هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات فمدنية. وقد تضمنت السورة صورا شتى من المعاني والحجج والمشاهد التي تثير النفس لتحملها على الانفعال وبالغ التأثر. والتي تستنفر العقل للخروج من إطار الواقع الضيق إلى آفاق الملكوت الرحب.
وفي السورة تنديد بالغ ومستفيض بالشرك والمشركين الذين أشربت نفوسهم حب الأصنام فانحنوا أمامها تقديسا وتعظيما، وهم في ذلك لا يستندون إلى ذرة من تفكير. إلا تفكير السادرين في الضلالة والسفاهة وهوان العقول.
والله جل جلاله يتحدى العرب أولي البلاغة والفصاحة واللسن أن يأتوا بسورة واحدة من مثل سورة القرآن الحكيم. لا جرم أن ذلك برهان قاطع أبلج على كون هذا الكتاب معجز وأنه منزل من عند الله.
والحديث من الساعة بأهوالها وويلاتها وفظائعها يحتل في هذه السورة مساحة غير قليلة ؛ وذلك هو شأن القرآن من أوله إلى آخره في بالغ تركيزه على هذه اليقينية الكونية الكبرى، ألا وهي خبر القيامة ودعوة الناس للإيمان باليوم الآخر.
وتتضمن السورة قصة الطاغية الأثيم فرعون الذي طغى وعتا وتجبر فأهلكه الله وجنوده في البحر، وأنجى الله بني إسرائيل بقيادة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام. إلى غير ذلك من الأخبار والمعاني والقصص والأمثال.
ﰡ
قوله تعالى :﴿ الر تلك آيات الكتاب الحكيم ١ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ﴾.
أما قوله :﴿ الر ﴾ ففي تأويله عدة أقوال، لعل أجدرها بالاعتبار أنها أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتى بها هنا على سبيل التحدي، وبذلك يكون اسم الإشارة ﴿ تلك ﴾ عائدا إليها، فيكون تقدير الكلام : هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته أو الإتيان بشيء من مثله إنما تتألف كلماته من جنس هذه الحروف.
قوله :﴿ آيات الكتاب الحكيم ﴾ ﴿ الكتاب ﴾، يراد به جميع القرآن باعتبار تحققه في اللوح المحفوظ، أو باعتبار نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وإما جميع ما نزل من القرآن حينئذ. و ﴿ الحكيم ﴾، أي ذو الحكمة ؛ سمي بذلك لاشتماله على الحكمة. و ﴿ الحكيم ﴾ صفة للكتاب.
وقوله :﴿ إلى رجل منهم ﴾ أي بشر من جنسهم ومن مشاهيرهم يعرفونه حق المعرفة في صدقه وشرفه وعظيم خلقه. والمعنى : أن هؤلاء الكافرين الضالين جعلوا من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أعجوبة يتعجبون منها ويجعلونه لهم موضع استنكار واستسخار. لا جرم أنهم هم موضع الزراية والسفاهة. فهل في بعث رجل كريم من جنسهم ومشاهيرهم لإرشادهم وهدايتهم ما يثير مثل هذا الإنكار والتعجيب لولا أنهم هم الجاهلون والضالون والحمقى ؟ !
قوله :﴿ أنا أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ﴾ ﴿ أن ﴾، تفسيرية، أو مصدرية ؛ أي إنذار الناس. أي أخبر الناس بما يخوفهم عواقب الإدبار والنكول عن الإيمان. ﴿ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ﴾ أطلقت القدم على السبق على سبيل المجاز. والمراد به الشرف والتقدم نحو الرفيع من المنازل.
وقيل : المراد بقدم الصدق : شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : السعادة السابقة للمؤمنين من هذه الأمة في اللوح المحفوظ.
قوله :﴿ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ﴾ لما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبشرهم بادر المشركون من العرب بالقول ﴿ إن هذا لساحر مبين ﴾ والإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهو في زعمهم المريض ووهمهم الباطل ساحر ظاهر، قد فرق شملهم وجال بين القريب منهم وقريبه. وهذا إشعار بعجز العرب عن مضاهاة القرآن أو معارضته أو اصطناع شيء مثله. فما وجدوا بعد ذلك سبيلا يسلكونه أو ذريعة يستمسكون بها للنيل من القرآن والطعن فيه إلا أن قالوا : إن محمدا لساحر وأن ما جاءهم به سحر. لا جرم أن ذلك دليل أبلج على صدق هذا الكتاب الحكيم. وأنه معجز خارج عن طوق البشر بل إنه منزل من خالق الكائنات والقدر. وما دون ذلك من لغط ليس إلا الهذيان المتلجلج، والإسفاف التافه المهين الذي ينحدر إليه الضالون المضلون من أعداء الإسلام في كل مكان وزمان٢.
٢ روح المعاني جـ ٦ ص ٦١- ٦٤. والبحر المحيط جـ ٥ ص ١٢٤- ١٢٧ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٠٥..
قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ هذا القول وأمثاله من متشابه القرآن. وللعلماء في تأويله مذاهب شتى ؛ فقد قيل : الاستواء بمعنى الاستيلاء. وقيل : الاستواء على العرش كناية عن الملك والسلطان. وذلك بيان لجلال ملك الله، وعظيم شأنه، وبالغ قدرته ؛ إذ خلق هاتيك الأجرام العظيمة كافة.
قوله :﴿ يدبر الأمر ﴾ في محل نصب على الحال. وقيل : في محل رفع خبر ثان إن. وقيل : مستأنف لا محل له من الإعراب١.
قوله :﴿ يدبر الأمر ﴾ ﴿ يدبر ﴾، من التدبير ومعناه في اللغة : النظر في عاقبة الأمر٢.
والمراد به هنا : التقدير على أكمل وجه أتمه ؛ فالله سبحانه يقضي أمور الكائنات كلها على الوجه الفائق والأكمل حسبما تستدعيه حكمة الله البالغة.
قوله :﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾ الشفيع من الشفاعة، ومنها الشفع، وهو يخالف الوتر٣ ؛ فالله وحده أوجد العالم وحده ليس له في ذلك شريك يعنيه أو شفيع له. ولا يجترئ أحد على الشفاعة عنده يوم القيامة إلا بإذنه، إذا كان الشفيع أهلا للاستشفاع، وكان المشفوع له ممن يستحق التشفيع. وقيل : كان ذلك ردا على زعم المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله.
قوله :﴿ ذالكم الله ربكم فاعبدوه ﴾ الإشارة في محل رفع مبتدأ. واسم الجلالة وربكم، خبران لذلكم. ويجوز أن يكون اسم الجلالة نعتا لاسم الإشارة. و ﴿ ربكم ﴾ خبر لذلكم. أو اسم الجلالة خبر للإشارة ذلكم. و ﴿ ربكم ﴾ بدل منه.
والمعنى المقصود : أن الله الموجد المدبر ذو الجلال والكبرياء لهو المستحق أن تعبدوه وحده دون غيره من الشركاء والأنداد.
قوله :﴿ أفلا تذكرون ﴾ ذلك تحضيض بالغ على التذكير والتدبر والادكار بما يحمل العقل والقلب على التصديق والاستيقان والإذعان والانصياع لأمر الله وحده٤.
٢ القاموس المحيط ص ٤٩٩..
٣ القاموس المحيط ص ٩٤٧..
٤ روح المعاني جـ ٦ ص ٦٥، ٦٦ والبحر المحيط جـ ٥ ص ١٢٨..
قوله :﴿ إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ﴾ بدء الخلق يراد به النشأة الأولى، وإعادته يراد بها البعث من القبور. وقيل : البدء من التراب ثم إعادته إلى التراب، ثم يعيده إلى البعث من التراب. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ ليجزي الذين آمنوا وعلموا الصالحات بالقسط ﴾ أي ليثيب المؤمنين بالعدل والنصفة فيبلغ كل منهم جزاءاه وأجره بحسب ما قدم من الأعمال الصالحة فلا يلحقهم في ذلك جور ولا حيف.
قوله :﴿ والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم ما كانوا يكفرون ﴾ وفي مقابل الجزاء الحسن للمؤمنين يجازي الله الكافرين أشد الجزاء ؛ وهو أن يسقوا شرابا من ماء بالغ الحرارة تتقطع منه أحشاؤهم وقلوبهم، وأن يذيقهم العذاب الأليم، وذلك جزاء كفرهم وشرودهم عن الحق وعتوهم عن دين الله.
والضياء والضوء : ما ينير الأشياء. والضوء أقوى من النور وأسطع ؛ فهو الشعاع الصادر عن جرم الشمس بقدرة الله وحكمته. أما النور : فهو الشعاع الصدر عن القمر. والفرق بين الجرمين عظيم وهائل، وذلك من حيث المساحة والحجم، ومن حيث النوع والجوهر ؛ فجرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمليون ونيف من المرات. لكن القمر أصغر من حجر الأرض بكثير. أما من حيث النوع والجوهر ؛ فإنه الشمس عبارة عن كتلة هائلة لاهبة من النار تبلغ حرارتها آلاف الدرجات ؛ فهي بذلك تشع من لهيبها المضطرم الضياء والحرارة والإشراق. لكن المقر بمثابة العاكس لضياء الشمس ؛ إذ يعكسه على الوجه المقابل له من الأرض ليشع فيه النور الساطع، قوله :﴿ وقدره منازل ﴾ أي جعله ذا منازل، فأول ما يبدوا دقيقا ثم يطرد في الكبر والتزايد حتى يتسق ويصيرا بدرا. وهو كلما ازداد جرمه المنظور، ازداد نوره المنبعث المنساب نحو الأرض لينشر فيها الإشعاع الساكن المتلألئ.
قوله :﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ أي حساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي ؛ فإنه بسير القمر تعرف الشهور، وهي في شريعة الإسلام مبينة على رؤية الأهلية. والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية.
قوله :﴿ ما خلق الله ذالك إلا بالحق ﴾ خلق الله هذا النظام الكوني المتسق المطرد الرتيب وفقا للحكمة والصواب وإظهارا لقدرته وعظيم صنعه.
قوله :﴿ يفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ أي نبين الحجج والدلائل للمتفكرين أولي العقول النيرة الذين ينتفعون بهذه الدلائل والبينات الواضحات التي تكشف عن حكمة الله البالغة وعظيم صنعه وتقديره.
قوله :﴿ واطمأنوا بها ﴾ أي ركنوا إلى الحياة الدنيا ووجدوا فيها سكينتهم ومستقرهم. لا جرم أن هذه صفة الأشقياء الخاسرين من الناس الذين يستشعرون السعادة الكاملة بما تحصل لهم من طيبات الدنيا وزينتها وهم لاهون في الشهوات والسفاسف، ساهون عن الدار الآخرة سهو الخاسرين الشاردين الذين ألهتهم منافعهم وشهواتهم عن طاعة الله وعن التفكر في آياته في الخلق، وما بث من دلائل واضحة وبينات ظاهرة بلجة.
أولئك ﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾ أي بسبب إيمانهم في الدنيا سيرشدهم الله يوم القيامة إلى الجنة بعد أن يجوزوا الصراط ليخلصوا بعد ذلك إلى النجاة الأبدية والفوز المستديم السرمد.
قوله :﴿ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ﴾ في محل نصب على الحال، والمعنى : أن أهل الجنة في الجنة يكونون جالسين أو متكئين على سرر مرفوعة، والأنهار تجري من بين أيديهم ومن تحتهم.
قوله :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ أي آخر دعاء أهل الجنة أو خاتمته بعد بدئه بالتسبيح هو قولهم :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ وهو الثناء على الله بما هو أهله، لعظيم إفضاله وجليل امتنانه عليهم١.
﴿ استعجالهم ﴾، منصوب على المصدر، وتقديره : استعجالا مثل استعجالهم فحذف المصدر وصفته وأقام مقامه ما أضيفت إليه الصفة١.
وهذا إخبار من الله عن عظيم رحمته ولطفه بالعباد ؛ فهو جلت قدرته لا يستجيب لهم إذا ما دعوا على أنفسهم أو أولادهم أو أموالهم حال غضبهم الشديد. وهو سبحانه يعلم أنهم في مثل هذه الحال من التضجر والغضب لا يقصدون بالشر إرادته لأنفسهم أو أولادهم أو أموالهم. ومن أجل ذلك لا يستجيب الله لهم مثل هذا الدعاء كما يستجيب لهم إذا ما دعوا لأنفسهم ولأولادهم وأموالهم بالخير. لا جرم أن الله لطيف رؤوف بالعباد ؛ وهو سبحانه أعلم بأنفسهم من أنفسهم ؛ فهم لضعفهم وقلة اصطبارهم وهوان عزائمهم ويستعجلون الشر لأنفسهم وأولادهم ؛ بالدعاء في ساعة الكرب والشدة إذا ما غشيتهم غاشية من غضب أو سخط أو تضجر ؛ ولهذا تفضل الله بجزيل امتنانه، وكامل رحمته وتلطفه بالعباد ؛ إذ لم يقبل منهم الدعاء إلا ما كان منه في الخير والبركة والنماء ؛ وهو قوله تعالى :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ﴾ أي لو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر فيما فيه سوء عليهم في أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوا الله به ؛ لهلكوا، ولعجل الله لهم الموت والفناء.
على أن الإفراط في دعاء المرء على نفسه وولده وماله يوشك أن يفضي إلى الهلكة والمحذور ؛ فينبغي مجانبة الدعاء على النفس والمال والولد في كل الأحوال، وأن يصون المرء لسانه عن التعثر بمثل هذا الدعاء ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقي التحذير من مثل هذا الدعاء روي الإمام مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم ؛ ولا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم ).
قوله :﴿ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ﴾ الطغيان، مجاوزة الحد في العصيان٢. و ﴿ يعمهون ﴾، من العمه، وهو التحير والتردد٣، والفاء في قوله :﴿ فنذر ﴾ للعطف على مقدر دل عليه الكلام. والتقدير : فنتركهم ونمهلهم ؛ أي ولا نعجل الشر للمشركين ولا يقضي إليهم أجلهم بالهلكة والإفناء، ولكن نتركهم حائرين في إجرامهم وعصيانهم بعد أن نفيض عليهم بالنعمة فتلزمهم الحجة ويبوءوا بالخسران وسوء المصير٤.
٢ مختار الصحاح ص ٣٩٣..
٣ مختار الصحاح ص ٤٥٦..
٤ الكشاف جـ ٢ ص ٢٢٧ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ٥٠- ٥٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٠٨..
ذلك وصف من الله للبشر ؛ فإنهم ضعاف العزائم والهمم لا يملكون من قوة الاحتمال والصبر إلا أهون مقدار ؛ فهم قلقون جزعون ضجرون بمس الشر لهم. يستوي في ذلك المشركون والفاسقون والعصاة من الناس، أو غيرهم من ضعفة المسلمين أولي القلوب الخاوية والإيمان الضئيل. إن هؤلاء جميعا إذا أصابتهم الشدة أو نتابهم الجهد دعوا الله مستغيثين به ليكشف عنهم ما أصابهم. يدعونه حال كونهم مضطجعين على جنوبهم أو قاعدين أو قائمين. فلما فرج الله عنهم ما أصابهم من الجهد والبلاء استمروا على طريقتهم الأولى من قبل أن يصيبهم الضر ونسوا ما حل بهم من الكرب والشدة أو تناسوه فلم يشكروا لله الذي فرج عنهم ذلك ؛ بل عادوا للشرك والعصيان والباطل.
وذلك هو ديدن الإنسان المضطرب ذي العزيمة الخائرة والهمة الراقدة الفاترة من ضعفة القلوب والعقيدة. وأولئك الذين يطغي عليهم الهلع ويستحوذ عليهم الذعر والجزع ؛ فيستسلموا للخور والهوان والإياس إذا ما حل بهم البلاء. لكن المؤمنين الصابرين أولي الإيمان المتوطد الراسخ، والعقيدة المستكنة الثابتة لا يتزعزعون ولا يخرون ولا يستسلمون للهوان أو الشيطان ؛ بل إنهم يمضون على حالهم من الاعتصام بحبل الله المتين يرجونه التمكين والتثبيت والتوفيق.
قوله :﴿ كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ اسم الإشارة في قوله :﴿ كذالك ﴾ عائد إلى مصدر الفعل المذكور بعده ؛ أي مثل ذلك التزيين ﴿ زين للمسرفين ﴾ وهو من الإسراف، ومعناه التبذير ومجاوزة الحد، أو ما أنفق في غير طاعة الله١.
قوله :﴿ وما كانوا ليؤمنوا ﴾ معطوف على قومه :﴿ ظلموا ﴾ واللام لتأكيد النفي ؛ أي أن الله يعلم أن هؤلاء لا يؤمنون. والله سبحانه يخوف بذلك كفار مكة مما حل بالسابقين من العذاب ليبادروا بالتصديق والطاعة ويجتنبوا الإشراك والعصيان.
قوله :﴿ كذالك نجزي القوم المجرمين ﴾ أي مثل ذلك الجزاء –وهو الإهلاك بسبب الكفر والتكذيب نجزي كل مجرم من المجرمين. وهذا وعيد من الله للكافرين في زمن النبوة، ولكفار مكة على الخصوص.
نزلت في مشركي مكة، وهم خمسة نفر : عبد الله بن أبي أمية المخزومي، والوليد ابن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى. وقيل : نزلت في المستهزئين ؛ إذ قالوا : يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك١.
والمعنى : أنه إذا قرئ المشركون آيات الكتاب الحكيم الذي أنزله الله إليك يا محمد بينات واضحات ﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ أي قال الذين لا يقنون بوحدانية الله، ولا يصدقون بيوم المعاد ولا بالعبث من القبور ﴿ ائت بقرآن غير هذا أو بدله ﴾ أي رد هذا القرآن الذي جئتنا به، وجئنا بغيره من نوع آخر أو بدله إلى موضع آخر. والمراد بالتبديل الذي سألوه إياه هو أن يحول الوعد وعيدا، والوعيد وعدا، والحلال حراما، والحرام حلالا. وقيل : أن يسقط من القرآن ما فيه تسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم.
قوله :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقائي نفسي ﴾ أي ليس هذا إلي وإنما هو من شأن الله. وما أنا إلا العبد المأمور والرسول المتبع المكلف بالتبليغ قوله :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ أي ما أتبع في كل ما جئتكم به من أمر ونهي، ومن وعد ووعيد، ومن تحليل وتحريم، إلا ما جاءني به الوحي من عند الله. فلا أتقول عليكم شيئا من عند نفسي.
قوله :﴿ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ﴾ أي قل لهم يا محمد : إني أخشى من الله إن عصيت بمخالفة أمره أو بتغيير أحكام كتابه، أو بدلت شيئا من آياته –عذاب يوم القيامة حيث الأهوال والبلايا وعظائم الأمور.
قوله :﴿ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ﴾ أي لقد مكثت فيكم مدة من الزمن وهي أربعون سنة. وذلك من قبل أن أتلوا عليكم هذا القرآن ومن قبل أن يوحي إلي ربي. وكنتم خلال هذه المدة تعرفونني تمام المعرفة. تعرفونني بالصدق والأمانة، وأنني موصوف بأنني أمي لا أقرأ ولا أكتب، ثم جئتكم بهذا الكلام الفذ الذي عجزتم عن معارضته ﴿ أفلا تعقلون ﴾ ألي فيكم عقول تميزون بها بين الحق والباطل فتدركون وتوقنون أن هذا القرآن لا يقدر على انتحاله بشر وإنما هو من عند الله.
ومن أظهر الأدلة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل من ربه وأن ما تلاه على الناس لهو الحق المنزل من رب العالمين، وما تحمله الروايات العجاب عن هذيان مسيلمة الكذاب، وما كان يندلق من فمه المتعثر الملتات من سقط الكلام وحشوه، ومن خرافات سقيمة مصطنعة لا يهرفها غير الصبية والجاهلين والسفهاء في مجالس اللهو والعبث. لا جرم أن الفرق بين القرآن وما تقوله مسيلمة وافتراه كالفر ما بين الحق والباطل، أو بين الصدق الناصع والزور الملفق المقبوح، أو ما بين الضياء الأبلج في وضح النهار المتجلي والصريم الأسود في حنادس١ الليل المظلم. فقد قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل٢ الناس فكنت فيمن انجفل، فلما رأيته عرفت أنه وجهه ليس بوجه رجل كذاب. قال : فكان أول ما سمعته يقول :( يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام ؛ تدخلون الجنة بسلام ).
أما مسليمة فراح يهذي هذيان الأبله المتطفل وهو يفتري على الله الباطل ويتقول من الكلام الأخرق المهين ما يسخر منه السفهاء والبهاء من الناس. فكيف إذا ما قورن كلامه المتهافت الممجوج بكلمات الله العجيبة من قرآنه الفذ ؟ ! لا جرم أن القرآن تفوح من أحرفه الرفيقة العذاب ريح الإعجاز المذهل. وتتدفق من أسلوبه ونداوة أجراسه ونغمة كل ألوان الجمال والجلال والطلاوة بما يروع السامعين من أولي العقول والنباهة. ويستبين ذلك كله ونحن نستمع ونتدبر بعضا من آيات الكتاب الحكيم وهي تفيض من جرس الحروف وحلاوة النغم الرخي المستطاب ما يشيع في جو التلاوة ظلالا من الانفعال الغامر، والبهر الجياش الهامر. وما ينشر في صدروه السامعين والمتدبرين أصداء نوراية يعز على الكلمات أن تكشف عن حقيقتها.
ومثال ذلك قوله تعالى :﴿ لا أقسم بيوم القيامة ١ ولا أقسم بالنفس اللوامة ٢ أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه ٣ بلى قادرين على أن نسوي بنانه ٤ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ٥ يسئل أينا يوم القيامة ٦ فإذا برق البصر ٧ وخسف القمر ٨ وجمع الشمس والقمر ٩ يقول الإنسان يومئذ أين المفر ﴾ وغير ذلك من الأمثلة على روعة النظم القرآني وعلى عجيب أسلوبه المميز الباهر. فأين هذا الكلام المعجز الخارق من لاكم شائه ممتهن انتحله مسيلمة الكذاب ؛ فإذا هو غية السقم والانحدار، وغاية السقوط في الدركات. ومن جملة ذلك قول مسيملة : يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين.
وقوله : لقد أنعم الله على الحبلى، إذ أخرج منها نسمة، تسعى من بين صفاق وحشا.
وقوله أيضا : الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل.
وقوله أيضا : والعاجنات عجنا. والخابزات خبزا. واللاقمات لقما. إهالة وسمنا. إن قريشا قوم يعتدون.
وذكر أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة، وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد. فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة ؟ فقال عمرو : لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة. فقال : وما هي ؟ فقال :﴿ والعصر ١إن الإنسان لفي سخر ﴾ إلى آخر السورة. ففكر مسيلمة ساعة ثم قال : وأنا قد أنزل علي مثله. فقال : وما هو فقال : يا وبر يا وبر، إنما أنت أذنان وصدر. وسائرك حفر نقر. كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.
فإن هذا الكلام الملفق المصطنع لم يخف على عمرو بن العاص وهو مشرك خصيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ سخر منه واستقبحه واستهجنه غاية الاستهجان ؛ لفرط ركاكته في مبناه، وبالغ تفاهته في معناه٣.
٢ انجفل: شرد ونفر. أو مضى وأسرع. أو انزعج وفزع. فهو جافل وجفول وجفال. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ١٢٧..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤١٠، ٤١١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٣٠..
يبين الله حال المشركون السفهاء ؛ إذ كانوا يعبدون الأوثان وهي أجسام مركومة عمياء لا تعي ولا تعقل. أو هي أشباح مصنوعة بلهاء لا تسمع ولا تنطق ولا تدري عن نفسها وعميق حولها شيئا. كانوا يعبدونها وهي لا تملك لهم ضرا ولا نفعا، ويظنون واهمين أنها تشفع لهم عند الله.
قوله :﴿ قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض ﴾ أي قل لهم يا محمد : أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما ؟ ! فذلك باطل ليس له حقيقة أو وجود. بل إن الله يعلم أن ذلك خلاف ما تزعمون وأن هذه الأصنام التي تعبدونها لا تملك الشفاعة لأحد، بل لا تنفع أحدا ولا تضره. وفي ذلك من التهكم بالمشركين والاستخفاف بعقولهم ما لا يخفى.
قوله :﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ ينزه الله نفسه العظيمة عما ينسه إليه هؤلاء السفهاء من شرك ؛ فهو أعظم من أن يكون له شريك أو نديد.
واختلفوا في تأويل هذه الآية فقيل : كان الناس أهل دين واحد وملة واحدة وهي ملة الإيمان والتوحيد. فكانوا جميعا على الدين الحق، دين الفطرة وهو الإسلام. واختلف القائلون بهذا أنهم متى كانوا كذلك. فقال ابن عباس : كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده إلى أن قتل أحد ابنيه أخاه.
وقيل : بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح حيث الطوفان وكانوا عشرة قرون، ثم اختلفوا على عهد نوح ؛ فبعث الله لهم نوحا.
وقال بعض المفسرين في المراد بأنهم كانوا أمة واحدة : إنهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان وهو ما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام :( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه ) وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ﴾ أي لولا ما سبق في حكم الله إنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه قيل يوم القيامة لقضي بينهم في الدنيا فيما اختلفوا فيه، لكنه سبحانه لم يفعل، وذلك من أجل كلمته التي سبقت والتي لا تتخلف٢.
٢ تفسير الرازي جـ ١٧ ص ٦٥، ٦٦ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٣٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٥٧..
قوله :﴿ فقل إنما الغيب لله ﴾ أي إنزال مثل هذه الآيات غيب والله وحده هو الذي يختص بعلم الغيب ؛ فهو أعلم بالصارف عن إنزال ما سألوه من الآيات وما في ذلك من حكمة هو أعلم بها ﴿ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ أي انتظروا أيها المشركون المعاندون ما سيقضيه الله بيننا وبينكم وهو تعجيل العقاب للمبطل منا وإظهار المحق.
قوله :﴿ قل الله أسرع مكرا ﴾ المكر في اللغة بمعنى الخديعة. والمكر من الله معناه الاستدراج، أو الجزاء على المكر. مكر الله بالعاصي ؛ أي جازاه على مكره. أو أمهله ومكنه في الدنيا. وفي الآية :﴿ ومكروا ومكر الله ﴾ ٢ والمعنى : أن الله أشرع عقابا لكم وتنكيلا بكم ؛ إذ دبر لكم العقاب قبل أن تدبروا أنتم كيدكم.
قوله :﴿ إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ﴾ المراد برسل الله هنا : الحفظة الذين يكتبون أفعال العباد فيحصونها عليهم سواء فيها الكبير والحقير والنقير. فما من شيء إلا ويجده العبد يوم القيامة مكتوبا. والمعنى : أن الله يرسل إليكم الملائكة الحفظة ليكتبوا ما تمكرون في آيات الله من تكذيب واستهزاء وكيد وسوء فعال ونية٣.
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٨١ والقاموس المحيط جـ ٢ ص ١٤١..
٣ تفسير الرازي جـ ١٧ ص ٦٨، ٦٩ والكشاف جـ ٢ ص ٢٣١ وتفسير البيضاوي ص ٢٧٦..
ذلك تعديد من الله لنعمه على العباد. ونعم الله كثيرة لا يحصرها العد. وهي نعم مبثوثة في كل الأحوال والآفاق والأزمان، وقد أسبغها الله على الإنسان ليجد فيها عيشه المريح ؛ فلا يتعسر، ولا يستضنك أو يشقى.
ومن جملة هاتيك النعم الكثيرة : امتطاء الدواب التي ذللها الله للركوب في البر سواء في ذلك الدواب من الأنعام فيما مضى، أو الحوامل المصنوعة التي تسير بقوة الآلة أو البخار أو النار في الزمن الراهن. سواء منها المراكب التي تسير في البراري والصحاري أو التي تجوب أجواز الفضاء بسرعتها الفائقة المذهلة. أو التي نمخر عباب البحار الهوادر من السفائن ونحوها.
وذلك كله مقتضى قوله تعالى :﴿ هو الذي يسيركم في البر والبحر ﴾ أي يحملكم راكبين على ظهور الحوامل في البر، أو على الفلك ( السفن ) في البحر بعد أن ذلل الله لعملية الركوب السبب في ذلك وهو خاصية الطفو على سطح الماء لتسير عليه السفن المشحونة فلا تغرق. وهي خاصية جعلها الله في الماء وحده دون غيره من المائعات، تذليلا لعملية الركوب، وتمكينا للإنسان من العيش بأمن وراحة وكلاءة.
قوله :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءتهم الموج من كل مكان ﴾ ﴿ حتى ﴾ لانتهاء الغاية. و ﴿ الفلك ﴾ يعني السفينة. يستوي في ذلك الواحد والجمع، وهو يقع على المذكر والمؤنث ﴿ وجرين بهم ﴾ رجع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة. والمعنى : أن السفينة تجري بالراكبين عليها ﴿ بريح طيبة ﴾ أي لينة الهبوب، فهي ليست شديدة ولا بطيئة ﴿ وفرحوا بها ﴾ أي فرح الراكبون على ظهر الفلك وهي تسير بهم في رفق ولين. ثم بعد ذلك ﴿ جاءتها ريح عاصف ﴾ أي تلت الريح اللينة ريح أخرى شديدة تعصف بالسفينة فتثير الخوف لفرط هبوبها الشديد ﴿ وجاءهم الموج من كل مكان ﴾ الموج ما ارتفع من الماء فوق سطح البحر ؛ أي جاء الموج السفينة هادرا متلاطما وهو يرطمها بغلظة واشتداد ﴿ وظنوا أنهم أحيط بهم ﴾ أي أيقنوا أنهم هالكون لا محالة، وأنهم صائرون على الغرق والموت. وذلك بعد أن أخذ منهم الخوف واليأس كل مأخذ. وفي مثل هذه الساعة المخوفة العجفاء تحيط بمن في السفينة أسباب الرعب واليأس والزلزلة، فلم يلبثوا ؛ إذا ذاك إلا أن يجأروا إلى الله مسغيثين به مستمدين منه النجاة والخلاص وهو قوله :﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ دعوا الله وحده وتركوا ما كانوا يعبدون من أصنام وأوثان فلم يدعوها ولم يرجوها. وذلك لما شافوا على الهلاك وأيقنوا أنهم مغرقون ؛ فلم يجدوا عن الرجوع إلى الله وحده مناصا، ويستفاد من ذلك أن الإنسان مجبول على الرجوع إلى الله كلما أحاطت به الشدائد أو أحدقت به الأهوال. وفي مثل هذه الساعة التي تروعه فيها المخاطر يتحرر من ربقة العبودية لغير الله ؛ فيستسلم لله وحده، ويتوجه إليه بالدعاء الخالص طلبا للسلامة والنجاة. ويستفاد كذلك أن الإنسان مفطور على الإيمان بالله وحده دون سواه من الشركاء والأنداد. هكذا خلق الإنسان ؛ فقد جيء به ليكون على فطرة التوحيد الخالص والإيمان بالله وحده دون غيره من الآلهة المختلقة والمصطنعة. وما كان الإنسان إلا ليظل على هذا السمت من صدق الإيمان وسلامة الفطرة وتمام التوجه إلى الله وحده لولا الشياطين الماكرة الخبيثة التي تكيد للإنسان كيدا والتي تمكر به في الليل والنهار وفي غاية الخداع والتضليل والخيانة والغش لتجتاله عن دين الحق إلى ملل الضلال والكفر والخطيئة على اختلاف ضروبها وألوانها. وقد اجتالته فعلا ! !
قوله :﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ للام موطئة للقسم، والإشارة في قوله :﴿ هذه ﴾ عائدة إلى الورطة التي وقعوا فيها، وهي مشارفة الهلاك في البحر بعد أن عصفت بهم الأمواج حتى كادت السفينة تتبدد ؛ ليكونوا من الغارقين. فأقسموا لله في هذه الحال المرعبة الموئسة : لئن أنجاهم مما هم فيه من مشارفة الموت ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ للام جواب القسم ؛ أي لنكونن ممن يشكر نعمة الله فلا ننساها البتة.
قوله :﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ﴾ ﴿ بغيكم ﴾، مبتدأ. و ﴿ على أنفسكم ﴾ خبره٢ ؛ أي أن اعتداءكم وفسادكم في الأرض إنما وباله عائد عليكم وحائق بكم.
قوله :﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ ﴿ متاع ﴾، منصوب من وجهين، أحدهما : أن يكون منصوبا بفعل مقدر، وتقديره : يبتغون متاع الحياة الدنيا.
وثانيهما : أن يكون منصوبا على المصدر بفعل مقدر. وتقديره : تمتعوا متاع الحياة الدنيا.
ويجوز فيه الرفع، من وجهين كذلك، أحدهما : أن يكون خبرا بعد خبر لقوله :﴿ بغيكم ﴾.
وثانيهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وتقديره : هو متاع الحياة الدنيا٣. وقيل غير ذلك.
قوله :﴿ ثم إلينا مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ ثم معادكم بعد هذا المتاع إلى الله ؛ إذ تصيرون إليه لتناقشوا الحساب والمساءلة عما أفضتم فيه من تفريط ونسيان. وحينئذ يخبركم الله بكل ما قدمتموه من المعاصي في دنياكم فيجازيكم عليها. وفي ذلك وعيد شديد وتهديد مفزع ينذر به الله الجاحدين المفرطين الذين يتبعون الشهوات في حياتهم الدنيا، ويتيهون ساردين في الضلال والغفلة٤.
٢ البيان لاين الأنباري جـ ١ ص ٤٠٩..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠٩، ٤١٠..
٤ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٣٤- ٢٣٦ والبيضاوي ص ٢٧٦ والنسفي جـ ٢ ص ١٥٨ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ٧٠- ٧٢..
وهذه هي الدنيا : زينة وأموال وبهجة، ومفاخرات بالبنين والمراكز والوجاهات، فضلا عما يتخللها من ألوان الهموم والكروب والأحزان، ثم لا تبث بعد أمد قصير خاطف أن تصير إلى النهاية القطيعة. أو الحتمية التي لا مفر منها ولا مندوحة عنها. وتلك هي حتمية الموت والفراق. فراق الأهل والمال والصحب. فراق البيوت والعشيرة والأوطان. فراق الذكريات والأوطان. فراق الذكريات والأحباب والخلان.
قوله :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا ﴾ الزخرف، معناه الذهب، ثم يشبه به كل مموه. والمزخرف، المزين١ ؛ أي أخذت الأرض لونها الحسن المزين ؛ إذ ازدانت بمختلف أنواع النبات كالحبوب والثمار والأزهار وغير ذلك من وجوه الغلة والثمار والزرع مما تتزين به الأرض فتزداد نضارة وبهاء، وأيقن أهلها أنهم قادرون على جنيها وحصادها والانتفاع بها، عندئذ جاءها أمر الله بهلاكها وإتلافها، إما ليلا أو نهارا.
قوله :﴿ فجعلنها حصيدا كأن لم تعن بالأمس ﴾ الحصيد، معناه المستأصل٢. أي جعل الله زرعها مقطوعا مقلوعا من أصوله ﴿ كأن لم تغن بالأمس ﴾ أي كأن لم تكن هذه الزروع والثمرات نابتة على ظهر الأرض بالأمس. وقوله :﴿ لم تغن ﴾ من غني بالمكان ؛ إذا أقام به. والمعاني في اللغة بمعنى المنازل، أو المواضع التي كان بها أهلوها٣.
قوله :﴿ كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ﴾ أي مثل هذا التفضيل عن حقيقة الدنيا وأنها زينة عاجلة وزخرف مموه عابر فما تلبث أن تزول، نبين لكم الآيات لكي تتدبروا وتعتبروا. أو نبين ونوضح الدلائل والحجج لأولي النهى والأبصار الذين يتفكرون ويتدبرون في خلق الله وفي عجائب قدرته.
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ١٥٠..
٣ مختار الصحاح ص ٤٨٣..
الذين أحسنوا، وهم المحسنون الذين قاموا بما أوجبه الله عليهم خير قيام، وكفوا عما نهاهم عنه من المعاصي والآثام. و ﴿ الحسنى ﴾ معناها هنا الجنة.
والزيادة، يراد بها النظر إلى وجه الله الكريم. وهو قول كثير من السلف والخلف منهم : أبو بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وصهيب وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصري وقتادة والسدي ومجتهد وعطاء والضحاك. وقد ورد في هذا جملة أخبار منها : ما رواه مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولن : ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل ) وفي رواية : ثم تلا :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾.
وأخرج الترمذي عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزيادتين في كتاب الله في قوله :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ قال :( النظر إلى وجه الرحمن ) وعن قوله :﴿ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ﴾ قال :( عشرون ألفا ).
وروي الإمام أحمد عن صهيب ( رضي الله عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ وقال :( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ونادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند اله موعدا يريد أن ينجزكموه ) فيوقون : وما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ؟ قال :( فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم ).
وقيل : الزيادة : هي أن تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك. وذلك كله من جملة ما امتن الله به على المحسنين من الخيرات والبركات والرضوان في الجنان. وفوق ذلك كله وأفضله النظر إلى وجهه الكريم. وهذه هي الزيادة. وهي أعظم من كل ما أعطوه في الجنة. بل إن النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيامة يفوق كل عطاء وإحسان ؛ بل إنه خير من كل خير. فمامن خير ولا بر ولا فضل ولا جزاء إلا كان دون النظر إلى وجه الله في الجنة. والنظر إلى نور وجهه وإشراقه الساطع. لا جرم ينير القلوب، ويثير فيها الحبور والبهجة، وينشر فيها التحنان والاستئناس والرضى والإحساس بكامل السعادة العلوية. لا جرم أن هذه الزيادة خير ما استكن في العالمين من خيرات. وخير ما يطرأ على قلب البشر من وجوه السعادة والبركة والسرور. جعلنا الله من أهل الحسنى والزيادة.
قوله :﴿ ولا يزهق وجوههم قتر ولا ذلة ﴾ هؤلاء المؤمنون الذين أعد الله لهم الجنة وزيادة ينجون من كل بلية أو مهانة أو كرب يوم القيامة مما يصيب الظالمين في المحشر ؛ فهم لا يغشى وجوههم ما يغشى وجوه الكافرين والعصاة من قتام وسواد في عرصات المحشر حيث الاغتمام والهوان والشدة لفرط ما يصيبهم في هذا اليوم العصيب من رعب وتحسر وإياس، وكذلك لا تغشى وجوههم ﴿ ذلة ﴾ وهي المذلة والهوان والصغار.
قوله :﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ هؤلاء المحسنون الذين سبق وصفهم هم أهل الجنة اللابثون فيها أبدا، الماكثون يتنعمون في خيرات لا يتحولون عنها ولا هم عنها مبعدون١.
والمراد بالمثلية هنا : أن جزاء المشركين والعصاة من العذاب مماثل لما قدموه من الذنوب والمعاصي دون زيادة ؛ فهم بذلك غير مظلومين. وذلك هو العدل المطلق من الله في مجازاته للعصاة بمثل ما يستحقونه من العذاب. وفضله البالغ في مجازاة المؤمنين المحسنين زيادة مما يستحقون.
قوله :﴿ وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم ﴾ أي تغشى وجوههم علائم الخزي والهوان والافتضاح ؛ إذ ليس لهم حينئذ من حافظ يمنعهم من العذاب، ولا واق يقيهم مما هو واقع بهم يوم القيامة.
قوله :﴿ كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ﴾ ﴿ قطعا ﴾، بفتح الطاء : فهي جمع قطعة، و ﴿ مظلما ﴾ منصوب على الحال من الليل، فيكون التقدير : أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته. وهذه قراءة عامة قراء الأمصار. وقرئ ﴿ قطعا ﴾ بإسكان الطاء فتكون ﴿ مظلما ﴾ صفة لقوله :﴿ قطعا ﴾ ٢ وهذا إخبار عما يغشى وجوه الكافرين والقيامة من السواد والقتر والكلوح كأنما ألبست قطعا من سواد الليل المظلم.
قوله :﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ هؤلاء الذين سبقت صفتهم من الشرك. وفعل المعاصي هم أهل النار. فهم ماكثون فيها غير مبعدين عنها ولا مبارحين٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤١١..
٣ تفسير الطبري جـ ١١ ص ٧٦- ٧٨ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٣٢..
قوله :﴿ وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ ينطلق الله شركاءهم من الأصنام أو ما كانوا يعبدون ليقولوا لهم موبخين مبكتين موئسين : ما كنا نشعر بأنكم تعبدوننا، وما أمرناكم بعبادتنا ؛ أي أن الشركاء سواء كانوا من الأوثان أو الشياطين أو غيرهم قد أنكروا عبادة المشركين إياهم وتبرءوا منهم، كقوله :﴿ سيكفرون بعبادتهم ويكونوا عليهم ضدا ﴾ وذلك لما ادعوا على الشياطين الذين أطاعوهم أو الأصنام التي عبدوها أنهم هم الذين أمروهم بعبادتهم، فردوا مقالتهم، بأنا ما أمرناكم بذلك، وما كنا مشعر بعبادتكم هذه ؛ ولكنكم كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم.
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤١٠ ومختار الصحاح ص ٢٨٠..
قوله :﴿ وردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾ أي راجع هؤلاء المشركون إلى الله الحق. وهو إلههم وخالقهم ومالكهم الذي لا ريب فيه ﴿ وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي بطل افتراؤهم وما كانوا يتخرصون من الباطل والكذب على الله ؛ إذ كانوا يزعمون أن هذه الأوثان شركاء لله وأنها تقربهم من الله زلفى١.
في هذه الآيات يرد الله على المشركين ليقرر الحجة عليهم : سواء منهم المعترف بوحدانية الله وربوبيته ثم سادر في اتخاذ الأنداد مع الله وعبادة غير الله من مختلف الآيلة، أو غير المعترف بوحدانيته سبحانه ولا بربوبيته ؛ فقد سيقت من أجلهم البينات والدلائل التي يحتج الله بها عليهم، وفيها ما يكفي من أدلة البداهة والحس والمنطق على أن الله حق، وأنه موجود الوجود. ولذلك قال :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض ﴾ وذلك برهان ظاهر على وجود الله وعلى قدرته المطلقة. وذلك يستبين من عملية الزرع برمتها بدءا وبنزول المطر من السماء ليختلط بثرى الأرض فينبث به الزرع والشجر ؛ إذ ينمو رويدا رويدا حتى الإزهار والإثمار ليأكل منه الناس ويستمتعوا بع استمتاعا.
فما كان لمثل هذا الحدث الكوني المدهش أن يقع على هذا النحو المتكامل العجيب لولا الله الذي برأ عملية الإنبات كلها وقدرها تقديرا.
قوله :﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾ وهاتان حاستان عظيمتان ومقدورتان للإنسان جيء بهما على هذه الكيفية الدقيقة المقدورة، وعلى هذه الصورة التي تليق بالإنسان فتكسبه جمالا وحسنا في الهيئة والمنظر سواء في ذلك السمع وأداته الأذان، وكذلك البصر وأداته العين الباصرة، فأنى لهاتين الأداتين وما تفضيان إليه من طاقة السمع والبصر أن تكونا على هذه الصورة البديعة العجيبة لولا الخالق المقتدر الحكيم ؟
قوله :﴿ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ﴾ وكيفية ذلك موضع تفصيل واختلاف بيناهما سابقا. وجملة ذلك : أن المراد هو إخراج النبات الحي من الأرض الميتة. وقيل : إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن ؛ فالإيمان حياة تنبض بالخير والبركة والعطاء. وفي مقابله الكفر فإنه موات لا يفضي إلا للشر والفساد والرذيلة.
وقيل : إخراج العالم من الجاهل، والجاهل من العالم. ووجه ذلك : أن العلم حياة ؛ فهو يفضي إلى الهدى والرضى والاستقامة. أما الجهل فيفضي إلى العماية والتعثر والزلل. إن الذي أوجد هذا وهذا لهو الله سبحانه. وهل من إله غير الله يقدر أن يخلق من البعاد أناسي ينطقون ويسمعون ويبصرون ويسعون في الأرض، فضلا عن كونهم صنفين كل واحد منهما جيء به من الصنف الآخر ؟ !
قوله :﴿ ومن يدبر الأمر ﴾ أي من يلي تدبير أمر السماء والأرض وما فيهن، ويدبر أمر العالم من إنس وجن وغيرهما من الخلائق ؟ قوله :﴿ فسيقولون الله ﴾ أي سيكون جوابهم أن الذي يفعل كل ذلك هو الله ؛ لأنهم يعلمون أن الله هو الحق، وهم يعترفون بهذه الحقيقة لكنهم معاندون مكابدون.
قوله :﴿ فقل أفلا تتقون ﴾ ما دمتم تقرون وتعترفون أن الله حق، وأنه خالق كل شيء ثم أنتم تعبدون من دونه آلهة أخرى، أفلا تخشون عقاب الله وتحذرون على أنفشكم بطشه وانتقامه ؟.
قال الرازي في هذا الصدد : إذ ثبت أن هذا هو الحق، وجب أن يكون ما سواه ضلالا ؛ لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين. فإذا كانا أحدهما حقا، وجب أن يكون ما سواه باطلا١.
قوله :﴿ فأنى تصرفون ﴾ أي كيف تصرفون عن عبادة الله الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، إلى عبادة أوثان جامدة لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنكم شيئا ؟
بعد أن أنكر على المشركين صرفهم عن الحق وعبادة الله احتج على حقية التوحيد وبطلان الشرك، وعلى أن هذه الآلهة المختلفة لا تضر ولا تنفع، ولا تملك أن تفعل شيئا. والاستفهام هنا يراد به التبكيت والتقريع. وهو يتضمن التأكيد الجازم على أن هذه الأصنام ليس بمستطاع لها أن تبدأ الخلق في نشأته الأولى ثم تعيده بعد الموت والفناء مرة أخرى. بل إن الله لهو القادر على أن يبدأ الخلق ثم يبعثه من جديد يوم القيامة.
قوله :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ وهذه الجملة جواب لقوله :﴿ هل من شركاءكم من يبدؤا الخلق ﴾ ١. وهو جواب صريح واضح وفيه التأكيد الجازم على أن عملية الخلق والإعادة إنما هي منوطة بقدرة الله وعظيم جلاله وسلطانه. ولا تملك الآلهة والأرباب المزعومة والمصطنعة أن تفعل شيئا من ذلك.
قوله :﴿ فأنى تؤفكون ﴾ من الأفك –بفتح الهمز- أفكه يأفكه أفكا ؛ أي صرفه وقلبه، أو قلب رأيه قلبا٢ ؛ أي كيف تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق لتركنوا إلى الضلال بعبادة الآلهة المزعومة والمفتراة ؟
٢ القاموس المحيط ص ١٢٠٣..
قوله : قل الله يهدي للحق } هداية الناس للحق وتوفيقهم إلى الصواب من شأن الله وحده وليس من شأن الأصنام والأنداد المزعومة، بل الله سبحانه إنما يهدي الحائرين والغافلين إلى صراطه المستقيم.
قوله :﴿ أفمن يهدي إلى الحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي ﴾ الاستفهام للتقرير وإلزامه الحجة. والفاء للترتيب الاستفهام على ما سبق. والمعنى : من أحلق بالاتباع، من يهدي غيره للحق، أم الذي ﴿ لا يهدي ﴾ ويهدي، بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال. وأصله : يهتدي. وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين١ أي الذي لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره.
وثمة قراءات أخرى للكلمة منها : يهدي، بفتح الهاء وتشديد الدال، ومنها : يهدي، بسكون الهاء وتشديد الدال.
ومنها : يهدي، بكسر الهاء والياء وتشديد الدال. وقرئت بغير ذلك.
قال الزمخشري في تأويل هذه الآية : إن الله وحده هو الذي يهدي للحق بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم ووفقهم وأولهمهم وأخطر ببالهم وقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتهم أندادا لله أحد من أشرافهم كالملائكة والمسيح وعزيز يهدي إلى الحق مثل هداية الله ؟ ثم قال : أفمن يهدي إلى الحق هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي ؛ أي لا يهدي بنفسه، أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه الله٢ ؟.
قوله :﴿ فما لكم كيف تحكمون ﴾ ﴿ فما لكم ﴾، استفهام للإنكار والتعجيب. و ﴿ كيف تحكمون ﴾، استفهام آخر ؛ أي كيف تتخذون هؤلاء الصم العمي البكم شركاء تعبدونهم من دون الله وأنتم تعلمون أنهم لا يملكون هداية أنفسهم فضلا عن عدم هداية غيرهم ؛ فكيف تحكمون بالباطل ؟ !
٢ روح المعاني جـ ٦ ص ١١٣- ١١٥ والبحر المحيط جـ ٥ ص ١٥٦- ١٥٨ والكشاف جـ ٢ ص ٢٣٧ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٤٥ والبيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤١٢..
قوله :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ أي الشك والحدس والتخمين لا يغني شيئا من اليقين ولا يقوم مقامه في شيء.
قوله :﴿ إن الله عليم بما تفعلون ﴾ الله يعلم ما يصدر عن هؤلاء الضالين الواهمين الخراصين من إشراك ومفاسد وأفعال ذميمة.
أي ما كان ينبغي لهذا القرآن يتخرصه أو ينتحله أحد من المخاليق، سواء فيهم الجن والإنس أو الملائكة ؛ فهذا القرآن لا يقوي على معارضته والإتيان بمثله أحد، لأنه معجز تمام الإعجاز بكل ما تعنيه كلمة الإعجاز من معنى ؛ فهو في روعة أسلوبه وسمو مستواه معجز. وهو في حلاوة نغمة وجمال إيقاعه وجرسه معجز. وهو في بالغ إيجازه واتساق مبناه وعظيم معناه معجز. لا جرم أن القرآن في كل أوصافه هذه معجز، مثلما هو معجز في عجيب مضامينه وما حواه من مختلف المعاني والأخبار والأحكام والدلائل والمشاهد والقصص. كل ذلك في كتاب دون الوسط في حجمه وسعته. وذلكم العجاب الباهر الذي يستوقف الحس والبصر ويثير الغرابة والنظر ! كتاب دون الوسط في حجمه وسعته قد حوى أخبار الدنيا والآخرة وأخبار الأولين والآخرين. وشمل عموم العلوم والفنون والمعارف في مختلف قضايا العقيدة والتشريع والأخلاق والتاريخ والحكمة والسلوك والبلاغة، وغير ذلك من علوم الطبيعة والأحياء والفلك.
فأنى لكتاب دون الوسط في حجمه وسعته أن يتسع لكل هاتيك القضايا العلمية والفقهية والتربوية والفكرية والكونية لولا أنه معجز وأنه من عند الله ؟ !
إن ما حواه القرآن من علوم في الحياة وفي الدين والدنيا ولا تتسع لاحتوائه ملايين المجلدات والكتب. لكن القرآن بإيجازه الفذ قد اتسع لعامة العلوم على اختلاف فنونها ومناحيها. وذلك بأسلوبه الباهر الخلاب، الذي يروع الفؤاد والجنان، ويستثير الحس والذهن والوجدان ؛ ذلكم هو الكلام الرباني المعجز، ذلكم هو القرآن.
قوله :﴿ وما كان القرآن أن يفترى من دون الله ﴾ أي ما ينبغي لهذا القرآن المعجز أن يتخرصه أو يختلقه كائن أو مخلوق. وإنما أنزل هذا القرآن من عند الله، أنزله على عبده ورسوله النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم. قوله :﴿ ولاكن تصديق الذي بين يديه ﴾ ﴿ تصديق ﴾ منصوب ؛ لأنه خبر كان المقدرة. والتقدير : ولكن كان هو تصديق الذي بين يديه١ ؛ أي أنزل الله القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة على أنبياء الله كالتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من كتب الله. فقد بشرت هذه الكتب السابقة بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فكان مجيئه وما أنزل عليه من كتاب الله الحكيم تصديقا لتلك الكتب في هذه البشارة. وهو كذلك تصديق لها فيما تضمنته من الدعوة للتوحيد والإيمان بيوم القيامة.
قوله :﴿ وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ﴾ تفصيل، معناه تبيين. والكتاب اسم جنس، وهو يراد به الكتب السماوية المتقدمة ؛ أي جاء هذا القرآن تبيينا لما في الكتب المتقدمة مما حوته من فروض وشرائع. وقيل : تبيين ما كتب أو فرض من الأحكام والشرائع مما في القرآن نفسه. فيكون المراد بالكتاب القرآن.
قوله :﴿ لا ريب فيه من رب العالمين ﴾ الهاء عائدة على القرآن ؛ أي ريب ولا مرية في أن هذا القرآن منزل من عند الله رب العالمين.
قوله :﴿ قل فاتوا بسورة مثله ﴾ وهذه المرحلة الثالثة من مراحل التحدي للعرب، وهم الفصحاء والبلغاء والعظماء، وفيهم مصاقع الخطابة ونوابغ البيان واللسن، أولئك الذين كان جل مفاخراتهم في جودة النظم وبراعة الكلام، وفي قرظ الشعر على اختلاف ضروبه وأجناسه. وكذا الإبداع في فن الخطابة والسجع. لقد تحداهم وهم على هذه الحال من أصالة اللغة وبراعة البيان أن يأتوا بمثل سورة واحدة من سور القرآن، وذلك بعد أن تحداهم أن يأتوا بمثله كله، ثم تحداهم بعد ذلك أن يأتوا بمثل عشر سور من سوره إن استطاعوا. ولما لم يقدروا على ذلك وأعلنوا أنهم عاجزين ناكصون، تحداهم سبحانه أن يأتوا بمثل سورة واحدة أيا ما تكون السورة ؛ سواء كانت من طوال السور، أو أقصر قصارها كسورة الكوثر.
قوله :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ أي استعينوا بجميع من تستطيعون دعاءه لكي يظاهروكم ويعينوكم سواء من قبائل العرب أو من آلهتكم التي اتخذتموها شركاء لله، أو من الجن إن استطعتم أن تخاطبوهم وتستعينوا بهم. وهو قوله :﴿ من دون الله ﴾ أي ادعوا كل من سوى الله ليعينوكم على الإتيان بسورة من مثل سورة القرآن ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي في زعمكم أن هذا القرآن قد افتراه محمد٢.
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٤٤٦ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ٨٢..
قوله :﴿ ولما يأتيهم تأويله ﴾ معطوف على قوله :﴿ لم يحيطوا بعلمه ﴾ أو أن هذه الجملة في محل نصب على الحال ؛ أي كذبوا بالقرآن حال كونهم لم يعرفوا عاقبة تكذيبهم من نزول العذاب بهم. وعلى هذا فمعنى ﴿ ولما يأتيهم تأوليه ﴾ أي لم يأتيهم بعدما يؤول إليه ذلك الوعيد من الله الذي توعدهم به في هذا القرآن.
قوله :﴿ كذالك كذب الذين من قبلهم ﴾ الكاف صفة لمصدر محذوف. تقديره : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة. لقد كذبوا بوعيد الله لهم على تكذيبهم وجحودهم وتمردهم ﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ أي انظر ما حل بهم من سوء العواقب ؛ إذ أهلك الله بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالغرق، وبعضهم بالمسخ، وبعضهم بالتدمير والإمطار بالحجارة. والمقصود تخويفهم وتحذيرهم من أن يحل بهم من عذاب الدنيا وخزيها ما حل بأولئك السابقين في الكرف والعصيان١.
وقيل : إن ذلك عام في جميع الكافرين ؛ فإن الله تعالى يعلم في الأزل أن في الكافرين من سيفيء إلى دين الله وإلى عقيدة التوحيد ليحشر يوم القيامة في زمرة المؤمنين والمتقين. ويعلم أن فيهم من يظل ساردا في ضلاله وعصيانه ليفضي بعد ذلك إلى الموت وهو كافر خاسر.
قوله :﴿ وربك أعلم بالمفسدين ﴾ ذلك تهديد من الله للمشركين الضالين ؛ إذ يبين لهم الله أنه عليم بالمعاندين المصرين على الفكر والجحود ؛ فسوف يجازيهم بأعمالهم وفسادهم.
يخاطب الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أنه عن كان كذبك هؤلاء المشركون وجحدوا رسالتك وما أنزل غليك من ربك فقل لهم : لي جزاء عملي بما بلغت وأنذرت، ولكم أنتم جزاء عملكم بما جنيتم على أنفسكم من إتيان الشرك والمعاصي ﴿ أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون ﴾ أي أنتم غير مؤاخذين بما أعمل، وأنا غير مؤاخذ بجزائر ما تعملون ؛ فما من أحد منا مؤاخذ بذنب الآخر.
وقيل : هذه الآية منسوخة بآيات الجهاد ؛ فقد أمر الله بقتال المشركين الضالين الذين لم تجد معهم كلمة الحق أو لغة المنطق. أولئك الذين لم تفض البينات والدلائل والحجج إلى قلوبهم الصم وعقولهم الغلف ؛ فأبوا إلا العتو والتمرد والضلال. فما تجدي مع هؤلاء الغلاظ العتاة وسائل الرأفة واللين والمنطق. وإنما –يجدي معهم التلبس بالشدة والردع الغليظ.
ثانيهما : أن يكون منصوبا على الظرف. والكاف في قوله :﴿ كأن ﴾ في موضع نصب على الحال من الضمير ﴿ هم ﴾ في قوله :﴿ يحشرهم ﴾ وتقديره : يوم يحشرهم متشابهين.
وقيل : صفة لمصدر محذوف. وتقديره : يحشرهم حشرا مشابها لحشر يوم لم يلبثوا قبله١.
وذلك تذكير من الله الموعود، اليوم الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا لتقوم بعدها القيامة بأهوالها وويلات وفظائعها، ويومئذ تتزلزل القلوب والأبدان، وتتبدد العزائم والهمم والإرادات، وتذوي المقامات والوجاهات والزعامات، وتخنس الأصوات وكل النداءات ؛ فلا يسمع منها إلا همس المهلوع الخائر، أو المستيئس الوجل.
وفي هذا اليوم المشهود المرعب يخرج الناس من أجداثهم سراعا كأنهم جراد منتشر، ينطلقون مشدوهين مذعورين مهطعين صوب أرض المحشر حيث التلاقي والاحتشاد. وإذ ذاك تستصغر الخلائق الحياة الدنيا، ويوقنون أن الدنيا بالغة الحقارة والهوان ؛ إذ يتقالون مدتها فيشعرون أنها ليست غير شيء يسير من الزمن العابر. وهو قوله عز وعلا :﴿ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار ﴾ وذلك عقب خروجهم من القبور إلى المحشر ؛ إذ يجمعهم الله ؛ ليواجهوا الحساب، وليروا من عرصات٢ يوم القيامة ما يشيب لهوله الوالدان وتخور لفظاعته القلوب والنواصي، فيوقن المشركون عندئذ أنهم لم يلبثوا في دنياهم أو خلال مكثهم في قبورهم غير ساعة من نهار ؛ وذلكم كقوله :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ﴾.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبين للخاشعين وأولي الأبصار والنهي أن الدنيا سراب ؛ إذ تفضي بعد عمرانها وزخرفها إلى يباب ؛ فلا يدري بها المرء إلا وقد مرت مرور الظل والسحاب ؛ فقد روي أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما لي وللدنيا. ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ).
وهذه هي الدنيا بزخرفها وزينتها ومباهجها ولذائذها وبكل ما حوته من صخب وصراعات وضجيج ؛ ما تلبث أن تزول فتمضي مضي الغمام المتدافع أو السراب المتوج الخادع، حتى إذا انتهض الإنسان من قبره ليقف مبهوتا أمام الميزان والحساب ؛ فيجد من بلايا القيامة وكوارثها وخطوبها والقواصم ما يجعله مستديم الدهش إلى أن يجد سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار –فإنه في هذا الموقف المخوف يستيقن المرء تفاهة الدنيا ودنو زوالها، وبساطة مقامه فيها كأنما هي ساعة من النهار.
قوله :﴿ يتعارفون بينهم ﴾ الجملة في موضع نصب على الحال من الضمير في قوله :﴿ لم يلبثوا ﴾ ويجوز أن تكون في موضع رفع، خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : وهم يتعارفون٣ ؛ أي يعرف بعضهم بعضا إذا خرجوا من قبورهم ؛ فيعرف الأبناء الآباء، ويعرف الأقارب أهليهم وأقاربهم. وكذا الأصدقاء والخلان يتعارفون فيما بينهم ؛ فيعرف بعضهم بعضا، وذلك في يوم التلاقي والزحام، وفي ساحة التعارف بعد الخروج من الأجداث إلى الحشر، لكن كل واحد منهم مشغول بنفسه. وله من شأنه العصيب ما يشغله ويغنيه عن الاهتمام بمن سواه. وقيل : هذا التعارف توبيخ وافتضاح ؛ إذ يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني وحملتني على الكفر.
وهذا في حق أهل الفتنة. سواء فيهم المفتونون المخدوعون أو الفاتنون المضلون الذين فتنوهم عن دينهم وأضلوهم ضلالا. لكن بقية الناس من غير أهل الفتنة والافتتان لا جرم أن يتعارفوا فيما بينهم ؛ فيذكروا أيامهم وأحولهم في الدنيا، ثم يمضي كل واحد منهم في سبيله ؛ لأن كل واحد منهم مشغول بهمه، ومشدود بما يجده ويبصره من أهوال فظيعة يعز على اليراعة٤ أن تخط وصفها. وهذا هو قول سبحانه ﴿ يوم يفر المرء من أخيه ٣٤ وأمه وأبيه ٣٥ وصاحبته وبنيه ٣٦ لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾ وذلك أن المواقف يوم القيامة تختلف ؛ فقد يكون في بعض المواقف ما ليس في مواقف أخرى.
قوله :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ أي هلك الذين كذبوا لبقاء الله وجحدوا ثوابه وعقابه فخسروا حظهم من الخير والفلاح ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ أي لم يحظوا بالتوفيق من الله مما أسلفوا من تكذيب بيوم الحساب ؛ فكانوا الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة٥.
٢ عرصات: جمع عرصة بالفتح. ويراد بها هنا: البلية والشدة. انظر لسان العرب جـ ٧ ص ٥٣..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤١٤..
٤ الراعة: القلم يتخذ من القصب. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٦٤..
٥ تفسير الطبري جـ ١١ ص ٨٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ٤٤٨..
وبذلك تعرض كل أمة على الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر. وهذه الأمة العظيمة الخيرة المباركة، وإن كانت آخر الأمم زمانا ؛ إلا أنها يقضي الله بينهما قبل الأمم يوم القيامة. وفي الخبر مما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق ).
قوله :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ أي لا يقع على أمة من الأمم يوم القيامة حيف ولا جور فيما يقضيه الله فيها ؛ فلا يؤاخذ أحد بغير ذنب، وإنما يجازي المحسن بإحسانه. والمسيئ إن كان مسلما غير كافر ؛ فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. أما المسيئ من الكافرين الجاحدين ؛ فلا جرم أنه في النار مع الخالدين١.
قوله :﴿ لكل أمة اجل إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ كتب الله أن لكل قوم من الأقوام أو قرن من القرون ميقاتا لانقضاء أجلهم، فإذا جاء هذا الميقات الذي يؤذن بفنائهم وانتهاء أعمارهم ؛ فإنهم حينئذ لا ملهون ساعة من زمان، ولا يتقدمون ميقاتهم مثلها١.
والمعنى : أن ما استعجلتموه من العذاب لهو فظيع ومروع تضطرب لهوله الأبدان والقلوب ؛ فأي شيء تستعجلون منه ؛ فإنه ليس منه شيء يقتضي الاستعجال.
والمعنى : أبعد ما وقع عليكم العذاب وحل بكم انتقام الله صدقتم به –أي العذاب- حيث لا ينفعكم الإيمان والتصديق.
قوله :﴿ لآن وقد كنتم به تستعجلون ﴾ الاستفهام للتوبيخ ؛ أي عند إيمانهم بعد وقوع العذاب الذي استعجلوه يقال لهم : الآن تؤمنون وتظنون أن إيمانكم ينفعكم مع أنكم كنتم قبل وقوعه ( العذاب ) تستعجلونه على سبيل السخرية والاستهزاء.
قوله :﴿ هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ﴾ أي ولا تجوزن جزاءكم هذا إلا بسبب ما أسلفتموه في حياتكم الدنيا من الكفر والعصيان١.
قوله :﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ أي ليس في مستطاعكم أن تفوتوا عذاب الله بالهرب أو الامتناع أو التحيل. ولكنكم حينئذ كائنون في قبضة الله وفي سلطانه وجبروته ؛ فلا مفر لكم ولا مناص٢.
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٤٥٢ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٥١ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٢٠ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ٨٥..
قوله :﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾ أي أخفى رؤساء المشركين والخاسرين ندامتهم عن أتباعهم من الوضعاء والسفلة والرعاع إحساسا بالخزي والافتضاح والمعرة أمامهم، وكيلا يوبخهم ؛ لأنهم أضلوها. وهذا إذا أيقنوا أن عذاب الله واقع وقبل أن يكبكبوا في النار ؛ فهم قبل الكبكبة والاصطلاء والتحريق قد بقي فيهم بقية من القدرة على التصنع والمكابرة يكشف عنها استسرارهم الندامة في أنفسهم وإخفاؤها عن أتباعهم الرعاع. حتى إذا سقطوا في النار جميعا ذهب التصنع والمكابرة وغاروا في الإياس والندامة وخواء القلوب.
قوله :﴿ وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ﴾ أي قضي الله بين هؤلاء الرؤساء من الكافرين وأتباعهم بالعدل ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ الجملة في محل نصب حال ؛ فالله لا يظلم أحدا مثقال ذرة. فما جوزوا به من العذاب كان سببه ما كسبوه من الكفر والمعاصي١.
قوله :﴿ ألا إن وعد الله حق ﴾ وذلك تأكيد على أن وعد الله كائن لا محالة. ووعده عام يندرج فيه وعده بالثواب للطائعين، ووعيده بالعذاب للعصاة والخاسرين.
قوله :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ المشركون والكافرون ضالون سفهاء لا يعلمون غير ظاهر من الحياة الدنيا، لكنهم يجهلون ما فيه صلاحهم وما ينفعهم، وما تقوم عليه حياتهم في هذه الدنيا أحسن قيام ؛ فهم بذلك سادرون في الغي والباطل ويكابدون الشقاء والقلق والتعس والهموم والمشكلات النفسية والاجتماعية والشخصية. وسبب ذلك كله : أنهم مجانبون لمنهج الله الحكيم وصراطه المستقيم. ومن أجل جهلهم المطبق بحقيقة ما ينفعهم في دنياهم. ومن خلف ذلك كله شياطين البشر يحولون بين هؤلاء الضالين وبين منهج الله. والشياطين من البشر بارعون في التضليل والتغرير والفتنة. ضالعون في الخطيئة والتخريب والرجس ؛ فهم بما أوتوه من براعة في الإغواء بمختلف الأساليب الفكرية والفنية والإعلامية والدعائية والنفسية والمادية على اختلاف صورها، قد صدوا معظم البشرية عن إدراك الصواب أو بلوغ الحق الذي به يصلح حالهم. فلا جرم أن ﴿ أكثرهم لا يعلمون ﴾ وذلك يشير إلى أن القليل في الناس يعلمون الحقيقة. لكنهم لقتلهم وخفوت أصواتهم ونداءاتهم وضعف حيلتهم يظلون مغمورين طي الإغفال والإهمال كيلا يدري بهم إلا قليل، ولكي تذهب أصواتهم ونداءاتهم أدراج الرياح. وقد تكون هذه القلة من الناس ساكتة عن قول الحقيقة لخبث في المقاصد والنوايا ؛ فهم ماكرون أشقياء يبتغون للبشرية السوء والفساد والتدمير.
قوله ﴿ وشفاء لما في الصدور ﴾ والمراد به القرآن، فهو الدواء الشافي مما يصيب القلوب من ألوان المرض ؛ بل إن القرآن بما حواه من عقيدة ووعظ وذكرى ومنهج كامل للحياة برمتها يحول بين القلوب والأمراض. فلا يستكين القرآن بروعته وجماله وعظيم معناه في قلب الإنسان إلا حال بينه وبين التلوث بأمراض النفس.
قوله :﴿ وهدى ورحمة للمؤمنين ﴾ القرآن مبعث الحق ومصدر الخير كله ؛ فهو ينبثق عنه الرشد والهداية ومجانبة الضلال. وهو كذلك منطلق للرحمة، فتفيض على المؤمنين ليكونوا في حياتهم آمنين سالمين مطمئنين.
قوله :﴿ فبذالك فليفرحوا ﴾ إشارة إلى الفضل والرحمة، وهما القرآن والإسلام. ﴿ فليفرحوا ﴾، من الفرح، وهو السرور والابتهاج١.
وأصل الكلام : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك فليفرحوا. والتكرير يراد منه التأكيد وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة وهما القرآن والإسلام، بالفرح دون غيرهما من المنافع الدنيا ومتاعها. فما ينبغي للمؤمن البصير أن يعبأ بمنافع الدنيا وما فيها من وجوه الزينة والمتاع أكثر مما تستحق من اهتمام. وإنما يبتهج المؤمن الحريص ويغمره الفرح والحبور بالتزامه أحكام الإسلام والانتهال من معين القرآن حيث الإيمان والخلق والمواعظ وروائع الأحكام والمعاني. لا جرم أن الركون إلى منهج الله وهو الإسلام، وإلى كتابه المعجز الحكيم ؛ يفضي بالضرورة إلى تحقيق النجاة المثلى وتحصيل السعادة التامة في الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة.
أن الركون إلى الإسلام والقرآن سبيل كل خير، ومطردة لكل أنواع الشر، وهو طريق الخلاص من أدران الوقع وأوضار الحياة لكلها.
قوله :﴿ هو خير مما يجمعون ﴾ الضمير راجع إلى الفضل والرحمة وهما الإسلام والقرآن، وذلك خير لهم مما يجمعونه من حطام الدنيا وما فيها من أموال وكنوز وذخائر مادية٢.
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٤٥٤ وتفسير النفسي جـ ١٦٧، ١٦٨ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٥٣، ٣٥٤..
قوله :﴿ قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ﴾ أي أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه أم أنكم تكذبون على الله فيما تنسبونه إليه افتراء وبهتانا. وقيل : الهمزة للإنكار، وأم، منقطعة، بمعنى بل ؛ أي : بل تفترون على الله أنه أمركم بهذا.
قوله :﴿ إن الله لذو فضل على الناس ﴾ فضل الله على الناس كبير ؛ إذ لم يعاجلهم بالعقوبة في الدنيا. بل أمهلهم إلى يوم القيامة، فعسى أن يتوبوا ويفيئوا إلى الحق قبل مماتهم فيلقوا الله على ملة التوحيد. وقيل : المراد بفضل الله على الناس، ما خلقه لهم من المنافع، وأحله لهم من الطيبات، ولم يحرم عليهم غير الخبائث وما هو ضار بهم. ﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ أي، يجحدون نعم الله فلا يشكرونها ولا يذكرونها ؛ بل يصطنعون من تشريع التحليل والتحريم ما ليس لهم به من الله برهان إلا الظن والهوى١.
قوله :﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾.
﴿ يعزب ﴾، أي يغرب أو يخفى٣. والذرة، جمعها الذر. وهي صغار النمل٤.
والمعنى : أنه عالم بالأشياء والكائنات جميعا ؛ فما من شيء أو كائن في الأرض أو في السماء إلا وخبره مندرج في علم الله الذي لا تخفى عليه الخوافي ولا تنحجب عنه العلوم والأخبار ؛ فهو سبحانه محيط علمه بكل ما في الوجود من أشياء مهما تناهى الواحد منها في الصغر. حتى وإن كان دون الذرة وهي أصغر النمل. وقد عبر بالأرض والسماء ؛ لأن الناس لا يرون أو يعون ما في سواهما. فكل شيء في الوجود علمه ﴿ في كتاب مبين ﴾ وهو اللوح المحفوظ، وفيه علم الأولين والآخرين إلى يوم الدين. وهو في سعته البالغة ومداه الذي يفوق التصور لا يدركه أو يقف على حقيقته سوى الله٥.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤١٥..
٣ المصباح المنير جـ ٢ص ٥٦..
٤ مختار الصحاح ص ٢٢١..
٥ تفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٥٥، ٣٥٦ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ٨٩، ٩٠..
والمراد به هنا : المؤمن المخلص المستقيم. فأولياء الله : هم أنصاره الذين عبدوه مخلصين له الدين وأطاعوه مبادرين مخبتين. وهو مفسر بقوله في الآية الأخرى :﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ فهؤلاء هم أولياء الله ؛ إنهم آمنوا إيمانا صحيحا لا زيغ فيه ولا تردد ولا نقص ؛ إنه الإيمان الحقيق المستبين على ملة الإسلام دون غيره من الملل المصطنعة أو المزعومة أو المفتراة أو المحرفة. وهم كذلك يتقون الله ؛ أي يخافون الله فيبادرون بطاعته ومجانبة عصيانه، أولئك هم أولياء الله ﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ﴿ أولياء الله ﴾ هم أنصاره ﴿ لا خوف عليهم ﴾ في الآخرة من عقاب الله ؛ فلا يخشون مما يستقبلونه من أهوال القيامة وعرصات المحشر. وهم أيضا لا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وقوله :﴿ الذين آمنوا ﴾ في محل نصب صفة لاسم إن، أو للبدل منه وذلك في قوله :﴿ ألا إن أولياء الله ﴾ ويجوز الرفع ؛ لأنه مبتدأ. و ﴿ لهم البشرى ﴾ خبره٢.
٢ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٤١٦..
والمراد به هنا : المؤمن المخلص المستقيم. فأولياء الله : هم أنصاره الذين عبدوه مخلصين له الدين وأطاعوه مبادرين مخبتين. وهو مفسر بقوله في الآية الأخرى :﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ فهؤلاء هم أولياء الله ؛ إنهم آمنوا إيمانا صحيحا لا زيغ فيه ولا تردد ولا نقص ؛ إنه الإيمان الحقيق المستبين على ملة الإسلام دون غيره من الملل المصطنعة أو المزعومة أو المفتراة أو المحرفة. وهم كذلك يتقون الله ؛ أي يخافون الله فيبادرون بطاعته ومجانبة عصيانه، أولئك هم أولياء الله ﴿ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ ﴿ أولياء الله ﴾ هم أنصاره ﴿ لا خوف عليهم ﴾ في الآخرة من عقاب الله ؛ فلا يخشون مما يستقبلونه من أهوال القيامة وعرصات المحشر. وهم أيضا لا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، وقوله :﴿ الذين آمنوا ﴾ في محل نصب صفة لاسم إن، أو للبدل منه وذلك في قوله :﴿ ألا إن أولياء الله ﴾ ويجوز الرفع ؛ لأنه مبتدأ. و ﴿ لهم البشرى ﴾ خبره٢.
٢ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٤١٦..
وقيل : البشرى في الحياة الدنيا يراد بها الثناء من الناس على المؤمن ؛ فقد روي الإمام أحمد في ذلك عن أبي ذر أنه قال : يا رسول الله الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( تلك عاجل بشرى المؤمن ).
وروي الإمام أحمد أيضا عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ قال :( الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة، فمن رأى ذلك فليخبر بها، ومن رأى سوى ذلك ؛ فغنما هو من الشيطان ليحزنه ؛ فلينفث عن يساره ثلاثا، وليكبر ولا يخبر بها أحدا ) ١.
قوله :﴿ وتبديل لكلمات الله ﴾ أي لا خلف لوعد الله ؛ فوعد الله لا يبدل ولا يحلو وإنما هو ثابت متقرر ولا محالة كائن.
قوله :﴿ ذالك هو الفوز العظيم ﴾ ما يعطاه المؤمن من البشرى المبهجة يراها في منامه، أو ترى له، أو ما يحظى به من ثناء المؤمنين ؛ إذ يطردونه ويذكرونه بالخير وجميل الدعاء، وما يصير إليه في الآخرة من النجاة. لا جرم أن ذلك كله لهو الفوز العظيم.
قوله :﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾ ما : أداة نفي. والمعنى : أن هؤلاء المشركين لا يعبدون آلهة على الحقيقة وإن كانوا يسمونها آلهة، ولكنهم يعبدون أوهاما يظنون حقيقة. وهو قوله :﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ فهم سادرون في وهمهم وضلالتهم.
وقيل : ما، للاستفهام. يعني : وأي شيء يتبع هؤلاء المشركون الضالون ؟ وذلك على سبيل التوبيخ لهم والرازية. ثم أجاب ﴿ إن يتبعون إلا الظن وإن هم يخرصون ﴾ أي ما يتبع هؤلاء يقينا بل يظنون ظنا واهما. وما هم إلا يخبطون في التخريص وهو الحدس والتخمين والكذب١.
والمراد من ذلك : أنكم تستريحون في الليل من كد النهار وطول النصب فيه، فتقضون ليلكم مع أولادكم وأهليكم ساكنين هاجعين ﴿ والنهار مبصرا ﴾ أي جعل النهار مضيئا ليبصر فيه الناس حوائجهم ومطالبهم، وليجدوا فيه معايشهم ومكاسبهم.
قوله :﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ﴾ ما صنعه الله في كونه هذا من بديع النظام والخلق، ما بين ليل وديع ساكن، يستأنس فيه البشر، ونهار يتجلى بالإضاءة والنور، حافل بالحركة والنشاط والجد، يبصر فيه الناس حاجاتهم وشئونهم. وغير ذلك من مخلوقات –كل أولئك دلائل وعلامات لمن يسمع الحجج والبينات سماع تدبر وادكار، عظيمة الخالق وعلى قدرته البالغة في إيجاد الوجود.
أما غير الله ممن يعبدهم المشركون فهم أشباح موهومة لا يساوون في ميزان الحق مثقال قطمير أو أقل من ذلك بكثير٢.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ٢٤٤ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ٩٧ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٥٩ وتفسير الرازي جـ ١٧ ص ١٣٧..
قال المشركون : اتخذ الله ولدا. وذلك زعمهم أن الملائكة بنات الله. ثم نزه الله نفسه عما قالوه من الكذب والافتراء فقال عن نفسه :﴿ سبحانه ﴾ أي تنزه عن الشرك والشركاء والأنداد ﴿ هو الغني ﴾ الله مستغن عن خلقه جميعا ؛ فليس له حاجة إلى ولد أو نديد أو معين ؛ فهو القوي وهم الضعفاء، وهو الغني وهم المحاويج والفقراء، وهو الباقي وهم الداثرون. ودليل غناه سبحانه أنه يملك ما في السموات وما في الأرض من ملائكة وجن وأناسي وخلائق، قوله :﴿ إن عندكم من سلطان بهذا ﴾ أي ليس عندكم برهان على ما تدعون وتتقولون غلا التخريص والافتراء.
قوله :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ والاستفهام للإنكار والتوبيخ. وفيه من الوعيد الشديد ما يتهدد هؤلاء الظالمين الفجرة بأفظع العذاب. والمعنى : أتفترون على الله شيئا لا تعلمون حقيقته وصحته وتضيفون إليه ما لا يليق أن يضاف إلى جلاله.
على أن هذه الآية تستوقف النظر والتفكير، لعجيب نظمها، وروعة انسجامها، وشدة التحامها، وتماسك عبارتها المتعددة المختلفة. مع أنها تتكون من عدة جمل ما بين اسمية وفعلية يضمها إطار الآية الواحدة. وما كان في مقدور بشر أن يصنع مثل هذا. ولئن تكلف أحد أن يصطنع عدة جمل مختلفة متنوعة في إطار آية واحدة لجاء كلامه غاية في التصنيع المستهجن والتكلف الثقيل. لكن هذه الجمل الأربع أو الخمس في ترابطها وائتلافها واتساقها في إطار هذه الآية، تزجي بالحجة الساطعة على أن القرآن معجز، وأنه كلام الله.
أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقصص القصص على قومه المشركين فيذكرهم بما حل بقوم نوح من إهلاكهم بالغرق ليكون في ذلك ما يزجرهم ويخوفهم ويردعهم عن التلبس بالشرك وعبادة الأوثان. وهو قوله :﴿ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال قومه يا قوم عن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله ﴾ أي إن كان قد ثقل عليكم مقامي وهو مكثي وإقامتي بين أظهركم ﴿ وتذكيري بآيات الله ﴾ أي شق وكبر عليكم وعظي وما أذكركم به من البراهين والدلائل ﴿ فعلى الله توكلت ﴾ أي فإني لا أعبأ ولا أبالي بكيدكم وصدكم ؛ لأني قد توكلت على الله، وفوضت أمري إليه، واعتمدت في شأني كله عليه ﴿ فأجمعوا أمركم وشركاءكم ﴾ أي اجتمعوا أنتم وشركاؤكم من الأوثان والآلهة المزيفة الموهومة، وأعدوا أمركم واعزموا على ما أنتم مقدمون عليه من الكيد لي والمكر بي والنيل مني. وإنما قال ذلك لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده ربه من الكلاءة والعصمة، وأنهم لن ينفروا إليه ولن يجدوا إليه سبيلا.
قوله :﴿ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾ الغمة من الاغتمام. وهو التغطية والاستتار، والمعنى : لا يكن أمركم عليكم ملتبسا مبهما. أو لا يكن قصدكن إلى إهلاكي مستورا بل مكشوفا تجاهرونني به.
قوله :﴿ ثم اقضوا إلى ولا تنظرون ﴾ أي أمضوا إلى ما تحدثكم به أنفسكم من كيدي والإيقاع بي. أو قضوا إلي ما كنتم قاضين ثم لا تؤخرون ولا تمهلون بل عجلوا أمركم واصنعوا بي ما بدا لكم. وفي هذا تعزية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتقوية من الله لقلبه كيلا يعبأ بكيد المشركين وأذاهم ؛ فالله معه لا يذره وحيدا ولا يسلمه للمتربصين والماكرين١.
قوله :﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ أمرني ربي أن أكون من الموحدين له، المستسلمين لأمره، المذللين لجلاله وسلطانه فاخلص له العبودية والطاعة.
قوله :﴿ وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ أي جعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوا فأغرقناهم جزاء تكذيبهم ؛ أي يخلفون الهالكين الغرقى.
قوله :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾ أي انظر يا محمد عاقبة حال المعرضين عن دين الله ؛ إذ كذبوا وحيه وأنبياءه –انظر ماذا أعقبهم جحودهم وعصيانهم ؛ لقد أعقبهم الهلاك والتدمير والخسران. وهذا تنذير من الله وتهديد لقوم رسوله الله صلى الله عليه وسلم، لئن عصوا واستكبروا ليحيقن بهم من البلاء ما حاق بغيرهم من الجاحدين السابقين. فليحذروا وليبادروا بالإيمان والطاعة١.
قوله :﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كانوا به من قبل ﴾ الضمير في ﴿ كذبوا ﴾ يعود على قوم نوح ؛ أي فما كان قوم الأنبياء الذين أرسلوا بعد نوح ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح بل كذبوا كتكذيب قوم نوح١.
قوله :﴿ كذالك نطبع على قلوب المعتدين ﴾ أي كما طبع الله على قلوب أولئك فلم يؤمنوا ؛ فإنه يطبع على قلوب من شابههم في العناد والتكذيب.
والتقدير : نختم على قلوب هؤلاء الذين غالوا في الجحود وجاوزوا الحد في التكذيب.
قوله :﴿ ولا يفلح الساحرون ﴾ لا فلاح للسحرة ؛ إن عملهم داحض، وما جاءوا به بائر خاسر لا بتنائه على الضلال والباطل.
٢ البيضاوي ص ٢٨٥ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ١٠٠- ١٠٣..
وإذا كانت استفهاما ؛ كانت أيضا في موضع رفع بالابتداء. و ﴿ جئتم به ﴾، الخبر. و ﴿ السحر ﴾ خبر مبتدأ مقدر. وتقديره : هو السحر. وقيل غير ذلك١. والراجح القول الأول وهو أنها اسم موصول بمعنى الذي وخبره السحر : أي الذي جئتم به هو السحر وليس الذي سماه فرعون وقومه من آيات الله سحرا.
قوله :﴿ عن الله سيبطله ﴾ أي يمحقه ويظهر بطلانه.
قوله :﴿ إن الله لا يصلح عمل المفسدين ﴾ لا يصلح الله عمل الذين يسعون في الأرض فسادا وعصيانا. إن الله لا يديم عمل المفسدين ولا يبقيه بل يسلط عليه ما يمحقه ويبدده تبديدا.
وقيل : الضمير عائد على قوم فرعون ؛ يعني : ما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون، منهم : مؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة فرعون، وامرأة خازنه. وقيل : الذرية بمعنى القيل. وهو قول ابن عباس.
وقوله :﴿ على الخوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم ﴾ جمع الضمير في ﴿ وملائهم ﴾ لعدة أوجه منها : أن فرعون إذا ذكر علم أن معه غيره فعاد الضمير إليه وإلى من معه. ومنها : أنه إخبار عن جبار، والجبار مخبر عن نفسه بلفظ الجمع فيقول : نحن فعلنا كذا وكذا. وقيل : في الكلام حذف مضاف وتقديره : على خوف من آل فرعون. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه١. والمعنى : أن هؤلاء آمنوا مع الخوف من فرعون أن يعذبهم فيصرفهم عن دينهم.
قوله :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ﴾ أي عات متجبر مستكبر. وهو كذلك من الغلاة في الطغيان والظلم، المجاوزين الحد في الكفران. لقد بلغ فرعون من فظاعة الجحود والعتو أن ادعى الربوبية والألوهية لنفسه. لا جرم أن هذا عدوان فادح صارخ ؛ بل إنه ذروة المغالاة في الاستكبار والاغترار الذي لا سبيل له في الدنيا إلا البوار ؛ ليفضي بعد ذلك إلا الاستعار في النار٢.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ٢٤٨ وتفسير البيضاوي ص ٢٨٦..
الله وأقررتم بربوبيته ففوضوا أمركم إليه ليكون عليه اعتمادكم والتكلان ؛ فإن الله لن يخذل أولياءه المتوكلين عليه ﴿ إن كنتم مسلمين ﴾ أي إن كنتم مستسلمين لأمره، خاضعين لشرعه، مذعنين له بكامل الطاعة والامتثال.
قوله :﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ﴾ أي لا تخذلنا بنصر المشركين قوم فرعون علينا فيكون ذلك فتنة لنا عن ديننا، أو لا تمتحنا بتعذيبنا على أيداهم فيروا أنهم خير منا ويزدادوا طغيانا. وقيل : لا تسلطهم علينا فيضلونا ويفتنونا عن ديننا.
والمعنى : اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة والصلاة.
قوله :﴿ واجعلوا بيوتكم قبلة ﴾ أي اجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها ؛ فقد ذكر أن بني إسرائيل كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم وكانت ظاهرة يراها جنود فرعون، وكانوا لا يصلون إلا وهم خائفون، فأمروا أن يتخذوا بيوتهم مساجد يصلون فيها. وقيل : اجعلوا بيوتكم قبلة، يعني الكعبة.
قوله :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ أي أدوا صلاتكم في بيوتكم بحدودها وفرائضها على وجهها الصحيح الأكمل.
قوله :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي بشر بني إسرائيل أن الله سيظهرهم على فرعون وملائه الظالمين الخاسرين. وقيل : الخطاب لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين الصابرين الطائعين بالمغفرة والرحمة وجزيل الثواب٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١١ ص ١٠٧، ١٠٨ والبيضاوي ص ٢٨٦ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٧١- ٣٧٣ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٢٨..
قوله :﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾ هذا دعاء من موسى على فرعون وقومه المجرمين. لقد دعا الله عليهم أن يطمس على أموالهم ؛ أي يهلكها. من الطموس وهو الإمحاء والدروس. طمسته طمسا ؛ أي محوته. طمست الشيء ؛ إذا استأصلت أثره. وتطمس ؛ يعني امحى واندرس١.
قوله المفسرون في تأويل قوله :﴿ اطمس على أموالهم ﴾ أي أهلكهم وأموالهم ودمر عليهم تدميرا. وقيل : صارت أموالهم كلها حجارة لا تنفع.
قوله :﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ أي، اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ليذوقوا بذلك وبال أمرهم، وليستوجبوا العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ جواب للدعاء ﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ إلى أن يروا العذاب الأليم. وقد كان ذلك ؛ فإنهم لم يؤمنوا حتى اجتاحهم البحر فهلكوا غرقا، فآمنوا وهم يصارعون الموت إيمان يأس. وقيل : كان الدعاء عليهم بلفظ النهي. والتقدير : اللهم فلا يؤمنوا.
قال ابن كثير ( رحمه الله ) في هذا الدعاء : إنه كان من موسى عليه السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملائه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح على قومه ﴿ رب لا تنذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ ٢.
٢ البيضاوي ص ٢٨٦ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٧٥ والنسفي جـ ٢ ص ١٧٤ والبيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٢٠..
قوله :﴿ فاستقيما ﴾ أمرهم الله بالاستقامة والثبات على أمرهما في عدوة فرعون وملائه إلى الإيمان والتوحيد حتى يأتيهم تأويل الإجابة، وهو عقاب هؤلاء المجرمين الخاسرين. وقيل : مكث فرعون بعد هده الدعوة أربعين سنة ثم أهلكهم، وقيل : فاستقيما، يعني : استقيما في الدعاء. والاستقامة في الدعاء تعني الاستعجال في حصول الإجابة.
قوله :﴿ ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ﴾ أي لا تسلكا طريق الجاهلين الذين لا يعلمون حقيقة الوعد من الله فتستعجلا القضاء ؛ فإن وعد الله لا خلف له. وكذلك وعيده نازل بفرعون وقومه لا محالة١.
هذا إخبار من رب العالمين عازم الطغاة والمتجبرين، وذل المسرفين والمفسدين، ومزلزل عروش العتاة والمستكبرين. إخبار منه جل جلاله عن تغريق فرعون وملائه وحاشيته صلفا أجمعين ؛ فقد خرجوا من مصر في حشود عظيمة وهم تنتفخ أوداجهم صلفا وغرروا، يريدون اللحاق بموسى والذين معه من بني إسرائيل ليعذبونهم تعذيبا، وليذيقوهم مرارة الذلة والهوان. فأدركوهم وقت الشروق حتى تراءى الجمعان ؛ فأيقن بنوا إسرائيل أنهم مدركون، ففزعوا إلى موسى يسألونه الخلاص مما هو واقع بهم، لكن موسى عليه السلام لم يفزع ولم يغرق ولم يستحوذ عليه شيء من هلع أو اضطراب بل قال لهم :﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ﴾ فأمره الله أن يضرب البحر بعصاه ﴿ فاتلف فكان كل فرق كالطود العظيم ﴾ أي كالجبل العظيم. وهذا مقتضى قوله :﴿ وجاوزنا بني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده ﴾ أي قطعنا ببني إسرائيل الحبر فتبهم فرعون وجنوده ﴿ بغيا وعدوا ﴾ أي ظلما وعدوانا. لكن قدر الله كان لهؤلاء الأشرار بالمرصاد ؛ فما أن دخل موسى والذين معه البحر سالمين آمنين بإذن الله حتى جاوزوا إلى الساحل الآخر. فدخله فرعون وجنوده حتى إذا كانوا في وسطه ارتطم عليهم البحر فغرقوا جميعا ولم ينج منهم أحد، ولما غشيت فرعون سكرات الموت ووجد من فظاعة الرعب والكرب واليأس ما وجد، هتف مصطرخا مستيئا ﴿ آمنت أنه لا إلله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾ وأني لهذا الشقي المقبوح أن تقبل توبته ؟ ! أنى له قد أتى الشنائع من فظائع الشرك والظلم والعصيان وإفساد البلاد والعباد ؟ !
أنى لهذا الطاغوت العتل أن تقبل توبته وقد اجتر اجتراءه الشنيع باصطناع الربوبية لنفسه ؟ !
لقد كان فرعون بغيضا غاية البغض لدى كل المؤمنين في الثقلين ؛ فقد أبغضته الملائكة واستطابت أن يتبوأ مقامه الفظيع في النار جزاء ما قدم من بغي وإفساد وطغيان ؛ فقد روي الترمذي عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لما أغرق الله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل : يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة ) وحال البحر، معناه : الطين الأسود الذي يكون في أرضه.
قوله :﴿ لتكون لمن خلفك آية ﴾ أي تكون لمن يأتي بعدك من القرون عبرة يعتبرون بها فلا يجترئون مثلما اجترأت عليه من العتو والكبرياء والطغيان.
ومن أعجب الظواهر المستفاد من تنجية بدون فرعون ليكون عبرة للمعتبرين أن جسده محفوظ في أرض مصر حتى الساعة ينظر إليه الزائرون والقاصدون من كل بقاع الأرض ليروا جسده المسجى كله، ولعل ذلك من جملة التنجية لبدن فرعون فيكون آية جلية تتحدث بها جيلا بعد جيل.
قوله :﴿ وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون ﴾ أي معرضون ساهون عن التفكير في آيات الله وعما بينه في الخلق من دلائل وبراهين وحجج١.
قوله :﴿ فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ﴾ يعني : ما اختلفوا وتفرقت قلوبهم وأهواؤهم وتشبهت آراؤهم وفرقهم حتى جاءهم كتاب الله وهو التوراة، فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا.
وقيل : المراد أن بني إسرائيل ما تختلفوا حتى جاءهم ما كانوا يعلمون ويقرأون خبره في كتابهم، وهو بعث رسول الله إلى الناس كافة ؛ فقد كانوا قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام مجمعين على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإقرار بصدق رسالته، ووجوب الإيمان به وتأييده من غير خلاف بينهم في هذه الحقيقة. فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به وجحدوا وكذبوه وصدوا الناس عن دينه صدودا بمختلف الأساليب والأسباب.
قوله :﴿ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ الله يفصل بين هؤلاء المختلفين الذين اختلفوا في دينهم وما أنزل إليهم من ربهم، وما اختلفوا فيه من أمر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ صدقه قلة منهم وكذبه الأكثرون. يفصل بينهم يوم القيامة فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته١.
علة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم تخالطه ذرة من ارتياب فيما جاءه من ربه عن بني إسرائيل ؛ فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :( لا أشك ولا أسأل ).
قوله :﴿ لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ﴾ أي لقد جاءك الخير اليقين أنك مرسل من ربك، وأن أهل الكتاب يعلمون صدق هذه الحقيقة في كتبهم :﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ أي الشاكرين المرتابين، من الامتراء وهو الشك وكذا المرية والتماري بمعنى الشك١.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ٢٥٣..
وبذلك لم يعاجلهم الله بالعقاب ؛ بل تركهم يتمتعون في حياتهم الدنيا إلى حين مماتهم وانقضاء أعمارهم٣.
٢ عجوا. من العج وهو رفع الصوت. وقد عج يعج عجيجا. وعجعج؛ أي صوت مرة بعد أخرى. والعجاج بالفتح؛ الغبار. انظر مختار الصحاح ص ٤١٣..
٣ الكشف جـ ٢ ص ٢٥٤ وتفسير الطبري جـ ١١ ص ١١٧..
وقيل : شاء الله أن يؤمن به من علم منه في الأزل أنه مختار للإيمان به. وكذلك شاء الله أن يكفر به من علم منه في الأزل أنه مختار للكفر.
وقالت المعتزلة : المراد بالمشيئة : مشيئة القسر والإلجاء ؛ أي لو خلق فيهم الإيمان جبرا لآمنوا ؛ لكنه شاء أن يؤمنوا اختبارا فلم يؤمنوا.
قوله :﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾ الاستفهام للنفي ؛ أي لا تملك أنت يا محمد أن تكره الناس على الإيمان ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتصديق والإقرار، ولا يمكن الإكراه على التصديق ؛ أفأنت لست إلا مبلغا، وما عليك بعد ذلك إلا أن تصدع بما يؤمر وأن تعرض عن المشركين.
قوله :﴿ ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ﴾ ﴿ الرجس ﴾، بمعنى العقاب والغضب. وهو مضارع لقوله : الرجز١ ؛ أي يجعل الله عذابه وغضبه على المفرطين الذين لم يتدبروا آيات الله وما فيها من تذكير وموعظة، وما جملته من تحريض على خلع الشركاء والأنداد٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١١ ص ١٢٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٧٧ والكشاف جـ ٢ ص ٢٥٤ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٣٣..
يأمر اله الكافرين أن يعتبروا وينظروا في ملكوت السموات والأرض وما فيهن من دلائل وبينات وتكشف عن عظمة الخالق المدبر الحكيم. فما في الكون من مخلوقات ومعلومات وظواهر إلا كان ذلك كله شواهد على جلال الصانع القادر الذي اوجد الوجود وأتقن كل ما فيه من موجود. فما من مطر ينهمر، أو رعد يقصف، أو برق يسطع، أو بحر يهدر، أو طير يخفف بجناحيه، أو ريح شديد تعصف، أو نسمة رفيقة تمس الوجود والأعصاب في لين وحنان، أو نهر سائح ينساب، أو غير ذلك من وجوه العجائب والشواهد والآيات المنثورة إلا يدل على قدرة الإله الديان.
ومع ذلك كله فإن الإنسان ظلوم موغل في التفريط، سادر في طلب اللذات واتباع الهوى والشهوات. وهو قوله سبحانه :﴿ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾ ما، استفهامية وقيل : نافية. والمعنى : ما تنفع الحجج والبينات ﴿ والنذر ﴾ أي الرسل، قوما سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. إن هؤلاء المفرطين الخاسرين لا يصدقون بعقيدة التوحيد، ولا يلتزمون منهج الله، ولا ينزجرون عن عبادة الهواء والشهوات وغير ذلك من وجوه الأوثان، ولو جاءتهم كل الدلائل والحجج ؛ فهم أولو قلوب غلف مغاليق، وطبائع صلدة صم لا تتملى الحق والتوحيد، ولا تجنح لمنهج الله القويم، ولا تستمرئ العيش في ضلال الرحمن.
والمراد بأيام الذين خلوا : وقائع الله في الأمم السابقة ؛ وهو ما حل بهم من وجوه العذاب ما بين طوفان وتغريق وتدمير ونحو ذلك. قوله :﴿ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ وذلك تهديد من الله ووعيد ؛ إذ يخوف المشركين بإنزال العذاب بهم مثلما أنزله بالظالمين السابقين من قبلهم ﴿ فانتظروا ﴾ أي تربصوا الوعيد من الله وإني متربص معكم
قوله :﴿ وكذلك حقا علينا ننج المؤمنين ﴾ الكاف في ﴿ كذلك ﴾، صفة مصدر محذوف. وتقديره : ينجي رسلنا، والذين آمنوا ننجيهم مثل ذلك.
والمعنى : كما فعلنا بالسابقين من رسلنا ؛ إذ أنجيناهم والمؤمنين معهم وأهلكنا أممهم الظالمين، كذلك نفعل بك يا محمد وبمن معك من المؤمنين فننجيك وننجي المؤمنين معك حقا علينا.
وقال صاحب الكشاف في تأويل ذلك : مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين. و ﴿ حقا علينا ﴾ اعتراض ؛ يعني : حق ذلك علينا حقا١.
قوله :﴿ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين ﴾ أعبد من يستحق العبادة وهو لله ذو القدرة والجبروت، ومالك الأشياء والحياة والملكوت وهو الذي بيده مقاليد الوجود كله وبيده حياتكم ومماتكم وإليه تبصرون جميعا بعد أن ينتزع أرواحكم فتفضون إلى الموت. ذلكم الله القادر الخالق الذي أذعن له حده بالطاعة والعبادة وأصدق مستيقنا ما جاءني من عنده.
والله يأمر رسوله الكريم بقوله : أقم نفسك على دين الإسلام ﴿ حنيفا ﴾ أي مستقيما عليه غر مائل عنه إلى دين من الأديان. والحنيف، معناه : الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه. والدين الحنيف : المستقيم الذي لا عوج فيه، وهو الاسلام. والحنيفية : هي ملة الإسلام. تحنف، أي اعتزل عبادة الأصنام١.
قوله :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ أي لا تكونن ممن يشرك في عبادة الله شيئا من الآهة وأنداد فتفضي إلى الهلاك والخسران.
والمعنى : أن ما يصيب الإنسان من شدة أو ضيق أو غير ذلك من ضروب الكروب ؛ فإنه ليس له من دافع يدفع إلا الله ؛ فهو سبحانه يتولى كشف السوء والبلاء عن المكروب بما شاء وكيف شاء. أما هذه الأصنام الجامدة البلهاء التي لا تريم٢ فأنى لها أن تكشف عن أحد سوءا أو مكروها. حتى الأنداد والمتجبرون من البشر كالظالمين والمستكبرين والطغاة لا يملكون كشف السوء أو البلاء عن أحد إلا أن يشاء الله ذلك ؛ فهو سبحانه يكشف البلاء والأرزاء عن عباده بما يقدره وييسره من الأسباب والوسائل.
قوله :﴿ وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده ﴾ إذا أردا الله بأحد خيرا من نعمة أو رخاء أو عافية أو ابتهاج أو انفراج ؛ فليس من أحد يستطيع أن يحول بين العبد المنعم عليه وما كتب الله له من نعمة أو خير. ليس من أحد كائنا من كان يقدر أن يحجب الخير المقدور عن احد من العباد. وإنما السراء والضراء بيد الله وحده يصيب بذلك ﴿ من يشاء من عباده ﴾ فلا راد لقضائه ولا مانع لفضله إلا هو.
قوله :﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ الله الذي يغفر الذنوب للتائبين المنيبين إليه. وهو سبحانه رحيم بعباده المؤمنين المخبتين الذين يعجون إليه في كل آن بالإنابة والاستغفار٣.
٢ لا تريم: لا تبرح. ما رام مكانه وما رام من مكانه؛ أي ما فارقه. وما يريم يفعل كذا؛ أي ما يبرح. انظر المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٨٦..
٣ تفسير الطبري جـ ١١ ص ١٢١، ١٢٢ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٣٨٧، ٣٨٨..
يأمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلم للناس جميعا عن مجيء الحق لهم وهو القرآن ؛ فإن فيه خير البشرية وسعادتها ونجاتها في الدنيا والآخرة. وفيه من روعة العقيدة وبساطتها ويسرها، ومن جمال القيم والسلوك وكمال التشريع ما تصلح عليه أحوال الناس كافة في سائر الأزمنة والبلدان. فمن استقام على منهج هذا الكتاب الحكيم ؛ فقد نفع نفسه بخلاصها ونجاتها. أما من أبي وزاغ عن طريق الله وارتضى بالكفر والضلال سبيلا ؛ فإنما يجني على نفسه فيوردها المهاوي والخسران.
قوله :﴿ وما أنا عليكم بوكيل ﴾ أي لست عليهم يا محمد بحافظ ولا مسلط إنما أنت مبلغ ونذير، يناط بك أن تبلغهم وتدعوهم إلى الإسلام. ثم مردهم بعد ذلك إلى الله وهو يتولى حسابهم وعقابهم.
قوله :﴿ حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ﴾ أي حتى يفتح الله بينك وبينهم فيقضي لك بالنصر والغلبة. وهو سبحانه خير الفاتحين والفاصلين١.