته السحاب أول ما ينشئه بعضه إلى بعض، بعد أن يتكون من بخار الماء الصاعد من البحار التي هي أربعة أخماس المعمورة، ثم يجمع ما تفرق من أجزائه في وحدة متضامة، ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، حتى يتكون منه سحاب عال في طبقات الجو الباردة، ثم يسوق ذلك السحاب بالرياح اللواقح إلى المكان الذي يريد إنزال المطر فيه، ثم ينزل المطر من خلال السحاب، أي من نتوقه وشقوقه التي تتكون بين أجزائه.
265
وهكذا ينزل الله المطر من طبقات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال، كما ينزل الثلج والبرد بحسب نسبة تأثير البرودة في الأبخرة المتصاعدة. وكل ما علا الإنسان فهو سماء، فالسماء هي الغيم المرتفع على رؤوس الناس. وتكون الجبال كناية عن السحاب المشاهد الآن لكل راكب في الطائرة التي ترتفع عادة أكثر من ثلاثين ألف قدم في الجو فوق السحب البيضاء المتجمعة كالجبال الشاهقة «١» ويرى مفسرون آخرون أن جبال البرد قائمة فعلا في السماء، وينزل الله منها البرد، وهذا المعنى تؤيده بعض النظريات الحديثة التي تثبت أن في طبقات الجو ما يشبه الجبال مكونة من برد، وقد تنزل زيادة على ما يصعد من بخار البحار.
وتتحكم إرادة الله وقدرته وتصريفه في كيفية إنزال المطر، فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد من يشاء من عباده رحمة لهم، ويحجبه عمن يشاء، ويؤخر الغيث عمن يريد، إما نقمة وإما رحمة من إسقاط الثمار والأزهار وإتلاف الزروع والأشجار.
وأعجب من ذلك كله خلق الضد من الضد وهو النار من البارد، حتى ليكاد أو يقرب ضوء برق اصطدام الغيوم من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
النوع الثالث- اختلاف الليل والنهار:
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي إن الله عزّ وجلّ يتصرف في الليل والنهار بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وتغير أحوالهما
(١) قال بعض النحاة في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة لبيان الجنس، كما قدمنا في الإعراب، وهذا إنما يجيء على قول بعض المفسرين إلى أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال هاهنا كناية عن السحاب، فإن مِنْ الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا، لكنها بدل من الأولى، والله أعلم (تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٩٧).
266
بالحرارة والبرودة، وتعاقبهما بنظام ثابت دقيق، إن في ذلك لدليلا على عظمته تعالى، وعظة لمن تأمل فيه من ذوي العقول، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران ٣/ ١٩٠]،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار».
النوع الرابع- أنواع المخلوقات:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد أن استدل الله تعالى على وحدانيته وقدرته بعالم السماء والأرض وبالآثار العلوية، استدل بأحوال الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها ومهماتها، فذكر أنه سبحانه خلق كل أنواع الحيوانات التي تدب على الأرض من ماء واحد هو جزء مادتها وأساس تكوينها، أو هو النطفة التي يحملها المني الحيواني الذي تلقح به بويضة الأنثى في منيها. وسبب تخصيص الماء بالذكر أنه أصل الخلقة الأول، ولأنه لا بقاء للحيوان بدونه، ولأن آثار التراب تمتزج فيه.
وأنواع الحيوان كثيرة، فمنها من يمشي زحفا على بطنه بانقباض عضلات البطن وانبساطها كالحيات والأسماك وسائر الزواحف. وسمي زحفها مشيا إشارة إلى كمال القدرة وتحقيقها هدف المشاة وهو الانتقال والحركة للبحث عن الرزق وتحقيق الغايات.
ومنها من يمشي على رجلين كالإنسان والطير.
ومنها من يمشي على أربع كالأنعام وسائر وحوش البر.
والله سبحانه يخلق بقدرته ما يشاء، وهذا تعبير إجمالي يدخل آلاف أنواع
267
الحيوانات الأخرى من حشرات وغيرها مما يمشي على أكثر من أربع، وتختلف صوره وطبائعه وقواه.
إن الله قادر على خلق كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ثم ختم الله تعالى إيراد أدلة التوحيد ببيان جامع شامل يجمع تلك الأدلة فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أنزل الله في هذا القرآن آيات مفصلات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون، ومرشدة إلى طريق الحق والسداد بما فيها من حكم وأحكام وأمثال بينة محكمة، وأنه تعالى يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والوعي والعقل، ويرشد من يشاء إلى الطريق القويم الذي لا عوج فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه دلائل التوحيد وإثبات الذات الإلهية، الدالة دلالة حسية على أن لتلك المصنوعات المتغيرة صانعا قادرا على الكمال.
وأول هذه الأدلة أن جميع المخلوقات تسبح الله، أي تنزهه عن جميع النقائص، وتصفه بصفات الجلال والكمال، والله عليم بتسبيحها وبدعائها وعبادتها، يعلم صلاة المصلي وتسبيح المسبّح، ولا يخفى عليه طاعتهم وتسبيحهم.
والله تعالى مالك الملك في السموات والأرض، وهو الحاكم المدبر المتصرف بجميع المخلوقات، وإليه مصير الخلائق يوم القيامة. وكل مملوك عبد لله، وكل محاسب ضعيف ذليل أمام القاضي.
268
وثاني الأدلة- إنزال المطر بكيفية عجيبة تبدأ بتصاعد أبخرة الماء وتحمل بقدرة الله إلى طبقات الجو العالية، وتتجمع حينئذ بها السحب والغيوم، وتقودها الرياح، وتلقحها وتؤثر فيها بالبرودة، ثم تتساقط الأمطار العذبة بعد أن كانت عند تبخرها من البحار مالحة، فتروي الأرض، وتحقق الخير، وتوفر الرزق، وتحيي جميع الكائنات الحية، فإن الرطوبة أهم عناصر الحياة، وهي الفارق المميز بين الشتاء والصيف.
وثالث الأدلة- تقليب الليل والنهار بالزيادة والنقص، والحرارة والبرودة، والتعاقب المستمر، ولكل من الليل والنهار طبيعة تناسب الإنسان، فالليل للراحة والهدوء، والنهار للحركة والكسب.
ورابع الأدلة- تنوع المخلوقات بأشكال شتى، وطبائع مختلفة، ومنافع متعددة، مع أن منشأها واحد وهو الماء، وتركيبها مختلف، ويخلق الله من الماء ما يشاء وما لا نعلم به إلى الآن، بالرغم من تعدد الاكتشافات العلمية إذ أول ما خلق الله من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء، وقدرة الله فوق الحصر والعد، وأغرب من السمع والبصر.
وما أجمل وأبدع ما ختمت به تلك الأدلة من قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ... فهي تشمل كل الأدلة والعبر، ومنها بيان القرآن العظيم الذي اشتمل على أدلة الإيمان والاعتقاد، وأحكام العبادة والتشريع، وأصول الفضائل والآداب والأخلاق. والله يهدي بتلك الأدلة من يريد إلى طريق الحق والصواب، والسداد والاستقامة، دون انحراف أو اعوجاج، فماذا بعد بيان الحق إلا الضلال؟!
269
البقاء على الضلال والنفاق بالرغم من البيان الشافي
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
المفردات اللغوية:
وَيَقُولُونَ أي المنافقون. آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ صدقنا بتوحيد الله وبالرسول محمد.
وَأَطَعْنا رضينا فيما حكما به. يَتَوَلَّى يعرض ويمتنع عن قبول حكمه. وَما أُولئِكَ المعرضون. بِالْمُؤْمِنِينَ الصادقي الإيمان التي توافق قلوبهم ألسنتهم.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي ليحكم بينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنه الحاكم الدنيوي ظاهرا، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم الله. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ فريق بالإعراض عن المجيء إليك إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ لهم الحكم لا عليهم إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ طائعين منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، وتقديم إِلَيْهِ للاختصاص. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر أو ميل إلى الظلم.
ارْتابُوا شكوا في نبوتك، فزالت ثقتهم بك. يَحِيفَ يجور ويظلم في الحكم. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي لا، بل هم الذين يريدون ظلم الناس وإنكار حقوقهم بالإعراض عنك.
سبب النزول:
قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.
270
وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو محق، أذعن، وعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم، فدعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بشر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلّى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي:
قضى لي النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال:
بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم «١».
المناسبة:
بعد بيان أدلة التوحيد، ذمّ الله تعالى قوما وهم المنافقون اعترفوا بالدين بألسنتهم، ولكنهم لم يقبلوه بقلوبهم، فيقولون: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ ثم يفعلون نقيض ذلك.
التفسير والبيان:
هذه صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فقال تعالى:
وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
(١) وهذا الحكم حق وعدل لأنهم في الواقع كفار استباحوا معارضة النبي ﷺ في أحكامه، وشهروا بحكمه، وأحدثوا البلبلة والاضطراب في عدله ونبوته، وكل ذلك يختلف عن الكافر العادي.
271
أي ويقول المنافقون أمام الناس: صدقنا بالله ربا وبمحمد صلّى الله عليه وسلم رسولا، وأطعنا الله فيما قضى، والرسول صلّى الله عليه وسلم فيما حكم به، ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكمه، فيخالفون أقوالهم بأعمالهم، ويقولون ما لا يفعلون، ويرجعون بعدئذ إلى الباقين منهم، فيظهرون الرجوع عما أعلنوه، والحقيقة أن أولئك المنافقين ليسوا بالفعل من أهل الإيمان، وإنما مردوا على النفاق.
وهذا دليل واضح على أن الإيمان لا يكون بالقول، إذ لو كان به، لما صح أن ينفي عنهم كونهم مؤمنين. ومن مظاهر نفاقهم وذبذبتهم:
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي وإذا طلبوا إلى تحكيم كتاب الله واتباع هداه، وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينهم في خصوماتهم، أعرضوا عن قبول حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم، واستكبروا عن اتباع حكمه. وهذا ترك للرضا بحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء ٤/ ٦٠- ٦١].
وفي الآية دلالة على أن حكم الرسول صلّى الله عليه وسلم هو حكم الله القائم على الحق والعدل.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أي إذا كان الحكم في صالحهم جاؤوا إليه سامعين مطيعين لعلمهم بأنه لا يحكم إلا بالحق. وهذا دليل واضح على انتهازيتهم وإرادتهم النفع المعجل، فهم يعرضون عن حكم النبي صلّى الله عليه وسلم متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكّوا، فأما إذا عرفوه لأنفسهم أسرعوا إلى قبول الحكم النبوي والرضا به.
272
ثم حلّل القرآن الكريم نفسيتهم فقال تعالى:
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ «١» أي أن ترددهم وذبذبتهم بين قبول حكم النبي صلّى الله عليه وسلم تارة والإعراض عنه تارة أخرى لأحد الأسباب التالية: وهي إما أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق، والمرض ملازم لهم، وإما أنهم شكوا في الدين وفي نبوته صلّى الله عليه وسلم، وإما أنهم يخافون أن يجور الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم عليهم في الحكم.
وأيا كان هو السبب فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم وبصفاتهم. لذا قال تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي بل هم الظالمون الفاجرون، يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، لا أنهم يخافون أن يحيف الرسول صلّى الله عليه وسلم عليهم لمعرفتهم بأمانته وعدله في حكمه وصونه عن الجور.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان بالمبدأ أو الاعتقاد لا يعرف إلا واجهة واحدة هي واجهة الصراحة في القول، والحزم والجزم بالعقيدة، ومطابقة القول العمل. أما أولئك المنافقون في صدر الإسلام وفي كل عصر الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، فهم كفرة جبناء يطعنون في الإسلام من الخلف، ويريدون في الواقع هدمه، والتنصل من أحكامه وقواعده.
وهذه صورة مخزية لهم عرضها القرآن الكريم، تراهم إذا أحسوا بأن الحق في جانبهم قبلوا بحكم النبي صلّى الله عليه وسلم لأنه كما أثبت الواقع لا يحكم إلا بالحق. وإن عرفوا
(١) كلمة أم للاستفهام، وهو غير جائز على الله تعالى، والمراد به الإخبار عنهم، كقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
ومعناه إثبات أنهم كذلك، ولو كان الاستفهام على حقيقته لكان ذما لهم، وإنما أتى بالاستفهام في الآية لأنه أبلغ في التوبيخ والذم.
273
الحق مع غيرهم وأرادوا جحوده، طلبوا التحاكم إلى غير هذا النبي من أعدائه الذين يحكمون بأهوائهم.
ففي قلوبهم مرض الكفر والنفاق، والشك والريب في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدله، وهم في الواقع الظالمون، أي المعاندون الكافرون الذين يريدون جحود الحقوق لإعراضهم عن حكم الله تعالى، وليس هناك أدنى جور في حكم الله والرسول.
هذه عادة الذين يتاجرون بالإسلام وتملق أهله ما دامت لهم مصلحة، فإن زالت المصلحة أو تغيرت ابتعدوا عن الإسلام وركبه.
وهذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. فواجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو عداوة بينه وبين المدّعي أو المدّعى عليه.
ومن المعلوم أن القضاء يكون للمسلمين في الحكم بين المعاهد والمسلم، ولا حق لأهل الذمة فيه. أما القضاء بين الذميين فذلك راجع إليهما، فإن تراضيا وجاءا قاضي الإسلام، فإن شاء حكم، وإن شاء أعرض.
الطاعة والامتثال عند المؤمنين
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
274
الإعراب:
وَيَتَّقْهِ بكسر القاف على الأصل، وقرئ بسكونها على التخفيف، مثل كتف وكتف.
طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
طاعَةٌ
خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أمرنا طاعة، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي طاعة معروفة أمثل من غيرها.
البلاغة:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
استعارة، شبّه الأيمان المبالغ فيها والمؤكدة بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه.
عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ مشاكلة، أي عليه التبليغ، وعليكم إثم التكذيب.
المفردات اللغوية:
إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي دعوا إلى حكم الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي القول اللائق بهم أن يعلنوا الإطاعة بالإجابة الْمُفْلِحُونَ الناجون وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يأمرانه، أو في الفرائض والسنن وَيَخْشَ اللَّهَ أي يخف الله على ما صدر عنه من الذنوب في الماضي. وَيَتَّقْهِ بأن يطيعه فيما بقي من عمره الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم في جنان الله.
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
قدر طاقتهم وأقصى غاية الأيمان لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
بالجهاد أو الخروج عن ديارهم وأموالهم لَيَخْرُجُنَ
جواب أقسموا، على الحكاية أي قائلين: لنخرجن قُلْ: لا تُقْسِمُوا
على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
أي المطلوب منكم طاعة معروفة، لا اليمين والطاعة النفاقية المنكرة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
فلا يخفى عليه سرائركم قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمر بتبليغ ما خاطبهم الله به، على الحكاية، مبالغة في تبكيتهم تَوَلَّوْا أى تتولوا وتعرضوا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي على محمد صلّى الله عليه وسلم ما حمّل من مهمه التبليغ، وعليكم ما حملتم من الامتثال والطاعة ووزر التكذيب وَإِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحق الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلفتم به.
275
المناسبة:
جريا على عادة الله تعالى في إتباع ذكر المحق المبطل، والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره ما لا ينبغي، فبعد حكاية قول المنافقين وفعلهم وبقائهم على النفاق ونفي الإيمان الحق، ذكر الله تعالى ما هو شأن أهل الإيمان في الطاعة والامتثال، وصفات المؤمن الكامل وما يجب أن يسلكه المؤمنون.
التفسير والبيان:
هذه صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، الممتثلين لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم، فقال تعالى:
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي إن شأن المؤمنين الصادقي الإيمان وعادتهم أنهم إذا طلبهم أحد إلى حكم الله ورسوله في خصوماتهم أن يقولوا: سمعا وطاعة، لذا وصفهم تعالى بالفلاح، فأولئك هم الفائزون بنيل المطلوب، والسلامة من المرهوب، والنجاة من المخوف.
والسمع والطاعة هو محور الميثاق الأول مع المسلمين الأوائل، ففي بيعة العقبة الأولى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلم اثني عشر رجلا من الأنصار على السمع والطاعة في المعروف، كما
روى عبادة بن الصامت. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي نجيح العرباض بن سارية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعظ الصحابة فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة..»
وأوصى عبادة بن الصامت ابن أخيه جنادة بن أبي أمية لما حضره الموت فقال ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال: بلى، قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وألا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله.
276
وقال أبو الدرداء: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة.
ثم أبان الله تعالى أن كل طاعة لله ورسوله محققة الفوز، فقال:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به، وترك ما نهياه عنه، وخاف الله فيما مضى من ذنوبه، واتقاه فيما يستقبل من أيامه، فأولئك هم الذين فازوا بكل خير، وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة.
ثم قارن الله تعالى موقف هؤلاء بموقف أولئك المنافقين، وهم كثيرون في كل زمان، فعاد إلى كشف موقفهم من الطاعة بعد بيان كراهيتهم لحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
أي كان أهل النفاق يحلفون للرسول صلّى الله عليه وسلم مغلّظين الأيمان، مبالغين فيها إلى غايتها: لئن أمرتهم بالجهاد والخروج مع المجاهدين، ليخرجن كما طلبت، فقالوا: والله لئن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
فرد الله تعالى عليهم مبينا أكاذيبهم بقوله:
قُلْ: لا تُقْسِمُوا، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قل يا محمد لهم: لا تحلفوا، فإن المطلوب منكم طاعة معروفة، صدق باللسان، وتصديق بالقلب والأفعال.
وقيل: معناه طاعتكم طاعة معروفة لنا، فهي مجرد طاعة باللسان فحسب من غير تصديق قلبي، وقول لا فعل معه، وكلما حلفتم كذبتم، كما قال تعالى:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة ٩/ ٩٦] وقال سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [المجادلة ٥٨/ ١٦].
277
وهذا نهي عن القسم القبيح الكاذب إذ لو كان قسمهم كما يجب لم يجز النهي عنه، فتبين أن قسمهم كان لنفاقهم وأن باطنهم خلاف ظاهرهم.
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أي أن الله مطلع على أعمالكم الظاهرة والباطنة، خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، يعلم بأيمانكم الكاذبة وبكل ما في ضمائر عباده من الكفر والنفاق وخداع المؤمنين، فيجازيكم على كل عمل سيء.
وهذا تهديد ووعيد.
ثم رغبهم الله ورهبهم فقال:
قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ قل لهم أيها الرسول: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا دليل على أنهم لم يطيعوا ما فيهما.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي فإن تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم أو إن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فإن الذي عليه أي الرسول إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، وعليكم بقبول ذلك وبطاعته فيما أمر، وتعظيمه، فما حملتم هو الطاعة.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اي وإن تطيعوا هذا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق لأنه يدعو إلى صراط مستقيم، وما على الرسول إلا التبليغ البين والواضح والموضح لما تحتاجون إليه، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠] وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
قارن الله تعالى في هذه الآيات بين المؤمنين والمنافقين في شأن الطاعة:
278
طاعة الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلم في الأمر والنهي، فإن المؤمنين الصادقين وهم عند نزول الآيات المهاجرون والأنصار كانوا إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وحكم رسوله صلّى الله عليه وسلم، قالوا: سمعا وطاعة، دون تمهل ولا تردد.
وهم في هذا القول لم يخسروا، وإنما حققوا لأنفسهم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن يطع أوامر الله تعالى ويلتزم بحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمره، ويخف عذاب الله على ذنوبه الماضية، ويتق الله في مستقبل عمره، فهو من الفائزين بكل خير، البعيدين عن كل شر.
ذكر أسلم أن عمر رضي الله عنه بينما هو قائم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم، وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله، قال:
هل لهذا سبب؟ قال: نعم! إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت، قال: ما هذه الآية؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَرَسُولَهُ في السنن وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من عمره وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ والفائز: من نجا من النار، وأدخل الجنة. فقال عمر: قال النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي: «أوتيت جوامع الكلم».
وأما المنافقون فيقسمون بالله تعالى أغلظ الأيمان، وطاقة ما قدروا أن يحلفوا على أنهم يجاهدون مع النبي صلّى الله عليه وسلم في المستقبل ويطيعونه فيما أمر، ولكن أيمانهم كاذبة، لذا نهاهم الله تعالى عن هذا القسم القبيح الكاذب، وأمرهم بالطاعة المعروفة المعتادة لدى المؤمنين، وهي النابعة من إخلاص القلب، ولا حاجة بعدئذ إلى اليمين، فإن الله خبير بما يعملون من الطاعة بالقول، والمخالفة بالفعل.
279
ثم أكد الله تعالى الأمر بطاعة أوامر الله تعالى وحكم الرسول صلّى الله عليه وسلم بإخلاص لا نفاق فيه، فإن تولوا عن الطاعة، فما على النبي صلّى الله عليه وسلم إلا تبليغ الرسالة، وما عليهم إلا الطاعة له، فإن أطاعوه اهتدوا إلى الحق، فجعل الاهتداء مقرونا بطاعته، ثم أكد أنه ما على الرسول صلّى الله عليه وسلم إلا التبليغ الواضح الذي لا شائبة فيه لكل ما كلف فيه الناس، فهو لا يحمل أحدا على الإيمان الحق، ولا يكره إنسانا على الدين القويم.
قال بعض السلف: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
أصول دولة الإيمان
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
الإعراب:
وَعَدَ: وعد في الأصل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، ولهذا اقتصر في هذه الآية على مفعول واحد، وفسّر العدة بقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. وهو جواب قسم مضمر تقديره: وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم.
280
يَعْبُدُونَنِي جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ أو استئناف كلام جديد.
لا يُشْرِكُونَ حال من واو يَعْبُدُونَنِي.
البلاغة:
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً طباق بين الخوف والأمن.
المفردات اللغوية:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم والأمة لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنهم خلفاء متصرفين في الأرض تصرف الملوك في ممالكهم كَمَا اسْتَخْلَفَ مبني للمعلوم، وقرئ مبنيا للمجهول الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من بني إسرائيل في مصر وفلسطين بدلا عن الجبابرة: فرعون وأمثاله وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وهو الإسلام بالتقوية والتثبيت وإظهاره على جميع الأديان، فالتمكين: هو جعل هذا الدين ممكّنا في الأرض بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليجعلنهم بعد الخوف من الكفار في حالة أمن وسلام، وقد أنجز الله وعده لهم بما ذكر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة عشر سنين خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة، وبقوا مستنفرين في السلاح صباح مساء، حتى أنجز الله وعده، فغلّبهم على العرب كلهم، وفتح لهم بلاد الشرق والغرب. وفيه دليل على صحة النبوة بالإخبار عن الغيب على ما هو به، وعلى صحة خلافة الراشدين.
يَعْبُدُونَنِي حال من الَّذِينَ لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد، أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف والأمن لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من واو يَعْبُدُونَنِي أي يعبدونني غير مشركين وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي ومن ارتد، أو كفر هذه النعمة بعد الوعد أو حصول الخلافة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم حيث ارتدوا بعد وضوح مثل هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة العظيمة. وأول من كفر به قتلة عثمان رضي الله عنه، فصاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخوانا.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.. معطوف على قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ والفاصل وإن طال وعد على المأمور به، فيكون تكرارا للأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لتأكيد وجوبها، وتعليق الرحمة بها، أي بالطاعة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي راجين الرحمة.
لا تَحْسَبَنَّ الخطاب للرسول مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا تلحقهم قدرة الله على
281
الإهلاك، بأن يفوتوا منها، أي لا تحسبن يا محمد الكفار معجزين الله عن إدراكهم وإهلاكهم في الأرض وَمَأْواهُمُ النَّارُ ومرجعهم النار، وذلك معطوف من حيث المعنى على قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار، والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم. وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ المرجع هي، أو المأوى الذي يصيرون إليه.
سبب النزول:
أخرج الحاكم وصححه، والطبراني عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن البراء بن عازب قال: فينا نزلت هذه الآية، ونحن في خوف شديد.
المناسبة:
بعد الكلام عن الطاعة وثمرتها: وهي أن من أطاع الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد اهتدى إلى الحق وفاز بالجنة، وعد الله سبحانه بتمكين المؤمنين الطائعين في خلافة الأرض، وتأييدهم بالنصر والإعزاز، وإظهار دينهم على الدين كله، وتبديلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله آمنين لا يشركون به شيئا ولا يخافون. ثم أمرهم بالصلاة والزكاة شكرا لتلك النعم، وطمأنهم بتحقق الوعد السابق بإهلاك الكافرين وزجّهم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وعد الله الذين تحقق فيهم وصفان معا هما الإيمان
282
بالله ورسوله والعمل الصالح الطيب الذي يقرب من الله تعالى ويرضيه بأن يجعل أمة النبي صلّى الله عليه وسلم خلفاء الأرض، أي أئمة الناس، والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، كما استخلف داود وسليمان عليهما السلام على الأرض، وكما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وقوله مِنْكُمْ من للبيان كالتي في آخر سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [٢٩].
وبما أن وعد الله صادق ومنجز، كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ، لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ [الزمر ٣٩/ ٢٠] فقد أنجز الله وعده، وأظهر المسلمين على جزيرة العرب، وافتتحوا بعدئذ بلاد المشرق والمغرب، ومزّقوا ملك الأكاسرة (حكام فارس) وملكوا خزائنهم، وفتحوا بلاد القياصرة (بلاد الروم) واستولوا على الدنيا، وظلت دولة الإسلام قوية منيعة في ظل خلافات متعاقبة: الخلافة الراشدية، ثم الخلافة الأموية في الشام والأندلس، ثم الخلافة العباسية، ثم الخلافة العثمانية إلى انتهاء الربع الأول من القرن العشرين (١٩٢٤) حيث ألغى أتاتورك الخلافة.
ففي عهده صلّى الله عليه وسلم فتحت مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن كلها. وأخذت الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس عظيم القبط في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وملك عمان.
وفي عهد الخلفاء الراشدين افتتحت بلاد كثيرة في الشرق والغرب وهي أكثر بلاد فارس والروم في العراق والشام ومصر وبعض بلاد شمال إفريقيا، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وقتل كثير من الترك.
وفي العهد الأموي استمرت الفتوح الواسعة حتى شملت بلاد الأندلس والهند.
واستقر الحكم الإسلامي في العهد العباسي في مختلف أجزاء بلاد الإسلام.
283
وفي عهد الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى بلاد الأندلس، وقبرص والقسطنطينية، وبلاد القيروان وسبتة مما يلي المحيط الأطلسي، وامتد الفتح إلى أقصى بلاد الصين.
وصدق
قول الرسول صلّى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم ومسند أحمد: «إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
ونظير الآية قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال ٨/ ٢٦]، وقوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص ٢٨/ ٥- ٦].
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي وليجعلن دين الإسلام مكينا ثابتا في الأرض، عزيزا قويا منيعا، مرهوب الجانب في نظر أعدائه، منصورا على ملة الكفر.
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: «أتعرف الحيرة؟» قال: لم أعرفها، ولكن قد سمعت بها، قال: «فو الذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة- المرأة في الهودج- من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في
284
غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قالها.
وتحققت الثالثة في عهد الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.
وأخرج الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بشّر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب».
ثم بيّن حال هذه الأمة أثناء تمكنها في الأرض أو علة تمكينها في الأرض فقال:
يَعْبُدُونَنِي «١» لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أي إن هذه الأمة تعبد الله وحده لا شريك له، ولا يتغيرون من عبادة الله تعالى إلى الشرك، ووعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم.
روى الإمام أحمد والشيخان عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: «حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذبهم».
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي ومن ارتد أو كفر النعمة، كقوله تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل ١٦/ ١١٢]، أو خرج عن طاعة ربه وأمره، فأولئك هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة، وتناسوا فضل الله عليهم، وهذا ربما يصدر من بعض الأمة بدليل
حديث الصحيحين وغيرهما من الأئمة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة».
(١) يعبدونني كما تقدم: هو في موضع الحال، أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص، ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. [.....]
285
وبعد الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شكرا للنعمة، وإحسانا إلى عباد الله الفقراء، مكررا للتأكيد الأمر بطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقال:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي وأدوا الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، واعبدوا الله وحده لا شريك له، وأعطوا الزكاة المفروضة عليكم لما فيها من الإحسان إلى الضعفاء والفقراء، وأطيعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أمركم به أو نهاكم عنه أو زجركم عنه، لعل الله يرحمكم بذلك، وينجيكم من عذاب أليم. ولا شك أن من فعل هذا سيرحمه الله، كما قال: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة ٩/ ٧١].
وأما المتنكرون لطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم فهم كما قال تعالى:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي لا تظنن أيها الرسول أن الذين خالفوك وكذبوك وكفروا برسالتك يعجزون الله ويفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم، بل الله قادر عليهم، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب في الدنيا بألوان مختلفة فردية كالمرض والهم والقلق والانتحار، أو جماعية كالقتل في الحروب والزلازل والبراكين والحرق والغرق، ومأواهم في الآخرة نار جهنم، وبئس المآل مآل الكافرين، وبئس المرجع والقرار والمهاد. ومعجزين: معناه فائتين، والمصير: المرجع، كما بيّنا.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه هي أصول دولة الإيمان، تنبئ عن قواعد ومبادئ أهمها الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، وثمرتها أولا- إنجاز وعد الله بالعزة والسيادة في الأرض في الدنيا، ونصرة الإسلام على الكفر، وتمكين هذا الدين المرتضى وهو دين
286
الإسلام في الأرض، أي تثبيته وتوطيده وتأمينه وتأمين أهله وإزالة الخوف الذي كانوا عليه، وثانيا- الظفر برحمة الله في الآخرة.
ودلت الآيات على ما يلي «١» :
١- إثبات صفة الكلام لله عزّ وجلّ وأنه متكلم لأن الوعد نوع من أنواع الكلام، ومن وصف بالنوع وصف بالجنس.
٢- الله تعالى حيّ قادر على جميع الممكنات لأنه قال: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً وقد فعل ذلك كما بيّنا في التفسير السابق، وصدور هذه الأشياء لا يصح إلا من القادر على كل المقدورات.
٣- الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لقوله: يَعْبُدُونَنِي.
٤- إنه سبحانه منزه عن الشريك لقوله: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وذلك يدل على نفي الإله الآخر، وعلى أنه لا يجوز عبادة غير الله تعالى، سواء كان كوكبا كما يقول الصابئة، أو صنما كما يقول عبدة الأوثان.
٥- صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الغيب في قوله تعالى:
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.. الآية، وقد تحقق الخبر المعجز، فدل على صدق المخبر وهو محمد صلّى الله عليه وسلم.
٦- العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان.
٧- إثبات خلافة الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، فالآية وَعَدَ اللَّهُ..
أوضح دليل وأبينه لأنهم المستخلفون الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين
(١) انظر تفسير الرازي: ٢٤/ ٢٤
287
وعدهم الله بالاستخلاف بعد النبي صلّى الله عليه وسلم، والاستخلاف: الإمامة فقط، وأما الذين من قبلهم فهم الخلفاء إما بالنبوة وإما بالإمامة والخلافة.
ولكن لا تختص الخلافة بهم، بل تشمل غيرهم ممن استخلفوا على المسلمين.
٨- إن من أتم النعم على الصحابة وتابعيهم بعد نصرة الإسلام هو تبديل خوفهم أمنا، كما وعد تعالى، وأكده رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما قال أصحابه: أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟
فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا، ليس عليه حديدة»
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحة: «والله ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»
فالآية معجزة النبوة لأنها إخبار عما سيكون، فكان، كما بيّنا.
٩- إن أساس العمل الإسلامي عبادة الله بالإخلاص، دون أن يشوبها شرك ظاهر أو خفي وهو الرياء.
١٠- المراد بالكفران في قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ في رأي أكثر المفسرين كفران النعمة لأنه قال تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أما الكافر الحقيقي فهو فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
١١- إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه سبب للرحمة الشاملة من الله تعالى.
١٢- لن يعجز الله هربا في الأرض أحد من الكفار، وإنما قدرة الله تطولهم في أي مكان، وهم المقهورون، ومأواهم النار. قال صاحب الكشاف: النظم في قوله تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ لا يحتمل أن يكون متصلا بقوله: لا تَحْسَبَنَّ لأن ذلك نفي، وهذا إيجاب، فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره:
لا تحسبنّ الذين كفروا معجزين في الأرض، بل هم مقهورون، ومأواهم النار.
288
الحكم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر حالات الاستئذان في داخل الأسرة وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
الإعراب:
ثَلاثُ عَوْراتٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه ثلاث عورات، أي هذه ثلاثة أوقات عورات، وحذف المضاف اتساعا. ويقرأ بالنصب على أنه بدل من قوله: ثَلاثَ مَرَّاتٍ وهذا ظرف زمان أي ثلاثة أوقات، وأخبر عن هذه الأوقات بالعورات لظهورها فيها، مثل ليلك نائم، ونهارك صائم. وتسكين واو عَوْراتٍ لأنه حرف العلة، والحركة تستثقل على حرف العلة.
وقرئ بفتح الواو على قياس جمع التصحيح، نحو ضربة ضربات.
طَوَّافُونَ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون، أي أنتم طوافون، وبَعْضُكُمْ بدل من ضمير طَوَّافُونَ أي يطوف بعضكم على بعض.
وَالْقَواعِدُ جمع قاعد: وهي التي قعدت عن الزواج للكبر، ولم يدخلها الهاء لأن المراد
289
به النسب، أي ذات قعود، كقولهم: حامل وحائض وطاهر وطالق، أي ذات حمل وطمث وطهر وطلاق.
فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ دخول الفاء في فَلَيْسَ يدل على أن اللَّاتِي في موضع رفع لأنه صفة للقواعد لا للنساء لأنك لو جعلته صفة للنساء، لم يكن لدخول الفاء وجه لأن الموصول هي التي يدخل الفاء في خبرها، فإذا جعلت اللَّاتِي صفة للقواعد، فالصفة والموصوف بمنزلة شيء واحد.
غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ حال من ضمير (هن) في ثيابهن، أو من ضمير يَضَعْنَ.
البلاغة:
عَلِيمٌ حَكِيمٌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد والإماء. وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الصبيان الذين لم يبلغوا من الأحرار، والحلم من حلم: وقت البلوغ: إما بالاحتلام وإما ببلوغ خمس عشرة سنة.
ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي في ثلاثة أوقات. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي تخلعون ثيابكم وقت الظهر، وقوله: من الظهيرة: بيان للحين. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف. ثَلاثُ عَوْراتٍ أي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم وتبدو فيها العورات لإلقاء الثياب، والعورة: الخلل، والأعور: المختل العين، وسميت كل حالة عورة لأن الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ أي لا على المماليك والصبيان.
جُناحٌ إثم وذنب في الدخول عليكم بغير استئذان. بَعْدَهُنَّ بعد الأوقات الثلاثة.
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي هم طوافون عليكم للخدمة والمخالطة وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام. بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض، أو يطوف بعضكم على بعض، والجملة مؤكدة لما قبلها.
كَذلِكَ مثل ذلك التبيين لما ذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الأحكام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمور خلقه وأحوالهم. حَكِيمٌ بما دبره لهم وشرع. ولكن تهاون الناس في ترك الاستئذان.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أيها الأحرار، ولا يدخل فيهم المماليك. فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات. كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الأحرار الكبار الذين بلغوا من قبلهم.
290
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرره تأكيدا ومبالغة في الأمر بالاستئذان.
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل والولد لكبرهن.
لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبرهن. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أن يتخففن بإلقاء الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء، والقناع فوق الخمار. غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال. وأصل التبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، مأخوذ من قولهم: سفينة بارجة أي لا غطاء عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي يرتدين أكمل الثياب خير لهن من الوضع لأنه أبعد من التهمة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهن للرجال وقولكم. عَلِيمٌ بمقصودهن وبما في قلوبكم.
سبب النزول:
قال ابن عباس: وجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له:
مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ذلك، فقال: يا رسول الله وددت لو أن الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ...
وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت أبي مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.
وفي رواية: ثم انطلق- أي عمر- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوجد هذه الآية قد أنزلت، فخرّ ساجدا، شكرا لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا
291
عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية.
فإذا صح أن سبب النزول قصة أسماء المتقدمة، كان قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للرجال والنساء بطريق التغليب لأن دخول سبب النزول في الحكم قطعي، كما هو الراجح في الأصول.
التفسير والبيان:
هذه الآيات عود إلى تتمة الأحكام السالفة في هذه السورة، بعد الفراغ من الإلهيات الدالة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام وغيرها، والوعد عليها والوعيد على الإعراض عنها. وموضوع هذه الآيات استئذان الأقارب بعضهم على بعض، والتخفيف عن العجائز بإلقاء الثياب الظاهرة. أما ما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. وتفسير الآيات ما يأتي:
الحكم الحادي عشر:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ أي أيها المؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله يطلب من خدمكم مما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء، وأطفالكم الصغار أن يستأذنوكم في ثلاثة أحوال أو أوقات:
الأول- من قبل صلاة الفجر لأنه وقت النوم في الفراش واليقظة من المضاجع وتغيير ثياب النوم وارتداء ثياب اليقظة، ويحتمل انكشاف العورة.
الثاني- حين تخلعون ثياب العمل وتستعدون للنوم وقت الظهيرة أو وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله.
292
الثالث- من بعد صلاة العشاء لأنه وقت خلع ثياب اليقظة، ولبس ثياب النوم.
فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من انكشاف العورات ونحو ذلك من مقدمات النوم والراحة، فهي ساعات الخلوة والانفراد ووضع الملابس.
والأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ظاهر في الوجوب، لكن قال الجمهور: إنه مصروف إلى الندب والاستحباب، والتعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، مثل
قوله صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن عبد الله بن عمر: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين».
فلو حدث دخول بغير استئذان لم يكن ذلك معصية، وإنما خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. فإن علم الخادم أن في دخوله على سيده إيذاء له، حرم الدخول بسبب الأذى لغيره.
وزعم البعض أن حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة منسوخ لجريان عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول على خلافه، أو أنه كان يعمل بها عند عدم وجود ستور للبيوت. والأصح أن حكم الاستئذان في هذه الأوقات محكم غير منسوخ، وهو قول أكثر أهل العلم. قال أبو حنيفة رحمه الله: لم يصر أحد من العلماء إلى أن الأمر بالاستئذان منسوخ.
والجمهور على أن الخطاب في الآية عام في الذكور والإناث من الأرقاء، الكبار منهم والصغار. وروي عن ابن عباس أنه خاص بالصغار، كما روي عن السّلمي أنه خاص بالإناث، وكلا الرأيين غير معقول.
والمراد بقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ هم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم. وهم المراهقون لقوله تعالى:
293
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور ٢٤/ ٣١].
وعلة طلب الاستئذان ما قال الله تعالى:
ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي إن هذه الأوقات المذكورة هي ثلاثة أوقات عورات يختل فيها التستر عادة، والعورة لا يجوز النظر إليها. وما عدا ذلك فهو مباح كما قال سبحانه:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، وإنما الأمر مباح على أصل الإباحة في الأشياء.
وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر، فيدخل في وقت المنع قبل صلاة الفجر، من باب أولى، وإنما سكت عنه النص لندرة الدخول فيه بسبب النوم، ولأن المعمول به عادة حصول الاستئذان فيه، منعا من التهمة وسوء الظن.
وعلة الإباحة كما ذكر تعالى:
طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي إن هؤلاء الخدم والأطفال الصغار يطوفون عليكم في الخدمة وغير ذلك، ويترددون على مجالسكم أنسا بكم ومعاشرة ومداخلة، وقضاء حاجات، وبعضكم طائف عادة على بعض، وكرر الله تعالى ذلك للتأكيد، فالتعبير الأول تسلية للمماليك والخدم، والتعبير الثاني مراعاة لجانب السادة المخدومين وإشعار بحاجتهم إلى خدمات الخدم.
وفيه دلالة على تعليل الأحكام لأن الله تعالى نبّه على علة طلب الاستئذان بقوله: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ كما نبّه على أن التطواف علة الإباحة في غير الأوقات الثلاثة، ويغتفر في الطوافين دفعا للحرج والمشقة ما لا يغتفر في غيرهم.
لهذا
روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال في الهزة: «إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم، والطوافات».
294
وفي الآية دلالة أيضا على أن المميز غير البالغ يعوّد على الأدب والنظام والانضباط والإعداد لتحمل المسؤولية والتكاليف الشرعية، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم ٦٦/ ٦] أي أدبوهم وعلموهم.
وهذا التأديب والتعليم والبيان والتشريع بفضل الله تعالى، لذا قال:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي مثل ذلك التبيين لما ذكر من الأحكام يبين الله لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على معانيها ومقاصدها، والله عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما لا يصلحهم، حكيم في تدبير أمورهم وتشريع الأصلح الأنسب لهم في الدنيا والآخرة.
الحكم الثاني عشر:
انتقل البيان لمعرفة حكم استئذان البالغين الأحرار، فقال تعالى:
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إذا بلغ الحلم الأطفال الذين كانوا يستأذنون في العورات الثلاث، فيجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال، مع الأجانب والأقارب، كما استأذن الكبار الذين سبقوهم من ولد الرجل وأقاربه. فهذه الآية مبينة لآية: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النور ٢٤/ ٣١] أي أن الطفل الذي لم يظهر على العورات مستثنى، فإذا ظهر على العورات، وذلك بالبلوغ، فيستأذن.
وأفرد «الطفل» في الآية لأنه يراد به الجنس.
ولم يذكر المماليك هنا، وإنما بقي الحكم السابق مقررا عليهم وهو الاستئذان في أوقات ثلاثة لأن حكم كبارهم وصغارهم واحد.
وبلوغ الحلم إما بالاحتلام أو ببلوغ خمس عشرة سنة في رأي أكثر العلماء لما
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة، فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق، وله خمس عشرة سنة فأجازه.
295
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها، والفتاة حتى تبلغ سبع عشرة سنة لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام ٦/ ١٥٢] وأقل حد لبلوغ الأشد ثماني عشرة سنة، فيبنى الحكم عليها للتيقن، أما الإناث فيكون إدراكهن ونشوؤهن أسرع، فنقص في حقهن سنة «١».
ويرى جماعة من العلماء منهم الشافعي أن الإنبات (إنبات الشعر) من أمارات البلوغ لما
روى عطية القرظي أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إلي فلم أكن أنبتّ، فاستبقاني صلّى الله عليه وسلم.
ولا يعتبر الإنبات عند الحنفية بلوغا لظاهر قوله تعالى:
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ فإنه ينفي كون الإنبات بلوغا إذا لم يحتلم، كما نفى كون خمس عشرة سنة بلوغا.
ثم عاد البيان القرآني لتأكيد نعمة الله بتشريع هذه الأحكام فقال تعالى:
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي كما بين لكم ما ذكر بيانا كافيا شافيا، يبيّن لكم أحكاما أخرى تحقق الاستقرار والاطمئنان وسعادة الدنيا والآخرة، والله عليم بأحوال عباده، حكيم في معالجة أمورهم.
الحكم الثالث عشر:
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ هذا بيان حكم النساء العجائز، والمعنى: إن النساء اللواتي كبرن، وانقطع الحيض عنهن، ويئسن من الولد، ولم يبق لهن رغبة في التزوج، فلا إثم عليهن ولا حرج أن يخففن في ملابسهن ويخلعن ثيابهن الظاهرة
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٣١ وما بعدها.
296
كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار (غطاء الرأس) إذا لم يقصدن إظهار ما عليهن من الزينة الخفية كشعر ونحر وساق، ولم يكن فيهن جمال ظاهر، فإن وجد حرم خلع الثياب الظاهرة، ولم يؤد إلى كشف شيء من العورة.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي أن التعفف والاحتياط بالستر، وإبقاء ثيابهن المعتادة، وإن كان جائزا، خير وأفضل لهن، والله سميع لأحاديثهن وكلامهن مع الرجال وكلام الرجال معهن، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن وغير ذلك، فإياكم ووساوس الشيطان.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآيات على أحكام ثلاثة هي:
١- يندب ندبا مؤكدا للمماليك العبيد والإماء والأطفال غير البالغين الاستئذان عند الدخول على الأبوين (عماد الأسرة) في أوقات ثلاثة: هي ما قبل صلاة الفجر، وعند القيلولة ظهرا، وما بعد صلاة العشاء. قال ابن عباس: إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحبّ السّتر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال «١»، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل، والرجل على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير، فلم أر أحدا يعمل بذلك.
وسبب تخصيص هذه الأوقات أنها أوقات تقتضي عادة الناس كشف شيء من عوراتهم فيها، فطلب فيها الاستئذان منعا من الاطلاع على العورات. وهذه الآية خاصة، وأما التي سبق ذكرها فهي عامة، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها.
(١) الحجال جمع حجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب، ويكون له أزرار كبار كبيت الشّعر اليوم.
297
٢- يجب على البالغين الأحرار الاستئذان في كل وقت عند الدخول على الآخرين أجانب أو أقارب.
٣- يباح للعجائز القاعدات في البيوت اللواتي لا يشتهين عادة من الرجال خلع الثياب الظاهرة كالجلباب والرداء والقناع فوق الخمار، دون أن يؤدي ذلك إلى كشف شيء من العورة، ودون قصد التبرج أو إظهار الزينة لينظر إليهن، وإن كن لسن بمحل لذلك عادة، والاستعفاف خير وأفضل من فعل المباح.
وإنما خص الله تعالى القواعد من النساء بهذا الحكم دون غيرهن لانصراف النفوس عنهن عادة.
ومن التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصف جسدها، وهو المراد
بقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة: «ربّ نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها»
جعلن كاسيات لأن الثياب عليهن، ووصفن بعاريات لأن الثوب إذا رقّ يكشفهن، وذلك حرام «١».
٤- قال أبو بكر الرازي الجصاص: دلت هذه الآية على أن من لم يبلغ، وقد عقل، يؤمر بفعل الشرائع، وينهى عن ارتكاب القبائح، فإن الله أمرهم بالاستئذان في هذه الأوقات،
وقال صلّى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «مروهم بالصلاة، وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نعلّم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله. وكان زين العابدين علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا، فقيل له: يصلون الصلاة لغير وقتها، فقال: هذا خير من أن يتناهوا عنها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات، حتى يحتلم.
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٣٨٩
298
وإنما يؤمر بذلك على وجه التعليم، وليعتاده ويتمرن عليه، فيكون أسهل عليه بعد البلوغ، وأقل نفورا منه، وكذلك يجنب شرب الخمر ولحم الخنزير، وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يمنع منه في الصغر، لصعب عليه الامتناع بعد الكبر، وقال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً قيل في التفسير: أدبوهم وعلّموهم «١».
٥- الآية دالة على أن الواجب اعتبار العلل في الأحكام إذا أمكن لأنه تعالى نبّه على العلة في هذه الأوقات الثلاثة من وجهين:
أحدهما- بقوله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ وهي علة طلب الاستئذان.
والثاني- بالتنبيه على الفرق بين هذه الأوقات الثلاثة، وبين ما عداها، وهو علة التكشف في هذه الأوقات الثلاثة، وما عداها يختلف عنها، كما تقدم بيانه.
إباحة الأكل من بيوت معينة دون إذن
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٣٣
299
الإعراب:
جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً حال من واو تَأْكُلُوا.
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ منصوب على المصدر لأن قوله: فَسَلِّمُوا معناه: فحيّوا.
البلاغة:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ: إطناب بتكرار لفظ الحرج، تأكيدا للحكم شرعا.
المفردات اللغوية:
حَرَجٌ الحرج لغة: الضيق، ويراد به شرعا الإثم أو الذنب. ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي ما كنتم فيه وكلاء عن غيركم أو حفظة له. أَوْ صَدِيقِكُمْ الصديق: يطلق على الواحد والجمع، كالخليط والعدو، وهو من صدقكم في مودته. ومعنى الآية: يجوز الأكل من بيوت المذكورين، وإن لم يحضروا، إذا علم رضاهم به. جَمِيعاً أي مجتمعين. أَشْتاتاً متفرقين، جمع شتّ، أي متفرق، وشتى: جمع شتيت.
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً لكم لا أهل بها أو من هذه البيوت فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي على أهل البيوت، أو قولوا: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فإن الملائكة تردّ عليكم، وإن كان بها أهل فسلموا عليهم. تَحِيَّةً مصدر حيّا. مُبارَكَةً كثيرة الخير. طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ذلك البيان يبين لكم معالم دينكم، كرره مرة ثالثة لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام السابقة المختتمة به. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا ذلك، وتعقلوا الحق والخير في الأمور.
سبب النزول:
اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية، أذكر ثلاث روايات منها.
300
الأولى- في نفي الحرج عن الأكل من بيوت معينة:
قال سعيد بن المسيّب: أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. وهذا ما اختاره ابن جرير.
والآية وإن نزلت في تحرج أصحاب الأعذار هؤلاء من الأكل في بيوت من خلفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عاما لكل الناس. ومعنى نفي الحرج من أكل الناس في بيوتهم إظهار التسوية بين أكلهم من بيوتهم وأكلهم من بيوت أقاربهم وموكليهم وأصدقائهم.
الثانية- رفع الإثم عن المعذورين في التخلف عن الجهاد:
قال الحسن البصري: نزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد، وكان أعمى.
وقال أبو حيان: إن الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله. والجمع بينهما في مقام الإفتاء والبيان مقبول غير مستغرب. ووجه اتصال الآية حينئذ بما قبلها أنه تعالى بعد أن ذكر حكم الاستئذان، بيّن أن تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد لا يحتاج إلى إذن النبي صلّى الله عليه وسلم.
الثالثة- نفي الحرج عن الناس في مؤاكلة المرضى
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أنزل الله تبارك وتعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعرج،
301
وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير والضحاك: كان العرجان والعميان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء لأن الناس يتقذرونهم، ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأيا ما كان سبب نزول الآية فإنها تبيح الأكل من هذه البيوت، بشرط أن يعلم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، وخصصت هذه البيوت بالذكر لتبسط الناس فيما بينهم عادة في الأكل من بيوت أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم.
سبب نزول آية: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً:
قال قتادة والضحاك: نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم: بنو ليث بن عمرو، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل، والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح، تحرّجا من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا جميعا متحلقين أو أشتاتا متفرقين.
والكلام متصل بما قبله، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل نفسه، أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل، فلا جناح في الأكل من هذه البيوت، سواء
302
مع أصحابها أو بدونهم. وقيل: الكلام مستقل عما قبله لبيان حكم آخر، مماثل له، وهو أن الأكل كما يجوز منفردا، يجوز مع الضيف.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حكم دخول المماليك والصبيان إلى البيوت في غير العورات الثلاث دون استئذان، ذكر هنا حكم تخلف أصحاب الأعذار عن الجهاد من غير استئذان، وحكم الأكل من البيوت المذكورة في الآية من غير إذن صريح إذا علم رضا أصحابها.
التفسير والبيان:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم ولا ذنب في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم، كما نقل عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وكما قال تعالى في سورة براءة: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [٩١- ٩٢].
وذكر الفخر الرازي أن الأكثرين قالوا: المراد منه أن القوم كانوا يحظرون الأكل مع هؤلاء الثلاثة وفي هذه المنازل، فالله تعالى رفع ذلك الحظر وأزاله.
والظاهر لي أن الآية في أمر يتعلق بنظام الحياة في الأسرة، كالآيات السابقة في الاستئذان وتخفيف العجائز من الألبسة الظاهرة، وأنها تريد أن تجمع بين أفراد الأسرة الأصحاء وأصحاب الأعذار في تناول الطعام على مائدة واحدة، وترفع الكلفة والمشقة في الأكل من البيوت الخاصة أو بيوت الأقارب والأصدقاء،
303
دون إذن صريح، وأن الحكم في البيت الخاص كبيت القريب والصديق على حدّ سواء، وذكر الأكل من البيوت ليساوي ما بعده في الحكم ويعطفه عليه، فهو أدب اجتماعي من أدب الإسلام الرفيع.
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي ولا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم الخاصة، ويشمل ذلك بيوت الأولاد لأنه وإن لم ينص عليهم، فهم كبيت الإنسان لأن بيت الولد كبيت الوالد، ومال الولد بمنزلة مال أبيه.
روى الإمام أحمد في المسند وأصحاب السنن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنت ومالك لأبيك»
وقال أيضا فيما أخرجه البخاري في التاريخ والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم».
وقوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ للإشارة إلى أن الأكل مع أصحاب الأعذار لا يخل بقدر الأصحاء أهل الشأن، وأن التواضع مطلوب، والترفع عن مؤاكلتهم منبوذ ممجوج شرعا ودينا، وفي ذلك توسعة على الناس، وبيان ما تقتضيه أواصر المحبة والصلة والود بين الأفراد.
أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أي أن الله تعالى أباح لنا الأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن صريح، حيث علمنا رضاه وسروره، وأنه لا يبخل ولا يتألم، فإن كان يتضجر أو يتألف أو يتألم فلا نأكل من طعامه في غيبته، ويطلب التعفف حينئذ. وتلك المواضع هي:
الأكل من بيوتنا ومنها بيوت أولادنا كما بينا، وبيوت آبائنا وأجدادنا، وبيوت أمهاتنا وجداتنا، وبيوت إخواننا، وبيوت أخواتنا، وبيوت أعمامنا، وبيوت عماتنا، وبيوت أخوالنا، وبيوت خالاتنا، وما ملكنا مفاتحه بالوكالة عن أصحاب البيوت، وبيوت أصدقائنا إذا عرفنا أنه راض ومسرور بما نفعل،
304
وإلا فلا يجوز
لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»
وحديث الشيخين عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه».
وهؤلاء المذكورون من الأقارب تطيب نفوسهم عادة وطبعا بأكل أحد من قراباتهم عندهم.
أما المقصود بقوله: ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فيراد به كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته، ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح: كونها في يده وحفظه. وهذا مأذون به ضمنا من الموكل، ولكن يأكل ولا يحمل ولا يدّخر، إذا لم يكن له أجر على عمله، فإن كان مستأجرا بأجر فلا يأكل.
وأما بيوت الأصدقاء الذين ترتفع الكلفة بينهم، ويصفو الودّ معهم، فيؤكل منها إذا علم رضاهم صراحة أو بالقرائن. روي عن الحسن البصري أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه، وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبّون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك، وقال: هكذا وجدناهم، أي أكابر الصحابة. وكذلك يقال في دخول بيوت الأصدقاء لا بدّ فيه من إذن صريح أو قرينة.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم، فلا يكون ماله محرزا منهم، أي بسبب وجود شبهة الإذن. والحقيقة أنه لا بدّ من الإذن الصريح، أو الضمني الذي يعرف بالقرائن.
ثم ذكر الله تعالى حكم الأكل الجماعي والانفرادي فقال:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أي يباح ولا إثم عليكم أن
305
تأكلوا كيف شئتم مجتمعين أو متفرقين.
وهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة، لكن الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع، قال:
«لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه».
وروى ابن ماجه أيضا عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «كلوا جميعا، ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة».
ثم ذكر الله تعالى حكم تحية الداخل على بيته فقال:
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي فليسلّم بعضكم على بعض، أو فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت لتأكلوا فابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة. وعبر بقوله: أَنْفُسِكُمْ للدلالة على أنهم منكم بمنزلة أنفسكم، فكأنكم حين تسلمون عليهم تسلمون على أنفسكم.
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً أي حيوا تحية ثابتة بأمر الله، مشروعة من لدنه، يرجى منها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع لأن معنى التحية والتسليم طلب السلامة والحياة للمسلّم عليه، ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن ترجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق، وتستجلب فيها مودة المسلم.
قال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك.
وكذلك قال مجاهد وابن عباس رضي الله عنهم.
وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: «إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة».
306
وهذا الحكم وهو التحية على الأهل، وإن كان معلوما من الآية المتقدمة:
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لطلبه بين الأقارب، حتى لا يظن أن علاقة القرابة لا تحتاج إلى تبادل السلام والتحية، فذلك من الآداب العامة والحقوق الإسلامية التي لا يصح إهمالها. قال الضحاك: في السلام عشر حسنات، ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون.
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وكما بيّن لكم ما في هذه السورة أيضا من أحكام وشرائع بيانا شافيا، لكي تتدبروها وتتفهموا عن الله أمره ونهيه وآدابه، فتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- لا إثم ولا حرج على أصحاب الأعذار في التخلف عن الجهاد، وهم الأعمى والأعرج والمريض، أي أن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي للتكليف به، وما يتعذر من الأفعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك.
ولا مانع من مؤاكلة هؤلاء ذوي الأعذار، وترك عادة تخصيصهم بطعام خاص حذرا من استقذارهم والترفع عن مجالستهم.
٢- أباح الله للناس الأكل من مواضع أحد عشر دون استئذان صريح إذا علم رضا صاحب الطعام لما علم بالعادة أن هؤلاء القوم تطيب نفوسهم في الأغلب بأكل من يدخل عليهم، والعادة كالإذن في ذلك، لذا خصهم الله تعالى بالذكر،
307
وافتتحها تعالى بالأكل من البيوت الخاصة بأصحابها للإشارة إلى التسوية بينها وبين تلك المواضع العشرة الباقية.
وأسباب رفع الحرج في الأكل من هذه المواضع إذن: إما الملك الخاص وإما القرابة وإما الوكالة والاستئجار، وإما الصداقة. والقرابة، وكذا الملك الخاص للبيوت: تشمل بيوت الأبناء والآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات. والوكالة مفهومة من قوله: أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فإنه يشمل عند جمهور المفسرين الوكلاء والعبيد والأجراء. والصداقة تبيح الأكل والشرب من بيوت الأصدقاء بغير إذن إذا علم أن نفس صاحب الشيء تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة. والصديق: من يصدقك في مودّته وتصدقه في مودتك، ولكن لا يجوز الادخار والحمل، واتخاذ ذلك وقاية لماله، ولو كان المتناول تافها يسيرا. وكان صلّى الله عليه وسلم يدخل حائط (بستان) أبي طلحة المسمى ب (بيرحا) ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه.
وبناء عليه، لا تجوز في رأي المالكية شهادة الصديق لصديقه، ولا شهادة القريب لقريبه.
٣- يباح الأكل منفردا أو جماعة، وإن اختلفت أحوال الجماعة في الأكل كمّا وكيفا، فللإنسان أن يأكل وحده، أو مع القريب أو الصديق أو الجار أو أي شخص مسلم أو كافر. وقد نزلت الآية كما عرفنا في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده، ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله، ومنه قول بعض الشعراء:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا، فإني لست آكله وحدي
أو أنها نزلت في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه، أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الطباع في القزازة.
308
قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عند العرب عن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه فنزلت الآية مبينة سنّة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرّما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.
٤- يسن السلام عند الدخول على الأهل والأقارب في البيوت المسكونة، وكذا غير المسكونة، فيسلّم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وكذا المساجد، فيسلّم على من كان فيها، فإن لم يكن في المساجد أحد، فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال إبراهيم النخعي والحسن البصري عن آية: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أراد المساجد.
قال ابن العربي: «القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص» وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان لغيره أو لنفسه، فإذا دخل الإنسان بيتا لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلّم، كما ورد في الخبر المتقدم عن ابن عمر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال القشيري في قوله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً: والأوجه أن يقال: إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال: السلام على من اتّبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
309
٥- كرر الله تعالى ثلاث مرات في آيات متعاقبة [٥٨، ٥٩، ٦١] قوله سبحانه: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [٥٨، ٦١] لكن في الآية [٥٩] لفظ: «آياته» للتأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به، والمعنى: كما بيّن لكم سنة دينكم في هذه الأشياء، يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.
الاستئذان عند الخروج وأدب خطاب النبي صلّى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمره
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
الإعراب:
كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً الكاف في موضع نصب لأنه مفعول لفعل تَجْعَلُوا.
لِواذاً: منصوب على المصدر في موضع الحال من واو يَتَسَلَّلُونَ أي يتسللون ملاوذين، وهو مصدر (لاوذ) كقاوم قواما لأن المصدر يتبع الفعل في الصحة والاعتلال، ولو كان مصدر (لاذ) لكان (لياذا) معتلا لاعتلال الفعل، كقام قياما.
310
البلاغة:
غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلِيمٌ عَلِيمٌ: صيغة مبالغة وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ التفات عن الخطاب إلى الغيبة.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون في الإيمان. مَعَهُ مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم. عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أمر عام مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور، كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة، وقرئ «أمر جميع». لَمْ يَذْهَبُوا لطروء عذر لهم. حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيأذن لهم، والمطالبة بالإذن واعتباره في كمال الإيمان لأنه دليل مصدق لصحته، ومميز للمخلص فيه من المنافق، ومبين تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلم بغير إذنه، ولذلك أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة، وإن الذاهب بغير إذن ليس مؤمنا.
لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أمرهم أو ما يعرض لهم من المهام، وفيه مبالغة وتضييق للأمر. فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ بالانصراف. دُعاءَ الرَّسُولِ طلب اجتماع الرسول صلّى الله عليه وسلم بهم. كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً بأن تقولوا: يا محمد، بل قولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، في لين وتواضع وخفض صوت، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض، والمساهلة في الجواب، والرجوع بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والخروج بغير إذنه محرّم.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي ينسلون أو يخرجون من المسجد خفية مستترين بشيء، فالتسلل: الخروج خفية، واللواذ: تستر بعضهم ببعض. وقد: للتحقيق.
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي عن أمر الله تعالى أو أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم، فإن الأمر لله في الحقيقة، ويصح عود الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلم لأنه المقصود بالذكر. والمخالفة: اتخاذ طريق مخالف في القول أو الفعل. فِتْنَةٌ بلاء ومحنة وامتحان في الدنيا. أَلِيمٌ عذاب مؤلم موجع في الآخرة.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قد يعلم ما أنتم عليه أيها المكلفون من الإيمان والنفاق والمخالفة والوفاق. وأكد علمه بقد: لتأكيد الوعيد. وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بما عملوا من خير أو شر، فيجازي على سوء الأعمال بالتوبيخ وغيره. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي الله عالم بكل شيء من أعمالهم، لا تخفى عليه خافية.
311
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما قالوا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب، نزلوا بمجمع الأسيال من رومة- بئر بالمدينة- قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان، حتى نزلوا بنعمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه، وعمل المسلمون فيه، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يأتون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها، يذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إلى قوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وقال الكلبي: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعرّض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم، فينظر المنافقون يمينا وشمالا، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفا، فنزلت هذه الآية، فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته، حتى يستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان المنافقون يخرجون بغير إذن.
نزول الآية (٦٣) :
لا تَجْعَلُوا الآية: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
312
المناسبة:
بعد الأمر بالاستئذان عند الدخول، أمر الله تعالى بالاستئذان حين الخروج، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلم من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر مهم، ثم أمر المؤمنين بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلم ورعاية الأدب في مخاطبته، وحذرهم من مخالفة أمره وسنته وشريعته.
التفسير والبيان:
هذه آداب اجتماعية دينية إلزامية، وهي ثلاثة:
الأول- قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ، لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته وصحة رسالة رسوله من عنده، وإذا كانوا معه في أمر اجتماعي مهم، كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد، أو مشاركة في مقاتلة عدو، أو تشاور في أمر خطير قد حدث، لم ينصرفوا عن المجلس حتى يستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فيأذن لهم.
وهذا الأدب مكمل لما سبقه، فلما أمر الله بالاستئذان حين الدخول، أمر بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والأمر الجامع: هو الأمر الموجب للاجتماع عليه، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز.
روى أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس، فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة».
ثم أعاد الله تعالى طلب الإذن على سبيل التأكيد بأسلوب أبلغ من طريق جعله دليلا على كمال الإيمان، ومميزا المخلص من غيره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ
313
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
أي إن الذين يستأذنون الرسول صلّى الله عليه وسلم في الانصراف، ويشاورونه في الخروج، هم من المؤمنين الكاملين المصدقين الله ورسوله، الذين يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه.
وبعد الاستئذان تعظيما للنبي ورعاية للأدب، تكون حرية الإذن له، فقال تعالى:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ أي إذا استأذنك أحد منهم في بعض ما يطرأ له من مهمة، فأذن لمن تشاء منهم على وفق الحكمة والمصلحة، فقد استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وقال له: «انطلق فو الله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم، وإذا استأذناه لم يأذن لنا، فو الله ما نراه يعدل.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له، ثم قال: يا أبا حفص، لا تنسنا من صالح دعائك.
والآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم بعض أمر الدين، ليجتهد فيه برأيه.
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي واطلب من الله أن يغفر لهم ما قد يصدر عنهم من زلات أو هفوات، إن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم فلا يعاقبهم بعد التوبة.
وهذا مشعر بأن الاستئذان، وإن كان لعذر مقبول، فيه ترك للأولى، لما فيه من تقديم مصالح الدنيا على مصالح الآخرة، فالاستئذان مهما كانت أسبابه مما يقتضي الاستغفار، لترك الأهم.
314
ثم أمر الله تعالى أن يهاب نبيه صلّى الله عليه وسلم وأن يبجّل وأن يعظم وأن يسود، فقال:
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تدعوا رسول الله باسمه بأن تقولوا: يا محمد أو يا ابن عبد الله، ولكن عظموه، فقولوا:
يا نبي الله، يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض والتواضع، فهذا نهي من الله عز وجل عن مناداة النبي باسمه أو نسبه، وهو الظاهر من السياق، فلا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضا، ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه.
وفي تفسير آخر: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا في جواز الإعراض والتساهل في الإجابة والانصراف من مجلسه بغير إذن، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والرجوع عن مجلسه بغير إذن محرّم.
ثم حذر الله تعالى وأوعد المخالفين تلك الآداب فقال:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قد: للتحقيق، أي إنه تعالى يعلم يقينا أولئك الذين ينسلون من المسجد في الخطبة أو من مجلس النبي صلّى الله عليه وسلم خفية، واحدا بعد الآخر، دون استئذان، يتستر بعضهم ببعض أو بشيء آخر، فالله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم البواعث والدواعي، والخفايا والأسرار، والظواهر والأفعال والأقوال. روى أبو داود أن بعض المنافقين كان يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد، فإذا استأذن أحد من المسلمين، قام المنافق إلى جنبه، يستتر به، فأنزل الله الآية.
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي فليخش من خالف شريعة الرسول صلّى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا، وصدّ وخرج عن أمره وطاعته، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، وهم
315
المنافقون، أن يتعرضوا لمحنة أو بلاء وامتحان في الدنيا من كفر أو نفاق، أو يصيبهم عذاب مؤلم في الآخرة. وضمير أَمْرِهِ إما عائد إلى أمر الله تعالى أو أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم.
والاية تدل على ان ظاهر الأمر للوجوب لان تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر، ومخالف الأمر مستحق للعقاب، فتارك المأمور به مستحق للعقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
والآية أيضا تعم كل من خالف أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلم، وليس المنافقين فقط.
ثم ختم تعالى السورة ببيان نطاق المخلوقات، وأنهم تحت سلطان الله وعلمه، فقال:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ قَدْ للتحقيق أيضا كما هو حال ما قبلها، أي إن جميع ما في السموات والأرض مختص بالله عز وجل خلقا، وملكا، وعلما، وتصرفا وإيجادا وإعداما، يعلم كل ما لدى العباد من سر وجهر، فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في سترها عن العيون وإخفائها. فقوله: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ معناه أنه عالم به، مشاهد إياه، لا يعزب عنه مثقال ذرة، كما قال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس ١٠/ ٦١].
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي إن الله تعالى سينبئهم يوم القيامة بما أبطنوا من سوء أعمالهم، وسيجازيهم حق الجزاء: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة ٧٥/ ١٣]، وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٩] والله ذو علم شامل محيط بكل شيء، يوفره لهم، ويفاجئهم به يوم الحساب والعرض عليه. وهذا دليل على فصل القضاء الذي يتفرد به الله تعالى.
316
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب استئذان النبي صلّى الله عليه وسلم عند الانصراف من مجلسه، وأما غير النبي فيطلب الاستئذان من صاحب البيت وجوبا أيضا حتى لا يطلع الضيف على العورات كوجوب الاستئذان عند الدخول، كما تقدم، ويطلب الاستئذان من الإمام أيضا.
وقد أوجبت الآية الاستئذان في الأمر الجامع وهو ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنّة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب، قال الله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران ٣/ ١٥٩]. فللإمام أن يجمع أهل الرأي والمشورة أو الناس لأمر فيه نفع أو ضرر.
٢- وقوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دليل على التفويض إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أو الإمام المجتهد بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه النابع من أصول الشريعة وروح التشريع، والمنسجم مع المبادئ الشرعية.
٣- الآية كما قدمنا دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب.
٤- كان المنافقون يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمر الله جميع المسلمين بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليتبين إيمانه ولأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة.
٥- قيل: إن قوله تعالى: لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ وقوله: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دالان على أن ذلك مخصوص في الحرب. أما في أثناء الخطبة، فليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه. والأصح القول بالعموم، فهو أولى وأحسن، ويشمل ذلك كل مجلس للنبي صلّى الله عليه وسلم.
٦- إن تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم واجب، فلا ينادى كما ينادي الناس بعضهم
317
بعضا، فيقال: يا محمد أو يا أبا القاسم، وإنما يقال: يا رسول الله، في رفق ولين، وبتشريف وتفخيم، كما قال تعالى في سورة الحجرات: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [٣].
٧- تكرر في الآيات التأكيد على إحاطة علم الله بكل شيء، ومنه نوايا المنافقين وأفعالهم وأقوالهم: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وبيان علم الله في هذه الأحوال للتحذير والوعيد والزجر عن مخالفة أمره.
٨- احتج الفقهاء بقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ على أن الأمر للوجوب وعلى وجوب طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلم لأن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره. ومخالفة أمره توجب أحد أمرين: العقوبة في الدنيا كالقتل والزلازل والأهوال وتسلط السلطان الجائر، والطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم، والعذاب الشديد المؤلم في الآخرة.
وقوله: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ معناه: يعرضون عن أمره، أو يخالفون بعد أمره.
٩- لله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعلما، ومنه العلم بأحوال المنافقين، فهو يجازيهم به، ويخبرهم بأعمالهم يوم القيامة، ويجازيهم بها، والله علام بكل شيء من أعمالهم وأحوالهم. وهذا دليل على القدرة الفائقة لله تعالى، واقتداره على المكلف فيما يعامل به من مجازاة بثواب أو بعقاب، وعلمه بما يخفيه ويعلنه، وأن له تعالى فصل القضاء.
آمنت بالله
318

[الجزء التاسع عشر]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفرقان
مكية، وهي سبع وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الفرقان لافتتاحها بالثناء على الله عزّ وجلّ الذي نزل الفرقان، هذا الكتاب المجيد على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، فهو النعمة العظمى، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وجعله نذيرا للعالمين: الجن والإنس، من بأس الله تعالى.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة سورة الفرقان لسورة النور من وجوه: أهمها: أن سورة النور ختمت بأن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وبدئت سورة الفرقان بتعظيم الله الذي له ملك السموات والأرض من غير ولد ولا شريك في الملك.
وأوجب الله تعالى في أواخر سورة النور إطاعة أمر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأبان مطلع الفرقان وصف دستور الطاعة، وهو هذا القرآن العظيم الذي يرشد العالم لأقوم طريق.
وتضمنت سورة النور القول في الإلهيات، وأبانت ثلاثة أنواع من دلائل التوحيد: أحوال السماء والأرض، والآثار العلوية من إنزال المطر وكيفية تكون الثلج والبرد، وأحوال الحيوانات، وذكر في الفرقان جملة من المخلوقات الدالة على توحيد الله، كمدّ الظل، والليل والنهار، والرياح والماء، والأنعام،
5
والأناسي، ومرج البحرين، وخلق الإنسان والنسب والصهر، وخلق السموات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسراج والقمر ونحو ذلك مما هو تفصيل لقوله سبحانه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال في النور: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [٤٣]، وقال في الفرقان:
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً [٤٨] وقال في النور: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [٤٥] وقال في الفرقان: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [٥٤].
وفي كلتا السورتين وصف أعمال الكافرين والمنافقين يوم القيامة وأنها تكون مهدرة باطلة، فقال في النور: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ [٣٩] وقال في الفرقان: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [٢٣].
وشمل آخر سورة النور الكلام على فصل القضاء: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [٦٤] وافتتحت سورة الفرقان بالثناء على الله عزّ وجلّ مالك الملك، وصاحب السلطان المطلق.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كسائر السور المكية اهتمت بأصول العقيدة من التوحيد والنبوة وأحوال القيامة.
فبدأت بإثبات الوحدانية لله عزّ وجلّ، وصدق القرآن، وصحة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم، ووقوع البعث والجزاء يوم القيامة لا محالة، وفندت أضداد هذه العقائد، ونعت على المشركين عبادة الأصنام والأوثان ونسبة الولد لله عزّ وجلّ، وتكذيبهم بالبعث والقيامة، وهددتهم بما سيلقون من ألوان العذاب والنكال في نار جهنم، ومفاجأتهم بما في جنان الخلد من أصناف النعيم المقيم.
6
Icon