تفسير سورة الرعد

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الرعد من كتاب التفسير الحديث المعروف بـالتفسير الحديث .
لمؤلفه محمد عزة دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ

مدنيات «١». وأسلوب هذه الآيات جميعها ومضامينها وانسجامها في سياقها نظما وموضوعا يسوغ الشك في هذه الروايات أيضا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
. (١) صنوان: جمع صنو وهو المثيل والمعادل. وقال المفسرون في معنى الكلمة النخلات العديدة أو الشجرات العديدة التي هي من أصل واحد. وما لم يكن كذلك فهو غير صنوان.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم والراء وقد روى المفسرون أنها ترمز إلى جملة (أنا الله أعلم وأرى) وزادوا (أعلم) لأن في الحروف قيما زائدة على ما في مطالع السور السابقة. ونحن نرجّح كما رجّحنا في أمثالها أنها للتنبيه والاسترعاء. وقد أعقبت الحروف إشارة تنويهية إلى آيات الله التي أنزلها الله على نبيه بالحق. وتنديد بأكثر الناس الذين لا يؤمنون بها وهذا مماثل لأكثر المطالع المماثلة.
ثم أخذت الآيات تلفت أنظار السامعين إلى كون الله العجيب في سمائه
(١) انظر كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي والقاسمي.
516
وأرضه، وشمسه وقمره، وليله ونهاره، وجباله وأنهاره، وجنّات الأعناب والنخيل والزرع التي تكون في أراض متجاورة والتي يكون من شجرها ما يمتّ إلى أصل واحد ويسقي الجميع بماء واحد ويتفاضل مع ذلك في الأكل والطعم. وتقرر أن الله إنما يفضل هذا لقوم رزقوا العقل السليم والفكر اليقظ والنيّة الحسنة ليروا آيات الله الباهرة الدّالة على وجوده وقدرته وحكمته واستحقاقه للعبودية وصدق الدعوة إليه ووجوب الإيمان بأن الله لم يخلق هذا عبثا وأنه لا بدّ للناس من رجعة إليه والوقوف بين يديه.
وقد جاءت الآيات مقدمة وتمهيدا لما يأتي بعدها مما هو مألوف في النظم القرآني وجاءت مطلعا جامعا ورائعا من شأنه أن يسترعي الأسماع والأذهان وأن ينفذ إلى العقول والقلوب.
وهي ليست الأولى من بابها فقد سبق مثلها في سور أخرى. ومردّ التكرار هو تكرر المناسبات والمواقف ولقد سبق التعليق على ما احتوته من تقريرات وبخاصة موضوع اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وموضوع ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بما يغني عن تعليق جديد.
وجمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وإِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قد تكررت أو تكرر معناها في أمثال هذه الآيات التي وردت في السور السابقة ومن ذلك سورتا النحل الآيات [١١- ١٣] والروم الآيات [٢١- ٢٤]. وينطوي فيها كما هو المتبادر تنويه بالعقلاء والمتفكرين الذين تؤهلهم عقولهم ومداركهم وتفكيرهم لتدبر نواميس الله في كونه وتفهمها تنويها ينطوي في ما يتبادر لنا على تحميلهم مسؤولية ذلك. ثم حثّ للسامعين والناس عامّة في كل وقت ومكان على تدبّر هذه النواميس وتفهمها بكل وسيلة وطريقة. وينطوي في ذلك وجوب دراستها للانتفاع بها على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة.
هذا وللصوفيين تفسير عجيب للآية الثالثة جاء فيه: «هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده. فإليهم الملجأ وبهم النجاة. فمن
517
ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر» «١».
والصوفية وأهل الطرق يقصدون بالأوتاد أقطابهم وزعماءهم. وفي التفسير كما هو ظاهر شطح يبتعد به المفسر عن معنى العبارة القرآنية الواضحة الصريحة الدلالة التي تكرر مثلها كثيرا في القرآن للتدليل على قدرة الله ومشاهد وحدانيته وعظمته في كونه ليستخرج من الآية تكأة للألقاب الصوفية وليجعل أوتاد الصوفيين وأقطابهم مرجعا للبشر وأملا في كشف الضرّ والفوز والنجاة وفي هذا ما فيه من شرك يخرج به المؤمن من ربقة إيمانه والعياذ بالله.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٥ الى ٧]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧)
. (١) المثلات: الأمثال. والمراد منها عقوبات الله في الأمم السابقة.
وفي هذه الآيات تنديد بالكفار الذين يأخذ المرء أشد العجب من مواقفهم وأقوالهم بالرغم عما في كون الله العظيم من آيات باهرة مقنعة على النحو التالي:
أولا: يتساءلون تساؤل المنكر عمّا إذا كانوا حقيقة سيخلقون من جديد بعد أن يصبحوا ترابا، مما لا يصدر من الكفّار بالله ولقائه. وسيجزون على ذلك بالأغلال في أعناقهم وبالنار التي يخلدون فيها.
ثانيا: لا يفتأون يستعجلون السيء دون الحسن مما يوعدون وهو عذاب الله استعجال المستخفّ مع ما يعرفون من عقوبات الله السابقة في أمثالهم. ولقد جرى
(١) التفسير والمفسرون ج ٣ ص ٥٤.
518
الله على التسامح مع الناس فيما يصدر منهم من ظلم وبغي. ولكنه إذا عاقب فإن عقابه يكون شديدا قاصما.
ثالثا: وهم لا يزالون يتحدّون النبي ﷺ بآية تنزل عليه من ربّه ومعجزة تقع على يده حتى يؤمنوا ويستجيبوا مع أن النبي ﷺ ليس إلا داعيا إلى الله منذرا بعذابه مبشرا بثوابه. وليس في دعوته شذوذ يحتاج إلى البرهنة عليه بالآيات، كما أنه ليس في رسالته بدعا فقد جرت سنة الله على إرسال الرسل الهداة المنذرين إلى أقوامهم من قبله.
وفي الآيات صور مما كان يقع من الكفار من مشاقة وعناد وتحدّ كما هو واضح. وأسلوبها مطلق الحكاية والتنديد. وقد تكررت حكاية أمثالها مرات عديدة لأنها كانت تتكرر وقوعا. وفيها ردود تنديدية وإنذارية كأمثالها السابقة.
وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة بالإضافة إلى الردّ تطمينا وتسرية عن النبي ﷺ أيضا مما تكرر ذلك في المواقف المماثلة.
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات. ويجوز أن تكون من باب حكاية حال الكفار كما يجوز أن تكون حكاية لمشهد من مشاهد المواقف الجدلية الوجاهية التي كانت تقع بين النبي ﷺ والكفار. ولعلّ في الآيات التالية بعض القرائن على ذلك.
وقد أوّلنا تعبير وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ بما أوّلناه به آنفا لأن هذا هو المتّسق مع روح الآيات القرآنية بوجه عام. وهو ما عليه الجمهور أيضا.
ولقد أورد الطبرسي وهو من مفسري الشيعة في سياق الآية الأخيرة حديثا عن ابن عباس جاء فيه: «أنه لما نزلت الآية قال رسول الله: أنا المنذر وعليّ الهادي من بعدي يا عليّ بك يهتدي المهتدون» وحديثا آخر قال إنه رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب «شواهد التنزيل» عن أبي بردة الأسلمي جاء فيه: «إنّ رسول الله دعا بالطهور وعنده عليّ بن أبي طالب فأخذ بيد عليّ بعد ما تطهّر فألزمها بصدره ثم قال: إنما أنت منذر ثم ردّها إلى صدر عليّ ثم قال: ولكلّ قوم هاد ثم
519
قال إنك منارة الأنام وغاية الهدى وأمير القرى وأشهد على ذلك إنك كذلك».
والتكلف والهوى الحزبي بارزان على هذه الأحاديث شأنها شأن أحاديث وروايات كثيرة سبق إيرادها والتعليق عليها، ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث وقال إن فيها نكارة شديدة.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ١٣]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
. (١) تغيض: تنقص وتشحّ.
(٢) سارب: سائر وذاهب في طريقه.
(٣) معقّبات: موكلون يتعاقبون على مراقبته.
(٤) من أمر الله: بمعنى بأمر الله.
(٥) وال: ملجأ وولي.
(٦) شديد المحال: شديد الأخذ، أو شديد العذاب، أو شديد الحيلة والكيد والمكر والخصومة.
في هذه الآيات:
١- تقرير بإحاطة علم الله بكل شيء: فهو يعلم ما تحمل كل أنثى في رحمها
520
وما يطرأ على أرحام الإناث من أسباب الولادة والعقم والزيادة والنقص. وكل شيء مقدر من لدنه بمقدار يجري وفقه. وهو يعلم بكل حاضر وغائب وظاهر وخفي. ولا فرق في علمه بين ما يقوله الناس سرّا أو جهرا وبين ما يعملونه وهم مستخفون في ظلال الليل أو ظاهرون متحركون في النهار. وله على كل امرئ مراقبون وحفظة من أمامه وخلفه يراقبون حركاته وسكناته بأمر الله ومهيأون لتنفيذ أمر الله فيه.
٢- وإشارة إلى خضوع الظواهر الجوية لمشيئته وتصريفه: فالبرق الذي يرى الناس فيه ما يخيفهم ويطمعهم إنما يرونه بأمره ويسير بتسييره. والسحب المثقلة بالماء إنما تنشأ وتتألف بتقديره. والرعد المثير لفزع الناس هو خاضع لهيبته مسبّح بحمده، والملائكة الذين لهم في النفوس الصور العظيمة هم مستشعرون دائما بخوفه، وهو الذي يرسل الصواعق من السماء فتصيب من تصيب بتقديره ومشيئته.
٣- وتعقيب تنديدي بالذين يجادلون في الله وهو المحيط بعلمه المطلق في تصرفه الذي يخضع له كل قوى الكون. وإنذار لهم بنقمة الله وبطشه. فإنه شديد الحول والكيد والقوّة.
٤- والفقرتان الثانية والرابعة من الآية الرابعة استطراديتان فيما هو المتبادر.
فالله الذي له على كل امرئ مراقبون وحفظة قد جعل تغيير ما عليه أي قوم من حالات وأطوار منوطا بما يبدو في خاصة أنفسهم من تغير. فإذا ما استحق قوم نقمة الله بسبب سوء تصرفهم فلا يمكن أن يكون لها دافع ولا راد، ولا يمكن أن يكون لهم ناصرون وأولياء ومعاذ من دونه مما ينطوي فيه إنذار قاصم لهم.
ويروي المفسرون «١» بعض روايات في نزول بعض هذه الآيات منها أن رسول الله أرسل يدعو إليه أحد عتاة العرب وفراعنتهم فلما قال له الرسول (رسول الله يدعوك) قال وما رسول الله وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من لؤلؤ. فرجع الرسول إلى النبي فأمره بالعودة إليه ثانية ودعوته ففعل فكرر مقالته فأمر بالعودة إليه
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير وغيرهم.
521
ثالثة فكرر مقالته فلم يلبث أن بعث الله سبحانه حيال رأسه وهو يتكلم ويجادل فرعدت ثم وقعت منها صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ومنها أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة قدما على رسول الله فسأله عامر ماذا يجعل له إذا هو اتّبعه وطلب أن يكون له المشرق وللنبي المغرب أو الوبر وللنبي المدر أو يكون الأمر مشتركا بينهما فأتى النبي فقال له أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله يأبى الله عليك وأبناء قيلة- أي الأوس والخزرج- وقد حاولا أن يجدا غرة منه لقتله فمنع الله رسوله فخرجا يجمعان الناس لحربه فأرسل الله صاعقة فأحرقت أربد وطاعونا أهلك عامرا. فأنزل الله هذه الآية أو الآية السابقة لها أو الاثنتين معا. ومما جاء في الروايات أن جملة لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عنت رسول الله حين حفظه الله من الرجلين الذين تآمرا على قتله.
ولسنا نرى تناسبا منطقيا بين الروايات وبين الآيات كسبب للنزول. ويلحظ أن الآيات منسجمة مع بعضها كل الانسجام ومنسجمة في الوقت نفسه مع الآيات السابقة بحيث تبدو السلسلة وحدة تامة. لذلك فنحن نتوقف في صحة الروايات كسبب لنزول الآيات ونرجّح أن الآيات استمرار للسياق وتعقيب عليه. كأنما أريد القول بها والله أعلم أن الكفار الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة يجادلون في الله ويستعجلون عقابه ويشكّون في لقائه ويتحدّون رسوله بالمعجزات في حين أن الآيات والبراهين على عظمته وقدرته وجبروته وإحاطته بهم قائمة في كل شيء يشاهدونه في الكون وفي أنفسهم.
والروايات مدنية، وتقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أن الأسلوب المكي قوي البروز عليها بالإضافة إلى انسجامها الشديد بالآيات السابقة لها على ما نبّهنا عليه ولعل الروايات من أسباب رواية مدنية السورة.
ومن المحتمل أن تكون الأحداث التي ترويها الروايات قد وقعت فعلا وأن
522
تكون الآيات تليت من قبيل الاستشهاد حين حلّ عذاب الله بالكافرين فالتبس الأمر على الرواة والله أعلم.
ومحتويات الآيات مما تكرر متفرقا ومجتمعا في مواضع عديدة لتكرر المواقف. وهي هنا مجموعة رائعة قوية النفوذ إلى العقول والقلوب كما هو شأن مطلع السورة. وقد تكون بسبيل ما ضمناه من الموقف الجدلي الوجاهي بين النبي ﷺ والكفار.
وقد أورد المفسرون ورووا بعض الأقوال والتعليقات على بعض الآيات «١».
ومن ذلك ما يتعلق بحمل المرأة ومدته وأيام حيضها وأيام غيض هذا الحيض مما لم نر في إيراده طائلا وفائدة.
ومنها ما يتعلق بجملة لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فيما قيل وروي في ذلك أنها تعني الجلاوزة والحرس الذين يحيط أصحاب السلطان بهم أنفسهم للمحافظة عليهم مما قدر الله أن يصيبهم بقصد بيان أن ذلك لن يجديهم إذا ما أراد الله بهم سوءا. ومنها قيل إنها عنت رسول الله حين حفظ من اللذين أرادا قتله على ما جاء في الرواية التي أوردناها آنفا. غير أن معظم التأويلات والأقوال في جانب كون المقصود من المعقبات هم الملائكة الموكلون بمراقبة الناس. وقد فسرت جملة مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بمعنى (بإذن الله) وبذلك استقام المعنى. ونرى هذا التأويل لمدى الآية هو الأوجه من القول الأول كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع توكيل الله الملائكة لمراقبة الناس وإحصاء عملهم في سورة (ق) وأوردنا بعض الأحاديث المروية في صدد ذلك. ومن جملتها أحاديث وردت في سياق هذه الآيات. وذكرنا ما تبادر لنا من حكمة التنزيل والحديث من ذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به فلا نرى ضرورة للإعادة أو الزيادة.
(١) انظر كتب التفسير المذكورة آنفا.
523
ومن ذلك في صدد تسبيح الرعد، حيث روى بعضهم أن الرعد اسم لملك من ملائكة الله وبعضهم أنه زفرة ملك السحاب وهو يسوقه. والقولان يعنيان أن الملك هو المسبّح لله تعالى. وقد أورد بعضهم حديثا رواه الترمذي عن ابن عباس في تأكيد ذلك حيث جاء فيه: «أقبلت يهود إلى النبيّ ﷺ فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال:
زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر قالوا صدقت»
«١». ويظهر أن هناك من لم يثبت عنده هذا الحديث حيث قال الطبرسي في تخريج الجملة إن الرعد يدل بنفسه على عظمة الله وصولته وهذا معنى تسبيحه. وقال الخازن إن صوت الرعد يسبّح الله عزّ وجلّ لأن التسبيح والتقديس عبارة عن تنزيه الله عز وجل عن جميع النقائص. ووجود هذا الصوت المسموع من الرعد وحدوثه دليل على وجود موجود خالق قادر متعال عن النقائص فهذا تسبيح ومن ذلك قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] وإلى هذا قال الخازن قولا آخر وهو أن المراد من تسبيح الرعد أن من سمعه سبّح الله فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه، ونحن نميل إلى الأخذ بهذه الأقوال الظاهرة وجاهتها في تأويل وتخريج الجملة القرآنية.
ومن ذلك في تعريف الصواعق حيث قالوا إنها نار تنزل من السماء فتحرق ما تصادفه من مواد قابلة للاحتراق. ومما جاء في كشاف الزمخشري بصيغة قالوا إنها نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت بأجرامه وهي نار لا تمرّ بشيء إلّا أتت عليه إلّا أنها مع حدتها سريعة الخمود. وهي من فعل صعق الذي يفيد شدة الذهول أو الموت المفاجئ بسبب حادث أو صوت قوي يشهده المرء أو يسمعه. ومن هذا ما وصف به موسى حينما تجلّى ربّه للجبل بهذه الجملة فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: ١٤٣] وما وصف به ما يطرأ على
(١) التاج ج ٤ ص ١٣٥، وقد قال المؤولون إن مخاريق النار هي البرق.
524
البشر حينما يسمعون نفخ الصور بهذه الجملة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: ٦٨] التعريف مقارب للمعروف من الصاعقة. وعلى كل حال فالسمعون للقرآن يسمعون اسم ظاهرة كونية ويعرفون مداها بالمشاهدة والسماع بدون ريب. ومن ذلك في صدد كلمة البرق حيث أوردوا ما أوردناه في سياق الآية [٢٤] من سورة الروم التي وردت الكلمة فيها لأول مرة. وعلقنا على ما أوردوه وذكرنا ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله.
وإن كان من شيء نقوله هنا في مناسبة ذكر الرعد والصواعق والبرق معا فهو أن هذه الظواهر الكونية مما كان ولا يزال يثير في نفوس الناس رهبة وهيبة وتساؤلا.
وإن حكمة التنزيل اقتضت ذكرها هنا بالأسلوب الذي وردت به بسبيل التدليل على كونها مما يخضع لأمر الله وتسييره على ما ذكرناه في شرحها وأسوة بسائر مشاهد كون الله في السموات والأرض وما بينهما على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وأن الأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد لا طائل ولا ضرورة له في مقام الهدف القرآني. والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ
والجملة الأولى جديرة بالتنويه لما تحتويه من تقرير لناموس إلهي اجتماعي يتقلّب البشر وفاقه بين النعم والنقم والصلاح والفساد وبالتالي لما تحتويه من تلقين جليل مستمر المدى حيث قصدت تقرير كون النعم والنقم والخيرات والويلات لا تأتي على الناس عفوا وإنما هي منوطة بسلوكهم وسيرتهم. فإذا كانوا متمتعين بالقوة والعزّة والنجاح والصلاح فإنما يكون ذلك بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من أسس الاستقامة والحق فلا تتبدل حالتهم من الحسن إلى السيء إلا إذا انحرفوا عن الطريق القويم الذي يسيرون فيه. وإذا كانوا ضعافا يقاسون الويل والذلّ والفقر
525
والفوضى فإنما يكون هذا بسبب ما يقوم عليه سلوكهم من انحراف وإهمال وفساد فلا تتبدل حالتهم من السيء إلى الحسن إلا إذا عدلوا عمّا هم فيه وساروا في طريق الصلاح والاستقامة. وفي هذا ما هو ظاهر من الاتساق مع حقائق الأشياء. والإطلاق في الجملة يجعل مداها المشروح شاملا لجميع الناس والبيئات والطبقات والملل والنحل والحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولذلك فإنها تصحّ أن تعد من أمهات وجائز الحكم والأمثال والشواهد القرآنية البليغة. وفي سورة الأنفال آية فيها بعض المشابهة لهذه وهي:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. [٥٣] على أن الجملة التي نحن في صددها أشمل بسبب إطلاقها الذي يتناول حالتي النعمة والنقمة معا.
وفي الجملة كما هو واضح صراحة بأن الناس يتحملون مسؤولية كسبهم بقابليتهم لتغيير ما في أنفسهم بإرادتهم مما هو متّسق مع التقريرات القرآنية التي نبّهنا عليها في المناسبات العديدة السابقة.
أما الجملة الثانية فليس فيها ما يفيد أن إرادة الله تعالى بقوم سوءا تكون جزافا وبدون سبب. بل إن الجملة الأولى من الآية تمنع ورود هذا الخاطر. وكل ما أرادت تقريره هو عدم قدرة أحد على منع السوء الذي تشاء حكمته إنزاله بقوم ما. وروح الجملة الأولى قوية الإلهام بأن ذلك إنما يكون حين ينحرف القوم عن الحق والهدى إلى البغي والضلال فيغير الله ما بهم وينزل نقمته عليهم. وهناك آيات فيها توضيح وتفسير ودعم حاسم لذلك منها آية سورة القصص هذه: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وآية سورة هود هذه: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧).
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٤ الى ١٥]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
526
(١) ضلال: هنا بمعنى الباطل الذي لا غناء منه ولا نفع فيه.
(٢) الغدوّ: أول النهار.
(٣) الآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار.
في هاتين الآيتين:
١- تقرير على سبيل التنديد بأن الدعوة إلى الله هي الدعوة للحقّ. فمن يدعو إليه إنما يدعو إلى حقّ. ومن يدعوه إنما يدعو حقا سميعا مستجيبا قادرا مطلق التصرف. في حين أن غيره من المعبودات التي يدعوها الكفار لا يستجيبون لهم بشيء لعجزهم عن أي شيء. وأن مثل دعائهم إياهم كمثل العطشان الذي يدعو الماء إليه بيده ليرتفع ويصل إلى فمه من نفسه وإنه لن يفعل لأنه جماد عاجز لا يسمع ولا يشعر. وهكذا يذهب دعاء الكفار هباء ولا يكون منه إلا الخسارة والحسرة لهم.
٢- وتعقيب على ذلك يحتوي تقريرا بخضوع كل شيء لله. فله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها ويسجد له ظلال كل شيء فيهما أيضا في الغدو والآصال.
ولقد خمّن المفسر الخازن أن يكون الضمير في (له) عائد إلى النبي ﷺ وأن تكون الآية الأولى بسبيل تقرير كون دعوة النبي على عامر وأربد هي المستجابة لأنها حقّ. وفي هذا تكلف ظاهر لا يبرره روح الآية ولا نصها. والكلام في الآيات السابقة عن الله عز وجل ومظاهر قدرته وعظمة ملكوته ونواميسه. والمتبادر أن الآيتين هما استمرار للسياق. وعلى سبيل المثال بين الله عز وجل وبين الذين يدعوهم المشركون من دونه مقايسة تنطوي على التنديد والتسفيه.
527
ولقد تعددت تخريجات المؤوّلين والمفسرين لجملة طَوْعاً وَكَرْهاً. منها أن الملائكة والمؤمنين يسجدون طوعا والمنافقين يسجدون كرها. ومنها أن الكفار المشركين يسجدون بقوة السيف، ومنها أن هؤلاء يسجدون لله مضطرين حين ما يحيق بهم الخطر ويدعون الله مخلصين له الدين كي ينجيهم مما حكته آيات عديدة في سور سابقة «١».
والذي يتبادر لنا أن التعبير أسلوبي بسبيل تقرير خضوع كل شيء في السموات والأرض لتصريف الله ومشيئته. وفي هذا يتساوى كل ما في الكون من طائعين وعصاة ومن جماد ونبات ومعالم علوية وسفلية. وقد قررت هذا آيات عديدة جاءت مطلقة منها ما مرّ تفسيره «٢». والمتبادر أن ذكر (ظلالهم) هو بقصد توكيد ذلك الخضوع الشامل.
وجملة بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يمكن أن تكون في صدد السجود. كما يمكن أن تكون في صدد الظلال. فإذا صحّ الاحتمال الأول فيكون التعبير أسلوبيا قصد به جميع الأوقات لأن هذا هو ما تقتضيه روح الآية التي هي بسبيل تقرير خضوع كل شيء لله في كل وقت. وإذا صحّ الاحتمال الثاني فيكون بقصد تقرير كون الظلال المرئية المتحركة في غدوّ النهار وأصيله للأشياء والناس هي في حركاتها وسكناتها خاضعة لتصريف الله تعالى كما تخضع له أصولها.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٦]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦).
(١) انظر آيات سورة يونس [١٢ و ٣٢] والعنكبوت [٦٥]. [.....]
(٢) انظر مثلا آيات سورة النحل [٤٨- ٤٩].
الخطاب في الآية موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:
١- أمر بالتساؤل عمّن هو ربّ السموات والأرض وبالإجابة على ذلك بأنه هو الله.
٢- وأمر ثان بتوجيه أسئلة تنطوي على التنديد والتسفيه إلى المشركين عمّا في اتخاذهم غيره أولياء ونصراء وشركاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن غيرهم من سخف. وعما إذا كان يصح في عقل عاقل أن يسوى بين الأعمى والبصير وبين الظلمات والنور حتى تصحّ التسوية بين القادر والعاجز. وعما إذا كان شركاؤهم قد خلقوا شيئا مثل ما خلق الله فالتبس الأمر عليهم ورأوا فيهم قدرة أو مزية.
٣- وأمر ثالث بتقرير كون الله وحده هو خالق كل شيء وأنه هو الإله المتفرّد في الألوهية القهّار الذي يعنو لعظمته كل شيء.
والآية متصلة بالسياق كذلك كما هو المتبادر. وقد يكون فيها قرينة أخرى على أن السياق هو بسبيل مشهد من مشاهد الجدل الوجاهي بين النبي والمشركين.
وأسلوبها جدلي قوي وملزم كما هو ظاهر.
والأمر بالإجابة على السؤال الأول من قبل النبي وإن كان يبدو بذاته غير ملزم للمشركين في سياق الجدل فإن ما جاء في آيات كثيرة مرّت أمثلة منها في سورة يونس [٣١] والمؤمنون [٨٤- ٨٦] والزخرف [٩ و ٨٧] من حكاية جوابهم واعترافهم بأن خالقهم وخالق الكون هو الله يمكن أن يكون قرينة على أن هذا الجواب قد جاء كتقرير حقيقة لا يكابر فيها الفريق الآخر. وهذا سائغ مألوف في مواقف الجدل والمناظرة. وفي مضمون بقية الآية قرينة قوية على هذا التوجيه.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٧]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
529
(١) الزبد: الرغوة والحبب الذي ينعقد على وجه السوائل عند شدّة حركتها أو غليانها.
(٢) رابيا: عاليا على السطح.
(٣) جفاء: هباء. وهي من جفأه السيل أي رمى به.
في هذه الآية تمثيل للحقّ والباطل وعاقبة كل منهما: فالله ينزل من السماء الماء فتسيل به الوديان بالقدر المقدر له فيعلو على سطحه من شدّة الحركة والجريان زبد ورغوة. والمعدن الذي يوقد الناس تحته النار لصنع الحلي والأدوات الأخرى يظهر على سطحه كذلك زبد وحبب من شدّة الغليان والحرارة. فكما أن الرغوة والزبد والحبب لا يلبث أن يزول حين خمود حركة السيل أو الحرارة ولا يبقى إلّا النافع الحقيقيّ من الماء أو المعدن فكذلك الباطل الذي ليس هو إلّا كالرغوة والزبد لا أصل له ولا مادة ولا يحصل إلّا في الحركة الصاخبة فإنه لا يلبث أن يزول ويزهق حين الموازنة الهادئة ولا يبقى ثابتا قائما إلّا الحقّ الذي هو النافع الحقيقي.
والآية متصلة بالسياق، والتمثيل متصل بعقيدتي التوحيد والشرك اللتين ووزن بينهما في الآية السابقة وندد فيها بالمشركين الذين يتخذون شركاء لا نفع ولا قدرة لهم كما هو المتبادر. والتمثيل قوي مقتطع من مشاهد السامعين ومألوفهم كما هو ظاهر، وفي الآية مثل من روائع الأمثال التي احتوى القرآن طائفة منها مرّت أمثلة منها في السور السابقة.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «قال رسول الله ﷺ إنّ مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت
530
منها أجادب فأمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقّه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». وينطوي في الحديث صورة تطبيقية للمثل الذي احتوته الآية كما هو المتبادر.
والتمثيل وإن كان متصلا من حيث السياق بعقيدتي التوحيد والشرك وما في الأولى من حقّ قائم نافع ودائم وفي الثانية من باطل وسخف ووهم فإنه بإطلاقه يصحّ أن يكون عامّ التطبيق شامل التلقين في كل متناقضين كالحقّ والباطل والصدق والكذب والإيمان والنفاق والكفر والجد والتهريج والعقل والهوى والعلم والجهل والنظام والفوضى إلخ وفي وجوب التمسك بالأولى دون الثانية وتأييدها.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٨]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
. وفي هذه الآية:
١- بشرى للذين استجابوا إلى دعوة الله فآمنوا به وصدقوا برسالة رسوله، فلهم العاقبة الحسنى.
٢- وتنديد وإنذار للذين لم يستجيبوا: فإن لهم سوء الحساب ومأواهم جهنّم وبئست هي من مضجع ومهاد. وأن مصيرهم من السوء والهول بحيث لو كان لهم ما في الأرض ومثله لهان عليهم أن يفدوا به أنفسهم!.
وظاهر أن الآية متصلة بالسياق ومعقبة عليه. ومستهدفة لتثبيت المؤمنين وتطمينهم وإرهاب الكفّار المشركين وحملهم على الندم والارعواء قبل فوات الوقت.

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٩ الى ٢٥]

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
. (١) يدرأون: يدفعون.
تساءلت الآية الأولى تساؤلا استنكاريا عمّا إذا كان يصحّ التسوية بين الذي رأى نور الحق فشعّ في قلبه فاهتدى وتيقّن بأن ما ينزل على النبي إنما هو من الله، وبين أعمى القلب والبصيرة ثم قررت: إنما يعقل هذا ويتذكر به ذوو العقول السليمة.
ثم احتوت الآيات التالية وصفا قويّا محببا لمن يشع الإيمان في قلوبهم ويهتدوا بهدى الله ورسوله. فهم الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون ما ارتبطوا به من مواثيق. ويصلون ما أمر الله به أن يوصل من رحم وبرّ ومعونة وتسديد وإصلاح. ويحسبون حساب الوقوف بين يدي الله ويستشعرون خشيته. ويصبرون على الشدائد والمواقف الصعاب في سبيل الله وابتغاء رضوانه وحسب. ويقومون بواجباتهم التعبديّة. وينفقون المال في السرّ والعلن في وجوه البرّ والمعروف.
ويتقون عواقب الهنوات والسيئات ويدفعونها بالحسنات وأعمال الخير. فهؤلاء لهم خير الجزاء والتكريم في الآخرة ولمن سار على طريقتهم القويمة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. حيث يدخلون الجنة ويتلقون تحية الملائكة من كلّ صوب.
واحتوت الآية الأخيرة بالمقابلة وصفا قويا لمن أظلمت قلوبهم وخبثت
532
سرائرهم: فهم الذين ينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ولهم اللعنة من الله وسوء المنزل والمصير في الآخرة.
تعليق على مجموعة الآيات أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ... إلى آخر الآية [٢٥]
ذكر البغوي بلفظ (قيل) إن الآية الأولى نزلت في حمزة وأبي جهل أو في عمّار وأبي جهل على سبيل المقايسة. وروح الآية ونصّها يلهمان أنها والآيات التي تأتي بعدها وحدة تامة. وروح الآيات ونصّها يلهمان بقوة أنها على سبيل المقايسة بين المؤمنين الذين استجابوا لربّهم والكافرين الذين لم يستجيبوا بصورة عامة وأنها بالتالي معقبة على ما قبلها. والراجح أن ما جاء في وصف الأولين هو وصف لواقع حال المؤمنين الأولين في العهد المكي. وقد تكرر مثل ذلك في سور سابقة على ما نبّهنا عليه في مناسباتها. وفي الوصف صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله ﷺ الأولون من استغراق في دين الله وما أوجبه عليهم من واجبات تعبديّة واجتماعية وسلوكيّة. ويتبادر لنا أن حكمة مجيء الأفعال فيها بصيغة المضارع هي ليكون ما فيها عام المدى مستمر التلقين.
والمجموعة ليست الأولى من بابها حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار ما فيها بتكرار المواقف. وفيها تنويه بأثر الإيمان والكفر في سلوك الناس وصلاح المجتمع وفساده. وفيها جماع أهداف الدعوة الإسلامية والصفات الصالحة الشخصية والاجتماعية التي يمكن أن يقوم عليها أفضل مجتمع إنساني إذا اتصف أفراده أو غالبهم بها، كما فيها ما فيه سبب فساد الأرض والمجتمع. ويصح أن تعدّ من أجل ذلك من روائع المجموعات القرآنية التي امتاز بها القرآن في الأسلوب وبعد المدى.
وروح الآيات تلهم أن الصفات التي وصف بها المؤمنون هي ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في كل دورة، أو هي الصفات الطبيعية التي ينبغي أن يتصفوا بها. وهذا يؤدي إلى القول بأن المسلم الذي لا يتّصف بها لا يكون قد أحسن
533
إدراك أهداف الرسالة الإسلامية وأخلص في الاندماج فيها.
وجملة وَمَنْ صَلَحَ قيد احترازي كما هو المتبادر لإخراج غير الصالحين من تبعية ومرتبة الصالحين من المؤمنين مهما كانت صلات القربى بينهم وشيجة. ومثل هذا القيد ورد في سور سبق تفسيرها مثل آية سورة غافر [٨] وآية سورة الذاريات [٢١] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد هذا المعنى مرة بعد مرة. وهي حكمة جليلة المدى والمغزى بدون ريب. ومما انطوى فيها كما يتبادر حضّ ذوي الصالحين من آباء وأزواج وذرية على اللحاق بأعمالهم بالصالحين منهم لينالوا مرتبتهم عند الله تعالى.
ويتبادر لنا معنى عظيم لمدى تعبير الوفاء بعهد الله في هذا المقام من حيث إن المرء بدخوله في دين الله يكون قد عاهد ربّه على القيام بجميع ما أمر به واجتناب جميع ما نهى عنه من أخلاق شخصية واجتماعية وواجبات شخصية واجتماعية أيضا.
ولقد قال البغوي في سياق تفسير جملة وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إن الأكثرية على أن الجملة هي في صدد صلة الرحم ثم أخذ يورد أحاديث نبويّة في ذلك رواها بطرقه منها حديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «سمعت رسول الله يحكي ربّه عزّ وجلّ قال أنا الله والرّحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «١». وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله الخلق فلمّا فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرّحمن فقال مه قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا ربّ قال فذاك لك ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: ٢٢] » «٢».
وحديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثلاثة تحت العرش يوم
(١) روى هذا الحديث الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج ٥ ص ١٠.
(٢) روى هذا الحديث الشيخان أيضا، انظر المصدر نفسه ص ٩.
534
القيامة يحاجّ العباد له ظهر وبطن والأمانة والرحم تنادي ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «١». وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أحبّ أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه»
«٢». وحديث عن أبي بكرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم». وحديث عن أبي أيوب الأنصاري قال: «إنّ أعرابيا عرض لرسول الله في مسير له فقال أخبرني بما يقرّبني من الجنّة ويباعدني من النار، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» «٣». وحديث عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله ﷺ ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» «٤».
وصلة الرحم من الأعمال المبرورة التي يجب أن يتّصف بها المسلم بدون ريب. وفي الأحاديث المروية تلقينات واجبة الالتزام في ذلك. ومع ذلك فالذي يتبادر لنا من إطلاقه العبارة القرآنية أنها أعمّ وأشمل من صلة الرحم وأنها تتناول كل ما أمر الله به أن يوصل ولا يقطع بصورة عامة.
ولقد رأينا الطبرسي وهو مفسّر شيعي يروي في سياق العبارة تأويلا عن موسى بن جعفر الكاظم أحد الأئمة أن الأمر الذي في الآية هو في صدد رحم آل محمد وأنها معلّقة بالعرش تقول اللهمّ صل من وصلني واقطع من قطعني. وهي تجري في كل رحم. والتكلّف والهوى الحزبي بارزان على الرواية كما هو ظاهر.
ولقد أورد البغوي في سياق جملة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ حديثا عن النبيّ ﷺ جاء فيه: «إذا عملت سيئة فاعل بجنبها حسنة تمحها السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية». وحديثا آخر عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن
(١) روى مسلم شيئا من هذا الحديث عن عائشة قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم معلّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله». انظر المصدر السابق نفسه ص ١٠.
(٢) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي، انظر المصدر السابق نفسه، ص ٩.
(٣) روى هذا الحديث بصيغة مقاربة الشيخان، انظر المصدر السابق نفسه ص ٨- ٩.
(٤) روى هذا الحديث البخاري وأبو داود أيضا انظر المصدر السابق نفسه ص ٩.
535
مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكّت عنه حلقة ثم عمل أخرى فانفكّت أخرى حتى يخرج إلى الأرض». حيث ينطوي في الحديثين تلقين وتأديب نبويان حكيمان. وهذا التلقين والتأديب مندمجان في جملة إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ الواردة في الآية [١١٤] من سورة هود والتي ورد في سياقها أحاديث نبوية أخرى أوردناها في مناسبتها. ولقد ورد في سورة القصص جملة مماثلة للجملة التي نحن في صددها بسبيل الثناء والتنويه ببعض المؤمنين من أهل الكتاب حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار التلقين والتأديب واقتضت حكمة النبي تكرار مثل ذلك في هذه المسألة والحكمة في ذلك جليلة المدى والمغزى بدون ريب.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
. عبارة الآية واضحة، والمتبادر أن تعبير وَفَرِحُوا قد عنى الذين وصفوا في الآية السابقة مباشرة بنقض ميثاق الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض ولعنوا بناء على ذلك وأنذروا بسوء العقبى. وقد تضمنت الآية حكاية فرح هذه الطبقة وزهوها بما تيسّر لهم من وسائل القوّة والثروة في الحياة الدنيا والتنديد بهم لاغترارهم بذلك إلى الدرجة التي أعمتهم عن الهوى وجعلتهم يرتكسون فيما ارتكسوا فيه من مواقف المناوأة لرسول الله ورسالته والبغي والفساد. ثم نبهتهم إلى الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها وهي أن بسط الرزق وتقتيره هما بيد الله وأن الحياة الدنيا مهما بسمت للناس فإنها ليست إلّا متاعا تافها جدا في قيمته ومدّته بالنسبة للحياة الأخرى.
وبهذا الشرح تكون الآية متصلة بالسياق السابق اتصال تعقيب واستطراد وتعليل وتنديد.
وننبّه على أن مثل هذا التنبيه والتنديد الذي تضمنته الآية قد تكرر في آيات
536
عديدة وردت في مثل المقام الذي وردت فيه هذه الآية. حيث يدل هذا على تكرر المواقف المماثلة واقتضاء حكمة التنزيل ومعالجتها بمثل هذه المعالجة القوية.
ومع ما للآية من خصوصية زمنية وتنديدية فإن فيها تلقينا مستمر المدى في التنبيه على عدم الاغترار بما يتيسر للمرء من قوّة وثروة والاستغراق في ذلك استغراقا يذهله عن واجباته نحو الله والناس ويعميه عن الحقّ وفاضل الأخلاق والأعمال ويجعله يرتكس في البغي والفساد. وينسيه الحياة الأخروية التي ليست الحياة الدنيا بالنسبة إليها إلّا متاعا تافها بقيمته ومدّته.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين عن النبيّ ﷺ جاء في أحدهما:
«ما الدّنيا في الآخرة إلّا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ فلينظر بماذا ترجع» «١». وفي ثانهيما: «إنّ رسول الله ﷺ مرّ بجدي أسكّ ميت- والأسكّ الصغير الأذنين- فقال: والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه» «٢».
ويتساوق الحديثان مع ما احتوته الآية من تلقين حكيم.
ومع ذلك فإن من الحقّ أن ننبّه على أن التلقين الذي احتوته الآية والأحاديث يهدف بالدرجة الأولى إلى التحذير من الاستغراق في الدنيا ومتاعها وشهواتها استغراقا ينسي الإنسان الحياة الأخرى وينسيه ربّه ويجعله ينحرف عن واجباته ويبغي ويفسد في الأرض. وليس فيه ما يمنع من فرح المسلم واغتباطه بما ييسره الله من أسباب الثروة وحسن الاستمتاع في الحياة الدنيا ولا السعي في سبيل ذلك إذا ما اتّصف بالصفات التي يجب أن يتّصف بها المسلم الصادق والتي نوّهت الآيات السابقة بالمتّصفين بها.
(١) روى هذا الحديث الترمذي أيضا، انظر التاج ج ٥ ص ١٤٧.
(٢) روى هذا الحديث مسلم والترمذي أيضا بصيغة أخرى. قال راوي الحديث المستورد:
«كنت مع الركب الذين وقفوا مع النبي ﷺ على السخلة الميتة فقال رسول الله: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها. قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله؟ قال: فالدنيا على الله أهون من هذه على أهلها». انظر المصدر نفسه ص ١٤٦.
537

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
. (١) طوبى: روى المفسرون روايات كثيرة عن أصحاب رسول الله وتابعيهم بأن الكلمة اسم شجرة في الجنة. وأوردوا بعض الأحاديث النبوية في ذلك وإلى هذا فقد قالوا «١» في معناها اللغوي إنها بمعنى حسنى لهم وقرّة عين وفرح وغبطة وإنها من مصدر طاب وأن (طوبى لك) بمعنى أصبت خيرا وطيبا، أي هي دعاء.
وإنها مؤنث أطيب مثل حسنى مؤنث أحسن. وفضلى مؤنث أفضل. وجاء في لسان العرب (العرب يقولون طوبى لك إن فعلت كذا) ونحن نرجّح أنها هنا في معناها اللغوي. ولقد وهم بعضهم فقال إنها معرّبة من العبرانية لأن فيها كلمة مقاربة لها لفظا ومعنى. وهذا لا يقتضي أن تكون معرّبة لأن في العربية والعبرانية أصولا كثيرة مشتركة لأنهما من أصل واحد. وعروبة الكلمة اشتقاقا وصيغة واضحة. وهناك روايات غريبة عن ابن عباس أنها اسم الجنة في الحبشية وعن سعيد بن مسجوع أنها اسم الجنة في الهندية.
لم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة أيضا بالسياق اتصال تعقيب وتنديد بالكفار وتنويه بالمؤمنين بالمقابلة.
وفيها حكاية لما كان يتكرر من تحدي الكفار للنبي بالآيات وتطمين وتسرية له.
فالكفار يظلون يتحدّون النبي بالإتيان ببرهان من ربّه على صدق دعوته. فعليه أن لا يعبأ بتعجيزهم. وأن يعلن أن الله يضلّ من يشاء وأن دعوته إنما يهدي الله إليها الذين حسنت نياتهم وطابت قلوبهم ورغبوا في الإنابة إلى الله فهم الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله. وهو الجدير باطمئنان القلوب بذكره. فيؤمنون ويعملون الأعمال
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي والزمخشري والطبرسي.
538
الصالحة. وهؤلاء لهم قرّة العين وحسن المصير والمنقلب وكل ما هو طيب.
ومن الأحاديث المروية في كونها شجرة في الجنة حديث رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله: طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» - النص من ابن كثير- وحديث رواه الطبري بطرقه جاء فيه: «جاء أعرابيّ إلى رسول الله فقال يا رسول الله إنّ في الجنة فاكهة؟ قال: نعم. فيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس تشبه شجرة تدعى الجوزة لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما». وهناك حديث يرويه رواة الشيعة والهوى الحزبي بارز عليه جاء فيه: «سئل رسول الله عن طوبى، قال: شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة ثم سئل عنها مرة أخرى فقال في دار علي فقيل في ذلك فقال إن داري ودار علي في الجنة بمكان واحد».
وهذه الأحاديث وما في بابها مما لم نر ضرورة إلى استقصائه لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد ورد في هذه الكتب حديث عن شجرة عظيمة في الجنة بدون أن تسمّى طوبى. وهو حديث رواه الشيخان والترمذي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله: إنّ في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها» «١». ومع ذلك فمن الجدير بالتنبيه أن الأحاديث التي تذكر أن شجرة في الجنة تسمّى طوبى برغم أنها لم ترد في الكتب الصحيحة ليست بسبيل تفسير الآية وإنما رويت في مناسبات أخرى وفي العهد المدني كما هو ظاهر.
أما الذين خبثت سرائرهم وغلظت قلوبهم فهم الذين يقفون منها موقف المعاند المكابر المعجز المتحدي. وهؤلاء لن تفيد معهم المعجزات والبراهين لأنهم ليسوا صادقي الرغبة في الهدى.
وهذه المعاني مما تكرر في المواقف المماثلة العديدة التي حكاها القرآن
(١) انظر التاج ج ٥ ص ٣٦٩.
539
ومرّت أمثلة عديدة منها، وفي وصف الذين يهديهم الله بما وصفوا توضيح صريح يسوّغ التأويل الذي أوّلناه هنا وفي المواضع المماثلة لتعبير إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ وهو التأويل المتسق مع روح القرآن وحكمة الدعوة النبوية.
ويصح أن يكون مقيدا لما جاء في بعض الآيات مطلقا لإزالة ما قد يتبادر إلى الوهم من الإطلاق.
تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
وتعبير أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قوي نافذ حقا، فالمرء الذي يتفكّر في آلاء الله ويستشعر عظمته يذكره دائما فتخشع بذكره جوارحه وتهدأ نفسه ويصغر في نظره كل ما عدا الله ويهون عنده كل ما يكون فيه من مصاعب ومشاكل وتطمئن نفسه وقلبه.
ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وما أعاره كتاب الله له من عناية بالغة وما ورد في صدد ذلك من أحاديث نبويّة في سياق سورة الأعراف فنكتفي هنا بهذه الإشارة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
. (١) متابي: مرجعي أو إنابتي وتوبتي.
في الآية خطاب للنبي ﷺ وتضمنت التقريرات التالية: إن الله قد أرسله إلى أمته ليتلو عليهم ما أوحاه إليه ويدعوهم إلى الحقّ، ومع أنه ليس في هذا بدع ولا غرابة فإن الكفّار تحدّوه بالآيات وكذّبوا وجحدوا، وهم في الحقيقة إنما يجحدون الله الرّحمن ويقعون بذلك في التناقض لأن يعترفوا بالله. فليس عليه، والحالة هذه إلّا أن يعلن أن الرّحمن هو ربّه وأن لا إله إلّا هو وإليه وحده إنابته ومرجعه.
وواضح أن الآية متصلة بالسياق. وفيها تسلية للنبي ﷺ وتثبيت، وقد تكرر معناها لتكرار المواقف والمناسبات.
ولقد روى بعض المفسرين أن أبا جهل سمع النبيّ ﷺ وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فقال لقريش: إن محمدا يدعو إلهين يدعو الله ويدعو إلها آخر يسمّى الرّحمن ولا نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة فنزلت الآية «١».
ويلحظ أن الجملة جزء من آية متصلة بسياق سابق ولاحق مما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن رسول الله ﷺ لما كاتب قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا لا تكتب الرّحمن وما ندري ما الرّحمن لا تكتب إلّا باسمك اللهمّ فأنزل الله الآية حاكية لقولهم منددة بهم. والرواية تقتضي أن تكون الآية مدنيّة مع أن الطابع المكي قوي البروز عليها فضلا عن صلتها الوثيقة بالسياق السابق.
ولقد حكت إحدى آيات سورة الفرقان سؤال المشركين الاستنكاري عن الرّحمن حينما كان النبي ﷺ يدعوهم إلى الله ويصفه بالرحمن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ... [الفرقان: ٦٠] وروى المفسرون رواية مماثلة لهذه الرواية في سياقها «٢». ورووا ذلك أيضا «٣» في سياق آية سورة الإسراء هذه:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: ١١٠] على ما ذكرناه في سياق تفسير السورتين حيث يبدو أن المشركين ظلوا يجادلون في اسم الرّحمن بشيء في أذهانهم عنه لا يمكن التأكد منه فاقتضت حكمة التنزيل تكرار توكيد أنه اسم من أسماء الله.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١).
(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.
(٢) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي.
(٣) انظر تفسير الخازن وابن كثير والبغوي. [.....]
541
روى المفسرون أن الآية نزلت ردا على تحدّي أبي جهل وغيره من زعماء المشركين حيث طلبوا من النبي ﷺ أن يذهب عنهم جبال تهامة حتى تتسع لهم رقعة الأرض للزراعة وأن يحيي موتاهم حتى يخبروهم إن كان ما يقوله حقا.
وقد تكون الرواية صحيحة ولكنا نرجّح أن الآية لم تنزل بمفردها وفي مناسبة هذا التحدّي لأنها منسجمة جدا مع السياق السابق. فضلا عن عطفها عليه. وفي إحدى الآيات القربية في السياق حكاية تحدّ من الكفار باستنزال آية فمن المحتمل أن تكون بسبيل الردّ عليهم.
على أن جملة أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً تورد على البال احتمالا آخر، وهو أن المسلمين كانوا يتمنون أن يجاب المشركون إلى طلبهم أملا في إيمانهم وحرصا عليه، فأريد بالجملة أن يقال لهم إنه ليس من شأن الآيات أن تحملهم على الإيمان. وهذا التمني من المسلمين ليس الأول، فقد وقع قبل، وحكته آيات سورة الأنعام بعبارة مقاربة: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) والضمير في يُشْعِرُكُمْ عائد إلى المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات.
وهذا الاحتمال لا يتعارض مع القول إن الآية متصلة بالسياق السابق كما هو واضح.
وهناك قراءة مروية عن علي وابن عباس وغيرهما تجعل تعبير (يتبين) بدلا
542
من (ييأس) على ما ذكره الطبري وغيره. وصحة هذه القراءة لا تخلّ بالمعنى المراد. حيث تكون بمعنى (ألم يتيقن المؤمنون مما رأوه من شدّة عناد الكفار أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) وإن كانت كلمة (ييئس) أقوى تعبيرا في هذا المقام حيث ينطوي فيها تقرير كون ما ظهر من الكفار من عناد من شأنه أن ييئس المؤمنين من ارعوائهم.
ونكرر هنا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن الآية- وهي تتضمن الإشارة إلى شدّة عناد الكفار وإصرارهم وترهص باليأس منهم ولو على سبيل تسلية المؤمنين- إنما تسجل واقع أمرهم حين نزولها حيث اهتدى معظمهم وآمنوا.
ولقد روى المفسرون «١» عن ابن عباس أن جملة وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أنها السرايا التي كان يبعث بها رسول الله ﷺ لإزعاجهم. وهذا يقتضي أن تكون الآية مدنية. ولقد روى بعض الذين ذكروا مكية السورة أن هذه الآية مدنية حيث يكون في ذلك- إذا صحّ- تأييد للرواية.
غير أن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية فيها صورة مكية لا تتحمل شكا مما يجعلنا نتوقف في مدنية الآية. ونرجح أن القارعة هي ما روي عن إصابة أهل مكة بالجوع، أو من قبيل الإنذار مما تضمنته آيات سورة الدخان [٨- ١٦] والمؤمنون [٧٥- ٧٧] والسجدة [٢١] التي لا خلاف في مكيتها على ما شرحناه في سياقها.
وروح الآية بل ونصّها يزيل ما يمكن أن توهمه عبارة أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً من كون عدم إيمان الكفار قد كان لأن الله لم يشأه. فالعبارة من جهة أسلوبية بسبيل تسلية المؤمنين وتطمينهم وتسكين روعهم. والجملة الأخيرة من الآية من جهة أخرى قوية الدلالة على كون الكفار قد كفروا عن عمد وتصميم فاستحقوا قواصم الله بما صنعوا وبالتالي قوية الدلالة على أن كفرهم كان باختيارهم. وطبعا إن هذا لا يعني أنهم كفروا رغم مشيئة الله. فالأسلوب القرآني قد جرى على نسبة كل شيء إلى هذه المشيئة من باب كون الله تعالى هو المتصرف
(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.
543
المطلق بخلقه وكونه. ويمكن أن يقال إن ترك الناس لاختيارهم وجعلهم ذوي قدرة وقابلية للاختيار هو نفسه بمشيئة الله فيزول الإشكال. وفي جملة قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ التي سبقت هذه الآية ثم في جمل كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: ٣٣] ووَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم: ٢٧] ويُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: ٢٦] معالجة قرآنية أخرى لهذا الإشكال. والآية التالية لهذه الآية تنطوي على توكيد لذلك أيضا. وفي سورة يونس آية فيها عبارة مثل هذه العبارة واضحة الدلالة على أنها بقصد تسلية النبي ﷺ وتهدئة روعه حيث يتأكد بهذا ما ذكرناه من أهداف العبارة القرآنية. والله أعلم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
. (١) أمليت: بمعنى مددت لهم وأمهلتهم.
في الآية التفات للنبي ﷺ تقرر له أن الأمم السابقة قبله استهزأت برسلها فأملى الله لها مؤقتا وأمهلها ثم أخذها أخذا شديدا معروف الخبر مشهود الأثر.
والآية استمرار للسياق. وتعقيب على ما سبقها كما هو المتبادر. وفيها تطمين وتثبيت للنبي ﷺ وإنذار للكفار. وقد استهدفت فيما استهدفته تذكير الكفار الذين يقفون من النبي ﷺ موقف الاستهزاء والجحود بما كان من عقاب الله لأمثالهم من الأمم السابقة وحملهم على الاتعاظ به. ولقد تكرر محتوى الآية بسبب تكرر المواقف المماثلة، واستهدافا للهدف الذي استهدفته. ولقد احتوت آيات عديدة في سور سابقة «١» إشارات إلى معرفة السامعين لأخبار الأمم السابقة وما حلّ فيهم من نكال الله تعالى بعد الإملاء والإمهال الذي اقتضتهما حكمة الله
(١) انظر مثلا آيات سورة العنكبوت [٤٨] وإبراهيم [٤٥] وطه [١٢٨] والسجدة [٢٦٠].
حيث يستحكم بذلك الإنذار والوعظ القرآنيان. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا رواه البخاري ومسلم عن النبي جاء فيه: «إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» «١» حيث يتساوق الإنذار النبوي مع الإنذار القرآني كما هو أي في شأن آخر.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥)
. في هذه الآيات:
١- تساؤل استنكاري عمّا إذا كان الأحقّ بالألوهية والعبادة ذلك الإله المراقب لكل امرئ والعالم بما كسب والقادر على جزائه عليه، أم معبود عاجز لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء.
٢- وتنديد بالمشركين الذين يناقضون هذه البديهة فيجعلون لله شركاء من الطراز الثاني.
٣- وأمر للنبي ﷺ بتحدّيهم في تسمية هؤلاء الشركاء ووصفهم حتى تتبين حقيقتهم. وبسؤالهم سؤالا تنديديا عمّا إذا كانوا بسبيل إخبار الله بوجود شركاء له في الأرض لا يعرفهم أو إذا كان أمرهم منهم هو التعلّق بألفاظ تقليدية ليس لها حقيقة وليسوا منها على حقيقة. وتنبيههم إلى ما في هذا وذاك من سخف.
٤- وبيان لحقيقة أمر الكفار فيما هم عليه من موقف وعقيدة بيانا فيه تنديد من جهة وتسرية عن النبي والمؤمنين من جهة أخرى: فقد زيّن لهم المكر والكيد لرسالة النبي ودعوته فاندفعوا فيهما. وقد عميت أبصارهم فضلّوا عن طريق الحق.
(١) انظر التاج ج ٤ ص ١٣١.
545
٥- وإنذار لهم وبشرى للمؤمنين بالمقابلة: فمن كان أمره كذلك فقد ضلّ فلا تجدي فيه دعوة ولا هداية. ومثل هؤلاء قد حقّ عليهم عذاب الدنيا أولا ثم عذاب الآخرة الذي هو أشدّ وأشقّ دون أن يكون لهم من يقيهم ويحميهم من غضب الله ونقمته. وعقباهم الأخروية النار في حين أن عاقبة المتقين ما وعدهم الله به من الجنات التي تجري تحتها الأنهار الدائمة الثمر والظل جزاء إيمانهم وتقواهم.
ولا يروي المفسرون رواية خاصة في نزول هذه الآيات والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي. وهي بسبيل التنديد والتسفيه والإفحام للمشركين وعقائدهم والتطمين والبشرى للمسلمين الذين أخلصوا إيمانهم بالله وحده. وقد تكرر فيها الإنذار بالبلاء الدنيوي الذي احتوته إحدى الآيات السابقة وآيات سور أخرى سابقة أيضا. ومما لا ريب فيه أنه قصد إلى تبشير المؤمنين بذلك فضلا عن إنذار المشركين.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأخيرة بعض الأحاديث عن مشاهد الجنة ونعيمها. منها حديث عن أبي عقيل قال: «بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدّم رسول الله فتقدّمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبيّ بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» «١». ومنها حديث رواه الإمام أحمد عن عتبة بن عبد السلمي قال: «إنّ أعرابيا سأل النبيّ ﷺ عن الجنة فقال فيها عنب قال نعم قال فما عظم العنقود قال مسيرة شهر للغراب الأبتع ولا يفتر». ومنها حديث أخرجه الطبراني عن ثوبان قال:
(١) روى هذا الحديث بشيء من الزيادة والنقص الشيخان والنسائي أيضا. وقد جاء فيه:
546
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الرجل إذا نزع شجرة من الجنة عادت مكانها أخرى».
ومنها حديث عن عبد الله بن جابر رواه مسلم قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يتمخّطون ولا يتغوّطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» «١».
وواضح أن من أهداف هذه الأحاديث التي روى أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة بعضها بالإضافة إلى أحاديث أخرى وردت في هذه الكتب من بابها «٢» تبشير المؤمنين وإثارة الغبطة في نفوسهم. وهذا مما استهدفته الجملة القرآنية.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦)
. (١) الأحزاب: الكفار المتحزبين ضد النبي ﷺ ودعوته.
(٢) مآبي: مرجعي.
في هذه الآية:
١- تقرير تدعيمي لرسالة النبي ﷺ وصدق القرآن مستمد من موقف أهل الكتاب: فهم يفرحون بما أنزل الله إليه برغم إنكار الأحزاب بعضه.
٢- وأمر للنبي بأن يهتف بأنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم إشراك أي شيء معه وبالدعوة إليه وحده وبتقريره كونه تعالى مرجعه وحده.
روى البغوي رواية عجيبة في سبب نزول الشطر الأول من الآية الأولى بلفظ (وقال آخرون) إن ذكر الرّحمن كان قبلا في القرآن في أول الأمر فلما أسلم
(١) روى هذا الحديث مسلم بصيغة أخرى جاء فيها عن جابر: «سمعت النبي ﷺ يقول إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس». انظر التاج ج ٥ ص ٣٧٦.
(٢) انظر المصدر نفسه، ص ٣٦٤ وما بعدها.
547
عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة.
فلما تكرر ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله الآية. وقال في صدد الشطر الأخير إنه يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله في كتاب الصلح بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا ما نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة وإنما قال ومن الأحزاب من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرّحمن. على أن معظم المفسرين لا يروون مناسبة خاصة في نزول الآية ويفسرونها على ظاهرها. والمتبادر أن شطرها الأول هو بسبيل تقرير ما روي من إيمان أهل الكتاب في مكة واستبشارهم بالقرآن المطابق لما عندهم على ما حكته آيات سورة الإسراء [١٠٧- ١٠٩] وآيات سورة القصص [٥٢- ٥٣] التي مرّ تفسيرها. وأن شطرها الثاني هو بسبيل تقرير ما كان واقعا من أمر جماعات المشركين العرب الذين كانوا يؤمنون بالله وإنه هو الخالق الرازق المدبر مع عدم إيمانهم بالبعث وبالوحي النبوي. بل وفي سورة القصص آية تفيد أن بعضهم كان يؤمن بصحة الهدى والوحي النبوي ثم لا ينضوي كليا إلى الإسلام خوفا على منافعه ومركز مدينته ولعلّه عنى هؤلاء أيضا فيما عناه.
هذا بالنسبة لمدى الآية بذاتها، ويتبادر لنا أنها من حيث مقامها ليست منفصلة عن السياق والموقف الجدلي مع المشركين مما تضمنته الآيات السابقة.
وفيها إلزام قوي لهم بأسلوب آخر: فأهل الكتاب الذين هم أعلم من جماعات المشركين الكفار الذين هم موضوع السياق السابق يستبشرون بما أنزل الله على النبي ويفرحون به ويصدقونه. فإذا كانت تلك الجماعات تنكر بعضه فهذا لا يضيره وعليه أن يعلن أنه إنما أمر بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به والدعوة إليه وتقرير كون مرجعه ومصيره إليه والثبات على ذلك وكفى.
وما احتواه الشطر الأول من الآية قوي الدلالة على أن ما ذكر فيه من فرح أهل الكتاب هو مستمدّ من مشهد واقعي. ويجوز أن يكون جديدا وقع في ظروف نزول السورة كما يجوز أن يكون ما حكته آيات سورة الإسراء [١٠٧- ١٠٩] والقصص [٥٢- ٥٥]. والأسلوب هنا قوي حيث يتضمن تقرير فرحهم بالقرآن بالإضافة إلى الإيمان به. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ذلك بسبب ما وجدوه
548
في القرآن من دعوة صادقة وتطابق قوي لما كان عندهم. وهكذا تتوالى شهادات أهل العلم الكتابيين العيانية بصدق الوحي القرآني وأعلام النبوة والرسالة المحمدية والانضواء إليها في العهد المكي الذي كان فيه النبي وأصحابه قلة ضعيفة أمام أكثرية ساحقة قوية كافرة ومناوئة. فيكون في ذلك ردّ مفحم على كلّ مكابرة من الكتابيين على مرّ الدهور.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٧]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
. (١) حكما: بمعنى محكما أو حكمة.
المتبادر أن هذه الآية استهدفت أيضا التدعيم للرسالة النبوية وتثبيت النبي ﷺ في موقفه وأنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي: فكما أنزل الله الكتب على الأنبياء السابقين أنزل عليه القرآن. وقد جعله عربيا محكما حتى يتبين السامعون فحوى الدعوة وحكمة الله وأحكامه ولا يكون عليهم فيها إبهام ولا غموض. وعلى النبي أن يلتزم ذلك وأن لا يحيد عنه بعد ما جاءه من العلم ولا يجاريهم أو يسايرهم في أهوائهم. ولن يكون له من الله إن فعل ناصر ولا واق.
والمتبادر أن الضمير في أَهْواءَهُمْ راجع إلى الأحزاب. وأن جملة حُكْماً عَرَبِيًّا قرينة على أن المقصود هم أحزاب العرب. وأنه ينطوي في كلمة أَهْواءَهُمْ تقاليد العرب المشركين المتنوعة أو رغباتهم أو أهواؤهم.
ولقد حكت آيات أخرى في سور سابقة مثل سورتي القلم والإسراء أن المشركين كانوا يودون أن يداهنهم النبي ويلاينهم ويسايرهم في بعض تقاليدهم.
فمن المحتمل أن يكونوا قد عادوا إلى محاولاتهم. وأن يكون التحذير متصلا بذلك على سبيل التنبيه والتثبيت.

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٨ الى ٤٣]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
. (١) لا معقب: لا ناقض ولا رادّ.
في هذه الآيات أولا: تطمين وتثبيت للنبي ﷺ وردّ على الكافرين:
١- فليس النبي بدعا في رسالته ولا في شخصيته البشرية. فقد أرسل الله من قبله رسلا وكانوا مثله بشرا لهم أزواج ولهم ذرية.
٢- ولم يكن لرسول أن يأتي بآية من عند نفسه حينما كان يتحدّاه الناس وإنما كانت الآيات تأتي بإذن الله وفي الوقت المناسب الذي يقدّره الله لأن لكل أمر وقتا معينا في علمه.
٣- ولله مطلق التصرف في الحكم والأحكام يمحو ما يريد ويثبت ما يريد.
وعنده علم كل شيء.
٤- وإن من الممكن أن يري الله النبي بعض ما يتوعد به الجاحدين كما أن من الممكن أن يتوفّاه الله قبل ذلك.
٥- وعلى كل حال فإن قصارى مهمته تبليغ رسالة الله. أما حساب الناس فهو على الله وحده.
وفيها ثانيا: التفات إنذاري إلى الكفّار.
١- فوجّه إليهم سؤال استنكاري عما إذا لم يروا آثار عقوبة الله من تدمير
550
وانتقاص من أطراف الأرض التي كانت مساكن الكفار من قبلهم حتى يقفوا موقف المعاند والمكابر.
٢- وعقّب على السؤال بأن الله إذا ما حكم بأمر فهو نافذ حتما لا يستطيع أحد أن ينقضه أو يردّه وبأنه سريع الحساب أكثر مما يتوهمون.
٣- وذكروا بما كان من أمثالهم السابقين: فقد مكروا مثل ما يمكرون.
ولكن المكر المؤثر المتحقق هو مكر الله فهو يعلم ما تكسب كل نفس ويحصيه عليها. ولن يلبث الكفار أن يروا لمن تكون العاقبة والغلبة ومن الذي يجدي مكره وكيده.
وفيها ثالثا: التفات إلى النبي ثانية بسبيل التثبيت والتطمين: فالكفار ينكرون رسالته فما عليه إلّا أن يقول لهم إنه يجعل الله شهيدا بينه وبينهم فهو خير الشاهدين ثم يجعل الذي عنده علم الكتاب أيضا شاهدا على صحة رسالته.
ولقد روى البغوي في سياق الشطر الأول من الآية الأولى أن اليهود أو المشركين قالوا إن هذا الرجل ليست له همّة إلّا في النساء، فأنزله الله للردّ عليهم.
وروى في سياق الشطر الثاني أنه جواب لعبد الله بن أبي أمية الذي تحدّى النبي بالإتيان بآية.
والآيات منسجمة مع بعضها. وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو وحدة متماسكة. والرواية الأولى لا يمكن أن تصحّ لأن النبي ﷺ لم يتزوّج في العهد المكي إلّا بأمّ المؤمنين خديجة وكانت أكبر منه سنا حينما تزوّجها وبلغت عنده سنّ الشيخوخة ولم يتطلّع إلى غيرها. والطابع المكيّ قوي البروز على الآيات وقد ورد أمثالها في سور لا خلاف في مكيتها. ولم يرو المفسرون الآخرون رواية ما في صدد نزولها وإنما قال بعضهم إن في الآية الأولى ردّا على المشركين الذين كانوا يستغربون أن يكون النبي بشرا يتزوج النساء وينجب ذرية ويظنون أنه ينبغي أن يكون من جنس الملائكة ثم الذين كانوا يتحدّون النبي بالآيات.
ومع وجاهة ذلك بالنسبة للآية الأولى فإن الذي يتبادر أن الآيات متصلة أيضا
551
بالسياق والمشهد الجدلي. وقد احتوت تثبيتا وردا وتدعيما وإنذارا وجاءت خاتمة قوية للموقف الجدلي وللسورة في آن واحد.
ولقد تضمنت آيات مكية عديدة مرّت أمثلة منها حكاية استغراب المشركين بشرية النبي «١». فمن المحتمل أن يكونوا كرروا ذلك في ظروف نزول السورة فاحتوت الآية الأولى ردّا عليهم في سياق ما احتوته الآيات من ردود وتقريرات.
ولقد كان تحدّي المشركين النبي بالإتيان بآية مما تكررت حكايته في السياق المتوالي من السورة فاحتوت الآية الأولى كذلك ردّا جديدا على تحدّيهم بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل. ولقد كانوا يعرفون أن الرسل السابقين كانوا يأتون بالمعجزات فاستهدف هذا الردّ تقرير كون ذلك لم يكن إلّا بإذن الله وفي المناسبة والحالة اللتين تقتضيهما حكمته. ولقد كانوا يعرفون حتما أن من الرسل من كان له أزواج وذرية. فإن هذا مستفيض الذكر في كتب أهل الكتب وأوساطهم، فجاء الردّ بذلك قويّا مفحما.
ولقد أورد المفسرون في سياق جملة أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أقوالا عديدة معزوّة إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين أوردناها وعلقنا عليها في سياق تفسير الآية [٤٤] المماثلة لها في سورة الأنبياء. وما قلناه هناك يقال هنا بتمامه فلا حاجة للإعادة.
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة أحد علماء التابعين أن المقصود بجملة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد الله بن سلام أحد أحبار اليهود الذين أسلموا في المدينة ثم رويا إنكار الشعبي وسعيد بن جبير من علماء التابعين كذلك لذلك وقالا: كيف يكون عبد الله بن سلام والسورة مكية، وهذا حقّ. ولقد حكت آيات عديدة مكية تصديق أهل الكتاب لرسالة النبي ﷺ وصدق وحي القرآن وإيمانهم بذلك على ما مرّ بيانه في هذه السورة ثم في سور عديدة سابقة «٢». والمتبادر أن
(١) انظر مثلا آيات سورة الفرقان [٨ و ٢٠] وسورة الإسراء [٩٤- ٩٥].
(٢) في التاج حديث يرويه الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه قال: «إن هذه الآية نزلت فيّ». وقد نبّه صاحب التاج أن سند الحديث غريب. انظر التاج ج ٣ ص ٣٦٠.
552
استشهاد الآية إنما كان بالذين كانوا في مكة من هؤلاء.
ومع وضوح القصد من هذه الجملة وهو استشهاد أهل العلم والكتاب على صحة نبوّة النبي ووحي القرآن فإن الطبرسي المفسّر الشيعي أورد في سياقها فيما أورد رواية عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى ورواية عن أبي عبد الله أنه قال: إيّانا عنى وعليّ أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي وأنه وضع يده على صدره ثم قال: عندنا والله علم الكتاب.
والهوى الحزبي والتكلّف والخروج عن الصدد بارز على الرواية كما هو واضح.
تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وعلى آية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله ﷺ وتابعيهم للجملة الأولى «١». منها أنها بسبيل الردّ على استعجال الكفار لعذاب الله المنذر به. ومنها أنها بسبيل الردّ على تحديهم النبي بالآيات.
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله قد جعل لكل كتاب أنزله على أنبيائه السابقين مدة محدودة فيثبت منها ما يشاء ويمحو ما يشاء في الكتب التي ينزلها بعد حتى نسخت بالقرآن. ورأى بعضهم في هذا دليلا على صحة القول بالنسخ في القرآن. وقد يكون للقول الأول وجاهة مستمدة من الآيتين [٣٤ و ٤٠] من هذه السورة. وقد يكون للقول الثالث وجاهة من حيث الاستنباط. لأن بعض الأحكام المنزلة على بعض الأنبياء كانت تنسخ بأحكام أخرى تنزل على أنبياء آخرين. ثم نزل القرآن الذي صار هو المرجع للمبادىء والأحكام الإلهية وصار هو كتاب الدين الذي أذن الله أن يظهره على الدين كلّه. غير أن الذي يتبادر لنا أن القول الثاني هو الأكثر اتساقا مع السياق على ما شرحناه آنفا وفي سورة غافر آية تدعم هذا الشرح بقوة.
(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.
553
وهي وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨).
وتعددت كذلك التأويلات التي يرويها المفسرون أو يوردونها باجتهادهم لمدى جملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ من ذلك إنها بسبيل تقرير كون كل الأحكام والأقدار والأقوال والأفعال الربانية قابلة للمحو والإثبات.
واستثنى بعضهم الموت والحياة والسعادة والشقاء، ويعنون بالسعادة والشقاء تقدير الله الأزلي لسعادة المهتدين الناجين وشقاء الأشقياء الضالين الهالكين في الآخرة بمعنى أن من قدر عليه الشقاء ظلّ شقيا لا يتبدّل أمره وكذلك من قدّر له السعادة.
وأنكر بعضهم استثناء السعادة والشقاء وأوردوا للتدليل على ذلك خبرا يفيد أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يدعوا الله فيقولان:
اللهمّ إن كنت كتبتني شقيا فامحه عني وأثبتني سعيدا إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وأوردوا مثل هذا الدعاء أو قريبا منه لبعض التابعين أيضا. ومن ذلك أنها بسبيل تقرير كون الله يمحو ما يشاء مما أنزل من الأحكام ويثبت ما يشاء مما هو مقرّر عنده في أم الكتاب. أو إن الذي يثبته هو المقرر عنده في أم الكتاب.
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويمحوها من كتب أعمالهم ويبقي منها ما يشاء. ومنها أنها بسبيل بيان كون الله يأمر بطرح كل ما ليس فيه ثواب وعقاب من أعمال الناس من كتبهم. ومنها أنها بسبيل تقرير مطلق تصرف الله تعالى بالمحو والإثبات في كل ما يريد بكونه وخلقه وأحكامه وعقابه وثوابه وإرزاقه الناس وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقائهم إلخ وأن علم ذلك كله عنده في أم الكتاب. واستدلّ بعضهم بهذه الآية على جواز البداء على الله تعالى أي رجوعه عمّا كان قدّره وقضاه. ورأى بعضهم في هذا التعبير مسّا بذات الله فقال إن لله لوحين واحدا فيه كل ما هو كائن حقا وهذا لا يقع فيه تبديل ولا رجوع وهو المعبّر عنه بعبارة أم الكتاب، وآخر يمحو منه ما شاء أن يمحوه ويثبت ما شاء أن يثبت.
554
وقال بعضهم في الردّ على جواز البداء على الله إن علم الله قديم أزلي وهو من لوازم ذاته وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محال.
وتعددت الأقوال المروية والواردة في مدى أُمُّ الْكِتابِ كذلك...
منها أنها الحلال والحرام، ومنها أنها علم الله الشامل لكل شيء. ومنها أنه الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل. ومنها أنه المحتوي لكل شيء سواء ما شاءت حكمة الله محوه أم شاءت إثباته. ومنها أنه علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون وأنه قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا. وهذا القول الأخير مروي عن ابن عباس عن كعب بن أبيّ أحد علماء أصحاب رسول الله. وقد قال الطبري الذي استوعب الأقوال المرويّة تعقيبا عليها إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال (عنده أصل الكتاب وجملته ويدخل في ذلك ما شاء أن يمحوه وما شاء أن يثبته).
وبعض هذه الأقوال متصل بموضوعي اللوح والقدر. وقد علقنا عليهما في سورتي البروج والقمر بما يغني عن التكرار. ونكتفي بالقول هنا إنّ فيما رواه المفسرون وقالوه حول الجملة الثانية ما هو أمور غيبية لا يصح الأخذ بشيء منها إلّا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس هناك شيء صحيح عنه في صدد هذه الجملة. وكل الأقوال اجتهادية وتخمينية. ويلمح شيء من التعارض بينها في الوقت نفسه. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سلسلة استهدفت الردّ على الكفار وإفحامهم وتثبيت النبي ﷺ تجاه مواقفهم منه وإن ما احتوته هو بسبيل ذلك حيث أريد بها تقرير كون الله عز وجل مطلق التصرف في جميع الأمور ما علم منها وما لم يعلم وما غاب وما حضر وما حدث وما لم يحدث. وما مضى وما يأتي فإذا شاءت حكمته أن يقع أمر في الموعد وقع، وإذا شاءت حكمته أن يمحوه أو يثبته تمّ ذلك حسب مشيئته. وأن الأولى أن تظلّ الجملة في هذا النطاق دون تخمين وتزيد وخروج عن الصدد والله تعالى أعلم.
[تم بتوفيق الله تعالى الجزء الخامس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوله تفسير سورة الحج]
555
فهرس محتويات الجزء الخامس
تفسير سورة الأحقاف ٧ تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ... ١٦
تعليق على جملة أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي ١٧ تعليق على جملة إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ ٢٠ تعليق على آية وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً ٢٤ تفسير سورة الذاريات ٣٣ تعليق على وصف المتقين ٣٧ تعليق على آية فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ ٤٣ تفسير سورة الغاشية ٤٥ تعليق على ما روي في إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ٤٨ تفسير سورة الكهف ٥٠ تعليقات على آيات قصة أصحاب الكهف ٥٧ تعليق على الآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ٦٢ تعليق على الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ ٦٤ تعليق على مثل الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان ٦٩ تعليق على آية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ ٧١ تعليق على وصف إبليس أنه من الجن ٢٧٥ تعليق على قصة موسى والعبد الصالح ٨٣ تعليق على قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج ٩١ تفسير سورة النحل ١١٥ تعليق على اختصاص آيات الأنعام بالأكل ١٢٢ تعليق على جملة وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ١٣٨ تعليق على قول المشركين أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ١٥١ تعليق على جملة تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ١٥٣ تعليق على جملة يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ ١٥٥ تعليق على جملة وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ١٥٨ أرذل العمر ١٥٨ تعليق على جملة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ١٦٦ تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ١٦٧ شرح الآية وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ١٧٠ تعليق على آيات فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ١٧٥ مسألة النسخ في القرآن ١٧٧ تعليق على آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ١٨٣ تعليق على جملة رُوحُ الْقُدُسِ ١٨٤
556
تعليق على الأمر بالاستعاذة من الشيطان ١٨٤ تعليق على آية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ١٨٦ تلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ١٨٩ تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ١٩٢ تلقين آية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً ١٩٥ التلقين الذي احتوته جملة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ١٩٧ تعليق على آية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ٢٠٢ تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ٢٠٤ تفسير سورة نوح ٢٠٧ تعليق على أسماء معبودات قوح نوح ٢١١ تفسير سورة إبراهيم ٢١٣ دلالة جملة لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ ٢١٤ تعليق على جملة وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ٢١٦ تعليق على جملة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ٢٢٢ تعليق على آية يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ٢٣٢ تعليق على آية وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ ٢٤٠ تفسير سورة الأنبياء ٢٥٣ تعليق على جملة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ ٢٦٢ تعليق على قصة إبراهيم مع قومه في هذه السورة ٢٧٦ تعليق على قصة داود وسليمان في هذه السورة ٢٧٩ تعليق على قصة مريم ٢٨٥ تعليق على جملة أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ ٢٩٥ تأويل الشيعة للجملة السابقة وموضوع المهدي ٢٩٧ تفسير سورة المؤمنون ٣٠٠ تعليق على الأمانة وخطورتها ٣٠٤ تعليق على استفراش ملك اليمين ٣٠٦ تعليق على آية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ ٣٠٨ تعليق على تخصيص طور سيناء بشجرة الزيتون ٣١١ تعليق على محتويات الآيات ٣٢٥ تفسير سورة السجدة ٣٤٠ تعليق على الآية لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ ٣٤١ تعليق على آية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ٣٤٤ تعليق على ملك الموت ٣٤٥ تعليق على آية وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ ٣٤٨ تعليقات على آية إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ ٣٤٩ تعليق على الآية وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ ٣٥٥ تفسير سورة الطور ٣٥٩ تعليق على آية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ٣٦٣ تعليق على كلمة كاهن ٣٦٦ تفسير سورة الملك ٣٧٣ تعليق على آية هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ٣٧٩ تفسير سورة الحاقة ٣٨٤
557
تعليق على الحضّ على طعام المسكين ٣٨٩ تفسير سورة المعارج ٣٩٢ تعليق على رواية شيعية في سبب نزول هذه الآيات ٣٩٣ تعليق على جملة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ٣٩٤ تعليق على اختصاص جمع المال وكنزه ٣٩٧ تعليق على الآيات إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ٣٩٨ تعليق على الآية وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ ٤٠٠ تفسير سورة النبأ ٤٠٤ تفسير سورة النازعات ٤١٠ تفسير سورة الانفطار ٤١٩ تفسير سورة الانشقاق ٤٢٣ تعليق على ما يلهمه أسلوب ومضامين السورة ٤٢٧ تفسير سورة الروم ٤٢٨ تعليق على خبر انكسار الروم ٤٢٩ تعليق على قدرة الله ونواميسه في الكون ٤٣٩ تعليق على آية وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ٤٤٠ تعليق على آية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ٤٤٨ تعليق على آية مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ... ٤٥٠
تعليق على جملة وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا ٤٥٣ تعليق على آية ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ٢٤٥٥ تعليق على جملة كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
٤٥٧ تعليق على سماع الموتى لخطاب الأحياء ٤٦٠ تعليق على آية فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ٤٦٤ تفسير سورة العنكبوت ٤٦٥ تعليق على الآيات [١- ٧] من السورة ٤٦٧ تعليق على آية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ٤٧٠ تعليق على آية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ٤٧١ تعليق على آية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها ٤٨٢ تأويل جملة وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ٤٨٤ تعليق على آية وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ ٤٨٦ استطراد إلى مكتسبات النبي قبل النبوة ٤٩٢ تعليق على آية وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ٤٩٦ تعليق على آية يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
٤٩٩ تفسير سورة المطففين ٥٠٧ تنبيه ٥١٤ تفسير سورة الرعد ٥١٥ تعليق على جملة إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ٥٢٥ تعليق على مجموعة الآيات [١٩- ٢٥]. ٥٣٣
تعليق على جملة أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ٥٤٠ تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ٥٥٣
558
الجزء السادس
ثبت بالسور المدنية مرتبة حسب نزولها الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هكذا:
١- البقرة ٢- الأنفال ٣- آل عمران ٤- الأحزاب ٥- الممتحنة ٦- النساء ٧- الحديد ٨- محمد ٩- الطلاق ١٠- البينة ١١- الحشر ١٢- النور ١٣- المنافقون ١٤- المجادلة ١٥- الحجرات ١٦- التحريم ١٧- التغابن ١٨- الصف ١٩- الجمعة ٢٠- الفتح ٢١- المائدة ٢٢- التوبة ٢٣- النصر على أننا سوف نخالف ترتيب بعض هذه السور لأن في بعضها دلالات تكاد تكون قطعية على أن ترتيبها حسب ما رواه المصحف الذي اعتمدناه لا يمكن أن يكون صحيحا ومبررا.
من ذلك سورة الممتحنة التي ذكرت كخامسة السور المدنية ترتيبا، مع أنها تحتوي إشارات إلى وقائع جرت بعد صلح الحديبية، الذي أشير إليه في سورة الفتح، التي جاء ترتيبها العشرين، والتي احتوت سورة المائدة إشارة إليها. ولذلك سوف نؤخر تفسير سورة الممتحنة إلى بعد سورتي الفتح والمائدة. ومن ذلك سورة الجمعة التي ذكرت كتاسعة عشرة، مع أن فيها تنديدا بمواقف اليهود يدل
5
على أنها نزلت قبل التنكيل بجميع يهود المدينة. ولذلك سوف نقدم تفسيرها على سورة الأحزاب التي ذكرت فيها آخر وقائع التنكيل بيهود المدينة.
ومن ذلك سورة الحديد التي ذكرت كسابعة السور ترتيبا مع أنها تحتوي إشارة إلى ما بعد الفتح المكي، الذي وقع بعد صلح الحديبية بسنتين. ولذلك سوف نؤخر تفسيرها إلى ما بعد تفسير سورة الممتحنة التي فيها إشارة إلى حركة الفتح المكي قبيل وقوعه.
ومن ذلك سورة الحشر، التي جاء ترتيبها الحادية عشرة، مع أنها نزلت في مناسبة وقعة إجلاء بني النضير التي كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق المشار إليها في سورة الأحزاب ولذلك سوف نقدم تفسيرها على هذه السورة. وعلى هذا فسوف يكون ترتيب تفسير السور المدنية في هذا الجزء والأجزاء التالية كما يلي:
البقرة- الأنفال- آل عمران- الحشر- الجمعة- الأحزاب- النساء- محمد- الطلاق- البينة- النور- المنافقون- المجادلة- الحجرات- التحريم- التغابن- الفتح- المائدة- الممتحنة- الحديد- التوبة- النصر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
السور المفسّرة في هذا الجزء «١» ١- الحج ٢- الرحمن ٣- الإنسان ٤- الزلزلة ٥- البقرة
(١) انظر الفهرست المفصل في آخر الجزء
6
سورة الحجّ
في السورة إنذار بالقيامة وهولها. وتدليل على قدرة الله على بعث الناس ومحاسبتهم. وتنديد بفئات من الكفار وذوي القلوب المريضة وتنويه بالمؤمنين.
وإنذار رهيب للأولين وبشرى للآخرين. وتوبيخ للكفار على صدّهم عن المسجد الحرام. وبيان عن صلة إبراهيم بالكعبة والحج. واستطراد إلى مناسك الحج وبخاصة ما يتعلق بالقرابين وإقرارها بعد تنقيتها من شوائب الشرك. وبشرى للمهاجرين بنصر الله وعنايته في حالتي الموت والحياة. وتقرير باعتبار المسلمين مظلومين بما كان من قتال المشركين لهم وأذاهم. وتقرير حق الدفاع لهم وتقرير ما يمكن أن يكون من سعادة المجتمع إذا تمكنوا في الأرض حيث يقيمونه على أساس قويم من صلاة وزكاة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وتطمين وتثبيت للنبي إزاء عناد الكفار وتذكير بآثار عظمة الله في كونه. وبعذاب الله للأمم السابقة لكفرها وتكذيبها لرسلها، ومشاهد ومواقف جدلية. وختام قوي موجّه للمسلمين، منوّه بالمكانة العظمى التي خصّوا بها، احتوى فيما احتواه تقرير نسبة العرب بالأبوة إلى إبراهيم (عليه السلام) وما جعل الله لهم من مزيّة ليكونوا شهداء على الناس.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن هذه السورة مدنية، في حين أن المفسرين البغوي والنيسابوري والزمخشري والطبرسي والخازن والبيضاوي والنسفي يروون أنها مكية، وبعضهم يذكر أن بعض آيات منها مدنيّة.
والآيات المرويّة مدنيتها هي [١٩- ٢٢] في رواية و [١٩- ٢٤] في رواية أخرى، ثم الآيات [٣٨- ٤١ و ٥٢- ٥٥ و ٥٨- ٦٠].
والمتمعن في الآيات [١٩- ٢٤] ومضمونها، يجد أن أسلوبها ومضمونها
7
مكّيان أكثر من كونهما مدنيين. وكذلك الآيات [٥٢- ٥٥]. أما الآيات [٣٨- ٤١ و ٥٨- ٦٠] فقد يؤيّد أسلوبها ومضمونها مدنيتها، مع احتمال أن تكون- وبخاصة الآيات [٣٨- ٤١]- مكية أيضا لأن أسلوبها ومضمونها يسوغان تخمين ذلك.
وهناك آيات لم يذكرها الرواة في عداد الآيات المدنية على ما اطّلعنا عليه، مع أن مضمونها قد يسوغ بل قد يرجّح مدنيتها وهي الآيات [٢٥- ٢٧] ثم الآيتان الأخيرتان من السورة اللتان يحتمل أن تكونا مدنيتين أيضا على ما سوف نشرحه بعد.
وعلى كل حال، فإن أسلوب معظم آيات السورة ومضمونها يسوغان ترجيح صحّة رواية مكّيتها، مع احتمال أن تكون بعض آياتها مدنية.
وفي هذه السورة موضعان يسجد عندهما سجود تلاوة، وهما الآيتان [١٨ و ٧٧] وقد ورد في صدد ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم عن عقبة بن عامر قال: «قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله في سورة الحجّ سجدتان قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» »
. وروى هذا الحديث الإمام أحمد بفرق مهم وهو أن عقبة قال: «يا رسول الله، أفضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين؟
قال: نعم»
«٢». وهناك حديث رواه أبو داود عن خالد بن معدان «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فضلت سورة الحجّ على سائر القرآن بسجدتين» «٣». وحديث رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن أبي الجهم قال: «سجد عمر سجدتين في الحجّ- أي في سورة الحجّ- وهو بالجابية، وقال إنّ هذه فضلت بسجدتين» «٤».
والحديث الأول وارد في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الأخرى محتملة الصحّة. وسجدات التلاوة منحصرة في السور المكيّة. فبالإضافة
(١) التاج ج ١ ص ١٩٨- ١٩٩.
(٢) من تفسير السورة لابن كثير.
(٣) انظر المصدر نفسه.
(٤) انظر المصدر نفسه. [.....]
8
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا إلخ). انظر التاج ج ١ ص ٢٧٩.