تفسير سورة لقمان

فتح البيان
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة لقمان
آياتها ثلاث أو أربع وثلاثون آية
وهي مكية إلا ثلاث آيات. وهي قوله تعالى : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، إلى تمام الآيات الثلاث. قاله ابن عباس. وعنه أنها مكية، ولم يستثن. وعن قتادة أنها مكية إلا آيتين فمدنيتان. وأخرج النسائي. وابن ماجة عن البراء قال : كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.

(الم) الله أعلم بمراده به، وقد تقدم الكلام على مثل فاتحة هذه السورة فلا نعيده
(تلك آيات الكتاب الحكيم) وقد تقدم أيضاً بيان مرجع الإشارة مراراً في نظائرها، والحكيم إما أن يكون بمعنى مفعل، أو بمعنى فاعل أو بمعنى ذي الحكمة، أو الحكيم قائله، والإضافة بمعنى من.
(هدى ورحمة) قال الزجاج: المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة؛ وقرئ بالرفع، أي هو هدى ورحمة (للمحسنين) المحسن العامل للحسنات، أو من يعبد الله كأنه يراه؛ كما ثبت عنه - ﷺ - في الصحيح، لما سأله جبريل عن الإحسان فقال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (١) ثم وصفهم بقوله:
_________
(١) تقدم ذكره.
(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدتها
(أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة، والمعنى هنا: أن أولئك المتصفين بالإحسان، وفعل تلك الطاعات، التي هي أمهات العبادات، هم على طريقة الهدى، هم الفائزون بمطالبهم، الظافرون بخيري الدارين.
(ومن الناس من يشتري) (من) إما موصولة أو موصوفة، ومفرد لفظاً، جمع معنى، وروعي لفظها أولاً في ثلاثة ضمائر، يشتري، ويضل، ويتخذ. وروعي معناها ثانياً في موضعين، وهما: أولئك لهم، ثم رجع إلى مراعاة اللفظ في خمسة ضمائر، وهي وإذا تتلى عليه إلخ.
(لهو الحديث) وهو كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، من الغناء والملاهي، والأحاديث المكذوبة، والأضاحيك، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها، والخرافات، والقصص المختلفة، والمعازف والمزامير، وكل ما هو منكر والإضافة بيانية، أي: اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون حديثاً وغيره؛ فهو كثوب خز، وهذا أبلغ من حذف المضاف. وقيل: المراد شراء القينات المغنيات، والمغنين. فيكون التقدير من يشتري أهل لهو الحديث، قال الحسن: لهو الحديث: المعازف والغناء. وروي عنه أنه قال: هو الكفر والشرك. وفيه بعد، والمراد بالحديث: الحديث المنكر، والمعنى: يختارون حديث الباطل على حديث الحق.
" قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء قال: وهو قول الصحابة والتابعين. قال ابن عباس: لهو الحديث باطله، وهو في النضر بن الحرث بن علقمة: اشترى أحاديث الأعاجم، وأخبار الأكاسرة، وصنيعهم في دهرهم، وكان يكتب الكتب من الحيرة إلى الشام، ويحدث بها قريشاً، ويكذب القرآن. وعنه قال: هو الغناء وأشباهه. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وعنه قال: الجواري الضاربات، وعن ابن مسعود قال: هو والله الغناء، وفي لفظ قال: هو الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات، وعن ابن عباس والحسن وعكرمة، وسعيد بن جبير: قالوا لهو الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه. وقيل: هو كل لهو ولعب؛ والمعنى: يستبدل ويختار الغناء، والمزامير؛ والمعازف على القرآن.
وأخرج أحمد والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، والبيهقي، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله - ﷺ - قال: " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا
274
خير في تجارة فيهن؛ وثمنهن حرام ". في مثل هذا أنزلت هذه الآية. وفي إسناده عبيد (١) بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن، وفيهم ضعف.
وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ - " إن الله حرم القينة وبيعها، وثمنها، وتعليمها، والاستماع إليها ثم قرأ: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ".
وأخرج البيهقي في السنن، وابن أبي الدنيا، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: " الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء البقل ". وروياه عنه موقوفاً. وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن مردويه، عن أبي أمامة: إن رسول الله - ﷺ - قال: " ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شيطانين يجلسان على منكبيه، يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك ".
وأخرج الترمذي عنه مرفوعاً نحو؛ وفي الباب أحاديث في كل حديث منها منال.
وقال ابن مسعود: لهو الحديث، الرجل يشتري جارية تغنيه ليلاً ونهاراً وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله - ﷺ - يقول في لهو الحديث: " إنما ذلك
_________
(١) عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، والأعمش وكأنه مات شاباً، وروى عنه الكبار: يحيى ابن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أيوب المصري قال محمد بن يزيد المستعلي: سألت أبا مسهر عنه فقال: صاحب كل معضلة، وإن ذلك على حديثه لبين. وروى عثمان بن سعيد عن يحيى قال: حديثه عندي ضعيف. وروى عباس عن يحيى: ليس بشيء. وقال ابن المديني. منكر الحديث، وقال الدارقطني. ليس بالقوي، وشيخه علي متروك. وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الإثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد يأتي بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن - لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم أهـ.
قلت: وهذا الخبر اجتمع فيه الثلاثة، وإن كان قد روي عن أبي زرعة الرازي أنه صدوق. المطيعي.
275
شراء الرجل اللعب والباطل "، أخرجه ابن مردويه.
وعن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه. وقال: هكذا رأيت رسول الله - ﷺ - صنع. وعن ابن عوف أن رسول الله - ﷺ - قال: " إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، لهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان ".
(ليضل عن سبيل الله) اللام للتعليل، قرئ بضم الباء، أي: ليضل غيره عن طريق الهدى، ومنهج الحق. وقرئ بفتح الياء، أي: ليضل هو في نفسه ويدوم، ويستمر، ويثبت على الضلال، وهما سبعيتان. قال الزجاج: من قرأ بضم الياء فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بالفتح فمعناه ليصير أمره إلى الضلال، وهو إن لم يكن يشتري الضلالة، فإن أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب النزول، قال ابن عباس: سبيل الله: قراءة القرآن، وذكر الله، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. قال الطبري: قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم ابن سعد، وعبد الله العنبري. قال القاضي أبو بكر بن العربي: يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته، إذ ليس شيء منها عليه حراماً لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟
وقال في نيل الأوطار بعد ذكر الاختلاف فيه مع الأدلة: لا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام، لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات، كما صرح به الحديث الصحيح، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولا سيما إذا كان مشتملاً على ذكر القدود، والخدود، والجمال، والدلال،
276
والهجر، والوصال ومعاقرة العقار، وخلع العذار، والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية، وإن من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات.
قلت: وقد جمع الشوكاني رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء، وما استدل المحللون له والمحرمون له، وحقق هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها، وتدبر معانيها، إلى النظر في غيرها، وسماها إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع. ولنا أيضاًً بحمد الله عز وجل جواب بسيط في جواز الغناء، وعدم جوازه بالفارسية، ذكرناه في كتابنا هداية السائل، فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إلى ذلك.
(بغير علم) أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه، أو بحال ما ينفع من التجارة وما يضر، فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض، أو يفعله عن جهل، أو جهلاً منه بما عليه من الوزر، ونحوه قوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) أي: لصواب التجارة.
(ويتخذها) قرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب، عطفاً على يضل، والضمير المنصوب راجع إلى السبيل، فيكون المعنى على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم؛ والمعنى: أنه يشتري لهو الحديث للإضلال عن سبيل الله، واتخاذ السبيل (هزوا) أي: مهزواً به. والسبيل يذكر ويؤنث. وقرأ الجمهور بالرفع عطفاً على يشتري، فهو من جملة الصلة؛ وقيل: الرفع على الاستئناف، والضمير المنصوب يعود إلى الآيات المتقدم ذكرها، والأول أولى (أولئك) إشارة إلى (من) والجمع باعتبار معناها، كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها كما تقدم (لهم عذاب مهين) هو الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهيناً.
277
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (١١)
278
(وإذا تتلى عليه) أي: على هذا المستهزئ (آياتنا ولى مستكبر) أي: أعرض عنها حال كونه مبالغاً في التكبر، رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن (كأن لم يسمعها) أي: كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع (كأن في أذنيه وقراً) ولا وقر فيهما والوقر: الثقل وهو حال من لم يسمعها، وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض (فبشره بعذاب أليم) أي: أخبره بأن له العذاب البليغ في الألم، وذكر البشارة تهكم به، ثم لما بين سبحانه حال من يعرض عن الآيات، بين حال من يقبل عليها فقال:
(إن الذين آمنوا) بالله وبآياته، ولم يعرضوا عنها، بل قبلوها (وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم) أي: نعيم الجنات، فعكسه للمبالغة، جعل لهم جنات النعيم، كما جعل للفريق الأول العذاب المهين
(خالدين فيها) حال من الضمير في لهم أي مقدار خلودهم فيها فإذا دخلوها.
(وعد الله حقاً) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه أي: وعد الله وعداً،
278
والثاني مؤكد لغيره، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره حق ذلك حقاً، والمعنى: أن وعده بأن لهم جنات النعيم كائن لا محالة ولا خلف فيه (وهو العزيز) الذي لا يغلبه غالب (الحكيم) في كل أفعاله وأقواله ثم بين سبحانه عزته وحكمته بقوله:
279
(خلق السماوات بغير عمد) جمع عماد كأهب جمع إهاب، وهو ما يعمد به، أي: يسند؛ يقال: عمدت الحائط إذا دعمته، والدعامة بالكسر ما يسند به الحائط إذا مال، يمنعه السقوط، ودعمت الحائط دعماً من باب نفع. وقد تقدم الكلام فيه في سورة الرعد، قيل: إن السماء خلقت مبسوطة كصفحة مستوية، وهو قول المفسرين؛ وهي في الفضاء، والفضاء لا نهاية له وكون السماء في بعضه دون بعض ليس ذلك إلا بقدرة قادر مختار، وإليه الإشارة بقوله بغير عمد.
(ترونها) أي ليس لها شيء يمنعها الزوال من موضعها، وهي ثابتة لا تزول، وليس ذلك إلا بقدرة الله تعالى، وفيه وجهان: أحدهما أنه راجع إلى السماوات، أي ليست هي بعمد، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، الوجه الثاني: أنه راجع إلى العمد، ومعناه بغير عمد مرئية، فيمكن أن تكون ثم عمد ولكن لا ترى، وقيل: ولا عمد البتة، قال علي بن سليمان: الأولى أن يكون مستأنفاً، أي: ولا عمد، ثم:
(وألقى في الأرض رواسي) أي: جبالاً مرتفعة ثوابت شوامخ من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلاً منها قاف، وأبو قبيس (١) والجودي ولبنان،
_________
(١) أين هذه الجبال القميئة من جبال هملايا القريبة من بلاد المصنف أو من جبال الألب في أوربا أو جبال البرانس في شمال أفريقيا؟ وأين هو جبل قاف الذي يحكيه الوضاعون والقصاصون والمهرجون بأساطير ألف ليلة وليلة؟ بصر الله أهل العلم بمناهج العلم. المطيعي.
279
وطور سينين، وطور سيناء، أخرجه ابن جرير، ولكن لا وجه للتخصيص، والأولى العموم، والجبال على الأرض أكثر من ذلك، والكل يصلح للرسو، يقال: رسا الشيء ثبت، وبابه عدا وسما والرواسي: الرواسخ واحدتها راسية (أن تميد بكم) أي: كراهة أن تميد بكم، وقيل: لئلا تميده والمعنى أنه خلقها وجعلها مستقرة ثابتة، لا تتحرك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها.
(وبث) أي نشر وفرق (فيها) أي: في الأرض (من كل دابة) أي: كل نوع من أنواع الدواب، ومن زائدة (وأنزلنا) فيه التفات عن الغيبة (من السماء ماء) مطهراً وهو من إنعام الله على عباده وفضله (فأنبتنا فيها) أي: في الأرض بسبب إنزال الماء.
(من كل زوج كريم) أي من كل صنف حسن، ووصفه بكونه كريماً لحسن لونه، وكثرة منافعه، وقيل: إن المراد بذلك الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار، قاله الشعبي، وغيره؛ والأول أولى.
280
(هذا) أي: ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما تعلق بهما من الأمور المعدودة (خلق الله) أي: مخلوقه تعالى (فأروني ماذا خلق الذين من دونه)؟ أي: من آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى: فأروني أي شيء خلقوا مما يحاكي خلق الله، أو يقاربه حتى استوجبوا عندكم العبادة، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت، ثم أضرب عن تبكيتهم بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر، والإعلام ببطلان ما هم عليه فقال: (بل الظالمون في ضلال مبين) فقرر ظلمهم أولاً وضلالهم ثانياً؛ ووصفه بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة. ولا يهتدي إلى الحق.
280
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
281
(ولقد آتينا لقمان الحكمة) كلام مستأنف لبيان بطلان الشرك، واختلف في لقمان، هل هو عربي؟ أم أعجمي؟ مشتق من اللقم، فمن قال: إنه أعجمي منعه للتعريف والعجمة. ومن قال: إنه عربي منعه للتعريف ولزيادة الألف والنون. قال الحفناوي: والأول أظهر، واختلفوا أيضاًً هل هو نبي؟ أم رجل صالح؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه ليس بنبي. وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي، والشعبي، أنه كان نبياً، والأول أرجح لما سيأتي، وقيل: لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط، مع أن الراوي لذلك عنه (١) جابر الجعفي، وهو ضعيف جداً وقيل: خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وهو لقمان، بن باعورا، ابن ناحور، بن تارخ وهو آزر أبو إبراهيم.
وقيل: هو لقمان بن عنقا، بن مرون، وكان نوبياً من أهل أيلة ذكره السهيلي.
قال وهب: هو ابن أخت أيوب وقال مقاتل: هو ابن خالته، عاش ألف سنة وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذ كفيت. وقيل: كان خياطاً، وقيل نجاراً، وقيل: راعياً؛ وقال الواقدي: كان قاضياً في بني إسرائيل.
_________
(١) جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي أحد علماء الشيعة وليس فيه ضعف شديد كما قال المصنف فقد قال سفيان كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث ما رأيت أورع منه وقال شعبة: صدوق وقال يحيى ابن أبي بكير عن شعبة: كان جابر إذا قال: أخبرنا وحدثنا، وسمعت فهو من أوثق الناس.
وقال وكيع: ما شككتم في شيء فلا تشكوا أن جابراً الجعفي ثقة وقال ابن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول، قال سفيان الثوري لشعبة لئن تكلمت في جابر الجعفي لأتكلمن فيك. المطيعي.
281
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " أتدرون ما كان لقمان "؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: كان حبشياً " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس قال: كان عبداً حبشياً نجاراً.
وعنه قال: قال رسول الله - ﷺ - " اتخذوا السودان، فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة، لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن " أخرجه الطبراني، وابن حيان في الضعفاء، قال الطبراني أراد الحبشة، والحكمة التي آتاه الله هي الفقه، والعقل، والإصابة في القول وفسر الحكمة من قال بنبوته بالنبوة، قال ابن عباس: يعني العقل والفهم، والفطنة في غير نبوة.
وعن ابن عمر عن النبي - ﷺ - قال: " إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاًً حفظه " وقد ذكر جماعة من أهل الحديث روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه.
ولم يصح عن رسول الله - ﷺ - من ذلك شيء، ولا يثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشيء منها حتى نقبله، وقد حكى الله سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الموضع، وفيه كفاية وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة للحيز؛ وقطيعة للوقت، ولم يكن نبياً، حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا، ولا صح إسناد ما روي عنه من الكلمات، حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلام الحكمة التي هي ضالة المؤمن.
(أن أشكر لله) أن هي المفسرة، لأن في الإيتاء معنى القول، لأنه تعليم أو وحي، وقيل: التقدير: قلنا له هذا القول، وقال الزجاج: التقدير لأن أشكر، وقيل: بأن أشكر فشكر، فكان حكيماً بشكره، والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة، وطاعته فيما أمر به وقيل: الشكر أن لا تعصي الله بنعمه وقيل: إن لا ترى معه شريكاً له في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل، ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به إلا الشاكر فقال:
(ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) لأن نفع ذلك وثوابه راجع إليه
282
وفائدته حاصلة له، إذ به تستبقى النعمة، وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه، والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، موجبة لامتثال الأمر (ومن كفر) أي: من جعل كفر النعمة مكان شكرها (فإن الله غني) عن شكره غير محتاج إليه (حميد) مستحق للحمد من خلقه، لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط بقدرها، ولا يحصر عددها، وإن لم يحمده أحد، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال، قال يحمى بن سلام: غني عن خلقه، حميد في فعله.
283
(و) اذكر (إذ قال لقمان لابنه) قال السهيلي: واسم ابنه ثاران في قول ابن جرير، والقتيبي، وقال الكلبي: مشكم، وقال النقاش: أنعم وقيل: ماتان، قال القشيري: كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما ودل على هذا قوله: لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، والتقدير آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكراً في نفسه، وحين جعلناه واعظاً لغيره.
(وهو يعظه) أي: والحال أنه يخاطبه بالموعظة التي ترغبه في التوحيد، وتصده عن الشرك، وذلك لأن أعلى مراتب الإنسان أن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وبدأ بالأقرب إليه وهو ابنه فقال:
(يا بني) تصغير إشفاق ومحبة (لا تشرك بالله) وهذا يدل على أنه كان كافراً كما تقدم. قال الخطيب، والخازن: فرجع إليه وأسلم. وقيل: كان مسلماً ونهاه أن يقع منه إشراك في المستقبل.
(إن الشرك لظلم عظيم) لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه، وبين من لا نعمة له أصلاً. وبدأ في وعظه بنهية عن الشرك، لأنه أهم من غيره وقد اختلف في هذه الجملة، فقيل: هي في كلام لقمان، فتكون تعليلاً لما قبلها، وقيل: هي من كلام الله، فتكون منقطعة عما قبلها، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح، أنها لما نزلت: (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على الصحابة وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله إن الشرك لظلم عظيم، فطابت أنفسهم.
283
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
284
(ووصينا الإنسان بوالديه) أي: أمرناه أن يبرهما، وهذه الوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله: (وما كنتم تعلمون) اعتراض بين كلام لقمان على نهج الاستطراد، لقصد التأكيد لما قبلها من النهي عن الشرك بالله وتفسير التوصية هو قوله: أن أشكر لي ولوالديك وما بينهما اعتراض بين المفسر والمفسر، وفي جعل الشكر لهما مقترناً بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد وأكبرها وأشدها وجوباً.
(حملته أمه وهناً على وهن) قرئ بسكون الهاء وبفتحها في الموضعين، وهما لغتان، أي: أنها حملته في بطنها، وهي تزداد كل يوم ضعف على ضعف، فإنها لا يزال يتضاعف ضعفها، والوهن الضعف والمشقة، وقد وهن من باب وعد، ووهنه غيره توهيناً، والوهن والموهن نحو من نصف الليل. وقال ابن عباس: شدة بعد شدة، وخلقاً بعد خلق، وقيل: المعنى أن المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل، وقيل: أي: حملته بضعف على ضعف: وقال الزجاج المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف مرة بعد مرة: أي: وهناً كائناً على وهن، لأن الحمل وهن، والطلق وهن، والوضع وهن، والرضاعة وهن، وانتصاب وهناً على المصدر أو الحال.
(وفصاله في عامين) الفصال: الفطام عن الرضاع، وهو أن يفصل الولد عن الأم، وقرئ وفصله وهما لغتان، يقال: انفصل عن كذا أي: تميز، وبه
284
سمي الفصيل، والمعنى: فطامه لتمام سنتين عن الرضاع، قال البيضاوي: وفيه دليل على أن مدة الإرضاع حولان.
(أن أشكر لي ولوالديك) أي: وصيناه بشكرنا وشكر والديه، قال سفيان ابن عيينه: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله؛ ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين. و (أن) مفسرة أو مصدرية، وهو قول الزجاج (إلى المصير) تعليل لوجوب امتثال الأمر، أي الرجوع إليّ لا إلى غيري، وقيل: الجزاء عليَّ وقت المصير إليّ.
285
(وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) أي: ما لا علم لك بشركته، وذكر هذا القيد موافقة للواقع، ولا مفهوم (مخالفته) له، إذ ليس لله شريك يعلم لأنه مستحيل (فلا تطعمها) في ذلك لأنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا ترك فريضة على الأعيان؛ وتلزم طاعتهما في المباحات، وقد قدمنا تفسير الآية، وسبب نزولها في سورة العنكبوت، قال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية، وعن أبي هريرة مثله، وعليه جماعة من المفسرين.
(وصاحبهما في الدنيا) أي: في أمورها التي لا تتعلق بالدين، ما دمت حياً صحاباً (معروفاً) ببرهما إن كانا على دين يقران عليه وقيل: صاحبهما بمعروف وهو البر والصلة، والعشرة الجميلة، والخلق الجميل، والحلم والاحتمال، وما يقتضيه مكارم الأخلاق، ومعالي الشيم.
(واتبع سبيل من أناب) أي: رجع (إليّ) والخطاب لسائر المكلفين، أي: اتبع أيها المكلف دين من أقبل إلى طاعتي من عبادي الصالحين، بالتوبة والإخلاص، وهو النبي - ﷺ - وأصحابه، قيل: يعني أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال: ابن عباس وذلك حين أسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وقالوا له: قد صدقت هذا الرجل، وآمنت به؟ قال: نعم إنه صادق، فآمنوا به ثم حملهم إلى النبي - ﷺ - حتى أسلموا، فهؤلاء لهم سابقه الإسلام أسلموا بإرشاد أبي بكر.
285
(ثم إليّ) لا إلى غيري (مرجعكم) جميعاً أي: أنت ووالداك زمن أناب إليَّ (فأنبئكم) أخبركم عند رجوعكم إليّ (بما كنتم تعملون) من خير أو شر، فأجازي كل عامل بعمله، ثم شرع سبحانه في حكاية بقية كلام لقمان في وعظه لابنه فقال:
286
(يا بنيَّ إنها) الضمير عائد إلى الخطيئة، لما روي أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد هل يعلمها الله؟ فقال إنها أي الخطيئة (إن تك) بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة، أو المسألة أو الخصلة أو القصة (مثقال) قرئ بالنصب على أنه خبر كان، واسمها هو أحد تلك المقدرات، وقرئ بالرفع على أنه اسم كان وهي تامة وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث أي: زنة (حبة من خردل) والجملة الشرطية مفسرة للضمير، قال الزجاج: التقدير أن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من جنس الخردل، وعبر بالخردلة لأنها أصغر الحبوب، ولا يدرك ثقلها بالحس، ولا ترجح ميزاناً، ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها وصغرها فقال:
(فتكن في صخرة) فإنها عند كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه، قرئ فتكن بضم الكاف، ومن الكن الذي هو الشيء المغطى قال السدي: هذه الصخرة هي صخرة ليست في السماوات والأرض، وقال ابن عباس: صخرة تحت الأرضين السبع، وهي التي تكتب فيها أعمال الفجار، وهي السجين. وخضرة السماء منها، وقيل: غير ذلك.
(أو في السماوات أو في الأرض) أي حيث كانت من بقاع السماوات أو بقاع الأرض، أي: في أخفى مكان من ذلك، فالأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة تحت الأرضين السبع، والأخفى من السماوات كأن تكون في أعلاها، والأخفى من الأرض كأن تكون في أسفلها.
(يأت بها الله) أي: يحضرها يوم القيامة، ويحاسب فاعلها عليها (إن الله لطيف) باستخراجها لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفي (خبير) بمكانها، وبكل شيء لا يغيب عنه شيء، ومعنى الآية الإحاطة بالأشياء صغيرها وكبيرها.
286
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
287
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) من الأذى في ذات الله، إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، أو اصبر على ما أصابك من المحن فإنها تورث المنح، حكى سبحانه عن لقمان أنه أمر ابنه بهذه الأمور، ووجه تخصيص هذه الطاعات، أنها أمهات العبادات وعماد الخير كله.
(إن ذلك) الطاعات المذكورة التي وصاه بها (من عزم الأمور) أي: مما جعله الله عزيمة، وأوجبه على عباده، وحتمه على المكلفين، ولم يرخص في تركه وقيل: المعنى من حق الأمور التي أمر الله بها، والعزم يجوز أن يكون بمعنى المعزوم أي: من معزومات الأمور، أو بمعنى العازم كقوله فإذا عزم الأمر.
قال المبرد: إن العين تبدل حاء فيقال: عزم وحزم وقال ابن جريج: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، وصوب هذا القرطبي، وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
(ولا تصعر خدك للناس) وقرئ تصاعر، والمعنى متقارب، وكل منهما في خط المصحف الإمام بلا ألف، والصعر: الميل، يقال: صعر خده: وصاعر خده: إذا أمال وجهه، وأعرض تكبراً، والمعنى، لا تعرض عن الناس
287
تكبراً عليهم، وبه قال الهروي، يقال: أصاب البعير صعر: إذا أصابه داء يلوي عنقه وقيل: المعنى: ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، وقال ابن خواز منداد: كأنه نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة، ولعله فهم من التصعير التذلل.
وعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله - ﷺ - سئل عن قوله: ولا تصعر خدك، فقال لي: " الشدق " أخرجه الطبراني. وابن عدي وابن مردويه وقال ابن عباس: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، وتعرض عنهم إذا كلموك وعنه قال: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر، والمعنى: أقبل على الناس بوجهك تواضعاً، ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المستكبرون، بل يكون الفقير والغني عندك سواء.
(ولا تمش في الأرض مرحاً) أي: خيلاء وفرحاً، والمراد: النهي عن التكبر والتجبر، والمختال يمرح في مشيه، وقد تقدم تحقيقه (إن الله لا يحب كل مختال فخور) تعليل للنهي المذكور، لأن الاختيال هو المرح، والفَخور هو الذي يفتخر على الناس بماله من المال والشرف، أو القوة أو يعدد مناقبه تطاولاً، أو غير ذلك ويظن أن إسباغ النعم الدنيوية عليه من محبة الله له وذلك من جهله، فإن الله أسبغ نعمه على الكافر الجاحد، فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده، وليس منه التحديث بنعم الله، فإن الله يقول: (وأما بنعمة ربك فحدث).
288
(واقصد في مشيك) أي: توسط فيه، والقصد ما بين الإسراع والبطء، يقال: قصد فلان في مشيته: إذا مشى مستوياً لا يدب دبيب المتمادين، ولا يثب وثوب الشياطين. وقد ثبت " أن رسول الله - ﷺ - كان إذا مشى أسرع "، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة، وقال مقاتل: معناه لا تختل في مشيتك، وقال ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبي اليهود، ودبيب النصارى، ولكن مشياً بين ذلك، وقيل: انظر
288
موضع قدميك تواضعاً، والمعنى أعدل فيه حتى يكون مشياً بين مشيَيْن الدبيب والإسراع. وقال عطاء: امش بالسكينة والوقار، كفوله: يمشون على الأرض هوناً.
(واغضض من صوتك) أي: أنقص منه واخفضه، ولا تتكلف رفعه فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، و (من) تبعيضية، وعند الأخفش مزيدة، ويؤيده قوله: (إن الذين يغضون أصواتهم)، والمعنى: شيئاًً من صوتك وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت.
(إن أنكر الأصوات) أي: أوحشها وأقبحها (لصوت الحمير) تعليل للأمر بالغض من الصوت على أبلغ وجه وآكده، قال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير، أي: صوت قوي وآخره شهيق، أي: صوت ضعيف، وهما صوتا أهل النار، وأنكر، قيل: مبني من الفعل المبني للمفعول، نحو أشغل من ذات النحبيين، وهو مختلف فيه، قال المبرد: تأويله إن الجهر بالصوت ليس بمحمود، وأنه داخل في باب الصوت المنكر، واللام للتأكيد، ووحد الصوت مع كونه مضافاً إلى الجمع لأنه مصدر، وهو يدل على الكثرة، وهو مصدر: صات يصوت صوتاً فهو صائت.
وقيل: إنما وحده ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. وعن الثوري في الآية قال: صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار. وقيل: معنى الآية هو: العطسة القبيحة المنكرة، والأول أولى، وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير، وتمثيل أصواتهم بالنهاق، تنبيه على أن رفع الصوت في غاية الكراهة، ولما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم، وإقامة الحجج عليهم، فقال:
289
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢)
290
(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض)؟ قال الزجاج: معنى تسخيرها للآدميين: الانتفاع بها، انتهى، فمن مخلوقات السماوات المسخرة لبني آدم بأمر الله سبحانه: الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب. وغير ذلك، ومن مخلوقات الأرض المسخرة: الأحجار، والمعادن، والتراب، والزرع، والشجر، والثمر، والبحار، والأنهار، والحيوانات، والدواب التي ينتفعون بها، والعشب الذي يرعون فيه دوابهم، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، فالمراد بالتسخير: جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له، سواء كان منقاداً له وداخلاً تحت تصرفه أم لا.
(وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) أي: أتم وأكمل عليكم نعمه، يقال: سبغت النعمة إذا تمت وكملت، وقرئ أصبغ بإبدال السين صاداً وهي لغة كلب، يفعلون ذلك في كل سين اجتمع مع الغين، والخاء والقاف، كصلخ وصقر، والنعم جمع نعمة، وقرئ نعمة على الإِفراد والتنوين، اسم جنس يراد به الجمع، ويدل به على الكثرة، كقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، والنعمة: كل نفع قصد به الإِحسان.
والمراد بالنعم الظاهرة: ما يدرك بالعقل أو الحس، ويعرفه من
290
يتعرفه. وبالباطنة: ما لا يدرك للناس، ويخفى عليهم. وقيل: الظاهرة الصحة، وكمال الخلق، والبصر، والسمع، واللسان، وسائر الجوارح الظاهرة. والباطنة: المعرفة، والعقل، والقلب، والفهم، وما أشبه ذلك. وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه، والجمال، وفعل الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفعه الله عن العبد من الآفات، وقد سرد الماوردي في هذا أقوالاً تسعة، كلها ترجع إلى هذا.
وقيل: الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم الآخرة، وقيل: الظاهرة: الإسلام والقرآن والجمال، والباطنة: ما ستره الله عن العبد من الأعمال السيئة، وقيل: الظاهرة: تسوية الأعضاء، وحسن الصورة، والباطنة: الاعتقاد بالقلب. وقيل: الظاهرة: الرزق، والباطنة: حسن الخلق. وقيل: الظاهرة: تخفيف الشرائع، والباطنة: الشفاعة. وقيل الظاهرة: ظهور الإسلام والنصر على الأعداء. والباطنة الإمداد بالملائكة. وقيل: الظاهرة: اتباع الرسول - ﷺ -.
والباطنة: محبته. واللفظ أعم من ذلك.
وعن عطاء قال: سألت ابن عباس عن هذا، فقال هذه من كنوز علمي، سألت عنها رسول الله - ﷺ - فقال: " أما الظاهرة فما سوى من خلقك، وأما الباطنة فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك، فمن سواهم ". أخرجه البيهقي.
وعنه قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن قوله وأسبغ عليكم نعمه الخ، فقال: " أما الظاهرة فالإسلام، وما سوى من خَلقِك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما الباطنة فما ستر من مساوي عملك " أخرجه ابن النجار والديلمي والبيهقي وعنه قال: النعمة الظاهرة: الإسلام. والنعمة الباطنة: كل ما ستر عليكم من الذنوب والعيوب والحدود، أخرجه ابن مردويه وعنه أنه قال في تفسير الآية: هي لا إله إلا الله.
291
(ومن الناس من يجادل في الله) أي: في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته مكابرة، وعناداً بعد ظهور الحق له، وقيام الحجة عليه ولهذا قال (بغير علم) مستفاد من عقل ونقل (ولا هدى) من جهة رسول يهتدى به إلى طريق الصواب.
(ولا كتاب منير) نير واضح أنزله الله؛ بل مجرد تعنت ومحض عناد وتقليد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة. قيل: نزلت في النضر بن الحرث، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف، وأشباههم، كانوا يجادلون النبي - ﷺ - في الله، وفي صفاته بغير علم.
292
(وإذا قيل لهم) أي: لهؤلاء المجادلين، والجمع باعتبار معنى (من) (اتبعوا ما أنزل الله) على رسوله من الكتاب، تمسكوا بمجرد التقليد البحت، و (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون فيها في دينهم؛ ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء.
قال ابن القيم: قد احتج العلماء بهذه الآية وأمثالها في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلاً فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ، وجهها كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضاً، وإن اختلفت الآثام فيه، والتقليد أنواع:
أحدها: الإِعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء.
الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله.
292
الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة، وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله - ﷺ -، وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، ولا يكون العبد مهتدياً حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله، فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب.
وكان طريقة الأئمة اتباع الحجة، والنهي عن تقليدهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقهم، بل هو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلاً بعينه سوى الرسول - ﷺ - يجعله مختاراً على الكتاب والسنة، يعرضهما على قوله، وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعاً، وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما، كما فرقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك المتبع، والإتيان بمثل ما أتى به، والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله، وبيان زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله وهو أصلاً بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه وفيما لم يزل، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد. انتهى، بتصرف في العبارة ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت:
293
(أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ)؟ أي: آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم أي: يتبعونهم في الشرك، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع.
(إلى عذاب السعير) لأنه زين لهم اتباع آبائهم: والتدين بدينهم، والأول أولى. لأن مدار إنكار الأتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون أنفسهم كذلك، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه المتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب (لو) محذوف، أي: يدعوهم فيتبعونه، وما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته وأشأم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحرق، فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق، وعذاب السعير.
294
(ومن يسلم وجهه إلى الله) أي: يفوض أمره إليه. ويخلص له عبادته، ويقبل عليه بكليته، وقرئ من يسلم بالتشديد. قال النحاس: التخفيف في هذا أعرف، كما قال عز وجل: (فقل أسلمت وجهي).
(وهو محسن) في أعماله، لأن العبادة من غير إحسان فيها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين، وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له: إن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي: اعتصم بالعهد الأوثق، وتعلق به وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يرتقي إلى شاهق جبل فيمسك بأوثق عرى حبل متدل منه (وإلى الله عاقبة الأمور) أي: مصيرها له لا إلى غيره فيجازي عليها.
294
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)
295
(ومن كفر فلا يحزنك كفره) أي: لا تحزن لذلك، فإن كفره لا يضرك. قرئ بفتح الياء وضم الزاي، وبضم الياء وكسر الزاي سبعيتان، بين سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بياد حال المؤمنين، ثم توعدهم بقوله (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) أي: نخبرهم بقبائح أعمالهم، ونجازيهم عليها (إن الله عليم بذات الصدور) أي: بما تسره صدورهم، لا تخفى عليه من ذلك خافية فالسر عنده كالعلانية.
(نمتعهم) تمتيعاً أو زماناً (قليلاً) أي: نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها إلى انقضاء آجالهم، فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) أي نلجئهم ونردهم إلى عذاب النار في الآخرة، لا يجدون عنها محيصاً: والمراد: الشدة والثقل على المعذب فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه، وأصيب به، فلهذا استعير له الغلظ
(ولئن) لام قسم (سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي: يعترفون بأن الله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم، وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد، وبطلان الشرك، وإلزام لهم على إقرارهم. ولهذا قال:
(قل) يا محمد (الحمد لله) على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره
295
وتجعلونه شريكاً له، أو المعنى: فقل: الحمد على ما هدانا له من دينه، ولا حمد لغيره، أو على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون ويجحدها الجاحدون، ثم أضرب عن ذلك فقال (بل أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك يلزمهم، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا، وقيل: لا ينظرون، ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره.
296
(لله ما في السماوات والأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، فلا يستحق العبادة فيهما غيره (إن الله هو الغني) عن غيره (الحميد) أي: المستحق للحمد، وإن لم يحمدوه، والمحمود من عاده بلسان المقال، أو بلسان الحال، ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض، أتبعه بما يدل على أن له وراء ذلك ما لا يحيط به عد، ولا يحصر بحد، فقال:
(ولو أن) جميع (ما في الأرض من شجرة أقلام) وحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل، قيل: وتوحيد شجرة لأن المراد تفصيل الشجر، واستقصاؤه، فكأنه قال: كل شجرة شجرة حتى لا تبقى من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاماً، ولو لم يفرد لم يفد هذا المعنى إذ الجمع يتحقق بما فوق الثلاثة، إلا أن تدخل عليه لام الاستغراق هكذا قرروه، قال الشهاب: وفيه بحث فإن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار أو الاستغراق بدون نفي محل نظر، لأنه إنما عهد ذلك في نحو جاءوني رجلاً رجلاً وما عندي تمرة. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع، والنكرة موقع المعرفة، كقوله: ما ننسخ من آية، وجمع الأقلام لقصد التكثير، أي: ولو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاماً، ثم قال سبحانه:
(والبحر) أي المحيط لأنه المتبادر من التعريف، إذ هو الفرد الكامل قرئ البحر بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره يمده، وبالنصب عطفاً على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره (يمده من بعده) أي: بعد نفاده (سبعة أبحر) أي: والحال أن البحر المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مداً لا ينقطع، كذا قال سيبويه. وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدر،
296
تقديره: ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر، وقرئ. يمده من أمد، وقرئ: والبحر مداده، وجواب لو:
(ما نفدت كلمات الله) التي هي عبارة عن معلوماته، لأنها لا نهاية لها، قال أبو علي الفارسي: المراد بالكلمات -والله أعلم- ما في المقدور والإمكان، دون ما خرج منه إلى الوجود والزمان، ووافقه القفال، فقال: المعنى: إن الأشجار لو كانت أقلاما، والبحار مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله تعالى، الدالة على قدرته ووحدانيته، لم تنفد تلك العجائب. قال القشيري: رد القفال معنى الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى، والمخلوق لا بد له من نهاية، وإذا نفيت النهاية فهي نفي للنهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه، والقديم لا نهاية له على التحقيق.
قال النحاس: قد تبين أن الكلمات هاهنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء، لأنه جل وعلا علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شيء، وعلم ما فيه من مثاقيل الذر، وعلم الأجناس كلها، وما فيها من شعرة وعضو، وما في الشجرة من ورق، وما فيها من ضروب الخلق. وقيل: إن قريشاً قالت: ما أكثر كلام محمد؟ فنزلت قاله السدي.
وعن ابن مسعود قال: إن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة: " يا محمد أرأيت قولك: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، إيانا تريد؟ أم قومك؟ " فقال: كلا، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء؟ فقال: " إنها في علم الله قليل، وأنزل الله ولو أن ما في الأرض الآية " أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم. قال أبو عبيدة: المراد بالبحر هنا: الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما المالح فلا ينبتها، قال الشوكاني: ما أسقط هذا الكلام وأقل جدواه (إن الله عزيز حكيم) أي: غالب لا يعجزه شىء ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من أفراد مخلوقاته.
297
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
298
(ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس) أي: كخلق نفس (واحدة) وبعثها لأنه بكلمة: كن فيكون، قال النحاس: هكذا قدره النحويون، يعني إلا كخلق نفس، كقوله: واسأل القرية: قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم، وعلى خلقهم، كقدرته على خلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة، أي: سواء في قدرته القليل والكثير، فلا يشغله شأن عن شأن (إن الله سميع) لكل ما يسمع (بصير) لكل ما يبصر.
(ألم تر) الخطاب لكل أحد يصلح لذلك، أو للرسول - ﷺ - (أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي: يدخل كل واحد منهما في الآخر، فيزيد كل منهما بما نقص من الآخر، وقد تقدم تفسيره في سورة الحج والأنعام (وسخر الشمس والقمر) أي: دللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول تقديراً للآجال، وتتميماً للمنافع، والاختلاف بينهما في الصيغة، لما أن إيلاج أحد المولجين في الآخر متجدد في كل حين، وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه، وإنما التعدد والتجدد في آثاره.
298
(كل) منهما (يجري إلى أجل مسمى) قيل: هو يوم القيامة، وقيل: وقت الطلوع ووقت الأفول، وقيل: الشمس إلى آخر السنة، والقمر إلى آخر الشهر، والأول أولى، وقال هنا بلفظ: (إلى)، وفي فاطر، والزمر، بلفظ اللام، لأن ما هنا، وقع بين آيتين دالتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق، وهما قوله ما خلقكم الآية وقوله: اتقوا ربكم واخشوا يوماً الآية فناسب ذكر (إلى) الدالة على الانتهاء، وما في فاطر والزمر خال عن ذلك، إذ ما في فاطر لم يذكر مع ابتداء خلق ولا انتهائه، وما في الزمر ذكر مع ابتدائه، فناسب ذكر اللام، والمعنى: يجري كل كما ذكر لبلوغ أجل. قاله الكرخي.
(وأن الله بما تعملون خبير) لا تخفى عليه خافية، لأن من قدر على مثل هذه الأمور العظيمة فقدرته على العلم بما يعملونه بالأولى، وهو عطف على أن الله يولج الخ، داخل معه في حيز الرؤية
299
(ذلك) أي: ما تقدم ذكره من الآيات الكريمة المشتملة على سعة العلم، وشمول القدرة، وعجائب الصنع واختصاص الباري بها (بأن الله) أي: بسبب أنه سبحانه (هو الحق) الثابت ألوهيته، أو فعل ذلك ليعلموا أنه الحق، وهو المستحق للعبادة (وأن ما يدعون من دونه الباطل) لا يستحق العبادة، قال مجاهد: الذي يدعون من دونه هو الشيطان، وقيل: ما أشركوا به من صنم أو غيره، وهذا أولى.
(وأن الله هو العلي الكبير) أي: إن ذلك الصنع البديع الذي وصفه في الآيات المتقدمة، للاستدلال به على حقية الله، وبطلان ما سواه، وعلوه وكبريائه على الخلق، له الصفات العليا، والأسماء الحسنى، وهو علي الذات، سمي الصفات، كبير الشأن، جليل القدر، رفيع الذكر، مطاع الأمر جلي البرهان، ثم ذكر من عجيب صنعه، وبديع قدرته، وغاية حكمته، وشمول إنعامه نوعاً آخر فقال:
(ألم تر أن الفلك) أي: السفن والمراكب (تجري في البحر بنعمة الله) أي بلطفه بكم، ورحمته لكم، أو بالريح لأنها من نعم الله تعالى، وذلك من أعظم نعمه عليكم، لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم في البحر لطلب الرزق، وقرئ بنعمات الله جمع نعمة، والباء للصلة، أو للحال (ليريكم من آياته) من للتبعيض، أي بعض آياته، قال يحيى بن سلام، وهو جري السفن في البحر بالريح، وقال ابن شجرة: المراد بقوله؛ من آياته ما يشاهدونه من قدرة الله تعالى. قال النقاش: ما يرزقهم الله من البحر.
(إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) هذه الجملة تعليل لما قبلها أي: فيما ذكر لآيات عظيمة، وعبراً فخيمة لكل من له صبر بليغ، وشكر كثير، يصبر عن معاصي الله، ويشكر نعمه، وهما صفتا المؤمن. فالإيمان نصفان نصفه شكر، ونصفه صبر، فكأنه قال: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن حيث يبعث في نفسه التفكر في عدم غرقه، وفي سيره إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً بريحيين. وتارة بريح واحدة، وفي إنجاء أبيه نوح عليه السلام، ومن أراد الله تعالى من خلقه، وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره، وصنائعه، وأفعاله.
(وإذا غشيهم موج كالظلل) أي: كالجبال التي تظل من تحتها، شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل، أو سحاب، أو غيرهما، وإنما شبه الموج وهو واحد، بالظلل وهي جمع، لأن الموج يأتي شيئاًً بعد شيء، ويركب بعضه بعضاً. وقيل: إن الموج في معنى الجمع، لأنه مصدر، وأصل الموج الحركة والازدحام، ومنه يقال ماج البحر، وماج الناس وقرئ كالظلال جمع ظل.
(دعوا الله) وحده (مخلصين له الدين) أي: لا يعولون على غيره في خلاصهم، لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه، ولكنه يغلب على
300
طبائعهم العادات، وتقليد الأموات، فإذا وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله تعالى، وأخلصوا دينهم له طلباً للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه، لزوال ما ينازع الفطرة الإيمانية من الهوى والتقليد بما دهاهم من الشدائد.
(فلما نجاهم إلى البر) صاروا قسمين (فمنهم مقتصد) أي: فقسم مقتصد، أي: عدل موف في البر، بما عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له، باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر، وأخرجه إلى البر سالماً. قال الحسن: معنى مقتصد مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. وقال الرازي: المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات، والظالم لنفسه، وهو الذي تساوت سيئاته وحسناته، وقيل: متوسط بين الكفر والإيمان، لأنه انزجر بعض الانزجار، ومنهم باق على كفره لأن بعضهم كان أشد قولاً، وأعلى افتراء من بعض، والأولى ما ذكرناه.
قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل، وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر، فجاءهم ريح عاصف، فقال عكرمة: لئن نجانا الله من هذا لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأضعن يده في يدي، فسكنت الريح، ورجع عكرمة إلى مكة، وحسن إسلامه، وفي الكلام حذف، والتقدير: فمنهم مقتصد، ومنهم كافر لم يوف بما عاهد، ويدل على هذا المحذوف قوله:
(وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) لأنه نقض العهد الفطري، ورفض ما كان عليه في البحر، ؤهذا في مقابلة صبار، كما أن (كفور) في مقابلة (شكور) والختر: أسوأ الغدر وأقبحه. قال الجوهوي: الختر: الغدر، يقال: ختره فهو ختار، أي: غدارء قال الماوردي: وهذا قول الجمهور، وقال ابن عطية: إنه الجاحد، وجحد الآيات إنكارها، والكفور عظيم الكفر بنعم الله سبحانه. قال ابن عباس: ختار: جحاد.
301
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
302
(يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي) أي: لا يغني ولا يقضي (والد عن ولده) شيئاًً ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع، لاشتغاله بنفسه، وقد تقدم بيان معناه في البقرة (ولا مولود هو) مبتدأ ثان خبره: (جاز عن والده شيئاًً) والجملة خبر مولود، وجاز الابتداء به، وهو نكرة لأنه في سياق النفي، ثم الخبر مع المبتدأ كلام وارد على طريق من التوكيد، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه، لأن الجملة الاسمية آكد من الجملة الفعليه وقد انضم إلى ذلك قوله (هو) وقوله (مولود) والسبب في ذلك أن الخطاب للمؤمنين، فأريد حسم أطماعهم أن ينفعوا آباءهم بالشفاعة في الآخرة، ومعنى التأكيد في لفظ المولود: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته، فضلاً أن يشفع لأجداده، إذ الولد يقع على الولد، وولد الولد، بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك، كذا في الكشاف.
وبالجملة فقد ذكر سبحانه هنا فردين من القرابات، وهما الوالد والولد، وهما الغاية في الحنو والمحبة والشفقة على بعضهم البعض، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى، فكيف بالأجانب، ونبه أيضاً بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، فالوالد يجزي عن ولده في الدنيا لكمال شفقته عليه، والولد يجزي عن والده لما له عليه من حق التربية وغيرها، فإذا كان يوم القيامة فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ولا يهتم بقريب ولا بعيد.
302
وقال ابن عباس: كل امرئ تهمه نفسه، اللهم اجعلنا ممن لا يرجو سواك، ولا يعول على غيرك.
(إن وعد الله) بالبعث (حق) لا يتخلف، فما وعد به من الخير، وأوعد به من الشر، فهو كائن لا محالة (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) وزخارفها عن الإسلام فإنها زائلة ذاهبة فانية.
(ولا يغرنكم بالله) في حلمه وإمهاله (الغرور) بفتح الغين أي: الدنيا، أو الأمل بأن يرجيكم التوبة والمغفرة فيجسركم على المعاصي، وقال ابن عباس: الغرور: هو الشيطان، وكذا قال مجاهد، وعكرمة وقتادة لأن من شأنه أن يغر الخلق، ويمنيهم بالأماني الباطلة، ويلهيهم عن الآخرة، ويصدهم عن طريق الحق. وقال سعيد بن جبير: يعمل بالمعاصي، ويتمنى المغفرة. وقرئ بضم الغين، مصدر غر يغر غروراً، ويجوز أن يكون مصدراً واقعاً وصفاً للشيطان على المبالغة.
303
(إن الله عنده علم الساعة) أي: علم وقتها الذي تقوم فيه، قال الفراء: إن معنى هذا الكلام النفي، أي: ما يعلمه إلا الله عز وجل، قال النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي، لما ورد عن النبي - ﷺ - أنه قال في قوله: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو: إنها هذه.
أخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله، ولا ما في الأرحام إلا الله. وفي الصحيحين، وغيرهما، من حديث أبي هريرة -في حديث سؤاله عن الساعة، وجوابه بأشراطها- ثم قال: في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا هذه الآية، أي: لا يدري أحد متى تقوم الساعة في أي سنة، وأي شهر وأي يوم، وأي ساعة ليلاً أو نهاراً.
303
وفي الباب أحاديث، وعن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت، وأخبرني متى أموت؟، فأنزل الله: إن الله عنده علم الساعة الآية، وعن عكرمة نحوه، وزاد وقد علمت ما كسبت اليوم، فماذا أكسب غداً؟ وزاد أيضاًً أنه سأل عن قيام الساعة! وقيل: نزلت في الحرث بن عمرو بن حارثة من أهل البادية.
(وينزل الغيث) في الأوقات والأمكنة التي جعلها معينة لإنزاله، ولا يعلم ذلك غيره، قرئ من التنزيل والإنزال (ويعلم ما في الأرحام) من الذكور والإناث، والصلاح والفساد (وما تدري نفس) من النفوس كائنة ما كانت، من غير فرق بين الملائكة والأنبياء، والجن والإنس (ماذا تكسب غداً) من كسب دين، أوكسب دنيا، خير أو شر.
(وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقرئ بأية أرض، وجوز ذلك الفراء، وهي لغة ضعيفة، قال الأخفش: يجوز أن يقال مررت بجارية أي جارية، والمعنى: ولا تعلم نفس بأي مكان يقضى الله عليها بالموت من الأرض في بر أو بحر، في سهل، أو جبل، وربما أقامت بأرض، وضربت أوتادها، وقالت: لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت مكان لم يخطر ببالها.
روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل: من هذا؟ قال ملك الموت، قال: كأنه يريدني، وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند. ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك، ذكره النسفي في المدارك، ورأى المنصور في منامه صورة ملك الموت، وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس، فعبرها المعبرون بخمس سنوات، وبخمسة أشهر، وبخمسة أيام، فقال أبو حنيفة: هو إشارة إلى هذه الآية.
304
فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله. قال الكرخي: أضاف في الآية العلم إلى نفسه في الثلاثة من الخمسة المذكورة، ونفى العلم عن العباد في الأخيرتين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها، وانتفاء علم العباد بها، لأن الثلاثة الأولى أمرها أعظم وأفخم، فخصت بالإضافة إليه تعالى، والأخيرتان من صفات العباد، فخصتا بالإضافة إليهم مع أنه إذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الخمس أولى:
(إن الله عليم) بهذه الأشياء، وبغيرها من الغيوب (خبير) بما كان وبما يكون وببواطن الأشياء كلها، ليس علمه محيطاً بالظاهر فقط. قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئاًً من هذه فإنه كفر بالقرآن. وعن الزهري: أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب، والله أعلم، وفيه رد على المنجم والكاهن، اللذين يخبران بوقت الغيث والموت وغيرهما.
305
خاتمة الجزء العاشر
تم بعون الله الجزء العاشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الحادي عشر وأوله سورة السجدة.
307
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الحادي عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الحادي عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

ويشتمل على
- سورة السجدة
- سورة الأحزاب
- سورة سبأ
- سورة يس
- سورة الصافات
5

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة السجدة
(آياتها تسع وعشرون آية وقيل ثلاثون آية)
بناء على الاختلاف في أن آخر الآية: (لفي خلق جديد). أو هو (كافرون) فعلى الاول: تكون ثلاثين. وعلى الثاني: تكون تسعا وعشرين. وهي مكية. قاله: ابن عباس وابن الزبير.
وأخرج البخاري عنه: هي مكية سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام الآيات الثلاث. وكذا قال الكلبي ومقاتل، وقيل إلا خمس آيات من قوله: (تتجافى جنوبهم) إلى قوله: (الذي كنتم به تكذبون). وقد ثبت عند مسلم؛ وأهل السنن من حديث أبي هريرة أن النبي - ﷺ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بألم تنزيل السجدة. وهل أتى على الإنسان.
وأخرج أحمد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم: عن جابر قال كان النبي - ﷺ -: " لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة. وتبارك الذي بيده الملك ". وقد وردت في فضائل هذه السورة أحاديث.
7

بسم الله الرحمن الرحيم

(ألم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)
9
Icon