تفسير سورة ص

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وهي مبدوءة بحرف من حروف التهجِّي، التي يعلم الله وحده حقيقة المراد منها. ثم يُقسم الله بقرآنه الكريم ذي الدرجة العليا والشرف العظيم. وفي المحلوف عليه خلاف.
على أن السورة فيها تنديد شديد بالكافرين الذين عجبوا أن يأتيهم رسول منهم يبلغهم دعوة الله ويدعوهم إلى عبادة ربهم وحده دون غيره من الشركاء فأعرضوا وقالوا :﴿ إنَّ هَذَا شَيْءٌ عُجابٌ ﴾.
وفي السورة مقتضب عن أخبار لفيف من النبيين وأقوامهم الظالمين، كقوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، أولئك جميعا عتوا عن أمر الله ونكلوا عن عقيدة التوحيد ؛ فأخذهم الله بالنكال الشديد في هذه الدنيا قبل يوم القيامة حيث العذاب البئيس. وفي السورة إخبار عن نبي الله داود ؛ إذ سخّر الله الجبال معه يسبِّحْن بالعشي والإشراق.
وفيها قصة الملك المؤمن نبي الله الكريم داود عليه السلام ؛ فقد آتاه الله المُلْك وأمره بالعدل ونهاه عن اتباع الهوى والشطط، ووهب له الولد الصالح سليمان الذي ورث عنه النبوة وأمانة التبليغ.
وفي السورة قصة النبي الصابر أيوب عليه السلام. فقد أصابه من شديد السقم وبالغ الضَّرَّاء ما لا يطيقه غير أولي العزم من أعاظم الصناديد الأبرار. إلى غير ذلك من قصص النبيين المرسلين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل، ثم أخبار القيامة وأهوالها وقواصمها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :﴿ ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ( ١ ) ﴾ :﴿ ص ﴾ من الحروف المقطعة التي تفتتح بها سور من الكتاب الحكيم. وقد تقدم الكلام عن هذه المسألة.
قوله :﴿ وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ يُقْسم الله بكتابه القرآن ﴿ ذِي الذِّكْرِ ﴾ أي ذي الشرف العظيم والمكانة العالية، وما اشتمل عليه من تذكير للعباد.
أما جواب القَسَم، فقيل :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ الآية. وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ العزّة : تعني القوة والغلبة.
والمعنى : أن الذين كفروا بالله ورسوله مستكبرون ممتنعون من التصديق بدعوة الله أو الجنوح للحق. وهم أيضا في شقاق ؛ أي مخالفون للحق، مفارقون لدين الله.
قوله :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ﴾ :﴿ كمْ ﴾ للتكثير، أي : كثيرا أهلكنا من الأمم الكافرة الضالة من قبل هؤلاء المشركين الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿ فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ لما نزل بهم العذاب وأحاط بهم العقاب المحتوم فعاينوه معاينة استغاثوا بربهم ولجوا بالتوبة والاستغفار وطلب العون والاستنقاذ ﴿ وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ﴿ وَلاَتَ ﴾، حرف بمعنى ليس وله اسم وخبر مثل ليس. وتقديره : ولان الحين حين مناص. ولا يكون اسمه وخبره إلا الحين. ولا يجوز إظهار اسمه ؛ أي ليس الوقت حينئذ وقت فرار فقد فات زمن التوبة والاستغفار والآن أوانُ الحساب والجزاء.
قوله تعالى :﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ : عجب مشركو العرب من أن يأتيهم مُبلِّغ من البشر يبلِّغهم دعوة ربهم ويحذرهم بأس الله بكفرهم وإشراكهم مع الله آلهة مزعومة وموهومة ﴿ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ أرادوا بالإشارة محمدا صلى الله عليه وسلم فقد كذبوه ورموه بالسحر ؛ إذ قالوا إنه يفرِّق بين الوالد وولده وبين المرء وزوجه.
قوله :﴿ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ الآلهة، وإلها، مفعولان لجعل، وهو بمعنى صيَّر. فهم بسفاهتهم وضلالتهم يستنكرون جعل الآلهة إلها واحدا ويقولون :﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ أي عجب بالغ أو في غاية العجب. وذُكر في سبب نزول هذه الآية أنه لما أسلم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – شقَّ على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا : اقضِ بيننا وبين أخيك، فأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء – أي العدل – فلا تمِلْ كل الميل على قومك. قال " وماذا يسألونني ؟ " قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ونذرك وإلهك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ". فقال أبو جهل : لله أبوك ! لنعطينّكهَا وعشْر أمثالها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا لا إله إلا الله " فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا :﴿ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾ فكيف يسع الخلْقَ كلهم إله واحد. فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
قوله :﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ ﴾ :﴿ أنِ ﴾ مفسرة، وتقديره أي امشوا.
المراد بالملأ، أشراف القوم وسادتهم ؛ فقد ذهب هؤلاء مسرعين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول بعضهم لبعض : امضوا على ما أنتم عليه من عبادة الأصنام واصبروا على دينكم وعبادة آلهتكم.
قوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ أي هذا الذي جاء به محمد، وما يدعونا إليه من عبادة إله واحد، إنْ هو إلا شيء يريده منا محمد يبتغي به الظهور والاستعلاء علينا لنكون له تبعا، فاحذروا طاعته وتصديقه.
قوله :﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ ﴾ : أرادوا بالملة الآخرة، النصرانية وهي آخر الملل : يعني ما سمعنا بهذا الدين الذي جاء به محمد والذي يدعونا فيه إلى التبرؤ من جميع الآلهة إلا من الله – في ملة عيسى وهي النصرانية ؛ ولو كان ما جاءنا به حقّا لأخبرنا به النصارى.
﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ﴾ : يعني ما هذا الذي جاء به محمد إلا كذب وتخريص اختلق محمد من عنده. هكذا المشركون السفهاء يؤفكون عن دين الله وعن سبيله المستقيم كراهية في الحق وجنوحا للهوى والباطل الذي أُشْرِبَتْهُ نفوسهم السقيمة.
قوله :﴿ أَءُُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ﴾ : الاستفهام للإنكار. والمراد بالذكر ههنا القرآن ؛ فقد أنكر المشركون تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه من بينهم جميعا.
قوله :﴿ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ﴾ أي : ليست هذه حجتهم الحقيقية فهم يعلمون أنك صادق فيهم ولكنهم يشكون في نزول القرآن إليك.
قوله :﴿ بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ يعني : أهم لم يجترئوا على مثل هذا القول من الكفر والجحود إلا ؛ لأنهم لم يذوقوا العذاب والنكال بعد ؛ فقد غرتهم زينة الحياة الدنيا وغرهم الشيطان في دينهم فعموا وصمّوا. ويوم يذوقون العذاب المهين ويُدعّون إلى نار جهنم دعّا، حينئذ لا ينفعهم إيمان ولا تصديق ؛ ولا تجديهم توبة أو حسرة.
قوله :﴿ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ يعني : أم عند هؤلاء المشركين المكذبين مفاتيح رحمة الله ذي القوة والجبروت، الوهاب لمن يشاء من عباده فيمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما منَّ الله به عليه من نبوة وكرامة.
قوله :﴿ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ : إنْ كان المشركون يملكون السماوات والأرض وما بينهما فليصعدوا في الأسباب ؛ وهي طرق السماء ؛ أو ليصعدوا إلى السماوات فيحولوا دون نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ﴾ :﴿ جند ﴾ مرفوع على أنه مبتدأ. و ﴿ مّا ﴾ زائدة. و ﴿ هنالك ﴾، صفة لجند. و ﴿ مهزوم ﴾ خبر لمبتدأ ؛ يعني هؤلاء المشاققون الذين يحادون الله ورسوله إن هم جند من الأحزاب مهزوم. وذلك تأنيس من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم كيلا يبتئس بتكذيبهم وإعراضهم فإنهم مغلوبون ومقهورون.
يخبرُ الله عن حال الكافرين من الأمم الماضية الذين جحدوا ربهم وكذبوا رسله وأعرضوا عن دين الله معاندين مستكبرين، وهم قوم نوح فقد أخذهم الله بالطوفان، وقوم عاد الين أُخُذوا بالصيحة، وقوم فرعون ذي الأوتاد. وسمي بذي الأوتاد بمعنى البنيان. وقيل : كانت له ملاعب من أوتاد يُلْعَب له عليها فأخذه وملأه بالتغريق لشدة ظلمهم وعتوهم وفسادهم في الأرض. ثم قوم ثمود، ولوط وقد تقدم الكلام عنهما في آيات مضت. ثم أصحاب الأيكة ؛ أي الغيضة، وهي الشجر الكثير الملتف من السدر والدوم وغيرهما ﴿ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ﴾ تلك الأمم الظالمة الكافرة التي طغت وعتت وفسقت عن أمر ربها كانت أقوى من مشركي العرب وأكثر منهم أموالا ونفيرا فلم ينجو من عقاب الله، ولم تمنعهم قوتهم من عذاب الله الذي نزل بهم فأهلكهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:يخبرُ الله عن حال الكافرين من الأمم الماضية الذين جحدوا ربهم وكذبوا رسله وأعرضوا عن دين الله معاندين مستكبرين، وهم قوم نوح فقد أخذهم الله بالطوفان، وقوم عاد الين أُخُذوا بالصيحة، وقوم فرعون ذي الأوتاد. وسمي بذي الأوتاد بمعنى البنيان. وقيل : كانت له ملاعب من أوتاد يُلْعَب له عليها فأخذه وملأه بالتغريق لشدة ظلمهم وعتوهم وفسادهم في الأرض. ثم قوم ثمود، ولوط وقد تقدم الكلام عنهما في آيات مضت. ثم أصحاب الأيكة ؛ أي الغيضة، وهي الشجر الكثير الملتف من السدر والدوم وغيرهما ﴿ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ ﴾ تلك الأمم الظالمة الكافرة التي طغت وعتت وفسقت عن أمر ربها كانت أقوى من مشركي العرب وأكثر منهم أموالا ونفيرا فلم ينجو من عقاب الله، ولم تمنعهم قوتهم من عذاب الله الذي نزل بهم فأهلكهم.
قوله :﴿ إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ﴾ يعني ما كل هؤلاء الأمم إلا كذَّب الرسل ﴿ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ أي فنزل بهم العذاب بسبب تكذيبهم وعصيانهم. وذلك تهديد من الله لمشركي العرب وتحذيرا لهم من عذاب الله أن يحل بهم.
قوله :﴿ وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ يعني ما ينظر هؤلاء المشركون المعاندون ﴿ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً ﴾ وهي النفخة الأولى، نفخة الفزع ﴿ مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ﴾ يعني ما لتلك النفخة من ارتداد ولا رجوع إلى الدنيا. أو ما ينتظر هؤلاء الضالون المكذبون إلا أن ينفخ إسرافيل في الصور نفخة تأخذهم فلا يفيقون فيها.
قوله :﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ : القط، معناه الحظ والنصيب. أو هو الكتاب والصك بالجائزة ؛ أي قال المشركون على سبيل السخرية والاستهزاء : يا ربنا عجل لنا حظنا ونصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة.
قوله :﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ أي : اصبر يا محمد على اجتراء قومك على تكذيبك والاستسخار منك ؛ فإنما العاقبة لك وللمؤمنين المتقين من أمتك.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ : ذلك ذكر من الله لنبيه ورسوله داود عليه الصلاة والسلام ؛ فقد كان ذا الأيدي أي القوة في العبادة والطاعة. وقيل : في العلم والعمل.
قوله :﴿ انَهُ أَوَّابٌ ﴾ أي رجاع. أو تواب كثير الإنابة والاستغفار.
قوله :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ سخر الله الجبال مُسبِّحة مع داود عند إشراق الشمس وفي آخر النهار، فكان داود إذا ذكر الله ذكرت معه الجبال. وكان عليه الصلاة والسلام يفقه تسبيح الجبال. ويستدل من قوله :﴿ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ على صلاة الضحى ؛ فقد روي عن ابن عباس قوله : لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن. على أن صلاة الضحى نافلة مستحبة وأقلها ركعتان. وقيل : واحدة، وهي تؤدى في الغداة عند ابيضاض الشمس عقب طلوعها وإشراق نورها. وفي صحيح مسلم : عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلاة الأوابين حي ترمَض الفصال " والفصال والفصلان جمع فصيل، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل. والرمضاء شدة الحرِّ في الأرض.
وفضل صلاة الضحى عظيم وأجرها كبير. وفي ذلك روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حافظ على شَفْعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ".
قوله :﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ﴾ ﴿ وَالطَّيْرَ ﴾، معطوف على ﴿ الجبال ﴾ ؛ أي وسخرنا الطير يسبِّحن معه محشورة يعني مجموعة له ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا سبح أجابته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبَّحت معه.
قوله :﴿ كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾ أي راجع إليه، فترجَّع معه وتسبح بتسبيحه وتحن إلى صوته الحسن.
قوله :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ أي : قويناه بالعون والنصرة حتى كان مكينا ثابتا. وكان في الناس مهيبا مطاعا وأوتي من كثرة الجنود لحراسته ما أثار الرهبة في القلوب، ويستدل من ذلك أيضا أن النبي يجوز أن يسمى ملكا.
قوله :﴿ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ اختُلف في المراد بالحكمة. فقيل : معناه النبوة. وقيل : العلم بكتاب الله. وقيل : العلم والفقه. وأما ﴿ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ فهو الفصل في القضاء. وقيل : هو الإيجاز بجعْل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
قوله تعالى :﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ :﴿ الْخَصْمِ ﴾ يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع والتثنية والإفراد ؛ لأنه في الأصل مصدر والمراد بالخصم ههنا ملكان ﴿ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ أي وقت تسور المحراب. و ﴿ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾، يعني أتوه من أعلى سوره. نقول : تسور الحائط، أي تسلّقه. و ﴿ الْمِحْرَابَ ﴾ معناه هنا الغرفة ؛ فقد تسلقوا على داود وهو فيها. وهو قوله :﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ﴾
﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ﴾ ﴿ إذْ ﴾ بدل من ﴿ إذ ﴾ الأولى فقد كان داود في داره، وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد في ذلك اليوم ؛ ثم فوجئ باثنين قد تَسوّرا عليه الدار ليسألاه عن شأنهما ﴿ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ﴾ لأنهما أتياه ليلا في وقت لا يأتي فيه الخصوم، وقد دخلوا عليه بغير إذنه وكان ذلك من غير الباب الذي يدخل من الناس بل دخلوا تسلّقا من فوق المحراب. وكان محرابه من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرقى إليه أحد بحيلة إلا ببالغ المشقة والجهد.
قوله :﴿ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ﴾ ﴿ خَصْمَانِ ﴾ خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : نحن خصمان. يعني : قال الملكان لداود كيلا يفزع منهما : نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض. أو تعدى أحدنا على الآخر. وذلك على سبيل الفرض والتقدير، أو التعريض ؛ لأن الملائكة لا تبغي. ثم طلبا منه أن يقضي بينهما بالحق وأن لا يجور. وهو قوله :﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ﴾ تُشطِط من الشطط، وهو مجاوزة القدر في كل شيء والمراد به هنا الجور والعدل ؛ أي اقضِ بيننا بالعدل ولا تجر في قضائك ولا تَملِ فيه مع أحد.
قوله :﴿ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ يعني أرشدنا إلى الطريق المستقيم.
قوله :﴿ إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ كنّى بالنعجة عن المرأة لما هي عليه من السكون وضعف الجانب، فقد قال أحد الملكين لصاحبه :﴿ إنَّ هَذَا أَخِي ﴾ أي صاحبي أو أخي في الدين ﴿ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ﴾ وهذا من التعريض ؛ إذْ كنّى بالنعاج عن النساء. وقد أراد الملَك بذلك داود ؛ إذ كان له تسع وتسعون امرأة وأراد أن ينكح امرأة رجل ليس له من الزوجات سواها وهو قوله :﴿ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ﴾ أي ضمها إلي، أو خلِّ سبيلها إلي، أو أعطينها.
قوله :﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ أي غلبني أو قهرني بسلطانه وبيانه.
قوله :﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ قال داود للخصم المتظلِّم من صاحبه : لقد ظلمك صاحبك هذا بسؤال امرأتك الواحدة إلى التسع والتسعين من نسائه.
قوله :﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ﴿ الْخُلَطَاءِ ﴾ جمع خليط، وهو لشريك أو الصاحب يعني : وإن كثيرا من الشركاء أو الأصحاب يتعدى بعضهم على بعض أو يظلم بعضهم بعضا ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ فإن المتقين الذين يخشون الله ولا يبرح قلوبهم الخوف من جلاله وعظيم سلطانه لا يظلمون الناس ﴿ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ ﴿ همْ ﴾، مبتدأ. ﴿ وَقَلِيلٌ ﴾، خبره. و ﴿ مَا ﴾ زائدة ؛ أي وقليل هم الذين لا يبغون.
قوله :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ يعني أيقن داود بعد الذكرى أنما ابتلاه ربه بذلك ﴿ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ﴾ سأل الله أن يغفر له الذنب ﴿ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ أي سقط ساجدا لله منيبا إليه خاشعا متذللا.
قوله :﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ ﴿ ذلك ﴾ في موضع نصب للفعل، غفرنا ؛ أي فغفرنا له ذلك الذنب.
واختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر له داود وتاب عنه. وفي ذلك جملة أقوال عن حقيقة هذا الذنب، ما نظن أن واحدا منها يصح. فمثلها من الذنوب لا يقع فيها المتقون الصالحون، فكيف بالنبيين أولي العصمة والدرجات العلا من الإيمان والتقى ؟ !
إن داود عليه السلام طلب من زوج المرأة فراقها ليتزوجها ويضمها إلى نسائه وهن تسع وتسعون واحدة. فنبهه الله على ذلك بإرسال الملكين إليه ليتخاصموا في مثل قصته تذكيرا وتنبيها.
وما ينبغي أن نركن في مثل هذه المسألة إلى كثير من الأقوال التي جُلُّها من الإسرائيليات، وهذه مزيج من الأخبار والقصص التي يخالطها الغلو وشطحات الخيال التائه فلا ينبغي التعويل عليها ما لم يعززها شيء من كتاب ربنا الحكيم أو سنة نبيه الصحيحة.
قوله :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ﴾ أي القربة والدنو من الله يوم القيامة ﴿ وَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾ أي حُسن مرجع ومنقلب إليه يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾.
يخاطب الله نبيه داود بقوله : إننا استخلفناك في الأرض من بعد النبيين الذين خلوا من قبلك لتحكم بين الناس. فاحكم بينهم بالعدل والنَّصَفَة ﴿ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى ﴾ أي احذر الهوى أن يقودك إلى الميل والجور في الحكم فتكون من الزائغين التائهين عن طريق الله المستقيم.
قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ أي الذين يحيدون عن الحق والعدل ويميلون عن سبيل الله أعدّ الله لهم شديد العقاب ﴿ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ أي بتركهم الإيمان والطاعة، وإيثارهم الجور في القضاء والميل عن سبيل الله ؛ فهم كالناسين ما ينتظرهم من حساب يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ : ذلك إعلان من الله للناس يبين لهم فيه أنه لم يخلق السماء والأرض عبثا وما أنشأهما للهو أو لغير حكمة ربانية بالغة. حكمة مقدرة مسطورة من وراء الوجود كله ومن وراء الكائنات جميعا ؛ ليبين للعالمين أن السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من خلائق وأحياء لم يكن ذلك باطلا، بل خلقهم الله ليعبدوه ويوحدوه ويفردوه في الإلهية والربوبية ثم يجمعهم يوم القيامة ليلاقوا الحساب، فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وعصيانه. وهذه حقيقة مقدورة كبرى منافية لما يظنه الكافرون الضالون الذين يحسبون أن المؤمن والجاحد سواء وأنهم جميعا صائرون إلى نتيجة واحدة وهي الموت، الذي لا بعث بعده ولا حياة وهو قوله سبحانه :﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ أولئك سادرون في الضلال، مكذبون بيوم الدين فلهم الويل وسوء المصير.
قوله :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ذلك عدل الله المطلق وحكمته البالغة العظمى. فلا يساوي الله بين المؤمنين والكافرين. ولا يعدلُ العبدَ المنيبَ الصالح بالشقي الطالح، فكل سارب في سبيله سواء في الدنيا أو في الآخرة التي يساق فيها المؤمنون إلى الجنة ويساق المجرمون المكذبون إلى الجحيم.
قوله :﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ أي هذا القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد ﴿ مبارك ﴾ فيه البركة والخير والبهجة والسعادة للعالمين ﴿ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ ﴾ أي ليتعظ ويعتبر أصحاب العقول النيرة ما في هذا الكتاب الحكيم من روائع المعاني والبينات، فيستقيموا ويسلكوا بذلك سبيل الرشاد.
قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ : ذلك إخبار من الله تعالى بأنه وهب لنبيه داود سليمان نبيّا ؛ فقد منَّ به عليه بكونه نبيا وقد كان لداود بنون آخرون ؛ إذ كان له مائة زوجة.
قوله :﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ المقصود بالمدح محذوف وتقديره سليمان وذلك ثناء من الله على هذا النبي الكريم سليمان عليه الصلاة والسلام ؛ إذ كان أوّابا أي مسبِّحا كثير العبادة والإنابة إلى الله.
قوله :﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴾ :( العشي ) بعد الزوال، و ﴿ الصَّافِنَاتُ ﴾ جمع صافنة، والمذكر صافن، والصافن من الخيل : القائم على ثلاث وطرف حافر الرابعة. و ﴿ الْجِيَاد ﴾ السراع. فقد عُرض على سليمان الخيل الصامتات الجياد، وكانت عشرين فرسا ذات أجنحة. وقيل : مائة فرس، وقيل : كانت عشرين ألفا.
قوله :﴿ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ :﴿ حُبَّ ﴾ مفعول به. وقيل : مصدر، فقد ذُكر أنه اشتغل بعرض الخيل الجياد حتى فات وقت صلاة العصر فتركها نسياننا لا عمدا، كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر فصلاها بعد المغرب.
والمعنى : إني آثرت حب الخير وهي الخيل فألهاني ذلك عن ذكر ربي أي غفل سهوا عن ذكر ربه وأداء فريضته : وقيل : إن ذلك صلاة العصر ﴿ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ حتى غابت الشمس في مغيبها. أو استترت بالليل فهو يستر ما فيه.
قوله :﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ ﴾ أي ردوا على الخيل التي عرضت عليّ فشغلتني عن الصلاة.
قوله :﴿ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ يعني أمر بها. فعقرت، أو ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف ؛ لأنها شغلته عن عبادة الله وكان ذلك في شرعهم جائزا إن كان غضبا لله. وقيل : إن سليمان عرقبها ثم ذبحها، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ : فَتَنَ الله سليمان عليه السلام ؛ إذ ابتلاه أو اختبره. أما حقيقة هذا الابتلاء : فقد ذكر فيه أقوال كثيرة لا نطمئن إلى جُلِّها لاختلاطها بالإسرائيليات من الأخبار. ومن جملة ذلك : أن سليمان عليه السلام تزوج امرأة من بنات الملوك فعبدت في داره صنما وهو لا يعلم، فامتحن بسبب غفلته عن عبادتها الصنم. وقيل : ابتلاه الله بشيطان جلس على كرسيه أربعين يوما. وكان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وقيل : كانت له ثلاثمائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة وهي آثَرُ نسائه عنده. وكان إذا أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاه يوما خاتما ودخل الخلاء، فخرج الشيطان في صورته. فقال : هاتي الخاتم فأعطاه فجاء حتى جلس على مجلس سليمان وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا وخرج كأنه تائه. ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن : إنا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان قد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه، ثم أقبلوا يمشون فأحدقوا به ثم نشروا يقرأون التوراة فطار من بين أيديهم حتى وقع على شُرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم في البحر، فقام سليمان إلى شاطئ البحر فوجد الخاتم في بطن حوت فأخذه فلبسه فردّ الله عليه مُلكه وسلطانه. وقيل غير ذلك مما هو نظير لما ذكرنا. وكله في الغالب – من الإسرائيليات التي لا يُركن إليها.
قوله :﴿ ثُمَّ أَنَابَ ﴾ أي رجع إلى الله تائبا.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ﴾ أي استر علي ذنبي الذي فعلت ﴿ وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ﴾ أي اعطني من الملك ما ليس لأحد من بعدي. أو لا يُسلب منى كم سُلب ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ الله الذي يهب الملك لمن يشاء من عباده وهو سبحانه بيده مقاليد كل شيء.
وإذا قيل : كيف يطلب سليمان الدنيا مع ذمِّها من الله تعالى ؟. أجيبَ بأن المراد بسؤاله الملك أن يتمكن به من أداء حقوق الله وإقامة حدوده وإنفاذه شرعه وأحكامه وتعظيم شعائره. ولا يتحقق ذلك إلا من جهة السلطان ؛ فإنه بهيبته وجاهِهِ وبما لديه من قوة الدولة وسلطانها وعزها وعساكرها، تسير الأمور والأحوال في ظل شريعة سيرا موصولا مستقيما وعلى ما يُرام.
﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ استجاب الله دعاء سليمان فأعطاه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ؛ إذْ سخّر له الريح فهي ﴿ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ﴾ من الرخاوة. أي تسير الريح بأمر سليمان طيبة لينة مع قوتها وشدتها كيلا تضر بأحد ﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ أي أراد وقصد.
قوله :﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ :﴿ كُلَّ ﴾ بدل من الشياطين ؛ أي سخر الله لسليمان الشياطين فسلَّطهُ عليها تسليطا، فاستعملها فيما شاء من أعماله، من بناء وغوص ؛ أي استعملهم بناءين وغواصين، فالبناءون يصنعون المحاريب والتماثيل. والغواصون يستخرجون الحلي من البحار.
﴿ وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ والمراد بالآخرين مردة الشياطين ؛ فقد قرنهم في قيود الحديد وسلاسله.
قوله :﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا ﴾ الإشارة عائدة إلى الملك الذي أعطاه الله إياه.
قوله :﴿ فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي اعط من شئت ما شئت من الملك الذي أوتيته، وامنع من شئت ما شئت منه فليس عليك في ذلك تبعة ولا حساب.
قوله :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾ : له عند الله قربة وحُسن مرجع يوم القيامة.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ :
يذكر الله نبيه الصابر أيوب عليه الصلاة والسلام وما أصابه من عظيم البلاء في الولد والجسد والمال ؛ فقد كان ذا أولاد وعيال وقد أخذهم الله فبقي وحيدا بغير ولد ولا أهل ولا جليس، وكان ذا مال وثراء فأهلك الله ماله كله. ثم أصابه البلاء في جسده كله فانقلب عليلا سقيما. وقيل : لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه. فنفر منه الناس وتركوه وحيدا باستثناء زوجته المؤمنة الصالحة الرؤوم رضي الله عنها ؛ فإنها لم تفارقه ولم تفرط فيه، بل كانت تخدم الناس بالأجرة لتتمكن من إطعامه وخدمته. فظل على هذه الحال من السقم والكرب والفقر وهجر الصحب والناس والحيلان جميعا، مدة سبع سنين. وقيل : ثماني عشرة سنة حتى آل به الأمر إلى إلقائه فوق مزبلة من مزابل بني إسرائيل طيلة هذه المدة وقد رفضه الناس وزهدوا في محادثته أو الدنو منه. حتى إذا طالت الشدة وبلغ الكتاب أجله وجاء أمر الله بالفرج، دعا أيوب ربه أن يكشف عنه ما حل به من البلاء. والله جلت قدرته خير معين ومجيب. وفي ذلك كله يقول سبحانه :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ النصْب : بضم النون المشددة، وسكون الصاد. وهو ما يصيب البدن. أما العذاب : فهو ما يصيب المال والولد ؛ فقد دعا أيوب ربه عسى أن يكشف عنه ما أصابه،
فاستجاب له ربه وهو قوله :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾ أي حرّك الأرض وادفعها برجلك، ففعل أيوب ما أمره ربه من التحريك والدفع فانبجست من الأرض عين ماء فاغتسل به وشرب منه، فذهب الداء والسقم من ظاهره وباطنه. وهو قوله :﴿ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾
﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ﴾ أي حرّك الأرض وادفعها برجلك، ففعل أيوب ما أمره ربه من التحريك والدفع فانبجست من الأرض عين ماء فاغتسل به وشرب منه، فذهب الداء والسقم من ظاهره وباطنه. وهو قوله :﴿ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾
وذكر أنه بعد شفائه استبطأته امرأته ؛ إذْ ذهب لقضاء حاجته فأقبل عليها بخير وجه وأحسن منظر. فالتفتت زوجته ناظرة إليه وقد أذهب الله عنه ما به من بلاء فقالت له : هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ؟ فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك قال : فأنا هو.
قوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا ﴾ وَهَبَهُ الله غير أهله مثلهم ثم زاده مثلهم معهم. وقيل : أحياهم الله بعد ما أماتهم ﴿ رَحْمَةً مِنَّا ﴾ مفعول لأجله ؛ أي وهبنا له مثل أهله زيادة مثلهم آخرين برحمتنا له.
قوله :﴿ وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ أي كانت الرحمة منا لأيوب تذكيرا لأولي العقول النيرة كي يعتبروا ويتدبروا ويعلموا أن الله لا يخذل عباده المتقين الصابرين. أولئك الذين إذا أصابتهم المحن لم يجزعوا ولم ييأسوا بل تضرعوا إلى الله منيبين متذللين عسى أن يكشف عنهم ما نزل بهم من بلاء والله جل جلاله يتولى كشف الضرِّ عنهم والبلاء.
وهو سبحانه نصير المستضعفين المكروبين وظهير المغلوبين المقهورين من المؤمنين، ومجيب الداعين الصابرين الثابتين على الحق، السائرين على صراط الله المستقيم.
قوله :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ﴾ معطوف على ﴿ اركضْ ﴾. والضغث، هو الحزمة أو القبضة الصغيرة من الحشيش. وهذا يدل على سابق يمين من أيوب وهو مريض. إذ حلف على أن يضرب امرأته مائة جلدة. ولقد اختلفوا في السبب الذي جعله يحلف مثل هذه اليمين. وأصوب ما ذُكر في ذلك من أسباب أنها خالفته في بعض المهمات ؛ إذ ذهبت في بعض شأنه فأبطأت فحلف ؛ ليضربها مائة إذا برئ من مرضه. ولما كانت حسنة الخلق، صابرة مطيعة لله حلّلَ الله يمينه بأهون طريقة عليه وعليها وهي أن يضربها بقبضة من حشيش مختلط الرطب باليابس. وبذلك فقد بَرَّ أيوب بيمينه وَوَفّى بما ألزم نفسه به من قسم ؛ فإنه ما كان ينبغي له أن يجازي هذه المرأة المؤمنة الصابرة الفضلى بالضرب المؤلم وقد كانت خير معوان له في حياته بعظيم خدمتها له وبالغ حَدْبها واصطبارها عليه في سنِّي الكرب والشدة.
قوله :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ذلك إكرام من الله لعبده ونبيه أيوب عليه السلام بثنائه عليه لصبره على البلاء ؛ إذ لم يحمله ذلك على الجزع أو الخروج عن طاعة الله ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ رجّاع إلى الله بالإنابة والخشوع والطاعة.
قوله تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ ﴾ : ذلك ثناء من الله تعالى على فريق من عباده الميامين الأطهار، وهم عباده المصطفون الأخيار، إبراهيم وولده إسحاق وولد إسحاق يعقوب ؛ فقد ذكرهم الله جل وعلا وبيَّن علو منزلتهم وشأنهم بقوله :﴿ أُولِي الْأَيْدِي ﴾ يعني أولي القوة في دين الله وطاعته ﴿ وَالْأَبْصَارِ ﴾ يعني البصائر في الدين والعلم.
وجملة القول أنهم أُعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين.
قوله :﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾ ﴿ بِخَالِصَةٍ ﴾، بالتنوين فتكون ﴿ ذِكْرَى ﴾ بدلا من خالصة. وتقديره : إنا أخلصناهم بذكر الدار.
والمعنى : خصصناهم بخاصة هي ذكرى الدار ؛ وذلك أنهم كانوا يذكّْرون الناس الدار الآخرة ويدعونهم إلى عبادة الله وطاعته والعمل لنيل مرضاته. وقيل : أخلصهم الله بخالصة هي ذكرى الآخرة فليس لهم هم غيرها.
قوله :﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ :﴿ الْمُصْطَفَيْنَ ﴾ جمع مصطفى، وهو المختار. يعني أن هؤلاء لمن الذين اصطفاهم الله واختارهم من بين عباده ليكونوا رسلا للناس. وهم ﴿ الْأَخْيَارِ ﴾ جمع خيِّر. وقد سُمّوا بذلك لحصول الخيرية منهم في جميع الأفعال والصفات.
قوله :﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ ﴾ : يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بذكر هؤلاء النبيين المرسلين الأخيار لكي يتأسى بهم في عظيم الصبر وجميل الخصال والأفعال في الإنابة والطاعات واحتمال الشدائد.
قوله :﴿ هَذَا ذِكْرٌ ﴾ يعني : هذا القرآن ذكر لكم. وقيل : هذا شرف وذكر جميل يذكر به المصطفون الأخيار أبدا. قال الزمخشري : هذا نوع من الذكر وهو القرآن.
قوله :﴿ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾ ذلك وعد من الله لعباده المتقين الذين يخشونه ويتقونه باجتناب معاصيه وأداء فرائضه بأن لهم حسن العاقبة والمصير ؛ فهم صائرون في الآخرة إلى الفوز والسعادة وذلك في قوله :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾
﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ :﴿ جَنَّاتِ ﴾ منصوب على البدل من قوله :﴿ لَحُسْنَ مَآَبٍ ﴾ و ﴿ مُفَتَّحَةً ﴾ منصوب ؛ لأنه وصف الجنات. و ﴿ الْأَبْوَابُ ﴾، مرفوع على البدل من ضمير ﴿ مُفَتَّحَةً ﴾. وذلك جزاء المؤمنين المتقين، وهي دار النعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يزول. تلك هي جنة عدن بقصورها وبروجها وأبوابها الكثيرة الكبيرة الواسعة المفتحة.
قوله :﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا ﴾ من الاتكاء وهو الجلوس مع التمكن. أو القعود مع تمايل اعتمادا على أحد الجانبين. أي يدعون في الجنات – وهم جلوس على الأرائك – بألوان الفاكهة وألوان الشرب.
قوله :﴿ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ يعني أكرم الله المؤمنين المتقين في الجنة بزوجات قاصرات الطرف ؛ أي قصرت أطرافهن وقلوبهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم. وهن كذلك ﴿ أَتْرَابٌ ﴾ أي على سن واحد، أو مستويات الأسنان ؛ فقد تساوين في الحُسن والشباب. و ﴿ أَتْرَابٌ ﴾ جمع ترب ؛ وهو نعت لقاصرات.
قوله :﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ أي : هذا هو ما وُعدتم به من عظيم الجزاء وحسن الكرامة في الجنة.
قوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ﴾ يعني : هذا الذي أعطيناكموه في الجنة من ألوان الخيرات والنعم ومن عظيم الكرامة ﴿ مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ﴾ أي ليس له زوال أو فناء أو انقطاع.
قوله تعالى :﴿ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ﴾ : اسم الإشارة ﴿ هذا ﴾ في موضع رفع ؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره : الأمر هذا. فيوقف على هذا.
وذلك إخبار من الله عن حال الخاسرين الأشقياء بعد أن ذكر حال المكرمين السعداء أهل النجاة. والوقوف على هذا لتمام المعنى، ثم الابتداء بقوله :﴿ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ ﴾ ذلك وعيد شديد من الله لأهل الطغيان الذين ظلموا أنفسهم فخسروا الدار الآخرة بأن لهم شر مآب. أي شر مرجع ومُنقلب ينقلبون إليه.
﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ﴾ أي يدخلونها فيهوون في جحيمها المتوقد ﴿ فَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ أي بئس الفراش فراشهم.
قوله :﴿ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ :﴿ هذا ﴾ في موضع رفع لأنه مبتدأ، و ﴿ حميمٌ ﴾ خبره ﴿ فَلْيَذُوقُوهُ ﴾، جملة اعتراضية. وقيل : هذا مبتدأ وخبره ﴿ فَلْيَذُوقُوهُ ﴾ والفاء للتنبيه. وقيل : هذا خبر لمبتدأ، وتقديره : الأمر هذا.
والحميم، معناه الذي أُغلي حتى انتهى حرُّه فهو بذلك بالغ الحرارة. والغساق : ما يسيل من جلود أهل النار من الدم والصديد. وقيل : البارد، الشديد البرودة. فهو ضد الحميم الحار. والأول أظهر. وفي ذلك روى الترمذي عن أبي سعد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن دلوا من غساق يهراقُ في الدنيا لأَنتنَ أهل الدنيا ".
قوله :﴿ وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ :﴿ وَآَخَرُ ﴾ مبتدأ. و ﴿ مِنْ شَكْلِهِ ﴾ صفة له. و ﴿ أَزْوَاجٌ ﴾ : خبر المبتدأ، أي : ولهم عذاب آخر من شكل هذا العذاب ﴿ أَزْوَاجٌ ﴾ أي ألوان أو أصناف من العذاب في النار، كالزمهرير والسموم وشراب الحميم وأكل الزقّوم وغير ذلك من ألوان العذاب الذي يَصْلاه المجرمون الخاسرون في النار.
قوله :﴿ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ﴾ الفوج، الجماعة من الناس. والمقتحم من الاقتحام وهو ركوب الشدة والدخول فيها والقحمة بمعنى الشدة والسنة المجدبة. واقتحم عقبة أو وهْدة، رمى بنفسه فيها، وكذا تقحَّم.
ذلك إخبار من الله عن كلام رؤساء أهل النار من أكابر المجرمين والمكذبين، يقوله بعضهم لبعض ؛ فهم في النار جميعا يتلاعنون ويتخاصمون ويكذب بعضهم بعضا.
فيقول الفوج من قادة الطغيان المتبوعين الذين تقدموا غيرهم من الطاغين الأتباع إلى النار ﴿ لا مَرْحَبًا بِهِمْ ﴾ وهذا دعاء من المتبوعين المضلين على أتباعهم الضالين ؛ أي لا رحبت بهم النار. والرحب بمعنى السعة ﴿ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ﴾ وهو من قول المتبوعين القادة ؛ أي أن الأتباع الذين أغويناهم كما غوينا، صالوا النار كما صلينا.
قوله :﴿ بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ ﴾ وذلك من قول الأتباع لرؤسائهم المتبوعين. وهو أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الكبراء والرؤساء، أنتم أحق به ؛ يعني لا رحبت بكم أنتم النار ﴿ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ﴾ أنتم الذين أغويتمونا وأضللتمونا عن الحق وعن صراط الله المستقيم حتى أفضينا إلى هذا المصير ﴿ فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ أي بئس المنزل والمستقر والمقام لنا ولكم.
قوله :﴿ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ﴾ وهذا قول الأتباع الذين اقتحموا النار على المضلين المتبوعين الذين سبقوهم إلى الجحيم.
يقولون : ربنا من قدم لنا هذا العذاب بتغريرنا وإضلاله لنا وإغوائه إيانا ﴿ فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ ﴾ أي أضعِفْ له العذاب في النار على العذاب الذي هو بدعائه وصدِّه لنا عن سبيل الله وبما سَوَّلَهُ لنا من الكفر والعصيان.
قوله :﴿ وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ ﴾ ﴿ ما ﴾، في موضع رفع مبتدأ. وخبره ﴿ لنا ﴾ و ﴿ لا نرى ﴾، جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير ﴿ لنا ﴾ يخبر الله عن الطاغين المضلين وهم أكابرُ المشركين في الدنيا الذين يتقدمون أتباعهم إلى النار فيقتحمونها ؛ إذ يقولون : ما لنا لا نرى معنا رجالا كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا وأرذالنا. وهم بذلك يعنون صهيبا وخبَّابا وبلالا وسلمان.
قوله :﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا ﴾ أي ما لنا لا نرى الذين كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار والأرذال وكنا نستهزئ بهم معنا اليوم في النار، كنا نسخر منهم في الدنيا فلا نراهم معنا اليوم في النار. أمفقودون هم ؟ ﴿ أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ ﴾ أم مالت عنهم أبصارنا فلم نرهم ؟.
قوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ ﴿ تَخَاصُمُ ﴾ مرفوع على البدل من ﴿ لَحَقٌّ ﴾ أو خبر مبتدأ محذوف وتقديره هو تخاصم. والمعنى : أن هذا الذي أخبرتكم من الخبر عن تلاعن أهل النار ودعاء بعضهم على بعض في النار لهو حق يقين.
وفي هذه الآيات ونظائرها عما يلاقيه الأشقياء الخاسرون من عظائم الأمور في جهنم، ما بقرع القلوب ويؤزُّ الوجدان والمشاعر، ويستنفر الجنان والأذهان. لا جرم أن هذه الأخبار عن أهوال أهل النار وعن شدائدهم وعظائمهم المُخوفة الرعيبة لتسْتوقف الذهن والنفس وتشْدهُ البال والخيال والحس، وتشغل القلب وتثير في النفس دوام الخوف والوجل.
أي قل للمشركين إنما أنا نذير لكم أبلغكم رسالة ربي وأخوفكم سخطه وغضبه وأحذركم شديد بطشه وعذابه أن يحل بكم بكفركم وعصيانكم.
قوله :﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ يعني أبلغكم أنه ليس من معبود تنبغي له العبادة والألوهية إلا الله الواحد الذي قهر كل شيء. وما من شيء إلا هو سبحانه آخذ بناصيته.
﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ الله جل جلاله له ملكوت كل شيء ولا يندُّ عن سلطانه وملكوته شيء. فما من شيء في السماوات والأرض وما بينهما إلا هو مملوك له سبحانه. وهو سبحانه :﴿ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ أي المنيع القوي الذي لا يُغلَب وهو الستار لذنوب عباده.
قوله :﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ ﴾، مبتدأ وخبر. و ﴿ عَظِيمٌ ﴾ صفة لنبأ. والنبأ معناه الخبر، والمراد به القرآن. لا جرم أنه كتاب الله العظيم فيه خبر الأولين والآخرين وفيه خير الدنيا والآخرة. وقيل : النبأ العظيم، يراد به ما أنذركم به من قيام الساعة حيث الحشر بأفزاعه وأهواله وما فيه من عظائم الأمور وقواصمها وحيث الحساب والعقاب فذلك كله نبأ هائل ومخُوف، ما ينبغي لكم أن تستهينوا به أو تغفلوا عنه.
قوله :﴿ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ أنتم مدبرون عنه إدبارا، وغافلون عنه كل الغفلة. فلا تتدبرونه ولا تعتبرون بمعاينة زواجره وأحكامه وأخباره.
قوله :﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ الملأ الأعلى، يراد بهم الملائكة، أي قل لقومك المشركين يا محمد : ما كان لي من علم بالملائكة وهو يختصمون في شأن آدم حين أُخبروا عن خلقه فاختصموا وقالوا : لا تجعل في الأرض خليفة، وذلك من قبلَ أن يعلمني ربي بذلك ؛ فإن إخباري بذلك لهو دليل واضح على صدق ما أقوله لكم وأن هذا القرآن حق، وأنه وحي قد أوحى به الله إلي.
قوله :﴿ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ أي قل للمشركين يا محمد : ما يوحى إلي من الله من علم ما لا أعلم ؛ كاختصام الملأ الأعلى في شأن آدم، إلا لأني نذير لكم مبين، أبلغكم دعوة ربكم وأحذركم عذابه وانتقامه.
قوله تعالى :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ : عَقِبَ الاختصام في الملأ الأعلى وهم الملائكة شرع هنا في تفصيل ذلك وهو قوله :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ ﴾ بدل من قوله :﴿ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ لاشتمال البدل على ما في هذه الخصومة من مضمون. والمعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى حين اختصامهم، حين قل الله للملائكة :﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴾ أي خالق آدم من طين.
﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ﴾ أي : جعلت خلْقه سويّا ؛ وصورته حسنة مُعدَّلة لا عوج فيها ولا خلل ولا نشاز.
قوله :﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ : نفخ الله من روحه في آدم وهو طين، فكان إنسانا سويّا ذا بصر وسمع وعقل وإرادة وحَراك
﴿ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ :﴿ سَاجِدِينَ ﴾ منصوب على الحال ؛ أي خروا لآدم ساجدين، وهو سجود تحية لا سجود عبادة، وإنما المعبود هو الله وحده.
قوله :﴿ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ﴾ أي : خروا ساجدين لآدم امتثالا لأمر الله وإذعانا له بالخضوع والطاعة. و ﴿ كُلُّهُمْ ﴾ و ﴿ أَجْمَعُونَ ﴾ تأكيدان للمبالغة في تحقيق السجود من سائر الملائكة وأنهم لم يبق منهم أحد إلا سجد.
﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ استثناء منقطع ؛ أي لكن إبليس ﴿ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ لم يسجد إبليس تكبرا واستعظاما، فكان بذلك من الكافرين الجاحدين لأنعُم الله ؛ فإنه لا يجترئ أحد على معصية الله استكبارا عليه إلا خاسر كنود، وشقي جحود.
ويا ليت شعري كيف بهذا الشقي الخاسر لا يصيخ قلبه لأمر وهو سبحانه يخاطبه مباشرة ؛ إن ذلك يكشف عن فظاعة الجحود في طبيعة إبليس الكزَّة البور.
قوله :﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ أي ما صَذَّك عن السجود لآدم الذي خلقته بنفسي. فقد نَسَب الخلْق إلى نفسه على سبيل التعظيم لآدم ﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ الهمزة للاستفهام، وهو استفهام توبيخ وتقريع. و ﴿ أمْ ﴾، متصلة.
والمعنى : أستكبرت بنفسك إذْ أبيت السجود لآدم أم كنت من الذين يتكبرون على الله.
قوله :﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾ زعم اللعين إبليس أنه أفضل من آدم، وعلل زعمه الكاذب بأفضلية النار وهي أصله، على الطين وهو أصل آدم، وذلك زعم فاسد ومستهجن ليس له مستند من صحة الدليل أو سلامة المنطق إلا الاجتراء المتوقِّح الظالم، والعُتوِّ الفظيع المغالي ؛ فإنه ما من فضل لشيء من الأشياء أو أحد من الآحاد إلا بتفضيل الله له، وإنما التفاضل بين العباد والمخاليق بنقاوة الجوهر وسلامة الطبع وصدق الفطرة وحقيقة الإذعان لله الواحد القهار. والطين والنار كلاهما من خلْق الله ومن صنعه وتقديره، وإنْ من أحدهما إلا ويعبد الله ويسبح بحمده، فأنى لإبليس اللعين أن يفضّل أحدهما على الآخر ؟ !
قوله :﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ أمره الله بالخروج من الجنة مزجورا فإنه رجيم ؛ أي وصم بوصمة الرجم وهو الطرد والشتم واللعن.
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ أحاطت بإبليس اللعنة من الله وهي الطرد والإبعاد من رحمته إلى يوم القيامة، وحينئذ تقدم المجرمين الخاسرين إلى النار بسعيرها الدائم واضطرامها الذي لا يفتر.
قوله :﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ سأل إبليس ربه أن يؤخره في الأجل فلا يهلكه إلى يوم البعث.
﴿ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ معناه المعين، والمعلوم عند الله فلا يستقدم ولا يستأخر. والمراد : الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى، نفخة الفزع.
قوله :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ ذلك قَسَمٌ من إبليس بعزة الله، أي بسلطانه وقهره وقدرته لأغوين ذرية آدم أجمعين. وذلك باجتيالهم عن دينهم وإيقاعهم في الغواية والباطل، وباستهوائهم وإغوائهم بفعل المعاصي والآثام، وإشاعة الظنون والأوهام والشبهات في أذهانهم ونفوسهم لينفروا من دين الله نفورا وليتيهوا في الضلال والشهوات.
قوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ استثنى اللعينُ مَن أخلَصَهم الله منهم لعبادته فعصمه من إضلاله وإفساده.
﴿ فَالْحَقُّ ﴾ الأول، يُقّرأ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : أنا الحق ويقرأ بالنصب على تقدير فعل، وتقديره : الزموا الحق أو اتبعوا الحق. أما الحق الثاني فهو منصوب بقول ﴿ أَقُولُ ﴾ وتقديره : أقول الحق. والمعنى : أنا الحقُّ، والحقَّ أقول، أو الحقُّ مني وأقول الحق
﴿ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ قول الحق من الله أن يملأ جهنم من نفس إبليس ومن ذريته وممن تبعه من بني آدم أجمعين، أولئك الذين ضلوا فمضوا في طريق الغواية والباطل وزاغوا عن صراط الله المستقيم.
قوله :﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ أي قل لهؤلاء المشركين : لا أسألكم على إبلاغكم هذا القرآن الذي أتيتكم به من عند الله جُعْلاً أو جزاء ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ أي لست من الذين يتصنّعون ويتحلَّلون بما ليسوا من أهله. وما عرفتموني متصنعا البتة، ولا مدعيا ما ليس عندي فأتكلف النبوة وأتصنع قول القرآن تصنعا.
﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾ يعني ما هذا القرآن إلا ذكر، أو تذكير من الله للعالمين وهم الثقلان من الجن والإنس.
قوله :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ أي لتعلمُنَّ نبأ هذا القرآن ؛ فتظهر لكم حقيقة ما أقول بعد حين ؛ فعند الموت يأتيكم لخبر اليقين. وقيل : يوم القيامة. وقيل : يوم بدر. والأظهر اشتمال المراد على ذلك كله. والله تعالى أعلم.
Icon