تفسير سورة الممتحنة

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الممتحنة : سورة الامتحان مدنية عددها ثلاث عشرة آية كوفية.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالجهاد وعسكر، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، أن محمداً قد عسكر، وما أراه ألا يريدكم فخذوا حذركم وأرسل بالكتاب مع سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم وكانت قد جاءت من مكة إلى المدينة فأعطاها حاطب بن أبي بلتعة عشرة دنانير على أن تبلغ كتابه أهل مكة وجاء جبريل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الكتاب، وأمر حاطب فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن أبي طالب، عليه السلام، والزبير بن العوام، وقال لهما: إن أعطتكما الكتاب عفوا خليا سبيلها، وإن أبت فاضربا عنقها، فسارا حتى أدركاها بالحجفة وسألاها عن الكتاب فحلفت ما معها كتاب، وقالت: لأنا إلى خيركم أفقر منى إلى غير ذلك، فاتبحثاها، فلم يجدا معها شيئاً، فقال الزبير لعلى بن أبي طالب، رضي الله عنهما ارجع بنا، فإنا لا نرى معها شيئاً. فقال علي: والله لأضربن عنقها، والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، فقال الزبير: صدقت اضرب عنقها، فسل علي سيفه، فلما عرفت الجد منهما أخذت عليهما المواثيق، لئن أعطيتكما الكتاب لا تقتلاني، ولا تسبياني، ولا ترداني إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولتخليان سبيلي فأعطياها المواثيق، فاستخرجت الصحيفة من ذؤابتها ودفعتها فخليا سبيلها وأقبلا بالصحيفة فوضعاها في يدي رسول الله فقرأها، فأرسل إلى حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: فما حملك على أن تنذر بنا عدونا؟. قال حاطب: اعف عني عفا الله عنك، فوالذي أنزل عليك الكتاب ما كفرت منذ أسلمت ولا كذبتك منذ صدقتك، ولا أبغضتك منذ أحببتك، ولا واليتهم منذ هاديتهم، وقد علمت أن كتابي لا ينفعهم ولا يضرك فاعذرني، جلعني الله فداك فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع ماله وعشيرته غيري، وكنت حليفا ولست من أنفس القوم، وكان حلفائى قد هاجروا كلهم، وكنت كثير المال والضيعة بمكة فخفت المشركين على مالي فكتبت إليهم لأتوسل بها وأتخذها عندهم مودة لأدفع عن مالى، وقد علمت أن الله منزل بهم خزيه ونقمته وليس كتابي يغنى عنهم شيئاً، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد صدق فيما قال، فأنزل الله تعالى عظة للمؤمنين أن يعودوا لمثل صنيع حاطب بن أبي بلتعة، فقال تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾.
﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾ يعني الصحيفة ﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ ﴾ يعني القرآن ﴿ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ ﴾ من مكة ﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾ قد أخرجوا من دياركم يعني من مكة ﴿ أَن تُؤْمِنُواْ ﴾ يعني بأن آمنتم ﴿ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي ﴾ فلا تلقوا إليهم بالمودة ﴿ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾ يعني بالصحيفة فيها النصيحة ﴿ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ ﴾ يعني بما أسررتم في أنفسكم من المودة والولاية ﴿ وَمَآ أَعْلَنتُمْ ﴾ لهم من الولاية ﴿ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ ﴾ يعني ومن يسر بالمودة إلى الكفار ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ [آية: ١] يقول فقد أخطأ قصد طريق الهدى، وفى حاطب نزلت هذه الآية:﴿ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾[المجادلة: ٢٢] إلى آخر الآية. حدثنا عبدالله، قال: حدثنى أبي قال: حدثنا الهذيل عن المسيب، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال:" أقبلت سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف من مكة إلى المدينة المنورة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: مالك، يا سارة؟ أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: أفمهاجرة جئت؟ قالت: لا، قال: فما حاجتك؟ قالت: كنتم الأصل والموالا والعشيرة وقد ذهب موالى، وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتكسوني وتنفقوا علي وتحملوني، فقال النبي صلى الله عليه سلم: " فأين أنت من شباب أهل مكة "، وكانت امراة مغنية ناتحة، فقالت: يا محمد، ما كلب أحد منهم شيئاً منذ كانت وقعة بدر، قال فحث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني هاشم فكسوها وأعطوها نفقة وحملوها، فلما أرادت الخروج إلى مكة أتاها حاطب بن أبي بلتعة من أهل اليمن حليف للزبير بن العوام فجعل لها جعلا على أن تبلغ كتابه "إلى آخر الحديث.
ثم أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم، فقال: ﴿ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ﴾ يقول إن يظهروا عليكم وأنتم على دينكم الإسلام مفارقين لهم ﴿ وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ بالقتل ﴿ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ ﴾ يعنى الشتم ﴿ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آية: ٢] إن ظهروا عليكم يعنى إن ترجعوا إلى دينهم فإن فعلتم ذلك ﴿ لَن تَنفَعَكُمْ ﴾ يعنى لا تغنى عنكم ﴿ أَرْحَامُكُمْ ﴾ يعنى أقرباءكم ﴿ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ﴾ بالعدل ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٣] به.
قوله: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾ من المؤمنين ﴿ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ من الآلهة ﴿ كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾ يقول تبرأنا منكم ﴿ وَبَدَا ﴾ يعني وظهر ﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ يعني تصدقوا بالله وحده ﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ يقول الله تبرأوا من كفار قوكم فقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم وليس لكم أسوة حسنة في الاستغفار للمشركين، يقول إبراهيم: لأستغفرن لك، وإنما كانت موعدة وعدها أبو إبراهيم إياه أنه يؤمن فلما تبين له عند موته أنه عبدالله تبرأ منه حين مات على الشرك، وحجب عنه الاستغفار. ثم قال إبراهيم: ﴿ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٤].
﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ تقتر علينا بالرزق، وتبسط لهم في الرزق، فنحتاج إليهم فيكون ذلك فتنة لنا ﴿ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٥] وفي قراءة ابن مسعود: " إنك أنت الغفور الرحيم " نظيرها فى آخر المائدة [آية: ١١٨].
وقوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ ﴾ يعني في إبراهيم والذين معه ﴿ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ في الاقتداء بهم ﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ ﴾ يقول لمن كلن يخشى الله، ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ يقول ومن يعرض عن الحق ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾ عن عباده ﴿ ٱلْحَمِيدُ ﴾ [آية: ٦] في سلطانه عنه خلقه.
قوله: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم ﴾ من كفار مكة ﴿ مَّوَدَّةً ﴾ وذلك أن الله تعالى حين أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة والبراءة منهم، وذكر لهم فعل إبراهيم والذين معه في البراءة من قومهم، فلما أخبر ذلك عادوا أقرباءهم وأرحامهم لهم العداوة، وعلم الله شدة وجد المؤمنين في ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾ فلم أسلم أهل مكة خالطهم المسلمون وناكحوهم، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان فهذه المودة التي ذكر الله تعالى، بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ﴾ على المودة ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لذنوب كفار مكة لمن تاب منهم وأسلم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٧] بهم بعد الإسلام، ثم رخص في صلة الذين لم يناصبوا الحرب للمسلمين، ولم يظاهروا عليهم المشركين.
فذلك قوله: ﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ﴾ صلة ﴿ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ ﴾ من مكة ﴿ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ يقول: أن تصلوهم ﴿ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ ﴾ بالعدل يعني توفوا إليهم بعهدهم ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾ [آية: ٨] الذين يعدلون بين الناس، نزلت فى خزاعة منهم هلال بن عويمر، وبنى خزيمة وبنى مدلج منهم سراقة بن مالك، وعبد يزيد بن عبد مناف، والحارث بن عبد مناة. ثم قال: ﴿ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ﴾ صلة ﴿ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ يعني كفار مكة أخرجوا النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة كراهية الإسلام ﴿ وَظَاهَرُواْ ﴾ يقول: وعاونوا المشركين ﴿ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ بأن توالوهم ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ ﴾ منكم ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [آية: ٩] ثم نسخت براءة هاتين الآيتين﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥].
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ﴾ وذلك" أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية، وكتب بينه وبينهم كتاباً فكان في الكتاب أن من لحق أهل مكة من المسلمين، فهم لهم، ومن لحق منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم رده عليهم، وجاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية، في الموادعة، كانت تحت صيفى بن الراهب من كفار مكة فجاء زوجها يطلبها، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: " ردها علينا فإن بيننا وبينك شرطاً "، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما كان الشرط في الرجال، ولم يكن في النساء ". فأنزل الله تعالى: ﴿ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ﴾ ﴿ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ﴾ يعني سبيعة فامتحنها النبي صلى عليه وسلم فقال: بالله، ما أخرجك من قومك حدتاً، ولا كراهية لزوجك، ولا بغضا له، ولا خرجت إلا حرصاً على الإسلام ورغبة فيه، ولا تريدين غير ذلك؟ فهذه المحنة يقول الله تعالى: ﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ﴾ من قبل المحنة يعني سبيعة ﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ ﴾ يعني فلا تردوهن ﴿ إِلَى ﴾ أزواجهن ﴿ ٱلْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ يقول لا تحل مؤمنة لكافر، ولا كافر لمؤمنة، قال: ﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ يقول أعطوا أزواجهم الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر يعني يرد المهر يتزوجها من المسلمين فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين فليس لزوجها الكافر شيئاً ﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني ولا حرج عليكم ﴿ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ ﴾ يقول: إذا أعطيتموهن ﴿ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِر ﴾ يعني بعقد الكوافر يقول: لا تعتد بأمرأتك الكافرة، فإنها ليست لك بامرأة يقول: هذا الذي يتزوج هذه المهاجرة، وذلك أن المرأة الكافرة تكون في موضع من قومها، ولها أهل كثير فيمسكها إرادة أن يتعزز بأهلها وقومها من الناس، فتزوجها عمر بن الخطاب. ويقال: تزوجها أبو السنابل بن بعكك ابن السباق بن عبد الدار بن قصي، وفيه نزلت هذه الآية وفي أصحابه، وكانت امرأة عمر بن الخطاب، رضي الله عنها، بمكة واسمها قريبة بنت أبى أمية، وهشام بن العاص بن وائل، وامرأته هند بنت أبي جهل، وعياض بن شداد الفهري وامرأته أم الحكم بنت أبي سفيان، وشماس بن عثمان المخزومي، وامرأته يربوع بنت عاتكة، وعمرو بن عبد عمرو، وهو ذو اليدين، وامرأته هند بنت عبد العزى، فتزوج امرأة عمر بن الخطاب أبو سفيان بن حرب، فقال الله تعالى في المخاطبة: ﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلْكُفَّارِ ﴾ إلى آخر الآية، هذا محكم لم ينسخ، ونسخت براءة النفقة.﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ ﴾ يقول: إن ذهبت امرأة أحدكم إلى الكفار، فسألوا الذي يتزوجها أن يرد مهرها على زوجها المسلم والنفقة، ثم قال: ﴿ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ من المهر يقول: إن جاءت امرأة من أهل مكة مهاجرة إليهم فليرد الذي يتزوجها مهرها على زوجها الأول، فإن تزوجت إحدى المرأتين اللتان جاءتا مسلمة ولحقت بكم، ولم تتزوج الأخرى فليرد الذي يتزوجها مهرها على زوجها، وليس لزوج المرأة الآخرى مهر، حتى تتزوج امرأته، فإن لم يعط كفار مكة المهر طائعين، فإذا ظهرتم عليهم، فخذوا منهم المهر، وإن كرهوا، كان هذا لأهل مكة خاصة موادعة، فذلك قوله: ﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ يعني بين المسلمين والكافرين في أمر النفقة ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بخلقه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ١٠] في أمره حين حكم النفقة. ثم نسخ هذا كله آية السيف في براءة، غير هذه الحرفين ﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [التوبة: ٥].
ثم قال: في النفقة: ﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ ﴾ وهى أم الحكم بنت أبى سفيان تركت زوجها عياض بن غنم بن شداد القرشي، ثم الفهري من بني عامر بن لؤي، ثم أتت الطائف، فتزوجت رجلاً من ثقيف.﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾ يعني أحد أزواجكم ﴿ إِلَى ٱلْكُفَّارِ ﴾ يعني إن لحقت امرأة مؤمنة إلى الكفار، يعني كفار الحرب الذين ليس بينكم وبينهم عهد وزوجها مسلم ﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾ يقول: فإن غنمتم، وأعقبكم الله مالاً ﴿ فَآتُواْ ﴾ وأعطوا ﴿ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ يعني المهر ما أصبتم من الغنيمة قبل أن تخمس الخمس، ثم يرفع الخمس، ثم تقسم الغنيمة بعد الخمس بين المسلمين، ثم قال: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه فيما أمركم به ﴿ ٱلَّذِيۤ أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١١] يعن بالله مصدقين، وكل هؤلاء الآيات نسختها في براءة آية السيف [الآية: ٥].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ وذلك يوم فتح مكة،" لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال، وهو جالس على الصفا، وعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أسفل منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئاً "، وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبه مع النساء، فرفعت رأسها، فقالت: والله، إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، فقد أعطيناكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلاَ يَسْرِقْنَ ﴾، فقالت: والله إني لأصيب من مال أبي سفيان هنات، فما أدرى أتحلهن لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: نعم، ما أصبت من شىء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وإنك لهند بنت عتبة "، فقالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك، ثم قال: ﴿ وَلاَ يَزْنِينَ ﴾ قالت: وهل تزنى الحرة؟ ثم قال: ﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً، فأنتم وهم أعلم، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك من قولها ". ثم قال: ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ والبهتان أن تقذف المرأة ولداً من غير زوجها على زوجها، فتقول لزوجها هو منك وليس منه، قالت: والله إن البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل، وما تأمر إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ثم قال: ﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ يعني في طاعة الله تعالى فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن النوح وشد شعر وتمزيق الثياب، أو تخلو غريب في حضر، ولا تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ونحو ذلك، قالت: هند: ما جلسنا في مجلسنا هذا، وفى أنفسنا أن نعصيك في شىء فأقر النسوة بما أخذ عليهن النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله: ﴿ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لما كان في الشرك ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٢] فيما بقي.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ يعني اليهود نزلت في عبد الله بن أبي، ومالك بن دخشم كانت اليهود زينوا لهم ترك الإسلام، فكان أناس من فقراء المسلمين يخبرون اليهود عن أخبار المسلمين ليتواصلوا بذلك فيصيبون من ثمارهم وطعامهم، فنهى الله عز وجل عن ذلك. ثم قال: ﴿ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ٱلآخِرَةِ ﴾ يعني اليهود ﴿ كَمَا يَئِسَ ٱلْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ ﴾ [آية: ١٣] وذلك أن الكافر إذا دخل قبره أتاه ملك شديد الانتهار، فأجلسه، ثم يسأله: من ربك؟ وما دينك؟ ومن رسولك؟ فيقول: لا أدري، فيقول الملك: أبعدك الله، انظر يا عدو الله إلى منزلك من النار، فينظر إليها، ويدعو بالويل، ويقول له الملك: هذا لك، يا عدوا لله، فلو كنت آمنت بربك لدخلت الجنة، ثم فينظر إليها، فيقول: لمن هذا؟ فيقول له الملك: هذا لمن آمن بالله، فيكون حسرة عليه، وينقطع رجاءه منها ويعلم عند ذلك أنه لاحظ له فيها، وييأس من خير الجنة، فذلك قوله لكفار أهل الدنيا الأحياء منهم ﴿ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ ﴾ نعيم ﴿ ٱلآخِرَةِ ﴾ كما أيس هذا الكافر من أصحاب القبور عاينوا منازلهم في النار في الآخرة.
Icon