ﰡ
ذكر أن سُورَةَ الزُّخْرُفِ كلها مَكِّيَّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٧) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢).
قال قتادة: هو اسم السورة.
وقال غيره: (حم) قضى ما هو كائن، وقد ذكرناه.
وقوله: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ).
قال قتادة: مبين بركته وهداه ورشده.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مبين بين الحلال والحرام، وما يؤتى وما يتقى.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مبين بين الحق والباطل.
وهو عندنا مبين بأنه من اللَّه - تعالى - ليس هو من تأليف البشر، ولا من توليدهم، ولكنه من اللَّه تعالى حيث عجزوا عن إتيان مثله، واللَّه الموفق.
وقوله: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) كأنه يقول: جعلنا ذلك الكتاب عربيًّا لعلكم تعقلون.
وقيل: (جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا) أي: أنزلناه قرآنًا عربيًّا.
قيل: (جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا) أي: سميناه قرآنا، ليس أن جعله قرآنا، ولكن معناه: جعلناه عربيًّا، أي: نظمناه بالعربية؛ لتعقلوا، أو سميناه: قرآنا.
ثم قوله - تعالى -: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يخرج على وجوه:
أحدها: أي: أنزلناه عربيًّا على رجاء أن تعقلوا.
والثاني: أنزلناه عربيًّا لتعقلوا، وذلك يرجع إلى قوم مخصوصين قد عقلوه وفهموه؛ إذ لم يعقلوه جميعًا، ولا يتصور أن ينزله ليعقلوه ولا يعقلوه، فإن ما أراد اللَّه - تعالى - يكون لا محالة، وما فعل ينفعل؛ قال اللَّه - تعالى -: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ
ثم قوله تعالى :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ يُخرّج على وجوه :
أحدها : أي أنزلناه عربيا على رجاء أن تعقلوا.
والثاني : أنزلناه عربيا لتعقلوه ؛ وذلك يرجع إلى قوم مخصوصين قد عقلوه، وفهموه ؛ إذ لم يعقلوه جميعا. ولا يُتصوّر أن يُنزله لتعقلوه، ولا تعقلوه، فإن ما أراد الله تعالى يكون، لا محالة، وما فعل ينفعِل، قال الله تعالى :﴿ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ﴾ [ النحل : ٤٠ ].
والثالث : أنزلناه عربيا لكي نُلزمهم أن يعقلوه، ويتّبعوه، ليزول عُذرهم والاحتجاج على الله تعالى أنه كان على غير لسانه، والله أعلم.
وعلى هذا يُخرّج تأويل : لعل في جميع القرآن أنه للتحقيق إذا كان من الله تعالى.
فإن قيل : فعلى التأويل الأخير كيف يُخرّج قوله :﴿ لعلّكم تُفلحون ﴾ [ البقرة : ١٨٩ و. . . ] لا يستقيم أن يقال : لكي يُلزمكم أن تُفلحوا ؟ قيل : معناه لكي يُلزمكم السبب الذي به تُفلحون، وهو مباشرة الإيمان والطاعات، والله أعلم.
والثالث: أنزلناه عَرَبِيًّا لكي يلزمهم أن يعقلوه ويتبعوه؛ ليزول عذرهم والاحتجاج على اللَّه - تعالى - أنه كان على غير لساننا، واللَّه أعلم.
وعلى هذا يخرج تأويل " لعل " في جميع القرآن أنه للتحقيق إذا كان من اللَّه تعالى.
فَإِنْ قِيلَ: فعلى التأويل الأخير، كيف يخرج قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، لا يستقيم أن يقال: لكي يلزمكم أن تفلحوا؟
قيل: معناه: لكي يلزمكم السبب الذي به تفلحون، وهو مباشرة الإيمان والطاعات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤).
قوله: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ) يرجع إلى وجهين:
أحدهما: أي: القرآن في أصل الكتاب، وبه أقول، وهو اللوح المحفوظ، وأم الشيء: أصله ويسمى أم القرى مكة؛ لهذا.
والثاني: أي: القرآن في الكتب المتقدمة، فإن الأمهات سميت: أمهات؛ لتقدمها على الولد، وهو كقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).
قال ابن عَبَّاسٍ: أي: هو أعلى الكتب وأحكمها وأعدلها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وصف كتابه بالعظمة والمنزلة والشرف عنده.
وقوله: (حَكِيمٌ) يحتمل وجهين:
أحدهما: حكيم بمعنى: محكم؛ كقوله - تعالى -: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)، أي: بالحجج والبراهين.
والثاني: سماه: حكيمًا؛ لما جعل فيه من الحكمة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (٥) اختلف في الذكر:
قَالَ بَعْضُهُمْ: القرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الرسول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العذاب والعقوبة.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أفنترك ونذر الذكر سدى (أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) أي: لأنكم كذا، ولأجل أنكم كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أفنترك الوحي لا نأمركم بشيء، ولا ننهاكم عن شيء، ولا نرسل إليكم رسولا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَنَضْرِبُ) أي: أفنذهب عنكم بهذا القرآن سدى، لا تسألون، ولا تعاقبون على تكذيبكم إياه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ) أي: فيمسك عنكم فلا يذكركم (صَفْحًا) أي: إعراضًا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ؛ يقول: صفحت عن فلان: أي: أعرضت عنه، وأصل ذلك أنك توليه صفحتك؛ يقال ضربت وأضربت عن فلان: أي: أمسكته.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَفَنَضْرِبُ) أي: مسكت؛ ضربت وأضربت، أي: مسكت.
وقوله: (صَفْحًا) أي: ردًّا؛ يقال: سألني فلان حاجة فصفحته صفحًا؛ أي: رددته، واللَّه أعلم.
وبعضه قريب من بعض.
ثم الأصل عندنا أن الذكر يحتمل ما قالوا فيه من المعاني الثلاثة: القرآن، والرسول، والعذاب؛ لكن لا يحتمل قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) أن يخرج على الابتداء على غير تقدم النوازل؛ لأنه لا يبتدأ بمثله.
ثم النوازل يحتمل أن كان منهم قول يقولون: يا مُحَمَّد، لو كان ما تقوله أنت: إنه من عند اللَّه وإنك رسوله، فكيف أنزل الكتاب أو أرسل الرسول إلينا على علم منه أنا نكذبه ونرده ولا نقبله، ومن علم من الملوك في الشاهد أنه يكذب رسوله ولا يقبل، لا يبعث الرسول، فكيف بعثك رسولا إلينا، أو أنزله عليك، أو بعثك رسولا فكذبناه وكذبناك، ورددناه ورددناك، فلا يرفعه ويرفعك دون تركه فينا؟ فيقول اللَّه - تبارك وتعالى - جوابًا لهم وردًّا لقولهم: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) ويقول: إنا لا نترككم سدى وإن علمنا منكم التكذيب والرد للرسول والوحي، ولا يمنعنا ذلك عن إنزاله إليكم، وتركه فيكم، ولا يحملنا ذلك على رفعه من بينكم؛ بل نأمركم وتنهاكم وإن كنتم تكذبونه ولا تقبلونه؛ وهذا لما ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من اللَّه -
وقوله: (أَفَنَضْرِبُ) أي: لا نترك إنزاله وإرساله وإن علمنا منكم التكذيب، وهو كقوله - تعالى -: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا)، وقوله: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)، أي: لا يترك سدى، ولا تحسبون أنا إنما خلقناكم عبثًا، فعلى ذلك قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) فإن كان الذكر هو القرآن أو الرسول، فالتأويل: أنه وإن علم منكم الرد والتكذيب، فلا يمنعه ذلك عن إنزاله عليكم، وبعثه رسولا إليكم، وإن أنكرتم وإن كذبتموه ورددتموه فلا يحمله ذلك على رفعه من بينكم بشرككم وكفركم، وهو كما ذكر في قوله: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي: إنا وإن علمنا من أوائلكم التكذيب للرسل والكتاب، فلا يمنعنا ذلك عن إنزاله عليكم وبعثه إليكم؛ فعلى ذلك أنتم وإن علمنا منكم تكذيب الرسول وكتابه، لا يمنعنا ذلك عن إرساله وإنزاله؛ ليلزمكم الحجة، أو لعل فيكم من يصدقه ويؤمن به، أو غيركم يؤمن به ويصدقه وإن كذبتم أنتم.
هذا إن كان تأويل الذكر: رسولا أو كتابًا، وإن كان تأويل الذكر: العذاب، فيصير كأنه يقول: أفنترك تعذيبكم أو نمسك عنه ولا نعاقبكم وأنتم قوم مسرفون، أي: مشركون، على ما ذكر على إثره العذاب؛ حيث قال: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) أي: قوة، معناه: عذبناهم بالتكذيب مع شدة بطشهم وقوتهم وأنتم دونهم لا تعذبون؟ بل تعذبون، والله أعلم.
وعن قتادة يقول: لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة، لهلكوا، لكن اللَّه - تعالى بفضله ورحمته كرره عليهم، ودعاهم إليه كذا كذا سنة وما شاء اللَّه تعالى.
وعن الحسن قال: لم يبعث اللَّه تعالى نبيًّا إلا أنزل عليه كتابًا، فإن قبله قومه وإلا رفع، فذلك قوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ) لا تقبلونه، فتلقته قلوب بقية، فقالوا: قبلناه ربنا قبلناه، لو لم يفعلوا ذلك رفع، ولم يترك على ظهر الأرض منه شيء.
ثم القراءة العامة (أَنْ كُنْتُمْ) منصوبة الألف بمعنى: إذ كنتم، ويقرأ - أيضًا - (إن كنتم) مكسورة على (إن) الشرط ومعناه: لا نتركه ولا نمسك عن إنزاله وإن كنتم قومًا مسرفين مشركين.
واختُلف في قوله :﴿ أفنضرب عنكم الذّكر صفحا ﴾ قال بعضهم : أفنترك، ونذر الذّكر سُدًى ﴿ أن كنتم قوما مسرفين ﴾ أي ألأنكم١ كذا ولأجل أنكم كذا ؟ وقال بعضهم : أفنترك الوحي، لا نأمركم بشيء، ولا ننهاكم عن شيء، ولا نُرسل إليكم رسولا ؟ وقال بعضهم :﴿ أفنضرب ﴾ أي أفنذهب عنكم بهذا القرآن سُدى لا تُسألون، ولا تعاقبون على تكذيبكم إياه ؟ وقال بعضهم :﴿ أفنضرب عنكم ﴾ أي أفنُمسك عنكم فلا نذكركم ﴿ صفحا ﴾ أي إعراضا، وهو قول القتبيّ ؛ يقول : صفحت عن فلان، أي أعرضت عنه. وأصل ذلك أنك توليه صحفتك، يقال : ضربت، وأضربت عن فلان، أي [ أمسكت عنه ]٢.
وقال أبو عوسجة :﴿ أفنضرب ﴾ أي نسكت، ضربت، وأضربت، أي سكتُّ، وقوله :﴿ صفحا ﴾ أي ردّا، يقال : سألني فلان حاجة، فصفحته صفحا، أي رددته، والله أعلم. وبعضه قريب من بعض.
ثم الأصل عندنا أن الذكر يحتمل ما قالوا فيه من المعاني الثلاثة : القرآن والرسول والعذاب. لكن لا يحتمل قوله :﴿ أفنضرب عنكم الذّكر صفحا ﴾ أي يُخرّج على الابتداء على غير تقدّم النوازل لأنه لا يُبتدأ بمثله.
ثم النوازل تحتمل إن كان منهم قول يقولون : يا محمد لو كان ما تقوله أنت : إنه من عند الله، وإنك رسوله، فكيف أنزل الكتاب، أو أرسل الرسول على علم منه أنّا نكذّبه٣، ونردّه، ولا نقبله ؟ وما٤ عُلم من الملوك في الشاهد [ أن تُكذّب الرسل ]٥، ولا تُقبل، ولا٦ تُبعث، فكيف بعثك رسولا إلينا ؟ وإن أنزله عليك، أو بعثك رسولا، فكذّبناه، وكذّبناك، ورددناه، ورددناك، فلا يرفعه، ويرفعك دون تركه فينا ؟
فيقول الله، تبارك، وتعالى، جوابا لهم وردّا لقولهم :﴿ أفنضرب عنكم الذّكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ﴾ يقول : إنا لا نترككم سُدًى، وإن علمنا منكم التكذيب والرّدّ للرسول والوحي، ولا يمنعنا ذلك عن إنزاله إليكم وتركه فيكم، ولا يحملنا ذلك على رفعه من بينكم، بل نأمركم، وننهاكم، وإن كنتم تكذّبونه، ولا تقبلونه.
وهذا لما ذكرنا أن حرف الاستفهام من الله تعالى يخرّج على الإيجاب والتحقيق. وقوله تعالى :﴿ أفنضرب ﴾ أي لا نترك إنزاله وإرساله، وإن علمنا منكم التكذيب. وهو قوله تعالى :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ] وقوله تعالى :﴿ أيحسب الإنسان أن يُترك سُدى ﴾ [ القيامة : ٣٦ ] أي لا يُترك سدى، ولا تحسبوا٧ أنا إنما خلقناكم عبثا.
فعلى ذلك قوله :﴿ أفنضرب عنكم الذّكر صفحا ﴾ فإن كان الذّكر هو القرآن، أو الرسول، فالتأويل أنه وإن علم منكم الرّدّ والتكذيب فلا يمنعه ذلك عن /٤٩٥-أ/ إنزاله عليكم وبعثه رسولا إليكم [ وإن أنكرتموه، وكذّبتموه ]٨ ورددتموه، فلا يحملنا٩ ذلك على رفعه من بينكم بشرككم وكفركم، وهو كما ذكر في قوله :﴿ وكم أرسلنا من نبيّ في الأولين ﴾ ﴿ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون ﴾ [ الزخرف : ٦ و٧ ] أي إنا، وإن علمنا من أوائلكم تكذيب١٠ الرسل والكتاب، فلا١١ يمنعنا ذلك عن إنزاله [ عليكم وبعثه إليكم ]١٢.
فعلى ذلك أنتم، وإن علمنا منكم تكذيب الرسول وكتابه فلا يمنعنا ذلك عن إرساله وإنزاله لنُلزمكم الحجة.
أو لعل فيكم من يصدّقه، ويؤمن به، أو غيركم يؤمن به، ويُصدّقه، وإن كذّبتم أنتم.
هذا إن كان تأويل الذّكر رسولا أو كتابا.
وإن كان تأويل الذّكر العذاب فيصير كأنه يقول : أفنتُرك تعذيبكم، أو نمسك عنه، ولا نعاقبكم، وأنتم قوم مسرفون أي مشركون على ما ذكر على إثره حين١٣ قال :﴿ فأهلكنا أشد منهم بطشا ﴾ أي قوة ؟ معناه عذّبناهم بالتكذيب مع شدة بطشهم وقوتهم، وأنتم دونهم لا تعذَّبون ؟ بل تعذَّبون، والله أعلم.
وعن قتادة [ أنه ]١٤ يقول : لو أن هذا القرآن رُفع حين ردّه أوائل هذه الأمة، فهَلكوا، لردّه الله بفضله ورحمته، وكرّره١٥ عليهم، ودعاهم إليه كذا كذا سنة وما شاء الله تعالى.
وعن الحسن [ أنه ]١٦ قال : لم يبعث الله تعالى نبيا إلا أنزل عليه كتابا، فإن قبله قومه، وإلا رُفع. فذلك قوله :﴿ أفنضرب عنكم الذّكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ﴾ لا تقبلونه، فتقبله قلوب بقية، فيقولون١٧. قبِلناه ربنا قبِلناه. لو لم يفعلوا ذلك رُفع، ولم يُترك على الأرض منه شيء.
ثم القراءة العامة ﴿ أن كنتم ﴾ منصوبة بالألف بمعنى إذ كنتم، ويُقرأ أيضا : إن كنتم مكسورة١٨ على أنه الشرط ومعناه : لا نترك، ولا نُمسك عن إنزاله، وإن كنتم قوما مسرفين مشركين.
٢ في الأصل وم: أمسكته..
٣ الهاء ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: ومن..
٥ في الأصل وم: أنه يكذب رسوله..
٦ الواو ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: تحسبون..
٨ في الأصل وم: وأنكرتم وإن كذبتموه..
٩ في الأصل وم: نحمله..
١٠ في الأصل وم: التكذيب..
١١ في الأصل وم: وما..
١٢ في الأصل وم: عليهم وبعثهم إليهم..
١٣ في الأصل وم: حيث..
١٤ ساقطة من الأصل وم..
١٥ في الأصل وم: لكنه..
١٦ الواو ساقطة من الأصل وم..
١٧ في الأصل وم: فقالوا..
١٨ انظر معجم القراءات القرآنية ج ٦/١٠١..
وفيه أنه يرسل الرسول وإن علم منهم أنهم يكذبونه، وكذا ينزل الكتاب وإن علم منهم أنهم يردونه ولا يقبلونه؛ لأنه ليس يرسل الرسول ولا ينزل الكتب لمنفعة نفسه، ولا لدفع المضرة عن نفسه، ولكن إنما يرسل وينزل لمنفعتهم، ولدفع المضرة عن أنفسهم، فسواء عليه أن قبلوه أو ردوه، وليس كملوك الأرض إذا أرسلوا رسولا وكتابًا إلى من يعلمون أنهم يكذبون رسلهم ويردون كتابهم، يكونون سفهاء؛ لأنهم إنما يرسلون لحاجة أنفسهم؛ أو لدفع المضرة؛ فحيث لم يحصل غرضهم؛ بل يلحقهم بذلك ضرر وزيادة صدّ له واستخفاف، لم يكن ذلك حكمة، بل يكون سفهًا، فأمَّا اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا لم يرسل وينزل لجرّ النفع ودفع الضرر؛ بل لإلزام الحجة وإزالة العذر، ونحو ذلك كان حكمة، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) فيه تحذير أُولَئِكَ الكفرة أن ينزل بهم بتكذيبهم الرسول، وسوء معاملتهم إياه، كما نزل بأُولَئِكَ الكفرة المتقدمين بتكذيبهم الرسل، وسوء معاملتهم إياهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: أهلكنا من كان أشد قوة وبطشًا من هَؤُلَاءِ، ثم لم يتهيأ لهم الامتناع لشدة قوتهم وبطشهم عما نزل بهم من العذاب، فعلى ذلك لو نزل لهَؤُلَاءِ لم يتهيأ لهم الامتناع مع ضعفهم.
والثاني: أن يكون قوله: (أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا) وصف ذلك العذاب الذي نزل بهم؛ أي: ملك العذاب أشدّ منهم بطشًا؛ فلا يمتنع عمله؛ لبطشهم وفوتهم، أما إذا كان شدة العذاب وبطشه دون بطشهم ربما لا يعمل ولا يؤثر فيه؛ لذلك وصف العذاب بكونه أشد منهم بطشًا، وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي: صار عذاب الأولين عبرة وعظة ومثلا للمتأخرين، كقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
والثاني: (وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي: مضى عذاب الأولين، وهو عذاب الاستئصال؛
وقوله تعالى :﴿ فأهلكنا أشد منهم بطشا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أي أهلكنا من كان أشد قوة وبطشا من هؤلاء، ثم لم يتهيأ لهم الامتناع [ مع شدة ]٢ قوتهم وبطشهم عما نزل بهم من العذاب. فعلى ذلك لو نزل بهؤلاء لم يتهيأ لهم الامتناع مع ضعفهم.
والثاني أن يكون قوله :﴿ أشد منهم بطشا ﴾ وصف ذلك العذاب الذي نزل بهم أي ذلك العذاب ﴿ أشد منهم بطشا ﴾ وهو كقوله :﴿ إن عذابي لشديد ﴾ [ إبراهيم : ٧ ] والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ومضى مثل الأولين ﴾ هذا يُخرّج على وجهين :
أحدهما :﴿ ومضى مثل الأولين ﴾ أي صار عذاب الأولين عبرة وعظة ومثلا للمتأخّرين كقوله :﴿ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ﴾ [ البقرة : ٦٦ ].
والثاني :﴿ ومضى مثل الأولين ﴾ أي مضى عذاب الأولين، وهو عذاب الاستئصال، فلا يعذّب هذه الأمة بمثل عذابهم لفضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبركته ورحمته، وهو لما قال الله عز وجل :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ [ الأنبياء : ١٠٧ ] بفضله ورحمته أبقى هذه الأمة إلى يوم القيامة والله أعلم.
٢ في الأصل وم: لشدة..
* * *
قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).
في قولهم وجوابهم: أن اللَّه خلق السماوات والأرض - دلالة أنهم قد عرفوا أنه رسول، لكن كذبوه عنادًا ومكابرة؛ لأن أهل مكة كانوا لا يؤمنون بالرسل حتى يزعموا أنا عرفنا أن اللَّه خلق السماوات والأرض بقولهم، وينكرون رسالته خاصة؛ بل ينكرون الرسل أجمع، ثم هم ما عرفوا أن اللَّه هو خلق السماوات والأرض إلا بالرسل؛ إذ هم ليسوا من الذين عادتهم الاستدلال والنظر في الدلائل؛ ليعرفوا اللَّه - تعالى - بالدلائل العقلية، والظاهر في العوام جملة المعرفة بالدلائل السمعية؛ فكان الظاهر هذا: أن معرفتهم: أن اللَّه خلق السماوات والأرض بقول الرسل - عليهم السلام - لكنهم كذبوه ولم يصدقوه عنادًا منهم ومكابرة، وما به عرفوا سائر الرسل من المعجزات موجود معاين في حق رسولنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا بد أن يعرفوه رسولا، لكنهم كذبوه عنادًا؛ فدل أن قولهم هذا دليل على معرفتهم برسالته، واللَّه أعلم.
ثم تمام الاحتجاج بهذا أن يقال لهم: قد عرفتم أن اللَّه هو خلق السماوات والأرض، فهلا عرفتم أنه لم يجعلهما عبثًا باطلا؛ إذ لو كان على ما يزعمون أن لا رسل ولا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب يكون خلقه إياهما عبثًا باطلا، فكان إقرارهم بخلقه إياهما إقرارًا لخلقه على وجه الحكمة، ولن يخرج خلقه على الحكمة إلا بالإقرار بالرسل والبعث والثواب والعقاب؛ على ما عرف غير مرة.
أو أن يقال: فإذا عرفتم أن اللَّه - تعالى - هو خلق السماوات والأرض وما ذكر إلى آخره... فكيف أنكرتم قدرته على البعث والإعادة بعد الموت، والأعجوبة في خلق السماوات والأرض أعظم وأكثر من الأعجوبة في بعثكم وإعادتكم، فكيف أنكرتم ما هو
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
جائز أن يكون ذكر هذا على سبيل النعت والوصف لله - تعالى عَزَّ وَجَلَّ - صلة لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) الذي وصفه أنه جعل الأرض كذا وأنزل كذا.
ويحتمل أن يكون أراد: ولئن سألتهم عن الأرض وما ذكر أنه من جعلها مهدًا؟ ومن جعل لهم فيها سبلا؟ فقالوا: اللَّه جعل ذلك على ما قالوا في السماوات والأرض.
وفيه وجوه من الدلالة:
أحدها: يذكرهم نعمه عليهم؛ حيث جعل هذه الأرض بحيث يمهدونها، ويفترشونها، وينتفعون بها بأنواع المنافع، وبحيث مكن لهم الوصول إلى حوائجهم التي فرقها في الأمكنة المتباعدة بما جعل لهم فيها سبلا وطرقًا يسلكون فيها ليصلوا إلى الحوائج التي فرقت في البلدان المتباعدة، ما لولا جعله فيها السبل والطرق التي جعل ما قدروا السلوك فيها، ولا عرفوا أنهم من أي جهة يصلون إلى حوائجهم التي فرقت؟ فيلزمهم بما ذكر القيام بشكره على تلك النعم.
وفيه دلالة حكمته؛ ليدلهم أنه إنما جعل لهم ما ذكر لحكمة، لم يجعلها عبثًا باطلا؛ فيلزم حيث فرق حوائجهم في أمكنة متباعدة ثم مكن لهم الوصول إليها؛ ليعلم أن الذي ملك أنفسهم هو مالك أطراف الأرض؛ إذ لو كان هذا غير مالك ذلك، لمنعهم عن الوصول إلى حوائجهم.
وفيه دلالة قدرته، حيث جعل لهم في الأرض ما ذكر من التسخير لهم، حتى ظهروها ويفترشوها ويسلكوا فيها السبل التي جعلها لهم إلى حيث أرادوها وقصدوها، ومكن لهم ذلك ليعلم أن من قدر على ما ذكر لا يعجزه شيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١١).
فيما ذكر من إنزال الماء من السماء، ونشره في الأرض، وإنبات النبات فيها بذلك الماء دلالة من الوجوه التي ذكرنا في قوله: (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا) فإنه أنزل الماء من السماء؛ ليكون في الأرض أنواع النعم التي ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما؛ ليعلموا أعظم نعمه عليهم، وليعلموا أن مالكهما واحد، وما
فمن ملك، وقدر على ما ذكر من الإحياء فهو على البعث أقدر وأملك. ولذلك قال الله تعالى :﴿ كذلك تُخرجون ﴾ أي تُبعثون والله الموفّق.
٢ من م، في الأصل: المجهول..
وقوله: (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) جائز أن يدخل فيما ذكر من خلق الأزواج كلها جميع ما يكون لها أزواج من مقابلات وأشكال؛ إذ التزاوج قد يقع ويستعمل في الأضداد والأشكال من الأفعال والجواهر من الكفر والإيمان، والطاعة والمعصية؛ فيكون في ذلك دلالة خلق أفعال العباد إذ أخبر أنه خلق الأزواج كلها، وبين هذه الأفعال ازدواج وإن كانت متضادة متقابلة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) فيه ما ذكرنا من الوجوه: أنه فرق حوائج الخلق في أمكنة بعيدة، وبينهم وبين أمكنة حوائجهم مفاوز وفيافي وبحار، فجعل لهم في المفاوز أنعامًا يركبونها؛ ليصلوا إلى حوائجهم، وفي البحار سفنًا ليركبوها؛ ليصلوا إلى حوائجهم التي في البحار؛ يذكرهم نعمه؛ ليتأدى بذلك شكرها، ويذكرهم قدرته أن من ملك هذا وقدر لا يعجزه شيء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) جعل ظهوره بحيث يستوون عليها ويقرون،
وكان له أن يجعل ظهورها بحيث لا يستوون عليها ولا يقرون، وهذا من نعمة اللَّه تعالى عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) ثم نعمته تخرج على وجوه:
ما ذلل لهم من الأنعام وسخرها لهم بقوتها وشدتها.
أو جعل لهم أن يستعملوا الدواب وهي تتألم وتتلذذ كما تتألمون وتتلذذون، ثم جعلها متعة لهم، لا أن جعلوا لها.
أو أن تكون نعمته التي أمرهم أن يذكروها: الإسلام والتوحيد، قولوا: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وتقولوا: (سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
أو يأمرهم أن يذكروا ما أنشأ لهم من النعم العظيمة.
وقوله تعالى :﴿ ثم تذكُروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ﴾ ثم نعمته تخرّج على وجوه :
[ أحدها : ما ]١ ذلّل لهم من الأنعام، وسخّرها لهم بقوتها وشدّتها.
[ والثاني : ما ]٢ جعل لهم أن يستعملوا الدوابّ، وهي تتألّم، وتتلذّذ كما يتألّمون، ويتلذّذون.
[ والثالث :]٣ جعلها منفعة لهم، لا أن جُعلوا لها.
[ والرابع :]٤ أن تكون نعمته التي أمرهم أن يذكروها الإسلام والتوحيد، ويقولوا٥ : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ﴿ وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مُقرِنين ﴾.
[ والخامس : أن ]٦ يأمرهم أن يذكروا ما أنشأ لهم من النّعم العظيمة.
وقوله تعالى :﴿ وما كنا له مُقرِنين ﴾ قال بعضهم : مطيقين. يقال : أنا لك مُقرِن مطيق، ويقال : أنا مُقرِن لهذا العمل أي قوي عليه.
وأصل هذا التأويل أنّ الدواب والأنعام في أنفسها أشد وأكثر قوة وأعظمها من البشر. لكن الله تعالى بفضله ومنّه علّم الإنسان الحِيل حتى قدر على استعمال الدواب والأنعام مع قوتها وشدتها حيث شاؤوا وفي ما شاؤوا، وسخّرها لهم.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ وما كنا له مقرنين ﴾ أي لم يجعلنا من قرن الدواب ومن قرنها بحيث نُستعمَل لما تُستعمَل الدواب وتُركب على الظهور، أي لم يجعلنا من قرن الدواب ومن أشكالها، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: ثم..
٤ في الأصل وم: أو..
٥ في الأصل وم: أو..
٦ في الأصل وم: أم..
قَالَ بَعْضُهُمْ: مطيقين؛ يقال: أنا لك مقرن: أي: مطيق، ويقال: أنا مقرن لهذا العمل، أي: أقوى عليه.
وأصل هذا التأويل أن الدواب والأنعام في أنفسها أشد وأكثر قوة وأعظمها من البشر، لكن اللَّه - تعالى - بفضله ومنه علَّم الإنسانَ الحيلَ، حتى قدر على استعمال الدواب والأنعام مع قوتها وشدتها حيث شاءوا وسخرها لهم.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي: لم يجعلنا من قرن الدواب ومن قرنها بحيث نستعمل لما تستعمل الدواب، ونركب على الظهور؛ أي: لم يجعلنا من قرن الدواب ومن أشكالها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤) هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: يحتمل البعث؛ على ما قاله أهل التأويل.
ويحتمل: وإنا إلى ما جعل لنا ربنا من الوصول إلى حوائجنا لمنقلبون بها وراجعون - واللَّه أعلم - وإنا إلى أوطاننا ومنازلنا راجعون بها ما لولا هي لم يتهيأ لنا الرجوع إلى ذلك، ولا الوصول إلى ما جعل لنا من الحوائج التي فرقت في الأمكنة المتباعدة، والله أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (١٩) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا).
وقال الزّجّاج :﴿ جزءا ﴾ أي بنتا، وقال : إن الجزء عند بعض العرب البنت لأن الكفرة قد اختلف أنواع كفرهم، وهم مختلفون في كفرهم.
تقول الثنويّة بالاثنين ؛ يقولون عن الله تعالى : هو خالق الخيرات، وخالق الشرور غيره على حسب ما اختلفوا في ذلك الغير ما هو ؟
فهؤلاء الثنوية جعلوا لله تعالى من عباده جزءا، وهو الخيرات، ولم يجعلوا٢ له الجزء الآخر.
ومُشركو العرب جعلوا له في ما رزقهم جزءا٣ وجزءا لشركائهم حين٤ قال :﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ].
فهؤلاء جعلوا له جزءا مما رزقهم، وهو الظاهر، وفريق آخر جعلوا له جزءا من عباده، وهو الإناث، ولم يجعلوا لله البنين كقوله تعالى :﴿ ويجعلون لله البنات ﴾ [ النحل : ٥٧ ] فجعلوا٥ الجزء له على ما ذكر٦ أهل التأويل، وصرفوه إليه، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إن الإنسان لكفور مبين ﴾ أي كفور لنعمه مبين أي يُبيّن كفرانه.
٢ في الأصل وم: يجعل..
٣ أدرج بعدها في الأصل وم: ولله تعالى..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ في الأصل وم: فجعل..
٦ أدرج بعدها في الأصل وم: ما أظهره مما ذكره..
وقال الزجاج: (جُزْءًا) أي: بنتًا، وقال: إن الجزء عند بعض العرب البنت؛ لأن الكفرة قد اختلف أنواع كفرهم، وهم مختلفون في كفرهم؛ يقول الثنوية بالاثنين، يقولون: إن اللَّه - تعالى - هو خالق الخيرات، وخالق الشرور غيره؛ على حسب ما اختلفوا في ذلك الغير ما هو؟ فهَؤُلَاءِ الثنوية جعلوا لله - تعالى - من عباده جزءًا وهو الخيرات، ولم يجعلوا له الجزء الآخر، ومشركو العرب جعلوا له فيما رزقهم جزءًا لله - تعالى - وجزءًا لشركائهم؛ حيث قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، فهَؤُلَاءِ جعلوا له جزءًا مما رزقهم، وهو الظاهر، وفريق آخر جعلوا له جزءًا من عباده وهو الإناث، ولم يجعلوا لله البنين، كقوله - تعالى -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)، فجعل الجزء له على ما ذكر أظهر مما ذكره أهل التأويل وصرفوه إليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي: كفور لنعمه (مُبِينٌ) أي: يبين كفرانه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) هو على الإضمار؛ كأنه يقول: أم يقولون: اتخذ مما يخلق بنات لنفسه وأصفاكم بالبنين، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ).
ثم قوله - تعالى -: (أَمِ اتَّخَذَ) أي: قالوا: بل اتخذ مما يخلق بنات.
يذكر في هذه الآيات سفه أهل مكة وشدة تعنتهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل، وما ذكروا من اتخاذ الولد، وما ادعوا بأن الملائكة بنات اللَّه، وما أقروا حين سئلوا: مَن خلق السموات والأرض؟ أن اللَّه هو خالق ذلك كله مما لا سبيل إلى معرفة ما قالوا وادعوا إلا بالرسل، وهم ينكرون الرسل، فكيف ادعوا ما ادعوا وهم ينكرون خبرهم؛ لأن من ادعى ولدًا لغائب لا يعلمه إلا بخبر صادق، وكذلك معرفة الملائكة إنما هو بخبر يأتيهم، ثم هم ينكرون الأخبار والرسل؛ فتتناقض دعواهم وتضمحل، على ما ذكرنا.
ثم أخبر عنهم ما يظهرون من الحزن عندما يولد لهم من الإناث، وما يلحقهم من الكراهة في ذلك بقوله - تعالى -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧).
ثم قوله تعالى :﴿ بما ضرب للرحمن مثلا ﴾ أي شبها بالخلق، وإنه يُخرّج على وجهين :
أحدهما : بما جعلوا له ولدا، والولد، هو شبيه الوالد، فكان إثبات الولد إثبات المثل والشبيه.
والثاني : في إثبات الولد له إثبات المشابهة بينه وبين جميع الخلق، لأن الخلق لا يخلو : إما أن يكون مولودا من آخر، ويولد منه آخر، وإما أن يكون له شريك في ما يملكه، وإما١ يكون هو شريك غيره، فيكون البعض شبيها بالبعض.
فمن أثبت لله شريكا وولدا فقد جعله شبيها بالخلق. ولهذا بيّن الله تعالى من الولد الشريك تبرّيا واحدا بقوله تعالى :﴿ لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ﴾ [ الإسراء : ١١١ ] نفى الولد والشريك عن نفسه نفيا واحدا وبراءة واحدة، والله الموفّق.
وقوله تعالى :﴿ أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ﴾ يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله :﴿ وجعلوا له من عباده جُزءا ﴾ وعلى ذلك قول أهل التأويل : إنهم جعلوا هذه تفسيرا للأولى.
وجائز أن يكون لا على التفسير للأولى، ولكن على الابتداء في قوم آخرين سواهم على ما ذكرنا نحن من التأويل، والله أعلم.
أحدهما: بما جعلوا له ولدًا، والولد هو شبيه الوالد؛ فكان في إثبات الولد إثبات المثل والشبيه.
والثاني: في إثبات الولد له إثبات المشابهة بينه وبين جميع الخلق؛ لأن الخلق لا يخلو إما أن يكون مولودًا من آخر أو يولد آخر منه، وإما أن يكون له شريك فيما يملكه، أو يكون هو شريك غيره، فيكون البعض شبيهًا بالبعض، فمن أثبت لله شريكًا وولدًا فقد جعله شبيهًا بالخلق؛ ولهذا تبرأ اللَّه - تعالى - من الولد والشريك تبرؤًا واحدًا بقوله - تعالى -: (وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، نفى الولد والشريك عن نفسه نفيًا واحدًا وبراءة واحدة، واللَّه الموفق.
وقوله: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) يحتمل أن يكون تفسيرًا لقوله: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا)، وعلى ذلك قول أهل التأويل: إنهم جعلوا هذه تفسيرًا للأولى.
وجائز أن يكون لا على التفسير للأولى، ولكن على الابتداء في قوم آخرين سواهم، على ما ذكرنا نحن من التأويل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي الأصنام التي عبدوها، حلّوها وزينوها بأنواع الزينة والحليّ، يقول - واللَّه أعلم -: ولو حلي بالحليّ وزين بالزينة وهو لا يملك نفعًا، ولا ضرًّا، ولا تكلما، ولا خصومة، ولا شيئًا من ذلك، ولا يلتفت إليه، ولا يكترث له، لولا تلك الحلي والزينة التي بها في جعل العبادة له كمن منه خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما فيها من المنافع، أي: ليس هذا بسواء لذلك، يذكر سفههم في اختيارهم الأصنام التي هذا وصفها في العبادة على عبادة اللَّه تعالى الذي منه كل شيء؛ يصبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم وتكذيبهم إياه وسوء معاملتهم معه، واللَّه أعلم.
وقال بعصهم: قوله: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) وهي الإناث؛ يقول - واللَّه أعلم -: إن الأنثى ضعيفة، قليلة الحيلة، وهي عند الخصومة والمحاورة غير مبينة؛ يصف عجزهن وضعفهن ونقصانهنّ، يقول - واللَّه أعلم -: كيف نسبوا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ما هو أضعف وأعجز وأنقص فيما ذكر، وقد اتقوا هم منها، واختاروا لأنفسهم ما هو أكمل وأقوى وهم الذكور، وهو صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمِ
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) يحتمل أن يرجع إلى معنى آخر غير المعنى فيما ذكر من الآيات، وكل حرف من هذه الحروف يرجع إلى فريق غير الفريق الآخر؛ لأنهم كانوا في المذاهب مختلفين متفرقين.
وجائز أن يرجع الكل إلى معنى واحد، واللَّه أعلم.
وفي هذه الآيات ما ذكرنا من الوجوه من تصبير رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذى القوم، ومن بيان سفه أُولَئِكَ، ومن التحذير لما تأخر منهم، واللَّه أعلم.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي: يرى في الحلي، وهي البنات، يريد جعلهم بنات لله - تعالى - وهم إذا كان لأحدهم بنت (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)؛ أي: حزين، والخصام جمع: خصيم (غَيرُ مُبِينٍ) أي: غير مبين الحجة.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي: ينشأ؛ كما يقال: ينشأ الصبي ينشأ، أي: يشب ويرتفع، والخصام: المخاصمة.
وقال أبو معاذ: (يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) - واللَّه أعلم -: البنت، ويقرأ (يُنَشَّأُ) بالتشديد، و (يُنْشَأُ) بالتخفيف، وهما لغتان، وقرأ بعضهم: (يَنْشَأُ في الحلية)، والله أعلم.
وقوله - عز رجل -: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (١٩)
فَإِنْ قِيلَ: كيف سفههم في جعلهم عباد الرحمن إناثًا، وقد جعل اللَّه من عباده إناثًا، لماذا عاتبهم على ذلك؟
قيل: عن هذا وجهان:
أحدهما: إنما سفههم وعاتبهم؛ لشهادتهم على اللَّه - سبحانه وتعالى - أنه جعل الملائكة إناثًا، وهم لم يشاهدوها، ولا يؤمنون بالرسل - عليهم السلام - حتى يقع لهم العلم والخبر بذلك بقول الرسل، واللَّه أعلم.
والثاني: أن اللَّه - تعالى - وصف ملائكته بأنهم لا يفترون عن عبادته، وأنهم لا يستحسرون، وأنهم مطيعون لله - تعالى - على الدوام بحيث لا يرد منهم عصيان طرفة عين؛ على ما نطق بذلك الكتاب، فهم إذا قالوا: إنهم إناث، وصفوهم بالضعف والعجز، فلا يتهيأ لهنّ القيام بما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٢٠) تعلق المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن اللهَ تعالى - لم يشأ الكفر من الكافر، وإنما شاء الإيمان، فإن الكفار ادعوا أن اللَّه - تعالى - شاء منهم الكفر، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام؛ حيث قالوا: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) أي: لو شاء منا ترك عبادة الأصنام لتركناها، ولكن شاء منا عبادة الأصنام، واللَّه - تعالى - رد عليهم قولهم واعتقادهم فقال: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، أي: ما هم إلا يكذبون.
وعندنا الآية تخرج على وجوه:
أحدها: أنهم في قولهم: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ) صدقة؛ فإن معناه: لو شاء منهم تركهم عبادة الأصنام ما عبدوها، ولكن شاء أن يعبدوها فعبدوها؛ فيكون هذا منهم إخبارًا عن المخبر به على ما هو؛ فيكون صدقًا.
ثم قوله - تعالى -: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يحتمل: إنما سماهم كذلك لما قالت المعتزلة: إنهم ادعوا وأخبروا أن الكفر بمشيئة اللَّه - تعالى - وأنه شاء منهم الكفر دون الإيمان، فاللَّه - تعالى - شاء منهم الإيمان دون الكفر، فقد أخبروا على خلاف المخبر به؛ فيكونون كاذبين.
ويحتمل أنهم قالوا ذلك وفي قلوبهم بخلاف ما أخبروا، وهو أن الكفر ليس مما شاء اللَّه - تعالى - وإنما شاء الإيمان كما تقوله المعتزلة، ولكن يقولون ذلك ردًّا على المسلمين الذين يدعونهم إلى الإيمان والرجوع عن الكفر: إنه إذا كان شاء منا الكفر دون الإيمان كيف نؤمن ونترك الكفر؟ والإخبار عما هو به وإن كان صدقًا، ولكن إذا كان في قلب المخبر واعتقاده خلاف ذلك فيكون ذلك الإخبار في نفسه صدقًا، لكن من حيث إنه إخبار عما في الضمير يكون كذبًا، وهذا كقول اللَّه - تعالى -: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وهم في قولهم: (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) صدقة، لكن في إخبارهم عما في ضميرهم كذبة؛ لما لا يوافق ظاهر كلامهم حقيقة ما في قلوبهم، فيرجع تكذيب اللَّه - تعالى - إياهم لكذب قلوبهم، وإن كانوا في نفس قولهم: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) صدقة، وإذا
والثاني: أنهم وإن كانوا صادقين في ذلك فهم ربما قالوا ذلك على الاستهزاء والسخرية، لا على الجد؛ فيكون قصدهم تلبيس الصدق على الناس ورده، كقوله - عز وجل -: (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)، وهذا القول من هذا الإنسان حق وصدق، لكن إنما قال ذلك استهزاء منه وإنكارًا للبعث؛ ألا ترى أن اللَّه - تعالى - وعظه على ذلك وذكره، حيث قال: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)، فعلى ذلك قول أُولَئِكَ وإن كان في الظاهر صدقًا فهم إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية على سبيل الإنكار وتلبيس الحق؛ فيكون إخبارهم من هذا الوجه ولهذا الغرض خرصًا وكذبًا، واللَّه أعلم.
والثالث: غرضهم بذلك الاحتجاج على المسلمين في توعيدهم بالعذاب بسبب العناد والكفران كيف نعذب وإنما باشرنا الكفر بمشيئته، ولو شاء أن نترك العبادة للأصنام تركنا فإذا كان شاء منا الكفر حتى كفرنا لماذا عاقبنا؟ فأبطل احتجاجهم بقوله - تعالى -: (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي: هم جاهلون في الاحتجاج بهذا، كاذبون في أنهم باشروا الكفر بسبب مشيئة اللَّه - تعالى - إياهم الكفر، ولكن لسوء اختيارهم، وأسباب حاملة لهم على ذلك، وأصله: أن لا أحد من العصاة والفسقة والكفرة يفعل وعنده أن اللَّه - تعالى - شاء ذلك منهم، فإذا كان وقت فعله لا يفعل ما يفعل؛ لأن الله تعالى شاء ذلك منه لم يكن له هذا الاحتجاج والقول الذي قالوا، واللَّه الموفق.
والرابع: يحتمل أنهم يقولون: (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، وقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، أي: لو أمرنا اللَّه - تعالى - بترك عبادتنا أُولَئِكَ الأصنام ما عبدناهم، لكن أمرنا أن نعبدهم، كانوا يدعون أنما يعبدون لأمر من اللَّه - تعالى - كقوله: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا).
أو أرادوا بالمشيئة: الرضا؛ يقولون: لولا أن اللَّه - تعالى - قد رضي بذلك عنا وعن آبائنا، وإلا ما تركنا وهم على ذلك؛ فاستدلوا بتركهم على ما اختاروا على أن اللَّه - تعالى - قد رضي بذلك عنهم، فردّ اللَّه - سبحانه وتعالى - بقوله: (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) وبقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ...) الآية، وقد ذكرناه على الاستقصاء في قوله - تعالى -: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا...) الآية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) إنهم قوم ينكرون الرسل، ويكذبونهم بعلة أنهم بشر، ثم اقتدوا بآبائهم واتبعوهم وهم بشر أيضًا، فهذا تناقض في القول؛ يذكر سفههم وتناقضهم في القول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) يصبِّر رسوله على ما قال هَؤُلَاءِ: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ): أنه ليس ببديع من هَؤُلَاءِ؛ بل قال أوائلهم لرسلهم على ما قال قومك؛ يصبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويعزيه، ويذكر سفههم في اتباعهم إياهم واقتدائهم بهم وهم بشر، فيقول: فإذا كنتم لا محالة تتبعون البشر فاتبعوا أمر من هم أهدى من آبائكم، وهم الرسل، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ... (٢٤) قالوا عند ذلك: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) عنادًا وتعنتًا منهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: قل يا مُحَمَّد: (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) أي: إن جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم من الدِّين، أفتتبعونني فيما جئتكم؟ فردوا عليه وقالوا: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) هذا وعيد.
ثم قَالَ بَعْضُهُمْ: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) يقول: هو رجوع إلى ذكر الأمم الخالية، فقال: فانتقمنا منهم بالعذاب الذي نزل.
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) وذلك جائز.
وقوله: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) يحتمل: مكذبي الرسل.
ويحتمل: مكذبي العذاب.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (٣٠) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ
إنه ليس ببديع منه هؤلاء بل قال أوائلُهم لرسلهم على قال قومك ؛ يصبّره صلى الله عليه وسلم ويعزّيه، ويذكر سفههم في اتّباعهم إياهم واقتدائهم بهم، وهم بشر، فيقول : فإذا كنتم لا محالة تتّبعون١ البشر، فاتّبعوا أمر [ من ]٢ هم أهدى من آبائهم، وهم الرسل.
٢ ساقطة من الأصل وم..
وقال بعضهم :﴿ قال ﴾ يا محمد ﴿ أولو جئتُكم بأهدى مما وجدتكم عليه آباءكم ﴾ من الدين أفتتّبعوني في ما جئتكم ؟ فردّوا عليه، وقالوا :﴿ إنا بما أُرسلتم به كافرون ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ يحتمل مكذّبي الرسل، ويحتمل مكذّبي العذاب.
وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي... (٢٧) والإشكال: أنه - عليه السلام - تبرأ من عبادة جميع ما يعبدون، واستثنى عبادة الذي فطره وهو اللَّه - تعالى - وهم لا يعبدون الذي فطره، فكيف يستثنى من جملة عبادة من يعبدون، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه.
فنقول: قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه تبرأ من عبادة من عبدوا واستثنى عبادة من فطره؛ لأن فيهم من عبد الذي فطره، وهو اللَّه - تعالى - فلو تبرأ من عبادة جميع ما يعبدون على الإطلاق لصار متبرئًا عن عبادة اللَّه - تعالى - لذلك استثنى عبادة اللَّه، واللَّه أعلم.
لكن الإشكال أنه لم يظهر أن في قومه من يعبد اللَّه - تعالى - وهو الذي فطره وخلقه، فما معنى الاستثناء، فيقال: إنه لم يكن في قومه من يعبد الذي فطره، فكان في آبائهم وأوائلهم من يعبد الذي فطرهم، فيرجع استثناؤه إلى ذلك، واللَّه أعلم.
ويحتمل أنه إنما استثنى الذي فطره على طريق الاحتياط؛ لاحتمال أن يكون فيهم من يعبد اللَّه - تعالى - ولا وقوف له على ذلك فيصير متبرئًا من ذلك لو تبرأ ممن يعبدون جميعًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون استثنى الذي فطره؛ لأنهم كانوا يعبدون هذه الأصنام والأوثان دون اللَّه - تعالى - رجاء أن تشفع لهم فتقربهم إلى اللَّه زلفى؛ لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، وقولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ)، فرجع استثناؤه إلى حقيقة الذي قصدوا بالعبادة، وهو الذي فطرهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون هذا استثناء منقطعًا وهو الاستثناء بخلاف الجنس بمعنى لكن، معناه: إني براء مما تعبدون، ولكن أعبد الذي فطرني، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - تعالى -: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ)، أي: ولكن تجارة عن تراض؛ لأنه لا يجوز أن يستثنى التجارة عن تراض من الباطل، ولا السلام من اللغو، ونحو ذلك كثير، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) ذكر أن هذا الحرف (بَرَاءٌ) على ميزان واحد في الوحدان والتثنية والجمع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: سيثبتني على الهدى.
فيقول بعضهم : إنه تبرّأ من عبادة من عبدوا، واستثنى عبادة من فطره لأن فيهم من عبد الذي فطره١ الله تعالى. فلو تبرّأ من عبادة جميع ما يعبدون على الإطلاق لصار متبرّئا من عبادة الله تعالى. لذلك استثنى عبادة الله، والله أعلم.
لكن الإشكال أنه لم يظهر أن في قومه من يعبد الله تعالى، وهو الذي فطره، وخلقه. فما معنى الاستثناء ؟
فيقال : إن لم يكن في قومه من يعبد الذي فطره فكان في آبائهم وأوائلهم من يعبد الله تعالى، ولا وقوف له على ذلك، فيصير متبرّئا من ذلك لو تبرّؤوا ممن يعبدون جميعا، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون استثنى الذي فطره لأنهم يعبدون هذه الأصنام والأوثان دون الله تعالى رجاء أن تشفع لهم، فتقرّبهم إلى الله زلفى لقولهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زُلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وقولهم :﴿ هؤلاء شفعائنا عند الله ﴾ [ يونس : ١٨ ] فرجع استثناؤه إلى حقيقة الذين قصدوا بالعبادة، وهو الذي فطرهم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون هذا استثناء منقطعا، وهو الاستثناء بخلاف الجنس بمعنى. لكن معناه : أني براء مما تعبدون، ولكن أعبد الذي فطرني، وذلك جائز في اللغة كقوله تعالى :﴿ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ﴾ [ مريم : ٦٢ ] [ وقوله تعالى ]٢ :﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض ﴾ [ النساء : ٢٩ ] أي ولكن تجارة عن تراض لأنه لا يجوز أن تُستثنى التجارة عن تراض من الباطل، ولا السلام من اللغو. ونحو ذلك كثير، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إنني براء مما تعبدون ﴾ ذُكر أن هذا الحرف ﴿ براء ﴾ على ميزان واحد في الوُحدان /٤٩٧-أ/ والتثنية والجمع.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله تعالى :﴿ إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ﴾ هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : أنه سيثبّتُني على الهدى.
والثاني : أي إنه سيهديني في حادث الوقت، والهدى مما يتجدّد، فينصرف إلى إرادة حقيقة الهدى.
فعلى هذين الوجهين يخرّج على التوفيق على الهدى والعصمة عن ضده في المستقبل.
ولا يحتمل أن يريد بهذا الهدى البيان فإن يقول : فإنه سيُبيّن لي لأنه قد بيّن له جميع ما تقع له الحاجة إليه، فلا يحتمل أن يسأل البيان، ولا يحتمل الأمر أيضا فإنه قد تقدم الأمر به، ويرجع إلى حقيقة الهدى أو إلى التوفيق والعصمة.
ويكون في الآية دلالة على أن عند الله تعالى لطفا، وهو من أعطى ذلك يصير مهتديا، وأنه لم يعط الكفرة ذلك، ولو أعطاهم لآمنوا.
فعلى هذين الوجهين يخرج على التوفيق إلى الهدى، والعصمة عن ضده في المستقبل، ولا يحتمل أن يريد بهذا الهدى البيان بأن يقول: فإنه سيبين لي؛ لأنه قد بين له جميع ما يقع له الحاجة إليه، فلا يحتمل أن يسأل البيان، ولا يحتمل الأمر - أيضًا - فإنه قد تقدم الأمر به، ويرجع إلى حقيقة الهدى، أو إلى التوفيق والعصمة، ويكون في الآية دلالة على أن عند اللَّه - تعالى - لطفًا، وهو ما ذكرنا: أنه من أعطى ذلك يصير مهتديًا، وأنه لم يعط الكفرة ذلك، ولو أعطاهم لآمنوا.
وقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: الكلمة الباقية هي كلمة الهداية والتوحيد، فإنه سأل أن يجعل ما وجد منه من التبري من غير اللَّه - تعالى - وتحقيق عبادة اللَّه - تعالى - بقوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) كلمة باقية، وأنه كلمة التوحيد، فإن قوله: " لا إله "، نفي غير اللَّه، وقوله: " إلا اللَّه "، إثبات ألوهية اللَّه - تعالى - وذلك معنى قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وهو كقوله - تعالى -: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...) الآية، وأجاب اللَّه - تعالى - سؤاله في دعائه، فلم يزل في ذرية إبراهيم وعقبه من يقولها، وذلك قوله - تعالى -: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
والثاني: الكلمة الباقية: هي كلمة الدعوة إلى الهدى والتوحيد، وهي عبارة عن إبقاء النبوة والخلافة في ذريته إلى يوم القيامة، وهو ما قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أخبر أن الظالم من ذريته لا ينال عهده، فأما من لم يكن ظالمًا فإنه ينال عهده، وقد استجاب اللَّه دعاءه، فلم يزل الدعوة في ذريته والنبوة في خلفائهم إلى يوم القيامة؛ قال اللَّه - تعالى -: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) أخبر أنه متعهم وآباءهم في مكان لا نبات فيه، ولا زرع، ولا ماء، سخر الناس وحملهم على أن يحملوا إليهم الطعام، والأغذية، وأنواع الفواكه من الأمكنة البعيدة، ويجلبون إليهم ما ذكرنا، فذلك ما ذكر من تمتيعه إياهم.
وقوله تعالى :﴿ حتى جاءهم الحق ﴾ أي القرآن ﴿ ورسول مبين ﴾ أي محمد صلى الله عليه وسلم بيّن أنه من عند الله تعالى جاء، وأنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (٣٠) لم تزل كانت عادة رؤساء الكفرة والأشراف منهم التكلم بهذه الكلمة عند نزول الآيات والمعجزات؛ يريدون بذلك التمويه على أتباعهم والتلبيس، فعلى ذلك قول هَؤُلَاءِ: (هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) ظن هَؤُلَاءِ أنه لما وسع عليهم الدنيا، وأنعم عليهم، وأعطى لهم الأموال إنما أعطوا ذلك ووسع عليهم لكرامة لهم عند اللَّه - تعالى - وفضل وقدر لديه، ومن ضيق عليه الدنيا ولم يعط ذلك إنما ضيق عليه ومنع لهوانه عنده، فقالوا عند ادعاء مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الرسالة ونزول القرآن عليه من اللَّه - تعالى -: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وظنوا أن من عظم قدره ومنزلته عند الخلق بما وسع عليه وأعطي من الأموال هو عند اللَّه كذلك، قالوا: لو كان ما يقول مُحَمَّد حقًّا: إن هذا القرآن إنما أنزل من عند اللَّه، هلا أنزل على رجل من القريتين عظيم؟ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لم يوسع الدنيا على من وسع لفضل منزلته وقدره عنده، وعلى من ضيق إنما ضيق لهوان له عنده، لكن رب مضيق عليه مكرم عظيم عند اللَّه، ورب موسع عليه يكون مهانًا عنده.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) هو يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: إنهم لا يملكون قسمها على تدبير ما أنشئوا، وعلى تقدير ما خلقوا، وهي ما ذكر من المعاش وأسباب الرزق من التوسيع والتفضيل، فالذي لم يجعل إليهم في ذلك شيء من تدبيره وتقديره أحق وأولى ألا يملكوا قسم ذلك بينهم واختياره، وهو النبوة والرسالة، ووضعها حيث شاءوا؛ هذا أحد التأويلين.
ثم قوله - تعالى -: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) دلالة في خلق أفعال الخلق؛ لأن التفضيل والتوسيع في الرزق والمعيشة إنما يكون باكتساب يكون منهم، وأسباب جعلت لهم، ثم أخبر أنه هو يقسم ذلك، دل ذلك على أنه هو منشئ أكسابهم، وخالق أفعالهم، وأن له في ذلك تدبيرًا؛ لأنا نرى من هو أعلم وأقدر على أسباب الرزق كانت الدنيا عليه أضيق، ومن هو دونه في تلك الأسباب والاكتساب كانت عليه أوسع؛ دل ذلك على أنه لو كان على تدبيرهم خاصة، لكانت تكون هي أوسع على من هو أجمع لأسبابها واكتسابها، وأقدر على ذلك، وتكون أضيق على من ليست له تلك الأسباب.
قالوا٢ لو كان ما يقول محمد حقا : إن هذا القرآن إنما أُنزل من عند الله هلاّ أُنزل على رجل من القريتين عظيم ؟ فأخبر عز وجل أنه لم يوسّع الدنيا على من وسّع لفضل منزلته وقدره عنده، [ وضيّق ]٣ على من ضيق لهوان له عنده. لكن رُبّ مضيق عليه مكرّم عظيم عند الله، وربّ مُوسّع عليه يكون مهانا عنده.
٢ في الأصل وم: قال..
٣ في الأصل وم: و..
أحدهما : أي أنهم لا يملكون قسمها على تدبير ما أُنشئوا وعلى تقدير ما خُلقوا، وهي ما ذكر من المعاش وأسباب الرزق من التوسيع والتفضيل. فالذي لم يُجعل إليهم في ذلك شيء من تدبيره وتقديره أحق وأولى ألا يملكوا قسمة ذلك بينهم واختياره، وهو النبوّة والرسالة ووضعها حيث شاء، وهذا أحد التأويلين.
[ والثاني ]١ : قوله تعالى :﴿ { نحن قسمنا بينهم معيشتهم ﴾ دلالة في خلق أفعال الخلق، لأن التضييق٢ والتوسيع في الرزق والمعيشة إنما يكون باكتساب يكون منهم وأسباب جُعلت لهم.
ثم [ في إخباره ]٣ أنه هو يقسم ذلك دليل٤ على أنه هو مُنشئ أكسابهم وخالق أفعالهم وأن له في ذلك تدبيرا، لأنا نرى من هو أعلم وأقدر على أسباب الرزق كانت الدنيا عليه أضيق، ومن دونه في تلك الأسباب والاكتساب كانت عليه أوسع.
دلّ [ ذلك ]٥ على أنه [ لو كانت ]٦ على تدبيرهم خاصة لكانت تكون هي أوسع على من هو أجمع لأسبابها واكتسابها بها وأقدر على ذلك، وتكون [ أضيق ]٧ على من ليست له تلك الأسباب.
ثم قال جعفر بن حرب للخروج عن هذا الالتزام : إنما٨ وسّع على من وسّع لأن التوسيع له أصلح وأخير، وضيّق على من ضيّق لأن التضييق له أصلح وأخير في الدين.
فيقال : لو كان التوسيع والتضييق لأجل الأصلح لهم في الدين والأخير لم يكن ما ذكر من رفع بعض على بعض وتفضيل بعض على بعض في الرزق معنى، وقد أخبر أنه رفع بعضهم على بعض درجات. ولو كان الكل في ذلك سواء لا يكون لبعض على بعض في ذلك فضل ولا درجة، ولأنه لو كانوا على ما يقولون هم : إنه يعطي كلا ما هو الأصلح في الدين وأخير لهم في ذلك، فهؤلاء الفراعنة منهم والرؤساء لو لم يكن لهم تلك السعة وتلك الأموال لكان لا يتهيأ لهم فعل ما فعلوا ومنع الناس عن اتباع رسل الله عليهم السلام.
وعلى ذلك فرعون إنما ادّعى لنفسه الألوهية بما أُعطي له من المُلك والسعة ما لو لم يكن له ذلك لم يدّع ذلك، وكان ذلك أصلح [ له ]٩ في الدين. فدلّ أن الله تعالى قد يترك ما هو الأصلح لهم في الدين، وأن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدين.
وقوله تعالى :﴿ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضا سُخريا ﴾ قال بعضهم : سخريا : بكسر السين١٠ الاستهزاء. وتأويله : أنه عليم منهم أن بعضهم يستهزئ ببعض، ويهزأ بعضهم [ من بعض ]١١ أعطى ذلك لهم ليكون منهم ما علم منهم من الهُزء والسخرية، لا أن يكون يرفع بعضهم على بعض ليأمر بما علم أنه يكون منهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ورحمة ربك خير مما يجمعون ﴾ يحتمل قوله :﴿ ورحمة ربك ﴾ أي النبوة أي ما اختار لرسول١٢ الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة والنبوة خير مما يجمع أولئك الكفرة.
ويحتمل ما يدعوهم محمد صلى الله عليه وسلم ويختار لهم من التوحيد والدين ﴿ خير مما يجمعون ﴾ هم من الأموال.
ويحتمل ما وعد لأهل الإيمان من الثواب والكرامة بإيمانهم، وهو /٤٩٧-ب/ الجنة ﴿ خير مما يجمعون ﴾ والله أعلم.
٢ في الأصل وم: التفضيل..
٣ في الأصل وم: أخبر..
٤ في الأصل وم: دل ذلك..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ أدرج قبلها في الأصل وم: فقال..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ انظر معجم القراءات القرآنية ح٦/١١١..
١١ في الأصل وم: بعضا..
١٢ اللام ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سِخْرِيًّا) -بكسر السين-: الاستهزاء، وتأويله: أنه علم منهم أن بعضهم يستهزئ ببعض، ويهزأ بعضهم بعضًا، أعطى ذلك لهم؛ ليكون منهم ما علم منهم من الهزء والسخرية، لا أن يكون يرفع بعضهم على بعض؛ ليأمر بما علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
يحتمل قوله: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ): النبوة؛ أي: ما اختار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الرسالة والنبوة خير مما يجمع أُولَئِكَ الكفرة.
ويحتمل: ما يدعوهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويختار لهم من التوحيد والدِّين خير مما يجمعون هم من الأموال.
ويحتمل: ما وعد لأهل الإيمان من الثواب والكرامة بإيمانهم -وهو الجنة- خير مما يجمعون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣)
أي: لولا أن يصير الناس كلهم على ملة
واحدة - وهو دين الكفر - وإلا لجعلنا للكفار ما ذكرنا.
في الآية دلالة التزهيد في الدنيا؛ لأنه ذكر أنه أعطى الكفار ما ذكر، لولا رعاية قلوب
وفي الآية دلالة جوده وكرمه؛ حيث لم يمنع من عادى أولياءه وعاداه نعيم الدنيا، وفي الشاهد أن من عادى آخر يمنعه ذلك ما عنده من الفضل والمال.
وفيها دلالة هوان الدنيا على اللَّه - تعالى - على ما ذكره أهل التأويل؛ إذ لو كان لها عنده خطر وقدر لم يعط الكافر منها جناح بعوضة أو جناح ذبابة؛ فدل ذلك على هوانها على اللَّه تعالى.
وفيه دلالة نقض قول المعتزلة؛ حيث قالوا: ليس على اللَّه أن يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ لأنه أخبر - تعالى - أنه لولا ما يختار أهل الإيمان الكفر والدخول فيه وإلا جعل لأهل الكفر ما ذكر من جعل النعم، فلو كان الأصلح واجبًا في الدنيا لكان يجب أن يعطي لأهل الإيمان مثل ذلك الذي ذكر أنه لو أعطى لأهل الكفر فيكونون جميعًا أهل كفر، وإذا أعطى ذلك لأهل الإيمان لا يكونون جميعًا أهل الإيمان، وهو الأصلح في الدِّين، ومع ذلك لم يعط - دل أنه ليس على اللَّه - تعالى - حفظ الأصلح لهم في الدِّين، ولا حفظ الأخير، واللَّه الموفق.
والأصل في قوله - تعالى -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ...) الآية أنهم خيروا في هذه الدنيا أن يختاروا النعم الدائمة، أو اللذة الفانية، والنعمة الزائلة المنقطعة، فمن اختار وآثر النعيم الدائم واللذة الباقية على النعمة الزائلة واللذة الفانية، ضيق عليهم النعم الزائلة واللذة الفانية؛ لما آثر واختار الباقية على الفانية، ومن آثر الفانية الزائلة على الباقية الدائمة وسع عليه الفانية لما اختار وآثر وهو ما ذكر في قوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ...) الآية. بين لكل ما اختار وآثر من النعم الفانية والدائمة، وذكر الفضة والذهب وإن كانت أشياء أخر قد تكون أرفع وأعظم قدرًا منها؛ لأن هذين هما أعز الأشياء عندهم، وبهما يوصل إلى كل رفيع وعظيم، واللَّه أعلم.
ثم ما ذكر من جعل السقف والمعارج من الفضة، وما ذكر من الزخرف هو رد ما قاله فرعون في حق موسى - عليه السلام -: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)، أي: لخساسة الدنيا، وهو أنها لم يعط لأوليائه والأخيار من عباده، ولولا ما يكون من ترك أهل الإيمان وإلا لكان في حق كل كافر مثل ما
وفي٢ الآية دلالة التزهيد في الدنيا لأنه ذكر أنه أعطى الكفار ما ذكر لولا رعاية قلوب ضَعَفة المؤمنين حتى لا يتحولوا إلى دين الكفر. فما منع الكافر ما منع إنما منع بسبب المؤمن، فيجب أن يزهد فيها.
وفي الآية دلالة جوده وكرمه حين٣ لم يمنع من عادى أولياءه عن٤ نعيم الدنيا. وفي الشاهد أن من عادى آخر يمنعه ذلك من الفضل والمال.
وفيها دلالة هوان الدنيا على الله على ما ذكر أهل التأويل ؛ إذ لو كان لها عنده خطر وقدر لم يُعط الكافر منها جناح بعرضة أو جناح ذُبابة. فدلّ ذلك على هوانها على الله تعالى.
وفيه دلالة نقض قول المعتزلة حين٥ قالوا : ليس على الله أن يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدين، لأنه أخبر تعالى. أنه لولا ما يختار أهل الإيمان الكفر والدخول فيه، وإلا جعل لأهل الكفر ما ذكر من جعل النعم. فلو كان الأصلح واجبا في الدنيا لكان يجب أن يُعطي لأهل [ الإيمان ]٦ مثل ذلك الذي ذكر أنه لو أعطى لأهل الكفر، فيكونون جميعا أهل كفر. وإذا أعطى ذلك لأهل الإيمان لا يكونون جميعا [ أهل الإيمان ]٧ وهو الأصلح في الدين، ومع ذلك لم يُعط. دلّ أنه ليس على الله تعالى حفظ الأصلح لهم في الدين ولا حفظ الأخير، والله الموفّق.
والأصل في قوله تعالى :﴿ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن ﴾ الآية أنهم خُيّروا في هذه الدنيا [ بين ]٨ أن يختاروا النعم الدائمة واللذة [ الباقية وبين أن يختاروا اللذة ]٩ الفانية والنعمة الزائلة المنقطعة.
فمن اختار، وآثر النّعم الدائمة واللذة الباقية على النعمة الزائلة واللذة [ الفانية ]١٠ ضيّق عليه النعم الزائلة واللذة الفانية لما آثر، واختار الباقية على الفانية. ومن آثر الفانية الزائلة على الباقية الدائمة وسّع عليه الفانية لما اختار، وآثر، وهو ما ذكر في قوله تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ﴾ ﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن ﴾ الآية [ الإسراء :١٨ و١٩ ] بيّن لكل ما اختار، وآثر من النعم الفانية والدائمة، وذكر الفضة والذهب، وإن كانت أشياء أُخر، قد تكون أرفع وأعظم قدرا منها، لأن هذين هما أعزّ الأشياء عندهم، وبهما يوصل إلى كل رفيع وعظيم، والله أعلم.
ثم ما ذكر من جعل السّقف والمعارج وما ذكر من الزخرف هو ردّ ما قاله فرعون في حق موسى عليه السلام :﴿ فلولا أُلقي عليه أسوِرة١١ من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ﴾ [ الزخرف : ٥٣ ] أي لخساسة الدنيا وهوانها لم يُعط الأولياء والأخيار من عباده. ولولا ما يكون من ترك أهل الإيمان وإلا لكان في حق كل كافر سُئل ما فعل في حق فرعون وأمثاله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ﴾ أي كل ما ذكر ليس إلا متاع الحياة الدنيا أعطى من آثره١٢ على نعيم الآخرة، والعاقبة للمتقين لما١٣ اختاروها على غيرها، والله المستعان.
قال القتبيّ : المعارج، يقال : عرج أي صعِد، ومنه المعراج لأنه سبب إلى السماء، أي١٤ طرق ﴿ عليها يظهرون ﴾ أي يعلنون ؛ ظهرت على البيت إذا علوت سطحه، والزخرف : الذهب. وكذا قول أبي عوسجة : المعارج المصاعد، والمعراج المِصعد، والزخرف كل شيء حسن، والزخرفة التحسين والتزيين. وهذا أشبه.
ألا ترى أنه قال في آية أخرى :﴿ إذا أخذت الأرض زُخرفها ﴾ [ يونس : ٢٤ ] أي زينتها وحسنها، والسقف هو سماء البيت.
٢ الواو ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل وم: عاداه..
٥ في الأصل وم: حيث..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ من م، في الأصل: لأهل..
٨ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٩ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل وم: اساور. انظر معجم القراءات القرآنية ج٦/١١٩..
١٢ الهاء ساقطة من الأصل وم..
١٣ في الأصل وم: كما..
١٤ في الأصل وم: أو..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) أي: كل ما ذكر ليس إلا متاع الحياة الدنيا، أعطى من آثره على نعيم الآخرة والعاقبة للمتقين كما اختاروها على غيرها، واللَّه المستعان.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: المعارج: الدرج؛ يقال: عرج: أي: صعد، ومنه المعراج؛ لأنه سبب إلى السماء أو طرف، (عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) أي: يعلون؛ ظهرت على البيت: إذا علوت سطحه، والزخرف الذهب، وكذا قول أبي عَوْسَجَةَ: المعارج: المصاعد، والمعراج: الصعود، والزخرف: كل شيء حسن، والزخرفة: التحسين والتزيين.
وهذا أشبه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ). أي: زينتها وحسنها، والسُّقُفُ: جمع السَّقْفِ، وهو سمك البيت.
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْشُ) أي: يعرض عن ذكر الرحمن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْشُ) أي: يعمى بصره، ويضعف عن ذكر الرحمن؛ أي: يعمى عنه ولا يقبله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: عشى يعشو من عمى البصر وضعفه، وعشى يعشى من الإعراض.
وقال أبو عبيدة: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) أي: يظلم بصره.
وقال الفراء: (وَمَنْ يَعْشُ) أي: يعرض عنه، (وَمَنْ يَعْشَ) بنصب الشين أي: يعمى
وقال بعضهم : عشِيَ يعشى من عمَى البصر وضعفه، وعشى يعشو من الإعراض.
وقال أو عبيدة :﴿ ومن يعشُ عن ذكر الرحمن ﴾ أي يظلم بصره. وقال الفرّاء :﴿ ومن يعشُ ﴾ أي يُعرِض عنه، ومن يعش بنصب١ الشين أي يعم عنه. وقال أبو عوسجة : يعش أي يجاوز، وإن شئت جعلته من العشا، وهو ظلمة البصر، وإن شئت جعلته من التعاشي، وهو التّعامي، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ عن ذكر الرحمن ﴾ القرآن، ويحتمل التوحيد والإيمان، ويحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ نُقيّض له شيطانا فهو له قرين ﴾ قال بعضهم :﴿ نقيّض ﴾ نقدّر، والتقييض التقدير ؛ يقال : قيّض الله لك خيرا أي قدّره، وهو قول أبي عوسجة : وقال بعضهم :﴿ نقيّض ﴾ أي نهيّئ ﴿ له شيطانا ﴾ ونضمّ إليه ﴿ فهو له قرين ﴾.
والأصل في ذلك أن من آثر معصية الله، واختارها على طاعته، وكانت لذّته وشهوته في ذلك، فالشيطان حين اختار معصية الله على طاعته، صارت لذّته في ذلك.
وعلى ذلك من اتّبعه في ما دعاه، وأجابه إلى ما دعاه، وصارت لذّته في ذلك، قاربه، ولازمه في ذلك ليكونا جميعا في الدنيا والآخرة على ما ذكر في آية أخرى :﴿ احشُروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ الآية [ الصافات : ٢٢ ].
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَعْشُ) أي: يجاوز، وإن شئت جعلته من العشى، وهو ظلمة البصر، وإن شئت جعلته من التعاشي، وهو التعامي، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ): القرآن.
ويحتمل: التوحيد والإيمان.
ويحتمل: رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: نقيض: نقدر، والتقييض: التقدير؛ يقال: قيض اللَّه لك خيرًا، أي: قدره، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نقيض: أي: نهيئ له شيطانًا ويضم إليه (فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)، والأصل في ذلك أن من آثر معصية اللَّه واختارها على طاعته كانت لذته وشهوته في ذلك، فالشيطان حيث اختار معصية اللَّه على طاعته صارت لذته في ذلك، وعلى ذلك من اتبعه فيما دعاه، وأجابه إلى ما دعاه إليه صارت لذته في ذلك، قارنه ولازمه في ذلك ليكونا جميعًا في ذلك في الدنيا والآخرة؛ على ما ذكر في آية أخرى: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ... (٣٧) السبيل المطلق هو سبيل اللَّه، والدِّين المطلق هو دين اللَّه، والكتاب المطلق هو كتاب اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) كانوا يحسبون أنهم مهتدون؛ لأن الشياطين كانوا يزينون لهم ويقولون: إن الذي أنتم عليه هو دين آبائكم وأجدادكم، ولو كانوا على باطل لا على حق ما تركوا على ذلك، ولكن أهلكوا واستؤصلوا، فإذ لم يهلكوا وتركوا على ذلك ظهر أنهم كانوا على الحق والهدى؛ كانوا يموهون لهم ويزينون كذلك، وظنوا أنهم على الهدى كما يقول لهم الشيطان، واللَّه الهادي.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حَتَّى إِذَا [جَاءَانَا] (١)... (٣٨) أي: الكافر وقرينه في الآخرة (قَالَ) الكافر (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) يحتمل أن يقول في الآخرة: يا ليت كان بينك وبيني في الدنيا بعد المشرقين؛ حتى لم أكن أراك ولم أتبعك.
ويحتمل أن يقول: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين في الآخرة.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ما بين مشرق الصيف إلى مشرق الشتاء.
قوله: ﴿إِذَا جَآءَنَا﴾: قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ «جاءنا» بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ «مَنْ» وهو العاشي، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى، ثم على اللفظ، فإنَّه حُمِلَ أولاً على لفظِها في قوله: «نُقَيِّضْ له» «فهو له»، ثم جُمِع على معناها في قوله: «وإنَّهم ليَصُدُّونهم» و «يَحْسَبون أنهم»، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله: «جاءنا»، والباقون «جاءانا» مُسْنداً إلى ضميرِ تثنيةٍ، وهما العاشي وقَرينُه. (الدر المصون. ٩/ ٥٨٩) اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
ويحتمل أن يقول :﴿ يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين ﴾ في الآخرة.
ثم قوله :﴿ بُعد المشرقين ﴾ قال بعضهم : ما بين مشرق الصيف والشتاء. وقال بعضهم : يحتمل [ أن يكون ]١ بُعد المشرق عن٢ المغرب، لكن ذكر باسم ذلك أحدهما كما يقال :[ عُمَران وأسودان ]٣ سمّاهما باسم واحدهما، لأن الأسود منهما واحد، وهي الحية دون العقرب. والمراد من عُمَرين : أبو بكر وعمر. فعلى ذلك قوله :﴿ بُعد المشرقين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ فبئس القرين ﴾ حين٤ ألجأه، وألقاه في النار والإهلاك لما ذكرناه.
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: عمرين وأسودين..
٤ في الأصل وم: حيث..
وقوله: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) حيث ألجأه وألقاه في النار والإهلاك؛ لما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ... (٣٩) أي: لا ينفعكم في الآخرة الاعتذار (إِذْ ظَلَمْتُمْ) في الدنيا؛ أي: وضعتموها غير مواضعها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ) ظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٤٠) ولا يملك هداية من كان في ضلال مبين.
ثم معلوم أنه لم يرد بالهدى هداية البيان، ولا إسماع الآذان؛ لأن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يملك ذلك كله، وقد فعل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكنه أراد الهداية التي لا يملكها إلا هو، والإسماع الذي لا يملكه غيره، وهو التوفيق والعصمة والرشد الذي إذا أعطي من أعطي اهتدى؛ يذكر عجز رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وهو على المعتزلة؛ لأنه أخبر أن عنده لطائف وأشياء لم يعطها كل أحد، إنما أعطى بعضها دون بعضٍ، فمن أعطاه تلك اللطائف اهتدى، وهو ما ذكرنا من التوفيق والعصمة، وعلى قولهم ليس عند اللَّه شيء يملك به هدايتهم؛ لأنهم يقولون: قد أعطى كل كافر ما لو أراد الكافر أن يهتدي يصير مهتديًا بذلك، ولم يبق عنده شيء يملك بذلك هدايتهم؛ فعلى قولهم عجزه - تعالى - عن ذلك كعجز رسول اللَّه عن ذلك، وهو إنما ذكر ذلك إعلامًا أنه هو المالك لذلك دون عباده، ومعلوم أنه إنما ذكر على الربوبية والألوهية له في ذلك، واللَّه الموفق.
وجائز أن يكون قوله - تعالى -: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) إنما ذكر لإياس رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن إيمان قوم علم اللَّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فيه دلالة منع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن سؤال إنزال العذاب الموعود لهم عليهم، ثم المنع فيه من وجهين:
أحدهما: النهي عن سؤال بيان الوقت أن يسأل متى ينزله عليهم؟
ثم معلوم أنه لم يُرد بالهدى هداية البيان ولا إسماع الآذان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يملك ذلك كلّه، وهو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أراد الهداية التي لا يملك إلا هو، والإسماع [ الذي ]١ لا يملك غيره، وهو التوفيق والعصمة والرُّشد الذي إذا أعطى من أعطى اهتدى.
يذكر عجز رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وهو على المعتزلة لأنه أخبر أن عنده لطائف وأشياء لم يُعطها كل أحد، إنما أعطى بعضها دون بعض. فمن أعطاه تلك اللطائف اهتدى، وهو ما ذكرنا من التوفيق والعصمة.
وعلى قولهم : ليس عند الله شيء يملك به هدايتهم لأنهم يقولون : قد أعطى كل كافر ما لو أراد الكافر أن يهتدي يصير مهتديا بذلك، ولم يبق عنده شيء يملك بذلك هدايتهم.
فعلى قولهم : عجزه تعالى عن ذلك كعجز رسول الله عن ذلك. وهو إنما ذكر ذلك إعلاما أنه هو المالك لذلك دون عباده.
ومعلوم أنه إنما ذكر على الربوبية والألوهية له [ والله الموفّق ]٢.
وجائز أن يكون قوله تعالى :﴿ أفأنت تُسمع الصمّ أو تهدي العُمى ﴾ إنما ذكره لإياس رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيمان قوم، علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، والله أعلم.
أحدهما : النهي عن سؤال بيان الوقت أن يسأله متى يُنزله عليهم ؟
والثاني : النهي عن استعجاله كقوله :﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ الأحقاف : ٣٥ ] كأنه يقول : ليس ذلك [ إليك إنما ذلك }١ إلى أن شئت أنزلت في حياتك، وأريتُك ذلك، وإن شئت أمتُّك، ولم أُرك شيئا، وهو كما قال :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ الآية [ آل عمران : ١٢٨ ].
وقال قتادة في ذلك : إن الله تعالى أذهب نبيه صلى الله عليه وسلم وأبقى النقمة بعده، ولم يُره في أمته إلا الذي يقرّ به عينه. وليس نبي أو رسول إلا وقد رأى في أمّته العقوبة غير نبيكم، عافاه الله تعالى عن ذلك، ولا أراه إلا ما يقرّ به عينه.
وقال : وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أُري الذي تلقى أمّته من بعده، فما زال منقبضا، ما استشاط ضحِكا حتى لحق بالله تعالى.
وقال الحسن قريبا من قول قتادة في قوله تعالى :﴿ فإما نذهبنّ بك فإنا منهم منتقمون ﴾ قال : أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يُريه في أمته ما يكره، ورفع الله تعالى، وبقيت النقمة.
أحدهما : النهي عن سؤال بيان الوقت أن يسأله متى يُنزله عليهم ؟
والثاني : النهي عن استعجاله كقوله :﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ الأحقاف : ٣٥ ] كأنه يقول : ليس ذلك [ إليك إنما ذلك }١ إلى أن شئت أنزلت في حياتك، وأريتُك ذلك، وإن شئت أمتُّك، ولم أُرك شيئا، وهو كما قال :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾ الآية [ آل عمران : ١٢٨ ].
وقال قتادة في ذلك : إن الله تعالى أذهب نبيه صلى الله عليه وسلم وأبقى النقمة بعده، ولم يُره في أمته إلا الذي يقرّ به عينه. وليس نبي أو رسول إلا وقد رأى في أمّته العقوبة غير نبيكم، عافاه الله تعالى عن ذلك، ولا أراه إلا ما يقرّ به عينه.
وقال : وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أُري الذي تلقى أمّته من بعده، فما زال منقبضا، ما استشاط ضحِكا حتى لحق بالله تعالى.
وقال الحسن قريبا من قول قتادة في قوله تعالى :﴿ فإما نذهبنّ بك فإنا منهم منتقمون ﴾ قال : أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يُريه في أمته ما يكره، ورفع الله تعالى، وبقيت النقمة.
وقال قتادة في ذلك: إن اللَّه - تعالى - أذهب نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأبقى النقمة بعده، ولم يره في أمته إلا الذي تقر به عينه، وليس نبي أو رسول إلا وقد رأى في أمته العقوبة غير نبيكم، عافاه اللَّه - تعالى - عن ذلك، ولا أراه إلا ما يقر به عينه، قال: وذكر لنا أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أري الذي تلقى أمته من بعده، فما زال إلا منقبضًا ما استشاط ضحكًا حتى لحق بالله تعالى.
وقال الحسن قريبًا من قول قتادة في قوله - تعالى -: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) قال: أكرم اللَّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يريه في أمته ما يكره، ورفعه اللَّه - تعالى - وبقيت النقمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) الوحي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من وجوه ثلاثة:
أحدها: القرآن، وهو الظاهر من الوحي إليه.
والثاني: وحي بيان، يبين للناس ما لهم وما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض على لسان الملك جبريل أو غيره؛ على ما أراد اللَّه تعالى.
والثالث: وحي إلهام وإفهام، كقوله - تعالى -: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، وما أراه اللَّه - تعالى - هو ما ألهمه وأفهمه أمره - عَزَّ وَجَلَّ - بالتمسك على أنواع ما أوحي إليه ما هو قرآن وما هو بيان، وما هو إفهام، وأراه وآمنه أن يزيغ أو يزل أو يعدل عن الصواب في ذلك كله، ويبشره في ذلك كله أنك لو تمسكت بجميع ما أوحي إليك كنت على صراط مستقيم؛ حيث قال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (٤٤) جائز أن يكون المراد بالذكر جميع أنواع ما أوحي إليه؛ فإن قوله: (وَإِنَّهُ) كناية عن قوله: (بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي: جميع ما
ويحتمل أن يكون المراد من الذّكر حقيقة الذّكر، أي ما أوحي إليه ذكر له ولقومه ؛ يذكّرهم ما لله عليهم وما لبعضهم على بعض، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وسوف تُسألون ﴾ يحتمل ﴿ وسوف تُسألون ﴾ شُكر ما أوحي إليك وأن يصير ما أوحي إليك ذِكرا لك ولقومك وعن القيام بشُكر ذلك.
ويحتمل :﴿ وسوف تسألون ﴾ القيام بالأداء١ جميع القرآن وفي ما أوحي إليه.
ويحتمل :﴿ وسوف تُسألون ﴾ من كذّبه على ما يقول بعض أهل التأويل ؟
[ ويحتمل ]٢ :﴿ وسوف تسألون ﴾ أشكرتم تلك النعمة أم لا ؟
ويحتمل :﴿ وسوف تسألون ﴾ يوم القيامة عن القرآن : هل عملتم بما فيه ؟ والله أعلم.
٢ في الأصل وم: أو..
ويحتمل أن يكون المراد من الذكر حقيقة الذكر؛ أي: ما أوحي إليه ذكر له ولقومه، يذكر لهم ما لله عليهم وما لبعضهم على بعض، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) يحتمل: وسوف تسألون بشكر ما أوحي إليك، وأن يصير ما أوحي إليك ذكرًا لك ولقومك، وعن القيام بشكر ذلك.
ويحتمل: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) القيام بأوامر جميع القرآن وفيما أوحي إليه.
ويحتمل: (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) مَن كذبه؟ على ما يقول بعض أهل التأويل.
أو (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) أشكرتم تلك النعمة أم لا؟
ويحتمل (وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) يوم القيامة عن القرآن هل عملتم بما فيه؟ واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) والإشكال: أن ما كان عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من آيات صدقه أظهر من أمره أن يسأل من أهل الكتاب؛ إذ آيات صدقه معجزات عجزت الكفرة عن إتيان مثلها، وليس مع من أمره بالسؤال عن ذلك آيات المعجزات، فما معنى السؤال له من أهل الكتاب عن ذلك؟ فنقول: أمره - عَزَّ وَجَلَّ - إياه بالسؤال عنهم يخرج على وجهين:
أحدهما: يسألهم سؤال توبيخ وتعيير، وسؤال تقرير وتنبيه: هل أتى رسول من الرسل - عليهم السلام - الذين أرسلوا من قبلك أو كتاب بالأمر بعبادة غير اللَّه؟ فيقرون جميعًا أنه لم يأت رسول بإباحة ذلك، ولا أمر أحد منهم بذلك.
والثاني: أن هذا أمر لغيره أن يسألهم، وإن كان ظاهر الأمر والخطاب له؛ لما ذكرنا أن
ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا...) الآية؛ أي: لو سألتهم عن ذلك لقالوا جميعًا: لم يرسل بأمر بعبادة غير اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم.
وحكاية على هذا -وليس من نسخة الأصل- سمعت مفسرًا ببخارى يقول: نزلت هذه الآية ليلة المعراج ورسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما دخل بيت المقدس رأى الرسل والأنبياء - عليهم السلام - مجتمعين، ثم تقدم وصلى بهم ركعتين، فقام جبريل - عليه السلام - من الصف وقال: يا مُحَمَّد (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ | (٤٦) قد ذكرنا آيات موسى - عليه السلام - التي أتى بها في غير موضع، وفيه الأمر بتبليغ الرسالة. |
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (٤٧) هكذا عادة الفراعنة والرؤساء من الكفرة أنهم إذا أتاهم الرسل بالآيات ضحكوا منهم، واستهزءوا بهم؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ...) الآية.
وقوله: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن كل آية تأخرت عن الآية الأخرى فهي أعظم وأكبر من التي تقدمت؛ نحو ما كان منهم من الاستعانة؛ حيث قالوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ)، ثم هو مما أراهم من الآيات قبل ذلك أعظم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) وكانت اليد أعظم وأكبر من العصا؛ لأن العصا قد تهيأ للسحرة تمويهها وتحويلها من جنس العصا وجوهرها إلى غيرها من الجواهر، ولم يتهيأ لهم تحويل اليد عن جوهر اليد، وقد كان ذلك لموسى - عليه
وقال بعضهم :﴿ إلا هي أكبر من أختها ﴾ كانت اليد أعظم وأكبر من العصا لأن العصا قد تتهيأ للسّحرة تمويها، وتحويلها من جنس العصا في جوهرها إلى غير الجواهر، ولم يتهيأ لهم تحويل اليد عن جوهر اليد، وقد كان ذلك لموسى. دلّ أن آية اليد أكبر من آية العصا، والله أعلم.
وقال بعضهم : هذا ليس على تحقيق جعل آية أكبر وأعظم من آية العصا. ولكن وصف الكل بالعِظم والكِبر كقوله تعالى :﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعا ﴾ [ النساء : ١١ ] ليس على إثبات القُرب في أحدهما دون الآخر. ولكن وصف قرب كل واحد منهما من الآخر على السؤال، وكما يقال في العُرف : إن أفراس فلان، كل واحد أعدى من الآخر، وإن أصحاب فلان، كل واحد أفضل من الآخر، وإنه لا يُراد بذلك الترجيح، ولكن إثبات الخبر على السؤال.
فعلى ذلك قوله تعالى :﴿ وما نُريهم من آية إلا هي أكبر من أختها ﴾ وصف لهما جميع بالكِبر، والله أعلم.
ثم ذكر قوله تعالى :﴿ فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ﴾ وغير ذلك من أمثاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبّره على أذى قومه وأنواع ما كانوا يستقبلون من الاستهزاء به وبأتباعه والضحك بما أتاهم من الآيات والحجج على رسالته. وعلى ذلك ما قال :﴿ وكلاّ نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نُثبّت به فؤادك ﴾ [ هود : ١٢٠ ] أخبر أنه إنما قصّ عليه أنباء الرسل المتقدمة لتسلية فؤاده، والله أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا ليس على تحقيق جعل آية أكبر وأعظم من آية العصا، ولكن وصف الكل بالعظم والكبر؛ كقوله - تعالى -: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)، ليس على إثبات القرب في أحدهما دون الآخر، ولكن وصف قرب كل واحد منها من الآخر على السؤال، وكما يقال في العرف: إن أفراس فلان كل واحد أعدى من الآخر، وإن أصحاب فلان كل واحد أفضل من الآخر، وأنه لا يراد بذلك الترجيح، ولكن إثبات المخبر عنه؛ فعلى ذلك قوله - تعالى -: (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا) وصف لهما جميعًا بالكبر، واللَّه أعلم.
ثم ذكر قوله - تعالى -: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ) وغير ذلك من أمثاله لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليصبره على أذى قومه، وأنواع ما كانوا يستقبلونه من الاستهزاء به وبأتباعه، والضحك بما أتاهم من الآيات والحجج على رسالته، وعلى ذلك ما قال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) أخبر أنه إنما قص عليه أنباء الرسل المتقدمة لتسلية فؤاده، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) والإشكال أنهم كيف يسمونه ساحرًا وكانوا يطلبون منه أن يدعو ربه ويسأله حتى يكشف عنهم العذاب؟
فنقول: روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: سموه: ساحرًا؛ لأن الساحر عندهم هو العالم المعظم الذي بلغ في العلم غايته ونهايته؛ لذلك قالوا: يا ساحر، ادع لنا ربك، وإلا لا يحتمل أن يكونوا يسألونه ويطلبون منه أن يدعو ربه ليكشف عنهم العذاب، ثم يسمونه: ساحرًا ويعنون به: سحرًا للكذب والباطل، واللَّه أعلم.
وقال مقاتل: إنهم قالوا: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) قال لهم موسى - عليه السلام -: كيف أدعو ربي ليكشف عنكم ما ينزل بكم، وقد تسمونني ساحرًا، فرجعوا عن ذلك فقالوا: (يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ)؛ على ما ذكر في سورة الأعراف: الآية، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قولهم: (يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) سموه: ساحرًا على ما كان عندهم أنه ساحر، فيقولون: إنك ساحر، إلا أن تدعو ربك فيكشف عنا الرجز؛ فعند ذلك
ويحتمل أن يكون عندهم أن اليد البيضاء والعصا، وما أتى به موسى مما يبلغ السحر إلى تغيير ذلك عن جوهره، ويستفاد بالسحر مثله، لكن سألوا منه أن يسأل ربه ما ذكروا؛ لما علموا أن إجابة الدعاء فيما دعا لا يكون لساحر، ولا يجاب إلا للرسول والذي على الحق، فإذا أجابك إلى ما سألت آمنا بك، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك على حقيقة إرادة السحر على التناقض والتمويه على الأتباع؛ كقوله: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا)، فالآية لا يسحرهم بها؛ لأن الآية هي التي لا حقيقة لها ولا دوام، فإذا كان آية لا يسحرهم بها، ولا تكون سحرًا، وإذا كان سحرًا لا يكون آية، فكانت عامة أقوالهم خرجت على التناقض؛ على ما ذكرنا في غير آي من القرآن، فعلى ذلك يحتمل هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) قد كان اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عاهد موسى - عليه السلام - لئن آمنوا، أكشف عنهم العذاب، فلما دعا وكشف عنهم العذاب، لم يؤمنوا، واللَّه أعلم.
ويشبه أن يكون عهده إليه ما جعله نبيًّا واختصه لرسالته.
ويحتمل قوله - تعالى -: (بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) على الإضمار؛ كأنهم قالوا: ادع لنا ربك بما عهد كل واحد منا عندك لئن كشفت عنا العذاب إنا لمهتدون، وهو قوله - تعالى - في آية أخرى: (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ)، ألا ترى أنه قال: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) أي: ينقضوا ما عهدوا، وعهدهم ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٥١) يقول اللعين هذا مقابل ما ادعى موسى - عليه السلام - من الرسالة، يموه بذلك على قومه وأتباعه؛ أي: لئن كان اللَّه أرسل رسولا، فأنا أحق وأولى بالرسالة من موسى؛ ولذلك قال: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي؛ ضعيف لا مال له، ولا حشم، ولا تبع، (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) حجته، وكذلك قال: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) كما ألقي عليَّ، وكما أعطاني من المال والذهب.
أو يقول: إن من كان له رسول يكرمه بأنواع الكرامات ويبذل له أموالا، فإذ لم يؤته شيئًا من ذلك فليس برسول.
أو يقول؛ إنه لو كان رسولا كما يقول، لألقى اللَّه عليه من الأساورة ما ألقيت أنا على
وكان فرعون لا يزال يموه أمر موسى - عليه السلام - على قومه، من ذلك قوله: (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ)، ومنه قوله: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، ونحو ذلك كثير، فعلى ذلك هذا منه تمويه على قومه، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (٥٢).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: لا يكاد يبين حجته؛ لما في لسانه عقدة ورُتَّة؛ يقول: عيي اللسان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن فرعون لا يعني ذلك؛ لأن اللَّه - تعالى - قد أذهب تلك العقدة والرتة التي في لسانه حين دعا وسأل ربه بقوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي)، وقد أجاب اللَّه دعاءه؛ حيث قال: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)، ولكن أراد - واللَّه أعلم -: لا يكاد يبين حجته؛ أي: ليس يأتي بحجة تأخذ القلوب.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ في قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) قال: أما أنا خير منه؟ وقال أهل التأويل: أنا خير منه.
وجائز أن يكون قوله: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) موصولا بقول فرعون حيث قال: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أنا خير منه بأن لي ملك مصر، وليس لموسى - عليه السلام - ذلك؛ على ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) هذا القول منه يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: إن كان موسى يدعي الملك في الدنيا ويطلبه فهلا ألقي عليه أساور من ذهب كما يلقى للملوك من الأساور، والتاج، وغير ذلك، وإن كان يدعي الرسالة لنفسه فهلا كان معه الملائكة مقترنين؛ ولا يزال الكفرة يطلبون من الرسل الآيات على وجه يتمنون هم ويشتهون، فأخبر أن الآيات ليست تأتي على ما يتمنون ويشتهون، ولكن على ما أراد اللَّه تعالى.
والثاني: يجمع الأمرين جميعًا فيقول: إنه يدعي الرسالة، والرسول معظم عند
أحدهما : يقول : إن كان موسى يدّعي المُلك في الدنيا، ويطلبه فهلا أُلقي عليه أساور من ذهب كما يُلقى على الملوك من الأساور والتاج وغير ذلك. وإن كان يدّعي الرسالة /٤٩٩-أ/ بنفسه فهلاّ كان معه الملائكة مقترنين ؟ ولا يزال الكفرة يطلبون من الرسل الآيات على وجه، يتمنّونه١، ويشتهون. فأخبر أن الآيات ليست تأتي على ما يتمنّون، ويشتهون، ولكن [ على ]٢ ما أراد الله تعالى.
والثاني : يجمع الأمرين جميعا، فيقول : إنه يدّعي الرسالة، والرسول معظّم عند المُرسِل، فيقول : إن كان ما يقول حقا فهلاّ أُلقي عليه الأساور تعظيما له ؟ وهلاّ كان معه الملائكة مقترنين تعظيما له وإجلالا ؟ والله أعلم.
وقال بعضهم : في قوله :﴿ فلولا أُلقي عليه أسوِرة من ذهب ﴾ أي هلاّ سُوِّر لأن الرجل منهم إذا ارتفع فيهم سوّروه، أو جاء معه الملائكة مصدّقين له بالرسالة.
وقال القتبيّ وأبو عوسجة : أساور وأسورة جمع السّوار، والرجل إسوار أي رام، وقوم أساورة، وإنما سمّي الرامي إسوارا لأنه إذا أجاد الرمي جُعل في يده سوار من ذهب
٢ من م، ساقطة من الأصل..
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي: هلا سوّر؟ لأن الرجل منهم إذا ارتفع فيهم سوروه، أو جاء معه الملائكة مصدقين له بالرسالة.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: أساور وأسورة جمع السوار، ورجل أسوار؛ أي: رامي، وقوم أساورة، وإنما سمي الرامي: أسوارًا؛ لأنه إذا أجاد الرمي جعل في يده سوارًا من ذهب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (٥٤)
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: فاستخف بقومه واسترذلهم فأطاعوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) أي: استرذلهم واستفزهم بالخروج على أتباع موسى وطلبه فأطاعوه، وذلك أنه أمرهم بالخروج معه في طلب موسى لما خرج من عندهم نحو البحر، فأطاعوه في ذلك، وخرجوا معه في طلبه، حتى أصابهم ما أصابهم؛ وكأن هذا أشبه وأقرب، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥).
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: فلما عملوا الأعمال التي استوجبوا لها الغضب انتقمنا منهم على ذلك؛ لأن ظاهر قوله - تعالى -: (آسَفُونَا) أي: أغضبونا، وصفة الغضب على الحدوث لله - تعالى - لا تجوز، فكأن المراد منه: ظهور أثر الغضب استوجب العذاب، والله أعلم.
والثاني: (فَلَمَّا آسَفُونَا) أي: أغضبوا أولياءنا (انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)؛ أي: سلطنا عليهم بدعاء أُولَئِكَ الأولياء.
أو ننتقم منهم بسبب إغضابهم أولياءنا، وهو كقوله - تعالى -: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياء اللَّه؛ فعلى ذلك هذا.
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦) هو يخرج على وجهين:
أحدهما: جعلناهم في العقوبة سلفًا للمتأخرين ومثلا للمؤمنين؛ أي: عبرة لهم، وهو كقوله: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).
أحدهما : أي فلما عملوا الأعمال التي استوجبوا لها الغضب انتقمنا منهم على ذلك، لأن ظاهر قوله :﴿ آسفونا انتقمنا منهم ﴾ أي أغضبونا. وصفة الغضب على الحدوث لله تعالى لا يجوز، فكان المراد منه ظهور أثر الغضب واستيجاب١ العذاب، والله أعلم.
والثاني :﴿ فلما آسفونا ﴾ أي أغضبوا٢ أولياءنا ﴿ انتقمنا منهم ﴾ أي سلّطنا عليهم بدعاء أولئك الأولياء، لننتقم منهم بسبب إغضابهم أولياءنا، وهو كقوله :﴿ يُخادعون لله ﴾ [ البقرة : ٩ ] أي يخادعون أولياء الله. فعلى ذلك هذا.
٢ في الأصل وم: أغضبونا..
أحدهما : جعلناهم في العقوبة سلفا للمتأخرين ومثلا للمؤمنين أي عبرة لهم، وهو كقوله :﴿ فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ﴾ [ البقرة : ٦٦ ].
والثاني :﴿ فجعلناهم سلَفًا ومثلا للآخرين ﴾ في العظة والانزجار لهم ليمتنعوا عن مثل ما فعلوا خوفا من الوقوع في ما وقعوا، والله أعلم.
وقل القُتبيّ :﴿ فجعلناهم سلَفًا ﴾ بالرفع والنصب١ وهو من التقدم، أي جعلناهم قُدُما ؛ تقدّموا، مثل خَشب وخُشُب وثَمَر وثُمُر.
وكذلك يقول أبو عوسجة، وقال : السّلف الخيرات والجميع سُلوف.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (فجعلناهم سلفًا) بالرفع والنصب، وهو من التقدم؛ أي جعلناهم قدمًا تقدموا، مثل: خَبَث، وخُبُث، وثَمَر، وثمُر.
وكذلك يقول أَبُو عَوْسَجَةَ؛ وقال: السلف: الخيرات، والجميع: سلوف.
* * *
قوله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) اختلف فيما ذكر من ضرب المثل لعيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام:
قَالَ بَعْضُهُمْ: لما نزل قوله - تعالى -: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) فقال أُولَئِكَ الكفرة الذين كانوا يعبدون الأصنام: إن عيسى عبد دونه، وعزير والملائكة يعبدون دونه، فهَؤُلَاءِ جميعًا في النار إذن؛ لأنهم عبدوا دونه، فإن كان هَؤُلَاءِ في النار فقد رضينا أن نكون معهم وهم معنا، وهو ما ذكروا على إثره: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) يعنون بقولهم: (هُوَ): عيسى - عليه السلام - فذلك منهم يخرج على وجهين:
أحدهما: لئن جاز أن يعذب عيسى - عليه السلام - ومن عُبِدَ من هَؤُلَاءِ دون اللَّه في النار رضينا أن تُعذب آلهتنا في النار؛ إذ هم ليسوا بخير من عيسى - عليه السلام - وهَؤُلَاءِ الذي عبدوا دون اللَّه من الملائكة وغيرهم.
والثاني: يقولون: إن كان عيسى يعذب في النار لما عبد دونه فآلهتنا التي نعبدها دونه خير منه فلا تعذب؛ لأنها خير.
فأحد التأويلين يرجع إلى أنهم يقولون: لو جاز وصلح أن يعذب كل معبود دونه جاز أن تعذب الأصنام التي نعبدها نحن.
فنقول: إنما يكون لهم هذا الاحتجاج بالآية؛ أن لو كانت الأصنام إنما تحرق في النار تعذيبًا لها، أعني: الأصنام؛ فأما إذا كانت الأصنام إنما تحرق بالنار تعذيبًا لمن عبدها، وعقوبة لمن اتخذها أربابًا دون اللَّه فلا، وإنما تحرق الأصنام التي اتخذوها من الحجارة والحديد والصُّفْر؛ لزيادة تعذيب العبدة؛ كقوله - تعالى -: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، مع أنه لا جناية من الأصنام، ولا ضرر لها بالإحراق؛ فكيف يحرق عيسى ومن عبد دونه من الملائكة، وفي إحراقهم تعذيبهم؛ إذ هم يتضررون بها، ولا جناية منهم، فإذا كان إدخال الأصنام التي عبدوها وإحراقها في النار لتعذيب أُولَئِكَ الذين عبدوها فلا معنى لتلك الخصومة والمجادلة التي كانت منهم، واللَّه أعلم.
وبعد: فإن في الآية بيانًا على أن الذي ذكر من جعل المعبود حصبًا للنار راجع إلى عبادة الأصنام والأوثان خاصة دون غيرهم؛ لأنه خاطب أهل مكة بقوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...) الآية، وأهل مكة كانوا لا يعبدون إلا الأصنام والأوثان، لا عيسى ولا غيره من البشر والملائكة، فذلك لهم ولكل عابد الأصنام دون غيرهم من المعبودين؛ استدلالا بهم، واللَّه أعلم.
على أن في الآية بيانًا - أيضًا - أنه لم يرجع إلى ما ذكروا من عيسى وغيره، فإنه قال: (وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وكلمة " ما " تستعمل في غير العقلاء من الجمادات وغيرها، لا في ذوات العقلاء.
وعلى أن في الآية بيانًا من وجه آخر - أيضًا - على أنهم غير مرادين بها، فإنه استثنى وخصّ بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، أخبر أن من سبقت له منه الحسنى يكون مبعدًا عنها، ولا شك أن عيسى والملائكة - عليهم السلام - قد سبقت لهم منه الحسنى، فلا يحتمل صرف تلك الآية إليهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ...) الآية
، إلى كل من منه الأمر بالعبادة لهم والدعاء إلى ذلك، وهم الشياطين؛ لأن من عبد دون اللَّه أحدًا إنما يعبده بأمر الشياطين ودعائهم إليه، فأما من كان يتبرأ من الأمر لهم بذلك وعبادتهم له فلا يحتمل، وذلك نحو قوله - تعالى -: (يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وقال إبراهيم لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ)
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لعيسى - عليه السلام - هو أن اللَّه - تعالى - لما ذكر عيسى - عليه السلام - في القرآن قال مشركو العرب من قريش لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما أردت بذكر عيسى؟ وقالوا: إنما يريد مُحَمَّد أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى وعبدته، فقالوا: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) فلا يصنع مُحَمَّد ذلك بآلهتنا، فواللَّه لهم خير من عيسى، أو ما قالوا؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي: إلا ليجادلوك بالباطل، وهو قول قتادة.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من ضرب المثل بابن مريم - عليهما السلام - من قومه - أعني: عيسى - لا من قوم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أن قومه قد اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: إنه إله وإنه رب، ومنهم من قال: إنه ابن الإله، ومنهم من قال: إنه وأمه إلهان، ونحو ذلك من الاختلاف الذي كان بينهم فيه، فيكون قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) قال قومه على ما ذكروا فيه، ثم قال: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي: يعرضون عن عيسى ويضجون على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
أو أن نكف ونمسك عن بيان ذكر المثل الذي ذكر في الآية؛ لما لا حاجة إلى ذلك، وهو شيء ذكره أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه أعلم.
ثم قوله - تعالى -: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قرئ برفع الصاد وكسرها.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (يَصِدُّونَ) بالكسر: يضجون، والتصدية منه، وهو التصفيق، ومن قرأ بالرفع يقول: يعدلون ويعرضون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) هو يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) أي: عبرة وآية لبني إسرائيل؛ لما كان هو مولودًا من غير والد، ولما كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وما كان منه من تكليمه للناس وهو في المهد، وغير ذلك من الآيات
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً... (٦٠) على وجهين:
أحدهما: أي: لو نشاء لجعلنا من جوهركم وجنسكم ملائكة؛ ليعلم أن إنشاء الملائكة من النور على ما ذكر ليس ذلك منه استعانة بذلك النور لإنشاء الملائكة منه قادر بذاته لا يعجزه شيء، ينشئ ما يشاء مما شاء كيف شاء.
والثاني: أي: لو نشاء لجعلنا الملائكة بدلا منكم نهلككم ونبدل مكانكم ملائكة لا يعصون، ولا يخالفون ولا يفترون عن العبادة ولا يستحسرون، لكن لم يفعل ذلك؛ لما ليس في عصيان من عصاه ولا مخالفة من خالفه له ضرر، ولا بطاعة من أطاعه واتبع أمره ونهيه نفع، ولا أنشأ هذا العالم والخلق لحاجة نفسه، ولا امتحنهم بأنواع المحن لمنفعة نفسه، ولا لمضرة يدفع بذلك عن نفسه، ولكن أنشأهم وامتحنهم لحاجة أنفسهم، فإذا كان ما ذكرنا: إنشاء ما يعلم أنه يعصيه ولا يطيعه حكمة، وفعل من يعلم في الشاهد أنه يضره ولا ينفعه سفه؛ لأنه إنما يفعل ما يفعل لحاجة نفسه، فصار فعله مع علمه ما ذكرنا يكون سفهًا، فافترق الأمران، واللَّه الموفق.
ثم قوله - تعالى -: (مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: يخلف الملائكة بعضهم بعضًا، قرنًا عن قرن بالتناسل والتوالد؛ كالبشر يخلف بعض بعضًا، قرنًا عن قرن بالتناسل والتوالد؛ إذ ليس في الملائكة توالد ولا تناسل.
والثاني: (يَخْلُفُونَ) أي: يكونون خلفًا وبدلا عنكم بعد هلاككم على ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ... (٦١) وعَلَمٌ للساعة كلاهما قد قُرئا، ثم اختلف في ذلك:
فمنهم من يقول: هو عيسى، يكون نزوله من السماء علمًا للساعة وآية لها؛ فيكون على هذا هو صلة ما تقدم من قوله: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) كأنه قال: (وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا) أي: آية وعبرة لهم على ما ذكرناه، وجعلناه - أيضًا - علمًا للساعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي: مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه من القرآن
فمنهم من يقول : هو عيسى يكون نزوله من السماء عَلَما للساعة وآية لها، فيكون على هذا هو صلة ما تقدّم من قوله :﴿ وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ﴾ كأن قد قال : وجعلناه مثلا أي آية وعبرة لهم على ما ذكرنا، وجعلناه أيضا عَلَما للساعة.
وقال بعضهم : قوله : إنه لعَلَم للساعة : أي محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن عَلَم للساعة لأنه به ختم النبوّة والرسالة، وقال :( بُعثت أنا والساعة كهاتين ) [ البخاري ٦٥٠٣ ] وأشار إلى أصبعين من يده، وإنما بعثه الله تعالى [ عند قُرب الساعة، فهو عَلَم للساعة ]٢ عند من قرأ لعَلَم للساعة بالتثقيل ؛ فمعناه العلامة لها والدليل عليها.
ومن قرأ :﴿ لعِلْم للساعة ﴾ بالجزم فمعناه يُعلم به قرب الساعة.
وقوله تعالى :﴿ فلا تمترُن بها ﴾ أي لا تشُكّن بالساعة فإنها كائنة، لا محالة. وعلى ذلك يقولون في بعض التأويلات في قوله تعالى :﴿ فقد جاء أشراطها ﴾ [ محمد : ١٨ ] أي أعلامها أي محمد، عليه أفضل الصلاة وأكمل التحيات، وقوله تعالى :﴿ واتّبعون هذا صراط مستقيم ﴾.
فإن كان قوله : وإنه لعَلَم للساعة، هو محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه قال عليه السلام : أنا عَلَم للساعة، وقريب منها فاتبعوني.
وإن كان [ قوله :﴿ وإنه لعِلم للساعة ﴾ ]٣ عيسى، على نبينا وعليه السلام، فيقول٤ : إنه عِلم للساعة، وآية لها فاتّبعوني قبل أن يُخرج، ويُنزل.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ الفاء ساقطة من الأصل وم..
ثم قراءة (عَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) بالتثقيل، فمعناه: العلامة لها والدليل عليها، ومن قرأ (عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) بالجزم، فمعناه: يعلم به قرب الساعة.
وقوله: (فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا) أي: لا تشكنّ بالساعة فإنها كائنة لا محالة، وعلى ذلك يقولون في بعض التأويلات في قوله - تعالى -: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)، أي: أعلامها؛ أي: مُحَمَّد، عليه أكمل التحيات.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فإن كان قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) هو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فكأنه قال - عليه السلام -: أنا علم للساعة وقريب منها فاتبعوني، وإن كان عيسى - على نبينا وعليه السلام - يقول: إنه علم للساعة وآية لها، فاتبعوني قبل أن يخرج وينزل.
وقوله: (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢).
يحتمل قوله - تعالى -: (وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) عن الإيمان بالساعة وكونها؛ فإنه عدو مبين.
ويحتمل: لا يصدنكم عن مُحَمَّد وعن الصراط المستقيم الذي ذكر؛ فإنه عدو مبين بين عداوته إياكم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣).
قال أهل التأويل: بيناته: هي ما كان يأتي به من نحو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإنباء بما يأكلون وما يدخرون، ونحو ذلك.
والأصل في آيات الأنبياء والرسل أنها كانت من وجوه ثلاثة تُلزمهم التصديق بهم:
أحدها: ما يأتون في كل شيء صغر أو عظم، دلالة ذلك ما يعلم كل ذي لب وعقل على أن ذلك حكمة وعقل عليهم اتباعهم في ذلك، وهو توحيد اللَّه - تعالى - وتنزيهه عما لا يليق به، واللَّه أعلم.
والثاني: كانت في أنفسهم وأحوالهم التي كانوا عليها بينات تلزمهم تصديقهم، وهو أنهم لبثوا بين أظهرهم، وكانوا فيهم طول عمرهم، فلم يؤخذ عليهم كذب قط، ولا ظهر منهم ما يرجع إلى دناءة الأخلاق، ولا شيء من ذلك، واللَّه أعلم.
والثالث: ما كانوا يأتون من الأفعال والمعجزة الخارجة عن توهم العباد والمعتاد من فعلهم يلزم كل صنف قبولها.
والأصل في آيات الأنبياء والرسل عليهم السلام أنها كانت من وجوه ثلاثة تُلزمهم التصديق بهم :
أحدها : ما يأتون [ به من ]١ كل شيء، صَغُر، أو عَظُم ؛ دلالة ذلك ما يعلم كل ذي لبّ وعقل أن ذلك حكمة وحق٢، عليهم اتّباعهم في ذلك، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عمّا [ لا ]٣ يليق به، والله أعلم.
والثاني : كانت في أنفسهم وأحوالهم التي كانوا عليها بينات تُلزمهم تصديقهم، وهو أنهم لبثوا بين أظهرهم، وكانوا فيهم طول عمرهم، فلم يأخذ عليهم كذب قط، ولا ظهر منهم ما يرجع إلى دناءة الأخلاق ولا شيء من ذلك، والله أعلم.
والثالث : ما كانوا يأتون من الأفعال المعجزة عن توهّم العباد والمعتاد من فعلهم [ لَيُلزِم كل مُنصف ]٤ قبولَها. فعلى هذه الوجوه التي ذكرنا كانت آيات الرسل عليهم السلام والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ قال قد جئتكم بالحكمة ﴾ قال بعضهم : الحكمة ههنا هي الإنجيل. وقد ذكر في آية أخرى الكتاب والحكمة حين٥ قال :﴿ وإذا علّمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ﴾ [ المائدة : ١١٠ ].
ثم جائز أن يكون الكل واحدا، وجائز أن يكون الكتاب ما يُكتب، ويُتلى، والحكمة ما أُودع في المتلوّ والمكتوب من المعنى، والله أعلم.
ويحتمل أن تكون الحكمة راجعة إلى كل ما يوجب العقل القول به وفعله٦، وقد ذكرنا في ما تقدم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولأبيّن لكم بعض الذي تختلفون فيه ﴾ قال بعضهم : أي أبيّن لكم كل الذي تختلفون فيه، إذ لا يجوز أن يبيّن بعضا، ويترك [ بيان بعض ]٧وقد يُذكر البعض، ويراد به الكل، نحو ما يقال في كثير من المواضع : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بذلك أمّته.
ويحتمل أن يكون المراد من البعض، هو البعض نفسه لا الكل. ثم يخرّج على وجوه ثلاثة :
أحدها : أي أبيّن لكم بعض ما تختلفون فيه، فيأتيكم رسول من بعدي، ويبين لكم باقي ذلك، أو كلام نحوه، لأنه لم يقل : أبيّن لكم بعض ما اختلفتم فيه، ولكن قال :﴿ بعض الذي تختلفون فيه ﴾ فهو في الظاهر على الاستقبال.
والثاني : يقول : أبيّن لكم أصول٨ ما تقدرون على استخراج الفروع من تلك الأصول، والله أعلم. /٥٠٠-أ/
والثالث : يقول : أبيّن لكم الذي تختلفون فيه، وهو يرجع إلى أمر الدين دون الراجع إلى أمر المعاش، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله وأطيعونِ ﴾ في ما آمركم به، وأدعوكم إليه، وأنهاكم عنه.
ويحتمل أن يكون يقول : اتقوا مهالككم، والزموا ما به نجاتكم، وأطيعوني في ذلك.
٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: وعقل..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل وم: لا يلزم كل ضعف..
٥ في الأصل وم: حيث..
٦ في الأصل وم: وقوله..
٧ في الأصل وم: البيان لبعض..
٨ في الأصل وم: الأصول..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الحكمة - هاهنا - هي الإنجيل، وقد ذكر في آية أخرى الكتاب والحكمة؛ حيث قال: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ).
ثم جائز أن يكون الكل واحدًا.
وجائز أن يكون الكتاب: ما يكتب ويتلى والحكمة: ما أودع في المتلو والمكتوب من المعنى، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن تكون الحكمة راجعة إلى كل ما يوجب العقل للقول به وقوله، وقد ذكرناه فيما تقدم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أبين لكم كل الذي تختلفون فيه؛ إذ لا يجوز أن يبين بعضًا ويترك البيان لبعض، وقد يذكر البعض ويراد به الكل؛ نحو ما يقال في كثير من المواضع: الخطاب للرسول - عليه السلام - والمراد بذلك أمته.
ويحتمل أن يكون المراد من البعض هو البعض نفسه لا الكل.
ثم هو يخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: أي: أبين لكم بعض ما تختلفون فيه، ثم يأتيكم رسول بعدي ويبين لكم باقي ذلك، أو كلام نحوه؛ لأنه لم يقل: أبين لكم بعض ما اختلفتم فيه، ولكن قال: (بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)، فهو في الظاهر على الاستقبال.
والثاني: يقول: أبين لكم الأصول ما تقدرون على استخراج الفروع من تلك الأصول، واللَّه أعلم.
والثالث: يقول: أبين لكم الذي تختلفون فيه، وهو يرجع إلى أمر الدِّين دون الراجع إلى أمر المعاش، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأدعوكم إليه وأنهاكم عنه.
ويحتمل أن يكون يقول: اتقوا مهالككم، والزموا ما به نجاتكم، وأطيعوني في ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) ذكر هذا؛ ليعلموا أنه وإن عظم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون حرف " من " صلة زائدة، ومعناه: فاختلف الأحزاب بينهم، والاختلاف فيما بينهم في عيسى أمر ظاهر بين (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي: اختلف الأحزاب من اختراع كان منهم فيما بينهم، أو كلام نحوه؛ ولذلك كان الاختلاف الواقع بينهم إنما كان باختراع من ذات أنفسهم، لا أن كان ذلك سماعًا من الرسل - عليهم السلام - ولذلك نهى هذه الأمة عن الاختلاف والتفرق؛ حيث قال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)، وقد اختلفت هذه الأمة بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى قاتلهم أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك، واتبعه سائر الصحابة على ذلك، حتى قاتل الرجال، وسبى النساء والذراري، وظهرت - أيضًا - الخوارج في زمن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك، حتى اجتمعوا على الوفاق، وغير ذلك من الاختلاف والتفرق الذي كان ظهر ووقع فيما بينهم، وكان في ذلك دلالة الرسالة لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه أنهم يختلفون بعد وفاته، وأنهم ينقلبون على أعقابهم؛ حيث قال: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...) الآية، وقال في ارتدادهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، هذا في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال في علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية، وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يقاتل هذا بالتأويل كما نقاتل نحن على التنزيل " يعني: عليًّا - رضي الله عنه - وقد كان كل ما ذكر من الاختلاف والتفرق والتنازع في الدِّين من الانقلاب على الأعقاب والارتداد والامتناع عن إيتاء الزكاة، وإتيان ما ذكر من قوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وغلبة حزب اللَّه وأهل توحيده على أُولَئِكَ؛ ففي ذلك كله دلالة إثبات الرسالة؛ إذ خرج على ما أخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذكر في المستقبل، واللَّه أعلم.
ثم إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بفضله وبرحمته رفع ذلك الاختلاف والتفرق والتنازع بينهم، وجمعهم على ألفة وحب، ولم يرفع من بين أُولَئِكَ فقال: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) والأحزاب: الفرق الذين تحزبوا؛ أي: تفرقوا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) هي ظاهرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي: فجأة (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) وبإتيانها وقيامها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (٦٧).
يحتمل قوله: (إِلَّا الْمُتَّقِينَ): الموحدين، فتكون خلة أهل الكفر فيما بينهم في الدنيا عداوة في الآخرة؛ لقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)، وما ذكر في غير آي من القرآن من لعن بعضهم بعضًا، وتبرؤ بعضهم عن بعض، كقوله - تعالى -: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا...) الآية، وأما خلة الموحدين المؤمنين فيما بينهم فهي خلة في الدارين جميعًا؛ هذا يحتمل، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) استثنى خلة من اتقى النار بنفسه ووقى صاحبه - أيضًا - بما أمره بالطاعات لله - تعالى - والقيام بالخيرات، وزجره عن معاصيه ومخالفة أمره، كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)، أمرهم بوقاية أنفسهم وأهليهم نارًا، وإنَّمَا يتقون تلك النار بالقيام بالأسباب التي أمروا بالقيام بها، والامتناع والانتهاء عما نهوا عنها وزجروا منها، فكل خلة فيما بين المؤمنين على هذا الوجه فهي خلة ومودة في الدارين جميعًا، لا تصير عداوة؛ لأنها لله - تعالى - وطلب مرضاته، فأما الخلة التي تكون فيما بينهم للدنيا فهي تصير عداوة - أيضًا - على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقد روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الأخلاء أربعة: مؤمنان وكافران، فمات أحد المؤمنين فيسأل عن خليله، فقال: اللهم لم أر خليلا آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر منه، اللهم اهده كما هداني وأمته على ما أمتني؛ فإنه كان يأمرني بالمعروف والخيرات والطاعة لك، وينهاني عن المنكر والشر والمعصية لك، ومات أحد الكافرين، فيسأل عن خليله، فقال: اللهم لم أر خليلا آمر بمنكر ولا أنهى عن معروف منه، اللهم أضله كما أضلني، وأمته كما أمتني، قال: ثم يبعثون يوم القيامة، فقال: لعن بعضكم على بعض،
وأمّا خلّة الموحّدين في ما بينهم فهي خلّة في الدارين جميعا. هذا يحتمل، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ﴾ استثنى خلّة من اتقى النار بنفسه، ووقى صاحبه أيضا مما أمره بالطاعات لله تعالى والقيام بالخيرات، وزجره عن معاصيه ومخالفة أمره كقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ [ التحريم : ٦ ] أمرهم بوقاية أنفسهم وأهليهم٤ نارا، وإنما [ يتقون تلك ]٥ النار بالقيام [ بالأسباب التي أُمروا بالقيام ]٦ بها والامتناع والانتهاء عما نهوا عنها، وزُجروا منها.
فكلّ خلّة في ما بين المؤمنين على هذا الوجه فهي خلّة ومودة في الدارين جميعا، لا تصير عداوة لأنها لله تعالى وطلب مرضاته.
فأما الخلّة التي تكون في ما بينهم للدنيا فهي تصير عداوة أيضا على ما ذكرنا، والله أعلم.
وقد رُوي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :[ الأخلاء أربعة مؤمنان وكافران، فمات أحد المؤمنين، فسُئل عن خليله، فقال : اللهم لم أر خليلا آمر بمعروف ولا أنهى عن منكر منه. اللهم اهده كما هديتني، وأمته على ما أمتّني عليه. ومات أحد الكافرين، فسُئل عن خليله، فقال : اللهم لم أر خليلا آمر بمنكر ولا أنهى عن معروف منه. اللهم أضلّه كما أضللتني، وأمته كما أمتّني. قال : ثم يُبعثون يوم القيامة، فقال : ليُثن بعضكم على بعض. فأما المؤمنان فيُثني كل واحد منهما على صاحبه ثناء حسنا. وأما الكافران فيثني كل واحد منهما على الآخر ثناء قبيحا ) [ السيوطي في الدر المنثور ٧/٣٨٨ ].
وعلى هذا السبيل رُوي هذا الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال :( أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووادّ في الله، ووال في الله، فإنما تُنال ولاية الله في ذلك، لا ينال ما عند الله إلا بذلك ).
وقال صلى الله عليه وسلم :( ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثُرت صلاته وصيامه وصدقته حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس اليوم على الدنيا. ولكن لا تجزي عن أهله شيئا، ثم قرأ :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ﴾ وقرأ :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ الآية [ المجادلة : ٢٢ ] [ عن ابن عمر أبو نعيم في الحلية ١/٣١٢ ] فقول ابن عباس يومئ إلى أن كل خِلّة ومؤاخاة في ما بين المؤمنين للدنيا، فهي تصير عداوة في الآخرة، والله أعلم.
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ من م، في الأصل: بعضكم..
٤ في الأصل وم: وأهليكم..
٥ في الأصل وم: يقون ذلك..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
وعلى هذا السبيل روي هذا الحديث عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أحب في اللَّه، وأبغض في اللَّه، وواد في اللَّه، ووال في اللَّه، فإنما ينال ولاية اللَّه في ذلك، لا ينال ما عند اللَّه إلا بذلك، وقال: ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه وصدقته، حتى يكون كذلك، وقد صار عامة مؤاخاة الناس اليوم، ولكن لا تجزئ عن أهله شيئًا، ثم قرأ: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) وقرأ: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...) الآية، فقول ابن عَبَّاسٍ يومئ إلى أن كل خلة ومؤاخاة فيما بين المؤمنين للدنيا فهي تصير عداوة في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) أي: لا خوف عليكم خوف الغير، كقوله - تعالى -: (لَا يَبْغُونَ عَنهَا)، (وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي: لا خوف عليكم خوف الأحوال؛ أي: لا حزن لهم في حال كونهم فيها، ولا لهم فيها خوف غير ذلك، ولا زواله عليهم؛ لأن خوف الزوال مما ينغص صاحبه النعمة التي هي له؛ يخبر أن ذلك دائم باق لا زوال له ولا فناء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) والإشكال: أنه سماهم مؤمنين مسلمين بالآيات، والإيمان والإسلام يكون باللَّه تعالى.
فنقول: لأن الإيمان هو التصديق -في اللغة- بما أنبأت الآيات بوحدانية الله وألوهيته؛ لأن جهة سبيل معرفة اللَّه تعالى وطريق العلم به إنما هو بالآيات والحجج التي أقامها على ذلك، ليس من جهة العيان والمشاهدة؛ فالإيمان بالآيات والتصديق بها تصديق باللَّه حقيقة وإيمان به، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) ظاهر هذا يوهم أن الإيمان والإسلام غَيران، لكن هذا من حيث ظاهر العبارة، فأما في الحقيقة هما يرجعان إلى معنى واحد؛ لأن الإسلام هو جعل كل شيء لله - تعالى - سالمًا، لا يشرك فيه غيره؛ كقوله - تعالى -: (وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)
فالإيمان بالآيات والتصديق بها تصديق /٥٠٠-ب/ بالله حقيقة وإيمان به، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وكانوا مسلمين ﴾ هذا يوهم أن الإيمان والإسلام متغايران، لكن هذا من حيث ظاهر العبارة، فأما في الحقيقة فهما يرجعان إلى معنى واحد لأن الإسلام هو جعل كل شيء لله تعالى سالما، لا يُشرك فيه غيره كقوله تعالى ﴿ ورجلا سَلَما لرجل ﴾ [ الزمر : ٢٩ ] أي خالصا سالما، لا حق لأحد فيه سواه. والإيمان هو الوصف له بالربوبية في كل شيء، ومعناهما في الحاصل والتحقيق يرجع إلى معنى واحد ؛ لأنك إذا وصفته بالألوهية والربوبية في كل شيء [ كان ]٣ لله تعالى سالما، وإذا جعلت كل شيء لله تعالى سالما وصفته بالألوهية والربوبية في كل شيء. فدلّ أن حاصل الإيمان والإسلام واحد، وإن كانا من حيث ظاهر العبارة مختلفين، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: بما..
٣ ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يحتمل الأزواج من وجهين:
أحدهما: الأزواج المعروفة؛ وهي الأهل؛ لما وقوهم في الدنيا عن الأسباب التي بها يستوجبون النار؛ كقوله - تعالى -: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
ويحتمل الأزواج التي ذكر: القرناء، والأشكال الذين أعانوا على الأعمال الصالحة التي بها نالوا الجنة كقوله - تعالى -: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ)، أزواجهم - هاهنا - قرناؤهم الذين أعانوهم على ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُحْبَرُونَ).
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: أي تسرون، والحبرة: السرور.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (تُحْبَرُونَ) أي: تكرمون وتنعمون، وهو ما ذكرنا؛ أي: ليس عليهم خوف الزوال والفناء ولا حزن الحال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٧١).
يحتمل ذكر الصحاف من الذهب والأكواب وجوهًا:
أحدها: ذكر ذلك لهم في الآخرة؛ ترغيبًا لهم فيها، وتحريضًا لما يرغبون بمثل ذلك إلى السعي للآخرة، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل إنما ذكر ذلك؛ لأن أهل الدنيا كانوا يتفاخرون بهذه الأشياء في الدنيا، فيخبر أن لأوليائه ذلك في الآخرة، وذلك دائم، وهذا فانٍ، ولا عبرة للفاني؛ فلا معنى للافتخار به.
ويحتمل أنه ذكر ذلك؛ لأنه حرم عليهم الانتفاع في الدنيا باستعمال الذهب والفضة والحرير، فأخبر أن لهم الانتفاع بذلك في الآخرة التي هي دار التنعم، فأمَّا ما سوى ذلك من الفرش والأواني فإنه لا بأس بذلك، وهو مباح في الدارين جميعًا.
أحدها : ذكر ذلك لهم في الآخرة ترغيبا لهم فيها وتحريضا لما يرغبون بمثل ذلك إلى السعي للآخرة، والله أعلم.
والثاني : يحتمل أن ما ذكر ذلك لأن أهل الدنيا كانوا يتفاخرون بهذه الأشياء في الدنيا، فيُخبِر أن لأوليائه ذلك في الآخرة، وذلك دائم، وهذا فانٍ، ولا عبرة للفاني، فما معنى الافتخار به ؟
[ والثالث ]٣ : يحتمل أنه ذكر ذلك لأنه حرّم عليهم الانتفاع في الدنيا باستعمال الذهب والفضة والحرير، فأخبر أن لهم الانتفاع بذلك في الآخرة التي هي دار التنعُّم.
فأما ما سوى ذلك من العُرُش والأواني فإنه لا بأس بذلك، وهو مباح في الدارين جميعا.
وأما ذكر الأكواب [ فيحتمل وجهين أيضا :
أحدهما : الترغيب ]٤ على ما ذكرنا لأنهم يتمنّون، ويرغبون فيها في الدنيا.
والثاني : يُخبر أن لا مُؤنة عليهم في حمل الأواني ورفعها عند الشرب والأكل، ولا يتولّون ذلك بأنفسهم. لكن الخدم هم الذين يتولّون سقيهم.
الصّحاف : جمع الصّحفة، وهي القصعة التي ليست بضخمة، والأكواب : الأباريق التي لا عُرا لها، ولا خراطيم، واحدها كوب، ويقال : كيزان، ولا عُرا لها. قاله أبو عوسجة والقتبيّ.
وقوله تعالى :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ﴾ فذلك في الجنة، ليس كنعيم الدنيا، لأن في الدنيا قد يشتهي شاربها، ولا تلذّ به العيون، والله أعلم.
ويحتمل أنه ذكر ذلك في الآخرة لما مُنعوا، وحُرموا في الدنيا مما لا يحلّ، والله أعلم.
والثاني: يخبر أن لا مؤنة عليهم في حمل الأواني ورفعها عند الشرب والأكل، ولا يتولون ذلك بأنفسهم، لكن الخدم هم الذين يتولون سقيهم.
الصحاف: جمع الصحفة؛ وهي القصعة التي ليست بضخمة، والأكواب: الأباريق التي لا عرا لها ولا خراطيم، واحدها: كوب، ويقال: كيزان لا عرا لها؛ قاله أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) فذلك في الجنة ليس كنعيم الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يشتهي شيئا ولا تلذ به العيون واللَّه أعلم.
ويحتمل أنه إنما ذكر ذلك في الآخرة؛ لما منعوا وحرموا في الدنيا ما اشتهت أنفسهم الانتفاع به والتلذذ؛ عوضًا وبدلا عما كفوا أنفسهم في الدنيا عن الانتفاع بذلك، وإعطاء الأنفس، أو حرموا ومنعوا وحيل بينهم وبين ذلك وما تلذ به الأعين لما غضوا أبصارهم في الدنيا عما لا يحل واللَّه أعلم.
وقوله: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) أن اللَّه بفضله عود عباده لما كان منه من الإحسان والإنعام، كأن ذلك كله منهم إليه، فضلا منه؛ حيث نسب الجنة التي يعطيهم إلى أعمالهم التي عملوها، وإن كانوا لا يستوجبون الجنة وما فيها بالأعمال حقيقة؛ فلذلك ما ذكر في الخبر عن نبي اللَّه أنه قال: " لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللَّه "، قيل: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته "، أخبر أن لا أحد يدخل الجنة إلا برحمته، لكنه نسب الجنة التي يعطيهم وما ذكر من الثواب إلى أعمالهم؛ فضلا منه وإنعامًا، وكذلك ما ذكر من قوله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، ذكر أنه اشترى أنفسهم وأموالهم بالجنة يعطيهم، وأنفسهم وأموالهم في الحقيقة له، ولا أحد يشتري ملكه، وماله بمال نفسه وملكه، لكنه ذكر ذلك شراء إفضالا منه؛ كأن لا ملك له في ذلك ولا حق، وكذلك ما ذكر من الإقراض له بقوله: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، ولا أحد يستقرض ماله وملكه من غيره، لكنه عاملهم معاملة من لا ملك له في أموالهم وأنفسهم بما جعل لهم من الثواب والعوض؛ فعلى ذلك نسبة الجنة والثواب الذي ذكر لهم إلى أعمالهم؛ إفضالا منه وإنعامًا، وإن لم يستوجبوا ما ذكر بالأعمال.
وقوله: (لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (٧٣).
ويحتمل أن ما ذكر لما عرف من رغبة الناس إلى الفواكه والثمار في الدنيا، رغّبهم بها في الآخرة، وحثّهم على دفع ذلك لهم، والله أعلم.
ويحتمل إنما ذكر؛ لما عرف من رغبة الناس إلى الفواكه والثمار في الدنيا، رغبهم بها في الآخرة، وحثهم على رفع الهمم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (٧٤) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ. لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ).
الإجرام: هو الكسب في اللغة، والمجرم: الكاسب؛ يرجع ذلك إلى كل كاسب مما جل أو دق، إلا أن الناس عرفوا أن العذاب المذكور للمجرم الخاص وهو الكافر المشرك؛ فلا يجوز صرفه إلى كل كاسب، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ... (٧٥).
يذكر هذا؛ ليعلم أن النار وإن أنضجت جلودهم وأحرقتهم، لا يفتر التألم عنهم بنضج الجلود، بل التوجع والتألم بعد نضج جلودهم واحتراقها على ما كان قبل النضج، والله أعلم.
قال: (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: الآيس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المبلس: الذليل الخاضع.
وقال الزجاج: المبلس: هو الساكت عن الكلام كمن لا يرجو الفرج من نطقه؛ لأن من يتكلم إنما يتكلم لفرج يرجو من نطقه أو كلام ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ... (٧٦) في التعذيب الذي يعذبون، (وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث عبدوا من لا يملك دفع العذاب عنهم، وتركوا عبادة من يملك دفع ذلك عنهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ) في ترك البيان عليهم، أي: لم نترك بيان ما عليهم وما لهم، بل بينا لهم عاقبة السبيلين جميعًا أنه إلى ذلك وذا يفضي عاقبة هذا السبيل، ولكن هم ظلموا أنفسهم حيث اختاروا السبيل الذي أفضاهم إلى ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (٧٧).
وقوله٢ تعالى :﴿ وهم فيه مُبلسون ﴾ قال بعضهم : المبلِس الآيس. وقال بعضهم : المُبلس الذليل الخاضع.
وقال الزّجّاج : المبلس هو الساكت عن الكلام، كمن لا يرجو الفرح من نطقه لأن من يتكلم فإنما يتكلم لفرح يرجو من نطقه، أو كلام نحوه.
٢ في الأصل وم: وقال..
ويحتمل :﴿ وما ظلمناهم ﴾ في ترك البيان لهم٢، أي لم نترك [ ما ]٣ عليهم ومالهم، بل بيّنا لهم عاقبة السبيلين جميعا : أنه إلى ذلك ذا يُفضي [ وإلى ذلك ]٤ عاقبة هذا السبيل. ولكن هم ظلموا أنفسهم حين٥ اختاروا السبيل الذي أفضاهم إلى ذلك، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: عليهم..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل وم: حيث..
يفزعون أولا إلى المؤمنين، وهو قولهم :﴿ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرّمهما على الكافرين ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] فلما أيِسوا من ذلك يفزعون إلى الله تعالى، يسألون الرجوع إلى المحنة ليعملوا غير الذي عملوا بقولهم ﴿ ربنا أخرجنا /٥٠١-أ/ نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] فلما أيسوا من ذلك يفزعون إلى مالك ليسأل ربه ليقضي عليهم بالموت، فقال :﴿ إنكم ماكثون ﴾ وهو ما قال عز وجل :﴿ لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفّف عنهم من عذابها ﴾ الآية [ فاطر : ٣٦ ].
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (٧٨) هذا على أثر ما ذكر؛ كقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، على أثر قوله: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ...) الآية.
يحتمل أن يكون القولان جميعًا من اللَّه تعالى، أعني: قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ)، وقوله - تعالى -: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)، واللَّه أعلم.
ويمكن أن يكون العذاب جميعه من الملائكة؛ إذ جائز إضافة الرسل إلى الملائكة؛ إذ هم رسل الناس رسولنا فعل كذا، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ).
الحق: كل ما يحمد عليه فاعله ويحمد هو بما منه ذلك الفعل، والباطل: كل ما يذم عليه فاعله ويذم هو بما منه، واللَّه أعلم.
ثم الحق المذكور يحتمل القرآن، ويحتمل الحق: ما تركوا اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ما دعاهم إليه، ويقولون: الحق هو الذي عليه آباؤنا (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)، ثم قال: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)، وقال هاهنا: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ) أي: جئناكم بما هو أهدى وأحق مما عليه آباؤكم.
وقوله: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ).
فَإِنْ قِيلَ: كيف قال: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) وإنما خاطب به أهل النار، وكانوا جميعًا كارهين للحق.
نقول: إنه يخرج على وجهين:
أحدهما: أن أكثرهم قد عرفوا أنه الحق، لكنهم كرهوا اتباعه والانقياد له؛ عنادًا منهم ومكابرة بعد ظهور الحق عندهم وتبينه لديهم؛ مخافة ذهاب الرياسة عنهم وزوال مكانتهم ولم يظهر لأقلهم، ولم يعرفوا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (٨١) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ).
ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من إبرامهم أمرًا ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله تعالى: (وَإِذ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، إبرامهم أمرا: هو مكرهم الذي مكروا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما ذكر، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أن يكون إبرامهم الذي ذكر غير ذلك، وكيفما كان، ففيه وجهان من الدلالة:
أحدهما: ليعلموا أن اللَّه - تعالى - عالم سميع بما يبرمون فيما بينهم من أمر سرًّا؛ لأنه في ظنهم أن اللَّه لا يعلم ولا يسمع ما يبرمون من الأمر سرًّا؛ ولذلك قال تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ).
والثاني: فيه دلالة إثبات الرسالة؛ لأنهم أبرموا ذلك الأمر فيما بينهم سرًّا، ثم أخبرهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أبرموا وأحكموا من الأمر؛ ليعرفوا أنه إنما علم ذلك باللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ).
يحتمل: فإنا جازون جزاء إبرامهم.
ويحتمل: (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي: إلينا يرجع تدبير إبرامهم الأمر ومكرهم جميعًا؛ وعلى ذلك قوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)، على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ... (٨٠).
أي: بل يحسبون على ما ذكرنا: أن حرف الاستفهام منه يخرج على الإيجاب؛ كأنه قال: بل يحسبون؛ ألا ترى أنه قال: (بَلَى وَرُسُلُنَا).
وقوله تعالى :﴿ بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾ هذا وعيد وتنبيه منه لهم ؛ يُخبر أن رسله يكتبون ما يُسرّون ويُخفون من المنكر وغيره ليكونوا أبدا على حذر ويقظة، والله أعلم.
هذا وعيد وتنبيه منه لهم؛ يخبر أن رسله يكتبون ما يسترون ويخفون من المنكر وغيره؛ ليكونوا أبدا على حذر ويقظة، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (٨١) له بالتعالي والتنزيه عن الولد، أي: وأنا أول من يعبد الرحمن بالإيمان والتصديق أنه ليس له ولد، على هذا أعبد اللَّه تعالى.
والثاني: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين، وهو من عَبِدَ يَعْبِد، أي: أنف يأنف، فيكون هذا تنزيه تَصريحٍ عن الولد، والأول تنزيه له بالكناية، هذا إذا كان معنى قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) ما كان للرحمن ولد.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) يخرج على التأويل - أيضًا - على وجهين:
أحدهما: أي: لو كان للرحمن ولد على زعمكم وعلى ما عندكم فأنا أول من أتبرأ عن أن يكون له ولد، وأدعوكم إلى الرحمن الذي لا ولد له، وهو كقوله - تعالى -: (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)، أي: أين شركائي الذين تزعمون أنتم أنهم شركاء؟ وقوله تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا)، أي: انظر إلى إلهك الذي هو في زعمك إله.
والثاني: يحتمل أن يقول له: قل: لو كان يجوز أو يحتمل أن يكون له ولد، فأنا أول من أعبده على ذلك، أو أول من أقول أنا بذلك، فإذ لم أقل بذلك وأنا رسول اللَّه، فظهر أنه لا يحتمل ولا يجوز أن يكون له ولد، وهو كقوله - تعالى -: (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، أي: لو كان يجوز أن يريد اللَّه أن يتخذ ولدًا لاصطفى ممن عنده وممن شاء، لا مما هو عندكم ومما تختارون أنتم، لكن لا يحتمل ولا يجوز أن يتخذ ولدًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - تعالى -: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) يقول: كما أني لست أول من عبد اللَّه، فكذلك ليس للرحمن ولد؛ كقول الرجل: لو كان ما تقول حقًّا فأنا حمار، معناه: ليس الذي تقوله بحق، كما أني لست بحمار، واللَّه أعلم.
ثم نزه نفسه عن الولد، وأنه لا يجوز أن يكون له ولد حيث قال: (سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) أي: رب السماوات، ورب الأرض، ورب من فيهن، ورب العرش.
قال أهل التأويل: أي: رب السرير.
لكن لا يحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - السرير، فينسب إلى السرير، فيقال:
قال أهل التأويل : أي ربّ السرير، لكن لا يحتمل أن يكون تأويل العرش ههنا السرير، فيُنسب إلى السرير، فيقال : رب السرير، ويجوز لغيره أيضا أن يقال : رب السرير، فتثبُت المشاركة في النسبة بينه وبين الخلق إلا أن يقال. إن لذلك السرير عند الخلائق موقعا وقدرا عظيما يليق القسم به، وإنه من أعظم المخلوقات وأعجبها فكانت نسبة هذا إلى الله سبحانه وتعالى من باب التعظيم والإجلال بمنزلة نسبة كل العالم إليه، فيكون جائزا٣، والله أعلم.
ويحتمل تأويل العرش ههنا٤ المُلك ؛ يقول :﴿ سبحان رب السماوات والأرض رب العرش ﴾ المُلك عما يصفون. ثم قد بيّنا حكمة ذكر السماوات والأرض على إثر ذكر الولد في غير موضع.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: جائز..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: هو..
ويحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - هو الملك؛ يقول: سبحان رب السماوات والأرض ورب الملك عما يصفون، ثم قد بينا حكمة ذكر السماوات والأرض على إثر ذكر الولد في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) هذا -في الظاهر- أمر بتركهم على ما هم عليه من الخوض واللعب وغيره، ومثل هذا مما لا يليق بالحكمة؛ إذ هو حرام في العقل، لكن يخرج على الوعيد، وإن كان صيغته صيغة الأمر، كقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، هو في الظاهر وإن كان أمرًا فهو في الحقيقة وعيد، فعلى ذلك هذا يخرج على الوعيد.
ويحتمل أن يخرج على ترك المكافأة على ما يصنعون من الاستهزاء بهم، والأنواع من الأذى إلى اليوم الذي يلاقون ويعاينون العذاب حين لا تنفعهم الندامة في الرجوع في ذلك اليوم.
وأصل ذلك أن اللَّه - تعالى - قد أوعدهم بمواعيد شديدة، ووعظهم بمواعظ بليغة، فلم تنجع تلك المواعيد فيهم، ولا نفعهم شيء من ذلك.
والثاني: قد بين ما يزيل عنهم الشبه، وما يوجب التعلق به، وأوضح لهم طريق الحق والهدى، فلم يسلكوا مسلك طريق الحق، فأوعد لهم بما ذكر في ذلك اليوم ما لا تنفعهم ندامتهم في ذلك الوقت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) الإله في اللغة هو المعبود؛ كأنه يقول - واللَّه أعلم -: إنكم تعلمون أن اللَّه - تعالى - هو المعبود في السماء، وهو المعبود في الأرض، والأصنام التي تعبدونها أنتم لا يعبدها إلا أنتم، فكيف تركتم عبادة المعبود الذي هو معبود في السماء والأرض، واخترتم عبادة من ليس بمعبود إلا بعبادتكم؟!.
ويحتمل أن يقول: تعلمون أنتم أن اللَّه - سبحانه وتعالى - هو إله السماء والأرض وإله من فيهما وما فيهما، وأنه خالق ذلك كله؛ لقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
ويحتمل أن يقول : تعلمون أنتم أن الله سبحانه وتعالى هو إله في السماء والأرض، وإله [ من ]١ فيهما وما فيهما، وأنه خالق ذلك كلّه لقوله :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ و. . . ] والأصنام التي تعبدونها لم يفعلوا ذلك، ولا يملكون شيئا من ذلك، فكيف اتخذتموها آلهة دونه ؟ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وهو الحكيم العليم ﴾ ذكر الحكيم والعليم على إثر ذلك يخرّج على وجوه :
أحدها : لسؤال الثنوية أن الله عز وجل لا يجوز أن يبسُط، ويوسّع الدنيا على من يعلم أنه يعاديه، ويشتُمه، ويعادي أولياءه، ويشتُمهم، لأن في الشاهد من يصنع إلى من يعلم أنه يعاديه معروفا، فليس بحكيم.
فعلى ذلك يقولون : إن ذلك ليس من الله تعالى، ولكن من إله غيره سفيه، لأن وصف نفسه بالحكمة، وأنه يريد الحكمة.
[ والثاني : قول ]٢ البراهمة في إنكارهم الرسالة أصلا ؛ يقولون : ليس من الحكمة بعث الرسل إلى من يعلم أنه يُكذّبه، ويُكذّب رسُله، ولا يقبل شهادته، بل يقتله، ويعاديه. لذلك ينكرون رسالة الرسل، فأخبر تعالى بقوله :﴿ وهو الحكيم العليم ﴾ أنّ إعطائي إياهم ما أعطيتهم وبعثي الرسل إليهم على علم مني بما يكون منهم من التكذيب والعداوة، لا يُخرجني عن الحكمة، ويُخرج فاعل ذلك في الشاهد عن الحكمة، لأن ملوك الأرض إنما يرسلون الرسل، ويبعثون الهدايا لمنافع أنفسهم ولحاجتهم. فإذا علموا من المبعوث إليهم الرسل والمصنوع إليهم المعروف ما ذكرنا خرج [ ذلك ]٣ عن الحكمة.
فأما الله تعالى إنما بعث الرسل لحاجة المبعوث إليهم ولمنافع أنفسهم، فكذلك ما يعطيهم من الدنيا لمنافع أنفسهم، فلم يخرُج ذلك عن الحكمة، لأنه لا يضرّه معاداة من عاداه، ولا تنفعُه موالاة من والاه. بل كل ذلك راجع إليهم بل صُنع ما يصنع من المعروف إلى من يعلم أنه يعاديه يكون وصفا له بغاية الكرم والجود.
لذلك [ كان ] ما ذكرنا، وبطل قول الثنوية والبراهمة، والله الموفّق.
٢ في الأصل وم: وكقول..
٣ ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) ذكر الحكيم والعليم على إثر ذلك يخرج على وجهين:
أحدهما: لسؤال الثنوية: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يجوز أن يبسط الرزق ويوسع الدنيا على من يعلم أنه يعاديه ويشتمه، ويعادي أولياءه ويشتمهم؛ لأن في الشاهد من يصنع إلى من يعلم أنه يعاديه معروفًا فليس بحكيم، فعلى ذلك يقولون: إن ذلك ليس من اللَّه - تعالى - ولكنه من إله غيره سفيه؛ لأنه وصف نفسه بالحكمة، وأنه يزيل الحكمة.
والثاني: لقول البراهمة في إنكارهم الرسالة أصلا، يقولون: ليس من الحكمة بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويكذب رسله ولا يقبل رسالته؛ بل يقتله ويعاديه؛ لذلك ينكرون رسالة الرسل، فأخبر - تعالى - بقوله: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أن إعطائي إياهم ما أعطيتهم وبعثي الرسل إليهم على علم مني بما يكون منهم من التكذيب والعداوة - لا يخرجني عن الحكمة، ويخرج فاعل ذلك في الشاهد عن الحكمة؛ لأن ملوك الأرض إنما يرسلون الرسل ويبعثون الهدايا لمنافع أنفسهم ولحاجتهم، فإذا علموا من المبعوث إليهم الرسل والمصنوع إليهم المعروف ما ذكرنا - خرج من الحكمة، فأما اللَّه - تعالى - إنما بعث الرسل لحاجة المبعوث إليهم، ولمنافع أنفسهم، فكذلك ما يعطيهم من الدنيا لمنافع أنفسهم؛ فلم يخرج بذلك من الحكمة؛ لأنه لا تضره معاداة من عاداه، ولا تنفعه موالاة من والاه؛ بل كل ذلك راجع إليهم؛ بل صنع ما يصنع من المعروف إلى من يعلم أنه يعاديه يكون وصفًا له بغاية الكرم والجود، كذلك ما ذكرنا، وبطل قوله الثنوية والبراهمة، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) قوله: (تَبَارَكَ) قال أهل التأويل: أي: تعالى وتعاظم عما قالت الملاحدة فيه من الشريك، والولد، والصاحبة، وغير ذلك مما لا يليق به، ولا يجوز؛ فيكون تنزيهًا عن جميع ما قالوا فيه، وهو كحرف (سُبْحَانَ) الذي يكون تنزيهًا عما قالوا فيه، واللَّه أعلم.
قال بعض أهل الأدب: (تَبَارَكَ) هو من البركة، لكن بعض العلماء قالوا: إن هذا التأويل لا يصح؛ لأن قوله: (تَبَارَكَ) هو من وقوع البركة بنفسه، فهو اسم ملازم، ولا يجوز أن يوصف اللَّه - تعالى - بوقوع البركة، لكن عندنا (تَبَارَكَ) وهو تفاعل، والتفاعل هو فعل اثنين؛ فجائز نسبة البركة إليهما على حقيقة وقوعها بأحدهما وهو الخلق
وأصل تأويل (تَبَارَكَ): ما قاله أهل التأويل: تعالى وتعاظم عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد، والشريك، وغير ذلك، لكن هو على التأويل، لا على تحقيق الاسم، فنظيره ما فسروا في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وتعالى جدُّك " أي: عظمتك، والجد هو في الحقيقة ليس هو اسم العظمة، ولكن هو خروج الأمر على ما يريد ويشاء، ويسميه الناس فيما بينهم بالفارسية: بختا، فسروا الجد بالعظمة؛ لنفاذ مشيئة العظيم، وخروج الأمور على ما يريده ويشاؤه، فعلى ذلك تفسيرهم (تَبَارَكَ) بما قالوا: تعالى وتعاظم على التأويل، لا على تحقيق الاسم؛ إذ هو من البركة، لكن كل من بورك فيه صار متعاليًا، فأطلقوا عليه (تَبَارَكَ) بمعنى: تعالى، لا بمعنى حقيقة الاسم، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) بيان منه وتعليم للخلق ما يجوز النسبة له فقال: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقال: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ونحو ذلك، يبين لهم أن ينسبوا إليه هذا، ولا ينسبوا إليه من الولد، والشريك، والصاحبة ونحو ذلك؛ لأن نسبة الأشياء بكليتها يخرج مخرج الوصف له بالعظمة والجلال، نحو ما ذكرنا من قوله - تعالى -: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وقوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وقوله: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، ونسبة خاصية الأشياء إليه يخرج مخرج التعظيم والتبجيل لتلك الأشياء، ثم ينظر بعد هذا: فإن كانت تلك الأشياء الخاصة مما يجوز تعظيمها نسبت إليه وأضيفت، نحو قوله: بيت اللَّه، ومساجد اللَّه، ورسول اللَّه، وغير ذلك من الأشياء التي عظمها اللَّه - تعالى - ورفع قدرها ومنزلتها عنده، وإن كانت الأشياء مما يستقذر ويستقبح ويسترذل فلا يجوز النسبة إليه والإضافة؛ لما ذكرنا أن نسبتها إليه وإضافتها يخرج مخرج التعظيم لها، وهي ليست بمعظمة، ولكنها مسترذلة مستقذرة؛ فيكون وضع الشيء غير موضعه، وأنه خلاف الحكمة، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يخرج على وجوه:
أحدها: أي: عنده علم ساعة: الصعقة؛ كقوله - تعالى -: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ...) الآية.
ويحتمل (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): الزلزلة؛ كقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).
ويحتمل: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ): الفزع والهول؛ كقوله: (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ...).
أخبر أنه لم يطلع اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على حقيقة ما ذكر أحدًا من خلقه.
وقوله: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قد ذكرنا في غير موضع: أن تخصيص ذلك بالرجوع إليه يخرج على وجوه، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين فيه إلى اللَّه - تعالى - صائرين إليه:
أحدها: لأن المقصود من إنشائهم ذلك -أعني: البعث- كي لا يكون خلقهم عبثًا، على ما ذكرنا غير مرة.
ويحتمل أنه خص ذلك اليوم بالرجوع إليه والمصير والخروج؛ لأنه يومئذ يخلص خروجهم ورجوعهم إليه وانقيادهم له، وقد ذكرناه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) إن قومًا كانوا يجدون الملائكة؛ رجاء أن يكونوا لهم شفعاء؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضلهم عند اللَّه - تعالى - وذلك معروف في الناس أنهم يخدمون ويكرمون خواص ملوكهم رجاء أن يشفع لهم أُولَئِكَ الخواص عند الملك إذا نزل بهم بلاء ووقعت لهم حاجة يومًا من الدهر، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ الكفرة كانوا يعبدون الملائكة؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضل منزلتهم عند اللَّه تعالى.
ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن الملائكة أنهم لا يملكون الشفاعة بقوله: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)، وهو قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، أي: إلا لمن شهد بوحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته، لا يشفعون لأُولَئِكَ، إنما يشفعون لمن ذكر، وإن كانت لهم خصوصية عند اللَّه - تعالى - لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - نهى أُولَئِكَ أن يعبدوا الملائكة ويعظموهم من جهة العبادة؛ لذلك لا يملكون الشفاعة لهم؛ فيكون مثل هذا مثل ملك نهى قومه أن يخدموا أو يعظموا أحدًا سواه من خواصه، فإذا فعلوا ذلك وخدموهم وتركوا نهيه لا يملك أُولَئِكَ الخواص ولا يتجاسرون على طلب الشفاعة عند الملك لأُولَئِكَ الذين نهاهم الملك أن يخدموهم ويعظموهم دونه، فعلى ذلك الملائكة، لم يجعل لهم شفاعة لأُولَئِكَ الذين عبدوهم دونه إلا لمن ذكر، وهم: الذين شهدوا بالحق، وقاموا بعبادة اللَّه - تعالى - فقد أذن اللَّه لهم بالشفاعة لأُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ) أي: لو كانت لهم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يخرج قوله: (وَهُم يَعْلَمُونَ) على وجهين:
أحدهما: يرجع إلى الملائكة، فيكون كأنه يقول: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة وهم يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة.
والثاني: يرجع إلى من شهد بالحق، يكون كأنه يقول: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أنهم يشهدون بالحق، والشهادة بالحق ما ذكرنا، يعني: يشهدون على وحدانية اللَّه - تعالى - وألوهيته، وأنه هو المستحق بالعبادة دون من عبدوهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... (٨٧) وقال في أول السورة: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، ثم نعته فقال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ...)، إلى آخر ما ذكر؛ قد أقروا جميعًا: أن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم وما يحتاجون إليه هو اللَّه تعالى.
ثم علمهم وعرفانهم بذلك يحتمل وجوهًا:
يحتمل: علم حقيقة على التسخير والاضطرار بأن أنشأ اللَّه - تعالى - علمًا في قلوبهم، فعلموا بذلك حقيقة أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو خالق ذلك كله.
ويحتمل علموا علم الاستدلال بالتأمل والنظر؛ إذ من عادة العرب التأمل والنظر في الأشياء، فنظروا وتأملوا، فعرفوا بالاستدلال العقلي أنه كذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) يقول: فأي شيء يصرفهم ويأفكهم عن القيام بوفاء ما أعطوا بألسنتهم، وتحقيق ما أقروا ونطقوا أن اللَّه خالق ذلك كله، وأن ذلك كله منهم، وجعل ذلك لمن يعلمون أنه لا شيء من ذلك منهم، وبعد معرفتهم بذلك، أعني: الأصنام التي يعبدونها، واللَّه الهادي.
وقال أهل التأويل: أي: فأنى يكذبون بعد علمهم ومعرفتهم ذلك في تسميتهم
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (٨٨) قرئ بنصب اللام وكسرها فمن قرأه بالنصب جعله مقطوعًا على قوله: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) ونسمع قيله؛ أي: قوله الذي أغفلوه؛ أي: بل نسمع ذلك كله.
ومن قرأه بالكسر عطفه على قوله: (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي: عنده علم الساعة وعلم قيله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ) كأنه على الإضمار، أي: قيل لهم: قل: إن هَؤُلَاءِ قوم لا يصدقون.
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أخبر أنهم لا يؤمنون، وقد كان على ما أخبر لم يؤمنوا؛ دل أنه باللَّه عرف ذلك وعلمه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ... (٨٩) أي: أعرض ودعهم، (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: قل الصواب والحق (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) يومًا، فهو وعيد لهم.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَقُلْ سَلَامٌ) أي: سلام عليهم، لكنه على المؤمنين، ليس على أُولَئِكَ الكفرة: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بالتاء يكون لو صرف إلى المؤمنين، وهو كقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)، فيكون كأنه - عز وجل - قال: فسوف تعلمون أيها المؤمنون ما ينزل بأُولَئِكَ، واللَّه أعلم.
* * *
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ وقل سلام ﴾ أي سلام عليهم. لكنه على المؤمنين، ليس على أولئك الكفرة فسوف تعلمون بالتاء٢، يكون لو صُرف إلى المؤمنين، وهو كقوله تعالى :﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ] فيكون كأنه عز وجل قال : فسوف تعلمون أيها المؤمنون ما ينزل بأولئك، والله أعلم بالصواب.
٢ انظر معجم القراءات القرآنية ح٦/١٣١..