تفسير سورة الشرح

فتح البيان
تفسير سورة سورة الشرح من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة ألم نشرح
وهي ثماني آيات، وهي مكية بلا خلاف، عن عائشة قالت : نزلت سورة ألم نشرح بمكة، ومثله عن ابن عباس، وزاد بعد الضحى.

(ألم نشرح لك صدرك) معنى شرح الصدر فتحه بإذهاب ما يصدر عن الإدراك، والإستفهام التقريري إذا دخل على النفي قرره فصار المعنى قد شرحنا لك صدرك حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق، فكان غائباً عنهم بروحه، وحاضراً معهم بجسده الشريف.
والمعنى ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل، أو بما يسرنا لك من تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك.
قال الراغب أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته، ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينته من جهة الله وروح منه وإنما خص الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات، وقيل لأن الصدر محل الوسوسة كما قال تعالى (يوسوس في صدور الناس) فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح.
والقلب محل العقل والمعرفة وهو الذي يقصده الشيطان فيجىء أولاً إلى الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكاً نزل فيه هو وجنده وبث فيه الغموم والهموم والحرص، فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، وإذا لم يجد له مسلكاً وطرد حصل الأمن وانشرح الصدر، وتيسر القيام بأداء العبودية.
289
ولم يقل نشرح صدرك تنبيهاً على أن منافع الرسالة عائدة عليه صلى الله عليه وآله وسلم كأنه يقول إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي، والمراد بالامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قام به من الدعوة وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء وحفظ الوحي. وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) قال ابن عباس في الآية شرح الله صدره للإسلام.
قرأ الجمهور نشرح بسكون الحاء بالجزم، وبفتحها قرأ أبو جعفر المنصور العباسي قال الزمخشري قالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها.
وقال ابن عطية أن الأصل ألم نشرحن بالنون الخفيفة ثم إبدالها ألفاً ثم حذفها تخفيفاً، وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم بلم وهو قليل جداً، وخرجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون بلم ويجزمون بلن، وهذه ما أظنها تصح. وإن صحت فليست من اللغات المعتبرة فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها.
وعلى كل حال فقراءة هذ الرجل مع شدة جوره ومزيد ظلمه وكثرة جبروته وقلة علمه ليست بحقيقة بالاشتغال بها.
290
(ووضعنا عنك وزرك) معطوف على معنى ما تقدم لا على لفظه أي قد شرحنا لك صدرك ووضعنا الخ والوزر الذنب أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية، قال الحسن وقتادة والضحاك ومقاتل المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية، وهذا كقوله (ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح مع أن حقه التأخر عنه لتعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر.
ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم.
290
ثم وصف هذا الوزر فقال
291
(الذي أنقض ظهرك) قال المفسرون: أي ثقل ظهرك، قال الزجاج: أثقله حتى سمع له نقيض أي صوت. وهذا مثل معناه أنه لو كان حملاً يحمل لسمع نقيض ظهره، وأهل اللغة يقولون، أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمع له صرير من شدة الحمل، قال قتادة: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذنوب قد أثقلته فغفرها الله له.
وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له، وكذا قال أبو عبيدة وغيره، وقرأ ابن مسعود (وحللنا عنك وقرك) وقيل معناه عصمناك من الوزر الذي ينقض ظهرك ولو كان ذلك الوزر حاصلاً، قاله الرازي وفيه استعارة تمثيلية حيث سمى العصمة وضعاً مجازاً.
ثم ذكر سبحانه منته وكرامته عليه فقال
(ورفعنا لك ذكرك) وزيادة لك في الموضعين وعنك في موضع تفيد إبهام المشروح والموضوع والمرفوع ثم توضيحه. والإيضاح بعد الإبهام أوقع في الذهن، قال الحسن وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلا ذكر ﷺ معه.
قال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد؛ ولا صاحب صلاة إلا ينادي فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، قال مجاهد يعني بالتأذين، وعبارة الخطيب تذكر معي في الأذان والإقامة والتشهد ويوم الجمعة على المنابر ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة وأيام التشريق وعند الجمار وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح ومشارق الأرض ومغاربها، ولو أن رجلاً عبد الله وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافراً انتهى.
وقيل المعنى ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دين إلا ودينك يظهر عليه، وقيل رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وعند المؤمنين في الأرض، ونرفع ذكرك في الآخرة بما نعطيك من المقام
291
المحمود وكرائم الدرجات وجلائل المراتب، قال الضحاك لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به.
وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله.
والظاهر أن هذا الرفع لذكره الذي امتن الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الله سبحانه من ذلك قوله تعالى (والله ورسوله أحق أن يرضوه) وأمر الله بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم كقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا عنه) وقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وغير ذلك.
وبالجملة فقد ملأ ذكره الجميل السموات والأرضين، وجعل الله له من لسان الصدق والذكر الحسن والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان.
وما أحسن قول حسان رضي الله تعالى عنه:
أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي مع اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أتاني جبريل فقال إن ربك يقول تدري كيف رفعت ذكرك. قلت الله ورسوله
292
أعلم، قال إذا ذكرت ذكرت معي " (١) أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل وقد روي بطرق.
وقال ابن عباس في الآية لا يذكر الله إلا ذكر معه فهو الذي يطوى به الذكر الجميل ويبدأ.
_________
(١) سقطت هذه الكلمة من الأصل، واستدركناها من الطبري وغيره.
293
(فإن مع العسر يسراً) أي أن مع الضيقة سعة، ومع الشدة رخاء ومع الكرب فرجاً، وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسير يتيسر، وكل شديد يهون، وكل صعب يلين، ومع بمعنى (بعد)، وفي التعبير بها إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن.
عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وحياله جحر فقال: " لو دخل العسر هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله
(إن مع العسر يسراً) الخ ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) " وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه مرفوعاً نحوه. قال السيوطي وسنده ضعيف.
وعن ابن مسعود مرفوعاً " لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه فيخرجه ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول إن مع العسر يسراً " (١) الخ أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الصبر، وابن المنذر والبيهقي في الشعب، قال البزار لا نعلم رواه عن أنس
_________
(١) رواه ابن جرير الطبري ٣٠/ ٢٣٥ من رواية يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، ودراج، وإن كان صدوقاً في حديثه فإنه في روايته عن أبي الهيثم ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر في " التقريب " ومع ذلك فقد صححه ابن حبان. وقال ابن كثير: وكذا روى الحديث ابن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به، ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج. وأورده السيوطي في " الدر " ٦/ ٣٦٤ وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، وأبي نعيم في " الدلائل " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
293
إلا عائذ بن شريح قال فيه أبو حاتم الرازي في حديثه ضعف، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن ابن مسعود.
ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريراً وتوكيداً فقال مكرراً له بلفظ (إن مع العسر يسراً) أي أن مع ذلك العسر المذكور سابقاً يسراً آخر لما تقرر من أنه إذا أعيد المعرف يكون الثاني عين الأول سواء كان المراد به الجنس أو العهد بخلاف المنكر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأول في الغالب، ولهذا قال النبي ﷺ في معنى هذه الآية أنه لن يغلب عسر يسرين.
قال الواحدي: وهذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد واليسر إثنان قال الزجاج ذكر العسر مع الألف واللام، ثم ثنى ذكره فصار المعنى أن مع العسر يسرين، قيل والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرر.
قرأ الجمهور بسكون السين في العسر واليسر في الموضعين، وقرىء بضمها في الجميع وفيه خلاف هل هو أصل أو مثقل من المسكن.
وعن الحسن قال: " خرج رسول الله ﷺ يوماً فرحاً مسروراً وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً " أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي، وهذا مرسل وروي نحوه مرفوعاً مرسلاً عن قتادة.
ولما عدد سبحانه عليه - ﷺ - نعمه السالفة ووعده بالنعم الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة فقال
294
(فإذا فرغت فانصب) أي إذا فرغت من صلاتك أو من التبليغ أو من الغزو فاجتهد في الدعاء واطلب من الله حاجتك، أو فانصب في العبادة أو اتعب في الدعاء قبل السلام وبعده، والنصب التعب يقال نصب ينصب نصباً أي تعب.
قال قتادة والضحاك ومقاتل والكلبي: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة
294
فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك، وكذا قال مجاهد.
قال الشعبي إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وكذا قال الزهري وقال الكلبي أيضاًً إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب أي (استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات).
وقال الحسن وقتادة وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب لعبادة ربك، وفيه نظر، لأن السورة مكية والأمر بالجهاد إنما كان بعد الهجرة فلعله تفسير الذاهب إلى أن السورة مدنية، قال مجاهد أيضاًً: إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.
وقال ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء واسأل الله وارغب إليه، وعنه قال: قال الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغت من الصلاة وتشهدت فانصب إلى ربك واسأله حاجتك.
وعن ابن مسعود قال: فانصب إلى الدعاء وإلى ربك فارغب في المسألة، وعنه قال إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قال عمر ابن الخطاب: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
295
(وإلى ربك) المحسن إليك بفضائل النعم خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين (فارغب) أي اجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه، وقيل تضرع إليه، قال الزجاج أي اجعل رغبتك إلى الله وحده وقال عطاء يريد أنه يضرع إليه راهباً من النار، راغباً في الجنة.
والمعنى أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائناً من كان فلا يطلب حاجاته إلا منه، ولا يعول في جميع أموره إلا عليه، قرأ الجمهور فارغب وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة فرغب بتشديد الغين أي فرغب الناس إلى الله وشوقهم إلى ما عنده من الخير.
295
سورة التين
هي ثمان آيات وهي مكية في قول الجمهور وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال أنزلت سورة التين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب قال " كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً ولا قراءة منه ".
وعنه قال: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المغرب فقرأ بالتين " أخرجه الخطيب وعن عبد الله بن يزيد نحوه عند الطبراني وابن شيبة.
وعن زرعة بن خليفة قال: " أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من اليمامة فعرض علينا الإسلام فأسلمنا فلما صلينا الغداة قرأ بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر " وأخرجه ابن قانع وابن الساكن والشيرازي في الألقاب.
297

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)
299
Icon