تفسير سورة البقرة

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الم ﴾ ؛ اختلَفُوا في تفسيرِ ﴿ ألم ﴾ وسائرِ حروف التهجِّي، ورويَ عن عمرَ وعثمانَ وابنِ مسعودٍ :(أنَّ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ مِنْ الْمَكْتُومِ الَّذِي لاَ يُفَسَّرُ). ووافقَهم في ذلك الشعبيُّ ؛ وقال :(إنَّ للهِ تَعَالَى سِرّاً فِي كُتُبهِ ؛ وَإنَّ سِرَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ) وقال بعضُهم : إنَّها من المتشابهاتِ التي استأثرَ اللهُ بعلمِها فنحن نؤمنُ بتنْزيلها ونَكِلُ إلى الله تأويلَها. وقال عليٌّ رضي الله عنه :(لِكُلِّ شَيْءٍ صَفْوَةٌ ؛ وَصَفْوَةُ هَذَا الْكِتَاب حُرُوفُ التَّهَجِّي).
وعنِ ابنِ عباس رَضِيَ اللهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(أنَّ مَعْنَى (ألم) : أنَا اللهُ أعْلَمُ وَأرَى، و(ألمص) : أنَا اللهُ أعْلَمُ وأَفْصِلُ، و (كهيعص) : الْكَافُ مِنْ كَافٍ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيْمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيْمٍ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ). ويقالُ : الألفُ : مفتاحُ اسمهِ الله ؛ واللام : لطيفٌ، والميم : مجيدٌ، ومعناه اللطيفُ المجيدُ أنزلَ الكتابَ. ويقال : الألف : اللهُ، واللام : جبريلُ، والميم : مُحَمَّدٌ، معناهُ : اللهُ أنزلَ جبريلَ على محمدٍ بهذا القرآنِ. وقيل : هذا قسمٌ أقسمَ الله به أنَّ هذا الكتابَ الذي أُنزل على مُحَمَّدٍ هو الكتابُ الذي عندَ الله، وجوابهُ :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾[البقرة : ٢]. وقال محمَّدُ بن كعبٍ :(الأَلِفُ آلاَءُ اللهِ، وَاللاَّمُ لُطْفُهُ، وَالْمِيْمُ مُلْكُهُ). وقال أهلُ الإشارة : الأَلِفُ أنَا، واللاَّم لِي، وَالْمِيْمُ مِنِّي.
فَصْلٌ : وهذه الحروفُ موقوفةٌ ؛ لأنَّها حرفُ هجاء، وحروف الهجاءِ لا تُعْرَبُ كالعدد في قوله : واحد اثنان. ولِغَايَةٍ أدخَلُوا الواوَ وحرَّكوهُ ؛ لأنه صارَ في حدِّ الأسماء، فيقالُ : ألفٌ ولام كالعددِ. وكذلك قال الأخفشُ :[هِيَ سَاكِنَةٌ لاَ تُعْرَبُ].
وقولهُ :(ألم) رُفع بالابتداء ؛ و(ذَلِكَ) خبرهُ ؛ و(الْكِتَابُ) صلةٌ لذلك. ويحتمل أن يكونَ (ألم) خبراً مقدَّماً تقديرهُ : ذلكَ الكتابُ الذي وعدتُ أن أوحيَهُ إليك (ألم). ومن أبطلَ مَحَلَّ الحروف جعل (ذَلِكَ) ابتداء و(الكِتَابُ) خبره. و(ألم) صلةٌ ؛ فيكون لذلك معنيان ؛ أحدُهما : أن (ذَلِكَ) بمعنى، وقد يستعملُ (ذَلِكَ) بمعنى، (هذا). قال خِفَافُ : أقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ تَأَمَّلْ خُفَافاً إنَّنى أنَا ذلِكَاأي إنَّنِي هذا أطرأُ لعودِ عطفه.
والثانِي : على الإضمار ؛ كأنه قال : هذا القرآنُ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾[البقرة : ٢] الذي وعدتُ في التوراة والإنجيل أن أُوحيَهُ إليكَ. وقيل :(ألم) ابتداءٌ ؛ و(ذَلِكَ) ابتداءٌ آخرُ ؛ و(الكِتَابُ) خبره، والجملةُ خبرُ الأول.
وقال بعضُ المفسرين : اخْتُلِفَ في﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾[البقرة : ٢]، فقال الحسنُ وابن عباسٍ وقتادةُ ومجاهد :(هُوَ الْقُرْآنُ). فعلى هذا يكون ﴿ ذَلِكَ ﴾ بمعنى (هَذَا) كقولهِ تعالى :﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ﴾[الأنعام : ٨٣] أي هذه حُجَّتنا. وَقِيْلَ : معناهُ :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾[البقرة : ٢] الذي ذكرتُهُ في التوراةِ والإنجيل.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ؛ أي لا شَكَّ فيه. ونصب ﴿ رَيْبَ ﴾ لتعميمِ النفي ؛ ألا ترى أنكَ تقولُ : لا رجلَ في الدار ؛ بالنصب، فيكون نفياً عامّاً. وإذا قلتَ : لا رجلٌ في الدار ؛ بالرفع، جازَ أن يكون في الدار رجلان أو ثلاثةٌ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ نُصب على الحال ؛ إما من ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ ؛ كأنه قالَ : ذلك الكتابُ هادياً. وإما مِن ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ كأنه قال ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ في حالِ هدايته. ويجوزُ أن يكون موضعهُ رفعاً على إضمار (هو)، أو (فيه).
فإن قِيلَ : لِمَ خَصَّ المتقين ؛ وهو هدًى لهم ولغيرِهم ؟ قيلَ : تخصيصُ الشيء بالذكرِ لا يدلُّ على نفي ما عداهُ، وفائدةُ التخصيصِ تشريفُ المتقين، ومثلهُ :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ﴾[يس : ١١]﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾[النازعات : ٤٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ ؛ أي بالبعثِ والحساب والجنَّة والنار. وقيل :(الغَيْب) هو اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾، أي الصَّلواتِ الخمسِ بشرائطها في مواقيتِها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ ؛ يعني الزكاةَ ؛ وهو الأظهرُ ؛ لأن اللهَ تعالى قَرَنَ بين الصلاةِ والزكاة في مواضعَ كثيرةٍ، وإقامةُ الصلاة طهارةُ الأبدان ؛ وإعطاءُ الزكاة طهارةُ الأموال. وبالأموالِ قِوَامُ الأبدانِ، وقد قيلَ : هو نفقةُ الرجُلِ على أهلهِ.
قيل : لَمَّا نزلَ قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ﴾ الآيةُ، قالتِ اليهودُ : نحنُ نؤمنُ بالغيب ونقيمُ الصلاة وننفقُ مما رزقَنَا اللهُ ؛ فأنزلَ الله تعالى :﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَْ ﴾، والذي أُنزل إليه القرآنُ والذي أُنزل مِن قبله التوراة والإنجيلُ وسائر الكتب المنَزَّلة ؛ فَنَفَرُوا من ذلك. فإنْ قيلَ : لِمَ قالَ :﴿ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾، ولَم يَقُلْ يؤمنونَ ؟ قِيْلَ : لأنَّ الإيقانَ توكيدُ الإيْمانِ ؛ واليقينُ بالآخرةِ يقينُ خبرٍ ودلالةٍ، ومعنى الآية : وبالدار الآخرة هم يعلمونَ ويستيقنون أنَّها كائنةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. أي أهلُ هذه الصفةِ على رشدٍ وثباتٍ وصواب من ربهم. والمفلحونَ : الناجونَ الفائزون بالجنةِ، ونَجَوا من النار. وَقِيْلَ : هُمْ الباقونَ بالثواب والنعيمِ المقيمِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾، يعني مشرِِكِي العرب. وقال الضحَّاك :(نَزَلَتْ فِي أبي جَهْلٍ وَخَمْسَةٍ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ). وقال الكلبيُّ :(يَعْنِي الْيَهُودَ) وقيل : الْمُنَافِقِيْنَ. والكفرُ : هو الجحودُ والإنكارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ءَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ الإنذارُ : التحذيرُ والتخويفُ. ﴿ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ وهذه الآيةُ خاصَّةٌ فيمن حقَّت عليه كلمةُ العذاب والشقاوةِ في سابق علمِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾. أي طبعَ على قلوبهم ؛ والختمُ والطبعُ بمعنى واحدٍ ؛ وهو التغطيةُ للشيء. والمعنى طبعَ الله على قلوبهم ؛ أي أغلَقها وأقفلَها ؛ فليست تفقهُ خيراً ولا تفهمهُ. ﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ فلا يسمعون الحقَّ ولا ينتفعون به، وإنَّما وحَّدهُ وقد تخللَّ بين جمعين ؛ لأنه مصدرٌ ؛ والمصدرُ لا يُثنى ولا يُجمع. وقيل : أراد سَمْعَ كلِّ واحدٍ منهم كما يقالُ : أتانِي برأسِ كَبشَين ؛ أرادَ برأس كلِّ واحد منهما. وقال سيبويه :(تَوْحِيْدُ السَّمْعِ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ ؛ لأَنَّهُ تَوَسَّطَ جَمْعَيْنِ) كقولهِ تعالى :﴿ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾[البقرة : ٢٥٧] وقولهِ تعالى :﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ﴾[المعارج : ٣٧] يعني الأنوارُ والإيْمانُ ؛ وقرأ ابنُ عَبْلَةَ :﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾.
وتَمَّ الكلام عند قولهِ :﴿ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ ثُم قالَ :﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾. أي غطاءٌ وحجابٌ فلا يَرَوْنَ الحقَّ. وقرأ المفضَّلُ بن محمَّدٍ :(غِشَاوَةً) بالنصب ؛ كأنه أضمرَ فعلاً أو جملةً على الختم ؛ أي خَتَمَ على أبصارهم غِشاوةً، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ﴾[الجاثية : ٢٣]. وقرأ (غُشَاوَةً) بضمِّ الغَين. وقرأ الجُحْدَريُّ :(غَشَاوَةً) بفتح الغَين. وقرأ أصحابُ عبدِالله :(غَشْوَةً) بفتح الغين بغيرِ ألِفٍ. ومن رفعَ (غِشَاوَةٌ) فعلَى الابتداءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾، يعني القتل والأسرُ. وقال الخليلُ :(العَذَابُ مَا يَمْنَعُ الإنْسَانَ مِنْ مُرَادِهِ). وقيل : هو إيصالُ الألَمِ إلى الحيِّ مع الْهَوَانِ بهِ ؛ ولِهذا لا يُسمَّى ما يفعلُ اللهُ بالبهائم والأطفالِ عذاباً ؛ لأنه لَيسَ على سبيل الْهَوانِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾، نزلَتْ هذه الآيةُ في المنافِقِين : عبدِاللهِ بنِ أُبَي بنِ أبي سَلُولٍ ؛ ومُعَتِّب بْنِ قُشَيْرٍ ؛ وَجِدِّ بْنِ قَيْسٍ ومَن تابَعَهم، كانوا يقولون للصَّحابة : آمَنَّا بالذي آمَنْتُمْ به ونشهَدُ أنَّ صاحبَكم صادقٌ ؛ وليس هم كذلكَ في الباطنِ إذا خَلَوا، وكانوا يقولونَ فيما بينَهم : هذه خِلَّةٌ نَسْلَمُ بها عن مُحَمَّدٍ وأصحابهِ ونكونُ مع ذلكَ متمسِّكين بدِيننا ؛ فقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ وإنَّما وحَّدَ في أوَّلِ الآية وجمعَ الضميرَ في آخرِها ؛ لأنَّ لفظَ (مَنْ) للوِحْدَانِ، ومعناهُ يصلحُ للمذكَّر والمؤنَّث ؛ والاثنينِ والجماعة ؛ فعدلَ تارةً إلى اللَّّفظِ وتارةً للمعنَى ؛ ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ ﴾[البقرة : ١١٢] الآيةُ، ﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾[الأحزاب : ٣١] الآيةُ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ ؛ أي يخالِفُون اللهَ ويَكْذِبُونَهُ وَيَكْذِبُونَ المؤمنين. ويخالفونَهم في ضمائرِهم وهم المنافقونَ. وأصلُ الْخَدَعِ في اللغة الاختفاءُ ؛ ومنهُ قِيْلَ للبيتِ الذي يُخَبَّأُ فيه الْمَتَاعُ : مَخْدَعٌ ؛ فالْمُخَادِعُ يُظهرُ خلافَ ما يُضمرُ. وقال بعضُهم : أصل الْخَدَاعِ في اللغة : الفسادُ. وقال الشاعرُ : أبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيْذٌ طَعْمُهُ طَيِّبُ الرِّيْقِ إذَا الرِّيْقُ خَدَعْأي فَسَدَ، فيكون المعنى : مُفْسِدُونَ ما أظهَروا بألسنتهم مِما أضمَرُوا في قلوبهم. وقيلَ : معناهُ : يخادعونَ رسولَ الله ﷺ كقولهِ تعالى :﴿ فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾[الزخرف : ٥٥] أي آسَفوا نَبيَّنَا. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾[الأحزاب : ٥٧] أي أولياءَ الله ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يؤذَى ولا يُخادَع. وقد يكون المفاعلةُ من واحد كالمسافَرَة.
فإن قِيْلَ : ما وجهُ مخادعتِهم اللهَ ؛ وهو لا يَخفى عليه شيء ؟ وما وجهُ مخادعةِ المؤمنين ومخادعةِ أنفسهم ؟ قيل : المخادعةُ الإخفاءُ، يقال : انخدعَتِ الضَّبيةُ في جُحرها. واللهُ تعالى لا يخادَع في الحقيقةِ، ولكن أطلقَ عليه اسمُ المخادعةِ لَمَّا فعَلُوا فعلَ المخادِعين. ولو كان يصحُّ لَهم خِداعُهم لقالَ : يَخْدَعُونَ اللهَ. وَقِيْلَ : معناهُ : يخادعونَ رسولَ اللهِ.
وأما مخادعةُ المؤمنينَ، فإظهارُهم لَهم الإسلامَ تُقْيَةً ؛ وَقِيْلَ : إظهارُ الإسلامِ لَهم ليكرِمُوهم ويبجِّلوهم. وَقِيْلَ : أظهَروا لَهم ذلك لِيُفْشُوا إليهم سرَّهُم فينقلوهُ إلى أعدائِهم. وأمَّا مخادعةُ أنفُسِهم فضررُ ذلك عليهم. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم ﴾ ؛ لأنَّ وبالَ الخداعِ عائدٌ إلى أنفسهم فكأنَّهم في الحقيقة إنَّما يخدعونَ أنفسهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ ؛ أي وما يعلمون أنهُ كذلك. والشعرُ : هو العلمُ الدقيقُ الذي يكون حادِثاً من الفطنةِ ؛ وهو من شِعَار القلب ؛ ومنه سُمي الشاعرُ شاعراً لفطنتهِ لما يدقُّ من المعنى والوزنِ، ومنه الشعرُ لدقَّتهِ. ويقال : ما شَعَرْتُ به ؛ أي ما عَلِمْتُ بهِ. وليتَ شِعْرِي ما صنعَ فلانٌ ؛ أي ليتَ عِلْمِي.
واختلف القرَّاءُ في قولهِ تعالى :﴿ وَمَا يَخْدَعُونَ ﴾ فقرأ نافعُ ؛ وابن كثير ؛ وأبو عمرٍو :(يُخَادِعُونَ) بالألفِ. وقرأ الباقون :(يَخْدَعُونَ) بغير ألِف على أشهرِ اللغتين وأفصحِهما ؛ واختارهُ أبو عُبيدٍ. ولا خلافَ في الأول أنه بالألفِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ ؛ أي شكٌّ ونفاق، وسمي النفاق مرضاً لأنه يهلكُ صاحبه ؛ ولأنه يضطربُ في الدِّين يوالِي المؤمنينَ باللسان ؛ والكفارَ بالقلب ؛ فحاله كحالِ المريض الذي هو مضطربٌ بين الحياة والموت. وقيل : إنَّ الشكَّ ؛ أي بالقول : ألَمُ القلبِ، والمرضَ : ألَمُ البدنِ. فسُمِّيَ الشكُّ مرضاً لِما فيه من الْهَمِّ والحزنِ. وقيل : سُمي النفاقُ مرضاً ؛ لأنه يضعفُ الدِّين واليقينَ كالمرض الذي يضعفُ البدنَ وينقص قواهُ ؛ ولأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ بالعذاب كما أن المرضَ في البَدَنِ يؤدِّي إلى الهلاكِ بالموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ﴾ ؛ أي شَكّاً ونِفَاقاً وعذاباً وهَلاَكاً. والفاءُ في ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ ﴾ بمعنى الْمُجَازَاةِ. وقِيْلَ : على وجهِ الدُّعاءِ، ﴿ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي موجعٌ يخلصُ وَجَعُهُ إلى قُلُوبهم ؛ وهو بمعنى مؤلِم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ ؛ قال بعضُهم : الباءُ في (بمَا) صلةٌ ؛ أي لَهم عذابٌ ألِيْمٌ بكذبهم وتكذِيبهم اللهَ ورسولَهُ في السرِّ ؛ فيكون (مَا) مصدريةٌ ؛ والأَولَى إعمالُ الحروف. و(مَا) وُجد لَها مُساغ ؛ أي بالشَّيء الذي يكذِّبون.
وفي قولهِ :﴿ يَكْذِبُونَ ﴾ خلافٌ بين القرَّاء، فقرأ أهلُ الكوفةِ بفتحِ الياء وتخفيفِ الذَّال ؛ أي بكذبهم إذْ قالوا : آمَنَّا، وهم غيرُ مؤمنين.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ قرأ الكسائيُّ ؛ ويعقوبُ ؛ وهشام :﴿ قِيلَ ﴾ وَ ﴿ حِيلَ ﴾ [سبأ : ٥٤]، وَ ﴿ سِيقَ ﴾ [الزمر : ٧١]، و ﴿ جِيْئَ ﴾، وَ ﴿ سِيءَ ﴾ [هود : ٧٧] بإشْمام الضمَّة. ومعنى الآيةِ : وإذا قِيْلَ للمنافقين وقيلَ لليهود ؛ أي إذا قال لَهمُ المؤمنونَ : لا تُفسِدُوا في الأرضِ بالكُفْرِ والمعصيةِ والمداهنةِ وتعويقِ النَّاسِ عن الإيْمان بمُحَمَّدٍ ﷺ والقُرْآنِ، ﴿ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ ؛ أي عامِلُون بالطَّاعةِ ومُصلِحُونَ بالمداهنةِ ؛ لأنَّهم كانوا يقولون : لا نُعادي المؤمنينَ ولا الكفارَ ؛ نُداري هؤلاءِ وهؤلاء ؛ حتى إذا غلبَ أحدُ الفريقين لا يأتينا من دائرتِهم شيءٌ.
يقولُ الله تعالى :﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾، (ألاَ) كلمةُ تَنْبْيهٍ، والمعنى : ألا إنَّهم همُ المفسدونَ بالمداهنِةِ والعاملونَ بالمعصيةِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُمُ ﴾ عمادٌ وتأكيدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَْ ﴾ ؛ أي لا يعلَمُون ما أعدَّ اللهُ لَهم من العذاب. وَقِيْلَ : لا يعلمون أنَّهم كذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ النَّاسُ ﴾ ؛ أي إذا قِيْلَ للمنافقينَ : صَدِّقُوا كما صَدَّقَ أصحابُ رسولِ الله ﷺ، ﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ ﴾ ؛ أي أنُصدِّقُ كما صَدَّقَ الْجُهَّالُ، يقولُ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ ﴾ ؛ أي همُ الْجُهَّالُ بتركِهم التصديقَ في السرِّ ؛ ﴿ وَلَـاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أنَّهم جُهَّالٌ. وَقِيْلَ : قالُوا : أنُصَدِّقُ ﴿ كَمَآ ﴾ صدَّق الجهالُ بقولِ اللهِ تعالى، ﴿ أَلا إِنَّهُمْ ﴾. وَقِيْلَ : معناهُ : آمِنوا كما آمَنَ عبدُالله ابن سَلام وغيرُه من مؤمنِي أهلِ الكتاب.
والسُّفَهَاءُ : جمعُ سفيهٍ، وهو البهَّاتُ الكذَّابُ المتعمدُ بخلاف ما يعلمُ. وقال قُطْرُبُ :(السَّفِيْهُ : الْعَجُولُ الظَّلُومُ الْقَائِلُ خِلاَفَ الْحَقِّ).
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا ﴾ ؛ قال جُويبرُ عن الضحَّاك عنِ ابنِ عبَّاس :(كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْخَزْرَجِيّ عَظِيْمَ الْمُنَافِقِيْنَ مِنْ رَهْطِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَكَانَ إذا لَقِيَ سَعْداً قَالَ : نِعْمَ الدِّيْنُ دِيْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ إلَى رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ مِنْ أهْلِ الْكُفْرِ قَالَ : شُدُّواْ أيْدِيَكُمْ بدِيْنِ آبَائِكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقال الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابنِ عبَّاس ؛ قال :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ ابْنِ أُبَيٍّ وَأصْحَابهِ، وَذَلِكَ أنَّهُمْ خَرَجُواْ ذَاتَ يَوْمٍ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عَبْدُاللهِ لأَصْحَابِهِ : أنْظُرُوا كَيْفَ أرُدُّ هَؤُلاَءِ السُّفَهَاءَ عَنْكُمْ ؟ فَذَهَبَ فَأَخَذَ بيَدِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ : مَرْحَباً بالصِّدِّيْقِ وَسََيِّدِ بَنِي تَميْم وَشَيْخِ الإسْلاَمِ وَثَانِي رَسُولِ اللهِ فِي الْغَار الْبَاذِلِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ أخَذَ بيَدِ عُمَرَ رضي الله عنه، وَقَالَ : مَرْحَباً بسَيِّدِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ الصَّادِقُ الْقَوِيُّ فِي دِيْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبَاذِلُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ أخَذَ بيَدِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ؛ فَقَالَ : مَرْحَباً يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَخَتَنَهُ وَسَيِّدَ بَنِي هَاشِمٍ مَا خَلاَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُنَافِقْ ؛ فَإِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ شَرُّ خَلِيْقَةِ اللهِ. فَقَالَ : مَهْلاً يَا أبَا الْحَسَنِ، وَاللهِ إنَّ إيْمَانَنَا كَإِيْمَانِكُمْ وَتَصْدِيْقَنَا كَتَصْدِيْقِكُمْ. وَفِي روَايَةٍ : وَاللهِ إنِّي مُؤْمِنٌ باللهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ افْتَرَقُواْ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ لأَصْحَابهِ : كَيْفَ رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ، فَإِذَا رَأيْتُمُوهُمْ فَافْعَلُوا كَمَا فَعَلْتُ. فَأَثْنَواْ عَلَيْهِ ؛ وَقَالُواْ : لاَ نَزَالُ بخَيْرٍ مَا عِشْتَ. فَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : وإذا لَقُوا الذين آمنوا، أبا بكرٍ وأصحابَهُ ؛ قالوا : آمَنَّا كإيْمانِكم.
وقرأ محمدُ بنُ السُّمَيقِعِ :(وإذا لاَقُوا) وهما بمعنى واحد، وأصلُ (لَقُوا) : لَقِيُواْ ؛ فاستُثقِلَتِ الضمَّةُ على الياء فنُقلت إلى القافِ وسُكِّنت الواوُ والياء، فحذفتِ الياء لالتقاءِ السَّاكِنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ ؛ أي مع شياطينِهم ؛ وهم رؤسَاؤُهم في الضَّلالةِ. قال الأخفشُ :(كُلُّ عَاقٍّ مُتَمَرِّدٍ فَهُوَ شَيْطَانٌ). ومعنى ﴿ خَلَوْاْ ﴾ أي جمعوا. ويجوزُ أن يكون من الْخُلْوَةِ ؛ يقال : خَلَوْتُ بهِ وَخَلَوْتُ مَعَهُ وَخَلَوْتُ إلَيْهِ ؛ كلُّها بمعنى واحدٍ. قال ابنُ عبَّاس :((شَيَاطِينِهِمْ) رَؤُسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَكَهَنَتُهُمْ وَهُمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ). ولا يكون كاهنٌ إلاَّ ومعه شيطانٌ، منهم كعبُ بن الأشرفِ بالمدينةِ ؛ وأبو بُرْدَةَ في بني أسْلَمَ ؛ وعبدُ الدار في جُهينة ؛ وعوفُ بن عامرٍ في بني أسَدٍ ؛ وعبدُالله بن السَّوداءِ في الشامِ. والشيطانُ المتمرِّدُ العاتِي من كلِّ شيءٍ ؛ ومنهُ قِيْلَ للحيَّة النَّصْنَاصِ : شيطانُ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾[الصافات : ٦٥] أي الحيَّاتِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ ؛ أي على دِينِكم وأنصاركم، قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ ؛ أي بمُحَمَّدٍ وأصحابهِ بإظهار قولِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ ؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمَّى الجزاءَ باسمِ الابتداءِ ؛ إذ كان مثلَهُ في الصورة ؛ كقولهِ تعالَى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى : ٤٠] فسمَّى جزاءَ السيئةِ سيئةً. وقالَ تعالى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾[البقرة : ١٩٤] والثانِي ليس باعتداءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي ﴾ أي يُمْهِلُهُمْ ويتركهم في ضلالتِهم يتحيَّرون ؛ يقال : مدَّ في الشَّرِّ ؛ ويَمُدُّ في الخيرِ ؛ وقال يونسُ :(الْمَدُّ التَّرْكُ ؛ وَالإمْدَادُ فِي مَعْنَى الإعْطَاءِ). وقيل : مَدَّهُ وأمدَّه بمعنى واحد. وقال الأخفشُ :(وَيَمُدُّهُمْ) أي يَمُدُّ لَهُمْ ؛ فَحَذَفَ اللاَّمَ). والطغيانُ : مجاوزة الحدِّ ؛ يقال : طَغَى الماءُ إذا جاوزَ حدَّهُ ؛ وقيل لفرعونَ :﴿ إِنَّهُ طَغَى ﴾[طه : ٢٤] أي أسرفَ في الدعوى حيثُ قال :﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾[النازعات : ٢٤].
وقرأ ابنُ محيصن :(وَيُمِدُّهُمْ) بضم الياءِ وكسرِ الميم ؛ وهما لُغتان. إلا أن الْمَدَّ أكثرُ ما يجيئ في الشرِّ، قال اللهُ تعالى :﴿ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً ﴾[مريم : ٧٩]، والإمدادُ في الخيرِ قال اللهُ تعالى :﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾[نوح : ١٢]، وقالَ تعالى :﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ﴾[المؤمنون : ٥٥]. وَقِيْلَ : معنى ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ أي يوبخهم ويغَبيهم ويُجهِّلُهم. وَقِيْلَ : معناه : الله يُظهِرُ المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابنُ عبَّاس :(هُوَ أنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْمُنَافِقِيْنَ وَهُمْ فِي النَّار، فَيَقُولُونَ لَهُمْ : أتُحِبُّونَ أنْ تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَيُقَالُ لَهُمْ : ادْخُلُواْ، فَيَأْتُونَ يَتَقَلَّبُونَ فِي النَّارِ، فَإِذَا انْتَهَواْ إلَى الْبَاب سُدَّ عَلَيْهِمْ وَرُدُّواْ إلَى النَّار ؛ وَيَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾[المطففين : ٢٩-٣٤].
وعن رسول الله ﷺ أنه قال :" يُؤْمَرُ بنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ إلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَواْ مِنْهَا وَوَجَدُواْ رَائِحَتَهَا وَنَظَرُواْ إلَى مَا أعَدَّ اللهُ لأَهْلِهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، نُودُواْ أنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا ؛ فَيَرْجِعُونَ بحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ لَمْ تَرْجِعِ الْخَلاَئِقُ بِمثْلِهَا ؛ فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا لَوْ أدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أنْ تُرِيَنَا مَا أرَيْتَنَا كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : هَذَا الَّذِي أرَدْتُ بكُمْ ؛ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي ؛ أجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي ؛ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ بأَعْمَالِكُمْ خِلاَفَ مَا كُنْتُمْ تُرُونِي مِنْ قُلُوبكُمْ، فَالْيَوْمَ أُذِيْقُكُمْ مِنْ عَذَابي مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ ثَوَابي ".
فإن قِيْلَ : لِمَ أمرَ اللهُ تعالى بقتالِ الكفار المعلنين الكفرَ ولم يأمُرْ بقتالِ المنافقين وهم في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار ؛ وخالفَ بين أحكامهم وأحكامِ الكفار الْمُظْهِرِيْنَ الكفرَ وأجراهم مُجْرَى المسلمين في التوارث والأنْكِحَةِ وغيرها ؟ قيل : عقوباتُ الدنيا ليست على قدر الإجرام ؛ وإنَّما هي على ما يعلمُ الله من المصالح ؛ ولِهذا أوجبَ رجمَ الزانِي الْمُحَصَنِ ولَم يُزِل عنهُ الرجمَ بالتوبةِ ؛ والكفرُ أعظم من الزنا ولو تابَ منه قُبلت توبتهُ. وكذلك أوجبَ الله على القاذفِ بالزنا الجلدَ ولَم يوجبه على القاذفِ بالكفرِ ؛ وأوجبَ على شارب الخمر الحدَّ ولَم يوجبه على شارب الدمِ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى ﴾ أي أخَذُوا الضَّلالةَ وتَرَكُوا الْهُدَى ؛ واختارُوا الكفرَ على الإيْمانِ. وإنَّما أخرجهُ بلفظ الشراءِ والتجارة توسُّعاً ؛ لأن الشراءَ والتجارة راجعان إلى الاستبدالِ والاختيار ؛ لأنَّ كل واحدٍ من المتبايعَين يختارُ ما بيد صاحبهِ على ما في يدهِ. قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ ﴾ ؛ أي فمَا ربحُوا في تجارتِهم ؛ تقولُ العرب : رَبحَ بيعُك وخَسِرَتْ صفقتُك ؛ ونامَ ليلُك ؛ تَوَسُّعاً. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ ﴾[محمد : ٢١]. وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ :(فَمَا رَبحَتْ تِجَارَاتُهُمْ) على الجمعِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ ؛ أي من الضَّلالةِ ؛ وَقِيْلَ : معناهُ وما كانُوا مُصِيبينَ في تِجارتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ﴾ ؛ أي مَثَلُ المنافقينَ في إظهارهم الإسلامَ وحَقْنِهم دماءَهم وأموالَهم كمثل رجلٍ في مَفَازَةٍ في ليلة مظلمةٍ يخافُ السِّباع على نفسهِ، فيوقدُ ناراً لِيَأْمَنَ بها السباعَ، ﴿ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ ﴾، النارُ، ﴿ مَا حَوْلَهُ ﴾ المستوقد ؛ طُفِئَتْ. فبقي في الظلمةِ ؛ كذلك المنافقُ يخاف على نفسه من قِبَلِ النبيِّ ﷺ وأصحابه فيسلم دماء الناس فيحقنُ دمه، ويناكحُ المسلمين فيكون له نورٌ بمنْزلة نور نار المستوقِدْ ؛ فإذا بلغَ آخرتَهُ لَم يكن لإيْمانهِ أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله، سُلِبَ نورُ الإيْمان عند الموت فيبقى في ظلمةِ الكفر، نَسْتَعِيْذُ باللهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اسْتَوْقَدَ ﴾ يعني أوقدَ، قال الشاعر : وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيْبُ إلَى النَدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيْبُوقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَثَلِ الَّذِي ﴾ بمعنى (الذينَ) دليلهُ سياقُ الآية ؛ ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾[الزمر : ٣٣]. فإنْ قُلْتَ : كيفَ يجوزُ تشبيهُ الجماعة بالواحد ؟ قُلْتُ : لأن (الَّذِي) اسمٌ ناقصٌ، فيتناولُ الواحدَ والاثنين كـ (مَنْ) و (مَا)، وفي الآيةِ ما يدلُّ على أن معناهُ الجمعَ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَكَهُمْ ﴾. وقد يجوزُ تشبيهُ فعلِ الجماعةِ بفعل الواحدِ مثلُ قولهِ تعالى :﴿ أَتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ﴾[الأحزاب : ١٩]. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَضَآءَتْ ﴾ يقال : ضَاءَ القمرُ يَضُوءُ ضَوْءاً، وَأَضَاءَ يُضِيْءُ إضَاءَةً ؛ وَإضَاءَةً غيرُه يكون لازماً ومتعدِّياً. وقرأ محمَّدُ بن السُّمَيقِعِ :(ضَاءَتْ) بغيرِ ألفٍ ؛ و(حَوْلَهُ) نُصب على الظرفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ ؛ أي أذهبَ الله نورَهم. وإنَّما قال :(بنُورهِمْ) والمذكورُ في أوَّلِ الآية النارُ ؛ لأنَّ النارَ فيها شيئان : النُّورُ والحرارةُ ؛ فذهبَ نورُهم ؛ وبقِيَ الحرارة عليهم، ﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾.
وفِي بعضِ التفاسيرِ : قال ابنُ عبَّاس ؛ وقتادةُ والضحَّاك :(مَعْنَى الآيَةِ : مَثَلُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَنِفَاقُهُمْ كَمَنْ أوْقَدَ نَاراً فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَاسْتَضَاءَ بهِ، وَاسْتَدْفَأَ وَرَأَى مَا حَوْلَهُ، فَاتَّقَى مَا يَحْذَرُ وَنَجَا مِمَّا يَخَافُ وَأَمِنَ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ طُفِئَتْ نَارُهُ ؛ فَبَقِيَ مُظْلِماً خَائِفاً مُتَحَيِّراً ؛ فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ إِذَا أظْهَرُواْ كَلِمَةَ الإيْمَانِ وَاسْتَنَارُواْ بنُورهَا وَاعْتَزُّواْ بعِزِّهَا، فَنَاكَحُواْ الْمُسْلِمِيْنَ وَوَارَثُوهُمْ وَقَاسَمُوهُمُ الْغَنَائِمَ وَأمِنُواْ عَلَى أمْوَالِهِمْ وَأوْلاَدِهِمْ ؛ فَإِذَا مَاتُواْ عَادُواْ فِي الظُّلْمَةِ وَالْخَوْفِ وَبَقَواْ فِي الْعَذَاب وَالنِّقْمَةِ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ﴾ ؛ أي هم صُمٌّ عن الْهَدْي لا يسمعونَ الحقَّ، بُكْمٌ لا يتكلمونَ بخيرٍ ؛ عُمْيٌ لا يبصرون الهديَ ؛ أي بقلوبهم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾[الأعراف : ١٩٨]. وَقِيْلَ : معناه صُمُّ يَتَصَامُّونَ عن الحقِّ ؛ بُكْمٌ يَتَبَاكَمُونَ عن قولِ الحقِّ ؛ عُمْيٌّ يَتَعَامُوْنَ عَنِ النَّظَرِ إلى الحقِّ ؛ يعني الاعتبارَ. وقرأ عبدالله :(صُمّاً بُكْماً عُمْياً) بالنصب على معنى وتركَهم كذلك. وَقِيْلَ : على الذَّمِّ، وَقِيْلَ : على الحالِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ ؛ أي مِن الضَّلالةِ والكفرِ إلى الْهُدَى والإيْمانِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ ؛ هذا مثلٌ آخر ضَرَبَهُ اللهُ تعالى لَهم أيضاً ؛ معطوفٌ على المثلِ الأول ؛ أي مَثَلُهُمْ كمثلِ الذي استوقدَ ناراً ومَثَلُهُمْ أيضاً كَصَيِّبٍ. قال أهلُ المعانِي :(أو) بمعنى الواو ؛ يريدُ (وَكَصَيِّبٍ) كقولهِ :﴿ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾[الصافات : ١٤٧] وأنشدَ الفرَّاءُ : وَقَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى بأَنِّي فَاجِرٌ لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَاأيْ : وعليها فجُورها.
ومعنى الآيةِ : مَثَلُ المنافقين مع النبيِّ ﷺ والقرآنِ ﴿ كَصَيِّبٍ ﴾ أي كمَطرٍ نزلَ ﴿ مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ ليلاً على قومٍ في مَفَازَةٍ ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ كذلكَ القُرْآنُ نَزَلَ من اللهِ، ﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ ﴾ أي بيانُ الفِتَنِ وابتلاءُ المؤمنينَ بالشَّدائدِ في الدُّنيا، ﴿ وَرَعْدٌ ﴾ أي زجرٌ وتخويفٌ، ﴿ وَبَرْقٌ ﴾ أي تِبْيَانٌ وتَبْصِرَةٌ. فجَعل أصحابُ المطر أصابعَهم في آذانِهم من الصَّواعقِ مخافةَ الهلاكِ، كذلك المنافقونَ َكانوا يجعلون أصابعهم في آذانِهم من بيانِ القُرْآنِ ووعدهِ ووعيدهِ وما فيه من الدُّعاءِ إلى الجِهَادِ مخافةَ أن يُقْتَلُوا في الجهادِ. ويقال : مخافةَ أن تَميل قلوبُهم إلى ما في القُرْآنِ.
وعنِ الحسن أنه قالَ :(في الآيَةِ تَشْبيْهُ الإسْلاَمِ بالصَّيِّب ؛ لأَنَّ الصَّيِّبَ يُحْيي الأَرْضَ، وَالإسْلاَمُ يُحْيي الْكُفَّارَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ﴾[الأنعام : ١٢٢]. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَصَيِّبٍ ﴾ أي كأصحاب الصَّيِّب ؛ لاستحالةِ تشبيهِ الحيوان بالصيِّب تَمثيل العاقلِ بغير العاقلِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّنَ الصَّوَاعِقِ ﴾ جمعُ صَاعِقَةٍ : وهي صَوْتٌ وبَرْقٌ فيه قطعةٌ من النار لا تأتِي على شيءٍ إلا أحرقتُهُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ كل مَا عَلاكَ فهو سَماءٌ ؛ والسماءُ تكونُ واحداً وجمعاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾[البقرة : ٢٩]. وَقِيْلَ : هو جمعٌ وَاحِدُهُ : سَمَاوَةٌ ؛ والسَّمواتُ جمعُ الجمعِ، مثل جَرَادَةٍ وَجَرَادٍ وَجَرَادَاتٍ. والسَّماءُ تذكَّر وتؤنَّث، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ﴾[المزمل : ١٨] و﴿ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ ﴾[الانفطار : ١].
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ ﴾ أي في الصيِّب ؛ وقيل في الليلِ : كنايةٌ عن غير مذكورٍ. وظلماتٌ : جمع ظُلْمَةٍ ؛ وضمُّه اللام على الاتباعِ لضمةِ الظاء. وقرأ الأعمشُ :(ظُلْمَاتٌ) بسكون اللام على أصلِ الكلام ؛ لأنَّها ساكنةٌ في التوحيدِ. وقرأ أشهبُ العقيلي :(ظُلَمَاتٌ) بفتحِ اللام ؛ لأنه لَمَّا أرادَ تحريكَ اللام حرَّكها إلى أخفِّ الحركات ؛ كقولِ الشاعرِ : فَلَمَّا رَأوْنَا بَادِياً رُكْبَانُنَا عَلَى مَوْطِن لاَ تَخْلِطَ الْجَدَّ بالْهَزَلِقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَعْدٌ ﴾ الرعدُ : هو الصوتٌ الذي يخرج من السحاب، ﴿ وَبَرْقٌ ﴾ وهي النارُ التي تخرج منه. قال مجاهدُ :(الرَّعْدُ : مَلَكٌ يُسَبحُ بِحَمْدِهِ ؛ وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْمَلَكِ : رَعْدٌ، وَلِصَوْتِهِ أيْضاً رَعْدٌ). وقال عِكْرِمَةٌ :(الرَّعْدُ : مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالسَّحَاب يَسُوقُهَا كَمَا يَسُوقُ الرَّاعِي الإبلَ). وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبَ :(هُوَ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ كَمَا يَزْجُرُ الرَّاعِي الإبلَ). والصواعقُ أيضاً الْمَهَالِكُ ؛ وهي جمع صَاعِقَةٍ ؛ والصاعقةُ والصَّامِعَةُ وَالْمَصْعَمَةُ : كالهلاكُ. ومنه قيل : صُعِقَ الإنسانُ إذا غشيَ عليه ؛ وصُعِقَ إذا ماتَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ ؛ أي مخافةَ الموتِ. وهو نُصِبَ على المصدر. وقيل : بنَزعِ الخافضِ. وقرأ قتادةُ :(حَذِيْرَ الْمَوْتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي عالِمٌ بهم ؛ يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾[الطلاق : ١٢]. وقيل : معناهُ : والله مهلِكُهم وجامِعُهم في النار ؛ دليلهُ﴿ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾[يوسف : ٦٦] أي تُهلكوا جميعاً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾ ؛ أي يختلِسُ أبصارَ المسافرين من شدَّة ضوئهِ ؛ كذلكَ البيانُ من القُرْآنِ يكادُ يذهبُ بأبصارِ المنافقين ؛ فيأخذُهم إلى اللهِ لَمَّا قَلَبُوا الدينَ. ومعنى ﴿ يَكَادُ ﴾ أي يقربُ من ذلك ولَم يفعل. وقرأ ابن أبي إسحقَ :(يَخَطَّفُ) بنصب الخاء وتشديدِ الطاء ؛ أي يَخْتَطِفُ ؛ فَأُدْغِمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ ﴾ ؛ أي كلَّما أضاءَ البرقُ للمسافرين مَشَوا في ضوئهِ، ﴿ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ﴾، بَقَوا في ظلمةِ القبرِ. وفي مصحف عبدِالله :(مَضَواْ فِيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾. أي لذهبَ بسَمعِ المسافرين بالرعدِ وأبصارهم بالبرقِ ؛ كذلك لو شاءَ الله لذهبَ بسمعِ المنافقين وأبصارهم بزجرِ القُرْآنِ ووعدهِ ووعيده والبيان الذي فيه وجعلَهم صُمّاً وعُمياً في الحقيقةِ عقوبةً لَهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ أي مِن إذهاب السَّمعِ والبَصَرِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَاـأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، قالَ ابنُ عبَّاس :( ﴿ يَاـأَيُّهَا النَّاسُ ﴾ خِطَابٌ لأَهْلِ مَكَّةَ ؛ و ﴿ يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُواْ ﴾ خِطَابٌ لأَهْلِ الْمَدِيْنَةِ). وهو ها هُنا عامٌّ ؛ وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾ أي وَحِّدُوهُ وأطيعوهُ. وقُوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ أي أوجدَكم وأنشأَكم بعد أن لم تكونوا شيئاً. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ أي وخَلَقَ الذين مِن قبلكم. ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ أي لكي تَنْجُوا من العذاب والسَّخَطِ. قال سيبويه :(لَعَلَّ وَعَسَى حَرْفَا تَرَجٍّ) وهُما من اللهِ تعالى واجبان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً ﴾. أي هو الذي جَعَلَ ؛ وقيل : اعْبُدُوا ربَّكم الذي جعلَ لكم الأرضَ فِراشاً أي بساطاً ؛ وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّمَاءَ بِنَآءً ﴾ إنَّما أطلق البناءَ على السماءِ دون الأرضِ ؛ لأنَّ خَلْقَها بعدَ خلقِ الأرضِ. قالَ اللهُ تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ ﴾[البقرة : ٢٩] قال ابنُ عباس :(كُلُّ سَمَاءٍ مُطْبقَةٌ عَلَى الأُخْرَى كَالْقُبَّةِ ؛ وَسَمَاءُ الدُّنْيَا مُلْتَزِقَةٌ أطْرَافُهَا بالأَرْضِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً ﴾، أي من السَّحابِ ؛ سُمِّيَ ماءً لقربه من السَّماء ؛ وقيل : معناهُ من نحو السماءِ، وقيل : لأنَّ اللهَ تعالى ينْزلُ المطرَ من السماء إلى السَّحاب ؛ ومن السَّحاب إلى الأرضِ، وقيل : يخلقُ اللهُ المطرَ في السحاب ثم ينْزلهُ منه إلى الأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ ﴾ ؛ ظاهرُ المرادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾ ؛ أي أمثالاً ونُظراءَ. ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، أنَّ اللهَ خلقَ كافَّة الأشياءِ دونَ غيره، وأنْ ليسَ للأصنامِ عليكم نعمةً تستحقُّ بها عبادَتَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾ ؛ أي في شَكٍّ، ﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾، مُحَمَّدٍ ﷺ أنه ليس مِنِّي، وأنَّ محمداً يختلِقُه من نفسه، ﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ ؛ أي من بَشَرٍ مثله ؛ والْهاءُ في ﴿ مِّثْلِهِ ﴾ عائدةٌ إلى النَّبيِّ عليه السلام. وقيل : معناهُ فَأْتُوا بسورةٍ من مثله مِمَّا نزَّلنا.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي آلِهتكم ومن رجوتُم معونتَه في الإتيانِ بسورةٍ مثله، ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، أنه ليس من الوحيِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأْتُواْ ﴾ أمرُ تعجيزٍ ؛ لأنهُ تعالى عَلِمَ عجزَ العباد عنهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ ؛ أي فإن لَمْ تَأتوا بمثله ولنْ تأتُوا بذلك أبداً، ﴿ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ ؛ أي حَطَبُها الناسُ والحجارةُ. وَقِيْلَ : المرادُ بالحجارةِ : حجارةُ الكبريتِ ؛ لأنَّها أسرعُ وقوداً وأبطأُ جموداً وأنتنُ رائحةً وأشدُّ حرّاً وألصق بالبدَنِ، ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ ﴾ ؛ أي بأنَّ لَهم، موضعُ أنَّ نصبَ بنْزعِ الخافض، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَنَّاتٍ ﴾ ؛ أي بساتينَ، ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ﴾ ؛ أي من تحت شَجَرِهَا، ومساكِنها وغرَفِها، ﴿ الأَنْهَارُ ﴾ ؛ أي أنْهارُ الماءِ والعسل واللَّبَنِ والخمرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ﴾ ؛ أي كلما أُطْعِمُوا من أنواع الثمرات بالبكْرِ والعَشِيَّات ؛ إذا أوتوا به بكرةً قالوا : هذا الذي أوتينا به عشيةً ؛ وإذا أُوتوا به عشيةً قالوا : هذا الذي أوتينا به بكرةً ؛ فإذا طعموهُ وجدوا طعمهُ غيرَ الطعمِ الذي طَعِمُوهُ من قبلُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ ؛ أي في المنظرِ مختلفاً في الطعم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ ؛ أي نساءٌ وجوارٍ لا يَحِضْنَ ولا يَسْتَحْلِمْنَ ولا يَلِدْنَ ولا يحتجنَ إلى ما يتطهَّرنَ منه ؛ ولا يَحْسِدْنَ ولا يَغِرْنَ ولا ينظرن إلى غير أزواجهن ؛ مهذَّباتٌ في الْخَلْقِ والْخُلُق ؛ طاهراتٌ من كل دَنَسٍ وعيبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ؛ أي هم مع هذه الكراماتِ دائمون لا يَموتون ولا يُخْرَجون أبداً.
و " سُئِلَ الرَّسُولُ ﷺ مَرَّةً : مَا بَالُ أهْلِ الْجَنَّةِ عَمِلُواْ فِي عُمُرٍ قَصِيْرٍ فَخُلِّدُواْ فِي الْجَنَّةِ ؛ وَمَا بَالُ أهْلِ النَّار عَمِلُواْ فِي عُمُرٍ قَصِيْرٍ فَخُلِّدُواْ فِي النَّار ؟ فَقَالَ :[كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيْقَيْنِ يَعْتَقِدُ أنَّهُ لَوْ عَاشَ أبَداً عَمِلَ ذلِكَ الْعَمَلَ] ".
والبشارةُ المطلقةُ هو الخبرُ السارُّ الذي يحدثُ عند الاستبشار والسرور، وإنْ كان قد يستعملُ مقيَّداً فيما يسوءُ، كما قالَ تعالى :﴿ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾[آل عمران : ٢١]. ولِهذا قال علماؤُنا فيمن قالَ : أيَّ عبيِدِي بشَّرنِي بقُدومِ فُلان فهو حرٌّ، فبشَّره جماعةٌ من عبيدهِ واحدٌ بعدَ واحدٍ ؛ أنَّ الأوَّلَ يعتقُ دون غيرهِ ؛ لأن البشارةَ حصلَتْ بخبرهِ خاصَّةً ؛ بخلافِ ما إذا قالَ : أيَّ عبيدِي أخبرنِي بقُدومِ فلانٍ، فأخبرَه واحدٌ بعد واحدٍ فإنَّهم يُعْتَقُونَ جميعاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، هذا مثلٌ آخرُ للمنافقين ؛ وسَبَبُهُ لَمَّا ذكرَ اللهُ في المنافقين المَثَلَين المتقدِّمَين قالُوا : إنَّ اللهَ تعالَى أجلُّ وأعلَى من أَن يَضْرِبَ هذه الأمثالَ ؛ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ لأن البعوضةَ تَحيى ما دامَتْ جائعةً فإذا شبعَتْ هلكت ؛ فكذلك المنافقونَ يَحْيَوْنَ ما افتَقَرُوا وإذا شَبعُوا بَطِرُواْ وهَلَكُوا. فكأنَّهُ قالَ تعالى : كيفَ أستَحِي مِن ضَرْب الْمَثَلِ في المنافقِين وأَنَا أضربهُ بالبعوضِ الذي هو مِثلُهم.
وَقِيْلَ : إنَّ المشركينَ لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً ﴾[الحج : ٧٣]. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ ﴾[العنكبوت : ٤١] قالُوا : إن اللهَ تعالَى يضربُ المثلَ بالذُّباب والعنكبوت مع صِغَرِهما فإنَّهما يُعْجِزَانِ آلِهَتَهم.
ومعنى الآيةِ : أنَّ اللهَ لا يَمنعهُ الحياءُ أن يضربَ الحقَّ شَبَهاً ما بعوضةً فما أكبرَ منها مثلَ الذُّباب وغيرهِ. وَقِيْلَ : فما فوقَها في الصِّغَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ ؛ أي فيعلمون أنَّ المثلَ حقٌّ من ربهم ؛ وأما الكافرون فيقولون : أيَّ شيءٍ أرادَ الله بذِكْرِ البعوضِ والذباب مثلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : يُضِلُّ ويَخْذِلُ بالمثلِ كثيراً من الناس، ويوفِّقُ لمعرفته كثيراً، ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ ؛ يعني الخارجينَ عن طاعة اللهِ. قيل : همُ اليهودُ في هذه الآية.
وأمَّا في قولهِ :﴿ مَثَلاً مَّا ﴾ قيل : نكرةٌ معناه أن يضربَ مِثالاً شيئاً من الأشياء بعوضةً فما فوقها. وقيل : الأصحُّ أنَّها زائدةٌ مثل﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم ﴾[النساء : ١٥٥] ولا إعرابَ لها فيتخطَّاها الناصبُ والخافضُ إلى ما بعدها. وقيل : نصبَ بعوضَةً على معنى ما بين بعوضةٍ إلى ما فوقها ؛ فإذا ألْقَى (بين) و(إلى) نصبَ. ويقالُ في الكلام : هي أحسنُ الناسِ ما قرناً، ومَدُّ (مَا). قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ مَثَلاً ﴾ نُصِبَ على القطعِ عند الكوفيِّين ؛ غيرَ أنَّه قُطِعَ الإضافةَ ؛ أي بهذا المثلِ. وعند البصريِّين على الحالِ ؛ أيْ ما أرادَ اللهُ بالمثل في هذه الحالةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ ؛ نعتٌ للفاسقين. ومن جعلَهُ مبتدأ وقف على الفاسقين. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ أي يتركون أمرَ اللهِ ووصيَّته من بعد تغليظه وتوكيدهِ. والعهدُ : ما أخذَهُ الله على النبيِّين ومَن اتَّبعَهم أن لا يكفُروا بالنبيِّ ﷺ ويبيِّنُوا نَعْتَهُ وصِفَتَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾، يعني الرحمَ الذي أمرهم بصِلته، ﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾ ؛ أي وكنتم نُطفاً في أصلاب آبائكم، ﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾، في أرحامِ أُمهاتكم، وأخرجكم نِسَماً صِغَاراً، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾، عند انقضاء آجالكم، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾، للبعثِ، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، في الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ ؛ يعني من الشَّجَرِ والثمار والدواب، ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾، فإن قيل : هذه الآية تقتضي أن خلق السماء بعد الأرض ؛ وقال تعالى في آيةٍ أُخرى :﴿ أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾[النازعات : ٢٧] ثم قال :﴿ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾[النازعات : ٣٠] ؟ قِيْلَ : مجموعُ الآيتين يدلُّ على أن خَلْقَ الأرضِ قَبْلَ السَّماء ؛ إلا أنَّ بَسْطَ الأرضِ بعد خَلْقِ السَّماء، ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ ؛ يعني آدمَ وذريَّتَهُ. واختَلَفُوا في معنى الخليفة، فروي : أنَّ رَجُلاً سَأَلَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَكَعْباً وَسَلْمَانَ : مَا الْْخَلِيْفَةُ ؛ وما الْمَلِكُ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ :(مَا نَدْرِي) وَقَالَ سَلْمَانُ :(الْخَلِيْفَةُ : هُوَ الَّذِي يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ وَيَقْسِمُ بَيْنَهُمْ بالسَّوِيَّةِ وَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ شَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى أهْلِهِ وَالْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ ؛ وَيَقْضِي بِكِتَاب اللهِ تَعَالَى). فَقَالَ كَعْبٌ :(مَا كُنْتُ أحْسَبُ أنَ أحَداً يُفَرِّقُ الْخَلِيْفَةَ مِنَ الْمَلِكِ غَيْرِي ؛ وَلَكِنَّ اللهَ مَلأَ سَلْمَانَ عِلْماً وَحِلْماً وَعَدْلاً).
وروي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ لِسَلْمَانَ : أمَلِكٌ أنَا أمْ خَلِيْفَةٌ ؟ قَالَ سَلْمَانُ :(إنْ أنْتَ جَبَيْتَ أرْضَ الْمُسْلِمِيْنَ دِرْهَماً أوْ أكْثَرَ أوْ أقلَّ ؛ وَوَضَعْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ!! فَأَنْتَ مَلِكٌ. وَإنْ أنْتَ فَعَلْتَ بالْعَدْلِ وَالإنْصَافِ فَأَنْتَ خَلِيْفَةٌ) فَاسْتَغْفَرَ عُمَرُ رضي الله عنه.
وروي أنَّ مُعَاويَةَ كَانَ يَقُولُ إذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ :(يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْخِلاَفَةَ لَيْسَتْ بجَمْعِ الْمَالِ وَلاَ تَفْرِيْقِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْخِلاَفَةَ الْعَمَلُ بالْحَقِّ ؛ وَالْحُكْمُ بالْعَدْلِ ؛ وَأَخْذُ النَّاسِ بأَمْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ ؛ أي يَعصِيكَ فيها ؛ ﴿ وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ ؛ أي نُبَرِّيك من السُّوء ونُصَلِّي لكَ ونطهِّرُ أنفسَنا لكَ. وَقِيْلَ : اللامُ في (نُقَدِّسُ لَكَ) زائدةٌ ؛ أي نقدِّسُك.
وقُوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، أي أعلمُ أنه سيكون فيهم أنبياءٌ وقومٌ صالِحون يسبحُون بحَمْدِي ويقدِّسُونَ لِي ويطيعونَ أمْرِي. وروي :(أنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الأَرْضَ جَعَلَ سُكَّانَهَا الْجِنَّ بَنِي الْجَانِ ؛ وَجَعَلَ سُكَّانَ السَّمَوَاتِ الْمَلاَئِكَةَ ؛ لأَهْلِ كُلِّ سَمَاءٍ عِبَادَةٌ أهْوَنُ مِنَ الَّتِي فَوْقَهَا، وَكَانَ إبْلِيْسُ مَعَ جُنْدٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ؛ وَكَانَ رَئِيْسُهُمْ واسْمُهُ عَزَازيْلُ. فَلَمَّا أفْسَدَتِ الْجِنُّ بَنِي الْجَانِ الَّذِيْنَ سَكَنُواْ الأَرْضَ فِيْمَا بَيْنَهُمْ وَسَفَكُواْ الدِّمَاءَ وَعَمِلُواْ الْمَعَاصِي بَعَثَ اللهُ إلَيْهِمْ إِبْلِيْسَ مَعَ جُنْدِهِ ؛ فَهَبَطُواْ إلَى الأَرْضِ وَأجْلَواْ الْجِنَّ مِنْهَا ؛ وَألْحَقُوهُمْ بجَزَائِرِ الْبحَار ؛ وَسَكَنَ إِبْلِيْسُ وَالْجُنْدُ الَّذِيْنَ مَعَهُ فِي الأَرْضِ. فَلَمَّا أرَادَ اللهُ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ ؛ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ الَّذِيْنَ كَانُواْ مَعَ إبْلِيْسَ فِي الأرْضِ :﴿ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾. فَتَعَجَّبُواْ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَ ﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ كَمَا فَعَلَتِ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِ ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ فَلَمَّا قَالُواْ هَذَا الْقَوْلَ خَرَجَتْ لَهُمْ نَارٌ مِنَ الْحُجُب وَاحْتَرَقَتْ عَشْرَةُ آلاَفِ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَأعْرَضَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَاقِيْنَ حَتَّى طَافُواْ حَوْلَ الْعَرْشِ سَبْعَ سِنِيْنَ يَقُولُونَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ اعْتِذَاراً إلَيْكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾ ؛ وذلك أنَّ الله لَمَّا قال للملائكةِ :﴿ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ قَالُواْ فِيْمَا بَيْنَهُمْ : يَخْلِقُ رَبُّنَا مَا يَشَاءُ ؛ فَلَنْ يَخْلِقَ خَلْقاً أفْضَلَ وَلاَ أكْرَمَ عَلَيْهِ مِنَّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ يَآءَادَمُ ﴾ ؛ الأدَمَةُ : لونٌ مُشْرَبٌّ بسَوادٍ ؛ وَقِيلَ : هي كلُّ لون يشبهُ لونَ التُّراب ؛ فلما ظهرَ عجزُ الملائكةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى : يَا آدَمُ ؛ ﴿ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾ ؛ أي أخبرْهُم بأسمائِهم ؛ فسمَّى كلَّ شيء باسمهِ وألْحَقَ كلَّ شيء بجنسهِ، ﴿ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ ﴾، اللهُ :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ ﴾، يا مَلائِكَتي، ﴿ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾، وما كان فيها وما يكونُ، ﴿ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾، من الخضوعِ والطَّاعة لآدم، ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ ؛ في أنفُسِكم له من العداوةِ ؛ وَقِيْلَ : ما تُبدونَ من الإقرار بالعجزِ والاعتذار وما كنتم تَكتُمُونَ من الكراهةِ في استخلافِ آدمَ عليه السلام.
وَقِيْلَ : معناهُ : أعْلَمُ ما أظهرتُم من الطاعةِ وما أضمرَ إبليسُ من المعصيةِ لله تعالى في الأمرِ بالطاعة لآدمَ عليه السلام ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا صوَّرَ آدم ورآهُ إبليسُ قال للملائكةِ الذينَ معه : أرأيتُم هذا الذي لَم تَرَوا مِن الخلائقِ مثلَهُ إن أمرَكم اللهًُ بطاعتهِ ماذا تصنَعُون ؟ قالوا : نطيعُ. وأضمرَ الخبيثُ في نفسهِ أنه لا يطيعُ. وَقِيْلَ : معناهُ :﴿ أَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾ يعني قولَهم :﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾[البقرة : ٣٠]، ﴿ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ يعني قولَهم : لن يخلق الله خلقاً أفضل ولا أكرمَ ولا أعلمَ عليه مِنَّا.
فإن قِيْلَ في قولهِ تعالى :﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـاؤُلاءِ ﴾[البقرة : ٣١] أمرُ تكليفِ ما لا يطاقُ ؛ فهل يجوزُ تكليف ما لا يطاقُ ؟ قُلْنَا : الصحيحُ أنه ليس بتكليفٍ. وهذا كمَن يُلقِي المسألةَ على مَن يتعلَّم منهُ، فيقول : أخبرنِي بجواب هذه المسألةِ ؟ ولا يريدُ بذلكَ أن يأمرَهُ بجوابها ؛ لأنه يعلمُ أنه لا يعرفهُ. بل يقصدُ أن يقررَ عليه أنه لا يعرفُ جوابَها ؛ ليكون أشدَّ حرصاً على تعلُّم تلك المسألة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ ظاهرُ الآيةِ : أن إبليس كان من الملائكة ؛ لأنه مُستثنَى منهم، وإلى هذا ذهبَ جماعةٌ من العلماءِ، وقالوا : معنى قولهِ في آيةٍ أُخرَى :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ﴾[الكهف : ٥٠] يعني من خُزَّانِ الجِنَانِ. وذهب جماعةٌ آخرون إلى أنه من أولادِ الجانِّ ؛ لأنه مخلوقٌ من نارٍ وله ذريةٌ، والملائكةُ من نورٍ وليس لَهم ذُرية. فعلى هذا يكونُ مُستثنى منقطعاً ؛ مثل قولهِ تعالى :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾[النساء : ١٥٧].
وقيل : سببُ كونه مع الملائكةِ : إن الملائكةَ لَمَّا حاربَتِ الجنَّ سَبَوا إبليسَ صغيراً فنشأَ معهم ؛ فلما أُمرتِ الملائكةُ بالسُّجود امتنعَ وكفرَ وعاد إلى أصلهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ﴾ هو سجودُ تعظيمٍ وتحيَّة لا سجودَ صلاةٍ وعبادةٍ ؛ نظيرهُ في قصَّة يوسُفَ عليه السلام :﴿ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً ﴾[يوسف : ١٠٠] وكان ذلك تحيَّة الناسِ وتعظيمَ بعضهم بعضاً ؛ ولَم يكن وضعُ الوجهِ على الأرض وإنَّما كان الانحناءَ. فلما جاءَ الإسلامُ أبطلَ ذلك بالسَّلام ؛ وفي الحديثِ :" أنَّ مُعَاذ بْنَ جَبَلٍ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْيَمَنِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالَ :[مَا هَذَا؟] قَالَ : رَأيْتُ الْيَهُودَ يَسْجُدُونَ لأَحْبَارِهِمْ وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقِسِّيسِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :[مَهْ يَا مُعَاذُ! كَذَبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ إنَّمَا السُّجُودُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ] ".
وقال بعضُهم : سجَدُوا على الحقيقةِ ؛ جُعِلَ آدمُ قبلةً لَهم ؛ والسجودُ للهِ كما جعلت الكعبةُ قِبلةً لصلاةِ المؤمنين والصلاةُ لله عَزَّ وَجَلَّ. وإنَّما سُمِّي آدم لأنه خُلِقَ من التُّراب ؛ والترابُ بلسان العبرانيَّة آدم بالمدِّ ؛ ومنهم مَن قالَ : سُمِّي بذلك لأنه كان آدمَ اللَّون. وكُنيته : أبو مُحَمَّدٍ ؛ وأبو البَشَرِ.
وقوله :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ منصوبٌ على الاستثناء ؛ ولا ينصرفُ للعُجْمَةِ والْمَعْرِفَةِ. وقولهُ تعالى :﴿ وَاسْتَكْبَرَ ﴾ أي تكبَّرَ وتعظَّمَ عن السجودِ لآدم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ أي وصارَ مِن الكافرين كقولهِ تعالى :﴿ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾[هود : ٤٣]. وقال أكثرُ المفسِّرين : معناهُ : وكان في علمهِ السابقِ من الكافرين الذين وجبَتْ لَهم الشقاوةُ. قال رسولُ الله ﷺ :" إذا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ وَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي ؛ وَيَقُولُ : يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ ؛ وَأُمِرْتُ بالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ ؛ وَذلِكَ أنَّ آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ وَحْشِيّاً ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُجَالِسُهُ وَيُؤَانِسُهُ ؛ فَنَامَ نَوْمَةً فَخَلَقَ اللهُ تَعَالَى زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ مِنْ قَصِيْرَاهُ ؛ مِنْ شِِقِّهِ الأَيْسَرِ مِنْ غَيْرِ أنْ أحَسَّ آدَمُ بذَلِكَ وَلاَ وَجَدَ لَهُ ألَماً ؛ وَلَوْ ألِمَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا عَطَفَ رَجُلٌ عَلَى امْرَأةٍ ؛ فَلَمَّا هَبَّ آدَمُ مِنْ نَوْمِهِ إِذْ هُوَ بحَوَّاءَ جَالِسَةً عِنْدَ رَأْسِهِ كَأَحْسَنِ مَا خَلَقَ اللهُ. قَالَ لَهَا : مَنْ أنْتِ ؟ قَالَتْ : زَوْجَتُكَ! خَلَقَنِي اللهُ لَكَ.
فَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ ذلِكَ امْتِحَاناً لَهُ : مَا هَذِهِ يَا آدَمُ ؟ قَالَ : امْرَأةٌ، قَالُوا : وَمَا اسْمُهَا ؟ قَالَ : حَوَّاءُ، قَالُوا : وَلِمَ سُمِّيَتْ حَوَّاءُ ؟ قَالَ : لأنَّها خُلِقَتْ مِنْ حَيٍّ، قَالُوا : يَا آدَمُ أتُحِبُّهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ، قَالُواْ لِحَوَّاءَ : أتُحِبيْنَهُ يَا حَوَّاءُ ؟ قَالَتْ : لاَ، وَفِي قَلْبَها أضْعَافُ مَا فِي قَلْبهِ مِنْ حُبهِ، فَلَوْ صَدَقَتِ امْرَأةٌ فِي حُبهَا لِزَوْجِهَا لَصَدَقَتْ حَوَّاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ﴾ ؛ أي واسِعاً كثيراً، ﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾ ؛ وأين شِئتُما وكيفَ شئتما، ﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾ ؛ قِيْلَ : هي الكَرْمُ ؛ وَقِيْلَ : التين ؛ وَقِيْلَ : شجرةٌ من أحسَنِ أشجار الجنَّة عليها كلُّ نوعٍ من أطعِمَة الجنَّة ؛ ثَمرُها مثل كِليةِ البقرة ؛ أليَنُ من الزُّبد ؛ وأحلَى من الشَّهد ؛ وأشدُّ بياضاً من اللَّبن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴾، أي فتَصِيرا من الضارِّين لأنفُسِكما بالمعصيةِ ؛ وأصلُ الظُّلْمِ : وَضْعُ الشََّيءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾ ؛ أي عن الجنَّة ؛ ومعنى أزلَّهما استزلَّهما، وقراءةُ حمزةَ :(فَأُزَالَهُمَا الشَّيْطَانُ) وهو إبليسُ ؛ وهو فَيْعَالُ من شَطَنَ ؛ أي بَعُدُ، سمِّي بذلك لبُعده عن الخيرِ وعن رحمةِ الله. وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ ؛ أي من النَّعيم.
وَذلِكَ أنَّ إبْلِيْسَ أرَادَ أنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ لِيُوَسْوِسَ لآدَمَ ؛ فَمَنَعَهُ الْخَزَنَةُ ؛ فَأَتَى الْحَيَّةَ وَكَانَتْ مِنْ أحْسَنِ الدَّوَاب لَها أربعُ قوائمَ كَقوائم البعير، وكانت من خُزَّان الجنة ؛ ولإبليس صديقاً، فسألَها أنْ تدخلَهُ في فمها فأدخلته في فمها ؛ ومرَّت به على الخَزَنَةِ وهم لا يعلمون. فلما دخلَ الجنَّة وقفَ بين يدي آدمَ وحوَّاء فناحَ عليهما نياحةً وبكى ؛ وهو أوَّل من ناحَ. فقالا له : ما يبكيكَ ؟ قال : أبكي عليكما تَموتان وتفارقان ما أنتما فيه من النعيمِ والكرامة. فاغتَمَّا لذلك! فقال : يا آدمُ هل أدُلُّكَ على شجرة الْخُلْدِ ؟ فأبَى أن يقبلَ منه. فقاسَمهما بالله إنِّي لكما من الناصحين. فاغْتَرَّا. وما كانا يظُنَّان أن أحداً يَحلفُ بالله كاذباً. فبادرت حوَّاءُ إلى أكل الشجرة ؛ ثم ناولت آدمَ حتى أكلها.
روي : أن سعيدَ بن المسيب كان يحلفُ بالله ما يستثني : ما أكلَ آدمُ من الشَّجرةِ وهو يعقلُ، ولكن حوَّاء سَقَتْهُ الخمرَ حتى إذا سَكَنَ مَأْرَبَهُ إليها فأكلَ، فلما أكلَ تَهافتت عنهما ثيابَهما ؛ وبَدَتْ سوءَاتُهما وأُخرِجا من الجنَّة.
قِيْلَ : إن آدمَ دخل الجنة عند الضَّحْوَةِ ؛ وأُخرج ما بين الصَّلاتين، مَكَثَ نصفَ يومٍ من أيَّامِ الآخرَةِ ؛ وهي خَمسُمائة عامٍ.
مَسْأَلَةٌ : قالت القدريةُ : إن الجنَّة التي أُسْكِنُهَا آدم لَم تكن جنَّة الْخُلْدِ، وإنَّما كانت بستاناً مِن بساتينِ الدُّنيا ؟ قالوا : لأنَّ الجنَّة لا يكونُ فيها ابتلاءٌ ؛ ولا تكليفٌ.
الْجَوَابُ : أنَّا قد أجمعْنَا على أنَّ أهلَ الجنَّةِ مأمورون فيها بالمعروفِ ومكلَّفون ذلك. وجوابٌ آخرُ : أن اللهَ قادراً على الجمعِ بين الأضداد ؛ فأُريَ آدم الْمِحْنةَ في الجنَّة ؛ وأُري إبراهيمُ النعيمَ في النار ؛ لئَلاَّ يأمنَ العبدُ ربَّهُ ؛ ولا يقنَطُ من رحمتهِ. وَلِيَعْلَمَ : أن اللهَ له أن يفعلَ ما يشاء.
واحتجُّوا بأن من دخل الجنَّة يستحيل عليه الخروج منها. فالجوابُ : أن مَن دخلها للثواب لا يخرج منها أبداً ؛ وآدمُ لم يدخلها للثواب ؛ ألا ترى أن رَضْوَانَ وخُزَّانَ الْجِنَانِ يدخلونَها ثم يخرجون منها وإبليسُ كان خازنَ الجنَّة فأُخرج منها.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ ؛ أي قُلنا لآدَمَ وحواءَ وإبليسَ والحيَّة والطاووسَ : انزلوا إلى الأرض ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ فإبليس عدوٌّ لآدم وذريته ؛ والحيَّة تلدغ ابن آدم ؛ وابن آدم يَشْدَخُ رأسها.
قيل : إن إبليسَ قال لآدم وحوَّاء : أيُّكما أكلَ من الشجرة كان مُسَلَّطاً على صاحبه ؛ فابتدَءَا إلى الشجرةِ ؛ فسبقت حوَّاءُ فأكلت منها ؛ وأطعمت آدمَ. وقيل : إن آدمَ قال لهَا : يا حوَّاء ويْحَكِ ما تعلمين أن الله قد نَهانا عنها. فقالت : أما تعلمُ سَعَةَ رَحْمَةِ اللهِ، فأكلَت منها وأطعمتهُ.
قِيْلَ : إن إبليسَ لَمَّا دخل إلى الجنة في فَمِ الحية سأل الطاووسَ عن الشجرة التي نَهى اللهُ آدمَ وَحوَّاء عنها ؛ فدلَّ عليها. فغضبَ اللهُ على الطاووس فأهبطه بميسانَ ؛ وهو موضعٌ بسَوادِ العِرَاقِ. وأُهبطَ إبليسُ بساحلِ بحر إيليَّة ؛ وهي مدينةٌ إلى جنب البصرةِ. وأُهبطَتِ الحيَّةُ بأصبهان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ ؛ أي إلى وقتِ انقضاء آجَالكم ومنتهى أعماركم. روي : أن إبراهيمَ بن أدهم كان يقولُ :(أوْرَثَتْنَا تِلْكَ الأَكْلَةُ حُزْناَ طَوِيْلاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ ؛ قرأ ابنُ كثير بنصب (آدَمَ) ورفع (كَلِمَاتٌ) بمعنى جاءَتِ الكلماتُ آدمَ من ربه. وفي قولهِ تعالى :﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ اختصارٌ وتقليبُ المذكور ؛ وإلا فهو قد تابَ عليه وعلى حوَّاء.
واختلفوا في الكلمات التي تلقَّاها آدمُ ؛ قيل : نزل بها جبريلُ ؛ وهي " سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ وَبحَمْدِكَ ؛ عَمِلْتُ سُوءاً وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِيْنَ، سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ وَبحَمْدِكَ ؛ عَمِلْتُ سُوءاً وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ أنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيْمُ ؛ سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ وَبحَمْدِكَ ؛ عَمِلْتُ سُوءاً وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ " هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابنِ عباس أنَّها :[رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسَنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ]. وروي أنه قال :[يَا رَبِّ ؛ أرَأيْتَ مَا أتَيْتُ ؛ شَّيْءٌ أبْتَدِعُهُ مِنْ نَفْسِي، أوْ شَيْءٌ قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ تَخْلُقَنِي ؟ فَقَالَ : بَلْ شَيْئاً قَدَّرْتُهُ عَلَيْكَ قَبْلَ أنْ أخْلُقَكَ، قَالَ : يَا رَب فَكَمَا قَدَّرْتَهُ عَلَيَّ فَاغْفِرْ لِي].
وعن رسولِ الله ﷺ قال :" تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى ؛ فَقَالَ : لَهُ مُوسَى : أنْتَ آدَمُ الَّذِي أغْوَيْتَ النَّاسَ ؛ وَأخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إلَى الأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ : أنْتَ مُوسَى الَّذِي أعْطَاكَ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ ؛ وَاصْطَفَاكَ عَلَى النَّاسِ بالرِّسَالَةِ. قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : أتَلُومُنِي عَلَى أمْرٍ كَانَ قَدْ كُتِبَ عَلَيَّ أنْ أفْعَلَهُ مِنْ قَبْلِ أنْ أُخْلَقَ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ".
وعن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ قال :[بَلَغَنِي أنَّ آدَمَ لَمَّا أُهْبطَ إلَى الأَرْضِ مَكَثَ ثَلاَثمِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَرْفَعُ رَأَسَهُ حَيَاءً مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ]. وقال ابنُ عباس :[بَكَى آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَى مَا فَاتَهُمَا مِنْ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ ؛ وَلَمْ يَأْكُلاَ وَلَمْ يَشْرَبَا أرْبَعِيْنَ يَوْماً ؛ وَلَمْ يَقْرَبْ آدَمُ حَوَّاءَ مِائَةَ سَنَةٍ].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ أي تجاوزَ عنه، ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ ؛ أي يقبلُ توبةَ عباده ؛ رحيمٌ بخلقه.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾ ؛ آدمُ وحواء وإبليسُ والحية والطاووسُ، ﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ﴾ ؛ أي كتابٌ ورسولٌ، ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾، فيما يستقبلُهم، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، على ما خلَّفوا.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾ ؛ يعني القرآنَ، ﴿ أُولَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾، لا يخرجون منها.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ؛ أي يا أولادَ يعقوب. ومعنى إسرائيل يعني : صفوةَ اللهِ، و(إيل) هو الله. وَقِيْلَ :(إسْرَ) هو العبدُ، و(إيْلُ) هو اللهُ، فمعناه : عبدُالله. وهو خطابٌ لليهود والنصارى.
وإنَّما سُمي يعقوب ؛ لأن يعقوبَ وعيصا كانا توأمين، فاقتَتَلا في بطن أمهما ؛ فأراد يعقوبُ أن يخرجَ فمنعه عيصٌ وقال : واللهِ لإن خرجت قبلي لأعترضنَّ في بطن أمي فأقتُلها، فتأخَّر يعقوب وخرج عيص وأخَذ يعقوبَ بعقبهِ فخرج بعده فسمي يعقوب ؛ فلذلك سُمي عيصاً لَمَّا عصيَ فخرجَ قبل يعقوب وكان عيصُ أحبهما إلى أبيهِ ؛ وكان يعقوب أحبَّهما إلى أُمه ؛ وكان عيص صاحبَ صيدٍ ؛ فلما كَبَرَ إسحق وعميَ قال لعيصُ : يا بنيَّ أطعمني لحمَ صيدٍ واقترب مني حتى أدعو لك بدعاءٍ دعا لي به أبي إبراهيمُ عليه السلام وكان عيصُ رجلاً أشعرَ ؛ وكان يعقوبُ أجرد، فخرج عيصُ وطلب الصيدَ، فقالت أُمه ليعقوب : يا بُنَيَّ إذهب إلى الغنمِ فاذبح شاةً منها ثُم اشْوِهَا والبس جِلدها وقدِّمها إلى أبيك، وقل أنا ابنُكَ عيص، ففعل ذلك يعقوبُ، فلما جاءَ قال : يا أبتاهُ، كُلْ. قال : من أنتَ ؟ قال : ابنك عيصُ. فمسَّهُ فقال : المسُّ مسُّ عيصِ والريح ريحُ يعقوب، فقالت أُمه : هو ابنك عيص فادعُ له. قال : قدِّم طعامَك. فقدمهُ فأكل منه، ثم قال : ادْنُ مني، فدنَى منهُ فدعا له أن يجعلَ اللهُ في ذرِّيته الأنبياءَ والملوك. وذهب يعقوبُ فجاء عيص، فقال : قد جئتُك بالصيد الذي أردتَه، قال : يا بني قد سبقكَ أخوك يعقوبُ، فغضبَ وقال : والله لأقتلنَّه. فقال إسحقُ : يا بني قد بقيت لك دعوةٌ فهلمَّ أدعو لك بها، فدعا أن تكونَ ذريته عددَ التراب ؛ وأن لا يَملكَهُم أحدٌ غيرهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي احفَظُوا واشكُروا. قال الحسنُ :(ذِكْرُ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا). قال رسولُ الله ﷺ :" الْمُتَحَدِّثُ بنِعَمِ اللهِ شَاكِرٌ، وَتَاركُهَا كَافِرٌ " وقولهُ تعالى :﴿ نِعْمَتِيَ ﴾ أراد نِعَمِي ؛ لفظُها واحدٌ ومعناها جمعٌ ؛ نظيرها قوله تعالى :﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾[إبراهيم : ٣٤]. والعددُ لا يقع على الواحد.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ أي على أجدادكم وأسلافِكم ؛ وذلك أن الله تعالى فَلَقَ لهم البحر فأنجاهم من فرعون وأهلكَ عدوَّهم وأورثهم ديارَهم وأموالهم وظلَّل عليهم الغمامَ في التيه تقيهم حرَّ الشمس، وجعل لهم عموداً من نورٍ يضيء لهم بالليل ؛ إذا لم يكن ضوءُ القمرِ، وأنزل عليهم المنَّ والسلْوَى، وفَجَّر لهم اثني عشر عيناً ؛ وأنزلَ عليهم التوراةَ بيانُ كلِّ شيء يحتاجون إليه في دِينهم ودُنياهم، فهذه نِعَمٌ من الله كثيرةٌ لا تحصى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي ﴾ ؛ أي الذي عَهِدْتُ إليكم في التوارة، ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾، أي أدخلكم الجنةَ وأُنجز لكم ما وعدتكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ ﴾، يعني القُرْآنَ، ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ ؛ أي مُوافقاً لِما معكم من التَّوراةِ والإنجيل وسائرِ الكُتُب في التَّوحيدِ والنبوَّةِ وبعضِ الشرائعِ. نزلت في كعب بنِ الأشرَفِ وأصحابهِ من عُلماءِ اليهُودِ ورؤسَائِهم. ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ ؛ أي لا تكُونوا أوَّلَ مَن يكفرُ بالقُرْآنِ فيتابعُكم اليهودُ على ذلك.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ؛ وذلك أنَّ علماءَ اليَهُودِ ورؤساءَهم كانت لَهم مآكِلُ يصيبونَها من سَفَلَتِهِمْ وعوامِّهم ؛ يأخذون منهم شيئاً مَعْلُوماً كلَّ عامٍ من زرعِهم وضُروعهم ونُقودِهم ؛ فخافوا أنَّهم إنْ سَمِعُوا مُحَمَّداً ﷺ وتابعوهُ وآمنوا به تفوتُهم تلكَ الْمَآكِلُ والرئاسةُ واختارُوا الدُّنيا على الآخرةِ. والهاءُ في قوله ﴿ كَافِرٍ بِهِ ﴾ عائدةٌ إلى ما أَنزلت على مُحَمَّدٍ ؛ ويجوزُ أن تكون مائدةً إلى قولهِ :﴿ لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ لأنَّهم كَتَمُوا نَعْتَ محمَّدٍ ﷺ وصفتَهُ في التَّوراةِ ؛ فإذا كفَرُوا بالقُرْآنِ فقد كفروا بالتورَاة. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ ؛ أي فَاخْشَوْنِ في أمرِ مُحَمَّدٍ ﷺ ولا ما يفوتُكم من الرئاسةِ والمآكلِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾، قال مقاتلُ :(وَذَلِكَ لأنَّ الْيَهُودَ أقَرُّواْ ببَعْضِ صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَكَتَمُواْ بَعْضَهَا لِيُصَدَّقُواْ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ ﴾ الَّذِي تُقِرُّونَ بهِ وَتُبَيِّنُونَهُ ﴿ بِالْبَاطِلِ ﴾ الَّذِي تَكْتُمُونَهُ. فَالْحَقُّ بَيَانُهُ وَالْبَاطِلُ كِتْمَانُهُ). وَقِيْلَ : معناهُ : لا تكتمُوا الحقَّ بالباطلِ هو إيْمانُهم ببعضِ ما جاء به النبيُّ ﷺ وكفرُهم ببعضهِ. ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾ ؛ يعني نَعْتَ النبيَّ ﷺ وصفتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي تعلَمُون أنه نبيٌّ مرسلٌ ؛ وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ﴾ يحتملُ أن يكون تكتُمُوا جزماً على النهي. ويحتملُ أن يكون نَصْباً على معنى : وأنْ تَكْتُموا ؛ أي لا تجمَعُوا بين اللَّبس والكتمانِ، فهذا مثلُ : لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إنْ فَعَلْتَ عَظِيْمُوقولهُ :﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ ﴾ أي لا تختَلِطوا، يقالُ : لَبَسْتُ عَلَيْهِ الأمرَ ؛ أي خَلَطْتُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾ ؛ أي حافظوا على الصَّلوات الخمس لِمَوَاقِيْتِهَا بركوعِها وسجودِها، وأدُّوا زكاةَ أموالِكم المفروضة. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ ؛ أي صلُّوا مع المصلِّينَ مُحَمَّدٍ وأصحابه في الجماعاتِ إلى الكعبة ؛ يخاطبُ اليهود فعبَّر بالركوع عن الصلاةِ، إذ كان رُكناً من أركانِها ؛ كما عبَّر باليد عن الجسَد في قوله :﴿ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾[الحج : ١٠] وبالعنُقِ عن النَّفس كقولهِ تَعالى :﴿ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾[الإسراء : ١٣]. والفائدةُ في تكرار ذكرِ الصلاة لئلا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أن الصلاةَ لا تجبُ إلا على من تجبُ عليه الزكاة، وقيل : إن اليهودَ كانوا يصلُّون بغير ركوعٍ فأَمر بالركوعِ في الصلاة.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ﴾ ؛ خطابٌ لعلماء اليهودِ، كانوا يُخبرون مشركي العرب قبل بعثِ النبي ﷺ : بأنَّ رسولاً سيظهرُ يدعو إلى الحق فاتبعوه وأجيبُوا دعوته. فلما بُعث النبيُّ ﷺ ؛ حسَدُوه وكفروا به ؛ فأنزلَ الله هذه الآية مذكِّراً لهم ما كان منهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي تتركون أنفسكم فلا تَتَّبعُونَهُ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾، يعني التوراةَ وما فيه، وتعلمون ما فيها من وجوب اتباعه، ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، أنَّ ذلكم حُجَّةٌ عليكم وأنه نبيٌّ حقٌّ فتصدقونَهُ وتتبعونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاوةِ ﴾ ؛ أي استعينوا على ما استقبَلَكم من أنواع البلايا. وقيلَ : على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض ؛ وبالصلاة على تَمحيصِ الذنوب. وقيل : استعينوا بالصَّبر والصلاة على ما يَذْهَبُ منكم من الرئاسة والْمَأْكَلَةِ باتِّباع مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهدُ :(الصَّبْرُ فِي هَذِهِ الآيَةِ الصَّوْمُ). وقيل :(الواو) هنا بمعنى (على) ؛ تقديره : استعينوا فيما يَنُوبُكُمْ بالصبر على الصلاة ؛ كقولهِ تعالى :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾[طه : ١٣٢].
وروي أن ابنَ عباس نُعِيَتْ إلَيْهِ بنْتٌ لَهُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ ؛ فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ :(عَوْرَةٌ سَتَرَهَا اللهُ ؛ وَمُؤْنَةٌ كَفَاهَا اللهٌ ؛ وَأجْرٌ سَاقَهُ اللهٌ). ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ :(صَنَعْنَا مَا أمَرَنَا اللهُ بهِ : وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).
وأصلُ الصَّبْرِ هُوَ الْحَبْسُ، يقال : قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً ؛ إذا حُبس حيّاً حتى ماتَ، وقيل : الصَّبْرُ هو الصومُ ؛ ويسمَّى شهر رمضان شهر الصَّبر، وسُمي الصوم صبراً ؛ لأن صاحبه يحبسُ نفسه عن الطعام والشراب.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين ﴾ ؛ يحتملُ أنَّ لها كنايةٌ عن الصلاة ؛ لأنَّها أشرفُ الطاعات، ويحتمل أن تكون عن الاستعانةِ، ويحتمل أن يكون المرادُ بها الصبر والصلاةُ جميعاً، كما قال الله تعالى :﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾[التوبة : ٦٢] فاكتفى بذكرِ أحدهما دلالةً على الآخرِ. ونظيرُ القول الأول قَوْلُهُ تعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ﴾[التوبة : ٣٤] ردَّ الكنايةَ إلى الفضة لأنَّها أغلبُ وأعم. وقال تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ﴾[الجمعة : ١١] ردَّ الكنايةَ إلى التجارة لأنَّها الأهم والأفضلُ. وقال الأخفشُ :(رَدَّ الْكِنَايَةَ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ أرَادَ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْهُمَا الْكَبيْرَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾[الكهف : ٣٣] يَعْنِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾[المؤمنون : ٥٠] وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ ؛ أرَادَ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آيَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾ أي ثقيلةٌ شديدةٌ إلا على الخاشعين ؛ أي المؤمنين. وقيلَ : إلا العابدين المطيعين. وقيلَ : الخائفين. وقيل : المتواضعين. وقال الزجَّاجُ :(الْخَاشِعُ الَّذِي يُرَى أثَرُ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ عَلَيْهِ ؛ وَيُقَالُ : خَشَعَ ؛ إذَا رَمَى ببَصَرِهِ إلَى الأَرْضِ، وَأخْشَعَ إذَا طَأْطَأَ رَأسَهُ لِلسُّجُودِ). والخشوعُ والخضوعُ نظيران ؛ إلا أن الخضوعَ يكون بالبدن والخشوعَ بالبصر والصوتِ والقلب كما قالَ تعالى :﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾[القلم : ٤٣]﴿ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ ﴾[طه : ١٠٨]﴿ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ﴾[الحديد : ١٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُواْ رَبِّهِمْ ﴾ ؛ أي الذين يعلمونَ ويستيقنون ؛ لأنَّهم لو كانوا شاكِّين لكانوا كافرين. ومثلهُ :﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة : ٢٠] أي أيقنتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ ؛ فيجزيهم بأعمالهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي عالَمَي زمانكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً ﴾ ؛ معناه : واخْشَوا يوماً ؛ أي عذابَ يومٍ، ﴿ لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ ؛ أي لا تكفي ولا تُغني. وفيه إضمارٌ ؛ تقديره : واتَّقوا يوماً لا تَجزي فيه نفسٌ عن نفسٍ شيئاً من الشدائدِ والْمَكَارهِ. وقيل : معناهُ : لا تُغني نفسٌ مؤمنة ولا كافرةٌ عن نفسٍ كافرة شيئاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ ؛ لأنَّها كافرةٌ، وكانت اليهودُ تزعم أنَّ آباءَهم الأنبياءُ ؛ كإبراهيم وإسحق ويعقوب يشفعون لَهم ؛ فآيَسَهم اللهُ تعالى بهذه الآية. وقرأ أهلُ مكة والبصرة (تُقْبَلُ) بتاء التأنيث (الشَّفَاعَةُ). وقرأ الباقون بالياء بتقديمِ الفعل ؛ أو لأنَّ تأنيثَه غيرُ حقيقي. وقرأ قتادةُ :(لاَ يَقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةَ) بياء مفتوحةٍ، ونصبَ الـ(شَّفَاعَةَ) يعني لا يقبلُ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ ؛ أي فداءٌ كما كانوا يأخذون في الدُّنيا. وسُمِّيَ الفداءُ عَدْلاً ؛ لأنه يساوي المفدى ويُماثله، قال اللهُ تعالى :﴿ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً ﴾[المائدة : ٩٥] والفرقُ بين العِدل والعَدل : أن العِدل بكسر العين : مثلُ الشيء من جنسه، وبفتحها بَدَلُهُ ؛ قد يكون من جنسه أو من غيرِ جنسه، مثل قوله :﴿ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً ﴾[المائدة : ٩٥]. وقولهِ ﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ ؛ أي لا يُمنعون من عذاب الله.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ ؛ يعني نَجَّيْنَا أسلافَكم ؛ وإنَّما عدَّها مِنَّة عليهم ؛ لأنَّهم نجوا بنجاتِهم. وقرأ إبراهيمُ النخعي :(نَجَيْتُكُمْ) على التوحيد. و (آلِ فِرْعَوْنَ) أشياعُه وأتباعُه وأسرته وعشيرته وأهلُ بيته. وفرعون هو الوليدُ بن مصعبٍ، وكان من العماليق ؛ جمع عِمْلاَقٍ، وهي قبيلةٌ.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ أي يُكلِّفونَكم ويُذيقُونَكم أشدَّ العذاب وأسوأهُ ؛ وذلك أن فرعونَ جعل بني إسرائيل خَدَماً وخَوَلاً. فصنفٌ يبنونَ ؛ وصنف يحرثون ويزرعون ؛ وصنفٌ يخدمونَهُ، ومن لم يكن منهم في عملٍ من هذه الأعمال فعليه الجزيةُ، فذلك سوء العذاب. وقيل : إنَّهم كُلِّفُوا الأعمالَ القذرة.
وقيلَ : تفسيرهُ ما بعده :﴿ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ﴾ ؛ وقرأ ابنُ محيص :(يَذْبَحُونَ) بالتخفيف. ومن قرأ بالتشديد فعلى التكثيرِ ؛ وذلك أن فرعونَ رأى في منامه ناراً أقبلَتْ من بيتِ المقدس فأحرقت مصرَ وأحرقت القِبْطَ وترَكت بني إسرائيلَ : فسأل الكَهَنَةَ، فقالوا : يُولَدُ في بني إسرائيلَ غلامٌ ؛ يكون هلاكُكَ على يديه. فأمر فرعونُ بقتلِ كلِّ غلام يولدُ في بني إسرائيل ؛ وتركِ كل أُنثى ؛ ففعلوا ذلك. وأسرعَ الموت في مشيخة بني إسرائيل ؛ فقال القِبْطُ لفرعون : إن الموتَ وَقَعَ في مَشْيَخَةِ بني إسرائيل وأنت تذبحُ صغارَهم فيوشِكُ أن يقعَ العملُ علينا ؛ فأُمروا أن يذبَحوا سنةً ويتركوا سنةً ؛ فوُلِدَ هارون في السنةِ التي لا يذبحون فيها ؛ فَتُرِكَ. وولد موسى في السنة التي يذبَحون فيها.
قوله :﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ﴾ أي يتركوهنَّ أحياءً فلا يذبحوهن بل يستخدموهُن. وقيل : معناه يستحيون من الْحَيَاءِ الذي هو الرَّحم ؛ فإن القومَ كانوا ينظرون إلى فروجِ نساء بني إسرائيل فيعلَمُوا هل هنَّ حُبَّلٌ أم لا!!
قولهُ :﴿ وَفِي ذَالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ ؛ يعني في سَومِهم إياكم سوء العذاب محنةٌ وفتنة عظيمةٌ. وقيل : معناه : وفي إنجاء آبائِكم منهم نعمةٌ عظيمة. والبلاءُ ينصرف على وجهين : النعمةُ والْمِحْنَةُ. قالَ الله تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾[الأنبياء : ٣٥].
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ ﴾، وذلك أنه لَمَّا دنا هلاكُ فرعون أمرَ الله موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصرَ ؛ فأمرَ موسى قومَه أن يُسْرِجُوا في بيوتِهم إلى الصُّبح. وألقى اللهُ على القِبْطِ الموتَ ؛ فاشتغلوا بدفنهم، وخرجَ موسى في ستمائة ألفٍ وعشرين ألفاً سوَى الذُّرية. وكان موسى على ساقَتِهم وهارون على مقدِّمتهم، فخرجَ فرعون على طلبهم وعلى مقدمته هامانُ في ألفِ ألفٍ وسبعمائة ألف، وسارَ بنو إسرائيل حتى وصلُوا البحرَ والماءُ في غايةِ الزيادة. ونظرُوا فإذا هم بفرعونَ وقومهِ وذلك حين أشرقَت الشمسُ. فبقوا متحيِّرين ؛ قالوا : يا موسَى كيف نصنعُ ؛ وما الحيلةُ وفرعون خلفَنا والبحرُ أمامنا ؟ فقال موسى :(كَلاَّ ؛ إنَّ مَعِي رَبِي سَيَهْدِينِي). فأوحَى اللهُ إليه :﴿ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ﴾[الشعراء : ٦٣] فضربهُ فلم يَنْفَلِقْ. فأوحَى الله إليه : أنْ كَنِّهِ ؛ فضربهُ بعصاه وقال : انْفَلِقْ أبَا خالدٍ بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ.﴿ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾[الشعراء : ٦٣]. وظهرَ فيه اثنا عشر طريقاً ؛ لكل سِبْطٍ طريقٌ، وأرسلَ الله الريحَ والشمس على قعرِ البحر فصار يَبَساً ؛ فخاضَت بنو إسرائيل البحرَ كل سِبْطٍ في طريق، وعن جانبيه الماءُ كالجبل الضَّخم لا يرى بعضهم بعضاً، فخافُوا! وقال كلُّ سبطٍ : قد قُتِلَ إخواننا، فأوحَى الله إلى جبالِ الماء : تشبَّكي فصارَ الماءُ شَبَكَاتٍ يَرى بعضهم بعضاً ويسمعُ كلامَ بعض ؛ حتى عبَروا البحرَ سالمين. فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ أي فلقناهُ وصيَّرنَا الماءَ يَميناً وشمالاً. وقوله :﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ ﴾ أي من الغرقِ ومن آل فرعون.
وقولهُ :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ ؛ وذلك أنَّ فرعون لَمَّا وصل إلى البحرِ ورآه منفلقاً. قال لقومهِ : أنظروا إلى البحرِ انفلقَ من هيبَتي حتى أُدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقُوا فأقتُلَهم ؛ ادخلوا البحرَ. فهابَ قومهُ أن يدخلوه ؛ ولم يكن في خَيْلِ فرعون أُنثى، فجاء جبريل على فرسٍ أُنثى ودنَا فتقدَّمهم وخاض البحرَ، فلما شَمَّت خيولُ فرعون ريحها اقتحمت البحرَ في أثَرِها حتى خاضوا كلّهم البحر، وجاء ميكائيلُ على فرسٍ خلفَ القوم يحثُّهم ويقول لهم : إلْحَقُوا بأصحابكم، حتى إذا خرجَ جبريل من البحرِ وَهَمَّ أوَّلُهم أن يخرجَ. أمرَ الله البحر أن يأخذهم ؛ فالتطمَ عليهم ؛ فغرِقوا جميعاً وذلك بمرأى من بني إسرائيل، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾ ﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ ؛ إلى مصارعهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ ؛ وذلك أن بني إسرائيلَ لَمَّا أمِنُوا عدوَّهم ودخلوا مصرَ لَم يكن لهم كتابٌ ولا شريعةٌ ينتهون إليها، فوعدَ اللهُ موسى أن يُنَزِّلَ عليهم التوراةَ ؛ فقال موسى لقومهِ : إنِّي ذاهبٌ لِميقات ربي ؛ فآتيكم بكتابٍ فيه بيانُ ما تأتون وما تَذَرُونَ. وواعدهم ثلاثين ليلةً من ذي القعدة وعشراً من ذي الحجةِ ؛ واستخلفَ عليهم أخاه هارون. فلما أتى الوعدُ جاءَ جبريل عليه السلام على فرسٍ يقال له فرسُ الحياة ؛ لا يصيبُ شيئاً إلا حَيَى به، فلما رأى السامريُّ جبريلَ عليه السلام على ذلك الفرسِ ؛ قالَ : إنَّ لِهذا شأناً ؛ وكان رجُلاً منافقاً، قد أظهرَ الإسلام فأخذ قبضةً من تربةِ حافر فرسِ جبريل، وكان بنو إسرائيل قد استعارُوا حُلِياً كثيرةً من قوم فرعون حين أرادوا الخروجَ من مصرَ بعلَّة عُرْسٍ ؛ فأهلكَ الله قومَ فرعون وبقيت تلك الحُلِيُّ في أيدي بني إسرائيل. فلما لَمْ يرجِعْ موسى، قال السامريُّّ لبني إسرائيل : إن الأمتعةَ والحليَّ التي استعرتُموها من قوم فرعون غنيمةٌ لا تحلُّ لكم فاحفروا حفيرةً فادفنوها فيها حتى يرجعَ موسى. ففعلوا ذلك. فلما اجتمعت الحليُّ صاغَها السامري وكان رجُلاً صائغاً، وجعل عليها القبضةَ التي أخذها من أثرِ حافر فرسِ جبريل ؛ فأخرجَ عِجلاً من ذهبٍ فَخَارَ ؛ فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ﴾[الأعراف : ١٤٨]. فعبدوهُ من دون الله.
قال السدي :(كَانَ يَخُورُ والسامريُّ يَقُولُ : هَذَا إلَهُكُمْ وإلَهُ مُوسَى (فَنَسِيَهُ) أيْ تَرَكَهُ هَا هُنَا وَخَرَجَ بطَلَبهِ). فلما رأوا العجلَ وسمعوا قولَ السامري افتُتِنَ بالعجل ثَمانية آلافِ منهم فعبدوهُ من دون الله.
وقال بعضُهم : معنى الآية : واذكروا إذ أخبرَ الله موسى أن يؤتيه الألواحَ فيها التوراة على رأسِ ثلاثين يوماً من ذي القعدة، وأمرهُ أن يصومَها ؛ فوجد مِنْ فِيْهِ خَلُوفاً ؛ أي تغيُّر رائحة، فاستاكَ، فأمرهُ الله أن يصومَ عشرةً أخرى من أول ذي الحجة ؛ كما قال تعالى في موضعٍ آخر :﴿ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾[الأعراف : ١٤٢]. فقال السامريُّ في الأيامِ العشرة لبني إسرائيل : قد تَمَّتْ الثلاثون ولم يرجع موسى وإنكم قد استعرتُم من نساءِ آل فرعون حليَّهم حين سارَ بكم من مصر ؛ فلما لم تردُّوا عليهنَّ حليَّهن لَم يردّ الله علينا موسى، فهاتوا ما معكُم من الحليِّ حتى نُحْرِقَهُ ؛ فلعلَّ الله أن يردَّ علينا موسى، فجمعوا الحليَّ وكان السامريُّ صائغاً فاتخذ من ذلك عِجلاً، فصارَ العجلُ جسداً له خُوَارٌ، فعبدوهُ فذلكَ قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾.
قال ابنُ عباس :(فَصَارَ عِجْلاً لَهُ لَحْمٌ وَدَمٌ وَشَعْرٌ). وقيل : جعل فيه خُروقاً فكان الريحُ تقع في تلك الخروقِ فيسمع منها مثل الخوار. فأوهمَهم أن ذلك الصوت خواره. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي من بعد انطلاقِ موسى إلى الجبل، ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي ضارُّون لأنفسكم بالمعصيةِ ؛ واضعون العبادةَ في غيرِ موضعها.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ ؛ أي تركنَاكم فلم نَسْتَأْصِلْكُمْ ؛ مِن قوله عليه السلام :[إعْفُواْ اللِّحَى]. وقيل : مَحَوْنَا ذنوبكم من قول العرب : عَفَتِ الرياحُ الْمَنْزلَ فَعَفَا. وقولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ ؛ أي مِن بعدِ عبادتِكم العجلَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ أي لكي تشكُروا عَفْوِي عنكم وصَنِيْعِي إليكم.
واختلفَ العلماء في ماهية الشُّكر ؛ فقال ابنُ عباس :(هُوَ الطَّاعَةُ بِجَمِيْعِ الْجَوَارحِ لِرَب الْخَلاَئِقِ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ). وقال الحسنُ :(شُكْرُ النِّعْمَةِ ذِكْرُهَا). وقال الفضيل :(شُكْرُ كُلِّ نِعْمَةٍ أنْ لاَ يُعْصَى اللهُ تَعَالَى بَعْدَهَا). وقال أبو بكرٍ الرازي :(حَقِيْقَةُ الشُّكْرِ مَعْرِفَةُ الْمُنْعِمِ ؛ وَأنْ لاَ تَعْرِفَ لِنَفْسِكَ فِي النِّعْمَةِ حَظّاً ؛ بَلْ تَرَاهَا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ). قالَ الله :﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾[النحل : ٥٣]. ويدل عليه قوله ﷺ :" قَالَ مُوسَى : يَا رَب كَيْفَ آدَمُ أنْ يُؤَدِّي شُكْرَ مَا أجْرَيْتِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ ؟ خَلَقْتَهُ بيَدِكَ ؛ وأسْجَدْتَ لَهُ مَلاَئِكَتَكَ ؛ وَأسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ. فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ : أنَّ آدَمَ عَلِمَ أنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنِّي وَمِنْ عِنْدِي ؛ فَذَلِكَ شُكْرُهُ ".
وقال الجنيدُ : حقيقةُ الشكر العجزُ عن الشكر. وقال بعضهم : الشكرُ أن لا ترى النعمةَ البتة ؛ بل ترى المنعمَ. وقال أبو عثمان الْحَيِّرِي : صدقُ الشكر أن لا تَمدح بلسانك غير المنعمِ. وروي عن الشِّبل أنه قالَ : الشكر التواضعُ تحتويه المنَّة. وقيل : الشكرُ خمسة أشياءِ : مجانبةُ السيئات ؛ والمحافظةُ على الحسناتِ ؛ ومخالفة الشهوات ؛ وبذلُ الطاعات ؛ ومراقبة رب السموات.
وسُئل أبو الحسن علي بن عبدالرحيم : مَن أشكرُ الشاكرين ؟ فقال : الطاهرُ من الذنوب يعدُّ نفسه من المذنبين ؛ والمجتهدُ بعد أداءِ الفرائض يعدُّ نفسه من المقصِّرين ؛ والراضي من الدنيا بالقليلِ يعدُّ نفسه من الراغبين ؛ والقاطعُ بذكر الله دهرَهُ يعدُّ نفسه من الغافلينَ ؛ هذا أشكرُ الشاكرين.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ قال مجاهد والفرَّاء :(هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ يَعْنِي التَّوْرَاةَ ؛ وَمَا يُفَرَّقُ بهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ). وقد سَمَّى الله تعالى التوراة فرقاناً في موضعٍ آخر وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً ﴾[الأنبياء : ٤٨]، وسَمَّى اللهُ النُّصرة يوم بدرٍ على الكفار فُرقاناً كما قال :﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ ﴾[الأنفال : ٤١] أراد بد يوم بدرٍ ؛ وإنَّما عطفَ الشيء على نفسه وكرَّره ؛ لأن العرب تكرِّر الشيء إذا اختلفَ ألفاظه، قال عنترةُ : حُيِّيْتُ مِنْ ظُلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ أقْوَى وَأقْفَرَ بَعْدَ أَمِّ الْهَيْثمِوقال الكسائيُّ : الفرقانُ : بعثُ الكتاب ؛ يريد :﴿ وَإذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانُ ﴾. والفرقانُ : فرقٌ بين الحلالِ والحرامِ ؛ والكفرِ والإيمان ؛ والوعْدِ والوعيد ؛ فزيدت الواوُ فيه كما تزادُ في النعوت ؛ من قولهم : فلانٌ حسنٌ وطويلٌ. ودليلُ هذا التأويلِ :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾[الأنعام : ١٥٤]. وقال قطربُ :(أرَادَ بالْفُرْقَانِ : الْقُرْآنَ).
وفي الآيةِ إضمارٌ معناهُ : وإذا آتينا موسى الكتاب ومُحَمَّداً الفرقانَ. قوله تعالى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ أي بهذين الكتابين، وقال بعضُهم : أراد بالفرقانِ انفراق البحرِ وهو من عظيمِ الآيات، يدلُّ عليه قوله تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾[البقرة : ٥٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ ؛ يعني الذين عَبدوا العجلَ :﴿ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي أضررتُم أنفسكم، ﴿ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾ ؛ إلَهاً. فقالوا : فإيشُ نصنع، وما الحيلةُ ؟ فقال :﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ ؛ أي فارجعوا إلى خالقكم. وكان أبو عمرٍو يختلسُ الهمزة إلى الجزمِ في قوله :(بَاريكُمْ، وَيَأْمُرْكُمْ، ويُشْعِرْكُمْ، وَيَنْصُرْكُمْ) طلباً للخفَّة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي يقتلُ البريءُ المجرمَ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ﴾ ؛ يعني القتلَ : قال ابنُ عباس :(أبَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أنْ يَقْبَلَ تَوْبَةَ بَنِي إسْرَائِيْلَ إلاَّ بالْحَالِ الَّذِي كَرِهُواْ أنْ يُقَاتِلُوهُمْ حِيْنَ عَبَدُواْ الْعِجْلَ). وقال قتادة :(جَعَلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ الْقَتْلَ ؛ لأنَّهُمْ ارْتَدُّواْ. وَالْكُفْرُ يُبيْحُ الدَّمَ). وقرأ قتادة :(فَاقْتَالُواْ أنْفُسَكُمْ) من الإقالةِ ؛ أي استقيلوا العثرة بالتوبة. فلما أمرهم موسى بالقتلِ قالوا : نصبرُ لأمر الله تعالى، فجلسوا بالأفنيةِ محسَّبين وأصلبَ عليهم القوم الخناجر ؛ فكان الرجلُ يرى ابنه وأخاهُ وأباه وقريبه وصديقه فلا يُمكنهم إلا المضيُّ لأمر الله.
وقيلَ لهم : من حلَّ جيوبَه أو مدَّ طرفه إلى قاتلهِ أو اتَّقى بيده أو رجلهِ فهو ملعونٌ مردودة توبتَه ؛ فكانوا يقتلونَهم إلى المساءِ. فلما كَثُرَ فيهم القتلُ عاد موسى وهارون وبَكَيَا وتضرَّعا وقالا : يا رب هلكت بنُو إسرائيل البقيةَ البقيةَ ؛ فأمرَهم الله تعالى أن يرفعوا السلاحَ عنهم ويكفُّوا عن القتلِ وقد قتل منهم ألوفٌ كثيرة فاشتدَّ ذلك على موسَى، فأوحى الله تعالى إليه أمَا يُرضيك أن أُدْخِلَ القاتلَ والمقتول الجنةَ ؛ فكان مَن قُتل منهم شهيداً ومَن بقي منهم كَفَّرَ عنهُ ذنوبَهُ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي ففعلتم ما أمرَكُم به فتابَ عليكم ؛ أي فتجاوَزَ عنكم، ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾.
وفي بعض التفاسير : أن موسَى عليه السلام قال لهم بعدما رجعَ من الجبل وأعطاهُ الله التوراة : أنكُم ظلمتم أنفسَكُمِ بعبادتِكم العجلَ فتوبوا إلى بارئِكم فاقتلوا أنفسَكم ؛ أي ليقتلَ الذين لم يعبدُوا العجلَ الذين عبدوا العجل. فقالوا : يا موسَى نحنُ نفعل ذلك، فأخذ عليهم المواثيقَ ليصبرنَّ على القتلِ، فأصبَحوا بأفنيةِ البيوت كل بَنِي أبٍ على حِدَةٍ فأتاهم هارونُ والاثنا عشر ألفاً الذين لم يعبدُوا العجلَ بالسيوفِ، فقال لهم هارونُ : هؤلاء إخوانُكم قد أتوكم شاهرينَ السيوف فاتَّقوا الله واصبروا، فلعنَ اللهُ رجلاً حلَّ جنوته أو قامَ من مجلسه أو مدَّ طرفَهُ إليهم أو اتَّقَاهُمْ بيده أو رجلهِ. فقالوا : آمينَ. فجعلوا يقتلونَهم إلى المساء.
وقام موسَى يدعو ربَّهُ لَمَّا شُقَّ عليه من كثرةِ الدماء. فنَزلت التوراةُ، وقيل له : ارفع السيفَ، فإنِّي قد قبلتُ توبتهم جميعاً من قُتِلَ منهم ومن لم يُقتل، وجعلت ذلك القتلَ لهم شهادةً وغفرتُ لمن بقي منهم. فكان القتلى سبعينَ ألفاً والقاتلون اثنا عشر ألفاً. وكان السببُ في امتحانِهم بذلك : أنهُ كان فيهم من عَرَفَ بطلانَ عبادة العجلِ ؛ إلا أنَّهم لم يَنْهَوا الآخرين لخشيةِ وقوع القتلِ فيما بينهم، فابتلاهم اللهُ بما تركُوا النهيَ عن المنكر لأجلهِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ ؛ وذلك أن الله عَزَّ وَجَلَّ أمرَ موسى أن يأتيَهُ في ناسٍ من بني إسرائيلَ ؛ فاختارَ موسى من قومهِ سبعين رجلاً من خيارهم ؛ وقال لهم : صومُوا وتطهَّروا وطهِّروا ثيابكم. ففعلوا ذلك، فخرجَ بهم موسى إلى طور سَيْنَاءَ لميقات ربهِ ؛ فلما بلغُوا هنالك أمرَهم موسى بالْمُكْثِ في أسفلِ الجبل وصعد هو ؛ فقالوا لموسى : أطلُب لنا نسمع كلامَ الله ؛ فوقع على الجبلِ غمام أبيضٌ ؛ فغشاهُ كله.
وكان موسى عليه السلام إذا ناجَى ربه وقعَ على وجهه نورٌ ساطعٌ لا يستطيع أحدٌ من بني آدم أن ينظرَ إليه ؛ فضربَ دونه الحجابُ ؛ ودنَا القوم حتى دخلوا في الغمامِ ؛ وخرُّوا سجَّداً ؛ فسمعوهُ وهو يكلِّم موسى يأمرهُ وينهاه، فأسْمَعهم اللهُ تعالى :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ ﴾[طه : ١٤] أخرجتُكم من مصرَ فاعبدونِي ولا تعبدوا غيري ؛ فلما فَرَغَ موسى وانكشفَ الغمامُ ؛ وأقبلَ إليهم، قالوا :(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) أي لا نصدِّقَ حتى نرى الله عَيَاناً وعلانيةً، ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾ ؛ أي فأخَذتهم الصاعقة ؛ أي نزلت نارٌ من السماء فأحرقتهم جميعاً. ويقال : سَمعوا صوتاً فماتُوا. يقال : صُعِقَ فلانٌ ؛ أي هلكَ، ﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾.
قرأ عمرُ وعثمان وعليٌّ بغير ألف (الصَّعْقَةُ). وقرأ ابنُ عباس :(جَهَرَةً) بفتح الهاء وهما لُغتان. فلبثوا موتَى يوماً وليلة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ؛ وذلك أنَّهم لَمَّا هلَكوا جعل موسى يبكي ويتضرَّع ؛ ويقول : ماذا أقولُ لبني إسرائيل إذ أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارَهم ؛ لو شئت أهلكتَهم من قبلُ وإيَّاي، أتُهلكنا بما فعلَ السفهاء منا، فلم يزل يناشدُ ربَّه حتى أحياهم الله عَزَّ وَجَلَّ جميعاً رجلاً بعد رجلٍ ؛ ينظرُ بعضهم إلى بعض كيف يَحْيَوْنَ.
فإن قيل : كيفَ يقبلُ الله التوبةَ بعد الموتِ قبل البعث في دار الدنيا كالانتباهِ من النوم ؛ لأن اللهَ ردَّهم إلى التكليفِ في الدنيا وأحياهُم ليتوفَّوا بقيةَ آجالهم وأرزاقهم.
قَولُهُ تَعَالَى :﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ﴾ ؛ أي في التيه يقيكم حرَّ الشمس ؛ وذلك أنَّهم كانوا في التَيه ولم يكن لهم كِنٌّ يسترُهم ؛ فشكوا ذلك إلى موسى ؛ فأنزل الله عليهم غماماً أبيض ؛ أي سحاباً رقيقاً ليس بغمام المطر ؛ لكن أرقَّ وأطيب منه ؛ فأظلهم وكان يدلي لهم بالليل عموداً من السماء من نور فيسير معهم بالليل حيث ساروا مكان القمر. فقالوا : هذا الظل قد حصل فأين الطعام ؛ فأنزل الله عليهم المنَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾، الْمَنُّ ؛ قال مجاهد :(هُوَ شَيْءٌ كَالصَّمْغِ كَانَ يَقَعُ عَلَى الأَشْجَار ؛ وَطَعْمُهُ كَالشَّهْدِ). وقال الضحَّاك :(هُوَ الزَّنْجَبيْنُ). وقال وهبُ :(هُوَ الْخُبْزُ الرِّقَاقُ). وقال السديُّ :(عَسَلٌ كَانَ يَقَعُ عَلَى الشَّجَرِ باللَّيْلِ. وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَنُّ كُلَّ لَيْلَةٍ ؛ يَقَعُ عَلَى أشْجَارهِمْ مِثْلُ الثَّلْجِ ؛ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ صَاعٌ كُلَّ لَيْلَةٍ ؛ فَإِنْ أخَذَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ دَوَّدَ وَفَسَدَ. وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَأْخُذُ صَاعَيْنِ كَأَنَّهُ كَانَ لَمْ يَأْتِهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ).
وَقِيْلَ : هو شيء حلوٌ ؛ كان يَسقطُ على الشجر كالشهد المعجونِ بالسَّمن، وكان يأخذ كل واحد منهم كل غداةٍ صاعاً يكفيه يومه وليلته، فإن أخذَ أكثر من ذلك فَسَدَ عليه.
فقالوا : يا موسَى! قَتَلَنَا هذا الْمَنُّ بحلاوتهِ، فادعوا لنا ربك يطعمنا لَحماً، فدعا فأنزلَ عليهم السَّلْوَى : وَهُوَ طَائِرٌ يُشبْهُ السَّمَانِيَّ ؛ كذا قالَ ابنُ عباس. وأكثرُ المفسرين بعثَ اللهُ سحابةً مطرت السمانِيَّ في عرضِ ميل وقدر طولِ رُمح في السماء بعضهم على بعض. وقال المؤرِّجُ :(السَّلوَى هُوَ الْعَسَلُ بِلُغَةِ كِنَانَةَ ؛ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَكْفِيْهِ يَوْماً وَلَيْلَةً، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ يَأْخُذُ مَا يَكْفِيْهِ يَوْمَيْنِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ؛ أي وقلنا لهم : كُلُوا من حلائلِ ما رزقناكم ولا تدَّخروا لغدٍ ؛ فادَّخروا لغدٍ، فقطعَ الله عنهم ذلك، ودوَّدَ وفسدَ ما ادَّخروا. قَالَ رسولُ الله ﷺ :" لَوْلاَ بَنُو إسْرَائِيْلَ لَمْ يَخْبَثِ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَخْنِزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا ".
قوله تعالى :﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ ؛ أي ما ضرُّونا بالمعصية، ﴿ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ ؛ أي يضرُّون باستيجابهم عذابي وقطعِ مادة الرزق الذي كان ينْزل عليهم بلا كلفةٍ ولا مشقَّةٍ في الدنيا ولا حسابٍ ولا تبعة في العقبى وهذا كله في التيهِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ ؛ أي قُلنا لبني إسرائيل بعد انقضاء التَّيْهِ ؛ على لسان يوشَعَ بعد موت موسى وهارون : ادخلوا مدينة أريحا بقرب بيت المقدس ؛ وهي قريةُ الجبَّارين ؛ وكان فيها قومٌ من بقيَّة عَادٍ يقال لهم العمالقةُ. قال الضحَّاك :(هَذِهِ الْقَرْيَةُ يَعْنِي الرَّمْلَةَ وَالأُرْدُنَّ وَفِلَسْطِيْنَ). وقال مجاهدٌ :(بَيْتُ الْمَقْدِسِ). وقال مقاتلٌ :(إيْلِيَّا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ﴾ ؛ أي واسِعاً بلا حساب. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ﴾ ؛ يعني بَاباً من أبواب القرية، وكان لها سبعةُ أبواب، وقال : بابُ مسجدِ بيت المقدس. ﴿ سُجَّداً ﴾ أي ركَّعاً منحنين متواضعين. وقولهُ :﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ ؛ أي قولوا : مسألتنا حِطَّةٌ.
قال ابن عباس :(أُمِرُواْ بالاسْتِغْفَار). وقيل : أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله. وقيل : قولوا إنما قيل لنا حقٌّ. وقال قتادة : وحطَّ عنا خطايانا. وعن ابن عباس أيضاً : قِيْلَ مَعْنَاهُ : قُولُواْ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ لأنَّهَا تَحُطُّ الذُّنُوبَ وَمَا كَانَ يَحُطُّ الذُّنُوبَ فَيَصُحُّ أنْ يُتَرْجَمَ عَنْهُ بحِطَّةٍ. وذلك أنَّهم كانوا قد أذنبوا بإبائِهم دخولَ أريحا، فلما فصلوا عن التيه أحبَّ الله أن يستنقذهم من الخطيئة.
وحطَّةٌ : رفع على الحكاية في قول أبي عبيدة. وقال الزجَّاج :(تَقْدِيْرُهُ : مَسْأَلَتُنَا حِطَّةٌ). ومن قرأ (حِطَّةًً) بالنصب معناه : حِطَّ عنا ذنوبنا حطَّةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾، قرأ أهل المدينة بياءٍ مضمومة ؛ وأهلُُ الشام بتاء مضمومة، والباقون بنون مفتوحة. ﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ إحساناً وثواباً.
قوله عَزَّ وجَلَّ :﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ﴾ ؛ أي خالفوا فقالوا : حَطَّا سمتانا ؛ أي حِنْطَةٌ حَمْرَاءُ بلُغتهم. قالوا هذا القولَ منهم استهزاءً وتبديلاً مكان القول الذي أُمروا به أن يقولوا : حطَّةٌ.
وقال الحسنُ :(أُمِرُواْ أنْ يَقُولُوا : حِطَّةٌ، فَقَالُوا : حِنْطَةٌ. وَأُمِرُواْ أنْ يَدْخُلُواْ الْبَابَ رُكَّعاً فَدَخَلُواْ حَبْواً عَلَى أسْتَاهِهِمْ). وَقِيْلَ : مُنْحَرِفِيْنَ. قَالَ مُجَاهِدٌ :(طُوطِئَ لَهُمُ الْبَابُ لِيَخْفِضُواْ رُؤُوسَهُمْ فَلَمْ يَخْفِضُواْ وَلَمْ يَرْكَعُواْ وَدَخَلُوا زحْفاً). وانتصب (قَوْلاً) على المصدر ؛ أي وقالوا قولاً غير الَّذِي قيل لهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً ﴾ ؛ أي عذاباً، ﴿ مِّنَ السَّمَآءِ ﴾، أرسلَ اللهُ عليهم طَاعُوناً فهلكَ منهم في ساعةٍ واحدة سبعون ألفاً فجأةً. وَقِيْلَ : نزلت بهم نارٌ فأحرقتهم لتبديلِهم ما أُمروا به. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ ؛ أي يعصون ويخالِفُون ما أمرَ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ ؛ أي سأل لهم السُّقيا، وذلك أنَّهم عطشوا في التَّيْهِ فقالوا : يا موسى من أين لنا الشرابُ، وكان قولهم له حال نزولِهم في الأرضِ الْقِفْرِ بعد غرقِ فرعون ؛ فاستسقى لهم موسى، ﴿ فَقُلْنَا ﴾ ؛ أي فأوحَى الله إليه : أنْ ؛ ﴿ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ﴾ ؛ وكانت عصاه من آس الجنَّة طولُها عشرة أذرعٍ على طولِ موسى ؛ ولها شُعبتان تتَّقدان في الظلمةِ نوراً، وكان آدمُ حملها معهُ من الجنَّة إلى الأرضِ فتوارثتها الأنبياء صاغِراً عن كابرٍ حتى وصلَ إلى شعيب فأعطاها موسَى.
وأما الحجرُ الذي أمر موسى بضربه فقد اختلف فيه المفسرون، قال وَهَبُ بنُ مُنَبه : كَانَ مُوسَى يَضْرِبُ لَهُمْ أقْرَبَ حَجَرٍ مِنْ عَرَضِ الْحِجَارَةِ ؛ فَتَفَجَّرَ عُيُوناً لِكُلِّ سَبْطٍ عَيْناً، وَكَانُوا اثْنَى عَشَرَ سَبْطاً، ثُمَّ تَسِيْلُ كُلُّ عَيْنٍ فِي جَدْوَلٍ إلَى السَّبْطِ الَّذِي أُمِرَ أنْ يَسْقِيَهُمْ.
ثم إنَّهم قالوا : إن فقدَ موسى عصاهُ مِتْنَا عطشاً، فأُوحِيَ إليهِ : يا موسى، لا تَقْرَعَنَّ الحجارةَ، ولكن كلِّمها تُطِعْكَ لعلهم يعتبرون. فقالوا : كيفَ بنا إذا أفضينا إلى الأرضِ التي ليس فيها حجارةٌ ؟ فحملَ موسى معَهُ حَجَراً، فحيثما نزلوا ألقاهُ.
وقال آخرون : كان حَجَراً مخصوصاً بعينهِ ؛ والدليلُ على ذلك إدخالٌ الألف واللام عليه وذلك للتعريف ؛ ثم اختلفوا فيه مَا هُوَ ؟ قال ابنُ عباس :(كَانَ حَجَراً خَفِيْفاً مُرَبَّعاً مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَحْمِلُهُ مَعَهُ، فَإِذَا احْتَاجُواْ إلَى الْمَاءِ وَضَعَهُ وَضَرَبَهُ بعَصَاهُ). وروي أنه كان رُخاماً. وقيل : كان حجراً فيه اثنا عشر حفرةً تنبعُ من كل حفرة عينُ ماءٍ عذبٍِ فراتٍ ؛ فإذا اتخذوا حاجتهم من الماء ؛ وأراد موسى حملهُ ضربه بعصاه، فغارَ الماءُ وانقطعَ. وكان يسقي كلَّ يوم ستمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير :(هُوَ الَّذِي وَضَعَ مُوسَى عَلَيْهِ ثَوْبَهُ لِيَغْتَسِلَ حِيْنَ رَمَوْهُ بالأَذرَةِ ؛ فَنَفَرَ الْحَجَرُ بثَوْبهِ وَمَرَّ بهِ عَلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ حَتَّى عَلِمُواْ أنَّهُ لَيْسَ بآدَرٍّ ؛ فَلَمَّا وَقَفَ الْحَجَرُ أتَاهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام ؛ فَقَالَ : يَا مُوسَى إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ : إرْفَعْ هَذَا الْحَجَرَ فَلِي فِيْهِ قُدْرَةٌ وَلَكَ فِيْهِ مُعْجِزَةٌ. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى ذلِكَ فِي قَوْلِهِ :﴿ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ ﴾[الأحزاب : ٦٩] فَحَمَلَهُ مُوسَى وَوَضَعَهُ فِي مِخْلاَتِهِ، وَكَانَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ ضَرَبَهُ بعَصَاهُ).
وقصَّة ذلك الحجر ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :" كَانَ بَنُو إسْرَائِيْلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً ؛ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى سَوْءَةِ بَعْضٍ ؛ وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ. فَقَالُواْ : مَا يَمْنَعُ مُوسَى أنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلاَّ أنَّهُ أدَرّ، فَذَهَبَ يَغْتَسِلُ مَرَّةً ؛ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بثَوْبهِ، فَجَمَحَ مُوسَى بأَثَرِهِ يَقُولُ : ثَوْبي يَا حَجَرُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيْلَ إلَى سَوْءَةِ مُوسَى ؛ فَقَالُواْ : وَاللهِ مَا بمُوسَى مِنْ بَأْسٍ فَقَامَ بَعْدَمَا نَظَرَ بَنُو إسْرَائِيْلَ إلَيْهِ ؛ فَأَخَذَ مُوسَى ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بالْحَجَرِ ضَرْباً ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ ؛ وذلك أنِّهم وَحَمُوا الْمَنَّ والسَّلوى وملُّوهما. قال الحسنُ : كَانُواْ أُنَاساً أهْلَ كُرَاشٍ ؛ كُرَّاثٍ ؛ وَأبْصَالٍ ؛ وَأعْدَاسٍ ؛ فَفَزِعُواْ إلَى عِكْرِهِمْ عِكْرَ السُّوءِ ؛ وَاشْتَاقَتْ طَبَائِعُهُمْ إلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَاتُهُمْ ؛ فقالوا :﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ يعنون به المنَّ والسلوى. وإنما قال :﴿ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾ وهما اثنان ؛ لأن العربَ تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد ؛ وعن الواحد بلفظ الاثنين ؛ كقولهِ تعالى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾[الرحمن : ٢٢] وإنما يخرجُ من الملح دون العَذْب. وقال عبدُالرحمن بن يزيد :(كَانُواْ يَعْجِنُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى لِيَصِيْرَ طَعَاماً وَاحِداً فَيَأْكُلُونَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالىَ :﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا ﴾، قرأ يحيى بن وثَّاب وطلحة بن مصرف :(وَقُثَائِهَا) بضم القاف، وهي لغة تميم. قوله تعالى ﴿ وَفُومِهَا ﴾ ؛ قال ابن عباس :(الْفُومُ : الْخُبْزُ) تَقُولُ الْعَرَبُ : فُومُو لَنَا ؛ أيِ اخْبِزُواْ لَنَا. وَيُقَالُ لِسَائِرِ الْحُبُوب الَّتِي تُخْتَبَزُ : الْفُومُ. يقول الرجلُ لجاريته : فُومي ؛ أي اختبزي. وقال عطاء : هِيَ الْحِنْطَةُ ؛ وهي لغةٌ قديمة. وقال الكلبي : هُوَ الثُّومُ. قال حسَّان : وَأنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُيريد : الثومَ والبصل. والعربُ تعاقب بين الفاء والثاءِ. فتقول للحقيرِ : حدثُ وحدفُ ؛ ودليل هذا التأويل أنَّها في مصحف عبدالله :(وَثُومِهَا) بالثاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ ؛ قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" عَلَيْكُمْ بالْعَدَسِ فَإِنَّهُ مُبَارَكٌ مُقَدَّسٌ ؛ وَإنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ وَيُكْثِرُ الدَّمْعَ، وَإنَّهُ بَارَكَ فِيْهِ سَبْعُونَ نَبيّاً آخِرُهُمْ عِيْسَى عليه السلام " فَقَالَ لَهم موسَى :﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾. وفي مصحف أُبَيّ :(أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أدْنَى) أي أخَسُّ وأرْدَى (بالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) يعني المنَّ والسَّلوى. وقولهُ تعالَى :﴿ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ ؛ معناه إنْ أبَيْتُمْ إلا ذلك فاهبطوا مصراً من الأمصار ؛ ولو أراد مصراً بعينها لم يصرفه كقوله تعالى :﴿ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ ﴾[يوسف : ٩٩]. وقال الضحَّاك :(هِيَ مِصْرُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ). ودليلُ هذا القول قراءةُ الحسن وطلحة :(مِصْرَ) بغيرِ تنوينٍ جعلاَها معرفةً ؛ فاجتمع فيها التعريفُ والتأنيثُ من حيث أراد البقعةَ فلم ينصرف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ﴾ ؛ أي الذلُّ والهوانُ بالجزيةِ، ﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ ؛ أي زيُّ الفقر فتراهم كأَنَّهم فقراء وإن كانوا مياسير. وقيل : فُقرَاءُ القَبَلِ فلا يُرَى في أهلِ الملل أذلَّ ولا أحرصَ على المالِ من اليَهُودِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي رجعوا ؛ وقيل : استحقُّوا، والباء صلةٌ. وقيل : احتمَلُوا واقروا به، ومنهُ الدعاء المأثور :[أبُوءُ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ ؛ وَأبُوءُ بذَنْبي]. وغضبُ الله عليهم : ذَمُّهُ إياهم وتوعُّده لهم في الدنيا، وإنزالُ العقوبة بهم العقبى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ ﴾ ؛ أي ذلك الغضبُ ؛ ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي بصفة مُحَمَّدٍ وآية الرجمِ في التوراة والإنجيل والفُرْقَانِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ أي إنَّ الذين آمَنوا بموسى والتوراةِ ثم لَم يتهَوَّدوا ؛ والذين آمَنُوا بعيسى ولَم يقسِموا بالنصرانيَّة، ﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ﴾، أي والذين تَهودوا وتنصَّروا وتصابأُوا، ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾.
اختلفَ العلماءُ في تسميةِ الذين هادوا بهذا الاسم : فقالوا : بعضُهم سُمُّوا بذلك لأنَّهم هَادُوا ؛ أي تَابُوا من عبادةِ العجلِ، قَوْلُهُ تَعَالَى : إخباراً عنهم :﴿ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ ﴾[الأعراف : ١٥٦] أي تُبْنَا. وقال بعضُهم : لأنَّهم هَادُوا ؛ أي مَالُوا عنِ الإسلام وعن دينِ موسى عليه السلام ؛ يقال : هَادَ يَهُودُ هُوْداً ؛ إذا مالَ.
واختلَفُوا أيضاً في تسميةِ النَّصارى بذلك ؛ قال مقاتلُ :(لأَنَّ أصْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةٌ ؛ كَانَ يَنْزِلُهَا عِيْسَى وَأُمُّهُ ؛ فَنُسِبُوا إلَيْهَا). وقال الزُّهْرِيُّ :(سَمُّوا بذَلِكَ لأَنَّ الْحَوَارِيِّيْنَ قَالُواْ : نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ).
(وَالصَّابييْنَ) قرأ أهلُ المدينةِ بتركِ الهمزة. وقرأ الباقون بالهمزة وهو الأصلُ. يقال : صَبَا يَصْبُوا صَبْواً، إذا مالَ وخرج من دينٍ إلى دين.
واختلفوا في الصابئين من هم ؟ فقال عُمَرُ : هُمْ طَائِفَةٌُ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب ذَبَائِحُهُمْ ذَبَائِحُ أهْلِ الْكِتَاب ؛ وبه قال السديُّ. وقال ابنُ عباس :(لاَ دِيْنَ لَهُمْ ؛ وَلاَ تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ ؛ وَلاَ مُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ). وقال : مجاهدُ :(قَبيْلَةٌ نَحْوَ الشَّامِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ لاَ دِيْنَ لَهُمْ ؛ وَكَانَ لاَ يَرَاهُمْ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب). وقال مقاتلُ وقَتَادةُ :(هُمْ يُقِرُّونَ باللهِ ؛ وَيَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ ؛ وَيَقَرَأُونَ الزَّبُورَ ؛ وَيُصَلُّونَ إلَى الْكَعْبَةِ، أخَذُواْ مِنْ كُلِّ دِيْنٍ شَيْئاً). وقال الكلبيُّ :(هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَحْلِقُونَ أوْسَاطَ رُؤُوسِهِمْ وَيُحَنُّونَ مَذَاكِيْرَهُمْ). وقال عبدُالعزيز بن يحيى :(قَدِ انْقَرَضُواْ فَلاَ عَيْنٌ وَلاَ أثَرُ).
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي على التحقيقِ وعقدِ التصديقِ ؛ وهم الذين آمَنُوا بعيسَى ثم لَمْ يتهوَّدوا ولَم يتنصَّروا ولَم يتصَابأُوا ؛ وانتظَرُوا خروجَ مُحَمَّدٍ ﷺ قبلَ مَبْعَثِهِ. وَقَيْلَ : هم طلابُ الدِّين ؛ منهم حبيبُ النجارُ ؛ وقسُّ بن ساعدةَ ؛ وورقةُ بن نوفلِ ؛ وزيدُ بن عمرِو بن نُفيل ؛ وأبو ذرٍّ الغفاريُّ ؛ وسلمانُ الفارسي ؛ وبَحِيرَا الراهبُ، آمَنوا بالنبيِّ ﷺ قبلَ مَبْعَثِهِ، فمنهم مَن أدركَهُ وتابعَهُ ومنهم من لَم يدركهُ. وَقِيْلَ : هم مؤمِنُو الأمَمِ الماضيةِ. وَقِيْلَ : هم المؤمنونَ مِن هذه الأُمَّة.
قوله :﴿ وَالَّذِينَ هَادُواْ ﴾ أي الذينَ كانوا على دِينِ موسَى ولَم يبدِّلوا ولَم يغيِّروا. ﴿ وَالنَّصَارَى ﴾ الذين كانوا على دِين عيسَى ولَم يبدلِّوا ومَاتُوا على ذلكَ، ﴿ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ مَن ماتَ منهم وهو مؤمنٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾، إنَّما ذكرَهُ بلفظِ الجمع ؛ لأن لفظةَ (مَنْ) تصلحُ للواحدِ ؛ والاثنين ؛ والجمع ؛ والمذكَّر ؛ والمؤنث، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ﴾[محمد : ١٦]﴿ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ ﴾[الأحزاب : ٣١]. قال الفرزدقُ في التَّثنيةِ : تَعَالَ فَإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخُونَنِي نَكُنْ مِثْلُ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِفإن قِيْلَ : ما معنى إعطاءِ أجرِ المؤمن وهو عاملٌ لنفسهِ ؟ قِيْلَ : لَمَّا حملَ على نفسهِ المشقَّةَ وحرمَها شهواتَها ؛ فآجَرَهُ في الآخرة عِوَضاً عما فاتَهُ من اللَّذَّاتِ في الدُّنيا.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ فيما تعاطَوا من الحرامِ، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، على ما اقترَفُوا من الآثامِ، لِما سبقَ لَهم في الإسلامِ. وَقِيْلَ :﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ في الكبائرِ فأنَا أغْفِرُهَا، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على الصغائرِ فإنِّي أُكفِّرُها.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ ؛ أي ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ يا معشرَ اليهودِ ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ وهو الجبلُ بالسِّريانية في قولِ بعضِهم. وقالُوا : ليسَ من لغةٍ في الدُّنيا إلاَّ وهي في القُرْآنِ! وقال الْحُذَّاقُ من العلماءِِ : لا يجوزُ أن يكونَ في الْقُرْآنِ لُغةٌ غيرَ لغةِ العرب ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قال :﴿ قُرْآناً عَرَبِيّاً ﴾[الزمر : ٢٨].
وقال :﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ ﴾[الشعراء : ١٩٥] وإنَّما قَالَ هذا وأشْبَاهَهُ وفَاقاً وقعَ بين اللُّغتين ؛ وقد وجدنَا الطُّور في كلامِ العرب، قال جَرِيرُ : فَإنْ تَرْسِلْ مَا الْجِنُّ نَسَواْ بهَا وَإنْ يَرْسِلْ مَا صَاحِبُ الطُّور يَنْزلُوالمأخوذُ عليهم ميثاقان ؛ الأوَّلُ : حين أخرجَهم من صُلب آدم كالذَّرِّ. والثانِي : الذي أخذَ عليهم في التوراةِ وسائرِ الكتب. والمرادُ في هذه الآية الثانِي ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى أنزلَ التوراةَ فأمرَ موسى قومَهُ بالعملِ بأحكامها فأبَوا أن يقبَلُوا ويعمَلُوا بها للآصَار والأثقالَ التي كانت فيها، وكانت شريعتهُ ثقيلةً فأمرَ الله جبريلَ فقطعَ جَبَلاً على قدر عَسكَرِهم ؛ وكان فَرْسَخاً في فرسخٍ، فرفعهُ فوق رؤوسِهم مقدارَ قامةِ الرَّجُلِ.
عن ابنُ عبَّاس :(أمَرَ اللهُ جَبَلاً مِنْ جِبَالِ فِلَسْطِيْنَ فَانْقَطَعَ مِنْ أصْلِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ مِثْلَ الظُّلَّةِ]. وقال عطاءُ :(رَفَعَ اللهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ الطُّورَ، وَبَعَثَ نَاراً مِنْ قِبَل وُجُوهِهمْ ؛ وَأتَاهُمُ الْبَحْرُ الْمِلْحُ مِنْ خَلْفِهِمْ). وقيلَ لَهم :﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾ ؛ أي اقبَلُوا ما آتيناكم بجِدٍّ ومواظبةٍ في طاعة الله تعالى. وفيه إضمارٌ ؛ أي وقلنا لَهم خُذوا.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ﴾ ؛ أي احفظوهُ واعملوا بما فيه. وَقِيْلَ : معناهُ : واذكرُوا ما فيه مِن الثواب والعقاب. وفي حرفِ أبي بكرٍ :(وَادَّكِرُواْ) بدالٍ مشدَّدة وكسر الكاف. وفي حرفِ عبدِالله. (وَتَذَكَّرُوا مَا فِيْهِ) ومعناهُما اتَّعِظُوا بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ؛ أي لكي تَنجُوا من العذاب في العُقبَى والهلاكِ في الدُّنيا إنْ قَبلْتُمُوهُ وفعلتم ما أُمِرْتُم بهِ ؛ وإلا وَضَحْتُكُمْ بهذا الجبلِ وأغرقتُكم في البحرِ وأحرقتُكم بهذه النار. فلما رَأوا أنْ لا مهربَ منه قَبلُوا ذلك وسَجَدُوا خَوفاً، وجعَلُوا يلاحظونَ الجبلَ وهم سُجودٌ مخافةَ أن يقعَ عليهم ؛ فصارت صِفَةً في اليهودِ لا يسجدونَ إلاَّ على أنصافِ وجُوههم ؛ فلمَّا رأوا الجبلَ قالوا : يا موسَى سَمعنا وأطعنا ولولا الجبلُ ما أطعنَا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾ ؛ أي أعرضتُم وعصَيتم من بعدِ أخذِ الميثاق ورفعِ الجبل، ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾، بتأخيرِ العذاب عنكم، ﴿ لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ ؛ أي لصرتُم مِن المغبونين في العقوبةِ وذهاب الدُّنيا والآخرةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾ ؛ وذلك أنَّهم كانوا في زَمَنِ دَاوُدَ بأرضٍ يقال لَها : إيليةُ على ساحلِ البحر بين المدينة والشَّامِ، وكانت مسكنَ بني إسرائيلَ. وكان اللهُ قد حرَّم عليهم صيدَ السَّمكِ يومَ السبتِ، وكان إذا دخلَ يومُ السبتِ لَم يبقَ حوتٌ إلا اجتمعَ هناك حتى يخرجن خراطيمَهن من الماءِ لأَمْنِهَا في ذلك اليوم. فإذا مضى يومُ السبت تفرَّقن ولَم يخرجن ولَزِمْنَ لُجَّةَ البحرِ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ ﴾[الأعراف : ١٦٣] فعمدَ رجالٌ فحفَرُوا حفيرةً عشيَّةَ الجمُعةِ حيث يدخلُ السمكُ وساقوا إليها الماءَ من البحرِ، فأقبلَ الموجُ بالحيتانِ فحبَسُوا السَّمكَ فيها يومَ السبتِ، وأخذُوا منها ليلةَ الأحدِ ويومَ الأحدِ، وقالوا : نحنُ لا نصطادُ يومَ السبتِ.
وكان في القريةِ نحواً من سبعينَ ألفاً ؛ فصِنْفٌ منهم أمسكَ عن الاصطياد ونَهى ؛ وصنف أمسكَ ولَم ينهَ ؛ وصنفٌ منهم انتَهَوا ؛ وصنفٌ منهم انتهَكُوا الحرمةَ. وكان الذين نَهَوا اثني عشرَ ألفاً ؛ فلما أبَى الْمُجرِمونَ قَبُولَ نُصْحِهِمْ قال النَّاهونَ : واللهِ لا سَاكنَّاكم في قريةٍ واحدة، فقَسَّموا القريةَ بجدارٍ ولَعَنَهُمْ داودُ عليه السلام وغضبَ اللهُ لإصرارهم على المعصية، فخرجَ النَّاهُونَ ذات يومٍ من بابهم، والْمُجرِمُونَ لَم يفتحوا بابَهم ولا خرجَ منهم أحدٌ ؛ فلما أبطأُوا تسوَّروا عليهم الحائطَ فإذا هم جميعاً قردةٌ. فمكثُوا ثلاثةَ أيامٍ ثم هلَكُوا. ولَم يَمكث ممسوخٌ مُسِخَ فوقَ ثلاثةِ أيام، ولَم يتوالَدُوا، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ ؛ أي صَاغِرِيْنَ مَطرُودِين بلغة كِنَانَةَ، قالهُ مجاهدُ وقتادة والربيعُ.
وقال أبو روقِ : يَعْنِي (خُرْسَاً لاَ يَتَكَلَّمُونَ)، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾[المؤمنون : ١٠٨]. وَقِيْلَ : مبعدونَ من كلِّ خيرٍ، رُوي عن ابنِ مسعود :(أنَّهُمْ لَمْ يَلِدُواْ بَعْدَمَا مُسِخُواْ) قال :(وَلِذَلِكَ الْمَمْسُوخُ لاَ يَكُونُ لَهُ نَسْلٌ). وَقِيْلَ : إنَّهم كانُوا رجالاً ونساءً فمسخَهم اللهُ تعالى الذكرَ ذكرٌ والأنثى أنثى ؛ وكانوا يتَعَاوَوْنَ، وكان تسيلُ دموعهم ولَم يأكلوا ولَم يشرَبُوا، ثم أهلكَهم اللهُ تعالى. فجاءت ريحٌ فهبَّت بهم وألقتهم في الماءِ، وما مسخَ الله تعالى أُمَّةً إلا أهلكَها.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً ﴾ ؛ أي القردةَ ؛ وَقِيْلَ : الْمَسْخَةَ ؛ وَقِيْلَ : العقوبةَ ؛ وَقِيْلَ : القريةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَكَالاً ﴾ أي عقوبةً وعِبْرَةً وفضيحةً، ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ﴾ ؛ أي عقوبةً لِمَا مضَى من ذنوبهم وعبرةً لِمَن بعدهم. وقال قتادةُ :(مَعْنَاهُ جَعَلْنَا تِلْكَ الْعُقُوبَةَ جَزَاءً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذُنُوبهِمْ قَبْلَ نَهْيهِمْ عَنْ الصَّيْدِ ؛ وَمَا خَلْفَهَا مِنَ الْعِصْيَانِ بأَخْذِ الْحِيْتَانِ بَعْدَ النَّهْيِ). وَقِيْلَ : لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا من عقوبةِ الآخرة ؛ وما بَعْدَها من فضيحةٍ في دُنياهم، فتُذكَرون بها إلى يومِ القيامة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي عِظَةً وعبرةً للمؤمنين من أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الذين يتَّقُونَ الشِّرك والكبائرَ والفواحشَ، فلا يفعلون مِثْلَ فعلِهم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ ؛ هذه الآيةُ نزلت بعد قولهِ تعالى :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾[البقرة : ٧٢] وإنْ كانت مُقَدَّمَةً في التلاوةِ ؛ لأن قتلَ النفسِ كان قبلَ ذبح البقرةِ.
وَالْقِصَّةُ فيه مَا رُويَ : أنَّ بَنِي إسْرَائِيْلَ قِيْلَ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ : أَيَّمَا قَتِيْلٍ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَلْيُقَسْ إلَى أيِّهمَا أقْرَبُ ؛ ثُمَّ لِيُؤْخَذْ لأَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَلْيَحْلِفْ خَمْسُونَ شَيْخاً مِنْ شُيُوخِهِمْ باللهِ مَا قَتَلُوهُ وَلاَ عَلِمُواْ لَهُ قَاتِلاً. فَقَتَلَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ ابْنَ عَمٍّ لَهُمَا اسْمُهُ عَامِيْلُ لِيَرِثَاهُ ؛ وَكَانَتْ لَهُمَا ابْنَةُ عَمٍّ حَسَنَةٍ، فَخَافَا أنْ يَنْكِحَهَا ؛ فَقَتَلاَهُ لِذَلِكَ وَحَمَلاَهُ إلَى جَانِب قَرْيَةٍ فَأُخِذَ أهْلُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ بهِ فَجَاءُواْ إلَى مُوسَى عليه السلام، وَقَالُواْ : أُدْعُ اللهَ تَعَالَى أنْ يُطْلِعَنَا عَلَى قَاتِلِهِ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ : امُرْهُمْ أنْ يَذْبَحُواْ بَقَرَةً، فَأَمَرَهُمْ بذَلِكَ لِيُضْرَبَ الْمَقْتُولُ ببَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَيَحْيَى فَيُخْبرَهُمْ بمَنْ قَتَلَهُ. فَـ :﴿ قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ﴾ ؛ أي تستهزئُ بنا يا موسَى حين سألناكَ عن القتلِ وتأمرُنا بذبحِ بقرةٍ!! وإنَّما قالوا ذلك لتباعُدِ الأمرين في الظاهرِ ؛ ولَم يَدْرُوا ما الحكمةُ فيه.
وقرأ ابن محيص :(أيَتَّخِذُنَا) بالياء يعنون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. ولا يستبعدُ هذا من جَهْلِهم ؛ لأنَّهم هم الذين قالوا :﴿ اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾[الأعراف : ١٣٨]. وفي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :(هُزُواً) ثلاثُ لغات :(هُزْواً) بالتخفيف والهمزِ ومثله كُفْواً ؛ وهي قراءة الأعمشِ وحمزةَ وخلف. و(هُزُؤاًّ) و(كُفُؤاًّ) مهموزان مثقَّلان، وهي قراءةُ أبي عمرٍو وأهل الحجاز والشام والكسائي. وهُزُوّاً وكُفُوّاً مثقَّلان بغيرِ همز هي قراءةُ حفصٍ عن عاصم، وكلها لغاتٌ صحيحة فصيحةٌ معناها الاستهزاءُ.
فَـ :﴿ قَالَ ﴾ ؛ لَهم موسَى :﴿ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ ؛ أي أمْتَنِعُ باللهِ أنْ أكونَ مِن المستهزئين بالمؤمنين.
فلمَّا عَلِمَ القومُ أن ذبحَ البقرةِ عَزْمٌ من اللهِ، ﴿ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ﴾، أي مَا هذه البقرةُ ؛ كبيرةٌ أم صغيرةٌ ؟ ورُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال :" وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ ؛ لَوْ أنَّهُمْ عَمَدُواْ إلَى أدْنَى بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا لأَجْزَتْ، وَلَكِنْ شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ بالْمَسْأَلَةِ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ " إنَّما كان تشديدُهم تقديراً مِن الله عَزَّ وَجَلَّ وحكمةً منهُ.
وكان السببُ فيه : أن رجُلاً من بني إسرائيلَ كان بَارّاً بأبويهِ، وبلغَ من برِّه أنَّ رجلاً أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفاً، وكان فيها فضلٌ. فقال : إن أبي نائمٌ ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلني حتى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال : فأَيقِظْهُ وأعطني الثمن. قال : ما كنتُ لأفْعَلَ، قال : أزيدُك عشرةَ آلاف إن أيقظتَ أباك وعجَّلت النقدَ. فقال : وأنا أزيدُكَ عشرين ألفاً إنِ انتظرتَ انتباهَ أبي ؛ ففعل ولَم يوقِظِ الرجلُ أباه ؛ فأعقبه الله ببرِّهِ أباهُ أن جعل البقرةَ تلك بعينها عنده.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾ ؛ يعني : عاميل. وهذه الآيةُ أوَّلُ القصَّة ؛ ومعناها : وَاذْكُرُوا إذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّّارَأْتُمْ فِيْهَا ؛ أيِ اخْتَلَفْتُمْ فِيْهَا، كذا قال ابنُ عبَّاس ومجاهد ؛ ومنهُ قولُ النبيِّ ﷺ :" كُنْتَ خَيْرَ شَرِيْكٍ لاَ تُدَاري وَلاَ تُمَاري " وقال الضحَّاك :(فَادَّارَأتُمْ فِيْهَا ؛ أي اخْتَصَمْتُمْ). وقال عبدُالعزيز بن يحيي :(شَكَكْتُمْ). وقال الربيعُ :(تَدَافَعْتُمْ). وأصل الدَّرْئِ الدفعُ. يعني إلقاءَ ذاك على هذا ؛ وهذا على ذاكَ يدافعُ كلُّ واحد عن نفسهِ كقوله :﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾[الرعد : ٢٢]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ ؛ أي مُظْهِرُ ما كَتَمْتُمْ من أمرِ القاتلِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ ؛ أي اضرِبُوا المقتولَ ببعضِ البقرةِ ؛ أي بعُضوٍ منها. واختلفوا في هذا البعضِ ما هو ؟ فقال ابنُ عبَّاس :(الْعُضْوُ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ وَهُوَ الْمَقْتَلُ). وقال الضحَّاك :(بِلِسَانِهَا). وقال سعيدُ بن جبير :(مُعْجَبُ ذَنَبهَا ؛ وهو العُصْعُصُ ؛ لأنَّهُ أسَاسُ الْبَدَنِ الَّذِي رُكِّبَ عَلَيْهِ ؛ وَهُوَ أوَّلُ مَا يُخْلَقُ وَآخِرُ مَا يَبْلَى). وقال مجاهدُ :(بَدَنِهَا). وَقِيْلَ : بفخذِها. وَقِيْلَ : فخذها الأيْمن. وقال السديُّ :(البُضْعَةُ الَّتِي بَيْنَ كَتِفَيْهَا). ففعَلُوا ذلك، فلما ضرَبُوهُ قامَ القتيلُ حيّاً بإذن الله تعالى وأوداجهُ تَشْخُبُ دَماً. فسألوهُ : مَن قتلَكَ فقال : فلانٌ وفلانٌ ؛ لابني عمٍّ له. ثم اضطجعَ ميْتاً. فأُخذا فقُتلاَ. وفي الآية اختصارٌ تقديرهُ :﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾ فضربوهُ فحيَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ ؛ أي كما أحيَى عاميلَ بعد موتهِ كذلك يُحيي اللهُ الموتى. ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾ ؛ أي عجائب قُدرته ودلالتهِ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أي لكي تفهمُوا إحياءَ الموتى وغير ذلك. قال الواقديُّ :(كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾ فَهُوَ بمَعْنَى (لِكَي) غَيْرَ الَّذِي فِي الشُّعْرَاءِ :﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾[الشعراء : ١٢٩] فَإِنَّهُ بمَعْنَى كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ فَلاَ تَمُوتُونَ. والله تعالى كان قادراً على إحيائه بغيرِ هذا السبب ؛ إلا أنَّ الله أمرَهم بذلك ؛ لأن إحياءَ الميتِ بالميتِ آكدُ دليلاً وأبينُ قدرةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾، قال الكلبي : قالوا بَعْدَ ذَلِكَ : لَمْ نَقْتُلْهُ نَحْنُ ؛ وَأَنْكَرُواْ ؛ وَلَمْ يَكُنْ أعْمَى قَلْباً وَلاَ أشَدَّ تَكْذِيْباً مِنْهُمْ لِنَبِيِّهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾.
قال الكلبيُّ :(قَسَتْ ؛ أيْ يَبسَتْ وَفَسَدَتْ). وقال أبو عُبيد :(حَقَدَتْ). وقال الواقديُّ :(جَفَّتْ فَلَمْ تَلِنْ). وَقِيْلَ : اسودَّت. وقال الزجَّاج :(تَأْويْلُ الْقَسْوَةِ ذَهَابُ اللِّيْنِ وَالْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ). وَقِيْلَ : قَسَتْ ؛ أي غَلُظَتْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّن بَعْدِ ذلِكَ ﴾ أي من بعدِ إحياء الميْتِ : وَقِيْلَ : من بعدِ هذه الآيات التي تقدَّمت من مَسْخِ القردة والخنازيرِ ؛ ورفعِ الجبل ؛ وخروجِ الأنْهار من الحجَرِ ؛ وغيرِ ذلك. ﴿ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ﴾ ؛ في عِلَظِهَا وشدَّتِها ويُبسِها ؛ ﴿ أَوْ أَشَدُّ ﴾ ؛ يبساً وغلظاً. ومعنى ﴿ أَوْ أَشَدُّ ﴾ : بل أشدُّ، كقوله :﴿ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾[النحل : ٧٧]. وَقِيْلَ :(أوْ) بمعنى الواو ؛ أي وَأَشَدُّ، ﴿ قَسْوَةً ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ ﴾[النور : ٦١] ومثلُ :﴿ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾[النور : ٣١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾[الإنسان : ٢٤]. وقرأ أبو حَيَوَةَ :(أوْ أشَدَّ قَسَاوَةً).
ثُم عَذَرَ اللهُ الحجارةَ وفضَّلها على القلب القاسي، فأخبرَ أنَّ منها ما يكونُ فيه رطوبةً ؛ وأنَّ منها لَمَا يتردَّى من أعلَى الجبلِ إلى أسفلهِ مخافةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فقَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ﴾، وقرأ مالكَ بن دينارٍ :(نَتَفَجَّرُ) بالنون كقوله﴿ فَانفَجَرَتْ ﴾[البقرة : ٦٠]. وفي مُصحف أُبَيٍّ (مِنْهَا الأَنْهَارُ) ردَّ الكنايةَ إلى الحجارةِ. ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ ﴾، قرأ الأعمشُ :(يَتَشَقَّقُ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ينْزِلُ من أعلى الجبلِ إلى أسفله من خِشْيَةِ الله ؛ وقلوبكم يا معشرَ اليهود لا تلينُ ولا تخشعُ ولا تأتِي بخيرٍ. قِيْلَ : لا يهبطُ من الجبالِ حَجَرٌ بغير سببٍ ظاهرٍ إلا وهو مجعولٌ فيه التمييز. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ وعيدٌ وتَهديدٌ ؛ أي ما اللهُ بتاركٍ عقوبةَ ما تعملون ؛ بل يُجازيكم به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ﴾ ؛ خطابٌ للنبيِّ ﷺ وأصحابه : أفَتَرْجُونَ أيُّها المؤمنون أن تصدِّقَكم اليهودُ فيما آتاكم به نبيكم مُحَمَّدٌ، ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ ﴾ ؛ أي طائفةٌ، ﴿ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ﴾ ؛ يعني التوراةَ، ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ﴾ ؛ أي يغيِّرونه، ﴿ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ ؛ أي مِن بعد فهموهُ وعلِموهُ كما غيَّروا آيةَ الرَّجمِ وصِفَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أيْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُمْ كَاذِبُونَ، هذا قول مجاهدٍ وعكرمة والسديُّ وقتادة.
وقال ابنُ عبَّاس ومقاتلُ والكلبيُّ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي السَّبْعِيْنَ الَّذِيْنَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِمِيْقَاتِ رَبهِ لَمَّا أخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَأحْيَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بدُعَاءِ مُوسَى ؛ حِيْنَ قَالُواْ : يَا مُوسَى أسْمِعْنَا كَلاَمَ اللهِ ؟ فَطَلَبَ ذَلِكَ ؛ فَأَجَابَهُ اللهُ : مُرْهُمْ أنْ يَتَطَهَّرُواْ وَيُطَهِّرُواْ ثِيَابَهُمْ وَيَصُومُواْ ؛ فَفَعَلُواْ، ثُمَّ خَرَجَ بهِمْ مُوسَى حَتَّى أتَواْ الطُّورَ ؛ فَلَمَّا غَشِيَهُمْ الْغَمَامُ سَمِعُواْ صَوْتاً كَصَوْتِ الشَّبُّور ؛ فَسَجَدُواْ، فَسَمِعُواْ كَلاَمَ اللهِ يَقُولُ :(إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَّا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لاَ تَعْبُدُواْ إلَهاً غَيْرِي وَلاَ تُشْرِكُواْ بي شَيْئاً ؛ وَأُوْصِيْكُمْ ببرِّ الْوَالِدَيْنِ ؛ وَأَنْ لاَ تَحْلِفُونِي كَاذِبيْنَ ؛ وَلاَ تَزْنُواْ ؛ وَلاَ تَسْرِقُواْ ؛ وَلاَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ؛ وَلاَ يَشْهَدُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ شَهَادَةَ زُورٍ ؛ وَأَطْعِمُواْ الْمَسَاكِيْنَ ؛ وَصِلُواْ الْقَرَابَةَ ؛ وَلاَ تَظْلِمُواْ الْيَتِيْمَ ؛ وَلاَ تَقْهَرُواْ الضَّعِيْفَ). فَلَمَّا سَمِعُواْ خَرَجَتْ أرْوَاحُهُمْ ثُمَّ رُدَّتْ إلَيْهِمْ : فَقَالُواْ : يَا مُوسَى إنَّا لاَ نُطِيْقُ أنْ نَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي آخِرِ كَلاَمِهِ :(إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَفْعَلُواْ هَذِهِ الأشْيَاءَ فَافْعَلُواْ، وَإنْ شِئْتُمْ فَلاَ تَفْعَلُواْ، وَلاَ بَأْسَ). والمعنى بهذهِ الآية تُقِرُّ بهِ الصحابةُ في أنَّ اليهودَ إنْ كَذَّبُوا النبيَّ فلَهم سابقةٌ في الكُفْرِ والتَّحريفِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ ؛ قرأ ابن السُّمَيْقَعِ (وَإذَا لاَقوُاْ) قِيْلَ : يعني المنافقينَ مِن أهلِ الكتاب في وقتِ موسى ؛ فإنه كان في قومهِ منافقونَ، كما في أُمَّتِنا. وَقِيْلَ : المرادُ به منافِقُو هذه الأُمةِ، وإنَّما ذكرَهم اللهُ تعالى هنا مع اليهودِ ؛ لأن أكثرَهم كانوا منهم من اليهودِ قَبْلَ مبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
معناهُ :﴿ وَإِذَا لَقُواْ ﴾ المنافقون من اليهودِ ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعني أبَا بكرٍ وأصحابه من المؤمنين. قالوا :﴿ آمَنَّا ﴾ كإيْمانكم وشَهِدنا بأن مُحَمَّداً صادقٌ ونجدهُ في كتابنا بنعته وصفتهِ، ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾، أي وإذا خَلَوا إلى رؤسائهم، ﴿ قَالُواْ ﴾ ؛ قال لَهم رؤساؤُهم - كعبُ بن أشرف ؛ وكعب بن أسد ؛ ووهبُ بن يهودا - وغيرُهم - من رؤساءِ اليهود :﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي تخبرونَهم أنَّهم على الحقِّ ليكون لهم الحجَّةَ عليكم عند الله في الدنيا والآخرة إذْ كنتم مُقرِّين بصحة أمرهم ولَم تتَّبعوهم.
وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : أتُحَدِّثُونَهُمْ بمَا قَضَى اللهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابكُمْ أنَّ مُحَمَّداً حَقٌّ وَقَوْلَهُ صِدْقٌ). ومِنْهُ قِيْلَ لِلْقَاضِي : الْفَتَّاحُ. وقال الكسائيُّ : بمَا بَيَّنَهُ اللهُ لَكُمْ. وقال الواقديُّ : بمَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكُمْ ؛ نظيرهُ :﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ ﴾[الأعراف : ٩٦] ؛ أي أنزلنا. وقال أبو عبيد والأخفش :(بمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ وَأَعْطَاكُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ ؛ أي ليخاصموكم ويحتجُّوا بقولِكم عليكم عند ربكم. وقال بعضُهم : هو أن الرجلَ من المسلمين يلقَى قرينَهُ وصديقَهُ من اليهودِ فيسألهُ عن أمرِ مُحَمَّدٍ ﷺ فيقول : إنه حقٌّ وهو نبيٌّ ؛ فيرجعون إلى رؤسائِهم فيلومُونَهم على ذلكَ، وَقِيْلَ : إن كعبَ بن الأشرف وغيرَه من رؤساء الكفار كانوا يقولون لعبدِالله بن أُبَي وأصحابه : إذا أقررتُم بنبوَّةِ هذا النبيِّ وأنَّ ذِكْرَهُ في التوراةِ حقٌّ ؛ تأكَّدت حجتهُ عليكم. وقال مجاهدُ :" إنَّ النَّبيَّ ﷺ سَبَّ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ فَقَالَ لَهُمْ :[يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيْرِ، وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ] فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَنْ أخْبَرَ مُحَمَّداً بهَذَا ؟ مَا سَمِعَهُ إلاَّ مِنْكُمْ ؛ أوْ مَا خَرَجَ إلاَّ مِنْكُمْ! ".
وأصلُ الْفَتْحِ : فَتْحُ الْمُغْلَقِ ؛ ثُم استعملَ في مواضعَ كثيرةٍ من فتح البلدان ؛ وفتحُكَ على القارئِ. وقد يكونُ الفتحُ بمعنى الْحُكْمِ ؛ كما في هذه الآيةِ ومنه قوله :﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا ﴾[الأعراف : ٨٩]. ويسمَّى القَاضي : الفاتِحُ بلغة عُثمانَ. وقد يكون الفتحُ بمعنى النَّصْرِ مثلُ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[البقرة : ٨٩] أي يطلبونَ النُّصْرَةَ عليهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أي أفليسَ لكم ذِهْنُ الإنسانيَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ أي ما يسرُّون من تكذيب النبيِّ ﷺ فيما بينهم ؛ وما يُعْلِنُونَ مع الصَّحابةِ من التصديقِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ﴾ ؛ أي ومن اليهودِ من لا يُحسن القراءةَ ولا الكتابة إلا أن يحدثهم كبارُهم بشيء فيظنُّونه حقّاً ؛ فيصدقونَهم وهو كذبٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾. اختلفوا في معنى الأماني، قال الكلبيُّ : مَعْنَاهُ لاَ يَعْلَمُونَ إلاَّ مَا يحدِّثُهم بهِ عُلَمَاؤُهُمْ. وقال أبو رَوْقٍ :(الْقِرَاءَةُ مِنْ ظَهْرِ الْقَلْب وَلاَ يَقْرَءُونَ فِي الْكُتُب) وَدَلِيْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾[الحج : ٥٢] أيْ إلاَّ إذَا قَرَأ ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَتِهِ. قال الشاعرُ : تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أوَّلَ لَيْلَةٍ وَآخِرَهُ لاَقَى حَمَامَ الْمَقَادِروقال مجاهد :(الأَمَانِيُّ الْكَذِبُ وَالأَبَاطِيْلُ ؛ كقولِ عثمانَ رضي الله عنه :(مَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ) أيْ مَا كَذَبْتُ). وأراد بالأمانِيِّ الأشياءَ التي كتبَها علماؤُهم من عند أنفسِهم ثم أضافُوها إلى اللهِ تعالى من تغييرِ صفةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال الحسنُ :(مَعْنَى : يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَالْْبَاطِلَ مِثْلَ قََوْلِهِ :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾[البقرة : ٨٠] وَقَوْلِهِ :﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾[البقرة : ١١١] وَقَوْلِهِمْ :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾[المائدة : ١٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ ؛ أي مَا هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ ظَنّاً وَتَوَهُّماً لاَ حَقِيْقَةً وَيَقِيْناً، قاله قتادةُ والربيع. وقال مجاهدُ : مَعْنَاهُ :(وَإنْ هُمْ إلاَّ يَكْذِبُونَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ ؛ نزلت هذه الآيةُ في علماءِ اليهود الذين غيَّروا صفةَ النبيِّ ﷺ في التوراةِ فكتبوها : مُحَمَّدٌ سِبْطاً ؛ طويلاً ؛ أزْرَقاً ؛ شبط الشَّعرِ. وكانت صفتهُ في التوراة : حسَنَ الوجهِ ؛ جَعْدَ الشعرِ ؛ أسمرَ ربعة. فبدَّلوا وقالوا : هذا مِن عند اللهِ، وإذا سُئلوا عن صفتهِ قرَأُوا ما كَتَبُوهُ ؛ فيجدونَه مخالفاً لصفتهِ فيكذِّبونه. وإنَّما فعلتِ اليهودُ ذلك ؛ لأنَّهم خافوا ذهابَ مُلكِهم وزوالَ رئاستهم حين قَدِمَ النبيُّ ﷺ المدينةَ ؛ فاحتالوا في تغييرِ صفته ليمنَعُوا الناسَ عن الإيْمان بهِ.
والوَيْلُ : الشِّدَّةُ فِي الْعَذَابِ. وَقِيْلَ : الهلاكُ. وَقِيْلَ : الْخِزْيُ ؛ ويكنَّى عنه بـ (وَيْسَ) وَ(وَيْحَ). وَقِيْلَ : هو وادٍ في جهنَّم يَهوِي فيه الكافرُ أربعين خَريفاً قبلَ أن يقعَ إلى قعرهِ. وَقِيْلَ : يسيلُ فيه صديدُ أهل النار. وَقِيْلَ : لو جُعلت فيه جبالُ الدُّنيا لَمَاعَتْ من شدَّة حرِّه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ؛ يعني ما كان لَهم من الْمَأْكَلَةِ والهدايَا من أغنيائهم ؛ ألْحَقَ اللهُ بهم ثلاثَ ويلاتٍ فيما غيَّروا من الكتاب. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ ؛ أي مما يُصِيبون من المآكلِ والهدايا. ولفظُ الأيدِي للتأكيدِ كقولهم : مشيتُ برِجْلي ؛ ورأيتُ بعَينِي. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾[الأنعام : ٣٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ ؛ اختلَفُوا في هذه الأيَّام ما هِيَ ؟ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ :(قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِيْنَةَ وَالْيَهُودُ تَقُولُ : مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلاَفِ سَنَةٍ ؛ وَإنَّمَا نُعَذَّبُ بكُلِّ ألْفِ سَنَةٍ يَوْماً وَاحِداً، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ عَنَّا بَعْدَ سَبْعَةِ أيَّامٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقال قتادةُ وعطاءُ :(يَعْنُونَ الأَرْبَعِينَ يَوْماً الَّتِي عَبَدَ آبَاؤُهُمْ فِيْهَا الْعِجْلَ ؛ وَهِيَ مُدَّةُ غَيْبَةِ مُوسَى عليه السلام).
وفي بعضِ التَّفاسيرِ : اختَُلِفَ في مقدار عبادتِهم العجلَ ؛ فقيل : عشرةُ أيام. وَقِيْلَ : سبعةُ أيَّام. وَقِيْلَ : أربعون يوماً. فقَالَ اللهُ تَعَالَى تكذيباً لَهم :﴿ قُلْ ﴾ ؛ يا مُحَمَّدُ :﴿ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْداً ﴾ ؛ أي مَوْثِقاً أنَّ لا يعذِّبُكم إلاَّ هذه المدَّةَ، ﴿ فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
وروي أنه يقالُ لَهم عند مُضِيِّ الأجلِ : يَا أعْدَاءَ اللهِ قَدْ مَضَى الأَجَلُ وَبَقِيَ الأبَدُ.
ولفظُ الـ ﴿ مَّعْدُودَةً ﴾ للقلَّة كقوله :﴿ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾[يوسف : ٢٠]، وفي الصَّومِ :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾[البقرة : ١٨٤]. واحتجَّ أصحابُنا بقولهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ :" الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أيَّامَ أقْرَائِهَا " وقوله ﷺ :" دَعِي الصَّلاَةَ أيَّامَ أقْرَائِكِ " أن أقلَّ الأيامِ ثلاثةٌ وأكثرها عشرةٌ ؛ لأنه يقالُ لِما دونِ الثلاثة : يومٌ ويومَان، وفيما زادَ على العشرةِ أحدَ عشر ؛ وليس لأحدٍ أن يعترضَ على هذا بقولهِ في ليلة الصِّيام :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾[البقرة : ١٨٤] أرادَ بها الشهرَ كلَّه ؛ لأنه ظاهرُ لفظ الأيَّامِ من الثلاثة إلى العشرةِ. إلاَّ أنه قد يذكرُ ويراد به الزيادةَ وقد فسَّر الله تعالى أيامَ الصومِ بالشَّهر، فانعقدَ بذلك التفسيرِ. وأما أيامُ الحيضِ فمبهمةٌ ؛ فلا بدَّ أن تكون محصورةً ؛ لأن الأحكامَ تختلفُ بحالِ الحيض والطُّهرِ، فكان حملُ اللفظِ على ظاهرهِ وحقيقته أولَى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾ ؛ أي ليس كما تقولون. قال الكسائيُّ :(الْفَرْقُ بَيْنَ بَلَى وَنَعَمْ : أنَّ بَلَى إقْرَارٌ بَعْدَ جَحْدٍ ؛ وَنَعَمْ جَوَابُ، اسْتِفْهَامٍ لِغَيْرِ جَحْدٍ. فَإِذَا قِيْلَ لَكَ : ألَيْسَ فَعَلْتَ كَذَا ؟ تَقُولُ : بَلَى. أوْ قِيْلَ لَكَ : ألَمْ تَفْعَلْ كَذَا ؟ تَقُولُ : بَلَى). وَقَالَ تَعَالَى :﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾[الأعراف : ١٧٢]. وقالَ في غيرِ الجحُودِ :﴿ فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ ﴾[الأعراف : ٤٤]. وإنَّما قال ها هُنا : بَلَى ؛ للجُحودِ الذي قبلَهُ وهو قَوْلُهُ :﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ ﴾[البقرة : ٨٠] والسببُ هنا الشِّركُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ ﴾. قرأ أهلُ المدينةِ :(خَطِيْئَاتُهُ) بالجمعِ. وقرأ الباقون (خَطِيْئَتُهُ) على الواحدِ. والإحاطةُ : الإحْدَاقُ بالشَّيء من جميع نواحيه ؛ أي سُدَّتْ عليه طريقُ النَّجاةِ ؛ وماتَ على الشِّركِ. وَقِيْلَ : السَّيِّئَةُ : الذَّنْبُ الذي وُعِدَ عليه العقابَ. والخطيئةُ : الشِّركُ. ولا بدَّ أن تكون الخطيئةُ أكبرَ من السيئة ؛ لأن ما أحاطَ بغيره كان أكبرَ منه.
وأصل بَلَى : بل ؛ وهو لردِّ الكلام الماضي ؛ وإثبات كلام آخر مبتدأ ؛ وإنَّما زيدت اللام لتحسين الوقف. وقيل : أصله : بل لا ؛ فخففت. وقال الربيع بن خيثم في معنى قوله :(وَأحَاطَتْ بهِ خَطِيْئَاتُهُ) : هُوَ الَّذِي يُصِرُّ عَلَى خَطِيْئَةٍ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ، ومثله قال عكرمة. وقال مقاتلُ : يَعْنِي أصَرَّ عَلَيْهَا. وقال الكلبيُّ : مَعْنَى ﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ ﴾ أيْ أوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ ؛ أي أخَذنا عليهم في التوراةِ العهدَ الشديدَ :﴿ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ ؛ بالتاء قرأ ابنُ كثيرٍ وحمزة والكسائيُّ ؛ وقرأ الباقون بالياءِ. قال أبو عمرٍو : وَالإنْزَاهُ ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ ﴾ فَدَلَّتِ الْمُخَاطَبَةُ عَلَى التَّاءِ. قال الكسائي : إنَّمَا ارْتَفَعَ ﴿ لاَ تَعْبُدُونَ ﴾ لأَنَّ مَعْنَاهُ : أخَذْنَا مِيْثَاقَ بَنِي إسْرَائِيْلَ أنْ لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ اللهِ. فَلَمَّا أَلْقَى (أنْ) رَفَعَ، وَمِثْلُهُ : لاَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، ونظيرهُ قوله تعالى :﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ﴾[الزمر : ٦٤] يريدُ : أنْ أعبدَ ؛ فلما حذفَ (أنْ) الناصبةَ عاد الفعلُ إلى المضارعة. وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب :(لاَ تَعْبُدُوا) جزماً على النَّهيِ ؛ أي وقل لَهم : لا تعبدُوا إلاَّ الله.
ومعنى الآيةِ : أمَرْنَاهُم بإخلاصِ العبادةِ لله عَزَّ وَجَلَّ، ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ ؛ أي وصَّيناهم بالوالدين إحساناً برّاً بهما ؛ وعَطْفاً عليهما. وإنَّما قال :﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ ﴾ وأحدُهما والدةٌ ؛ لأن المذكَّرَ والمؤنَّثَ إذا اقترَنَا غلبَ المذكرُ لخفَّته وقوَّته.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ ؛ أي وبذي القُربَى. ووصَّيناهم بصِلَةِ الرَّحمِ. واليَتَامَى : جمعُ يَتِيْمٍ ؛ وهو الطفلُ الذي لا أبَ له. والمساكينُ : الفقراءُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ ؛ اختلفَ القُرَّاء فيه ؟ فقرأ زيدُ بن ثابت وأبو العاليةِ وعاصم وأبو عمرٍو ونافع بضمِّ الحاء وجزْمِ السِّين ؛ وهي قراءةُ أبي حاتِم، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبِالِدَيْنِ حُسْناً ﴾ [النساء : ٣٦] وَقَوْلُهُ :﴿ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ﴾ [النمل : ١١].
وقرأ ابنُ مسعودٍ وحمزة والكسائي وخلَف :(حَسَناً) بفتح الحاءِ والسِّين ؛ وهو اختيارُ أبي عُبيد. قال : إنَّما آثرْنَاهَا ؛ لأَنَّهَا نَعْتٌ بمَعْنَى قَوْلاً حَسَناً. وقرأ عيسَى بن عمر بضمِّ الحاء والسِّين والتنوين ؛ وهو لغةٌ مثل (النُّصُبُ والسُّحُتُ). وقرأ عاصمُ الجحدري (إحْسَاناً) بالألف. وقرأ أُبَي بنُ كعبٍ وطلحة بن مصرف (حُسْنِي) بالتأنيثِ مرسلةً ؛ ومجازهُ كلمة حُسْنَى.
ومعنى الآية : أيُّهَا الرُّؤَسَاءُ مِنَ الْيَهُودِ قُولُواْ لِلسَّفَلَةِ قَوْلاً حَسَناً ؛ أيْ حَقّاً وَصِدْقاً، وَبَيِّنُواْ لَهُمْ صَفَةَ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلاَ تَكْتُمُوهَا، وَلاَ تُغَيِّرُواْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. هَذا قولُ ابنِ عبَّاس وابن جُبير وابن جريج ومقاتل. ودليله قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ﴾[طه : ٨٦] أي صِدقاً. وَقِيْلَ : معناه : مُرُوهُمْ بالمعروف وانْهُوهُمْ عن المنكرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ ؛ ﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي ثُم أعرَضْتم عن العهدِ والميثاق. وقولهُ ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ ﴾ هو عبدُالله بن سلامٍ وأصحابهُ. وانتصبَ (قَلِيْلاً) على الاستثناءِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ ﴾ ؛ لا يقتلُ بعضُكم بعضاً بغيرِ حقٍّ، وإنَّما قال ذلك لمعنَيَين : أحدُهما : أن كلَّ قومٍ اجتمَعُوا على دِينٍ واحد فهم كنفسٍ واحدة. والآخرُ : وهو أن الرجلَ إذا قَتَلَ غيرَهُ فكأنَّما قتلَ نفسه لأنه يقادُ ويقتصُّ منه. وقرأ طلحةُ بن مصرِّف :(لاَ تَسْفُكُونَ) بضمِّ الفاء وهما لُغتان، مثل : يَعْرُشُونَ وَيَعْكُفُونَ. وقرأ بعضُهم :(لاَ تُسَفِّكُونَ) بالتَّشديدِ على التكثيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ ؛ أي لا يُخرِجُ بعضُكم بعضاً من دارهِ ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾ ؛ أي ثُم اعترَفْتم بأنَّ هذا العهدَ قد أخِذَ عليكم وعلى آبائِكم وأنهُ حقٌّ، ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾، اليومَ على ذلك يا معشرَ اليهودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـاؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ ؛ أي ثُم أنتم يا هؤلاءِ ؛ فحذفَ حرفَ النِّداء للاستغناءِ بدلالةِ الكلام عليه. كقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾[الإسراء : ٣]. وقولهُ :﴿ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ قرأ الحسنُ :(يُقَتِّلُونَ) بالتشديدِ. ﴿ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ ﴾، والآيةُ خطابٌ ليهودِ قريظةَ والنضير ؛ كانت بنُو قريظةَ حلفاءَ الأوسِ ؛ وبنو النضيرِ حلفاءَ الخزرجِ، فكان كلُّ فريقٍ يقاتلُ الفريقَ الآخر وإذا غلبَهم قتلَهم وسَبَى ذراريهم وأخرجَهم من ديارهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾، قرأ أهل الشام وأبو عمرو ويعقوب :(تَظَّاهَرُونَ) بتشديد الظاء، ومعناهُ : يَتَظَاهَرُونَ ؛ فأُدغم التاءُ في الظاءِ مثل :(اثَّاقَلْتُمْ) وَ(ادَّارَكُواْ). وقرأ عاصمُ والأعمش وحمزة وطلحة والحسن والكسائي :(تَظَاهَرُونَ) بالتخفيفِ ؛ حذفُوا تاءَ التفاعلِ وأبقَوا تاء الخطاب مثلُ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾[المائدة : ٢] و﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾[الصافات : ٢٥]. وقرأ أُبَي ومجاهدُ وقتادة :(تَظَّهَرُونَ) بالتشديدِ من غيرِ ألِفٍ ؛ أي تَتظهَرُونَ. ومعناهما جميعاً واحدٌ : تَعَاوَنُونَ. والظَّهيرَةُ العَوْنُ ؛ سُمي بذلك لإسنادهِ ظهرَهُ إلى ظهرِ صاحبه. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ أي بالمعصيةِ والظُّلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ﴾ ؛ مُتَّصِلٌ بقوله﴿ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾[البقرة : ٨٤] لأن قَوْلَهُ :﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ ﴾ داخلٌ في الميثاقِ. ومعناهُ : فكُّوا أسراكُم من غيرِكم بالفداءِ. وقرأ السلمي ومجاهدُ وابن كثير وأبو عمرٍو وابن عامر :(أُسَارَى) بالألف، و(تُفْدُوهُمْ) بغير ألف. وقرأ الحسن :(أسْرِي) بغيرِ ألف، (تُفَادُهُمْ) بالألف. وقرأ النخعيُّ وطلحة والأعمش وحمزة (أسْرِي تَفْدُوهُمْ) كلاهما بغير ألف. وقرأ شيبةُ ونافع وعاصم وقتادةُ والكسائي ويعقوب (أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) كِلاهما بالألف.
والأُسَارَى : جمعُ أسيرٍ ؛ مثل : مريض ومرضَى، وقريع وقرعَى، وقتيلٍ وقتلى. والأَسْرَى : جمع أسير أيضاً، مثل : سُكَارَى وكسالى. ولا فرق بين الأسارَى والأسرَى في الصحيح. قال بعضُهم : المقيَّدون المشدُودون أًسارى، والأَسْرَى : هم المأسورون غيرُ المقيدين. قَوْلُهُ تَعَالَى :(تُفْدُوهُمْ) بالمالِ، و(تُفَادُوهُمْ) أي مفاداة الأسير بالأسير. و(أسْرَى) في موضعِ نصب على الحال.
ومعنى الآيةِ ما قال السديُّ :(إنَّ اللهَ تَعَالَى أخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ فِي التَّوْرَاةِ أنْ لاَ يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَلاَ يُخْرِجَ بَعْضُهُمَْ بَعْضاً مِنْ دِيَارهِمْ ؛ وَأَيَّمَا عَبْدٍ أوْ أمَةٍ وَجَدْتُمُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ فَاشْتَرُوهُ وَأعْتِقُوهُ. وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الأَوْسِ، وَالنَّضِيْرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، وَكَانُواْ يُقْتَلُونَ فِي حَرْب سُمَيْرٍ ؛ فَيُقَاتِلُ بَنُو قُرَيْظَةَ مَعَ حُلَفَائِهِمْ ؛ وَالنَّضِيْرُ مَعَ حُلَفَائِهِمْ، فَإذَا غَلَبُواْ خَرَّبُواْ دِيَارَهُمْ وَأخْرَجُوهُمْ مِنْهَا ؛ وَإذَا أُسِرَ رَجُلٌ مِنَ الْفَرِيْقَيْنِ كِلاَهُمَا جَمَعُواْ لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ فِيُعَيِّرُونَهُمُ الْعَرَبُ بذَلِكَ ؛ فَيَقُولُونَ : كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ وَتُفْدُونَهُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : إنَّا قًَدْ أُمِرْنَا أنْ نَفْدِيَهُمْ ؛ وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ. قَالُواْ : فَلِمَ تُقَاتِلُونَهُمْ ؟ قَالُواْ : إنَّا نَسْتَحِي أنْ يَسْتَذِلَّ حُلَفَاؤُنَا ؛ فَذَلِكَ حِيْنَ عَيَّرَهُمْ اللهُ تَعَالَى).
وقال :﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـاؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ وفي الآية تقديم وتأخيرٌ ؛ تقديره :﴿ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ ﴿ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ﴾ (وَإنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تَفْدُوهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُولَـائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ﴾ ؛ أي استبدَلُوا الدُّنيا بالآخرةِ، ﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ﴾ ؛ أي لا يُهَوَّنُ، ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ ؛ من عذاب الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ﴾، أي أعطينا موسَى التوراةَ جُمْلَةً واحدةً، وأرْدَفْنَا وأتبعنا من بعدهِ رُسُلاً ؛ رَسُولاً من بعد رسولٍ ؛ يقال : قَفَى أثَرَهُ وَقَفَى غَيْرَهُ في التعديَةِ مأخوذٌ من قفاء الإنسانِ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾[الإسراء : ٣٦]. وَقِيْلَ : إنَّ اللهَ تعالى أنزلَ التَّوراةَ على موسى جملةً واحدة، وأمرَهُ أن يحملَها فلم يُطِقْ ؛ فبعثَ اللهُ بكلِّ آية مَلَكاً، فلم يُطيقوا حَملَها ؛ فبعثَ الله بكلِّ حرفٍ ملكاً، فلم يطيقوا، فخفَّفها اللهُ على موسى، فحمَلَها وعمِلَ بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ ؛ يعني من إحياءِ الموتى ؛ وإبْرَاءِ الأَكْمَهِ والأبرصِ ؛ ونزولِ المائدة. ومعنى ﴿ الْبَيِّنَاتِ ﴾ : الدَّلالات اللائحاتِ والعلاماتِ الواضحات. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ ؛ الْمَدُّ (آيدْنَاهُمَا) القوة ؛ أي وأعنَّاهُ بجبريلَ. خفَّف ابنُ كثير (القُدُسِ) وثقَّله الآخرون. وهما لُغتان مثل (الرُعْبُ وَالسُحْتُ). قال السديُّ والضحاك وقتادة :(رُوحُ الْقُدُس : جِبْرِيْلُ). قال الحسنُ :(القُدُسُ : هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُوحُهُ : جِبْرِيْلُ عليه السلام). وأضافه إلى نفسهِ تكرِيْماً وتخصيصاً، نحوُ : بيتُ اللهِ ؛ وناقةُ الله ؛ وعبدالله. وقال السديُّ :(القُدُسُ : الْبَرَكَةُ) وقد أعظمَ اللهُ تعالى بركةَ جبريل إذ نزلَ عامةَ وحيِ أنبيائهِ على لسانهِ. وتأييدُ عيسى بجبريلَ عليه السلام أنه كان قَرِيْنُهُ يسيرُ معه حيثُما سارَ ؛ ورفعَهُ إلى السَّماءِ حينَ أراد اليهودُ قتلَهُ. وَقِيْلَ : سُمي جبريل رُوحَ القُدُسِ ؛ لأن بمجيئه يُحيي الكفارَ بالإسلامِ.
والقُدُسُ : الظاهرُ. وقيل : المباركُ. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير :(رُوحُ الْقُدُسِ : اسْمُ اللهِ الأَعْظَمِ، وَبهِ كَانَ يُحْيي الْمَوْتَى ؛ وَيُرِي النَّاسَ تِلْكَ الْعَجَائِبَ).
وقال ابن زيد : هُوَ الإِنْجِيْلُ جَعَلَهُ اللهُ رُوحاً كَمَا جَعَلَ الْقُرْآنَ لِمُحَمَّدٍ رُوحاً. قال الله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾[الشورى : ٥٢].
فلما سمعتِ اليهودَ بذكرِ عيسى ؛ قالوا : يا مُحَمَّد لا مِثْلَ عيسى كما تزعمُ عملتَ ؛ ولا كما تقصُّ علينا من الأنبياء فعلتَ، فائتنا بما أتَى به عيسى إن كنتَ صادقاً. فقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ ؛ أي أفكُلَّما جاءَكم أيُّها اليهودُ رسولٌ بما لا يوافقُ هواكم ﴿ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ أي تكبَّرتُم وتعظَّمتُم عن الإيْمان به، ﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ﴾ ؛ مثلَ عيسى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، ﴿ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾، مثل زَكريَّا ويحيى وسائرَ مَن قَتَلُوا من الأنبياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ. والألفُ في ﴿ أَفَكُلَّمَا ﴾ ألفُ استفهامٍ معناه التوبيخُ والزَّجْرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ ؛ أي قالت اليهودُ : قلوبنا ممنوعةٌ من القَبُولِ ؛ فردَّ الله عليهم بقوله :﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ ؛ أي أنَّهم ألِفُوا كُفْرَهُمْ فاشتدَّ إعجابُهم به ومحبَّتُهم لهُ فمنَعَهم الله الألطافَ والفوائدَ التي منحَ اللهُ المؤمنين مجازاةً لَهم على كُفرِهم.
قرأ ابن محصين :(غُلُفٌ) بضمِّ اللام. وقرأ الباقون بجزْمِها. فمَن خفَّف فهو جَمْعُ الأَغْلُفِ مثل أصفر وصُفر ؛ وهو الذي عليه غشاوةٌ وغطاءٌ بمنْزلة الأغلفِ غيرِ المختون ؛ والأقلفُ مثله، أي عليها غِشَاوَةٌ فلا تَعِي ولا تفقهُ ما تقولُ يا مُحَمَّد! قالَهُ قتادة ومجاهد ؛ نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ﴾[فصلت : ٥].
ومَن ثقَّلَ (غُلُّفٌ) فهو جَمْعُ غِلاَفٍ مثل : حجابٍ وحُجُبٍ ؛ وكتابٍ وكُتُبٍ، ومعناه : قُلُوبُنَا أوْعِيَةٌ لِكُلِّ عِلْمٍ ؛ فَلاَ نَحْتَاجُ إلَى عِلْمِكَ وَكِتَابكَ ؛ فَهِيَ لاَ تَسْمَعُ حَدِيْثاً إلاَّ وَعَتْهُ ؛ إلاَّ حَدِيْثَكَ لاَ تَعِيَهُ وَكِتَابَكَ ؛ قاله عطاءُ وابن عباس. وقال الكلبيُّ :(يُرِيْدُونَ أوْعِيَةً لِكُلِّ عِلْمٍ فَهِيَ لاَ تَسْمَعُ حَدِيْثاً إلاَّ وَعَتْهُ ؛ إلاَّ حَدِيْثَكَ لاَ تَعِيَهُ وَلاَ تَعْقِلَهُ. فَلَوْ كَانَ فِيْهِ خَيْرٌ لَفَهِمَتْهُ ولَوَعَتْهُ) قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ وأصلُ اللَّعنِ : الطردُ والإبعادُ ؛ فمعناهُ : طَرَدَهُمُ اللهُ ؛ أي أبعدَهم من كلِّ خيرٍ. وقال النضرُ بن شُميل :(الْمَلْعُونُ : للْمُخْزَى وللْمَلِكِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ قال قتادةُ :(مَعْنَاهُ مَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إلاَّ قَلِيْلٌ ؛ وَهُوَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَأصْحَابُهُ ؛ لأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ أكْثَرُ مِمَّنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ). فعلى هذا القولِ ﴿ مَا ﴾ صلةٌ معناهُ : فقَلِيلاً يؤمنونَ. ونصبَ (قَلِيْلاً) على الحالِ، وَقِيْلَ : على معنى صَارُوا قليلاً يُؤمنون. وَقِيْلَ : معناهُ : إيْمانُهم باللهِ قليلٌ ؛ لأنَّهم يؤمنون ببعضٍ ويكفرون ببعضٍ. وانتصبَ (قَلِيْلاً) على هذا التأويلِ على معنى : إيْماناً قليلاً يؤمنون.
وقال معمر :(مَعْنَاهُ لاَ يُؤْمِنُونَ إلاَّ بقَلِيْلٍ مِمَّا فِي أيْدِيْكُمْ وَيَكْفُرُونَ بأَكْثَرَ) وعلى هذا القول يكون (قَلِيْلاً) منصوباً بنَزع الخافضِ، و(ما) صلةٌ ؛ أي فبقليلٍ يؤمنون. وقال الواقديُّ وغيره :(مَعْنَاهُ لاَ يُؤْمِنُونَ قَلِيْلاً وَلاَ كَثِيْراً) وهذا كقولِ الرجُل للآخرِ : ما أقلَّ ما تفعلُ كذا! يريد لا يفعلهُ البتَّةَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ ؛ يعني القُرْآنَ موافقاً لِما معهم ؛ يعني التوراةَ وسائرَ الكتب في التوحيدِ والدُّعاء إلى اللهِ ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي وكانوا مِن قبل مَبْعَثِ رسولِ الله ﷺ يَسْتَنْصِرُونَ بذكرِ القُرْآنِ ونبيِّ آخرِ الزمان على الَّذين جَحَدُوا توحيدَ الله ؛ كانوا إذا قَاتَلُوا المشركين ؛ قالوا :(اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَيْهِمْ باسْمِ نَبيِّكَ وَبكِتَابكَ الَّذِي تُنَزِّلُ عَلَى الَّّذِي وَعَدْتَنَا أنَّكَ بَاعِثُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ ؛ الَّذِي نَجِدُ صِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ) وكانوا يرجون أنَّ ذلك النبيَّ منهم، وكانوا إذا قالُوا ذلك نُصِرُوا، وكانوا يقولون لأعدائِهم من المشركين : أطلَّ زمانٌ يخرجُ نبيٌّ فيصدِّقُ ما قلناهُ فنقتُلكم معه قتلَ عادٍ وإرَم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ ﴾ ؛ أي فلما بُعث مُحَمَّدٌ ﷺ وعرفوهُ بصفتهِ في كتابهم ولَم يكن منهم، ﴿ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ ؛ وغيَّروا صفتَهُ بغياً وحَسَداً لَمَّا بُعث من غيرِ بني إسرائيلَ مخافةَ زوال رئاسَتِهم، ﴿ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ﴾، أي بئْسَمَا باعُوا به أنفُسَهم من الهدايَا بكتمان صفة مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّهم اختارُوا الدُّنيا على الآخرِةِ ؛ باعُوا أنفسَهم بأن يكفُروا، ﴿ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ يعني القُرْآنَ حَسَداً منهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : معناه : بئْْسَ الذي اختارُوا لأنفسِهم حتى استبدلوا الباطلَ بالحقِّ ؛ والكفرَ بالإيْمانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَغْياً ﴾ ؛ أصلُ البغيِ : الْفَسَادُ، يقال : بَغَى الْجُرْحُ إذا أُفْسِدَ. ومعنى قولنا : بَغْياً ؛ أي الْبَغْيَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ ؛ يعني الكتابَ والنبوةَ على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾، قال قتادةُ :(الْغَضَبُ الأَوَّلُ : حِيْنَ كَفَرُواْ بعِيْسَى وَالإنْجِيْلِ، وَالثَّانِي : حِيْنَ كَفَرُواْ بمُحَمَّدٍ ﷺ وَالْقُرْآنِ ؛ وَاسْتَوْجَبُواْ اللَّعْنَةَ عَلَى إثْرِ اللَّعْنَةِ). وقال السديُّ :(الْغَضَبُ الأَوَّلُ : بعِبَادَتِهِمُ الْعِجْْلَ ؛ وَالثَّانِي : كُفْرُهُمْ بمُحَمَّدٍ ﷺ وَتَبْدِيْلِ صِفَتِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ ؛ أي وللجاحدين بنبوَّة مُحَمَّدٍ ﷺ من الناسِ كلِّهم عذابٌ مهينٌ ؛ يُهانونَ فيه فلا يُعَزُّونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي إذا قِيْلَ ليهودِ المدينة : صدِّقوا بالقُرْآنِ ؛ ﴿ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ ؛ يعنونَ التوراةَ، ﴿ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ ﴾ ؛ أي ويجحدون بما سِوَى الذي أُنزلَ عليهم كقولهِ تعالى :﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ ﴾[المؤمنون : ٧] أي سِوَاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ ؛ يعني الْقُرْآنَ، ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ ؛ أي مُوافِقاً للتوراةِ وسائر الكتب. ونصبَ ﴿ مُصَدِّقاً ﴾ على الحالِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنْ كنتم تصدِّقون التوراةِ فلِمَ تقتلون أنبياءَ اللهِ، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ ؛ وليس فيما أُنزلَ عليكم قتلُ الأنبياءِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي فلِمَ تقتلونَ أنبياءَ الله إنْ كنتم مؤمنينَ بالتوراةِ وقد نُهيتم فيها عن قتلِهم. وقوله (لِمَ) أصله (لِمَا) فحذفت الألفُ فَرقاً بين الخبر والاستفهامِ ؛ كقوله (فِيْمَ) و(بمَ) و(مِمَّ) و(عَلاَمَ) و(حتَّى مَ).
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلّ :﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ ؛ أي الدَّلالات الواضحات والآيات التسعِ، ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ﴾ ؛ أي مِن بعد ذلك إِلَهاً ؛ ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ ؛ أي كَافِرُون باللهِ. وفائدةُ الآيةِ : أن تكذيبَ الأنبياءِ من عادَتِكم ؛ كما أنَّ موسى جاءَكم بالبيِّنات ثُم اتَّخذتُمُ العجلَ إلَهاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ ؛ أي أخذنا عليكم العهدَ في التوراة، ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ ؛ أي الجبل، ﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾ ؛ أي خذُوا ما أعطينَاكم بجِدٍّ ومواظبةٍ في طاعة الله تعالى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾ ؛ أي اسْمَعُوا ما فيه مِن حلاله وحرامهِ ؛ وما تؤمرون به ؛ أي استجيبوا ؛ أطيعوا. سُميت الطاعةُ سَمعاً ؛ لأنَّها سببُ الطاعةِ والإجابة ؛ ومنه قولُهم : سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ؛ أي أجابَهُ. قال الشاعرُ : دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أنْ لاَ يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أقُولُأي يجيبُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ ؛ أي سَمعنا قولَكَ وعَصَينا أمركَ ولولا مخافةُ الجبلِ ما قَبلنا. قالوا بعد ذلك بعدما رُفع الجبلُ عنهم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾ ؛ أي سُقوا في قلوبهم حُبَّ العجلِ، ﴿ بِكُفْرِهِمْ ﴾، وخالطَها ذلك كإشراب اللَّون ؛ لشدَّة الملازمةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ ﴾ ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : بشَرِّ ما يأمرُكم به إيْمانكم من عبادةِ العجل من دونِ الله ؛ أي بشَرِّ الإيْمانِ إيْمانٌ يأمرُكم بالكفرِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ؛ أي إنْ كنتم مؤمنين بزَعمِكم ؛ لأنَّهم قالوا : نؤمنُ بما أُنزل علينا، فكذَّبَهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَوْلُهُ :﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ هذا جوابُ قولِ اليهود :﴿ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾[البقرة : ١١١] و﴿ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾[البقرة : ٨٠]. وقولِهم :﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾[المائدة : ١٨] فكذَّبَهم اللهُ وألزمَهم الحجةَ فقال : قل لَهم يا مُحَمَّدُ :﴿ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ ﴾ ؛ يعني الجنَّةَ ؛ ﴿ خَالِصَةً ﴾ ؛ أي خاصَّةً : وَقِيْلَ : صافيةً، ﴿ مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ ﴾ ؛ أي فاسألُوا اللهَ الموتَ ؛ فإنَّ مَن كان بهذه الصفةِ فالموتُ خيرٌ له ولا سبيلَ إلى دخول الجنَّة إلا بعد الموتِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ؛ أي في قولكم ؛ فقولوا : اللهم أمِتنا. فقال لهم النبي ﷺ : بعد نزول هذه الآية :" إنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ فِي مَقَالَتِكُمْ فَقُولُواْ : اللَّهُمَّ أمِتْنَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لاَ يَقُولُهَا رَجُلٌ مِنْكُمْ إلاَّ غَصَّ برِيْقِهِ فَمَاتَ مَكَانُهُ " فأبَوا أن يفعلُوا ذلك.
قال ابنُ عبَّاس : عن رَسُولِ اللهِ ﷺ :" لَوْ قَالُواْ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ مَاتَ " فَلَمَّا لَمْ يَقُولُواْ ذَلِكَ أنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلًّ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ ؛ أي أسلَفَت من المعاصِي وكتمان صِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقولهُ :﴿ أَبَداً ﴾ يعني هي مدَّةُ العمرِ. وأما بعدَ ذلك فإنَّهم يَتَمَنَّوْنَهُ في الآخرةِ وقتَ مشاهدةِ العذاب. وإنَّما أضافَ إلى الأيدِي ؛ لأنَّ أكثر المعاصي تكون باليدِ. ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ ؛ اللامُ لام القَسَمِ ؛ والنونُ توكيدُ القسمِ، تقديرهُ : واللهِ لتجدنَّهم يا مُحَمَّدُ - يعني اليهودَ -. ومعنى الآية : لتعلمنَّ اليهودَ أحرصَ الناس على البقاء. وفي مُصحف أُبَيٍّ :(عَلَى الْحَيَاةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾ ؛ قِيْلَ : إنه متصلٌ بالكلام الأول ؛ معناهُ : وأحرصَ مِن الذين أشرَكوا. قال الفرَّاء :(وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : هُوَ أسْخَى النَّاسِ وَمِنْ حَاتِمِ ؛ أيْ وَأسْخَى مِنْ حَاتِمٍ). وَقِيْلَ : هو ابتداءٌ ؛ وتَمام الكلام عند قولهِ :﴿ حَيَاةٍ ﴾. ثم ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر ﴿ يَوَدُّ ﴾ اسْماً تقديرهُ : ومِن الذين أشرَكوا قومٌ، ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ﴾. وَقِيْلَ : معناهُ : ولتجدنَّهم أحرصَ الناس على حياةٍ وأحرصَ مِن الذين أشرَكوا ؛ وأرادَ بالذين أشرَكوا الْمَجُوسَ ومَن لا يؤمنُ بالبعثِ. وقَوْلُهُ :﴿ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ ؛ أي أنْ يعمَّر. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾ ؛ أي وما أحدُهم بمباعِدِهِ من العذاب تعميرهُ، ولا التعميرُ بمباعدهِ من العذاب. ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ تَمامُ الآية مفسَّر.
قوله عََزَّ وَجَلَّ :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾، قال ابنُ عبَّاس :" إنَّ حَبْراً مِنَ الأَحْبَار عَالِماً مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ صُوريَا، قَالَ لِلنَّبيِّ ﷺ : كَيْفَ نَوْمُكَ ؟ فَإِنَّا نَعْرِفُ نَوْمَ النَّبِيِّ الَّذِي يُجْتَبَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، قَالَ :[تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبي يَقْظَانُ] قَالَ : صَدَقْتَ. فَأَخْبرْنَا عَنِ الْوَلَدِ أمِنَ الرَّجُلِ أمْ مِنَ الْمَرْأةِ ؟ قَالَ :[أمَّا الْعَظْمُ وَالْعَصَبُ وَالْعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُلِ ؛ وَأمَّا اللَّحْمُ وَالدَّمُ وَالظُّفْرُ وَالشَّعْرُ فَمِنَ الْمَرْأةِ]. قَالَ : صَدَقْتَ. فَمَا بَالُ الْوَلَدِ يُشْبهُ أعْمَامَهُ لَيْسَ فِيْهِ شَبَةٌ مِنْ أخْوَالِهِ، وَيُشْبهُ أخْوَالَهُ لَيْسَ فِيْهِ شَبَهٌ مِنْ أعْمَامِهِ ؟ فَقَالَ :[أيُّهُمَا عَلاَ مَاؤُهُ عَلَى مَاءِ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ] قَالَ : صَدَقْتَ. بَقِيَتْ خِصْلَةٌ إنْ قُلْتَهَا آمَنْتُ بكَ وَاتَّبَعْتُكَ! أيُّ مَلَكٍ يَأْتِيْكَ بالْوَحْيِ ؟ قَالَ :[جِبْرِيْلُ] قَالَ : ذَاكَ عَدُوُّنَا. يَنْزِلُ بالْقِتَالِ وَالشِّدَّةِ وَرَسُولُنَا مِيْكَائِيْلُ يَنْزِلُ بالسُّرُور وَالرَّخَاءِ، فَلَوْ كَانَ مِيْكَائِيْلُ هُوَ الَّذِي يَأْتِيْكَ آمِنَّا بكَ وَصَدَّقْنَاكَ. فَقَالَ : عُمَرُ رضي الله عنه : إشْهَدُواْ أنَّ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيْلَ فَإنَّهُ عَدُوٌّ لِمِيْكَائِيْلَ. فَقَالَ : لاَ نَقُولَنَّ هَذَ " ا. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
وقال مقاتلُ : إنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ : إنَّ جِبْرِيْلَ عَدُوُّنَا أُمِرَ أنْ يَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِيْنَا فَجَعَلَهَا فِي غَيْرِنَا. وقالَ قتادةُ وعكرمةُ والسديُّ : كَانَ لِعُمَرَ رضي الله عنه أرْضٌ بأَعْلَى الْمَدِيْنَةِ ؛ مَمَرُّهَا عَلَى مَدَارسِ الْيَهُودِ، وَكَانَ عُمَرُ إذَا أتَى أرْضَهُ يَأْتِيْهِمْ وَيَسْمَعُ مِنْهُمْ وَيُكَلِّمُهُمْ، فَقَالُواْ : يَا عُمَرُ مَا فِي أصْحَاب مُحَمَّدٍ أحَبُّ إلَيْنَا مِنْكَ ؛ إنَّهُمْ يَمُرُّونَ بنَا فَيُؤْذُونَنَا وَأنْتَ لاَ تُؤْذِيْنَا وَإنَّا لَنَطْمَعُ فِيْكَ! فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :(مَا أحْبَبْتُكُمْ كَحُبكُمْ إيَّايَ وَلاَ أسْأَلُكُمْ إنِّي شَاكٌّ فِي دِيْنِي، وَإنَّمَا أدْخُلُ إلَيْكُمْ لأَزْدَادَ بَصِيْرَةً فِي أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأرَى آثَارَهُ فِي كِتَابكُمْ). فَقَالُواْ : مَنْ صَاحِبُ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَأْتِيْهِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ؟ قَالَ :(جِبْرِيْلُ) قَالُواْ : ذاكَ عَدُوُّنَا يُطْلِعُ مُحَمَّداً عَلَى سِرِّنَا وَهُوَ صَاحِبُ كُلِّ عَذَابٍ وَخَسْفٍ وَشِدَّةٍ ؛ وَإنَّ مِيْكَائِيْلَ إذا جَاءَ ؛ جَاءَ بالْخَصْب وَالسَّلاَمَةِ. فَقَالَ عُمَرُ :(تَعْرِفُونَ جِبْرِيْلَ وَتُنْكِرُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم!) قَالُواْ : نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :(أنَا أشْهَدُ أنَّ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيْلَ فَهُوَ عَدُوٌّ لِمِيْكَائِيْلَ ؛ وَمَنْ كَانَ عَدُوّاً لَهُمَا فَاللهُ عَدُوٌّ لَهُ). ثُمَّ رَجَعَ عُمَرُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَوَجَدَ جِبْرِيْلَ قَدْ سَبَقَهُ بالْوَحْيِ ؛ فَقَرَأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الآيَاتِ. وَقَالَ :[لَقَدْ وَافَقَكَ رَبُّكَ يَا عُمَرُ]. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :(لَقَدْ رَأيْتُنِي فِي دِيْنِ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ أصْلَبَ مِنَ الْحَجَرِ).
قَال اللهُ تعالى تَصديقاً لعمر :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : مَن كان عدُوّاً لجبريلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً ﴾، (واو) العطفِ دَخلت عليها الألفُ ألفُ الاستفهامِ كما تدخلُ على الفاء في قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ﴾[الزخرف : ٤٠]﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ ﴾[الكهف : ٥٠]. وعلى (ثُمَّ) كقولهِ :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ﴾[يونس : ٥١].
قرأ أبو السمَّالِ (أوْ كُلَّمَا) ساكنة الواو على النسق. و(كُلَّمَا) انتصبَ على الظرفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَاهَدُواْ عَهْداً ﴾ يعني اليهودَ. قال ابنُ عبَّاس :[لَمَّا ذكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَهُمْ مَا أخَذَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَمَا عَهِدَهُ إلَيْهِمْ فِيْهِ ؛ قَالَ مَالِكُ ابْنُ الْمُصْفِي : وَاللهِ مَا عُهِدَ إلَيْنَا فِي مُحَمَّدٍ عَهْداً وَلاَ مِيْثَاقاً. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ]. تُوَضِّحُهُ قراءةُ ابنِ رجاءٍ أبي العطارديِّ :(أوَكُلَّمَا عُوهِدُواْ عَهْداً) فجعلَهم مفعولين. ودليلُ هذا التأويلِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ ﴾[آل عمران : ١٨٧] الآية.
وقالَ بعضُهم : هو أن اليهودَ عاهَدُوا : لئِنْ خرجَ مُحَمَّدٌ لنؤمننَّ به ولنكوننَّ معه على مشرِكي العرب ونَنفُوهم من بلادهم. فلما بُعث نقضُوا العهدَ وكفروا به، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾[البقرة : ١٠١] أي طرحوهُ وراءَ ظهورهم. ﴿ نَّبَذَهُ ﴾ ؛ أي طرحَهُ ﴿ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ ؛ أي طرحوهُ كأنَّهم لا يعلمون صِدْقَ ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ؛ أي أنَّهم يعلمون ذلكَ ولكنَّهم تجاهلوهُ كأنَّهم لا يعلمونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾، يعني التوراة، ﴿ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ يعني القرآن : وقيل : التوراة أيضاً ؛ لأنَّهم إذا نبذوا القرآنَ فقد نبذوا التوراة. والنَّبْذُ : الطَّرْحُ. وقرأ ابن مسعود :(نَقَضَهُ فَرِيْقٌ). وقال عطاءُ :(هَيِ الْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبَيْنَ الْيَهُودِ كَفِعْلِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيْرِ). والدليلُ قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ﴾[الأنفال : ٥٦] وكانوا قد عاهَدوا النَّبِيَّ ﷺ أن لا يعينُوا عليه أحداً ؛ فنقضوا وأعانوا مشركي قريش عليه يومِ الخندق. وإنَّما قال :﴿ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾[البقرة : ١٠٠] لأن علماءَهم هم الذين نبذوا عناداً مع العلم به ؛ وإنَّما قال :﴿ بَلْ أكْثَرُهُمْ ﴾[البقرة : ١٠٠] لأنَّ منهم من آمنَ وهو ابنُ سلام وكعبُ الأحبار وغيرهما.
والنبذُ وراءَ الظَّهر مثل من يستخِفُّ بالشيء ولا يعملُ به. تقول العربُ : اجعل هذا خلفَ ظهرك ؛ وتحت قدمِكَ ؛ ودُبُرَ أذنك ؛ أي اتركهُ وأعرِض عنه، قال اللهُ تعالى :﴿ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً ﴾[هود : ٩٢]. وأنشد الزجَّاج : نَظَرْتَ إلَى عِنْوَانِهِ فَنَبَذْتَهُ كَنَبْذِكَ نَعْلاً أخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَـاطِينُ ﴾ ؛ يعني اليهود. وهو عطف على ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ ﴾ كأنه قال : انبذُوا كتابَ الله واتَّبعوا ما تتلوا الشياطينُ من السِّحر، ﴿ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ ﴾ ؛ ومعنى ﴿ مَا تَتْلُواْ ﴾ يعني ما تَلَتْ قبلهم شياطينُ الجن والإنس ﴿ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ ﴾ أي على عهدِ ملك سليمان، قيل : معنى تتلو تكذبُ، يقال : فلان تَلاَ من فلان ؛ إذا صدَقَ في الحكاية عنه، وتلى عليهِ إذا كذبَ عليه ؛ كما يقال : تالٍ عنه وتالٍ عليه.
وقال ابنُ عبَّاس :(تَتْلُو ؛ أي تَتْبَعُ وَتَعْمَلُ). وقال عطاءُ :(تَتَحَدَّثُ وَتَتَكَلَّمُ بهِ). وقرأ الحسنُ :(الشَّيَاطُونُ) بالواو في موضع الرفعِ في كلِّ القرآن. وسُئل أبو حامد الخارجي عن قراءة الحسنِ هذه فقال :(هِيَ لَحْنٌ فَاحِشٌ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ الأَدَب). غيرَ أن الأصمعيَّ زعم أنه سَمِعَ أعرابياً يقول : بُسْتَانُ فلان حَوْلَهُ (بَسَاتُون).
وقصةُ ذلك : أن الشياطينَ كتبوا السحرَ والنيرنجات على لسان آصف : هذا ما علَّم آصف بن برخيا سليمان الملك. ثم دفنوها تحت مُصَلاَّهُ حين نزعَ الله مُلكه ولم يشعر بذلك سليمان. فلما مات عليه السلام استخرجوها من تحتِ مُصَلاَّهُ وقالوا للناس : إنَّما مَلَكَكُمْ سليمانُ بهذا، فتعلموهُ. وأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤُهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علمُ سليمان ؛ فلا نتعلمهُ.
وأما السَّفَلَةُ فقالوا : هذا عِلمُ سليمان وأقبلوا على تَعَلُّمِهِ ؛ ورفضوا كُتُبَ أنبيائهم وقالوا : إنَّما تمَّ ملكهُ بالسِّحرِ وبه سحرَ الجن والإنس والطير والرياح. فلم يزالوا على ذلك الاختلافِ وفَشَتِ الْمَلاَمَةُ لسليمان حتى بعث الله تعالى مُحَمَّداً ﷺ وأنزل عذرهُ على لسانه وأظهر براءتهُ مما رُمي به من الكفر تكذيباً لليهود، فقال عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ وَلَـاكِنَّ الشَّيَـاطِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ أي هم الذين كتبوا السحرَ وهم الذين يعلِّمونه الناسَ. هذا قولُ الكلبي.
وقال السديُّ : كانت الشياطينُ تصعدُ إلى السماء فتقعد منها مقاعدَ للسمع ؛ فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موتٍ أو غيره ؛ فيأتون الكهنةَ فيخلطون بما سمعوا كذباً وزوراً في كلِّ كلمة سبعين كذبة. ويخبرونَهم بذلك ؛ فالتفت الناس إلى ذلك وفشَى في بني إسرائيل أن الجنَّ تعلم الغيبَ. فبعث سليمانُ في الناس وجمعَ تلك الكتب وجعلها في صندوقٍ ودفنها تحت كرسيِّه، وقال :(لاَ أسْمَعُ أحَداً يَقُولُ إنَّ الشَّيَاطِيْنَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ إلاَّ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ). فلما ماتَ سليمان صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ضَلَّ الناسُ وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمرَ سليمان. فتمثَّلَ شيطانٌ على صورة إنسان، وأتى نَفَراً من بني إسرائيلَ، وقال : هل أدلُّكم على كنْزٍ ؟ قالوا : نَعَمْ، قال : احفروا تحت الكرسيِّ، وذهبَ معهم فأراهم المكانَ فحفروا فوجدوا تلك الكُتُبَ ؛ فلما أخذوها، قال الشياطينُ : إن سليمانَ كان يضبط الجنَّ والإنسَ والشياطين بهذه الكتب، وأفشَى في الناس أن سليمانَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كان سَاحراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا ﴾ ؛ أي لو أن اليهودَ آمنوا بمحمَّد ﷺ واتَّقَوا اليهودية والسحرَ، ﴿ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ﴾ ؛ أي لكان ثوابُ الله خيراً لهم من كسبهم بالكفرِ والسحر. ﴿ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾ ؛ وذلك أنَّ المسلمين كانوا يقولون لرسولِ الله ﷺ : راعِنا يا رسولَ الله، وارعِنا سَمْعَك، يعنون من المراعاةِ ؛ وكانت هذه اللفظةُ شيئاً قبيحاً باليهوديةِ. قيل : معناها عندهم اسْمَعْ لا سَمعتَ ؛ فلما سَمِعَهَا اليهودُ اغتنموها ؛ وقالوا فيما بينهم : كنَّا نَسُبُّ محمَّداً سرّاً فأعلِنوا له الآن بالشَّتم، وكانوا يأتونه ويقولون : راعِنا يا محمدُ ؛ ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعدُ بن معاذ رضي الله عنه فَفَطِنَ لَها ؛ وكان يعرفُ لغتهم، فقال لليهودِ : عليكم لعنةُ الله، والذي نفسي بيده يا معشرَ اليهود لئن نَسْمَعْهَا من رجلٍ منكم يقولُها لرسولِ الله ﷺ لأضربنَّ عُنُقَهُ. قالوا : أوَلَسْتُمْ تقولونَها؟! فأنزلَ الله هذه الآيةَ :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾ لكيلا تجدَ اليهودُ سبيلاً إلى سَب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل معناها :﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا ﴾ للنبيِّ ﷺ ﴿ رَاعِنا ﴾ أي اسْمَعْ إلينا نَسْتَمِعْ إليكَ. وَقِيْلَ : إنَّ اليهودَ قالوا للنبيِّ ﷺ : إسْمَعْ إلى كلامنا حتى نَسْمَعَ إلى كلامكِ ؛ فنهَى اللهُ عنه ؛ إذ لا يجوزُ لأحدٍ أن يخاطِبَ أحداً من الأنبياءِ إلا على وجه التوقيرِ والإعظام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُولُواْ انْظُرْنَا ﴾ ؛ يحتمل أن يكون من النَّظَرِ الذي هو الرؤيةُ، ويحتملُ أن يكون انظرنا حتى تبيِّن لنا ما تعلِّمنا. وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ فَهِّمْنَا) وقال بعضهم : معناه بيِّن لنا. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْمَعُواْ ﴾ ؛ أي اسمعوا ما تؤمرون به. والمرادُ أطيعوا. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ تفسيره قد تقدَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ ؛ أي ما يتمنَّى الذين كفروا من يهودِ المدينة ونصارى نَجران ولا مشركي العرب عبدةَ الأوثان أن ينَزَّل عليكم أيُّها المؤمنون من خيرٍ، ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، من الوحْي وشرائع الإسلامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ مجرورٌ في اللفظ بالنَّسق على (مِن)، مرفوع في المعنى بفعلهِ، كقوله :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾[الأنعام : ٣٨]. قوله تعالى :﴿ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي خيرٍ كما تقول : ما أتَاني من أحدٍ، فـ (مِن) فيه وفي إخوانه صلةٌ، وهي كثيرة في القُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي يختارُ برحمته للنبوة والإسلام من يشاءُ، ويختصُّ بها مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. والاختصاصُ آكَدُ من الخصوص ؛ لأن الاختصاصَ لنفسِك ؛ والخصوصَ لغيرِك، ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ ؛ على من اختصَّه بالنبوَّة والإسلام.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ ؛ قيل : سببُ نزول هذه الآية : أنَّ اليهودَ كانوا يقولون حين حُوِّلت القبلةُ إلى الكعبة : إنْ كانَ الأولُ حقّاً فقد رجعتُم، وإن كان الثاني حقّاً فقد كنتم على الباطلِ. وقيل : سببهُ : أنَّ اليهود كانوا يُنْكِرُونَ نسخَ الشرائع ؛ ويقولون : إن النسخَ سببُ الندامة، ولا يجوزُ ذلك على الله. فَنَزلت هذه الآية ردّاً عليهم وبيَّن أنه يدبرُ الأمرَ كيف يشاء.
ومعناهُ : ما نُبدِّلْ من آية أو نتركْها غيرَ منسوخة نأت بخيرٍ من المنسوخة ؛ أي أكثرُ في الثواب. وقيل : ألْيَنُ، وأسهلُ على الناس ؛ أو مثلها في المصلحةِ والثواب. قيل : إن قولَه :﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾، مثل الأمرِ بالقتال ؛ فرضَ اللهُ في القتال أوَّل ما فرضَ في الجهاد بأن يكونَ كلُّ مسلمٍ بدل عشرةٍ من الكفار، وكان لا يحلُّ له أن يَفِرَّ من عشرةٍ كما قال تعالى :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾[الأنفال : ٦٥] ثُم نُسِخَ بقوله :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ ﴾[الأنفال : ٦٦] الآيةُ. ولَم يقل أحدٌ إن بعض آيات القرآن خير من بعض في التلاوة والنظم ؛ إذ جميعه معجزٌ.
وأما قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ ؛ فهو مثل آيةُ القِبلة جعلَ الله ثوابَ الصلاةِ إلى الكعبة بعد النسخِ مثلَ ثواب الصلاةِ إلى بيتِ المقدس قبلَ النسخ. وروي أن المشركين : قالوا : ألا تَرَوْنَ إلى مُحَمَّدٍ يأمرُ أصحابَهُ بأمرٍ ثم ينهاهم عنهُ، ويأمرُهم بخلافهِ، ويقول اليومَ قولاً ويرجعُ عنه غداً، ما هذا القرآنُ إلا كلامُ محمَّدٍ يقولهُ من تِلْقَاءِ نفسه، وهو كلامٌ يناقضُ بعضُه بعضاً. فأنزلَ الله تعالى :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[النحل : ١٠١]. وأنزل أيضاً :﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا نَنسَخْ ﴾ قرأ ابن عامر (نُنْسِخُ) بضم النون وكسر السين، ومعناه على هذه القراءة نجعله نسخةً من قولك : نسخت الكتابَ ؛ إذا كتبتَهُ. وقرأ الباقون :(نَنْسَخْ) بفتح النون والسين.
وقوله ﴿ أَوْ نُنسِهَا ﴾ قراءة سعيد بن المسيب وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (نُنْسِيْهَا) بضم النون وكسر السين، ومعناه : نأمره بتركها. وقرأ أُبي ابن كعب (أو نُنْسِكْ). وقرأ عبدالله (مَا نُنْسِكْ مِن آيَةٍ أوْ نَنْسَخْهَا). وقرأ سالِمُ مولَى حذيفةَ :(أو نُنْسِكَهَا). وقرأ أبو حاتم :(أوْ نُنِسِّهَا) بالتشديد. وقرأ الضحاك :(أوْ تُنْسَهَا) بضم التاء وفتح السين. وقرأ سعدُ بن أبي وقاص :(أوْ تَنْسَاهَا) بتاء مفتوحة. وعن القاسمِ بن رَبيعة قال : سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أبي وَقَّاص يَقْرَأُ (أوْ تَنْسَهَا)، فَقُلْتُ : إنَّ سَعِيْدَ ابْنَ الْمُسَيَّب يَقْرَأُ (أوْ تَنْسَاهَا) فَقَالَ :(إنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى آلِ الْمُسَيَّب. قَالَ اللهُ تَعَالَى : لِنَبيِّهِ ﷺ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي ألم تعلم يا محمدُ أنَّ لهُ مُلْكُ السموات والأرض ومن فيهنَّ، وأنه أعلمُ بوجوه الصلاح فيما يتعبَّده من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروكٍ. ويجوزُ أن يكون هذا الخطابُ للنبيِّ ﷺ والمراد به غيرُه. كقولهِ تعالى :﴿ ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ ﴾[الطلاق : ١].
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾، ويجوز أن يكون تطييباً لنفوس المؤمنين، وبياناً أنه وليُّهم وناصرهم، وأنَّهم بنصره إياهم يغلبون من سواهم، ويجوز أن يكون وعيداً لمن لا يؤمنُ بالناسخِ والمنسوخ، أي ليس لكم قرائبَ تنفعكم ولا مانعَ يمنعُكم من عذاب الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ ؛ قال ابن عباس :(نَزَلَتْ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أبي أُمَيَّةَ الْمَخْزُمِيِّ وَفِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ أتَوا النَّبيَّ ﷺ وَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ إجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَباً وَوَسِّعْ لَنَا أرْضَ مَكَّةَ، وَفَجِّرِ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيْراً، وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بكَ. وَقَالُواْ أيْضاً :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ﴾[الإسراء : ٩٠-٩١] فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : أتريدون، والميم صلةٌ. وقيل : معناها : بل ؛ وسألوا رؤيةَ اللهِ كما سألهَا السبعونَ رجلاً من بني إسرائيل موسَى. وقوله :﴿ رَسُولَكُمْ ﴾ بمعنى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾ ؛ أي من يختارُ الكفرَ على الإيْمان ويستبدلهُ به، ﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ ﴾ ؛ أي أخطأَ قصد الطريق.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً ﴾، أُنزلت في نَفَرٍ من اليهودِ ؛ قالوا لحذيفةَ بن اليمان وعمار اْبن ياسر بعد وقعة أُحد : ألَمْ تَرَوا مَا أصَابَكُمْ ؟ وَلَوْ كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ مَا هُزِمْتُمْ، فَارْجِعُواْ إلَى دِيْنِنَا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأفْضَلُ، وَنَحْنُ أهْدَى مِنْكُمْ سَبيْلاً، فَقَالَ لَهُمْ عَمَّارُ :(كَيْفَ نَقْضُ الْعَهْدِ فِيْكُمْ؟) قَالُواْ : شَدِيْدٌ. قَالَ :(فَإنِّي عَهِدْتُ أنْ لاَ أكْفُرَ بمُحَمَّدٍ ﷺ مَا عِشْتُ) فَقَالَتِ الْيَهُودُ : أمَّا هَذَا فَقَدْ صَبَأَ. وقال حذيفةُ :(وَأمَّّا أنَا فَقَدْ رَضِيْتُ باللهِ رَبّاً وَبمُحمَّدٍ نَبيّاً وَبالاسْلاَمِ دِيْناً وَبالْقُرْآنِ إمَاماً وَبالْكَعْبَةِ قِبْلَةً وَبالْمُؤْمِنِيْنَ إخْوَاناً). ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأخْبَرَاهُ بذَلِكَ فَقَالَ :[أصَبْتُمَا الْخَيْرَ وَأفْلَحْتُمَا] فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم ﴾ يا معشرَ المؤمنين ﴿ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ﴾ ونصبَ كُفاراً بالردِّ. وقيل : بالحالِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَسَداً ﴾ أي حَسَداً لكم لتشريفِ الله إياكم عليهم بوضع النبوَّة فيكم بعد ما كانَ في بني إسرائيلَ. وانتصبَ (حَسَداً) على المصدر ؛ أي يحسدونَكم حسداً. وقيل : بنَزْعِ الخافضِ. تقديره : لِلْحَسَدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾، راجع إلى ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾ لا إلى قوله ﴿ حَسَداً ﴾ لأن حَسَدَ الإنسانِ لا يكونُ إلا من قِبَلِهِ ؛ فكأنهُ تعالى بيَّن أن مودَّتَهم ردُّكم إلى الكفر ؛ لا لأنَّ دينَهم يأمرهم ذلك، ولكن ذلك مِن عند أنفُسِهم، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾، في التوراةِ وسائر الكتب : أن مُحَمَّداً ﷺ صِدْقٌ، وأن دينَه حقٌّ. وقيل : معنى ﴿ مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ﴾ أي لم يأمرهم اللهُ بذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ ﴾ ؛ أي اتركوهم وأعْرِضُوا عنهم، ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ ؛ أي حتى يأذنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لكم في مُقَاتَلَتِهِمْ وسَبْيهِمْ وينصركم عليهم. وقد جاءَ اللهُ تعالى بأمرهِ حين استقرَّت آيات النَّبِيُّ ﷺ ومعجزاتهُ ولم يؤمنوا ؛ أمرَ اللهُ النَّبيَّ ﷺ بقتالهم بقولهِ :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ.. ﴾[التوبة : ٢٩] الآيةُ، إلى قوله :﴿ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾[التوبة : ٢٩] وغيرِ ذلك من الآيات، فقتَلُوا بني قريظةَ ؛ وأجْلَوا بني النضير. وقيل : معناهُ ﴿ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ : قيام الساعةِ ويجازيهم بأعمالِهم. ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ﴾، لَمَّا أمرَ الله تعالى بالصفحِ عن اليهود، عَلِمَ أن ذلك يشقُّ على المسلمين، فأمرهم الله بالاستعانة على ذلكَ بالصلاةِ والزَّكاة كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاوةِ ﴾[البقرة : ٤٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ يعني من طاعةٍ وعمل صالح تجدوا ثوابَهُ ونفعَهُ عند اللهِ. وَقِيْلَ : أرادَ بالخير المالَ، كقوله تعالى :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾[البقرة : ١٨٠] ومعناهُ : وما تقدِّموا لأنفسكم من زكاةٍ وصدقةِ الثمرة واللقمةِ تجدوهُ عند الله مِثْلَ أُحُد. ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، وفي الحديثِ :" إذا مَات الْعَبْدُ قَالَ النَّاسُ : مَا خَلَّفَ ؟ وَقَالَ الْمَلاَئِكَةُ : مَا قَدَّمَ ؟ ". روي أن عليَّ بن أبي طالب كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ دَخَلَ الْمَقَابرَ، فَقَالَ :(السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ الْقُبُور، أمْوَالُكُمْ قُسِّمَتْ ؛ وَدِيَارُكُمْ سُكِنَتْ ؛ وَنِسَائُكُمْ نُكِحَتْ، فَهَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ؟) فهتفَ به هاتفٌ : وعليكمُ السلامُ، ما أكلنا ربحنا ؛ وما قدَّمنا وجَدْنا، وما خلَّفنا خَسِرْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾، قال الفرَّاءُ وأراد يهوداً فحذفت الياءُ الزائدة. قال الأخفشُ :(الْهُوْدُ جَمْعُ هَادٍ ؛ مِثْلُ عَائِدٍ وَعُودٍ، وَحَائِلٍ وَحُولٍ). وَفي مُصحف أُبَيٍّ :(إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيّاً أوْ نَصْرَانِيّاً).
ومعنى الآية : قالت اليهودُ : لن يدخل الجنةَ إلا مَن كان يهودياً ولا دينَ إلا اليهوديةُ. وقالت النصارى : لن يدخلَ الجنةَ إلا مَن كان نصرانيّاً، ولا دينَ إلا النصرانيةُ. فأنزلَ الله تعالى :﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾، يجوز أن تكون ﴿ تِلْكَ ﴾ كنايةٌ عن الجنة ؛ ويجوزُ أن تكون المقالةُ. وأمانيُّهم : أباطيلُهم بلغةِ قريش، وقيل : شهواتُهم التي تَمَنَّوْهَا على اللهِ بغير الحقِّ. ﴿ قُلْ ﴾ ؛ لَهم يا مُحَمَّدُ :﴿ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾ ؛ أي حُجَّتكم على ذلك من التوراةِ والانجيل، ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
ثُم قال الله تعالى ردّاً عليهم وتكذيباً لَهم :﴿ بَلَى ﴾ ؛ أي ليس كما قالوا، بل يُدْخِلُ الجنَّةَ، ﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ ﴾ ؛ أي من أخلصَ دينَهُ لله. وَقِيْلَ : مَن فوَّض أمرهُ إلى الله. وقيل : مَن خضع وتواضعَ لله. وأصل الإسلامِ : الاسْتِسْلاَمُ : وَهُوَ الْخُضُوعُ وَالانْقِيَادُ. وإنَّما خُصَّ الوجهُ ؛ لأنه إذا جادَ بوجههِ في السجود لم يَبْخَلْ بسائر جوارحهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ أي محسنٌ في عمله، وقيل : معناه : وهو مؤمن مخلصٌ، ﴿ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي فيما يستقبلُهم من أهوال القيامة، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ ؛ على ما خلفوا في الدنيا ؛ لأنَّهم يتيقَّنون بثوابهم عند الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ﴾. قال ابنُ عباس :(صَدَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيْقَيْنِ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ أحَدٌ مَا حَنِثَ، وَلَيْسَ أحَدٌ مِنَ الْفَرِيْقَيْنِ عَلَى شَيْءٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ ؛ أي وَكِلاَ الفريقين يقرأُون كتابَ الله، ولو رجعوا إلى ما مَعَهم من الكتاب لَمَا اختلفوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ ؛ أي للذين ليسُوا من أهلِ الكتاب ؛ نحوَ الْمَجُوسِ ومشركي العرب. يقولون أيضاً : لن يدخلَ الجنَّةَ إلا من كان على دِيننا. وقيل : أرادَ بالذين لا يعلَمُون آباءَهم الذين مَضَوا. وقال مقاتلُ :(هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَب ؛ قَالُواْ فِي مُحَمَّدٍ ﷺ وَأصْحَابهِ : لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الدِّيْنِ). وقال ابن جُريج :(قُلْتُ لِعَطَاءٍ : كَيْفَ قَالَ الَّذِيْنَ لاَ يَعْلَمُونَ ؟ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : أُمَمٌّ كَانَتْ قَبْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ ؛ وَقَوْمِ هُودٍ ؛ وَصَالِحٍ ؛ وَلُوطٍ ؛ وَشُعَيْبَ ؛ وَنَحْوُهُمْ. قَالُواْ فِي أنْبيَائِهِمْ : لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، وَإنَّ الدِّيْنَ دِيْنُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي يقضي بين اليهودِ والنصارى والمشركينَ يوم القيامة ؛ أي يُرِيْهِمْ مَن يدخلُ الجنة عياناً ؛ ومن يدخلُ النار عياناً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ ؛ يعني من الدِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ ؛ نزلت هذه الآية في ططوس بن استيسيانوس الرومي وأصحابهِ ؛ وذلك أنَّهم غَزَوا بني إسرائيل فقتلُوا مُقاتِليهم ؛ وسَبَوا ذراريهم ؛ وحرَقوا التوراةَ ؛ وخرَّبوا بيت المقدسِ وألقوا فيهِ الْجِيَفَ ؛ وذبَحوا فيه الخنازيرَ، وكان خَرَاباً إلى أن بَنَاهُ المسلمونَ في أيام عمرَ رضي الله عنه. ولم يدخل بيتَ المقدس بعد عمارتِها رُومِيٌّ إلا خَائفاً مستخفِياً لو عُلِمَ به لقُتِلَ.
وقال قتادة والسديُّ :(نَزَلَتْ فِي بَخِتْنَصِّرْ وَأصْحَابهِ غَزَوا الْيَهُودَ وَخَرَّبوُا بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَعانَهُمْ عَلَى ذلِكَ ططوس الرومِيُّ وأصحابُهُ النَّصَارَى مِنْ أهْلِ الرُّومِ ؛ وَذَلِكَ لِبُغْضِهِمُ الْيَهُودَ). إلاَّ أنَّ هَذَا يُشْبهُ الْغَلَطَ، وَالأول أظهرُ ؛ لأنه لا خلافَ أنَّ بختنصِّر قبلَ مولد عيسى عليه السلام بدهرٍ طويل، والنصارى إنَّما ينتمون إلى عيسى عليه السلام، فكيف يكونون مع بختنصر؟!
ومعنى الآية :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ أي ومَن أكفرُ عتياً ﴿ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ﴾ يعني بيت المقدس ومَحَاريْبَهُ. وقوله :﴿ أَن يُذْكَرَ ﴾ موضعُ (أن) نَصْبٌ على أنه مفعولٌ ثان ؛ لأن المنع يتعدى إلى مفعولين، وإن شئتَ جعلته نصباً بنَزع الخافض ؛ أي بأن يذكر.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَعَى فِي خَرَابِهَآ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ ؛ وقال قتادةُ ومقاتل :(لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أحَدٌ مِنَ النَّصَارَى إلاَّ مُتَنَكّراً مُسَارَقَةً لَوْ قُدِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ وَنُهِكَ ضَرْباً). قال السديُّ :(اخْتَفَواْ بالْجِزْيَةِ). وقال أهل المعاني : هذا خبرٌ فيه معنى الأمرِ، يقول : أجْهَضُوهُمْ بالجهادِ لئلا يدخلها أحد منهم إلا خائفاً من القتلِ والسبي.
قوله تعالى :﴿ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ ؛ أي عذابٌ وهوان ؛ وهو القتل والسبي إن كانوا حرباً، والجزية إن لم يكونوا حرباً. قوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ وهو النار. قال عطاءُ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ).
وأرادوا بالمساجدِ : المسجدِ الحرام ؛ منعوا النَّبِيَّ ﷺ والمسلمين عن ذكرِ الله فيه وصدُّوهم عنه عام الحُديبية، فعلى هذا سعيُهم في خرابها هو المنعُ عن ذكرِ الله فيها ؛ لأن عمارةَ المساجد بإقامةِ العبادات فيها.
وقولهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ يعني أهلَ مكَّة، يقول الله : أفتحُها عليكم حتى يدخلُوها، ويكونوا أولَى بها منهم، فَفَتَحَهَا اللهُ عليهم، وأمرَ رسولُ الله ﷺ منادياً ينادي :" ألاَ لاَ يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ ؛ وَلاَ يَطُوفَنَّ بالْبَيْتِ عَرْيَانٌ " فمُنعوا منها، فهذا خوفُهم. ﴿ لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ أي ذلٌّ وقتلٌ ونفيٌ ﴿ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
وَقِيْلَ : المرادُ بالآية : جميعَ الكفار الذين مَنَعوا المسلمين من المساجد. وكل موضع يُتَعَبَّدُ فيه فهو مسجدٌ، قال عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلاَمُ :" جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا " فعلى هذا تقديرُ ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾ الآية مِمَّنْ خالفَ مِلَّةَ الإسلام ؛ ﴿ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ ؛ أي يظهرُ الإسلامُ على جميعِ الأديان، ولا يدخلُ الكفارُ المساجد إلا خائفين بعد أن كانوا لا يتركوا المسلمين أن يدخلوا مساجدهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَللَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ ؛ قيل : معناه لا يَمنعكم تخريبُ من خرَّب مساجد الله أن تذكروهُ حيث كنتم من أرضه. وقال ابن عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي سَفَرٍ قَبْلَ تَحْوِيْلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ، فَأَصَابَهُمُ الضَّبَابُ، وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَتَحَرَّوا الْقِبْلَةَ فَصَلُّوا ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ صَلَّى قِبَلَ الْمَشْرِقِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ صَلَّى قِبَلَ الْمَغْرِب. فَلَمَّا ذَهَبَ الضَّبَابُ اسْتَنَارَ لَهُمْ أنَّهُمْ لَمْ يُصِيْبُوا، فَلَمَّا قَدِمُواْ ؛ سَأَلُواْ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ ذلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). وقال عبدُالله بن عامر :[كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةٍ ؛ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِداً فَيُصَلِّي فِيْهِ، فَلَمَّا أصْبَحْنَا إذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقال عبدُالله بن عمرَ : نَزَلَتْ فِي صَلاَةِ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بهِ رَاحِلَتُهُ تَطَوُّعاً ؛ " كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ أيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بهِ " وقال عكرمةُ :(نَزَلَتْ فِي تَحْوِيْلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمَّا صَلَّى إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَمَا كَانَتْ قِبْلَتُهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَتِ الْيَهُودُ : يُصَلُّونَ مَرَّةً هَكَذَا، وَمَرَّةً يُصَلُّونَ هَكَذَا! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
فإنْ قِيْلَ : لِمَ قال :﴿ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ على التوحيد وله المشارق والمغارب ؟ قيل : لأنه أخرجهُ مخرجَ الجنس كما يقال : أهلَكَ اللهُ الدينارَ والدرهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ ؛ أي رضَى اللهِ كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ﴾[الإنسان : ٩] أي لرضَاه. وقيل : معناه ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ أي عِلْمُهُ محيطٌ بهم. وقيل : معناه : فأينما تُوَلُّوا وجوهَكم أيها المؤمنون في سفرِكم وحضَرِكم فثمَّ قِبْلَةُ اللهِ التي وجَّهتكم إليها فاستقبلُوها ؛ يعني الكعبةَ.
وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ تَعَالَى يَرَى وَيَعْلَمُ). والوجهُ صلةٌ كقوله :﴿ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ﴾[الروم : ٣٩] أي تريدونه بالدعاء. وقوله :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾[القصص : ٨٨] أي إلا هُو. وقوله :﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾[الرحمن : ٢٧] أي يبقى ربُّكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ قال الكلبيُّ :(يَعْنِي : وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ). وقال أبو عُبيدة :(الْوَاسِعُ : الْغَنِيُّ). يقال : فلان يُعْطِي مِن سَعتهِ ؛ أي من غِنَاهُ. وقال الفرَّاء :(الْوَاسِعُ : الْجَوَادُ الَّذِي يَسَعُ عَطَاؤُهُ كُلَّ شَيْءٍ). وقيل : الواسعُ : الرحيمُ ؛ دليله﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[الأعراف : ١٥٦]. وقيل : الواسع : العالِم الذي يسعُ علمه كل شيء. وقال الله تعالى :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾[البقرة : ٢٥٥]. وقوله ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي عالِم بنيَّاتِهم حيثما صَلَّوا ودَعَوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَـانَهُ ﴾ ؛ نزلت في يهودِ المدينة حيث قالوا : عُزَيْرٌ ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا : المسيحُ ابن الله، وفي مشركي العرب حيث قالوا : الملائكةُ بنات الله. وقوله :﴿ سُبْحَـانَهُ ﴾ تنْزيهاً نَزَّهَ نفسَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ عبيدٌ وملكٌ ؛ أي مَن كان مالِكَ السموات والأرض ؛ فإن الأشياءَ تضافُ إليه من جهة المِلك. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ ؛ أي مطعيون.
وهذا تأويلٌ لا يستغرق الكلَّ، فيكون لفظ عمومٍ أريدَ به الخصوص. ثم سَلَكُوا في تخصيصه طريقين ؛ أحدُهما : راجعٌ إلى عُزير والمسيح والملائكة، وهذا قولُ مقاتل. والطريق الثَّاني : راجعٌ إلى أهل طاعتهِ دون الناس أجمعين، وهذا قولُ ابنِ عباس والفرَّاء. وقال بعضهم : هو عامٌّ في جميعِ الخلق.
ثُمَّ سَلَكوا في الكفار طريقين ؛ أحدُهما : أن ظِلالَهُم تسجدُ لله وتطيعه ؛ وهو قولُ مجاهد ؛ ودليل قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ ﴾[النحل : ٤٨]، وقال تعالى :﴿ وَظِلالُهُم ﴾[الرعد : ١٥]. والثَّاني : قالوا : هذا في القيامةِ، قاله السديُّ ؛ وتصديقهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾[طه : ١١١]. وقال عكرمةُ ومقاتلُ :(مَعْنَى الآيَةِ : كُلٌّ لَهُ مُقِرُّونَ بالْعُبُودِيَّةِ). وقال ابن كيسان :(قَائِمُونَ بالشَّهَادَةِ، وَأَصْلُ الْقُنُوتِ الْقِيَامُ). وقيل : مُصلُّون ؛ دليلهُ :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الَّيلِ ﴾[الزمر : ٩]. وقيل : دَاعُونَ، ويسمَّى دعاءُ الوِتْرِ : قنوتٌ، الآية يدعو قائماً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي مُبْتَدِعُهما ومُنْشِؤُهما على غير مثال يسبقُ، ﴿ وَإِذَا قَضَى أَمْراً ﴾ ؛ أي إذا أرادَ شيئاً، ﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، وهذه الآيةُ والتي قبلَها جوابٌ " عن قولِ جماعة من النصارى نَاظَروا النَّبيَّ ﷺ في أمرِ عيسى عليه السلام. قَالَ لَهم النَّبيُّ ﷺ :[هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ] قَالُواْ : هَلْ رَأيْتَ مَنْ خُلِقَ بغَيْرِ أبٍ ؟ " فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ وما قبلَها جواباً لَهم.
ومعناها : إنَّ اللهَ مبتدعُ السموات والأرضِ وخالقهُما، وإذا أرادَ أمراً مثلَ عيسى بغيرِ أبٍ أو غير ذلك، فإنَّما يقولُ له : كُنْ، فيكونُ كما أرادَه. والإبْدَاعُ : إيجادُ الأشياءِ على غيرِ مثال سبقَ ؛ والبديعُ فعيلٌ بمعنى مُفَعِّلٌ، والبديعُ أشدُّ مبالغةً من المبدعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيَكُونُ ﴾ مَن رَفَعَهُ ؛ فمعناهُ : فهو يكونُ. ومَن نَصَبَهُ ؛ فعلى جواب الأمر بالفاءِ. فإن قيلَ : قوله ﴿ كُنْ ﴾ خطابٌ للموجود أو للمعدوم، ولا يجوزُ الأول ؛ لأنَّ الشيءَ الكائنَ لا يؤمَرُ بالكونِ، والثانِي لا يجوزُ أيضاً ؛ لأنَّ المعدومَ لا يخاطبُ ؟ قيل : إنَّما قالَ ذلك على سبيلِ المثَلِ، لأن الأشياءَ لسهولتها عليه وسرعةِ كونِها بأمره بمنْزلة ما يقولُ له كُنْ فيكونُ. وهذا مِثْلُ قولهِ :﴿ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾[فصلت : ١١] لم يُرِدْ بهذا أن السماءَ والأرضَ كانتا في موضعٍ فقال لَهما : ائْتِيَا، فجَاءا من ذلك الموضعِ، ولكن أرادَ به تكوينَهما، فعلى هذا معنى ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي يُرِيْدُهُ فَيَحْدُثُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ﴾ ؛ أرادَ بالذين لا يعلمون يهودَ المدينةِ وغيرَهم من الكفار، وقيل : النصارى. وقيل : مشركُو العرب ؛ قالوا : هَلاَّ يكلِّمُنا اللهُ عياناً بأنَّكَ رسولهُ. ﴿ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ ﴾ ؛ أي علامةٌ دالةٌ على صدقِك ونبوتكَ ؛ يعنُونَ قولَهم :﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء : ٩٠] الآيةُ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ ؛ يعني اليهودَ الذين قالوا لِموسى : أرنَا اللهَ جَهْرَةً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ ؛ أي قلوبُ الأوَّلين والآخرين منهم في القسوةِ والكُفر. ويقال : تشابَهت قلوبُ المشركين واليهود والنصارى في القسوةِ والكُفر. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، أي لِمن أيقنَ وطلب الحقَّ. والآيات مثلُ بيانِ نعتِ النَّبِيِّ ﷺ وصفتهِ في التوراة ؛ وانشقاقِ القمر ؛ وإعجاز القرآن وغيرِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي أرسلناكَ يا مُحَمَّدُ بالصِّدق ؛ من قولِهم : فلانٌ مُحِقٌّ في دعواهُ إذا كان صادقاً، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ﴾[يونس : ٥٣] أي صِدْقٌ. وقال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : لَنْ نُرْسِلَكَ عَبَثاً بغَيْرِ شَيْءٍ ؛ بَلْ أرْسَلْنَاكَ بالْحَقِّ) دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾[الحجر : ٨٥] وهو ضدُّ الباطل. قال ابن عباس :(بالْقُرْآنِ) دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾[ق : ٥]. وقال ابنُ كيسان :(بالإسْلاَمِ) دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾[الإسراء : ٨١].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ ؛ أي بشيراً للمؤمنين بالثواب، ونذيراً للكَافرين بالعقاب. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ﴾ ؛ أي لَسْتَ تُسألُ فيِ الآخرة عن أصحاب الجحيم، كما قالَ :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾[فاطر : ٨] وقالَ :﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴾[آل عمران : ٢٠]. ومَن فتحَ التاءَ فعلى النَّهي. وتأويلهُ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ :" لَيْتَ شِعْرِي، مَا فُعِلَ بأَبَوَيَّ ؟ " فنَزلت هذه الآيةُ.
وفيه قراءَتان : الجزمُ على النهي، وهي قراءةُ نافعٍ وشيبةٍ والأعرجِ ويعقوبَ. وقرأ الباقون بالرفعِ على النَّفي ؛ يعني ولَسْتَ تُسْأَلُ عنهم. وقرأ أُبَيُّ :(وَمَا تُسْأَل). وقرأ ابنُ مسعود :(وَلَنْ تُسْأَلْ). والْجَحِيْمُ وَالْجَحْمُ وَالْجَحْمَةُ : مُعْظَمُ الدَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ ؛ وذلك أنَّهم كانوا يسألونَ النَّبيَّ ﷺ الهدنةَ ويطمِّعونه في أن يتَّبعوه إنْ هادنَهم، فأنزلَ اللهُ هذه الآية. وقيل : كان النَّبيُّ ﷺ حريصاً على طلب رضَاهُمْ طمعاً في أنْ يرجِعوا إلى الحقِّ. وَقِيْلَ : كانوا يطلُبون من النَّبيِّ ﷺ الْمُسَالَمَةَ ويطمِّعونه في أنَّهُ إنْ هادنَهم أسلَمُوا ؛ فأمرَ اللهُ النَّبيَّ ﷺ أن لا يطيعَهم ما طلبوا مِن الهدنةِ، وأخبرَ أنَّهم لا يرضون عنهُ بذلك، وهم يهودُ أهل المدينة ونصارى نَجْرَانَ.
قال ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :((هَذَا فِي الْقِبْلَةِ ؛ وَذَلِكَ أنَّ يَهُودَ الْمَدِيْنَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ كَانُواْ يَرْجُونَ أنْ يُصَلِّيَ النَّبيُّ ﷺ إلَى قِبْلَتِهِمْ ؛ فَلَمَّا صَرَفَ اللهُ تَعَالَى الْقِبْلَةَ إِلَى الْكَعْبَةِ ؛ شُقَّ عَلَيْهِمْ وَآيَسُواْ مِنْهُ أنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى دِيْنِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ أي دِينَهم، وقِبلتهم بيتُ المقدسِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ ؛ أي الصراطَ الذي دعا الله إليه ؛ وهو الذي أنتَ عليه هو صراطُ الحقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ أي إنِ اتبعتَ ملَّتهم وصلَّيتَ إلى قِبلتهم، ﴿ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ ؛ أي بعدما ظهرَ لك أنَّ دينَ الله الإسلامُ ؛ وأنَّ القبلةَ قد حُوِّلت إلى الكعبةِ، ﴿ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ؛ أي مَا لكَ من اللهِ من ولِيٍّ ينفعُكَ ويحفظُكَ عن عقابهِ، ولا نصيرَ يدفعُ مضرَّة عقابهِ عنكَ. وهذا خطابٌ للنبيِّ ﷺ والمرادُ به عامَّةُ الناسِ ؛ مِثْلُ قَولهِ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾[الزمر : ٦٥]. وقد عَلِمَ اللهُ أنه لا يشرِكُ ؛ وهذا كما يقال في المثلِ :(إيَّاكِ أعْنِي فَاسْمَعِي يَا جَارَةُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَـابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ فِي أهْلِ السَّفِيْنَةِ الَّذِيْنَ قَدِمُواْ مَعَ جَعْفَرَ بْنِ أبي طَالِبٍ ؛ وَكَانُواْ أرْبَعِيْنَ رَجُلاً ؛ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ ؛ وَثَمَانِيَةٌ مِنْ رُهْبَانِ الشَّامِ ؛ مِنْهُمْ بحِيْرَا). وقال الضحَّاك :(هُمْ مَنْ آمَنَ مِنَ الْيَهُودِ : عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ، وَشُعْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَأُسَيْدُ وَأسَدُ ابْنَا كَعْبٍ، وَابْنُ يَامِيْنَ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ صُوريّا). وقال عكرمةُ :(هُمْ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم). وقيل : همُ المؤمنونَ عامة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ قال الكلبيُّ :(يَصِفُونَهُ فِي كُتُبهِمْ حَقَّ صِفَتِهِ لِمَنْ سَأَلَهُمْ مِنَ النَّاسِ) وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْهَاءُ رَاجِعَةً إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وقال بعضُهم : هي عائدةٌ إلى الكتاب. واختلفوا في معناهُ ؛ قال ابنُ مسعود :﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ أي يُحَلِّلُونَ حَلاَلَهُ وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ وَيَقْرَأْونَهُ كَمَا أُنْزِلَ، وَلاَ يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : يَعْمَلُونَ بمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بمُتَشَابههِ ؛ وَيَكِلُونَ عِلْمَ مَا أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ إلَى عَالِمِهِ). وقال مجاهدُ :(يَتَّبعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ ؛ أي بالقرآنِ ويُقِرُّون بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ ﴾ ؛ أي بالقرآنِ ويَجْحَدُ نبوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾، وهم كعبُ بن الأشرفِ وأصحابهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾، تقدَّم تفسيرهُ، وفائدةُ تكرار القصصِ والألفاظِ : أنَّ اللهَ تعالى أراد برحمتهِ أنْ يُشْهِرَ القصصَ في أطراف الأرضِ ؛ ويلقيها في كلِّ سَمعٍ ؛ ويثبتُها في كلِّ قلبٍ ؛ ويزيدُ الحاضرين إفهاماً ؛ فإنَّ القرآنَ نزل بلسانِهم، ومن مذهَبهم أنَّ التكرارَ إرادةُ التوكيدِ وزيادةُ الإفهام. ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ ؛ أي اختبرهُ بما بعده من السُّنن ؛ وهي عشرُ خصال : خمسٌ في الرأسِ : وهي المضمضمةُ ؛ والاستنشاقُ والسِّواك ؛ وقصُّ الشارب ؛ وفَرْقُ الرأسِ. وخمسٌ في الجسدِ : التقليمُ ؛ والخِتَان ؛ والاستنجاءُ بالماءِ ؛ وحلقُ العَانَةِ ؛ ونتفُ الإبطِ. وقيل : معناهُ : ابتَلاه الله بالمناسك التي تعبَّدَهُ بها وهي عرفة والمزدلفة والرمي والطواف والسعي. وَقِيْلَ : معناه : ابتلاهُ اللهُ بأمرٍ عظيم ؛ فصبَرَ وأحسنَ الظنَّ بالله. فأولُ ذلك الكوكبُ والقمر والشمس، ثمَّ النارُ ؛ فجعلها عليه بَرْداً وسلاماً، ثم بالهجرةِ من أهله وولده، ثم بالختانِ على رأسِ ثَمانين سنةً، ثم بذبحِ الولد، فاتخذهُ اللهُ خليلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ أي عَمِلَ بهنَّ ولم يتركْ منهُنَّ شيئاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ ؛ أي مُقْتَداً بكَ، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ إبراهيمُ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ ؛ أي ومِن أولادي، فاجعل أئمةً يُقتدى بهم.
وأصلُ الذُّرِّيَّةِ الأَوْلاَدُ الصِّغَارُ ؛ مشتقٌ من الذَّرَى لكثرتهِ. وقيل : من الذَّرْءِ ؛ وهو الْخَلْقُ. وفيه ثلاث لُغات :(ذِرِّيَّةِ) بكَسرِ الذال وهي قراءةُ زيد بن ثابت. و(ذَرِّيَّةٍ) بفتحِ الذال وهي قراءةُ أبي جعفر. و(ذُرِّيَّةٍ) بضمِّ الذال وهي قراءةُ العامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أعْلَمَهُ اللهُ تعالى أنَّ في ذريته الظالِمٌ ؛ والظالِمُ لا يَصْلُحُ إماماً. وفيه ثلاثُ قراءات :(عَهْدِيَ الظًّالِمُونَ) بالواو ؛ وهي قراءةُ ابن مسعود. و ﴿ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بإسكان الياء ؛ وهي قراءةُ الأعمش وحفصٍ وحمزة. (وَعَهْدِيَ) بفتح الياءِ ؛ وهي قراءةُ العامَّة.
واختلفوا في هذا الْعَهْدِ. قال عطاءُ :(رَحْمَتِي). وقال الضحَّاك :(طَاعَتِي) ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ﴾[البقرة : ٤٠]. وقال السديُّ :(بنُبُوَّتِي). وقال حذيفةُ :(أمَانَتِي) ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾[النحل : ٩١]. وقال أبو عبيد :(أمَانِي) دليله قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾[التوبة : ٤] وقال السديُّ :(لَيْسَ لِلظَّالِمِ أنْ يُطَاعَ فِي ظُلْمِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً ﴾ ؛ أي جعلنا الكعبةَ مَثَابَةً ؛ أي مَرْجِعاً. وقال ابنُ عباس :(يَعْنِي مَعَاذاً وَمَلْجَأً). وقال ابنُ جبير ومجاهد والضحَّاكُ :(يَثُوبُونَ إِلََيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَيَحُجُّونَهُ، وَلاَ يَمَلُّونَ مِنْهُ، فًَمَا مِنْ أحَدٍ قَصَدَهُ إلاَّ وَيَتَمَنَّى الْعَوْدَ إلَيْهِ). وقال قتادةُ وعكرمة :(مَجْمَعاً). وقال طلحةُ :(مَثَاباً يَحُجُّونَ إلَيْهِ وَيُثَابُونَ عَلَيْهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَمْناً ﴾ وصفُ للبيتِ ؛ والمرادُ به جميع الحرمِ، كما قال :﴿ بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾[المائدة : ٩٥] والمرادُ الحرمُ لا الكعبة ؛ لأنه لا يُذبح فيها ولا في المسجدِ.
ومعنى ﴿ وَأَمْناً ﴾ أي مَأْمَناً يأمنون فيه. قال ابنُ عبَّاس :(فَمَنْ أحْدَثَ حَدَثاً خارجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ أمِنَ مِنْ أنْ يُهَاجَ فِيْهِ) أي لم يُتَعَرَّضْ لهُ، ولكن لا يبالغُ ولا يخالط ويوكل به، فإذا خرجَ منه أُقِيْمَ عليه الحدُّ فيه. وهذا كانوا يتوارثُونَه من زمنِ إسماعيلَ إلى أيَّام النَّبيِّ ﷺ، وكانتِ العربُ في الجاهلية تعتقدُ ذلك في الحرمِ، ويستعظمُ القتلُ فيه. كان الرجلُ منهم يؤوي إليه قاتلُ أبيه فلا يتعرَّض له. ومن الأَمْنِ الذي جعلَهُ الله فيه : اجتماعُ الصيدِ والكلب ولا يهيج الكلبُ الصيدَ، ولا ينفرُ الصيدُ من الكلب حتى إذا خرجَا منه عَدَا الكلبُ على الصيدِ، وعادَ الصيدُ إلى الهرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ ؛ قرأ شيبةُ ونافع وابن عامرٍ والحسنُ :(وَاتَّخَذُواْ) بفتح الخاءِ على الخبر. وقرأ الباقون بالكسرِ على الأمر. قال ابنُ كيسان :" ذَكَرُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بالْمَقَامِ وَمَعَهُ عُمَرُ رضي الله عنه ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ ألَيْسَ هَذَا مَقَامُ أبيْنَا إبْرَاهِيْمُ ؟ قَالَ :[بَلَى]. قَالَ : أفَلاَ تَتَّخِذُهُ مُصَلَّى ؟ قَالَ :[لَمْ أُوْمَرْ بذَلِكَ]. فَلَمْ تَغِب الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى نَزَلَ :﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ ".
وعن أنسِ بن مالك قال : قال عمرُ رضي الله عنه :[وَافَقَنِي رَبي فِي ثَلاَثٍ : قُلْتُ : لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقامِ إبْرَاهِيْمَ مُصَلَّى ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾. وَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبرُّ وَالْفَاجِرُ ؛ فَهَلاَّ حَجَّبْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الْحِجَاب. قَالَ : وَبَلَغَنِي شَيْءٌ كَانَ بَيْنَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَفَزَّ مِنْهُنَّ. أقُولُ : لَتَكُفَّنَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللهُ أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ حَتَّى أتَيْتُ عَلَى آخِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا عُمَرُ ؛ مَا فِي أصْحَاب رَسُولِ اللهِ ﷺ مَنْ يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ. فَأَمْسَكْتُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ ﴾[التحريم : ٥]).
واختلفوا في قولهِ تعالى :﴿ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ ﴾ ؛ قال النخعيُّ :(الْحَرَمُ كُلُّهُ مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيْمَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً ﴾ ؛ يعني مكَّة والحرمَ آمِناً من الْجَدْب وَالْقَحْطِ، وقيل : من الحرب. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ؛ لا يكونُ إلا ويوجد فيه أنواعُ الثمراتِ، فأحبَّ إبراهيمُ أن لا يأكلَ طعامَ الله إلا الْمُوَحِّدُونَ ؛ فَأَعْلَمَهُ اللهُ أنْ لا يخلُق خَلْقاً إلا يرزقَه، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي سأرزقهُ في الدنيا يسيراً. قيل : خَشِيَ إبراهيمُ أن لا يستجابَ له في الرزقِ كما لم يستجبْ له في الإمامة ؛ فخضَّ المؤمنين في المسألةِ في الرزق، فأعلمَهُ اللهُ أنَّ المؤمنَ والكافرَ في الرزقِ سواءٌ.
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ في موضع نَصْبٍ بدلٌ من ﴿ أَهْلَهُ ﴾ بدلُ بعضٍ من كلٍّ كقولهِ تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾[آل عمران : ٩٧]. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي فسأرزقهُ إلى منتهى أجلهِ. قرأ ابنُ عامر :(فَأَمْتِعْهُ) بفتحِ الألف وجزمِ العين، (ثُمَّ أضْطَرَّهُ) موصولةُ الألف مفتوحةُ الراءِ على جهة الدُّعاء من إبراهيمَ عليه السلام، وقرأ الباقون بالتشديد. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ﴾ ؛ أي ألْجِئُهُ إلى عذاب النار في الآخرة، ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ أي بئْسَ المرجعِ يصيرُ إليه.
واختلفوا في مكَّةَ : هل كانت حَرَماً آمِناً قبلَ دعاء إبراهيم ؛ أم صارت كذلك بدعائهِ ؟ قِيْلَ : إنَّمَا صارَتْ كذلك بدعائهِ، بدليلِ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ :" إنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِيْنَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيْمُ مَكَّةَ " والأصحُّ : أنَّها كانت حَرَماً آمِناً قبل دعائهِ بدليلِ قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ :" إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَوَضَعَهَا بَيْنَ أَخْشَبَيْنِ " أي جبلينِ ؛ فعلى هذا كانت أمْناً قبلَ دعائه من الخسفِ والاصْطِلاَمِ لأهلهِ.
وكان اللهُ قد جعلَ في قلوب الناس هيبةَ ذلك المكان حتى كانوا لا ينتهكونَ حُرْمَةَ مَن كان فيه بمال ولا بنفسٍ، ثم بدعاءِ إبراهيم صارت حَرَماً آمِناً بأنْ أمرَ اللهُ الناسَ بتعظيمهِ على ألْسِنَةِ الرُّسُلِ. والواوُ في قولهِ ﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ دليلٌ على إجابةِ الله دعوةَ إبراهيمَ خاصةً.
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾ ؛ قيل : إنَّ الله تعالى خَلَقَ موضِعَ البيت قبل أن يخلُقَ الأرضَ بألفي عامٍ، وكان ربوةً بيضاءَ على الماءِ فَدُحِيَتِ الأرضُ من تحتها، فلَّما أهبطَ اللهُ آدمَ إلى الأرض كان رأسهُ يلمس السماءَ حتى صَلُعَ، وأورثَ أولادَه الصلعَ. ونفرت مِن طولهِ دوابُّ الأرض. وكان يسمعُ كلامَ أهل السماء وتسبيحَهم، ويأنَسُ إليهم. فاشتكت نفسُه فقبضهُ الله إلى ستينَ ذِراعاً بذراع آدم. فلما فقدَ آدمُ ما كان يسمع من أصواتِ الملائكة وتسبيحَهم استوحشَ وشَكَى إلى اللهِ، فأنزلَ الله ياقوتة من ياقوتِ الجنة لها بابان من زُمُرُّدَةٍ خضراءَ ؛ بابٌ شرقي وباب غربيٌّ، وفيه قناديلُ من الجنة، فوضعه على موضعِ البيت الآن. ثم قال : يا آدَمُ إنِّي أهبطتُ لكَ بيتاً يُطَّوَّفُ به كما يطافُ حول عرشي، ويصلَّى عنده كما يصلَّى عند عرشي. وأنزلَ عليه الحجرَ ليمسح به دموعَهُ وكان أبيضَ. قال رسولُ اللهِ ﷺ :" إنَّ الْحَجَرَ يَاقُوتَةٌ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، وَلَوْلاَ مَا مَسَّهُ الْمُشْرِكُونَ بأنْجَاسِهِمْ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلاَّ شَفَاهُ اللهُ تَعَالَى " فتوجَّه آدمُ من أرض الهندِ إلى مكَّة ماشياً، وقُيِّضَ مَلَكٌ يدلُّه على البيتِ.
قيل : لِمجاهدٍ : يا أبَا الحجَّاج ؛ ألاَ كان يركبُ ؟ قال : وأيُّ شيْءٍ يحملهُ! فوالله إن خطوتَه مسيرةُ ثلاثةِ أيام، وكلُّ موضعٍ وضعَ عليه قدمه صارَ عمراناً، وما تعدَّاه صارَ مَفَاوزاً وقِفَاراً. فأتَى مكةَ وحجَّ البيتَ وأقام المناسكَ ؛ فلما فرغَ تلقَّته الملائكةُ فقالوا : برَّ حَجُّكَ يا آدمُ، فلقد حَجَجْنَا هذا البيتَ قبلَك بألفي عام.
قال ابن عباس :(حَجَّ آدَمُ أرْبَعِيْنَ سَنَةً مِنَ الْهِنْدِ إلَى مَكَّةَ عَلَى رجْلَيْهِ ؛ فَكَانَتِ الْكَعْبَةُ كَذَلِكَ إلَى أيَّامِ الطُّوفَانِ، فَرَفَعَهَا اللهُ إلَى السَّمَاءِ الرَّابعَةِ، فَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفُ مَلَكٍ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ إلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَبَعَثَ اللهُ جِبْرِِيْلَ حَتَّى جَاءَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ فِي جَبَلِ أبي قُبَيْسٍ صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْغَرَقِ، فَكَانَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ خَالِياً إلَى زَمَنِ إبْرَاهِيْمَ عليه السلام، ثُمَّ أمَرَ اللهُ إبْرَاهِيْمَ بَعْدَمَا وُلِدَ إسْمَاعِيْلُ وَإسْحَقُ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ أنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لَهُ يُعْبَدُ وَيُذْكَرُ فِيْهِ. فَلَمْ يَدْر إبْرَاهِيْمُ أيْنَ يَبْنِي ؟ فَسَأَلَ اللهَ أنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَوْضِعَهُ، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِ السَّكِيْنَةَ لِتَدُلَّهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ ؛ وَهِيَ ريْحٌ مَجُوجٌ لَهَا رَأْسَانِ تُشْبهُ الْحَيَّةَ، فَتَبعَهَا إبْرَاهِيْمُ حَتَّى أتَيَا مَكَّةَ، فَجَعَلَتِ السَّكِيْنَةُ تَطُوفُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ كَمَا تَطُوفُ الْحَيَّةُ. وَأُمِرَ إبْرَاهِيْمُ أنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ لِتَسْتَقِرَّ السَّكِيْنَةُ. فَبَنَاهُ) وهذا قولُ عَلِيٍّ كَرَمَّ اللهُ وَجْهَهُ.
قال ابن عباس رضي الله عنه :(بَعَثَ اللهُ سَحَابَةً عَلَى قَدْر الْكَعْبَةِ فَجَعَلَتْ تَسِيْرُ وَإبْرَاهِيْمُ يَسِيْرُ فِي ظِلِّهَا إلَى أنْ وَافَتْ مَكَّةَ وَوَقَفَتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ، وَنُودِيَ : يَا إبْرَاهِيْمُ إِبْنِ عَلَى ظِلِّهَا لاَ تَزِيْدُ وَلاَ تُنْقِصُ، فَبَنَى بخَيَالِهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي وابعث في ذرِّيتنا الأمَّةَ المسلمةَ ؛ أي ذريَّة إبراهيمَ وإسماعيل من أهلِ مكَّة، ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ أي من أهل نَسَبهِمْ، ﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾ ؛ أي يقرأُ عليهم كتابَكَ، ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ ﴾ ؛ الذي ينْزلُ عليه ومعانيه، ﴿ وَالْحِكْمَةَ ﴾ ؛ أي فِقْهَ الحلالِ والحرام. وقال مجاهدُ :(فَهْمُ الْقُرْآنِ). وقال مقاتلُ :(هِيَ مَوَاعِظُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ). وقال ابنُ قتيبةَ :(هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، وَلاَ يُسَمَّى الرَّجُلُ حَكِيْماً حَتَّى يَجْمَعَهُمَا). وقال بعضُهم : كلُّ حكمةٍ وَعَظَتْكَ أو زَجَرَتْكَ أو دَعَتْكَ إلى مَكْرَمَةٍ أو نَهَتْكَ عن قبيحٍ فهي حِكْمَةٌ ؛ وقيل : الحكمةُ وضعُ الأشياءِ في مواضِعها. وقيل : هي السُّنَّةُ البَيِّنَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ ؛ أي يطهِّرهم من الكفرِ والفواحش والدَّنَسِ والذنوب. وقيل : يصلِحُهم بأخذِ زكاةِ أموالِهم. وقال ابنُ كيسان :(أنْ يَشْهَدَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بالْعَدَالَةِ إذَا شَهِدُواْ لِلأَنْبِيَاءِ بالْبَلاَغِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ ؛ الْعَزِيْزُ : هُوَ الْمَنِيْعُ الذي لا يغلِبُه شيءٌ. وَالْحَكِيْمُ : الذي يَحْكُمُ ما يريدُ.
وقال ابنُ عباس :(الْعَزِيْزُ : الَّذِي لاَ يُوجَدُ مِثْلُهُ) دليلهُ قوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾[الشورى : ١١]. وقال الكلبيُّ :(الْعَزِيْزُ : الْمُنْتَقِمُ مِمَّنْ أسَاءَ) دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾[آل عمران : ٤]. وقال الكسائيُّ :(الْعَزِيْزُ : الْغَالِبُ) دليلهُ قوله :﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾[ص : ٢٣] أي غَلَبي. وقال ابنُ كيسان :(الْعَزِيْزُ : الَّذِي لاَ يُعْجِزُهُ شَيْءٌ). وقال المفضَّلُ :(الْعَزِيْزُ : الْمُمْتَنِعُ الَّذِي لاَ تَنَالُهُ الأَيْدِي ؛ وَلاَ يُرَدُّ لَهُ أمْرٌ ؛ وَلاَ غَالِبَ لَهُ فِيْمَا أرَادَ). وقيل : العزيزُ : هو القويُّ ذو القدرة ؛ دليلهُ قوله :﴿ فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ﴾[يس : ١٤] أي قَوَّيْنَا. وأصلُ العِزَّةِ في اللغةِ : الشِّدَّةُ ؛ يُقَالُ : عَزَّ عَلَيَّ كَذَا ؛ إذا شَقَّ. والمرادُ بالرسولِ في هذه الآية مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وبالكتاب القرآنُ.
روي أنَّ النبيَّ ﷺ قال :" أنَا إنَّمَا دَعْوَةُ أبي إبْرَاهِيْمَ، وَبُشْرََى أخِي عِيْسَى " يعني قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾ وقوله :﴿ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾[الصف : ٦] فاستجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام وبعثَ فيهم مُحَمَّداً سيِّدَ الأنبياءِ ؛ لذلك قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" إنِّي عَبْدُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبيِّيْنَ وَإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِيْنَتِهِ ".
قَوْلَهَ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾، هذا تحريضٌ من الله على مِلَّةِ نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ التي هي مِلَّةُ إبراهيمَ ؛ لأنََّ إبراهيمَ وإسماعيل كانَا سألاَ في دعائِهما أن يجعلَ اللهُ من ذريَّتهما في مكةَ رَسُولاً ؛ لأن الكلامَ كان في ذِكْرِ مكةَ ولم يكن أحدٌ من أهلِ مكة من ذرِّيتهما نبياً سوى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وملةُ إبراهيمَ داخلةٌ في ملةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ مع الزيادات التي في شرائعِ هذه المِلَّةِ.
وسببُ نزول هذه الآية : أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ سَلاَمٍ دَعَا ابْنَي أخِيْهِ مَسْلَمَةَ وَمُهَاجِرَ إلَى الإسْلاَمِ، وَقَالَ لَهُمَا : قَدْ عَلِمْتُمَا أنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ :(إنِّي بَاعِثٌ مِنْ ولْدِ إسْمَاعِيْلَ نَبيّاً اسْمُهُ أحْمَدُ، فَمَنْ آمَنَ بهِ فَقَدِ اهْتَدَى وَرَشَدَ ؛ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بهِ فَمَلْعُونٌ) فَأَسْلَمَ مَسْلَمَةُ وَأبَى مُهَاجِرُ أنْ يُسْلِمَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ ﴾ أيْ يتْرُكُ دِيْنَهُ وَشَرِيْعَتَهُ.
يقال : رَغِبْتُ في الشيءِ ؛ إذا أرَدْتُهُ، وَرَغِبْتُ عَنْهُ ؛ إذا تَرَكْتُهُ. والرغبةُ في اللغة : مَحَبَّةُ مَا لِلنَّفْسِ فِيْهِ مَنْفَعَةٌ. ولِهذا لا يجوزُ في صفاتِ الله : رَاغِبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ أي خَسِرَ وَهَلَكَ. وقال الكلبيُّ :(ضَلَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ). وقال بعضُ أهلِ اللغة : سَفِهَ بمَعْنَى يَسْفَهُ، وقيل :(سَفِهَ نَفْسَهُ) أي جَهِلَ نَفْسَهُ بمعنى لم يتفكَّر في نفسهِ أنَّ لَهَا خَالِقاً. وقيل : سَفِهَ فِي نَفْسِهِ ؛ إلا أنهُ حذف الخافض فنُصِبَ، مثلُ قولهِ تعالى :﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ ﴾[البقرة : ٢٣٥] أي على عُقْدَةِ النكاحِ. ويقال : ضربتُهُ الظهرَ والبطنَ ؛ أي على الظهرِ والبطنِ ؛ وأصلُ السَّفَهِ وَالسَّفَاهَةِ : الْجَهْلُ وَضَعْفُ الرَّأيِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي للرسالةِ. وأصلُ الطَّاءِ فيه التاءُ، جعلت طاءً لقرب مخرَجِها ولتطوُّع اللِّسانِ به. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ أي الفائزينَ. قاله الزجَّاجُ. وَقِيْلَ : الْمُسْتَوْجِبيْنَ لِلْكَرَامَةِ. وقيلَ : في الآيةِ تقديمٌ وتأخير، تقديرهُ : ولقد اصطفيناهُ في الدنيا والآخرةِ وإنَّه لَمِنَ الصالحينَ، نظيرهُ في سورةِ النحل :﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾[النحل : ١٢٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ﴾ ؛ أي استقِمْ على الإسلامِ وَاثْبُتْ عليهِ ؛ لأنه كان مُسْلِماً كقولهِ تعالى :﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾[محمد : ١٩] أي اثْبتْ على عِلْمِكَ. وقال ابنُ عبَّاس :(إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِيْنَ خَرَجَ مِنَ السَّرَب وَرَأى الْكَوْكَبَ وَالْقَمَرَ وَالشَّمْسَ، فَأَلْهَمَهُ اللهُ الإخْلاَصَ فَاسْتَدَلَّ وَعَرَفَ وَحْدَانِيَّةَ اللهِ فَأَسْلَمَ حِيْنَئِذٍ، وَقَالَ :﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام : ٧٨-٧٩]) وليس أنه كان حين أفَلَتِ الشمسُ كافراً ؛ لأنَّ الله تعالى لا يُنْبئُ مَن كان كافراً قطّ.
ويجوزُ أن يكون معنى الإسلامِ : تسليمُ الأمور إلى الله تعالى والانقيادُ له من غيرِ امتناعٍ وعِصْيَانٍ. وقال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : أخْلِصْ دِيْنَكَ للهِ بالتَّوْحِيْدِ). وقال عطاءُ :(سَلِّمْ نَفْسَكَ إلَى اللهِ وَفَوِّضْ أمْرَكَ إلَيْهِ). وقيل : اخْضَعْ واخشَعْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ﴾ ؛ قرأ أهلُ المدينةِ وأهلُ الشَّام :(وَأوْصَى) بالألفِ. وقرأ الباقون بالتشديد. وهما لُغتان ؛ يقال : أوْصَيْتُهُ وَوَصَّيْتُهُ ؛ إذا أمرتُهُ مثلَ إِنْزِلْ ونَزِّلْ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِهَآ ﴾ يعني بكلمةِ الإخلاص : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ. وقال أبو عُبيدةَ :(إنْ شِئْتَ رَدَدْتَ الْكِنَايَةَ إلَى الْمِلًَّةِ ؛ لأَنَّهُ ذكَرَ مِلَّةَ إبْرَاهِيْمَ ؛ وَإنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا إلَى الْوَصِيَّةِ). وقال المفضَّلُ :(بالطَّاعَةِ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ). وكنايةُ الْمِلَّةِ هنا أصحُّ ؛ لأن ردَّها إلى المذكور أولَى من ردِّها إلى المدلولِ، وكلمةُ الإخلاصِ مدلولٌ عليها في ضِمْنِ قولهِ تعالى :﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
وبَنُو إبراهيمَ أربعةٌ : إسْمَاعِيْلُ ؛ وَإسْحَقُ ؛ وَمَدْيَنُ ؛ وَمَدَائِنُ. قوله تعالى :﴿ وَيَعْقُوبُ ﴾ قيل : سُمي بيعقوبَ ؛ لأنه خرجَ على إثْرِ العيصِ ؛ وقد مَضَتْ قصتُهما. وقيل : سُمي بيعقوبَ لكثرة عَقِبهِ، قال رسولُ اللهِ ﷺ :" بُعِثْتُ عَلَى إثْرِ ثَمَانِيَةِ آلاَفِ نَبيٍّ : أرْبَعَةُ آلاَفٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيْلَ " ومعنى الآية : وصَّى بها أيضاً يعقوبُ بَنِيْهِ الاثنَي عَشَرَ. وحُكي عن مجاهدٍ أنه حكى عن بعضِهم :(وَيَعْقُوبَ) بالنصب عطفاً على بَنِيْهِ داخلاً في جُملتها الموصِّيين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ ﴾ ؛ أي الإسلامَ، ﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ ؛ أي مؤمنون. وقيل : مُخلصون. وقيل : مُحسنون بربكم الظنَّ. وقيل : مُفَوِّضُونَ.
روي أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ الْيَهُودُ لِلنَّبيِّ ﷺ : ألَسْتَ تَعْلَمُ أنَّ يَعْقُوبَ يَوْمَ مَاتَ أوْصَى بَنِيْهِ بدِيْنِ الْيَهُودِيَّةِ ؟ فأنزلَ اللهُ تعالى قولَهُ :﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ﴾ ؛ أي أكنتم أيُّها اليهودُ حضوراً حين حضرَ يعقوبَ الموتُ، ﴿ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ ؛ الصادِقَ، ﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾ ؛ الْحَلِيْمَ.
والمراد بحضور الموت : حضورُ أسبابهِ ؛ لأن مَن حضرَهُ الموتُ لا يتمكَّن من القولِ، وقد سُمي سببُ الشيء باسْمِه. كما قالَ تعالى :﴿ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾[الشورى : ٤٠].
وقال الكلبيُّ :(مَعْنَى الآيَةِ : أنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ رَأى أهْلَهَا يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ وَالنِّيْرَانَ ؛ فَجَمَعَ أوْلاَدَهُ وَخَافَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُمْ : مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي). وقال عطاءُ :(إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبضْ نَبيّاً حَتَّى يُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، فَلَمَّا خَيَّرَ يَعْقُوبَ قَالَ : أنْظِرْنِي حَتَّى أَسْأَلَ أوْلاَدِي وَأُوْصِيَهُمْ ؛ فَجَمَعَ أوْلاَدَهُ وَأَوْلاَدَ أوْلاَدِهِ وَقَالَ لَهُمْ : قَدْ حَضَرَ أجَلِي، فَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ؟ أيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي. (قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإلَهَ آبَائِكَ). ﴿ إِلَـاهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.
قرأ يحيى بن مُعَمَّر :(إلَهَ أبيْكَ) على التوحيدِ ؛ قال : لأنَّ إسماعيلَ عمُّ يعقوبَ لا أبوهُ. وقرأ العامَّة :(وَإلَهَ آبَائِكَ) على الجمعِ. وقالوا : عمُّ الرجل صِنْوُ أبيهِ. وقال النبيُّ ﷺ للعباسِ :" هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي " والعربُ تُسمي العمَّ أباً كما تُسمِّي الْخَالَةَ أُمّاً. قال اللهُ تعالى :﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾[يوسف : ١٠٠] يعني يعقوب وليان ؛ وهي خالةُ يوسف عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ ؛ أي لا تَتَّكِلُوا أيها اليهودُ على آبائكم وأسلافِكُم اعتماداً منكم على شفاعَتِهم عنكم فإنَّهم جماعةٌ قد مَضَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾ ؛ أي لَها جزاءُ ما عملت من خيرٍ أو شرٍّ ولكم جزاءُ ما عملتم. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ أي إنَّما تُسألون عن أعمالِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ فِي رُؤُوسِ يَهُودِ الْمَدِيْنَةِ كَعْب بْنِ الأَشْرَفِ وَمَالِكِ بْنِ الضَّيْفِ وَوَهَب بْنِ يَهُودَا وَأبي يَاسِرٍ، وَفِي نَصَارَى نَجْرَانَ السَّيِِّدِ وَالْعَاقِب وَأَصْحَابهِمَا، خَاصَمُواْ الْمُسْلِمِيْنَ فِي الدِّيْنِ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ : نَبيُّنَا مُوسَى أفْضَلُ الأَنْبيَاءِ ؛ وَكِتَابُنَا التَّوْرَاةُ أفْضَلُ الْكُتُب ؛ وَدِيْنُنَا أفْضَلُ الأَدْيَانِ ؛ وَكَفَرْتُ بعِيْسَى وَالإنْجِيْلِ وَمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَتِ النَّصَارَى : نَبيُّنَا عِيْسَى أفْضَلُ الأَنْبيَاءِ ؛ وَكِتَابُنَا الإنْجِيْلُ أفْضَلُ الْكُتُب ؛ وَدِيْنُنَا أفْضَلُ الأَدْيَانِ ؛ وَكَفَرْتُ بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيْقَيْنِ لِلْمُسْلِمِيْنَ : كُونُواْ عَلَى دِيْنِنَا ؛ فَلاَ دِيْنَ إلاَّ ذَلِكَ ؛ دَعَوْهُمْ إلَى دِيْنِهِمْ). فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ ؛ أي مُسْلِماً مُخْلِصاً مائلاً عن كلِّ دينٍ سوى الإسلام، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ؛ يعني إبراهيمَ عليه السلام.
وَالْحَنَفُ : مِثْلُ أصَابعِ الْقَدَمَيْنِ. سُمي إبراهيمُ حنيفاً ؛ لأنه حَنَفَ عمَّا كان يعبدُ آباؤه ؛ أي عَدَلَ. وقيل : الْحَنَفُ : الاستقامةُ، وإنَّما سُمي الرجلُ الأعرجُ أحْنَفاً تأَوُّلاً ؛ كما يقالُ للأعمى بصيراً.
والفائدةُ في ذكرِ ملَّة إبراهيمَ (كونه) لا شَكَّ أنه حقٌّ عندنا وعندَ اليهودِ والنصارى، ولم يختلفِ الناسُ في أن مِلَّتَهُ الإسلامُ والتوحيد. قال ابنُ عباس :(الْحَنِيْفُ : هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الأَدْيَانِ كُلِّهَا إلاَّ دِيْنَ الإسْلاَمِ). وقال مقاتلُ :(الْحَنِيْفُ : الْمُخْلِصُ). وانتصبَ حنيفاً على القطعِ عند الكوفيِّين ؛ لأن تقديرَهُ : بلْ ملَّة إبراهيمَ الحنيفَ، فلما سقطتِ الألفُ واللام لم يتبعِ النكرةُ المعرفةَ فانقطع منه، فنُصِبَ. وقال البصرِيُّون : انتصبَ على الحالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ ؛ الآيةُ، وذلك أنهُ جاءَ أحبارُ اليهودِ إلى النبيِّ ﷺ فقالُوا لَهُ : بمَنْ نُؤْمِنُ مِنَ الأَنْبيَاءِ ؟ فأنزلَ اللهُ :﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ ؛ ﴿ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ ؛ يعني القرآنَ، ﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ ؛ وهي عشرَةُ صُحُفٍ، ﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ ﴾ ؛ يعني أولادَ يعقوبَ واحدهم سِبْطٌ، سُموا بذلك لأنه وُلِدَ لكلِّ واحدٍ منهم جماعةٌ من الناس، وسِبْطُ الرَّجُلِ : حَافِدُهُ، ومنه قيل للحسنِ والْحُسين : سِبْطَيْنِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. والأسباطُ من بني إسرائيلَ كالقبائلِ من العرب ؛ والشعوب من العَجَم، فكان في الأسباطِ أنبياءٌ ؛ فلذلكَ قال اللهُ تعالى ﴿ وَمَآ أُنْزِلَ ﴾ إليهم ؛ وقيل : هم بَنُو يعقوبَ من صُلبهِ صاروا كلُّهم أنبياءَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى ﴾ ؛ يعني التوراة، ﴿ وَعِيسَى ﴾ ؛ يعني الإنجيل، ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ ؛ أي لا نؤمنُ ببعضٍ ونَكْفُرُ ببعضٍ كما فعلتِ اليهودُ والنصارى، بل نؤمن بجميعِ أنبياءِ الله وكُتُبهِ ؛ فلما نزلتْ هذه الآيةُ قرأهَا رسولُ اللهِ ﷺ على اليهودِ والنصارى وقال :" إنَّ اللهَ أمَرَنِي بهَذَا " فلما سَمعتِ اليهودُ بذكرِ عيسى أنكرُوا وكَفَرُوا وقالوا : لا نؤمنُ بعيسى. قالتِ النصارَى : إنَّ عيسَى ليسَ بمَنْزِلَةِ الأنبياءِ ولكنهُ ابنُ الله، فأنزلَ اللهُ تعالى قولَهُ تعالى :﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ ؛ أي فإنْ آمَنوا بجميعِ ما آمَنْتُمْ بهِ كإيْمانِكم. قِيْلَ : معناهُ : فإنْ آمَنوا بما آمنتم به.
و(مِثْلِ) هنا صلةٌ، وهكذا كانوا يقرأونَها. كان يقرؤها ابنُ عباسٍ ويقول : إقْرَأْوا (فَإِنْ آمَنُواْ بمِا آمَنْتُمْ بِهِ) فليسَ للهِ مِثْلٌ. وقيل : بمعنى (على). وقيل : الباءُ زائدةٌ. ومعنى الآية : إنْ آمَنوا باللهِ ورُسُلِهِ وكُتُبهِ فقدِ اهتَدَوا.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي وإنْ أعْرَضُوا عن الإيْمانِ بالقرآنِ ومُحَمَّدٍ ﷺ ﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ أي خلافٍ وعداوة، يقال : فلانٌ وفلانٌ تَشَاقَّا ؛ أي أخذَ كلُّ واحدٍ منهم بشِقٍّ غيرِ شِقِّ صاحبهِ. دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حاكياً عن شُعيب :﴿ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ﴾[هود : ٨٩] أي خِلافِي. وقيل : مأخوذٌ مِما أخذَ كلُّ واحد فيما يَشُقُّ على صاحبهِ. وقال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : فَإنَّمَا هُمْ فِي ضَلاَلٍ). وقال الكسائيُّ :(مَعْنَاهُ : فَإنَّمَا هُمْ فِي خَلْعِ الطّاعَةِ). وقال الحسنُ :(مَعْنَاهُ : فإنَّمَا هُمْ فِي بعَادٍ وَفِرَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وقيل : لَمَّا انتَهى النبيُّ ﷺ إلى قوله تعالى :﴿ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾ قالت النصارى : لن نؤمنَ بموسى ولا نؤمنُ بكَ، فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾[المائدة : ٥٩].
وإنَّما أضافَ اللهُ الإنزالَ إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ، وإنَّما كان الإنزالُ على آبائِهم ؛ لأنَّهم كانوا جميعاً يعلَمُون ذلك، فأضافَ الإنزالَ كما قال :﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ أي إلى نَبيِّنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ يعني اليهودَ والنصارى ؛ أي فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ يا مُحَمَّدُ وسائرُ المسلمين شَرَّ اليهودِ والنصارى، ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ ﴾، لأقوالِهم، ﴿ الْعَلِيمُ ﴾، بأحوالِهم، فكفاهُ الله أمرَهم بالقتلِ والسَّبي في بني قُرَيْظَةً ؛ والجلاءِ والنَّفي في بني النَّضِيْرِ ؛ والجزيةِ والذِّلةِ في نصارى نَجران.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي دينَ اللهِ وفِطْرَتَهُ ؛ لأن دينَ الإسلامِ يؤثرُ في الْمُتَدَيِّنِ مِن الطهور والصلاةِ والوَقَار وسائرِ شعائر الإسلامِ كالصَّبغ الذي يكونُ في الثوب. ولا شيء في الأديانِ أحسنُ من دينِ الإسلام، قال اللهُ تعالى :﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ ؛ وقيل : أرادَ بالصبغةِ الْخِتَانَ. وروي أنَّ صِنفاً من النَّصارى كانوا إذا وُلِدَ لَهم ولدٌ وأتَى عليه سبعةُ أيَّام صَبَغُوهُ ؛ أي غَمَسُوهُ في ماءٍ لَهم يقالُ له : الْمَعْمُودِي ليطهِّروه بذلكَ، وقالوا : هذا طُهُورُهُ ومكانُ الخِتَانِ. فقيل : لَهم :﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ أي التطهرُ الذي أمرَ اللهُ بهِ أبلغُ في النظافةِ.
وأولُ من اخْتَتَنَ إبراهيمُ عليه السلام بالقُدُّومِ ؛ وهيَ موضعُ مَمَرِّهِ بالشامِ ؛ وكان يومئذٍ ابنُ مِائَةٍ وعشرين سنةً، ثم عاشَ بعد ذلك ثَمانين سنةً.
ونصبَ (صِبْغَةَ) على الإغراءِ ؛ أي الْزَمُوا صبغةَ اللهِ، أو اتَّبعُوا. وقال الأخفشُ :(هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾[البقرة : ١٣٥]. وقال ابنُ كيسان :﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ ﴾ أيْ وجْهَةَ اللهِ ؛ بمَعْنَى الْقِبْلَةِ). وقال الزجَّاج :(مَعْنَاهُ : خِلْقَةَ اللهِ، مِنْ صَبَغْتُ الثَّوْبَ إذَا غَيَّرْتُ لَوْنَهُ وَخِلْقَتَهُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى أنَّ اللهَ تَعَالَى ابْتَدَأ الْخِلْقَةَ عَلَى الإِسْلاَمِ). دليلهُ قول مقاتلٍ في هذهِ الآية :﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ ﴾[الروم : ٣٠] أيْ دِيْنَ اللهِ. ويوضِّحه قولُ رسولِ الله ﷺ :" [كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، إلاَّ أنَّ أبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيْمَةَ، فَهَلْ تَجِدُونَ مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا؟] قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ أرَأيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ ؟ قَالَ :[اللهُ أعْلَمُ بمَا كَانُواْ عَامِلِيْنَ] " وقال أبو عبيدةُ :(مَعْنَاهُ : سُنَّةُ اللهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾ ؛ أي مُطِيْعُونَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا ﴾، وذلك أنَّ اليهودَ كانوا يقولون : نحنُ أهل الكتاب الأوَّل والعِلْمِ القديمِ. وكانوا يقولون هم والنصَارى : نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه. فأمرَ اللهُ تعالى النَّبيَّ ﷺ بهذه الآيةِ أنْ ﴿ قُلْ ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ :﴿ أَتُحَآجُّونَنَا ﴾ ﴿ فِي اللَّهِ ﴾ ؛ أي أتُجَادِلُونَنَا وتخاصِمُوننا. وقرأ الأعمشُ والحسن :(أتُحَاجُّونَّا) بنونٍ واحدة مشدَّدة. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي اللَّهِ ﴾ أي في دينِ اللهِ. وذلك أنَّهم قالوا : إنَّ الأنبياءَ كانوا مِنَّا وعلى ديننا ولم يكونوا من العرب ؛ فلو كنتَ نَبيّاً لكنتَ مِنَّا على ديننا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ ؛ أي لنا دِيننا ولكم دينُكم. وهذهِ الآية منسوخةٌ بآيةِ السَّيف. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ ؛ أي مُوَحِّدُونَ. قال عبدُالواحد بنُ زيدٍ :" سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنِ الإخْلاَصِ مَا هُوَ ؟ قَالَ : سَأَلْتُ حُذَيْفَةَ عَنِ الإخْلاَصِ مَا هُوَ ؟ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبيَّ ﷺ عَنِ الإخْلاَصِ مَا هُو ؟ قَالَ :[سَأَلْتُ جِبْرِيْلَ عَنِ الإخْلاَصِ مَا هُوَ ؟ قَالَ : سَأَلْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ عَنِ الإِخْلاَصِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ : سِرٌّ مِنْ سِرِّي أوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أحْبَبْتُ مِنْ عِبَادِي] " وَقَالَ ﷺ :" مَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيْقَةَ الإخْلاَصِ حَتَّى لاَ يُحِبَّ أنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى ".
وقال سعيدُ بن جبيرٍ :(الإخْلاَصُ أنْ يُخْلِصَ الْعَبْدُ دِيْنَهُ وَعَمَلَهُ للهِ وَلاَ يُشْرِكَ بِهِ فِي دِيْنِهِ وَلاَ يُرَائِي بعَمَلِهِ أحَداً). وقال الفُضيل :(تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أجْلِ النَّاسِ رياءٌ، وَالْعَمَلُ مِنْ أجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَالإخْلاَصُ أنْ يُعَافِيَكَ اللهُ مِنْهُمَا). وقال يحيى بن مُعاذ :(الإخْلاَصُ تَمْييْزُ الْعَمَلِ مِنَ الْعُيُوب كَتَمْييْزِ اللَّبَنِ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ). وقال بعضُهم : هو ما لا يكتبهُ الْمَلَكَانِ ؛ ولا يفسِدُه الشيطانُ ؛ ولا يظلمُ عليه الإنسانُ. وقيل : هو أن لا تشوبهُ الآفاتُ ؛ ولا تتبعه رُخَصُ التأويلاتِ. وقيل : هو أنْ تستويَ أفعالُ العبدِ في الظاهرِ والباطن. وقيل : هو أن يَكْتُمَ حسناتَهُ كما يكتمُ سيِّئاته. قال أبو سليمان :(لِلْمُرَائِي ثلاَثُ عَلاَمَاتٍ : يَكْسَلُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ ؛ وَيَنْشَطُ إذَا كَانَ فِي النَّاسِ ؛ وَيَزِيْدُ فِي الْعَمَلِ إذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾، قرأ ابنُ عامر وحمزةُ والكسائيُّ وخَلَف وحفصُ بالتاءِ للمخاطِبة التي قبلَها (قُلْ أتُحَاجُّونَنَا) والتي بعدَها :(قُلْ أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللهُ). وقرأ الباقونَ بالياء إخباراً عن اليهودِ والنصارى أنَّ إبراهيمَ وإسماعيل وإسحقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هُوداً أو نصارى. ومعنى الآية : أَتُحَاجُّوننا بقولِكم كونوا هُوداً أو نصارى تَهتدوا، وقولُكم : لن يدخلَ الجنةَ إلا مَن كان هُوداً أو نصارى، أم بقولِكم : إنَّ إبراهيم وإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوب والأسباطَ كانوا هُوداً أو نصارى، مع عِلْمِكُمْ بخلافِ ذلك. وهذا استفهامٌ بمعنى التوبيخِ، فإنَّهم كانوا يزعمون أنَّ الدينَ الصحيحَ هو اليهوديةُ والنصرانية ؛ وأنَّ هؤلاءِ الأنبياءُ تَمسَّكوا بها.
يقولُ الله تعالى :﴿ قَلْ ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَدُ :﴿ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ فإنَّ اللهَ قد أخبر أنَّهم كانوا مسلمين، وأنَّهم لم يكونوا يهوداً ولا نَصارى، فقالوا : ما هو كما قُلْتَ، وإنا على دينِ إبراهيمَ، وما أنتَ برسولِ الله ؛ ولا على دينهِ. فأنزلَ اللهُ تعالى قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ يعني علماءَ اليهودِ والنصارى ؛ لأنَّهم عَلِمُوا أنَّ إبراهيمَ وإسماعيل وإسحق ويعقوبَ والأسباط كانوا حُنَفَاءَ مسلمين ؛ وأنَّ رسالةَ نَبيِّنَا حَقٌّ بَيَّنَهُ اللهُ في التوراةِ والإنجيل، فَكَتَمُوهُ حَسَداً وطلباً للرئاسَة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ ؛ يعني من كِتْمَانِ نَعْتِ مُحَمَّدٍ ﷺ وصفتهِ ؛ يجازيكم عليه في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ ؛ قد تقدَّم تفسيرُها. فائدةُ التكرار : أنَّ القرآن أُنزل على لغةِ العرب، ومن عادتِهم ذكرُ الجواب الواحد في أوقاتٍ مختلفة لأغراضٍ مختلفة ؛ يعدُّون ذلك فصاحةً. وإنَّما يعابُ تكرار الكلامِ في مجلسٍ واحد لغرضٍ واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ ﴾ ؛ أي الْجُهَّالُ :﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ﴾ ؛ أي ما صَرَفَهُمْ وحوََّلَهم عن قبلتهم ؛ ﴿ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا ﴾ ؛ يعني بيتَ المقدسِ. نزلتْ في اليهودِ ومشركي مكَّةَ ومنافقي المدينةِ ؛ طَعَنُوا في تحويلِ القبلةِ، وقال مشركُو مكة : قد تَرَدَّدَ على محمدٍ أمرهُ، واشتاقَ إلى مولدهِ ومولدِ آبائه ؛ وقد توجَّه نحو قِبلتهم ؛ وهو راجعٌ إلى دينكم عاجلاً. فقالَ اللهُ تعالى :﴿ قُل للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي للهِ المشرقُ والمغرب مِلْكاً وخَلْقاً ؛ والْخَلْقُ عبيدٌ يحوِّلُهم كيفَ يشاءُ.
وكان النبيُّ ﷺ يصلِّي بمكة إلى الكعبةِ، وكان يجعلُ الكعبةَ بينَهُ وبين بيتِ المقدس، فلما هاجَرَ إلى المدينةِ أُمِرَ بأن يصلِّيَ إلى بيتِ المقدس لِئَلاَّ يكذِّبه اليهودُ ؛ لأن نَعْتَهُ في التوراةِ أن يكون صاحبَ قِبلتين ؛ يصلِّي إلى بيتِ المقدس نحوُ مدةَ سبعةَ عشر شهراً أو ثَمانية عشر شهراً، ثم يأمرهُ الله تعالى بالتحويلِ إلى الكعبةِ لِيَمْتَحِنَ أهلَ الإسلامِ، فيظهرُ مَن تَبعَ الرسولَ مِن غيرِهم من منافقي اليهودِ.
فلمَّا حُوِّلَتِ القبلةُ إلى الكعبة بعد إقامة الحجَّة على الكفار، عَلِمَ أنَّهم يقولون في نَسْخِ القبلةِ أشياءَ يُؤْذُونَ بها النبيَّ ﷺ، فأخبرَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ بما سيقولون في المستأنَفِ ؛ ليعجِّل السَّكَنَ ويعرفَ أنَّ ذلك من باب الوحي والغيب كما كان أخبرَ اللهُ تعالى.
ومعناه : سيقولُ السفهاءُ وهم اليهودُ وكفَّار مكةَ : ما الَّذي صرفَ أصحابَ مُحَمَّدٍ ﷺ عن قِبلتهم بيتِ المقدسِ ؛ قُلْ يا مُحَمَّدُ : للهِ المشرقُ والمغربُ ﴿ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ إلى طريقٍ قَوِيْمٍ ؛ وهو الإسلامُ وقِبلة الكعبةِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ للَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ أي مَن كان مَالِكَ المشرقِ والمغرب لا يُعْتَرَضُ عليهِ في جميع ما يأمرُ، ويجوز أن يكونَ معناهُ : أنَّ الله خالقُ الأماكنِ كلِّها، فليسَ بعضُ ما خَلَقَ أولَى أن يُجعل قبلةً في العقلِ من بعضٍ، فوجبَ الانتهاءُ إلى أمرِ الله باستقبالِ ما شاءَ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾ ؛ أي عَدْلاً ؛ وقيل : خِيَاراً، يقالُ في صفةِ النبيِّ ﷺ :[هُوَ أوْسَطُ قُرَيْشٍ حَسَباً] ويقالُ : فلانٌ وسيطٌ في حَسَبهِ ؛ أي كامِلٌ مُنْتَهٍ في الكمالِ ؛ ولأن المتوسِّطَ في الأمور لا يفرِّطُ فَيَغْلُو ولا يُقَصِّرُ فَيَتَّضِعُ، فهذه الأمةُ لم تَغْلُو في الأنبياءِ كَغُلُوِّ النصارى حيث قالُوا : المسيحُ ابن الله! ولم يقصَّروا كتقصيرِ اليهود حيث كذَّبوا الأنبياءَ وقَتَلُوهُمْ. وأصلهُ أن خيرَ الأشياءِ أوسطُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ ؛ أي شهداءَ للنبيين صلوات الله عليهم بالتبليغِ. وقد يقامُ مقام اللام في مثلِ قوله :﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾[المائدة : ٣] أي للنُّصب ؛ وقولهُ تعالى :﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ ؛ أي ويكون مُحَمَّدٌ ﷺ عليكم شهيداً معدِّلاً مزكّياً لكم، وذلك أن الله تعالى يجمعُ الأولين والآخِرين في صعيدٍ واحد، ثم يقولُ لكفار الأمم :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾[الملك : ٨]، فينكرون ويقولون : ما جاءَنا من نذير، فيسألُ الأنبياءَ عن ذلك فيقولون : قد بلَّغناهم. فيسألهم البينةَ إقامةً للحجة عليهم ؛ وهو أعلم بذلك، فيؤتى بأمة مُحَمَّدٍ ﷺ فيشهدونَ لَهم بالتبليغِ، فتقولُ الأمم الماضية : من أينَ عَلِموا ذلك وبيننا وبينهم مدةٌ مديدة ؟ فيقولوا : عَلِمْنَا ذلك بإخبار الله تعالى إيَّانا في كتابهِ الناطق على لسان رسولِ الله، فيؤتَى بالنبيِّ ﷺ ؛ فيزكِّي أُمَّتَهُ ويشهدُ بصدقهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ ؛ أي ما أمرتُك يا مُحَمَّدُ بالتوجه إلى بيت المقدس ثم بالتحويل منها إلى الكعبة إلا ليتميز من يتبع الرسول ممن يرجع إلى دينه الأول. وقيل : ومعناه :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي ﴾ أنتَ ﴿ عَلَيْهَآ ﴾ وهي الكعبةُ لقوله تعالى :﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾[آل عمران : ١١٠] أي أنتم ؛ إلا لنرى ونُمَيِّزَ من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلبُ على عَقِبَيْهِ فيرتدَّ ويرجع إلى قِبلته الأُولَى. قولهُ :﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ أي ليتقرَّر علمنا عندكم. وقيلَ : معناه : ليعلَمَ محمدٌ ﷺ ؛ فأضاف علمه إلى نفسهِ تفصيلاً وتخصيصاً كقولهِ تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ﴾[الأحزاب : ٥٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾ ؛ أي وإن كان اتباعُ بيت المقدس ثم الانتقال إلى الكعبة لشديدٌ ؛ ﴿ إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾ ؛ أي حَفِظَ الله قلوبَهم على الإسلام. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ ؛ أي تصديقكم بالقبلتين. وقيل : معناهُ : وما كان الله ليفسدَ صلاتكم إلى بيت المقدس ؛ وذلك أنَّ حُيَيَّ ابْنَ أخْطَبَ وَأصْحَابَهُ مِنَ الْيَهُودِ قَالُواْ لِلْمُسْلِمِيْنَ : أخْبرُونَا عَنْ صَلاَتِكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أكَانَتْ هُدًى أمْ ضَلاَلَةً ؟ فَإِنْ كَانَتْ هُدًى فَقَدْ تَحَوَلْتُمْ عَنْهَا! وَإنْ كَانَتْ ضَلاَلَةً فَقَدْ ذَنَّبْتُمُ اللهَ بها. وَمَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَيْهَا فَقَدْ مَاتَ عَلَى الضَّلاَلَةِ ؛ وَكَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْوِيْلِ إلَى الْكَعْبَةِ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنْ بَنِي النَّجَّار ؛ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَرِجَالٌ آخَرُونَ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ ﴾ ؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ لِجِبْرِيْلَ عليه السلام :" [وَدَدْتُ أنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إلَى غَيْرِهَا؟] فَقَالَ جِبْرِيْلُ : إنَّمَا أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ لاَ أمْلِكُ شَيْئاً ؛ فَاسْأَلْ رَبَّكَ أنْ يُحَوِّلَكَ عَنْهَا، فَارْتَفََعَ جِبْرِيْلُ وَجَعَلَ النَّبيُّ ﷺ يُدِيْمُ النَّظَرَ إلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ أنْ يَأْتِيَهُ جِبْرِيْلُ بمَا سَأَلَ ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ ﴾﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾.
وروي : أنَّ النَّبيَّ ﷺ وَأصْحَابَهُ كَانُواْ يُصَلُّونَ بمَكَّةَ إلَى الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا هَاجَرُواْ إلَى الْمَدِيْنَةِ أمَرَهُ اللهُ أنْ يُصَلِّيَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؛ لِيَكُونَ أقْرَبَ إلَى تَصْدِيْقِ الْيَهُودِ لَهُ إذَا صَلَّى إلَى قِبْلَتِهِمْ مَعَ مَا يَجِدُونَ مِنْ صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ. فَرُويَ أنَّهُ ﷺ صَلَّى هُوَ وَأصْحَابُهُ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شهراً ؛ وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ أحَبَّ الْقِبْلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في السبب الذي كان لأجله يكرهُ قبلةَ بيت المقدس وهَوِيَ الكعبة. فقال ابن عباس :(لأنَّهَا قِبْلَةُ أبيْهِ إبْرَاهِيْمَ عليه السلام). وقال مجاهدٌ :(مِنْ أجْلِ أنَّ الْيَهُودَ قَالُواْ : يُخَالِفُنَا مُحَمَّدٌ فِي دِيْنِنَا وَيَتَّبعُ قِبْلَتَنَا).
وقال مقاتلٌ :" لَمَّا أمَرَ اللهُ النَّبيَّ ﷺ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَتِ : الْيَهُودُ : يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أنَّهُ نَبيٌّ ؛ وَمَا نَرَاهُ أَحْدَثَ فِي نُبُوَّتِهِ شَيْئاً! ألَيْسَ يُصَلِّي إلَى قِبْلَتِنَا، وَيَسْتَنُّ بسُنَّتِنَا! فَإنْ كَانَتْ هَذِهِ نُبُوَّةً فَنَحْنُ أقْدَمُ وَأوْفَرُ نَصِيْباً. فَشَقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَازْدَادَ شَوْقاً إلَى الْكَعْبَةِ وَقَالَ :[وَدَدْتُ أنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إلَى غَيْرِهَا، فَإنِّي أبْغِضُهُمْ وَأبْغِضُ مُوَافَقَتَهُمْ] فَقَالَ جِبْرِيْلُ عليه السلام : إنَّمَا أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ، لَيْسَ لِي مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، فَاسْأَلْ رَبَّكَ. ثُمَّ عَرَجَ جِبْرِيْلُ عليه السلام ؛ فَجَعَلَ النَّبيُّ ﷺ يُدِيْمُ النَّظَرَ إلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ أنْ يَنْزِلَ جِبْرِيْلُ بمَا يُحِبُّ مِنْ أمْرِ الْقِبْلَةِ، فأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ " أي فَلَنُلْحِقَكَ إلى قبلةٍ تحبُّها وتَهواها، ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي نحوه وقصدهُ. وهو نُصب على الظرف. وقيل : شطرُ الشيء نصفهُ، فكأن اللهَ أمرهُ أن يحوِّلَ وجهَهُ إلى نصفِ المسجد الحرام ؛ والكعبةُ في النصف منه من كلِّ جهة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ ؛ أي أينما كنتم من برٍّ أو بحر أو جبل أو سهل أو شرق أو غرب فولوا وجوهكم نحوه. فحولت القبلة في رَجَبَ بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين.
وقال مجاهد :(نَزَلَتِ الآيَةُ وَرَسُولُ اللهِ ﷺ فِي مَسْجِدِ بَنِي سَلَمَةَ وَقَدْ صَلَّى بأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، فَتَحَوَّلَ فِي الصَّلاَةِ فَاسْتَقْبَلَ الْمِيْزَابَ فَسُمِّيَ ذلِكَ الْمَسْجِدُ مَسْجِدَ الْقِبْلَتَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾ ؛ يعني يهود المدينة ونصارى نجران، فقالوا للنبي ﷺ : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فأنزل الله هذه الآية. وقوله ﴿ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾ يعني الكعبة، وقوله :﴿ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾ ؛ أي وما أنت بمصلٍّ إلى قبلتهم بعد التحويل ؛ ﴿ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾ ؛ لأن اليهودَ تستقبلُ بيت المقدس والنصارى تستقبل المشرق.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ﴾ ؛ أي إن صليت إلى قبلتهم واتبعت ملَّتهم، ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ﴾ ؛ إنَّها حقٌّ وإنَّهَا قبلة إبراهيم، ﴿ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي الجاحدين الضارين لأنفسهم، وهذا وعيدٌ على معصيةٍ عَلِمَ اللهُ أنَّها لا تقع منهُ كقوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾[الزمر : ٦٥] وقد علم اللهُ أنه لا يشركُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ﴾ ؛ يعني مؤمني أهل الكتاب : عبدُالله بنُ سلام وأصحابهُ، ﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾ ؛ أي يعرفون مُحَمَّداً ﷺ، ﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾، من بين الصِّبيان. روي عن ابن عباس أنه قال :[لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِيْنَةَ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه لِعَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ : قَدْ أنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبيِّهِ عليه السلام :﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾، كَيْفَ يَا عَبْدَاللهِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ ؟ قَالَ : يَا عُمَرُ لَقَدْ عَرَفْتُهُ فِيْكُمْ حِيْنَ رَأيْتُهُ كَمَا أعْرِفُ ابْنِي إذَا رأيْتُهُ مَعَ الصِّبْيَانِ يَلْعَبُ، وَأنَا أشَدُّ مَعْرِفَةً بمُحَمَدٍ ﷺ مِنَّي لابْنِي، فَقَالَ عُمَرُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أشْهَدُ أنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقٌّ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَقَدْ نَعَتَهُ اللهُ فِي كِتَابنَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَفَّقَكَ اللهُ يَا ابْنَ سَلاَمٍ ؛ فَقَدْ صَدَقْتَ وَأصَبْتَ].
قولهُ تعالى :﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ ؛ مثل كعب بن الأشرف وأصحابه (يَكْتُمُونَ الْحَقَّ) يعني محمداً ﷺ وأمر الكعبة، ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أن ذلك حقٌّ. رُويَ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حِيْنَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ :" كُنْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أشَدُّ مَعْرِفَةً لَكَ مِنَّي بابْنِي. قَالَ لَهُ :[وَكَيْفَ ذلِكَ؟] قَالَ : لأنِّي أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ﷺ حَقّاً يَقِيْناً ؛ وَلاَ أشْهَدُ بذَلِكَ لابْنِي ؛ لأَنِّي لاَ أدْري مَا أحْدَثَتِ النِّسَاءُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَفَّقَكَ اللهُ يَا عَبْدَاللهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ ؛ أي هذا القرآن حقٌّ. وقيل : جاءك بالحقِّ من ربك يا محمد أنَّ الكعبة قبلةُ إبراهيم تعلمُها اليهود. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه :(الْحَقَّ) نصباً على الإغراء. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ ؛ أي لا تكوننَّ من الشاكِّين في أمر القرآن والقبلة. والخطابُ في هذه الآية للنبي ﷺ ؛ والمراد به غيرهُ، وكذلك كل ما ورد عليك من هذا فهذا سبيلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾ ؛ أي لكل ملَّة من اليهود والنصارى قبلةٌ هو موليها، أي مستقبلها ؛ ومقبل إليها. يقال : وَلَّيْتُهُ وَوَلَيْتُ إليه إذا أقبلتُ إليه، ووليتُ عنه إذا أدبرتُ عنه. وَقِيْلَ : معناهُ : اللهُ مُوَلِّيهَا ؛ أي يولي أهل كل ملة القبلة التي يريدونَها. وقرأ ابن عباس وابن عامر وأبو رجاء :(وَلِكُلِّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي مصروف إليها. وفي حرف أُبَي :(وَلِكُلِّ قِبْلَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا). وفي حرف عبدالله :(وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا قِبْلَةً هُوَ مُوَلِّيهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ﴾ ؛ أي فبادروا بالطاعات أيها المسلمون فقد ظهرَ لكم الحق، واستبقوا إلى أوامر الله وطاعته مبادرة من يطلب الاستباق إليها، تقديره : فاسْتَبقُوا إلىَ الْخَيْرَاتِ، فحذف الخافض كقول الشاعر : ثنَائِي عَلَيْكُمْ يَا آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ سِوَاكُمْ فَإِنّي مُهْتَدٍ غَيْرُ مَائِلِيعني : ومن يَمل إلى سواكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً ﴾ ؛ أي أينما تكونوا أنتم وأهل الكتاب يقبض الله أرواحكم ويجمعكم للحساب فيجزيكم بأعمالكم، وإن كانت قد تفرقت بكم البقاعُ والْمِلَلُ. وقيل : هذا خطابٌ للمؤمنين الذين قد سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ أنَّهم يُصلُّون إلى الكعبةِ. ومعناهُ : أينما تكونوا في شرق الأرض وغربها، في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات يجمعكم الله تعالى إلى هذه القِبلة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ أي من الخلق والبعث والحساب وغير ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ؛ هذا تأكيدٌ لأمر التحويل إلى الكعبة ؛ وبيان أنه لا يتغير فينسخُ كما تغير بيت المقدس. و(حَيْثُ) مبني على الضمِّ مِثْلُ (قَطُ). وقيل : رفع على الغاية مثل (قَبْلُ، وبَعْدُ). وقرأ عبيد بن عمير :(وَمِنْ حَيْثَ) بالنصب ؛ قال : لأنَّها ساكنة في الأصل، وإذا اجتمع ساكنان حرِّك الثاني بالفتح، لأنه أخف الحركات مثل (لَيْتَ، وَكَيْفَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ ؛ أي الأمر بالتوجه إلى الكعبة لصدق (مِنْ رَبكَ). ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ ؛ بيانُ أن حكمَ النبيِّ ﷺ وأمته في التوجه إلى الكعبة في السفر والحضر سواءٌ ؛ لأنه كان يجوز أن يَظُنَّ ظانٌّ الفرق بين المسافر والمقيم كالنفل على الراحلة، فبيَّن الله تعالى أن المسافر كالمقيم في التوجه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾ ؛ أي لئلا يكون لليهودِ عليكم حجَّة، ولأنَّ المسلمين لو لم يُصَلوا إلى الكعبة لكان ذلك مخالفةً للبشارةِ السابقة ؛ فيكون ذلك حجَّة لهم بأن يقولوا : ليس هو النبي المبشَّرُ.
قوله تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ ؛ أي لا يحاجكم أحد إلا من ظلم فيما وضح له ؛ واحتج بغير الحق. وأراد بالذين ظلموا قريشاً واليهود. وكانت حجةُ قريش الباطلةَ أن قالوا : إنَّما رجع إلى الكعبة لأنه علم أنَّها قبلةُ آبائه وهو الحق وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنه حقٌّ. وأما اليهود فإنَّهم يقولون : إن كانت قبلتنا ضلالةً فقد صليتَ إليها سبعة عشر شهراً، وإن كانت هدًى فقد انصرفتَ عنها. وقيل : لأن اليهودَ يقولون : إن محمداً لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حقٌّ إلا أنه إنما يفعل برأيه ويزعم أنه أُمِرَ به. وقيل : إن من حجة مشركي مكة أنَّّهم قالوا لَمَّا قالوا لَمَّا صُرفت القبلة إلى الكعبةِ : إنَّ مُحَمَّداً قد تحيًّر في دينهِ وتوجَّه إلى قبلتنا وعَلِمَ أنَّا أهدى سبيلاً منهُ وإنه لا يستغني عنا ولا شكَّ أنه يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا. فأجابَهم الله تعالى بهذه الآية ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾ نفى أن لا يكون لأحدٍ حجةٌ قَبْلَ رسول الله ﷺ وأصحابه. بسبب تحويلهم إلى الكعبة. إلا الذين ظلموا من قريش فإن لهم قِبَلِهم حجة لِما ذكرنا.
والحجةُ : الخصومةُ والجدال والدعوةُ الباطلةُ كقولهِ تعالى :﴿ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ﴾[الشورى : ١٥] أي لا خصومة. وقولهِ تعالى :﴿ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ ﴾[البقرة : ١٣٩] و﴿ لِيُحَآجُّوكُم ﴾[البقرة : ٧٦] وحَاجَجْتُهُمْ ؛ كلها بمعنى المخاصمة والمجادلة لا بمعنى الدليل والبرهان. وموضع (الَّذِينَ) نُصِبَ بنَزع الخافض، تقديره : إلاَّ الَّذِيْنَ ظَلَمُواْ. وقال الفرَّاء : موضعه نُصِبَ بالاستثناء. وإنما قال :(مِنْهُمْ) ردّاً إلى لفظ الناس ؛ لأنه عامٌّ وإن كان كل واحد منهم غير الآخر. وقالَ بعضهم : هذا الاستثناء منقطع من الكلام الأول، ومعناه : لئلا يكون كلهم عليكم حجة ؛ اللهم إلا الذين ظلموا فإنَّهم يحاجونكم بالباطل ويجادلونكم بالظلم، وهذا كما يقدر في الكلام للرجل : الناسُ كلُّهم لكَ حامِدون إلا الظالِمُ لكَ. وقولهم للرجل : ما لكَ عندي حقٌّ إلا أن يظلمَ. وما لك حجَّة إلا الباطلَ.
وقال أبو رَوقٍ :(معنى الآية :﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ ﴾ يعني اليهود عليكم حجةٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً ﴾ ؛ هذه الكاف للتشبيه وتحتاج إلى شيء يُرجع إليه. واختلفوا ؛ فقال بعضهم : هو راجع إلى ما قبله ؛ تقديره :(فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) كما أرسلتُ فيكم رسولاً، ﴿ مِّنْكُمْ ﴾، فيكون إرسالُ الرسل مؤذناً بإتمام النعمة. والآية خطاب للعرب ؛ أي ولأتِمَّ نعمتي عليكم كما ابتدأتُ النعمةَ بإرسال رسول منكم إليكم ؛ لأن اختياره من العرب نعمة عظيمةٌ وشرف لهم، واستدعاء إلى الإسلام ؛ لأنه لو اختاره من العجم لكانت العرب مع عزمها ونجوتِها لا تتبعهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ﴾، يعني القرآن ؛ ﴿ وَيُزَكِّيكُمْ ﴾ ؛ أي يصلحكم بأخذ زكاتكم ؛ ويأمركم بأشياء تكونوا بها أزكياءَ ؛ ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ ؛ القرآن والفقهَ والمواعظَ ومعرفة التأويل والسُّنة ؛ ﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ من الأحكامِ وشرائع الإسلام وأقاصيصِ الأنبياء وأخبارهم ما لم تكونوا تعلمون قبل إرساله ؛ ونَعْمَتِي بهذا الرسول مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ ؛ متصلٌ بما قبله ؛ أي كما أنعمنا عليكم برسالة رجلٍ ؛ أي منكم إليكم فاذكرونِي. ومعنى الآية : قال ابنُ عبَّاس :(تَذْكُرُونِي بالطَّاعَةِ أذْكُرْكُمْ بمَعُونَتِي). وقال ابن جُبير :(مَعْنَاهُ اذْكُرُونِي بطَاعَتِكُمْ أذْكُرُكُمْ بمَغْفِرَتِي). وقال الفضيلُ :(اذْكُرُونِي بطَاعَتِي أذْكُرْكُمْ بثَوَابي).
روي عن النبي ﷺ أنه قال :" مَنْ أطَاعَ اللهَ فَقَدْ ذَكَرَ اللهَ، وَإنْ قَلَّ صِيَامُهُ وَصَلاَتُهُ. وَمَنْ عَصَى اللهَ فَقَدْ نَسِيَ اللهَ وَإنْ كَثُرَ صِيَامُهُ وَصَلاَتُهُ وَتِلاَوَتُهُ الْقُرْآنَ " وقيل : معناه اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات والجِنان. وقال أبو بكر رضي الله عنه :(كَفَى بالتَّوْحِيْدِ عِبَادَةً، وَكَفَى بالْجَنَّةِ ثَوَاباً). وقال ابنُ كيسان :(مَعْنَاهُ اذْكُرُونِي بالشُّكْرِ أذْكُرُكُمْ بالزِّيَادَةِ). وقيل : اذكروني على ظاهر الأرض أذكركم في بطنها.
وقال الأصمعي :(رأيت أعرابياً واقفاً يوم عرفة بعرفات وهو يقول : إلَهي عَجَّتْ إِلَيْكَ الأَصْوَاتُ بضُرُوب اللُّغَاتِ يَسْأَلُونَكَ الْحَاجَاتِ، وَحَاجَتِي إلَيْكَ أنْ تَذْكُرَنِي عِنْدَ الْبَلاَءِ إذا نَسِيَنِي أهْلُ الدُّنْيَا). وقيل : معناهُ : اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى. وقيل : اذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، دليله قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾[النحل : ٩٧].
وقيل : معناه اذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في الخلاء والملأ. بيانه : ما روي في الخبر : أن الله تعالى قال في بعض الكتب :" أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، فَلْيَظُنَّ بي عَبْدِي مَا شَاءَ ؛ فَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي، فَمَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَْكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ؛ وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ بَاعاً، وَمَنْ أتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ أَتَانِي بقِرَابِ الأَرْضِ خَطِيْئَةً أتَيْتُهُ بمِثْلِهَا مَغْفِرَةً بَعْدَ أنْ لاَ يُشْرِكَ بي شَيْئاً ".
وقيل : معناه اذكروني في الرخاء أذكركم في الشدة والبلاء. وقيل : اذكروني بالسلم والتفويض أذكركم بأصلح الاختيار دليله قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾[الطلاق : ٣]. وقيل : اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. وقيل : اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة. وقيل : اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء. وقيل : اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، اذكروني بالندم أذكركم بالكرم، اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، اذكروني بالإرادة أذكركم بالإفادة، اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص، اذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، اذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، اذكروني ذكراً فانياً أذكركم ذكراً باقياً، اذكروني بصفاء السرِّ أذكركم بخلاص البرِّ، اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو، اذكروني بالتعظيم أذكركم بحفظ الوفاء، اذكروني بالجهد في الخدمة أذكركم بإتمام النعمة، اذكروني بالاستغفار أذكركم بالاغتفار، اذكروني بالمناجاة أذكركم بإعطاء الحاجات، اذكروني بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، ولذكر الله أكبر.
قال سفيان بن عُيَيْنَةَ : إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَال :" لَقدْ أعْطَيْتُ عِبَادِي مَا لَوْ أعْطَيْتُ جِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ قَدْ أجْزَلْتُ لَهُمَا، قُلْتُ : اذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ. قُلْتُ لِمُوسَى : قُلْ لِلظَّلَمَةِ لاَ يَذْكُرُونِي ؛ فَإنِّي أذْكُرُ مَنْ ذَكَرَنِي وَإنَّ ذِكْرِي إيَّاهُمْ أنْ ألْعَنَهُمْ " وقال أبو عثمان الهندي :(إنِّي لأَعْلَمُ حِيْنَ يَذْكُرُنِي رَبِي)، قِيْلَ : كَيْفَ ذلِكَ ؟ قَالَ :(إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ :﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ فَإذا ذكَرْتُ اللهَ ذَكَرَنِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ ؛ أي اشكروا لي نعم الدنيا والدين ولا تكفروا نعمتي وإحساني إليكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ؛ أي استعينوا على ما أكرمتُكم من عبادةٍ وشُكر بالصبر على أداء الفرائضِ واجتناب المحارمِ ؛ وبالمواظبة على الصلوات والاستكثار منها ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ على أداء الفرائض.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ ؛ نزلت في قتلى بدرٍ من المسلمين وكانوا أربعةَ عشر رجلاً ؛ ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، كان الناس يقولونَ للرجل يقتل في سبيل الله : مَات فلانٌ، وكان الكفار يقولون للشهداء على طريق الطعنِ : إنَّ أصحابَ رسول الله ﷺ يَقْتُلُونَ أنفسَهم في الحرب من غير سبب ثم يَموتون فيذهبون، فنهى الله المسلمين أن يقولوا مثل هذا، ونبَّه على أن ذلك كذبٌ بقوله :﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾.
واختلفوا في حياتِهم ؛ والصحيح : أنَّهم اليوم أحياءٌ على الحقيقة ؛ قال رسول الله ﷺ :" إنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي ريَاضِ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ مِنْ أنْهَارهَا وَتَأْوِي اللَّيْلَ إلَى قَنَادِيْلَ مِنْ نُورٍ مُعَلَّقَةٍ بالْعَرْشِ " وقال الحسن :(إنَّ الشُّهَدَاءَ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِهمْ يَصِلُ إلَيْهِمُ الرُّوحُ وَالْفَرَحُ). وَقِيْلَ : إنَّ مساكن الشهداء سِدرةُ المنتهى.
وقال ﷺ :" يُعْطَى الشَّهِيْدُ سِتَّ خِصَالٍ عِنْدَ أوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ : يُكَفَّرْ عَنْهُ كُلُّ خَطِيْئَةٍ ؛ وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ؛ وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُور الْعِيْنِ ؛ وَيُؤْمَّنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ ؛ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ؛ وَيُحَلَّى حِلْيَةَ الإيْمَانِ " قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ ؛ أي لا يشعرون أنَّهم كذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ﴾ ؛ أي ولَنَخْتَبرَنَّكُمْ يا أُمةَ مُحَمَّدٍ بشيء من الخوف ؛ يعني خوفَ العدوِّ والفزع في القتال ؛ وقحط السنين وقلة ذات اليد ؛ ﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ ﴾ ؛ أي هلاك المواشي وذهاب الأموال. وقوله تعالى :﴿ وَالأَنفُسِ ﴾ ؛ أراد به الموت والقتل والأمراض، وقولهُ تعالى :﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ ؛ أي لا يخرجُ الثمار والزروع كما كانت تخرج من قبل ؛ أو تصيبها آفة ؛ وأراد بالثمراتِ الأولادَ لأنَّهم ثمرة القلب وهم إذا هم شُغِلُوا بالجهاد منعهم ذلك عن عمارة البساتين ومناكحةِ النساء ؛ فيقلُّ أولادهم وثمرة بساتينهم.
وقالَ بعضُهم : معناه ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ ﴾ أي خوف الله تعالى، ﴿ وَالْجُوعِ ﴾ يعني صوم رمضان ؛ ﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ ﴾ أداء الزكاة الصدقات ؛ ﴿ وَالأَنفُسِ ﴾ الأمراض ؛ ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ موت الأولاد ؛ لأن ولد الرجل ثمرة فؤاده ؛ يدل عليه قوله عَلَيْهِ السَّلاَمُ :" إذا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِلْمَلاَئِكَةِ : أقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، فِيَقُولُ : أقَبَضْتُمُ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ : نَعَمْ، فَيَقُولُ : مَاذا قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمَدَكَ وَاسْتَرْجَعَكَ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ ؛ أي على هذه الشدائدِ والبلايا بالثواب لتطيبَ أنفسهم. ثم وصفَهم فقال :﴿ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ ؛ ﴿ الَّذِينَ ﴾ نعتُ للصابرين ؛ ومعناهُ : الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ من هذه المصائب ؛ ﴿ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ عبيدٌ وملكٌ يحكمُ فينا بما يشاء من الشدة والرخاء، إن عِشنا فإليه أرزاقُنا، وإن مِتْنا فإليه مردُّنا، وإنا إليه راجعون في الآخرة.
قال عكرمةُ :" طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فقَال :[إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ] فَقِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ أمُصِيْبَةٌ هِيَ، قَالَ :[نَعَمْ، كُلُّ شَيْءٍ يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ فَهُوَ لَهُ مُصِيْبَةٌ] " وقال ابنُ جبيرٍ :(مَا أُعْطِيَ أحَدٌ فِي الْمُصِِيْبَةِ مَا أُعْطِيَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ - يعني الاستراجاعَ - وَلَوْ أُعْطِيَهَا أحَدٌ لأُعْطِيَهَا يَعْقُوبُ عليه السلام، ألاَ تَسْمَعُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي فَقْدِ يُوسُفَ :﴿ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾[يوسف : ٨٤]). وَقَالَ ﷺ :" مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيْبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيْبَتَهُ وَأحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُولَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِهِمْ وَنِعْمَةٌ). قيل : الصلاةُ هنا الثناء والرحمةُ والبركة. وجمعَ الصلواتِ لأنه عَنَى بها الرحمةَ بعد الرحمةِ. ﴿ وَأُولَـائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ إلى الاسترجاع. وقيل : إلى الجنةِ والثواب. وقيل : إلى الحقِّ والصواب. وقيل : الرحمةُ التي لا يعلمُ مقاديرها إلا الله كما قال تعالى في آيةٍ أخرى :﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[الزمر : ١٠]. وعن عمرَ رضي الله عنه : أنَّهُ كَانَ إذَا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ قَالَ :(نِعْمَ الْعَدْلاَنِ وَنِعْمَ الْعَلاَوَةَ). ويعني بالعدلين : قولَه ﴿ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ وبالعلاوة قولَه :﴿ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾. وعن رسول الله ﷺ أنه قالَ :" يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : إذَا وَجَّهْتُ إلَى عَبْدٍ مِنْ عَبيْدِي مُصِيْبَةً فِي أهْلِهِ أوْ وَلَدِهِ أوْ بَدَنِهِ فَاسْتَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ بصَبْرٍ جَمِيْلٍ اسْتَحَيْتُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنْ أنْشُرَ لَهُ دِيْوَاناً أوْ أنْصِبَ لَهُ مِيْزَاناً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي من أعلامِ دينهِ ومتعبداته ؛ وأراد بالشعائر ها هنا مناسكَ الحج. وسببُ نزول هذه الآية : أنَّ أنسَ بن مالك رضي الله عنه قالَ :(كُنَّا نَكْرَهُ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَفَّا وَالْمَرْوَةَ لأنَّهُمَا كَانَا مِنْ مَشَاعِرِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَرَكْنَاهُ فِي الإسْلاَمِ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقال ابنُ عباس :(كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : إسَافاً، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ عَلَى صُورَةِ امْرَأةٍ يُقَالُ لَهَا : نَائِلَةً. وَإنَّمَا ذَكَّرُواْ الصَّفا لِتَذْكِيْرِ إسَافَ، وَأنَّثُواْ الْمَرْوَةَ لِتَأْنِيْثِ نَائِلَةَ ؛ وَزَعَمَ أهْلُ الْكِتَاب أنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللهُ، فَوَضَعَهُمَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُعْتَبَرَ بهِمَا، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عُبدَا مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى. وَكَانَ أمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا طَافُواْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مَسَحُواْ الصَّنَمَيْن. فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لأَجْلِ الصَّنَمَيْنِ، وَقَالَتْ الأَنْصَارُ : إنَّ السَّعْيَ مِنْ أمْرِ الْجَاهِليَّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ ﴾ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ ؛ أي فلا إثم في الطواف بينهما لمكان الأصنام عليهما، فإن الطواف بينهما واجبٌ. والجُناح هو الإثم ؛ وأصله يتطوَّفُ وأدغمت التاء في الطاء. وقرأ أبو حيوة :(يَطُوفُ بهِمَا) مخففة.
واختلفَ العلماءُ في السعي ؛ فقالَ أبو حنيفة وأصحابهُ والثوري : هو واجبٌ وينجبرُ بالدم. وقال مالكٌ والشافعي : هو فرضٌ، ولا ينجبرُ بالدم كطوافِ الزيارة. وقال أنسُ بن مالك وابنُ الزبير ومجاهدٌ : هو تطوعٌ إن فعلَهُ فحسنٌ، وإنْ تركَهُ لم يلزمهُ شيء، واحتجُّوا بقراءةِ ابن عباس وابن سيرينَ :(فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ لاَ يَطُوفَ بهِمَا). وكذلك هو في مصحفِ عبدالله ؛ ويقولهِ بعد ذلك :(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) وهذا دليلٌ على أنه تطوُّعٌ.
والجوابُ عنه : أن (لا) صلةٌ كقوله :﴿ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ﴾[الأعراف : ١٢] وقوله :﴿ لاَ أُقْسِمُ ﴾[القيامة : ١]. وحُجة من أوجبهُ : أنَّ اللهَ سَماهما ﴿ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ ﴾. وأما قوله :﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾ فمعناهُ من زاد على الطواف الواجب. وحجةُ من قال إنه فرضٌ : فتسميةُ الله له من شعائره. قلنا : هذا لا يدلُّ على الفريضة ؛ فإن الله سَمَّى المزدلفةَ المشعر الحرام ؛ ولا خلافَ أنَّ الدم يقومُ مقامه.
وسُمِّي الصَّفَا ؛ لأنه جلسَ عليه صَفِيُّ اللهِ آدم عليه السلام. وسميت المروةُ ؛ لأنَّها جلست عليها امرأته حوَّاءُ، وأصلُ السعيِ : أنَّ هاجرَ أُمَّ إسماعيلَ لَمَّا عطش ابنها إسماعيل وجاعَ صعدت على الصَّفا فقامت عليه تنظرُ ؛ هل تَرى من أحدٍ ؟ فلم ترَ أحداً ؛ فهبطت من الصَّفا حتى جاوزتِ الواديَ ورفعت طرفَ دِرعها ثم سعت سعيَ الإنسان المجهودِ حتى جاوزت الوادي ؛ ثم أتتِ المروةَ وقامت عليها ؛ هل ترى أحداً ؟ فلم ترَ أحداً، فعلتْ ذلكَ سبع مراتٍ.
قَوْلُهُ تَعالَى :﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾ ؛ قرأ حمزةُ والكسائي :(يَطَّوَّعْ) بالياء وتشديد الطاء والجزم. وكذلك الثاني بمعنى يتطوع. وقرأ عبدالله :(يَتَطَوَّعْ) وقرأ الباقون :(تَطَوَّعَ) بالتاء ونصب العين. ومعنى الآية : ومن زاد في الطواف الواجب. وقال ابنُ زيد :(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَاعْتَمَرَ). وقيل : من تطوع بالحج والعمرة بعد حجته الواجب. وقال الحسن :(فِعْلُ غَيْرِِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةٍ وَصَلاَةٍ وَنَوْعٍ مِنْ أنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا) ؛ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي مجاز له بعمله عليمٌ بنيَّته يشكرُ اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ ؛ هم علماءُ اليهود الذين كتموا أمرَ النبيِّ ﷺ وصفتَه في التوراة، وكتموا أمرَ القِبلة والأحكامِ والحلالِ والحرامِ ؛ ﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ﴾ ؛ أي من بعد ما أوضحناهُ للناس في التوراة والإنجيلِ ؛ وأراد بالناسِ بني إسرائيل. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُولَـائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي يُبعدهم اللهُ من رحمتهِ. وأصلُ اللَّعْنِ في اللغة : هُوَ الطَّرْدُ، ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ﴾.
اختلفَ المفسرونَ في هؤلاءِ اللاعنين ؛ فقال قتادةُ :(هُمُ الْمَلاَئِكَةُ). وقال عطاءُ :(الْجِنُّ وَالإِنْسُ). وقالَ الحسنُ :(عِبَادُ اللهِ أجْمَعُونَ). وقالَ ابنُ عباسٍ :(كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ الْجِنَّ وَالإنْسَ). وقال مجاهدٌ :(اللاَّعِنُونَ : الْبَهَائِمُ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إذا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ وَأمْسَكَتِ الْقَطْرَ، وَيَقُولُونَ : هَذَا لِشُؤْمِ بَنِي آدَمَ). وقال عكرمةُ :(دَوَابُّ الأَرْضِ وَهَوَامُهَا حَتَّى الْخَنَافِسَ وَالْعَقَاربَ، فَيَقُولُونَ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ لِمَعَاصِي بَنِي آدَمَ).
وإنَّما قالَ لِهذه الأشياء اللاعنونَ ولم يقل اللاعناتُ ؛ لأن مِن شأن العرب إذا وصفت شيئاً من البهائم والجمادات بما هو صفةٌ للناس من قولٍ أو فعل أنْ يخرجوهُ على مذهب بني آدم وجمعهم كقوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام :﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾[يوسف : ٤] ولم يقل ساجدات وأشباه ذلك. وفي الآيةِ دلالةٌ على وجوب إظهار علوم الدين وزجرٍ عن كتمانِها ؛ لأن العبرةَ بعموم اللفظ لا السبب المخصوص.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ ﴾ ؛ أي إلا الذين تابوا من اليهودية وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم. وقيل : أصلحوا ما كانوا أفسدوه مما لا علم لهم به، وبيَّنوا صفة مُحَمَّد ﷺ في كتابَيهم، وشهدوا بالحق فيما عندهم من العلم ؛ ﴿ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي أتجاوز عنهم وأقبلُ التوبة منهم، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ ؛ أي المتجاوز عن التائبين، الرحيم بهم بعد التوبة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ ؛ هذا عامٌّ في جميع الكفار ؛ ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ ؛ أما المؤمنون فيلعنوهم في الدنيا والآخرة ؛ وأما الكفار فيلعن بعضهم بعضاً في الآخرة كما قال تعالى :﴿ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾[العنكبوت : ٢٥]. وروي : أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم الملائكة والناس أجمعون.
وقوله تعالى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ ؛ أي في اللعنة والنار مقيمين. وقيل : إن اللعنة هنا النار ؛ لأن اللعنة هي إبعاد الله من رحمته وذلك عذابه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ ؛ أي ولا هم يُمهلون ويؤجلون. قَالَ أبو العالية :(لاَ يُنْظَرُونَ فَيَعْتَذِرُونَ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ ؛ قال الكلبيُّ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي كُفَّار مَكَّةَ، قَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا وَانْسِبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ سُورَةَ الإخْلاَصِ وَهَذِهِ الآيَةَ). وقال الضَّحاكُ : عن ابنِ عباس :(كَانَ لِلْمُشْرِكِيْنَ فِي الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمَائَةٍ وَسُتُّونَ صَنَماً يَعْبُدُونَهُم مِنْ دُونِ اللهِ إفْكاً وَإثْماً، فَدَعَاهُمُ اللهُ إلَى تَوْحِيْدِهِ وَالإخْلاَصِ فِي عِبَادَتِهِ، فَقَالَ :﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾. ويقال : نزلت هذه الآية في صنف من المجوس ؛ ويقال لهم : الملَكَانية ؛ يقولون : هما اثنان : خالقُ الخيرِ، وخالق الشر.
ومعنى الآية : أن الذي يستحق أن تَأْلَهَ قلوبكم إليه في المنافع والمضار وفي جميع حوائجكم وفي التعظيم له إله واحد لا يستحق الإلهية أحد غيره. فلما نزلت هذه الآية عجِبَ المشركون وقالوا : إن محمداً يقول : إن إلهكم إلهٌ واحدٌ، فليأتنا بآية إن كان من الصادقين. فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ ؛ أي في تعاقب الليل والنهار ؛ وفي الذهاب والمجيء.
والاختلاف مأخوذٌ من خَلَفَ يَخْلُفُ بمعنى أن كل واحد منها يخلف صاحبه وإذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلافه ؛ أي بعده. نظيره قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ﴾[الفرقان : ٦٢]. وقال عطاء :(أرَادَ اخْتِلاَفَ اللَّيلِ وَالنَّهَار فِي اللَّوْنِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالنُّور وَالظُّلْمَةِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ). والليل : جمعُ لَيلَةٍ مثل نخلة ونخلٌ ؛ والليالي جمعُ الجمعِ. والنهار واحدٌ وجمعه نُهُرٌ. وقدَّم الليل على النهار ؛ لأنه هو الأصل والأقدم. قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ﴾[يس : ٣٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ﴾ يعني السَّفَنُ، واحده وجمعه سواءٌ، قال الله تعالى في واحده :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾[يس : ٤١] وقال في جمعه :﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ﴾[يونس : ٢٢]. ويذكَّر ويؤنث قال الله تعالى في التذكير :﴿ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾[يس : ٤١] وقال في التأنيث :﴿ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ ﴾. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ﴾ يعني ركوبَها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ ﴾ ؛ يعني المطر، ﴿ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ ؛ أي بعد يبسها وجذوبتها، ﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾ ؛ أي نشرَ وفرقَ من كل دابة من أجناس مختلفة، منهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، ﴿ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ﴾ ؛ أي تقليبها دبوراً وشمالاً وجنوباً وصبا. وقيل : تصريفها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف :(وَتَصْرِيْفِ الرِّيْحِ) بغير ألف على الواحد. وقرأ الباقون :(الرِّيَاحِ) على الجمع. قال ابن عباس :(الرِّيَاحُ لِلرَّحْمَةِ ؛ وَالرِّيحُ لِلْعَذَابِ)، وكان النبيُّ ﷺ إذا هاجَتِ الريحُ يقول :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً ﴾ ؛ وهم المشركون. والأندادُ : هم الأصنام المعبودة من دون اللهِ، قاله أكثرُ المفسرين، وقال السديُّ :(يَعْنِي سَادَتَهُمْ وَقَادَتَهُمْ الَّذِيْنَ كَانُواْ يُطِيْعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ ؛ أي كحُب المؤمنين اللهَ تعالى يقال : بعتُ غلامي كبيعِ غلامِكَ ؛ أي كبيعكَ غلامك. وأنشد الفرَّاء : أبَيْتُ وَلَسْتُ مُسَلِّماً مَا دُمْتُ حَيَّاً عَلَى زَيْدٍ كَتَسْلِيْمِ الأَمِيْرِأي كتسليمي على الأميرِ، وهذا قولُ أكثر العلماء. وقال الزجَّاج :(تَقْدِيْرُ الآيَةِ : يُحِبُّونَهُمْ كَحُب اللهِ ؛ يَعْنِي يُسَؤُونَ بَيْنَ هَذِهِ الأَصْنَامِ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَحَبَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ ؛ أي يخلصون في محبة الله لا يشركون به غيره ؛ وهم يشركون معه معبوداتِهم. وقيل : إنَّ المؤمنين يعبدون اللهَ في كلِّ حال ؛ والكفار يعبدون الأوثان في الرخَاء فإذا أصابتهم شدةٌ تركوا عبادتَها. وقال ابنُ عباسٍ :(مَعْنَاهُ أثْبَتُ وَأدْوَمُ، وَذلِكَ أنَّ الْمُشْرِكيْنَ كَانُواْ يَعْبُدُونَ صَنَماً فَإذا رَأواْ شَيْئاً أحْسَنَ مِنْهُ تَرَكُوهُ وَأَقْبَلُواْ عَلَى عِبَادَةِ الأَحْسَنِ). وقال قتادةُ :(إنَّ الْكَافِرَ يُعْرِضُ عَنْ مَعْبُودِهِ فِي وَقْتِ الْبَلاَءِ وَيُقْبلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾[العنكبوت : ٦٥] وَالْمُؤْمِنُ لاَ يُعْرِضُ عَنِ اللهِ تَعَالَى فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ). وقيل : لأنَّ الكفار يَرَوْنَ معبودَهم مصنوعَهم ؛ والمؤمنون يرونَ الله تعالى صانِعَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾. قرأ أبو رجاءٍ والحسنُ وشيبةُ ونافع وقتادة ويعقوبُ وأيوب :(وَلَوْ تَرَى) بالتاء على أنه خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. والجواب محذوف تقديره : ولو ترى يا محمد ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أي أشركوا ﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ لرأيتَ أمراً عظيماً ؛ ولعلمتَ ما يصيرون إليه، أو تعجبتَ منه. وقرأ الباقون بالياء ؛ فمعناه :﴿ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا، ﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ ؛ أو لآمنوا أو لعلموا مضَرَّة الكفر. نظيره هذه الآية في المحذوف :﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ ﴾[الرعد : ٣١] أي لكان هذا القرآن.
وقولهُ تعالى :﴿ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ قرأ ابنُ عامر :(إذ يُرَوْنَ الْعَذَابَ) بضم الياء على التعدي. وقرأ الباقون بفتحه على اللُّزوم. وقيلَ : معنى الآية : ولو يرى عبدةُ الأوثان اليوم ما يرونَ حين رؤية شدة عذاب الله وقوته لتركوا عبادةَ الأوثان ومحبتها. وهذا التأويلُ على قراءة الياء. وقوله :﴿ أَنَّ الْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً ﴾ أي لأن القوة لله جميعاً ؛ ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ ؛ للرؤساء والأتباع من عبدة الأوثان.
وقرأ الحسنُ وقتادة وشيبة وسلام ويعقوب :(إنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَإنَّ اللهَ) بالكسر فيهما على الاستئناف. والكلام تامٌّ عند قوله :﴿ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ﴾ مع إضمار الجواب ؛ كما ذكرنا. وقرأ الباقون بفتحها على معنى بأنَّ القوةَ لله جميعاً معطوفٌ على ما قبل. وقيلَ : على معنى لرأوا أنَّ القوةَ لله جميعاً، أو لأَيْقَنُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾، متصلٌ بقوله :﴿ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾[البقرة : ١٦٥] أي شديدُ العذاب وقتَ تبرَّأ المتَّبعون من التابعين، ﴿ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ﴾، جميعاً ودخلوا في النار جميعاً وعاينوا ما فيها. قرأ مجاهدٌ بتقديم الفاعلين على المفعولين ؛ وقرأ الباقون بالضدِّ. (وَالتَّابعُونَ هُمُ الأَتْبَاعُ وَالضُّعَفَاءُ وَالسَّفَلَةُ) قاله أكثر المفسرين. وقال السديُّ :(هُُمُ الشَّيَاطِيْنُ يَتَبَرَّأُونَ مِنَ الإنْسِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾، قالَ ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدُ وقتادة :(يَعْنِي أسْبَابَ الْمَوَدَّةِ وَالْوَصْلاَتِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُمْ عَدَاوَةً). وقال الكلبيُّ :(يَعْنِي بالأَسْبَاب الأَرْحَامَ). وقال أبو رَوْقٍ :(الْحَلْفُ وَالْعُهُودُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا ؛ وَتَقَطَّعَ بَيْنَهُمْ الأَسْبَابُ ؛ أيْ لاَ سَبَبَ يَبْقَى لَهُمْ إلَى رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ ؛ أي قال السفلاءُ والخَدَمُ :﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ﴾ ؛ أي قالوا : لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم كما تبرَّأوا منا في الآخرة، يقول الله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ ؛ التي عملوها في الدنيا لغيرِ الله ؛ ﴿ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ أي كما أراهم العذابَ ؛ وكما تبرأ بعضُهم من بعضٍ كذلك يريهم اللهُ أعمالَهم التي عملوها في الدنيا لغيرِ الله حسراتٍ عليهم ؛ أي ندماتٍ عليهم كما أراهم تَبَرُّأ بعضهم عن بعض. وقيل : أرادَ أعمالَهم الصالحة التي عملوها. قال السديُّ :(تُرْفَعُ لَهُمُ الجَنَّةُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَإلَى تَبَوُّئِهِمْ فِيْهَا لَوْ أطَاعُواْ اللهَ، فَيُقَالُ لَهُمْ : تِلْكَ مَنَازلُكُمْ لَوْ أطَعْتُمُ اللهَ تَعَالَى ؛ ثُمَّ يُمْنَعُونَ عَنْهَا، فَذَلِكَ حِيْنَ يَنْدَمُونَ). وقوله تعالى :﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ ؛ أي التابعون والمتبوعون.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ ؛ أي من الزروع والأنعامِ وغير ذلك مما أحلَّ الله لكم. والطيبُ صفة للحلال ؛ وهما واحدٌ، ويجوز أن يكون الحلالَ الْمُسْتَلَذَّ. ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ ؛ أي لا تسلكوا طريقَهُ التي يدعوكم إليها.
وقيل : نزلت هذه الآية في ثقيفٍ وخُزاعة وبني عامر بن صعصعة ؛ كانوا يُحَرِّمُونَ الْبَحِيْرَةَ والسائبةَ والوصيلة والحام وبعض الحروثِ.
ووجه دخول (من) التي هي للتبعيض : أن كل ما في الأرض لا يُمكن أكله ولا يحلُّ. وقوله تعالى ﴿ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾ انتصبا على الحال. وقيل : على المفعول ؛ أي كُلوا حلالاً طيباً مما في الأرض.
وقولهُ :﴿ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ قرأ شيبةُ ونافع وعاصمٌ في رواية أبي بكرٍ، والأعمش وحمزة وأبي عمرٍو ؛ وابنِ كثير في رواية : بسكونِ الطاء في جميع القرآن. وقرأ قُنْبُلُ وحفصٌ : بضم الخاء والطاء في جميع القرآنِ. وقرأ عليٌّ رضي الله عنهُ وسلامٌ عليه : بضمِّ الخاء والطاءِ وهمزة بعد الطاء. وقرأ أبو السمَّال العدويُّ وعبيدُ بن عميرٍ :(خَطَوَاتِ) بفتح الخاء والطاء.
فمن أسكنَ الطاءَ بقَّاهُ على الأصلِ ؛ وطلب الْخِفَّةَ ؛ لأنه جمعُ خطوةٍ بإسكان الطاء، ومن ضمَّ الطاء فإنه اتبع ضمة الخاء ضمة الطاء مثل ظُلمة وظُلُمات وقربة وقُرُبات. ومَن همَزَ الواو مع الضم ذهبَ بها مذهبَ الخطيئةِ، ومن فتح الخاء والطاء فإنه أرادَ جمعَ خطوةٍ مثل ثَمَرات.
واختلفَ المفسرونَ في قولهِ :﴿ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ فعنِ ابن عبَّاسٍ :(أنَّ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ عَمَلُهُ). وقال مجاهدُ وقتادة والضحاك :(خَطَايَاهُ). وقال الكلبيُّ والسديُّ :(طَاعَتُهُ). وقال عطاءٌ :(زَلاَّتُهُ وَشَهَوَاتُهُ). وقال الْمُؤَرِّجُ :(آثَارُهُ). وقال القُتََبيُّ والزجَّاج :(طُرُقُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي بيِّنُ العداوةِ، وقيل : مظهرُها قد بَانَ عداوتهُ بإبائه السجودَ لأبيكم آدم وغروره إياه حين أخرجه من الجنة. ثم بيَّن الله عداوته فقال :﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ ﴾ ؛ أي بالإثم والمعاصي، وقيل : السوءُ : ما يجب به التعزيز ؛ والفحشاء : ما يجب به الحدُّ. وقيل : كل ما كان في القرآن من الفحشاء فهو زناًّ، إلا قوله تعالى :﴿ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ ﴾[البقرة : ٢٦٨] فإنه منع الزكاة. وقيل : الفحشاء : ما قُبحَ من القول والفعل. وقال طاوُوس :(الْفَحْشَاءُ : مَا لاَ يُعْرَفُ فِي شَرِيْعَةٍ وَلاَ سُنَّةٍ). وقال عطاءُ :(هِيَ الْبُخْلُ). وقال السديُّ :(هِيَ الزِّنَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ من تحريمِ الحرث والأنعام وغير ذلك ؛ ومِن وصفكم اللهَ تعالى بالأنداد والأولاد، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فإن قيل : كيفَ يصحُّ أنْ يأمرَ الشيطانُ وهو لا يشاهَد ولا يسمَع صوته ؟ قيل : معنى يأمركم يدعوكم ويرغبكم كما يقول الإنسان : نفسي تأمرُني بكذا ؛ أي تدعوني إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي إذا قيل لهؤلاء الكفار : اتبعوا في التحليل والتحريم ما أنزل الله ؛ ﴿ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ ﴾ ؛ أي ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأوثان وتحريم البحيرة والسائبة ونحوُ ذلك. يقولُ الله تعالى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أي أيتبعونَ آباءهم وإن كانوا جهَّالاً لا يعقلون ؛ ﴿ شَيْئاً ﴾ ؛ من الدينِ، ﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ ؛ للسُّنةِ.
وقيل : إن هذه الآية قصةٌ مستأنفة ؛ وإنَّها نزلت في اليهود ؛ فعلى هذا تكون الهاءُ والميم في قوله :﴿ لَهُمُ ﴾ كنايةٌ عن غير مذكور. وعن ابن عباسٍ قَالَ :[دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى إلَى الإسْلاَمِ وَرَغَّبَهُمْ فِيْهِ وَحَذَّرَهُمْ عَذَابَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ خَارجَةَ وَمَالِكُ بْنُ عَوْف : بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا فَهُمْ كَانُوا خَيْراً مِنَّا وَأعْلَمَ ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةِ].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾ ؛ هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للكفار فوصفهم بعدما أمرَهم ونَهاهم ؛ فلم يأتَمروا ولم ينتهوا بصفة الدواب، معناه : مَثَلُنَا أو مِثْلُكَ يا مُحَمَّدُ مع الكفار أو مثلُ واعظِ الذين كفروا. فحُذف اختصاراً كمثل الذي يصيح بها بما لا يدري ما يقال له إلا أنهُ يسمع الصوتَ، وهو الإبل والبقر والغنم ينْزجر بالصوت ولا تَفْقَهُ ما يقال لَها ؛ ولا تحسنُ جواباً ؛ فكما أنَّ البهائم لا تفهم كلامَ من يدعوها، فكذا هؤلاء الكفار لا ينتفعون بوعظ النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قولُ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع وأكثر المفسرين، فإنَّهم قالوا المرادُ (بمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً) البهائمُ التي لا تعقل كالأنعام والحمير ونحوها.
وأضاف المثل إلى الكفار اختصاراً لدلالة الكلام عليه ؛ وتقديرهُ ؛ مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله تعالى كمثل الداعي الذي ينعِق بهم ؛ أي يصوِّت ويصيح بها، يقال : نَعَقَ يَنْعِقُ نَعْقاً وَنِعَاقاً ؛ إذا صاحَ وزجرَ، قال الشاعر : فَانْعِقْ بضَأْنِكَ يَا جَرِيْرُ فَإنَّمَا مَنَّتْكَ نَفْسُكِ فِي الْخَلاَءِ ضَلاَلاَفكما أنَّ هذه البهائمَ تسمعُ الصوتَ ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها ؛ كذلك الكافر لا ينتفع بوعظ إن أمرته بخير أو زجرته عن شرٍّ ؛ غير أنه يسمع صوتك. وقال الحسن :(معناه : مثله فيما أتيتم به حيث يسمعونه ولا يعقلونه كمثل راعي الغنم الذي ينعق بها، فإذا سمعتِ الصوتَ رفعتْ رأسها فاستمعت إلى الصوتِ والدعاء ولا تعقلُ منه شيئاً، ثم تعودُ بعد ذلك إلى مرعاها ؛ لم تفقه ما ناداها به). وقال قوم : معنى الآية : مثلُ الكفار في دعائهم الأصنام وعبادتِهم الأوثان كمثلِ الرجل يصيحُ في جوفِ الجبال، فيجيبهُ فيها صوت يقال لها الصَّدى ؛ يجيبهُ ولا ينفعه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾. وقيل : إنَّ الدعاءَ والنداءَ واحدٌ كما أن الحلالَ والطِّيبَ واحدٌ. وقيل : الدعاءُ ما يكون للقريب، والنداءُ إنما يكون مُدُّ الصوتِ للبعيد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أي هم صمٌّ عن الخير لا يسمعون الحقَّ ؛ والعرب تقول لمن يسمعُ ولا يعمل بما يسمعه : كأنه أصَمُّ. وقوله تعالى :﴿ بُكْمٌ ﴾ أي خُرْسٌ لا يتكلمون بخيرٍ ؛ ﴿ عُمْيٌ ﴾ لا يبصرون الهدى فهم لا يعقلونَ ما يؤمرون به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ ؛ أي من حلال ما رزقناكم من الحرث والأنعام وسائر المأكولات، قال ﷺ :" إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ الطَّيِّبَ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى أمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بما أمَرَ بهِ الْمُرْسَلِيْنَ ؛ فَقَالَ : يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وقال : يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ ؛ أي وَاشْكُرُوا للهِ على ما رزقكم وأباحَ لكم من النعم إنْ كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ ؛ أي إن كنتم تُقِرُّونَ أنه إلَهُكُمْ ورازقُكم، وهذا أمرُ إباحةٍ وتخيير ؛ أعني قوله تعالى :﴿ كُلُواْ ﴾ لأن تناولَ المشتهَى لا يدخلُ في التعبد ؛ وقد يكون الأكلُ تعبُّداً في بعض الأحوال عند دفعِ ضرر النفسِ أو تقويتها على الطاعة، وعند مساعدةِ الضيفِ إذا امتنعَ عن الأَكل.
فلما نزلت هذه الآية قالتِ الكفارُ : إذاً لم تكن البَحيرةُ والسائبة والوصيلة محرمةً في المحرمات، فأنزلَ الله تعالى قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ ؛ قرأ السلمي :(إنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمُ) براء مضمومة مخففة (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) رفعاً.
وروي عن أبي جعفرَ أن قرأ :(حُرِّمَ) بضم الحاء وكسر الراء وتشديدها ورفع ما بعدها. وقرأ إبراهيمُ بن أبي عبيلة :(إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) بنصب الحاء والراء وتشديد الراء ورفع الميتة وما بعدها، وجَعل (مَا) بمعنى الذي المنفصلة، ويكون موضع (مَا) نصباً باسم إنَّ ؛ وما بعدها خبرها. كما قال :﴿ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ ﴾[طه : ٦٩]. وقرأه الباقون (حَرَّمَ) بنصب الحاء وتشديد الراء ونصب (الْمَيْتَةَ) وما بعدها، وجعلوا (إنَّمَا) كلمة واحدة تأكيداً وتحقيقاً. والميتة : ما لَم يُذَكَّ، والدمُ : يعني المسفوحَ الجاري. وهذه الآية مخصوصةٌ بالسُّنة ؛ وهو قوله ﷺ :" أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ : السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَانِ : الْكَبدُ وَالطُّحَالُ ".
قَوْلُهَ تَعَالَى :﴿ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ ﴾ أرادَ جميعَ أجزائه وكل بدنهِ، فعبَّر ذلك باللحم ؛ لأنه معظمهُ وقِوامه. وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ﴾ أي ما ذُكِرَ عليه عند الذبح اسمُ غير الله، قال ابنُ عباس ومجاهد وقتادة والضحاك :(يَعْنِي مَا ذُبحَ لِلأَصْنَامِ وَالطَّوَاغِيْتِ كُلِّهَا) وأصلُ الإهلال رفعُ الصوت، ومنه إهلال الحجِّ ؛ وهو رفعُ الصوتِ بالتلبية، ومنه إهلالُ الصبي واستهلاله ؛ وهو صياحه عند خروجه من بطن أمِّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ ؛ قرأ عاصمُ وحمزة ويعقوب وأبو عمرو :(فَمَنِ اضْطُرَّ) بكسر النون فيه وفيما يشابهه مثل (أنِ اقْتُلُواْ) وأمثاله. وقرأ ابن محيصن :(فَمَن اضْطُرَّ) بإدغام الضاد في الطاء حتى يكون طاء خالصة.
ومعنى الآية : فمن أُحرجَ فالتجأَ إلى ذلك بالمجاعة والإكراهِ، ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ أي غير طالب لذلك ؛ أي غير طالب تلذُّذٍ، ﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾ أي ولا متجاوز قدر ما يسدُّ به رَمَقَهُ، وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ نصبَ (غَيْرَ) على الحال، وقيل : على الاستثناءِ، وإذا رأيتَ (غَيْرَ) لا يقع في موضعها (إلاَّ) فهي حال ؛ وإذا يقع في موضعها (إلاَّ) فهي استثناء ؛ فَقِسْ على هذا.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾، نزل في علماء اليهود والنصارى، قال الكلبيُّ : عن أبي صالح عن ابنِ عباس :(كَانَ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ يَأْخُذُونَ مِنْ سَفَلَتِهِمُ الْهَدِايَّةَ، وَكَانُواْ يَرْجَوْنَ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ الْمَبْعُوثُ مِنْهُمْ، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً ﷺ مِنْ غَيْرِهِمْ، خَافُواْ ذَهَاَب مَآكِلِهِمْ وَزَوَالِ رئَاسَتِهمْ، فَعَمَدُواْ إلَى صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَغَيَّرُوهَا ثُمَّ أخْرَجُوهَا إلَيْهِمْ وَقَالُواْ : هَذَا نَعْتُ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، لاَ يُشْبهُ نَعْتَ هَذَا النَّبيِّ الَّذِي بمَكَّةَ، فَإذَا نَظَرَتِ السَّفَلَةُ إلَى النَّعْتِ الْمُغَيَّرِ وَجَدُوهُ مُخَالِفاً لِصِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلاَ يَتَّبعُونَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ﴿ إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ يَعْنِي صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَنُبُوَّتَهُ) ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ﴾ ؛ أي بالمكتوب، ﴿ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ ؛ أي عِوَضاً يسيراً ؛ يعني المآكل التي كانوا يُصيبونَها من سَفلتهم، ﴿ أُولَـائِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ ﴾ ؛ ذكرَ البطونَ ها هنا للتأكيدِ ؛ ما يأكلونَ إلا ما يوردهم النارَ ؛ وهي الرِّشوةُ والحرامُ، ومن الدين والإسلام، فلما كان عاقبته النار سَمَّاه في الحالِ ناراً، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾[النساء : ١٠] يعني أنَّ عاقبتهُ النار، وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ في الذي يشربُ في الإناءِ الذهب والفضةِ :" إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " أخبرَ عن المالِ بالحال.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي لا يكلمهم كلاماً ينفعُهم ويسرهم كما يكلمُ أولياءَه من البشارةِ والرضا، وأما التهديدُ فلا بدَّ منه لقوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[الحجر : ٩٢]. وقيل : معناه : لا يُسْمِعُهُمْ كلامَ نفسهِ، بل يرسلُ إليهم ملائكةَ العذاب، فيكلمونَهم بأمر الله، وإنَّما أضافَ السؤال إلى نفسهِ ؛ لأن سؤالَ الملائكة بأمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾ ؛ أي لا يطهِّرهم من دنس ذنوبهم ؛ ولا يُثني عليهم خيراً ؛ ولا يُصلح أعمالهم الخبيثة ؛ ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي مؤلِمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُولَـائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ ؛ أي الذين مالوا إلى التحريف للتوراة والإنجيل هم الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، وقوله تعالى ﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾ معناه : أنَّ الإيمانَ بالنبي ﷺ يوجبُ المغفرةَ ؛ والكفرَ به يوجب العذابَ ؛ فيكونُ المستبدِلُ للكفر بالإيْمان مُشترياً للعذاب بالمغفرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ قال الحسنُ وقتادة والربيع :(وَاللهِ وَمَا لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ ؛ وَلَكِنْ مَا أجْرَأهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إلَى النَّار!). وقال الكسائيُّ وقطرب :(مَا أصْبَرَهُمْ عَلَى عَمَلِ أهْلِ النَّار ؛ أيْ مَا أدْوَمَهُمْ عَلَيْهِ). وقيل : معناهُ : ما ألقاهم في النار. وقال عطاءُ والسدي :(مَعْنَاهُ : مَا الَّذِي أصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار، وَأيَّ شَيْءٍِ صَبَّرَهُمْ عَلَى النَّار حِيْنَ تَرَكُواْ الْحَقَّ وَاتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ).
وَقِيْلَ : هو لفظُ استفهامٍ بمعنى التوبيخ لهم والتعجب لنا، كأنه قال : ما أجرأهم على فعل أهل النار مع علمهم. قالوا : وهذه لغةٌ يَمانية. وقال الفراءُ :(أخْبَرَنِي الْكَسَائِيُّ ؛ قَالَ : أخْبَرَنِي قَاضِي الْيَمَنِ : أنَّ خَصْمَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ، فَوَجَبَتِ الْيَمِيْنُ عَلَى أحَدِهِمَا ؛ فَحَلَفَ، فَقَالَ لَهُ خَصْمُهُ : مَا أصْبَرَكَ عَلَى اللهِ! أيْ مَا أجْرَأكَ عَلَى اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي ذلكَ العذابُ لهم في الآخرة. وقيلَ : ذلك الضلالُ (بأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الكِتَابَ بالْحَقِّ) أي بالعذاب والصِّدقِ. واختلفوا فيه ؛ فحينئذ يكونُ ذلك في موضع الرفع. وقال بعضُهم : هو في محل النصب ؛ معناهُ : فعلنا ذلك بهم ؛ بأنَّ الله أو لأن الله نزَّلَ الكتابَ بالحق فاختلفوا فيه وكفروا به ؛ فَنُزِعَ الخافضُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ ﴾ ؛ قيل : هم اليهودُ والنصارَى، وأرادَ بالكتاب : التوراةَ والإنجيلَ وما فيهما من البشارةِ بمُحَمَّدٍ ﷺ وصحَّةِ أمرهِ ودينهِ.
وقيلَ : هم الكفارُ كلهم، وأراد بالكتاب القرآنَ واختلافَهم فيه ؛ لأنَّ بعضهم قال : هو سحرٌ، وبعضهم قال : هو قولُ البشرِ، وبعضهم قال : هو أساطيرُ الأولين، ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ ﴾ ﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ ؛ أي خلافٍ طويل.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ ؛ قرأ حمزة وحفص :(لَيْسَ الْبرَّ) بالنصب، ووجهُ ذلك : أنهما جعلا (أنْ) وصلتهما في موضع الرفع على اسم ليس، تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البرَّ، كقولهِ تعالى :﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ ﴾[الحشر : ١٧]. وقرأ الباقون بالرفع على أنه اسمُ (لَيْسَ).
واختلفَ المفسرون في هذه الآية : فقال قومٌ : أراد بها اليهودَ والنصارى قبل المشرق، وزعمَ كل فريقٍ منهم أن البرَّ في ذلك، فأخبرَ الله تعالى أن البرَّ غيرُ دينهم وعملهم، وعلى هذا القول قتادةُ والربيع ومقاتل.
وقيل : لَمَّا حُوِّلَتِ القبلةُ إلى الكعبة كَثُرَ الخوضُ في أمر القبلة، فتوجَّهت. النصارى نحوَ المشرق، واليهود يصلونَ قِبل المغرب إلى بيت المقدس، واتخذوهُما قبلةً وزعموا أنه البرُّ، فأكذبَهم اللهُ تعالى بهذا وبيَّن أن البر في طاعته واتباعِ أمره، وأن البرَّ يتمُّ بالإيْمان. وقيل : معناهُ : ليس البرُّ كلهُ في الصَّلاة فقط، ﴿ وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ ﴾، الذي يؤدِّي للثواب، ﴿ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾، والإقرار بالملائكة أنَّهم عبادُ الله ورسله ؛ لا كما قال بعض الكفار : أنَّ الملائكة بناتُ الله. والإقرار بالنبييِّن كلهم.
فإنْ قيلَ لَهم : جعل (مَنْ) خبرَ (الْبرَّ) و(مَنْ) اسمٌ و(الْبرَّ) فعلٌ، وهم لا يُجبَرُونَ :(الْبرَّ) زيْدَ. قيل : معناهُ عند بعضهم : ولكنَّ البرَّ الإيْمانُ بالله، والعربُ تجعل الاسم خبراً للفعل كقولهم : البرُّ الصادقُ الذي يصلُ رحِمه ويخفي صدقتهُ، يريدون صلةَ الرحمِ وإخفاءَ الصدقةِ، فيكون (مَنْ) في موضعِ الْمَصْدَر كأنه قال : ولكن البرَّ مَن آمن بالله والْبرُّ برُّ مَن آمَنَ بالله، كما يقال : الْجُودُ من حاتمٍ ؛ والشجاعةُ من عنترٍ ؛ أي الجود جودُ حاتم، والشجاعة شجاعة عنتر، ومثله قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾[يوسف : ٨٢]
أي أهلَ القريةِ.﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾[لقمان : ٢٨] ؛ أي كخَلقِ نفسٍ. وقال أبو عُبيدة :(مَعْنَاهُ : وَلَكِنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ باللهِ، كَقَوْلِهِ :﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾[طه : ١٣٢] أيْ لِلْمُتَّقِي). وقيل : معناهُ : ولكن ذا البرَّ مَن آمنَ بالله، كقوله :﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ﴾[آل عمران : ١٦٣] هم ذو درجاتٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ ؛ أي مَن آمنَ بالله والملائكةِ كلهم والكتاب يعني الكتبَ، والنبيينَ أجمع.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ﴾ ؛ اختلفوا في الهاء الذي في (حُبهِ) ؛ فقال أكثرُ المفسرين : الهاءُ في (حُبهِ) راجعٌ إلى المال ؛ يعني إعطاءَ المال في صحتهِ ومحبتهِ إياهُ وصلته به، وهو صحيحٌ يخشى الفقر ويأملُ الغنى، ولا يهمل حتى إذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ فيقول : لفلانٍ كذا أو لفلان كذا. أو قيل : هي عائدةٌ إلى الله ؛ أي على حب الله تعالى. وقيل : على حب الأنبياء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَوِي الْقُرْبَى ﴾ ؛ أي أهل القربَى ؛ قال ﷺ :" أفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذَوي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ "
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى ﴾ ؛ نزلت هذه الآية في الأوسِ والخزرجِ وكان بينهما قتلى وجراحات في الجاهلية، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر في الكثرةِ والشرفِ، فأقسَمُوا ليقتلنَّ بالعبدِ منا الحرَّ منهم ؛ وبالمرأةِ منا الرجلَ منهم ؛ وبالرجلِ منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتِهم ضِعْفَي جراحات أولئك، فلم يأخذها بعضهم من بعضٍ حتى جاءَ الإسلامُ، فرفعوا أمرَهم إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآية وأمَرَهم بالمساواةِ ؛ فَرَضُوا وسلَّمُوا.
قولَهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ ؛ قيل : إنّ (مَنْ) اسمُ القاتلِ مَنْ تُرِكَ له القَوْدُ وصحَّ عنه من القصاص في قتل العمد ؛ فَرُضِيَ منه بالدِّية، وقوله :﴿ مِنْ أَخِيهِ ﴾ أي من أخ المقتول منه ؛ فيسع العافي بالمعروف ؛ أي بترفق في طلي الديةِ من القاتلِ ولا يعسر ؛ وليؤدِّ القاتل إليه بإحسان ؛ أي لا يبخس ولا يُماطل، هذا قول أكثر المفسرين. قالوا : العفوُ : أن يقبلَ الدية في قتل العمدِ، وقيل في تأويله : إن العفوَ في اللغة ما سَهْلٌ وتيسرٌ، قال الله تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾[الأعراف : ١٩٩] ؛ أي ما سَهُلَ من الأخلاقِ، فعلى هذا يكون قَوْلُهُ تَعَالَى :(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) أي ولِيّ القتيل إذا بدل له من بدل أخيه شيء من المال من جانب القاتل ؛ فَـ لَهُ ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ أي فَلْيَقْبَلْهُ، ﴿ وَأَدَآءٌ ﴾ ؛ أي ليؤَدِّ، ﴿ إِلَيْهِ ﴾، القاتلُ ﴿ بِإِحْسَانٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ ؛ أي أن الصلح عن القصاص على شيء من الديةِ أو غير ذلك تسهيلٌ من ربكم عليكم، رحمةٌ رحمكم الله بها ؛ وذلك أن اللهَ كتبَ على أهل التوراة في النفس والجراحِ أن يُقِيدُوا ولا يأخذوا الديةَ ولا يعفوا، على أهل الإنجيل أن يعفُوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الديةَ، فخيَّر الله هذه الأمةَ بين القصاص والدية والعفو.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي إذا قتلَ الوليُّ قاتلَ وليهِ بعد أخذ الديةِ منه فله عذابٌ أليم : القتلُ في الدنيا والنار في الآخرة، ومن قتلَ بعد أخذ الدية يُقتلُ ولا يعفى عنه، قال ﷺ :" لاَ أُعَافِي رَجُلاً قَتَلَ بَعْدَ أخْذِ الدِّيَةِ ".
وفي هذه الآية دليلٌ على أن القاتل لا يصيرُ كافراً ولا يخلد في النار ؛ لأن الله تعالى خاطبهم فقال :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ﴾ وقال في آخر الآية :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾ فسمَّى القاتل أخاً للمقتول، وقال تعالى :﴿ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ وهما يلحقان المؤمنين دون الكفار. ويروى أن مسروقاً :(سُئِلَ هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ ؟ فَقَالَ : لاَ أُغْلِقُ بَاباً فَتَحَهُ اللهُ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاوةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ ؛ يعني أن الذي يريد قتلَ غَيرَهُ إذا علم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ ؛ أمسكَ عن القتل وارتدع ؛ فيكون ذلك حياةً له وحياة للذي هَمَّ بقتله، وفي بقائهما بقاءٌ لمن يتعصبُ لهما ؛ لأن الفتنةَ تُنْبئُ بالقتلِ ؛ فتؤدي إلى المحاربةِ التي لا منتهى لها. وقيل : أراد الآخرة بذلك لا من اقتصَّ منه في الدنيا حيٌّ في الآخرة، وإذا لم يقتصَّ منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة ؛ فمعنى الحياةِ سلامتهُ في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأُولِي الأَلْبَابِ ﴾ أي يا ذوي العقولِ، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ؛ أي لكي تتقوا القتلَ مخافةَ القصاص.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ ؛ أي فُرضَ عليكم إذا حَضَرَ أحدَكم أسبابُ الموتِ من العلل والأمراض، ﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ ؛ أي مَالاً، ﴿ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ وفي ارتفاع الوصية وجهان ؛ أحدُهما : اسم ما يسمَّ فاعله ؛ أي كتب عليكم الوصيةُ، والثاني : بخبر الجار والمجرور. وفي قوله :﴿ لِلْوَالِدَيْنِ ﴾. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي لا يزيد على الثُلُثِ ؛ ولا يوصي للغني ويترك الفقير. كما قيلَ : الوصيةُ للأحوج فالأحوج. وقوله تعالى :﴿ حَقّاً ﴾ ؛ أي حَقّاً واجباً وهو نعتٌ على المصدر، معناه : حقٌّ ذلك حقاً. وقيل : على المفعول ؛ أي جعل الوصية حقّاً. وقوله تعالى :﴿ عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي على المؤمنين.
وسببُ نزول هذه الآية : أنَّهم كانوا في ابتداء الإسلام يوصون للأباعد طلباً للرياءِ، فأمرَ الله تعالى مَن ﴿ تَرَكَ خَيْراً ﴾ أي مالاً. نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾[البقرة : ٢٧٢] أي من مالٍ، وقوله :﴿ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾[القصص : ٢٤] أي من مالٍ، ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾[العاديات : ٨]. وقوله تعالى :﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ أي إذا مَرِضَ أحدكم ؛ لأنه إذا عاينَ الموتَ فقد شُغل عن الوصية.
وهذه الآية منسوخةٌ عند أكثرِ العلماء، واختلفوا بأيِّ دليل نُسِخَتْ ؛ فقالَ بعضهم : بآية المواريث، وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ الله تعالى قال فيها :﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ ﴾[النساء : ١١]. والصحيح : أنَّها نُسِخَتْ بقوله عليه السلام :" لاَ وَصِيَّةَ لِوَارثٍ " وهذا الخبرُ وإن كان خبرَ واحدٍ فقد تَلَقَّتْهُ الأمة بالقبول، فقد جرى مجرى التواتر، ويجوزُ نسخ القرآن بمثل هذه السُّنة، ولا تجبُ الوصية إلا على من عليه شيء من الواجباتِ لله تعالى أو لعبادهِ، وتستحبُّ لما لا شيء عليه بالوصية بالثلث لأقاربه الذين لا يرثونه بالرحمِ، وفي جهات الخيرِ إذا لم يخف ضرراً على ورثته، قال الضَّحاك :(مَنْ مَاتَ وَلَمْ يُوصِ لِذِي قَرَابَتِهِ، فَقَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ بمَعْصِيَتِهِ). وقيلَ : لا يجب على أحدٍ وصيةً، فإن أوصَى فحسنٌ، وإن لم يُوصِ فلا شيءَ عليه، وهذا قولُ عليٍّ وابنِ عمرَ وعائشةَ وعكرمةَ ومجاهدٍ والسديُّ.
قال عروةُ بن الزبير :(دَخَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى مَرِيْضٍ يَعُودُهُ ؛ فَقَالَ : إنِّي أُريْدُ أنْ أُوصِي، قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ وَإنَّمَا تَتْرُكُ شَيْئاً يَسِيْراً فَدَعْهُ لِعِيَالِكَ، فَإنَّهُ أفْضَلُ). وروى نافعٌ عن ابنِ عمر :(أنَّهُ لَمْ يُوصِ، فَقَالَ : أمَّا ربَاعِي فَلاَ أُحِبُّ أنْ يُشَاركَ وَلَدِي فِيْهَا أحَدٌ]. وروي :(أنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : إنِّي أُريْدُ أنْ أُوْصِي، قَالَتْ : كَمْ مَالُكَ ؟ قَالَ : ثَلاَثَةُ آلاَفٍ، قَالَتْ : كَمْ عِيَالُكَ ؟ قَالَ : أرْبَعَةٌ، قَالَتْ : إنَّمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ وَهَذَا شَيْءٌ يَسِيْرٌ فَاتْرُكْ لِعِيَالِكَ). وقد روي عن عروةَ بنِ ثابت قال للربيعِ بن خَيْثَمَ :(أوْصِ لِي بمُصْحَفِكَ، فَنَظَرَ إلَى ابْنِهِ، وَقَالَ :﴿ وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾[الأنفال : ٧٥]).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً ﴾ ؛ لِما توعَّدَ اللهُ المبدِّلَ ؛ خافَ الأوصياءُ من التبديلِ، فكانوا ينفذونَ وصيةَ الميت وإن جارَ في وصيتهِ واستغرقت كلَّ المالِ، فأنزلَ اللهُ هذه الآية وبيَّن أن الإثم في تبديلِ الحقِّ بالباطل، وإذا غيَّر الوصيُّ من باطلٍ إلى حقٍّ على طريق الإصلاحِ فهو محسنٌ فلا أثمَ عليه.
ومعنى الآية : لمن عَلِمَ من موصٍ جَنَفاً مثلَ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا ﴾[البقرة : ٢٢٩] أي إلا أنْ يَعْلَمَا. وقوله تعالى :﴿ جَنَفاً ﴾ أي مَيْلاً عن الحقِّ على جهةِ الخطأ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ إِثْماً ﴾ أي مَيْلاً إلى جهة العمدِ ؛ بأن زادَ في الوصيةِ على الثُّلث ؛ أو أقرَّ بغيرِ الواجبٍ ؛ أو جَحَدَ حقّاً عليه، ﴿ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي الوصيُّ بين وَرَثَةِ الموصي وغرمائهِ، بأن ردَّ الوصيةَ إلى المعروفِ الذي أمرَ اللهُ به، ﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، في التبديلِ.
والهاء والميم في قولهِ تعالى :﴿ بَيْنَهُمْ ﴾ كنايةٌ عن الورثةِ، والكنايةُ تصحُّ عن المعلوم وإن لَم يكن مذكوراً ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ يعني غفورٌ رحيمٌ إذ رخَّصَ للوصي في خِلاف الوصيةِ على جهة الإصلاحِ.
قرأ مجاهدُُ وعطاء وابن كثير وأبو عمرٍو وابنُ عامر وشيبةَ ونافعُ وحفص :(مُوصِ) بالتخفيف، وقرأ الباقون :(مُوَصٍّ) بالتشديدِ.
وقولهُ تعالى :﴿ جَنَفاً ﴾ أي جَوْراً وعُدولاً عن الحق، والْجَنَفُ : الميلُ في الكلامِ وفي الأمور كُلِّها. وقرأ عليٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ :(حَيْفاً) بالحاء والياء ؛ أي ظُلماً. قال الفراءُ :(الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَنَفِ وَالْحَيْفِ : أنَّ الْجَنَفَ عُدُولٌ عَنِ الشَّيْءِ، وَالْحَيْفَ حَمْلٌ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَنْتَقِصَهُ، وَعَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يَنْتَقِصَ حَقَّهُ). قال المفسِّرونَ : الْجَنَفُ الخطأُ، والإثمُ العمدُ.
ومعنى الآيةِ : مَن حضرَ مريضاً وهو يوصِي، فخافَ أن يخطئَ في وصيَّته ليفعل ما ليس له فعلهُ، أو يتعمَّدَ جَوْراً فيها فيأمرُُ بما ليس له، فلا حرجَ على مَن حضرَهُ أنْ يصلحَ بينه وبين ورثتهِ ؛ بأن يأمرَهُ بالعدلِ في وصيتهِ وينهاهُ عن الجنفِ ؛ فينظر للموصي وللورثة، وهذا قولُ مجاهدٍ : قال :(هَذَا حِيْنَ يَحْضُرُهُ الْمَوْتُ، فَإذَا أسْرَفَ أمَرَهُ بالْعَدْلِ، وَإذا قَصَّرَ ؛ قَالَ : افْعَلْ كَذَا، أعْطِ فُلاَناً كَذَا).
وقالَ آخرون : هو إذا أخطأَ الميتُ في وصيته وأحافَ فيها متعمِّداً، فلا حرجَ على وَلِيِّهِ أو وَصِيِّه أو وَالِي أمُور المسلمين أن يُصلحَ بعد موتهِ بين الورثة وبين الموصَى لهم، ويردَّ الوصيةَ إلى العدلِ والحقِّ، وهذا قولُ ابن عباس وقتادةُ والربيع.
وروي عن عطاءٍ أنه قال :(هُوَ أنْ يُعْطِيَ عِنْدَ حُضُور أجَلِهِ بَعْضَ وَرَثَتِهِ دُونَ بَعْضٍ مِمَّا سَيَرِثُونَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلاَ إثْمَ عَلَى مَنْ أصْلَحَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ).
وقال طاووسُ :(هُوَ أنْ يُوصِي لِبَنِي ابْنِهِ يُرِيْدُ أبْنَهُ، أوْ لِبَنِي بنْتِهِ يُرِيْدُ بنْتَهُ، أوْ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ يُرِيْدُ ابْنَتَهُ، فَلاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ أصْلَحَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ ؛ قال الحسنُ :(إذا سَمِعْتَ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ فَارْعِ لَهَا سَمْعَكَ، فَإنَّهَا لأَمْرٌ تُؤْمَرُ بهِ وَلَنْهْيٌ تُنْهَى عَنْهُ). وقال جعفرُ الصَّادق :(لَذّةُ مَا فِي النِّدَاءِ إزَالَةُ تَعَب الْعِبَادَةِ وَالْعَنَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ أي فُرِضَ عليكم الصيامُ، ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، كما فُرِضَ على الذين من قبلِكم من الأنبياءِ والأُمم، أوَّلُهم آدَمُ عليه السلام. وهو ما روي عن علي كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أنه قال :" أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَار، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ :[يَا عَلِيُّ، هَذَا جِبْرِيْلُ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ] قُلْتُ : وَعَليْهِ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :[يَا عَلِيُّ، يَقُولُ لَكَ جِبْرِيْلُ : صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ؛ يُكْتَبُ لَكَ بأَوَّلِ يَوْمٍ عَشْرَةُ آلافِ حَسَنَةً، وَبالْيَوْمِ الثَّانِي ثَلاَثُونَ ألْفَ حَسَنَةً، وَبالْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةُ ألْفِ حَسَنَةٍ] فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ، ثَوَابٌ لِي خَاصَّةً أمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً ؟ فَقَالَ :[يَا عَلِيُّ، يُعْطِيْكَ اللهُ هَذَا الثَّوَابَ وَلِمَنْ يَعْمَلْ مِثْلَ عَمَلِكَ بَعْدَكَ] قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هِيَ ؟ قَالَ :[أيَّامُ الْبيْضِ ؛ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَأرْبَعَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ] ".
قال عَنتَرَةُ : قلتُ لعليٍّ رضي الله عنه : لأيِّ شيءٍ سُميت هذه الأيامُ البيضَ ؟ قال :[لَمَّا أهْبَطَ اللهُ آدَمَ عليه السلام مِنَ الْجَنَّةِ أحْرَقَتْهُ الشَّمْسَُ، فَاسْوَدَّ جَسَدُهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام، فَقَالَ : يَا آدَمُ أتُحِبُّ أنْ تُبَيِّضَ جَسَدَكَ، قَالَ : نَعَمْ، قَالَ : صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَأرْبَعَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ. فَصَامَ آدَمُ عليه السلام أوَّلَ يَوْمٍ فَابْيَضَّ ثُلُثُ جَسَدِهِ، وَصَامَ الْيَوْمَ الثَّانِي فَابْيَضَّ ثُلُثَاهُ، وَصَامَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَابْيَضَّ كُلُّ جَسَدِهِ، فَسُمِّيَتْ أيَّامَ الْبيْضِ].
قالَ المفسِّرون : فرضَ اللهُ تعالى على رسولهِ مُحَمَّدٍ ﷺ وعلى المؤمنين صيامَ يومِ عاشُوراء وصومَ ثلاثِةِ أيَّام من كلِّ شهرٍ حين قَدِمَ المدينةَ، فكانوا يصُومون إلى أن نزلَ صومُ شهرِ رَمصان قبل قِتَالِ بدرٍ بشَهرٍ وأيَّام.
وقال الحسنُ :(أرَادَ بالَّذِي مِنْ قَبْلِنَا النَّصَارَى، فَشَبَّهَ صِيَامَنَا بِصِيَامِهِمْ لاتِّفَاقِهِمَا فِي الْوَقْتِ وَالْقَدْر ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى النًّصَارَى صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ لأَنَّهُمْ رُبَّما كَانَ يَأْتِي فِي الْحَرِّ الشَّدِيْدِ ؛ وَكَانَ يََضُرُّهُمْ فِي أسْفَارهِمْ ؛ فَاجْتَمَعَ رَأيُ عُلَمَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ عَلَى أنْ يَجْعَلُواْ صِيَامَهُمْ فِي فَصْلٍ مِنَ السَّنَةِ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَجَعَلُوهُ فِي الرَّبيْعِ وَزَادُواْ فِيْهِ عَشْرَةَ أيَّامٍ كَفَّارَةً لِمَا صَنَعُواْ ؛ فَصَارَ أرْبَعِيْنَ يَوْماً). قال مجاهدُ :(أصَابَهُمْ مَوَتَانٌ عَظِيْمٌ ؛ فَقَالوُاْ : زيْدُواْ فِي صِيَامِكُمْ ؛ فَزَادُواْ عَشْراً قَبْلُ، وَعَشْراً بَعْدُ، فَصَارَ خَمْسِيْنَ يَوْماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ؛ أيْ لِكَيْ تَّتَّقُواْ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي زَمَانِ الصَّوْمِ. وقيل : معناه لتكونوا أتقياءَ. وأصلُ الصيام والصوم في اللغة : الإمساكُ، يقال : صَامَتِ الريحُ إذا سكنَت، وصامَتِ الخيلُ إذا وقفتْ وأمسكت عن السيرِ. قال النابغةُ : خَيْلٌ صِيَّامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَاويقال : صَامَ النهارُ إذا اعتدلَ وقامَ قائمُ الظهيرةِ ؛ لأن الشمسَ إذا بلغت كبدَ السماءِ وقفَتْ وأمسكت عن السَّيرِ سويعةً. قال امرؤُ القيس : فَدَعْ ذا وَسَلِّ الْهَمَّ عَنْكَ بجَسْرَةِ ذمُول إذا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَاوقالَ آخرُ : حَتَّى إذا صَامَ النَّهَارُ واعْتَدَلْ وَسَالَ لِلشَّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْويقالُ للرجل إذا أمسكَ عن الكلام : صامَ، قال الله تعالى :﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ صَوْماً ﴾[مريم : ٢٦] أي صمتاً. فالصومُ : هو الإمساكُ عن المُفْطِرَاتِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ ؛ يعني شَهْرَ رمضانَ ثلاثينَ يوماً أو تسعةً وعشرين. قال رسولُ الله ﷺ :" [نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَحْسِبُ وَلاَ نَكْتُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا] وعقدَ الإبْهامَ في الثالثة [وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا] إتْمام الثَّلاثين ".
ونصبَ ﴿ أيَّاماً ﴾ على الظرفِ ؛ أيْ في أيامٍ ؛ وقيل : على خبرِ ما لم يسمَّ فاعله ؛ أيْ كتب عليكمُ الصيامَ أياماً. وقيل : بإضمار فعلٍ ؛ أي صُوموا أياماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ ؛ أي فافطرَ فعدةٌ كقوله :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ ﴾[البقرة : ١٩٦] تقديره : فحلقَ أو قصرَ ففديةٌ ؛ فاختصر وتقديره : فعليهِ عدةٌ.
قراءةُ أبي عُبيد :(فَعِدَّةً) بالنصب ؛ أي فليصمْ عدةً. و(أُخَرٍ) في موضع خفضِ ؛ إلا أنَّها لا تنصرفُ ؛ لأنَّها معدولةٌ عن جهتها فكان حقُّها (أُخْرَيَاتٍ) فلما عدلَ إلى (فُعَلٍ) لم يجز مثل عُمَرٍ وزُفَرٍ. ومعنى الآيةِ : فليصُمْ عدةً من أيام أُخر غيرِ أيام مرضهِ أو سفرهِ.
َقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ ؛ قرأ ابنُ عباس وعائشةَ وعطاءُ وابن جبيرٍ وعكرمةُ ومجاهد (يُطَوَّقُونَهُ) بضمِّ الياء وفتح الطاء والواو والتشديد ؛ أي يُكَلَّفُونَهُ. ورُوي عن مجاهدٍ وعكرمة بفتحِ الياء وتشديد الطاء والواو ؛ أي يَطَّوَّقُونَهُ بمعنى يتكلَّفونه. وروي عن ابنِ عبَّاسٍ أيضاً أنه قرأ :(يَطَّيَّقُونَهُ) بفتحِ الياء وتشديد الطاء والياء الثانية وفتحها بمعنى يُطِيقُونَهُ. يقال : طَاقَ وأطَاقَ بمعنى واحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ قرأ أهلُ المدينةِ والشام (فِدْيَةُ طَعَامٍ) مضافاً إلى (مَسَاكِيْنِ) جمعاً ؛ أضافَ الطعام إلى الفدية وإن كانا واحداً لاختلافِ اللفظين، كقوله تعالى :﴿ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾[ق : ٩]. وقولهم : مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَرَبَيْعُ الأَوَّلِ. وقرأ ابنُ عبَّاس :(طَعَامُ مِسْكِيْنٍ) على الواحدِ، وهي قراءة الباقين غيرَ نافعٍ، فمن وحَّد فمعناه لكل يومٍ طعامُ مسكين واحد، ومن جمعَ ردَّهُ إلى الجمعِ ؛ أي عليه إطعامُ مساكين فديةٌُ أيَّامٍ يُفطِرُ فيها.
ومعنى الآية :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ ﴾ يطيقونَ الصومَ فلم يصوموا (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِيْنٍ) وذلك أنه كان يرخصُ في الصومِ الأول لِمن يطيقُ الصومَ أن يُفْطِرَ ويتصدقَ مكان كلِّ يوم على مسكين ؛ ثم نُسِخَ بقوله :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة : ١٨٥].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ﴾ ؛ قرأ يحيى بن وثَّاب وحمزة والكسائيُّ :(يَطَّوَّعْ) بالياء وتشديد الطاء وجزمِ العين على معنى يَتَطَوَّعُ. وقرأ الآخرون بالتاء وفتح العين وتخفيفِ الطاء على الفعلِ الماضي. ومعنى الآية : فمَن يتطوَّع خيراً ؛ أي زادَ على طعامِ مسكين واحدٍ فهو خيرٌ له ؛ ﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ من أن تُطعِموا وتَفطِروا، ﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ ثوابُ الله في الصوم.
واختلف العلماءُ في تأويل هذه الآية وحكمها ؛ فقال قوم : كان ذلك في أوَّلِ ما فرضَ اللهُ الصومَ، وذلك أن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا نزَّل فرضَ صيام شهر رمضانَ على رسولِ الله ﷺ وأمرََ أصحابهُ بذلك، شقَّ عليهم الصوم ؛ وكانوا قوماً لَم يتعوَّدوا الصومَ ؛ فخيَّرهم اللهُ تعالى بين الصيامِ والإطعام ؛ فكان مَن شاءَ صامَ، ومَن شاء أفطرَ وافتدَى بالطعام.
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ ؛ إلا أنهُ اختلفَ المفسرون في سبب نزول هذه الآيةَ ؛ فقال ابن ((عباس)) :(نَزَلَتْ فِي عُمَرَ رضي الله عنه وَأَصْحَابهِ حِيْنَ أصَابُواْ مِنْ أهْلِيْهِمْ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ) وستأتِي قصَّتُهم إن شاءَ اللهُ تعالى.
وروى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عنه قال :(قَالَ يَهُودُ الْمَدِيْنَةِ : يَا مُحَمَّدُ، كَيْفَ يَسْمَعُ رَبُّنَا دُعَاءَنَا وَأنْتَ تَزْعُمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السَّمَاءِ مَسِيْرَةَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ ؛ وَأنَّ غِلَظََ كُلِّ سَمَاءٍ مِثْلُ ذلِكَ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقال عطاءُ وقتادة :(لَمََّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾[غافر : ٦٠] قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ نَدْعُو رَبَّنَا ؟ وَمَتَى نَدْعُوهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقال الضحَّاكُ :(سَأَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَسُولَ اللهِ ﷺ : أقَرِيْبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيْهِ، أمْ بَعِيْدٌ فَنُنَادِيْهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قال أهلُ المعانِي : فيه إضمارٌ كأنه قال : فقُلْ لهم يا مُحَمَّدُ وأعلِمهم أني قريبٌ منهم بالعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ ؛ فإن قيلَ : ما وجهُ هذه الآيةِ وقوله :﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾[غافر : ٦٠] وقد يدعوهُ كثيرٌ من خَلْقِهِ فلا يجيبُ دعاءه؟! قُلنا : اختلفَ العلماءُ في تأويل ذلك، فقال بعضُهم : معنى الدعاءِ هنا الطاعة، ومعنى الإجابةِ الثَّواب. كأنه قالَ : أُجِيْبُ دعوةَ الدَّاعي بالثواب إذا أطَاعَني.
وَقِيْلَ : معناهُ الخصوصُ ؛ وإنْ كان اللفظُ عامّاً، أي أجيبُ دعوةَ الدَّاعي إن شئت، وأجيبُ دعوةَ الداعي إذا وافقَ القضاء، وأجيبُ دعوةَ الداعي إذا كانتِ الإجابةُ له خيراً. ويدلُّ عليه ما رُوي عن أبي سعيدٍ قال : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" [مَا مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا اللهَ بدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيْهَا قَطِيْعَةُ رَحِمٍ وَلاَ إثْمٌ إلاَ أعْطَاهُ اللهُ بهَا إحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ : إمَّا أنْ يُعَجِّلَ دَعْوَتَهُ ؛ وَإمَّا أنْ يَدَّخِرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ ؛ وإمَّا أنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]، قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ إذَنْ نُكْثِرُ ؟ قَالَ :[اللهُ أكْثَرُ] ".
و((قال)) بعضُهم : هو عامٌّ وليس فيه أكثرَ من إجابةِ الدعوة ؛ فأما إعطاءُ الأُمنية وقضاء الحاجةِ، فليس بمذكورِ. وقد يجيبُ السيدُ عبدَه ؛ والوالدُ ولدَه، ولا يعطيهِ سؤالهُ ؛ فالإجابة كائنةٌ لا محالة عند حصول الدعوة ؛ لأن قوله : أُجيب وأستجيبُ هو خبرٌ ؛ والخبر لاَ يَعْتَرِضُ عليه النسخُ ؛ لأنه إذا نُسِخَ صارَ المخبرُ كذَّاباً، فتعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.
ودليلُ هذا التأويلِ ما روى ابنُ عمر : أن رسولَ الله ﷺ قال :" مَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ فِي الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الإجَابَةٍ " وَأوْحَى اللهُ إلَى دَاوُدَ عليه السلام :[قُلْ لِلظَّلَمَةِ لاَ يَدْعُونِي، فَإنِّي أوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي أنْ أُجِيْبَ مَنْ دَعَانِي ؛ وَإنِّي إذاً أُجِيْبُ الظَّالِمِيْنَ لَعَنْتُهُمْ]. وَقِيْلُ : إن اللهَ تعالى يجيبُ دعاءَ المؤمن في الوقتِ، إلا أنه يؤخرُ إعطاءَ مراده ليدعوه فيسمعَ صوته.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ ؛ قال المفسِّرونَ : كان الرجلُ في ابتداء الأمرِ إذا أفطرَ أُحِلَّ له الطعامُ والشراب والجماعَ إلى أن يصلَِّي العشاء الأخيرة أو ترَقَّدَ قبلَها، فإذا صلَّى العشاء ورَقَدَ قبلَ الصلاة ولَم يُفطِرْ، حَرُمَ عليهِ الطعامُ والشرابُ والجماعُ إلى مثلِها من القَابلَةِ. ثُم " إنَّ عُمَرَ رضي الله عنه وَاقَعَ أهْلَهُ بَعْدَمَا صَلَّى الْعِشَاءَ ؛ فَلَمَّا اغْتَسَلَ أخَذَ يَبْكِي وَيَلُومُ نَفْسَهُ، ثُمَّ أتَى النَّبيَّ ﷺ ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ وَإلَى اللهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَاطِئَةُ، إنِّي رَاجَعْتُ أهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ الأخِيْرَةِ ؛ فَوَجَدْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْتُ أهْلِي، فَهَلْ لِي مِنْ رُخْصَةٍ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ :[مَا كُنْتَ جَدِيْراً بذَلِكَ يَا عُمَرُ!] فَقَامَ رجَالٌ فَاعْتَرفُواْ بالَّذِي كَانُواْ صَنَعُواْ بَعْدَ الْعِشَاءِ "، فَنَزَلَتْ فِي عُمَرَ وَأصْحَابهِ ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ أيْ أُبيْحَ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ.
قرأ ابنُ مسعود والأعمشُ :(الرُّفُوثُ) برفع الواو والفاء وبواو. والرفوثُ والرفثُ كنايةٌ عن الجِماع. قال ابنُ عباس :(إنَّ اللهَ حَييٌّ كَرِيْمٌ ؛ فَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالْمُلاَمَسَةِ وَالإفْضَاءِ وَالدُّخُولِ، فَإِنَّمَا يُرِيْدُ بهِ الْجِمَاعَ). قال الشاعرُ : فَضَلْنَا هُنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرُ الرَّفَثِوقال القُتَيبيُّ :(الرَّفَثُ هُوَ الإفْصَاحُ عَمَّا تُحِبُّ أنْ يُكْنَى بهِ عَنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ ؛ وَأصْلُهُ الْفُحْشُ وَالْقَوْلُ الْقَبيْحُ). وقال الزجَّاجُ :(الرَّفَثُ كُلَّ كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ لِكُلِّ مَا يُرِيْدُهُ الرِّجَالُ مِنَ النِّسَاءِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾ ؛ أي هن سَكَنٌ لكم وأنتم سَكَنٌ لَهن ؛ قالَهُ أكثرُ المفسِّرين. ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاساً ﴾[النبأ : ١٠] أي سَكَناً، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾[الأعراف : ١٨٩].
وقال أهلُ المعانِي : اللِّبَاسُ : الشِّعَارُ الذي يلي الجلدَ من الثياب ؛ فسمي كل واحدٍ من الزَّوجَين لِبَاساً ؛ لتجردُّهما عند النومِ واجتماعهما في ثوبٍ واحدٍ ؛ وانضمامِ جسدٍ كلِّ واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصيرَ كلُّ واحد منهما لصاحبهِ كالثَّوب الذي يلبسهُ. وقال بعضُهم : يقال : لِمَا سترَ الشيءَ وواراهُ لباساً، فجازَ أن يكون كلُّ واحد منهما لصاحبه سِتراً عما لا يحل، كما روي في الخبر " مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ أحْرَزَ نِصْفَ دِيْنِهِ ".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ ؛ أي عَلِمَ اللهُ أنكم كنتم تَظْلِمُونَ أنفُسَكم بمعصيتكم وجِماعِكم بعد العشاءِ الأخيرة في ليالِي الصَّومِ فتجاوزَ عنكم ولَم يعاقِبْكم على ذلك وعفَا عنكم ذنُوبَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ ؛ أي جامِعُوهن في ليالِي الصومِ فهو حلالٌ لكم. سُميت الْمُجَامَعَةُ مباشرةً ؛ لتلاصُقِ بَشَرَةِ كلِّ واحد منهما لصاحبهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ ؛ أكلُ المالِ بالباطلِ على وجهين ؛ أحدُهما : أخذهُ على وجهِ الظُّلم بالغصب والخيانة وشهادةِ الزُّور واليمينِ الفاجرة ؛ والثانِي : أخذهُ من جهات محظورةٍ مع رضاءِ صاحبه ؛ مثل القمار وأجرةِ الغناء والملاهي والنائحةِ وثَمن الخمر والخنْزير والرِّبا وأشباهِ ذلك. ومعنى الآيةِ : ولا يأكلُ بعضكم أموالَ بعضٍ بالباطل ؛ أي من غيرِ الوجهِ الذي أباحهُ الله تعالى. وأصلُ الباطل : الشيءُ الذاهبُ الزائل ؛ يقال : بَطَلَ يَبْطُلُ بُطُولاً وَبُطْلاَناً ؛ إذا ذهبَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ ؛ أي ولا تظهروا حجَّتكم للحكام بالباطل، فيحكمُ الحاكم في الظاهرِ مع عِلْمِ المحكوم له أنه غير مستحقٍّ في الباطنِ. وأصلُ الإدلاء : هو إرسالهُ الدلوَ في البئر ؛ يقال : أدلَى دلوهُ ؛ إذا أرسَلها، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَأَدْلَى دَلْوَهُ ﴾[يوسف : ١٩] ودلاَّها يَدْلُوهَا ؛ إذا أخرجَها ثم جعل كلَّ إلقاءِ قولٍ أو فعلٍ إدْلاءً، ومنه قِيْلَ للمحتجِّ بدعواهُ : أدلَى بحجَّته ؛ لأن الحجَّةَ سببُ وصولهِ إلى دعواهُ كالدلوِ سببُ وصوله إلى الماءِ.
واختلف النحاةُ في مَحَلِّ قولهِ :﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا ﴾ قال بعضُهم : الجزم لتَكَرُّر حرف النهي ؛ أي لا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هو في حرف أُبَي بإثبات (لاَ). وقيل : هو نصبٌ على الظَّرفِ كقول الشاعرِ : لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيكَ إنْ فَعَلْتَ عَظِيمُوَقَِيْلَ : نُصِبَ بإضمار (إنْ) المخفَّفة. وقال الأخفشُ :(نُصِبَ عَلَى الْجَوَاب بالْوَاو).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي لتأكلوا طائفةً من أموالِ الناس بالظلم والجور وأنتم تعلمون أنكم مبطلونَ في دعواكم. قال ابنُ عباس :(هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيْهِ بَيِّنَةٌ ؛ فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُهُمْ فِيْهِ إلَى الْحُكَّامِ ؛ وَهُوَ يَعْرِفُ أنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ أنَّهُ إثْمٌ أكْلُ حَرَامٍ). وقال مجاهدُ :(مَعْنَى الآيَةِ : لاَ تُخَاصِمْ وَأَنْتَ ظَالِمٌ). وقال الحسنُ :(هُوَ أنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى صَاحِبهِ حَقٌّ ؛ فَإذَا طَالَبَهُ بهِ دَعَاهُ إلَى الْحَاكِمِ ؛ فَيَحْلِفُ لَهُ وَيَذْهَبُ بحَقِّهِ). وقال الكلبيُّ :(هُوَ أنْ يُقِيْمَ شَهَادَةَ الزُّور). وقال شُريح لبعض الخصومِ :(إنِّي أقْضِي لَكَ وَأنَا أظُنُّكَ ظَالِماً ؛ وَلاَ يَسَعُنِي إلاَّ أنْ أقْضِيَ بمَا يَحْضُرُنِي مِنَ الْبَيِّنَةِ ؛ وَإنَّ قَضَائِي لاَ يُحِلُّ لَكَ حَرَاماً).
وعن أبي هريرةَ ؛ قال : قال رسولُ الله ﷺ :" إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بشَيْءٍ مِنْ مَالِ أخِيْهِ فَإنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ ".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ نزلت هذه الآية في معاذِ بنِ جبلَ وثعلبةِ بن غنمَة الأنصاريين، سَأَلاَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقَالاَ : يَا رَسُولَ اللهِ، مَا بَالُ الْهِلاَلِ يَبْدُو رَقِيْقاً مِثْلَ الْخَيْطِ، ثُمَّ يَزْدَادُ حَتَّى يَمْتَلِئَ وَيَسْتَوِيَ، ثُمَّ لاَ يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأ، وَلاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فأنزلَ اللهُ تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ يا محمدُ ﴿ عَنِ الأَهِلَّةِ ﴾ وعن الحكمة في معناها. وهي جمع هِلاَلٍ مثلُ ردَاءٍ وأَرْدِيَةٍ ؛ وسُمي هلالاً لأنه حين يُرى يُهِلُّ الناسُ بذكرِ الله. أي يرفعون أصواتَهم كما يقال : أهلَّ القومُ بالحج ؛ إذا رفعُوا أصواتَهم بالتلبية.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ أي هي بيانُ المواقيت التي يحتاجُ الناس إليها في صومِهم وفطرهم وعدَّةِ نسائهم وآجَالِ دُيونِهم ومدَّة إجاراتِهم وحيضِ الحائضِ وعدَّة الحامل وغير ذلك، أخبرَهم اللهُ تعالى عن الحكمةِ في زيادة القَمَرِ ونُقصانه واختلافِ أحواله ؛ فلهذا خالفَ بينه وبين الشمسِ التي هي دائمةٌ على حالٍ واحد. وقوله :﴿ وَالْحَجِّ ﴾ أي وبيانُ وقتِ حجِّهم. ولو جعل القمرَ مدوَّراً كالشمس أبداً لَم تُعرفِ المواقيتُ ولا السُّنونُ ولا الشهورُ.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾ ؛ قال المفسرونَ : كانَ الناسُ في الجاهليةِ وفي أوَّل الإسلامِ إذا أحرمَ الرجلُ منهم بالحجِّ والعمرة لَم يدخل حائطاً ولا دَاراً ولا بيتاً من بابهِ ؛ فإنْ كان مِن أهلِ الْمَدَر ؛ أي البيوتِ نَقَبَ نقباً في ظهرِ بيته، ويتخذ سُلَّماً إليه يدخلُ منه ويخرجُ ؛ ولا يدخلُ من الباب. وإنْ كان من أهلِ الوَبَرِ ؛ أي الخيامِ والفَسَاطِيطِ خرجَ ودخلَ من خلف الخيمة والفساطيطِ ؛ ولا يدخلُ في الباب ولا يخرج منه حتى يحلَّ من إحرامهِ. ويرون ذلك برّاً إلا أنْ يكون الرجلُ من الْحُمُسِ وهم : قريشٌ ؛ وكِنَانة ؛ وخزاعةَ ؛ وثقيف ؛ وجثيم ؛ وبنو عامر بن صعصعة ؛ وبنو النضر بن معولة ؛ سُمُّوا حُمْساً لتشدُّدهم في دِينهم وعلى أنفسهم، فإنَّهم كانوا لا يستظِلُّون أيامَ مِنَى ولا يَسْلُونَ السِّمْنَ ولا يأقطون الأقط. والحماسةُ الشدةُ والصلابة، إلا أنَّهم كانوا مع هذا يدخلونَ البيوت من أبوابها بخلافِ الفريق الأوًّل. " فلما كان في زمنِ الحديبية أهلَّ رسولُ الله ﷺ بالعمرةِ فدخل بستاناً من بابهِ قد خَرِبَ وهو مُحْرِمٌ، فأتبعهُ عطيَّةُ بنُ عامرِ السلمي من غير الْحُمُسِ ؛ فدخل معه من البابِ وهو مُحْرِمٌ، فقال له رسولُ الله ﷺ :[لِمَ دَخَلْتَ مِنَ الْبَاب وَأنْتَ مُحْرِمٌ مِنْ غَيْرِ الْحُمُسِ؟] فَقَالَ : رَأيْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ دَخَلْتَ الْبَابَ وَأنْتَ مُحْرِمٌ، فَدَخَلْتُ عَلَى أثَرِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :[أنَا مِنَ الْحُمُسِ] فَقَالَ الرَّجُلُ : إنْ كُنْتَ أحْمَسِيّاً يَا رَسُولَ اللهِ فَأَنَا أحْمُسِيٌّ ؛ لأنَّ دِيْنَنَا وَاحِدٌ ؛ رَضِيْتُ بهَدْيِكَ وَسُنَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ "
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ ؛ أي وقَاتِلُوا في دِين الله وطاعتهِ الذين يقاتِلُونَكم. قال الربيعُ وعبدالرحمن بن زيد :(هَذِهِ أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَأصْحَابَهُ خَرَجُواْ فِي الْعَامِ الَّذِي أرَادُواْ فِيْهِ الْعُمْرَةَ فَنَزَلُواْ بالْحُدَيْبيَةِ قُرِيْباً مِنْ مَكَّةَ). وَالْحُدَيْبيَةُ اسْمٌ لِلْبئْرِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ باسْمِ الْبئْرِ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَقَامَ بالْحُدَيْبيَةِ شَهْراً ثُمَّ صَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أنْ يَرْجِعَ عَامَهُ ذَلِكَ عَلَى أنْ يُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ مِنَ الْعَامِ الْقَابلِ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، فَيَطُوفَ وَيَنْحَرَ الْهَدْيَ وَيَفْعَلَ مَا يَشَاءُ ؛ وَصَالَحُوهُ عَلَى أنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قِتَالٌ إلَى عِشْرِ سِنِينَ. فَرَجَعَ النَّبيُّ ﷺ إلَى الْمَدِيْنَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبلُ تَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ ؛ وَكَانُواْ يَخَافُونَ أنْ لاَ تَفِي قُرَيْشٌ بذَلِكَ ؛ وَكَانُواْ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ومعناها : وقاتِلوا في طاعةِ الله الذين يَبْدَأُونَكُمْ بالقتالِ ؛ ﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ ؛ أي ولا تنقُضُوا العهدَ بالبداءة بقتالِهم قبلَ تقديمِ الدعوةِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ ؛ أي المتجاوزين عن الْحُدُودِ ؛ أي لا يرضَى عنهم عملَهم. فلما نزلت هذه الآيةُ كانَ ﷺ يقاتلُ مَن قَاتَلَهُ ويكفُّ عمن كفَّ عنه، حتى نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥] فنُسخت هذه الآيةُ وأُمر بالقتالِ مع المشركين كافَّة.
وقال بعضهُم : هذه الآية مُحْكَمَةٌ أُمِرَ رسولُ الله ﷺ بالقتالِ ولَم يُنسَخْ شيءٌ من حُكمِ هذه الآية ؛ فعلى هذا القولِ معنى قوله :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ أي لا تقتلُوا النساءَ والصبيان والشيخَ الكبير ولا مَن ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يدَهُ عن قتالِكم ؛ فإنْ فعلتم ذلك فقد اعْتَدَيْتُمْ ؛ وهو قولُ ابنِ عبَّاس ومجاهد. فمعنى الآية :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ أي الذين هم مِن أهلِ القتال دون النساءِ والولدان الذي لا يقاتلون. فعلى هذا القولِ الآيةُ غير منسوخةٍ.
وقال يحيى بن يحيى :(كَتَبْتُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيْزِ أسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ فَكَتَبَ إلَيَّ أنَّ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالرُّهْبَانِ وَمَنْ لَمْ يَنْتَصِبْ لِلْحَرْب مِنْهُمْ).
وقال الحسنُ :((وَلا تَعْتَدُوا) أيْ لاَ تَأْتُوا مَنْ نُهِيْتُمْ عَنْهُ). وقال بعضهم : الاعتداءُ ترك قتالهم. وقال بعضهم : نزلت هذه الآيةُ والقتال كان محظوراً قبل الهجرةِ كما قال تعالى :﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[النحل : ١٢٥] ثم أمرَ اللهُ بالقتال بعد الهجرة لمن قاتلهم بهذه ؛ ثم نزلت آية أخرى في الإذن بالقتال عامة لِمن قاتَلَهم ولِمن لَم يُقاتِلْهم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾[الحج : ٣٩].
وعن سُليمان بن بُريدَةَ عن أبيهِ قال :" كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا بَعَثَ عَلَى سَرِيَّةٍ أوْ جَيْشٍ أمِيْراً أوْصَاهُ فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً بتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبمَنْ تَبعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ خَيْراً. وَقَالَ :[أُغْزُواْ باسْمِ اللهِ وَفِي سَبيْلِ اللهِ، قَاتِلُواْ مَنْ كَفَرَ باللهِ، أُغْزُواْ وَلاَ تَغْلُواْ وَلاَ تَغْدُرُواْ وَلاَ تُمَثِّلُواْ وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيْداً] ".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ ؛ أي اقتلُوا الذينَ يبدأُونَكم بالقتالِ من أهلِ مكَّةَ حيث وجدتُّمُوهم ؛ ﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾ ؛ أي كما أخرَجُوكم من مكَّةَ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ ؛ أي والشِّركِ الذي هم فيه أعظَمُ ذنباً مِن قتلِكم إياهم في الْحَرَمِ والأشهر الْحُرُم والإحرامِ. هكذا قالَ عامة المفسرين. وقال الكسائيُّ :(الْفِتْنَةُ هَا هُنَا الْعَذَابُ) وَكَانُواْ يُعَذِّبُونَ مَنْ أسْلَمَ.
قًوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ ؛ أي إذا بدأوكم في غيرِ الحرم، ثم لجأوا إلى الحرمِ فكُفوا عن قتالهم ولا تقاتلوهم في الحرمِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيْهِ. فإن بدأوكم بالقتالِ في الحرم فاقتلوهم فيه، ﴿ كَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ﴾.
قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرِّف ويحيى بن وثَّاب والأعمشُ وحمزة والكسائي :(وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ) بغير ألِفٍ من القتل على معنى ولا تقتلُوا بعضَهم. تقول العربُ : قتلنا بني تَميم ؛ وإنَّما قتَلُوا بعضَهم. وقرأ الباقون كلها بالألِفِ من القتالِ.
واختلفوا في حُكمِ هذه الآيةِ ؛ فقال بعضُهم : هي منسوخةٌ ؛ نُهُوا عن الابتداء بالقتالِ، ثُم نُسِخَ ذلك بقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾[البقرة : ١٩٣]، وهذا قولُ قُتَادةَ والربيع. وقال مقاتلُ :﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾ أيْ حَيْثُ أدْرَكْتُمُوهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ. لَما نزلت هذه الآية نَسَخَها قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ ثًُمَّ نَسَخَتْهَا آيةُ السيفِ التي في براءَةَ، فهي ناسخةٌ منسوخةٌ).
وقال آخرون : هذه آيةٌ مُحْكَمةٌ ؛ ولا يجوزُ الابتداءُ في القتال في الحرمِ. وهو قولُ مجاهدٍ وأكثرِ المفسرين. وسُمِّيَ الكفرُ فتنةً ؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك كما أن الفتنةَ تؤدي إلى الهلاكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ أي فإن انتهوا عن القتال والكفرِ فإن اللهَ ﴿ غَفُورٌ ﴾ لِما مضَى من جَهْلِهم ولِما سلَفَ من كُفرِهم، ﴿ رَحِيْمٌ ﴾ بهم بعد تَوبَتِهم وإسلامِهم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ ؛ أي قاتِلُوا المشركين حتى لا يكونَ شِرْكٌ ؛ أي قاتِلُوهم حتى يُسلِمُوا، فليس يقبلُ من الوثنيِّ جزيةٌ ولا يرضَى منه إلا بالإسلامِ، وليسوا كأهلِ الكتاب الذين يؤخذُ منهم الجزيةُ. والحكمةًُ في ذلك : أنَّ مع أهلِ الكتاب كتباً مُنَزَّلَةً فيها الحقُّ وإن كانوا قد أهمَلُوها، فأمهَلَهُم الله بحُرمةِ تلك الكتب من القتلِ وأمرَ بإذلالِهم بالجزية، ولينظرُوا في كُتبهم وليدبَّروها فيقفوا على الحقِّ منها فيتبعوهُ. وأما أهلُ الأوثان فليس لَهم كتبٌ تُرشِدُهم إلى الحقِّ وكان إمهالُهم زائداً في شِركِهم ؛ فأبَى اللهُ أن يرضَى منهم إلاَّ بالإسلامِ أو القتلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ ﴾ ؛ أي وتكونُ الطاعةُ لله وحدَهُ وأن لا يعبدوا دونَهُ شيئاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي ﴿ فَإِنِ انْتَهَواْ ﴾ عن القتالِ والكفرِ ﴿ فَلاَ عُدْوَانَ ﴾ أي فلا سبيلَ ولا حجَّةَ في القتلِ في الْحَرَمِ والشهرِ الحرام إلا على الظالمين. قال قتادةُ وعكرمة :(فِي هَذِهِ الآيَةُ الظَّالِمُ الَّذِي أبَى أنْ يَقُولَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ). وإنَّما سُمِّي الكافرُ ظالماً لوضعهِ العبادةَ في غيرِ موضِعها. وَقِيْلَ : معناهُ : فلا عدوانَ إلا على الذين يَبْدَأُونَ بالقتالِ. ومن الدليلِ على أن هذه الآية غيرُ ناسخةٍ للأُولَى : أنَّها معها في خطابٍ واحدٌ، ولا يصحُّ النسخُ إلا بعد التمكُّنِ من الفعلِ.
قال ابنُ عباس : فَسَارَ النَّبِيُّ ﷺ فَأَخْلَى لَهُ أهْلُ مَكَّةَ الْحَرَمَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ؛ فَدَخَلَ هُوَ وَأصْحَابُهُ فَطَافُواْ وَنَحَرُواْ الْهَدْيَ وَأقَامُواْ بمَكَّةَ حَتَّى قَضَواْ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ رَجَعُواْ، فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ ؛ أي الشهرُ الذي دخلتَ فيه مكة وهو ذو القعدةِ، واعتمَرْتَ فيه أنتَ وأصحابُكَ وقضيتم من مكة فيه وَطْرَكُمْ في سنةِ سبعٍ بالشهر الحرام وهو ذو القعدةِ أيضاً الذي صَدُّوكَ فيه عن البيتِ أنتَ وأصحابُك ومنعوكم من مرادكم في سنةِ ستٍّ.
وقوله تعالى :﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ أي اقتصصتُ لكم منهم في الشهر الحرام في ذي القعدة كما صدُّوكم في ذي القعدة مراغمةً. ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ جمع الْحُرْمَةِ كالظلمات جمع الظلمة، والحجرات جمع حجرة. والحرمةُ : ما يجبُ حفظهُ وتركُ انتهاكهِ، وإنَّما جَمعَ (الْحُرُمَاتُ) لأنه أرادَ الشهرَ الحرامَ والبلدَ الحرام ؛ وحرمةَ الإحرامِ. والقصاصُ : المساواةُ ؛ وهو أن يفعلَ بالفاعلِ كما فعل.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ أي ﴿ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ بالقتالِ في الحرمِ فكافئوه وقاتلوهُ كمثلِ ما فعلَ. وسَمَّى الجزاءَ اعتداءً على مقابلةِ اللفظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ أي (اتَّقُوا اللهَ) في كل ما أُمرتُم به ونُهيتم عنه ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ بالنصرِ والمعونة.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ ؛ وفي هذه الآية نَهيٌ عن البُخْلِ. معناهُ : تصدَّقُوا يا أهلَ الميسرةِ ولا تُمسكوا عن الإنفاقِ (فِي سَبيلِ اللهِ) فإن البخلَ ؛ والإمساك عن ذلك هو الهلاكُ. وهذا قولُ حذيفةَ والحسنُ وعكرمة وعطاء والضحاك. قال ابنُ عبَّاس في هذه الآية :(أنْفِقْ فِي سَبيْلِ اللهِ وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إلاَّ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ أنِّي لاَ أجِدُ شَيْئاً). وقال السديُّ :(أنْفِقْ فِي سَبيلِ اللهِ وَلَوْ عِقَالاً).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ معناه : ولا تلقُوا أنفسَكم، فعبَّر بالبعضِ عن الكلِّ كقولهِ تعالى :﴿ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[آل عمران : ١٨٢] و﴿ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾[الشورى : ٣٠]. وإنَّما حذفَ ذكر النفسِ هنا لأن في الباءَ دليلاً عليه ؛ والباءُ زائدة كقولهِ تعالى :﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾[المؤمنون : ٢٠]. والعربُ لا تقولُ : ألقَى بيدهِ إلاَّ في الشرِّ، والإلقاءُ في التهلكة معناه : ولا تُمسكوا بأيديكم عن الصدقةِ في الجهاد فتهلَكوا. وقيلَ هو الإسرافُ في الإنفاقِ حتى لا يبقَي له شيئاً يأكلهُ فيتلفُ. وَقِيْلَ : هو أن يخرج بين الصفَّين فيُسْتَقْتَلُ من غيرِ قصدٍ بنكايةِ العدوِّ.
وقيلَ : معنى ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ أي لا يَقُلْ : ليس عندي شيءٌ. وقال الحسنُ :(إنَّهُمْ كَانُواْ يَنْفِرُونَ لِلْغَزْو وَلاَ يُنْفِقُونَ مِنْ أمْوَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقال مقاتلٌ :(لَمَّا أمَرَ اللهُ تَعَالَى بالإنْفَاقِ ؛ قَالَ رَجُلٌ : أُمِرْنَا بالنَّفَقَةِ فِي سَبْيلِ اللهِ ؛ فَإنْ أنْفَقْنَا أمْوَالَنَا بَقِيْنَا فُقَرَاءَ ذَوي مَسْكَنَةٍ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ يَعْنِي أنْفِقُواْ وَلاَ تَخْشُوا الْفَقْرَ فَإنِّي رَازقُكُمْ وَمُخْلِفٌ عَلَيْكُمْ).
وعن أبي الدَّرداءَ وأبي هريرة وعبدِالله بن عمر وجابرٍ وأبي أُمامة والحسن بن عليِّ لبن أبي طالب وعمران بن الحصين ؛ كلهم حدَّثوا عن رسول الله ﷺ أنهُ قال :" مَنْ أرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبيْلِ اللهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بنَفْسِهِ فَأَنْفَقَ فَلَهُ بكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ ألْفِ دِرْهَمٍ. ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ " أيْ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ﴾[البقرة : ٢٦٧].
وقال زيدُ بن أسلمَ :(إنَّ رجَالاً كَانُواْ يَخْرُجُونَ فِي بُعُوثٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بغَيِْرِ نَفَقَةٍ ؛ فَإمَّا أنْ يُعْطُوهُمْ ؛ وَإمَّا كَانُوا عِيَالاً وَوَبَالاً. فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بالإنْفَاقِ عَلَى أنْفُسِهِمْ فِي سَبيْلِ اللهِ تَعَالَى، فَإذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ مَا تُنْفِقُ فَلاَ تُخْرِجْ نَفْسَكَ بغَيِْرِ نَفَقَةٍ وَلاَ قُوَّةٍ فَتُلْقِي بيَدِكَ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَتَهْلَكَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ أوْ مِنَ الْمَشْيِ). التَّهْلُكَةُ : مصدرٌ بمعنى الإهلاكِ ؛ وهو تَفْعُلَةٌ مِن الهلاكِ. ولَم يَجِئْ مِن كلامِ العرب مصدرٌ على تفعُلةٍ بضمِّ العينِ إلا هذا. وقال بعضُهم : التهلكةُ : كلُّ شيء عاقبتهُ إلى الهلاكِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ ﴾ ؛ إتْمامهما أن تُحرم بهما من دُوَيرَةِ أهلِكَ. وَقِيْلَ : إتمام العمرةِ إلى البيت، وإتمامُ الحج إلى آخرِ الحجِّ كله. وَقِيْلَ : إتْمامُهما أن تكون النفقةُ حلالاً وينتهي عن جميع ما نَهى الله عنه ؛ ويأتِي بجميع ما شَرَعَ اللهُ من المشاعرِ والمواقف. وَقِيْلَ : أتِمُّوا الحجَّ والعمرة من المواقيت. ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ ؛ أي إن مُنِعْتُمْ مِن البيتِ بعدما أحرمتم بحجٍّ أو عُمرةٍ ؛ فأردتُم الإحلالَ فعليكم مما تَيَسَّرَ من الْهَدْيِ.
قال ابنُ عبَّاس :(أعْلاَهُ بَدَنَةٌ ؛ وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ ؛ وَأدْنَاهُ شَاةٌ، يَبْعَثُ الْمُحْصِرُ بهَا إلَى مَكَّةَ وَيُوَاعِدُهُمْ الْيَوْمَ الَّذِي يَذْبَحُوهُ عَنْهُ. فَإذَا ذُبحَ عَنْهُ حَلَّ وَرَجَعَ إلَى أهْلِهِ. ثُمَّ يَقْضِي مَا كَانَ أحْرَمَ بهِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ ؛ أي لا يحلقُ أحدكم رأسَه ولا يحل من الإحرام حتى يبلغَ الهديُ الحرمَ ؛ أي حتى يعلمَ أن الهدي قد ذُبح عنه في الحرم.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾ ؛ أي مَن كان مريضاً من الْمُحْرِمِيْنَ ؛ مُحْصَرِيْنَ أو غير مُحْصَرِيْنَ، فلم يستطعِ الإقامةَ على شروطِ الإحرام، فعجَّل وفعلَ شيئاً مما يفعلهُ الحلال قبل أن يُنحر عنه الْهَدْيُ، ﴿ أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ﴾ ؛ أي أو كان في رأسهِ قملٌ يؤذيهِ لا يستطيع أن يصبرَ عليه، فحلقَ رأسَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ﴾ ؛ أي فَعليه فداءُ ما صنعَ صيامَ ثلاثة أيام، ﴿ أَوْ صَدَقَةٍ ﴾ ؛ على ستَّةِ مساكين ؛ لكل مسكينٍ نصفُ صاع من بُرٍّ أو صاع من تَمر، أو صاع من شعير، ﴿ أَوْ نُسُكٍ ﴾ ؛ أي شاةٍ يذبحُها في الحرم.
" روي عن كعب بن عجرة : أنه قال : نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيَّ ؛ مَرَّ بي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ له :[أتُؤْذِيْكَ هَوَامُّ رَأسِكَ؟] قُلْتُ : نَعَمْ، قَال :[احْلِقْ رَأسَكَ وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِيْنَ ؛ لِكُلِّ مِسْكِيْنٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أوْ صُمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، أوْ أُنْسُكْ بنُسَيْكَةٍ] ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ ؛ أي فإذا أمنتم الموانعَ من المرض والعدوِّ وكل مانع. ويقال : في الآية إضمارٌ تقديره : فإذا أمنتم من العدوِّ وبرئتم من المرضِ، فاقضوا ما كنتم أحرمتم به قبلَ الإحصار من حجِّ أو عمرةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ أي من بدأ بالعمرة في أشهر الحجِّ ؛ وأقامَ بمكة في عامه للحجِّ ؛ فحج من غيرِ أن يرجِعَ إلى أهله ؛ فَعليه ما تيسَّر من الهدي. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ ؛ أي فمَن لَم يجدِ الهديَ ولا عنه ؛ فعليهِ صيامُ ثلاثة أيام في الحجِّ يصومها قبل يوم النَّحرِ متتابعات ومتفرِّقات ؛ وصيامُ سبعةِ أيَّام إذا رجعَ إلى أهلهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ ؛ في هذه الآيةِ تقديرُ حذفِ مبتدأ تقديره : مدَّةُ الحجِّ أشهرٌ معلومات. ويقال : الحجُّ في أشهرٍ معلومات. وقوله :﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾[سبأ : ١٢] أي مدَّة غدوِّها ومدة رواحِها.
واختلفوا في هذه الأشهُرِ : فقال ابنُ عباس وأكثرُ المفسِّرين :(إنَّهَا شَوَّالُ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ). وأما مَن قالَ : إنَّها شوالُ وذو القعدة وذو الحجة، فليسَ باختلافٍ لأن المرادَ بعضُ ذي الحجة ؛ لأن الحجَّ كله لا محالةَ في بعضِ هذهِ الأشهرِ لا في جميعها. ويجوزُ إضافتهُ إلى جميعِ هذه الأشهرِ وإنْ كان هو في بعضِها ؛ ألا ترى إنكَ تقولُ : لقيتُ فلاناً سنةَ كذا، وقمتُ يوم كذا ؛ بمعنى بعضِ المدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ ؛ أي من أوجبَ فيهنَّ الحجَّ بالتلبيةِ أو ما يقومُ مقامَها من ذِكر أو سَوق الهديِ فلا يرفثُ ولا يفسقُ، وهذا لفظُ خبرٍ بمعنى النهي ؛ كما أنَّ قَوْلَهُ :﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾[البقرة : ٢٢٨] و﴿ يُرْضِعْنَ ﴾[البقرة : ٢٣٣] خبرَان لفظاً ؛ وأمرَانِ معنًى.
والرَّفَثُ : قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ مُرَاجَعَةُ النِّسَاءِ بذِكْرِ الْجِمَاعِ). والفُسُوقُ : قال ابنُ عمر :(هُوَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ فِي الإحْرَامِ). واختارَ بعضُهم هذا القول ؛ وقالوا : لو كان المرادُ به جميعَ المعاصي لكان لا يُخَصُّ بالنهيِ عنها حالةَ الإحرام.
وقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ من المفسِّرين :(الْمُرَادُ بها جَمِيْعَ الْمَعَاصِي). وفائدةُ تخصيص حالته هذه بالنهي فهو تعظيمُ حُرمة هذه العبادة ؛ كما يقال : لا تَغْتَبْ في صومِك ؛ وكما قال ﷺ :" إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ ؛ فَلاَ يَرْفَثْ ؛ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ : إنِّي صَائِمٌ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ قال بعضُهم : الْجِدَالُ : أن تُجَادِلَ صاحبَكَ حتى تُغْضِبَهُ أوْ يُغْضِبَكَ. وَقِيْلَ : كانت قريشُ تقفُ بالمزدلفة ؛ وكانت اليمنُ وربيعةُ تقفُ بعرفةَ خارجَ الْحَرَمِ ؛ وَكان كلُّ فريقٍ منهم يجادلُ صاحبَهُ في الموقف ؛ فنَزلت هذه الآيةُ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي ما تَفْعَلُوا من أسباب الحجِّ وتركِ الرَّفَثِ والفسوقِ والجدالِ يعلمهُ الله ؛ أي يقبلهُ منكم فيجزيكم عليه، واللهُ تعالى عالِمٌ من دون أنْ يفعلوا، ولكن المرادَ به يعلمهُ الله مَفْعُولاً ؛ وكان مَن قبله يعلمهُ غيرَ مفعولٍ. وأرادَ الله بهذا الحثِّ على فعلِ الخيرِ ودلَّ به على العدلِ ؛ إذ بيَّن أنه لا يجازي العبدَ على ما يعلمهُ منه، وإنَّما يجازيه على ما يقعُ منه.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ ؛ أي تَزَوَّدُوا في سَفَرِ الحجِّ والعمرة ما تَكُفّونَ به وجوهَكم عن المسألةِ. نزلت في قومٍ كانوا يخرُجون بأهاليهم بغيرِ زادٍ ويَتَّكِلُونَ على الناسِ ؛ ويسمُّون أنفسهم المتَوَكِّلةَ، يقولون : نَحُجُّ بيتَ ربنا واللهُ رازقُنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ؛ " روي عن عبدالله ابن عمر : أنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ : إنِّي لأُكْرِي أبلِي إلَى مَكَّةَ، أفَيُجْزِئُ حَجِّي ؟ فَقَالَ : أوَلَسْتَ تُلَبِي وَتَقِفُ بعَرَفَاتَ وَتَرْمِي الْجِمَارَ؟) قَالَ : بَلَى، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ مِثْلِ مَا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى أنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، فقال ﷺ :[أنْتُمْ حُجَّاجٌ] ".
ومعنى الآيةِ : ليس عليكم جناحٌ أن تطلبوا رزقاً في التجارة في أيامِ الحجِّ. وكان ابنُ عبَّاس يقرؤُها (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ). وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قال رسولُ اللهِ ﷺ :" إذا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ غَفَرَ اللهُ لِلْحَاجِّ الْخَالِصِ ؛ وَإذَا كَانَ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ غَفَرَ اللهُ لِلتُّجَّار، وَإذَا كَانَ يَوْمُ مِنَى غَفَرَ اللهُ لِلْجَمَّالِيْنَ، وَإذَا كَانَ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ غَفَرَ اللهُ لِلسُّؤَّالِ، وَلاَ يَشْهَدُ ذلِكَ الْمَوْقِفَ خَلْقٌ مِمَّنْ قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ ".
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ ؛ معناهُ : إذا دَفَعْتُمْ من عرفاتَ فاذكرُوا اللهَ باللَِّسانِ عند الْمَشْعَرِ الحرامِ ؛ وهو الجبلُ الذي يقفُ عليه الناسُ بالمزدلفةِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ ؛ أي اذكروهُ بالثناءِ والتوحيد والشُّكرِ ذكراً مثلَ هدايته إيَّاكم ؛ أي ذِكراً يكونُ جَزَاءً لهدايتهِ، قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ﴾ ؛ أي وإن كنتم من قَبْلِ هدايته إياكم لَمِنَ الضَّالينَ عنِ الهدى.
وَقِيْلَ : إنَّ المراد بالذِّكرِ الأول في هذه الآيةِ صلاةُ المغرب والعشاءِ التي يجمعُ بينهما في وقتِ العشاء بالمزدلفة. والمرادُ بالذِّكر الثانِي هو الذكرُ المفعول بالمزدلفة غَدَاةَ جمعٍ في موقفِ المزدلفة. فعلى هذا يكون الذكرُ الأول غيرَ الثانِي. وقد سَمَّى الصَّلاةَ ذكراً على معنى أن الذِّكرَ ركنٌ من أركانِها.
والإفَاضَةُ : هي الدفعُ بالكثرةِ، يقال : أفاضَ القومُ في الحديثِ ؛ إذا تدافعوا فيه وأكْثَرُوا التصرُّفَ ؛ وأفاضَ الْمِرْجَلُ إنَاهُ ؛ إذا صَبَّهُ، وفاضَ الإناءُ إذا انصبَّ منهُ الماءُ للامتلاءِ، وأفاضَ البعيرُ بجِرَّتِهِ ؛ إذا رمي بها متفرقةً كثيرة.
وَعَرَفَاتُ : جمعُ عَرَفَةَ ؛ وهي مكانٌ واحد ذكرها بلفظ الجمع ؛ وإرادته جمعُ أجزائها. وسُميت عرفاتُ لارتفاعها من بشرِ الأرض، وقيلَ : سُميت بذلك لأن آدمَ وحوَّاء تعارفَا بها بعد التفاقُدِ. ويقال : لأنَّ جبريل عرَّفها إبراهيمَ عليه السلام ليقفَ عليها حين كان يعلِّمه أمرَ المناسكِ ؛ فقال إبراهيمُ : عرفتُ. وقال بعضُهم : سُميت بذلك لأن الناسَ يَعْتَرِفُونَ في هذا اليومِ على ذلك الموقف بذنوبهم. وقيلَ : هي مأخوذةٌ من العُرف وهو الطِّيْبُ، قال الله تعالى :﴿ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾[محمد : ٦] أي طيَّبها لهم.
قوله عَزَّ وَجلَّ :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ قال عامَّةُ المفسرين : كانت قريشُ وحلفاؤها ومن دَانَ بدِينها وهم الْحُمُسُ لا يخرجونَ من الْحَرَمِ إلى عرفات ؛ وكانوا يقفونَ بالمزدلفةِ يقولون : نحن أهلُ اللهِ وسُكَّانُ حَرَمِهِ ؛ فلا يخلفُ الحرمَ ولا يخرج منه فلسنا كسائرِ الناسِ، كانوا يتعظَّمون أن يقِفُوا مع سائرِ العرب بعَرفات. ويقول بعضهُم لبعض : لا تعظِّموا إلا الحرمَ، فإنكم إنْ عظَّمتم غيرَ الحرم تَهاون الناسُ بحَرَمِكُمْ، فقِفُوا بجَمْعٍ، فإذا أفاضَ الناسُ من عرفات أفاضُوا من الْمَشْعَرِ وهو المزدلفةُ. فأمرهمُ الله أن يقِفُوا بعرفاتَ ويَفِيضُوا منها إلى المزدلفة مع سائرِ الناسِ فيكونَ المرادُ بالإفاضةِ في هذه الآية على هذا القولِ : الإفاضةَ من عَرفاتٍ.
وكان سائرُ الناس غير الْحُمُسِ يقفون بعرفات، فأنزلَ الله هذه الآية وأمرَ قُريشاً وغيرَهم من الْحُمُسِ أن يقِفُوا بعرفةَ حيث يقفُ الناس، ويدفَعُوا منها معهم. وإنَّما ذكَرَ الناسَ وأرادَ قريشاً بالإفاضةِ من حيث أفاضَ الناسُ ؛ لأن قريشاً ومَن دَان بدِينها كانوا قليلاً بالإفاضةِ إلى سائرِ الناس.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ على هذا التأويلِ راجعٌ إلى أوَّلِ الكلام، كأنهُ " قال "﴿ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾[البقرة : ١٩٧] ﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ ﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ ﴾ الْمَسْجِدِ﴿ الْحَرَامِ ﴾[البقرة : ١٩٨]. فيكون في الآيةِ تقديمٌ وتأخير. ويكون الأمرُ بالإفاضةِ عطفاً على الإحرامِ دون الإفاضةِ من عَرفات ؛ فكأنه قال : أحرِموا كما أمركم الله ﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾. وعلى هذا التأويلِ جمهورُ المفسرين.
وقال الضحَّاك :(مَعْنَى الآيَةِ : ثُمَّ أفِيْضُواْ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ الَّتِي تَفِيْضُ مِنْهَا قُرَيْشُ). وإنَّما ذهبَ الضحاكُ إلى أن المرادَ بالإفاضة في هذه الآيةِ الإفاضةُ من المزدلفة ؛ لأنَّ الله تعالى عطفَ هذه الآيةَ على الإفاضةِ من عَرفات ؛ فعُلِمَ أن المرادَ بهذه الإفاضةِ الإفاضةُ من المزدلفة ؛ إلاَّ أن عامَّة المفسرين على الوجهِ الأول.
والمرادُ بقوله :﴿ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ هم العربُ كلهم غيرُ الْحُمُسِ، وقال الكلبيُّ :(هُمْ أهْلُ الْيَمَنِ). وقال الضحَّاك :(النَّاسُ هُنَا إبْرَاهِيْمُ عليه السلام وَحْدَهُ ؛ لأَنَّهُ كَانَ الإمَامَ الْمُقْتَدَى بهِ، فَسَمَّاهُ اللهُ نَاساً كَمَا قالَ اللهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾[النحل : ١٢٠] وَقَدْ يُسَمَّى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ باسْمِ الناسِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ﴾[النساء : ٥٤] يَعْنِي مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم). وكذلك قولهُ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ﴾[آل عمران : ١٧٣] يعني نعيمَ بن مَسْعُودٍ الأشجعي﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ﴾[آل عمران : ١٧٣] يعني أبا سُفيان. وإنَّما يقالُ هذا لِمن هو نَدْبٌ يُقتدَى به أو يكون لسانَ قومهِ وإمامَهم.
وقال الزهريُّ :(النَّاسُ هَا هُنَا آدَمُ عليه السلام) ودليلهُ قراءة ابنِ مسعود :(ثُمَّ أفِيضُُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ يَعْنِي آدَمُ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ﴾ ؛ أي إذا فرغتم من مُتَعَبَّدَاتِكُمْ ﴿ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ ﴾ عَزَّ وَجَلَّ بالخيرِ ﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ ﴾ بل أشدُّ ذكراً. وذلك أنَّهم كانوا يَقِفُونَ بعد قضاءِ المناسك يوم النحرِ بينَ المسجدِ الذي في مِنَى وبين الجبلِ، يتناشَدون الأشعارَ ويتفاخرون بذكرِ فضائلِ آبائهم، يقول أحدُهم : يا رب إنَّ عَبْدَكَ فُلاناً - يعني أباه - كان يفعلُ كذا وكذا من الخيرِ. فأمرَهُم الله تعالى أنْ يذكروهُ فهو الذي فَعَلَ ذلك الخيرَ إلى آبائهم، وأنَّ أيَادِيَهُ عندهم أكثرُ وأعظمُ من أيادي آبائهم عليهم.
وروي أنَّ النبيَّ ﷺ قال لَهم بعد نزول هذه الآية :" إنَّ اللهَ قَدْ أذهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمِهَا بالآبَاءِ، إنَّ النَّاسَ مِنْ آدَمَ وَإنَّ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ؛ لاَ فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أعْجَمِيٍّ إلاَّ بالتَّقْوَى " ثُمَّ تَلاَ﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىا... ﴾[الحجرات : ١٣] الآيةُ.
وقال بعضُهم : معناهُ أذكُرُوا اللهَ بالتوحيدِ كما تذكرونَ آباءَكم بذلك ؛ فإنَّكم لا ترضَون أن تُنسَبُوا إلى أبَوَين، وكذلك لا ترضَون من أنفُسِكم باتِّخاذ إلَهَيْنِ.
وعن عطاءٍ والربيعِ والضحاك في قوله :﴿ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ ﴾ :(هُوَ كَقَوْلِ الصَّغِيْرِ أوَّلَ مَا يَفْقََهُ الْكَلاَمَ (أبَهْ أبَهْ) أي اسْتَغِيثُواْ باللهِ وافْزَعُواْ إلَيْهِ فِي جَمِيْعِ أُمُوركُمْ ؛ كَمَا يَفْزَعُ الصَّغِيْرُ إلَى أبيْهِ فِي جَمِيْعِ أُمُورهِ وَيَلْتَحُّ بذِكْرِهِ). وعن أبي الجوزاءِ قالَ : قلتُ لابنِ عباس رضي الله عنه : أخْبرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ ﴾ وَقَدْ يَأْتِي عَلَى الرَّجُلِ الْيَوْمُ لاَ يَذْكُرُ أبَاهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :(لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ أنْ تَغْضَبَ للهِ إذا عُصِيَ أشَدَّ مِنْ غَضَبكَ لِوَالِدَيْكَ إذا شُتِمَا).
وأما وجهُ نصب ﴿ أشَدَّ ﴾ فقالَ الأخفشُ :(اذْكُرُوهُ ذِكْراً أشدَّ ذِكْراً). وقال الزجَّاجُ :(هُوَ فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يَنْصَرِفُ لأَنَّهُ صِفَةٌ عَلَى وَزْنِ (أفْعَلَ). وَنُصِبَ ﴿ ذِكْراً ﴾ عَلَى التَّمْييْزِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ ؛ نزلت في مُشرِكي قريشٍ كانوا يقولون في عادتِهم في الحجِّ : اللهُمَّ ارزقنا إبلاً وبقراً وغَنَماً وعبيداً وإماءً وأموالاً. ولَم يكونوا يسألونَ لأنفُسِهم التوبةَ والمغفرةَ، كانوا لا يرجونَ إلا نعيمَ الدُّنيا، ولا يخافونَ البعثَ والنشورَ. فبيَّنَ اللهُ تعالى بقوله :﴿ وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ أي من نَصِيْبٍ ولا ثوابٍ.
والمعنى : مَن يطلب بحَجِّهِ أمورَ الدُّنيا لا يريدُ بذلك ثوابَ الله تعالى، فلا نصيبَ لهُ في ثواب الآخرةِ. وقال أنسُ بن مالكٍ :(كَانُواْ يَطُوفُونَ بالْبَيْتِ عُرَاةً فَيَدْعُونَ وَيَقُولُونَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْمَطَرَ وَأعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ). وقال قتادةُ :(هَذَا عَبْدٌ نَوَى الدُّنْيَا ؛ لَهَا أنْفَقَ وَلَهَا عَمِلَ وَلَهَا نَصِبَ). فَهِيَ هَمُّهُ وَسُؤْلُهُ وَطَلَبُهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أُولَـائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ معناهُ : إنَّ الذين يسألونَ الله تعالى الدنيا والآخرة لهم حظٌّ ونصيب وافرٌ من الثواب والخيرِ والجزاء اكتسبوهُ في حجِّهم ؛ وفي هذا بيانُ استجابة دعائهم على القطعِ.
وعن ابنِ عباس في هذه الآية :" أنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ : إنَّ أبي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أفَأَحُجُّ عَنْهُ ؟ قَالَ :[أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ، أمَا كَانَ ذَلِكَ يُجْزِي؟] قَالَ : نَعَمْ، قَالَ :[فَدِيْنُ اللهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى]، قَالَ : فَهَلْ لِي مِنْ أجْرٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أُولَـائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾. يعني مَن حجَّ عن ميتٍ كان الأجرُ بينه وبين الميتِ ".
وقال سعيدُ بن جبير : جَاءَ رََجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : إنِّي أكْرَيْتُ دَابَّتِي وَاشْتَرَطْتُ عَلَيْهِمْ أنْ أحُجَّ، فَهَلْ يُجْزِيْنِي ذَلِِكَ ؟ قَالَ :(أنْتَ مِنَ الَّذِيْنَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ :﴿ أُولَـائِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ يعني إذا حاسبَ فحسابهُ سريعٌ لا يحتاج إلى عقدِ يدٍ ولا إلى وعيِ صدرٍ ولا رؤية ولا فكرٍ. وقال الحسنُ :(أسْرَعُ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ). وفي الخبر :" أنَّ اللهَ تعالى يحاسبُ العبادَ في قدر حَلْب شاة ؛ وأن محاسبةَ الله تعالى ليست كمحاسبة الناسِ بعضهم لبعضٍ، يحاسبهم جميعاً في لحظةٍ واحدة، يظنُّ كُلُّ واحد أنه يحاسبهُ خاصةً، لا يشغله شيءٌ عن شيء " ومعنى الحساب : تعريفُ اللهِ تعالى عبادَه مقادير الخير على أعمالهم، وتذكيرهُ إياهم بما قد نَسَوْهُ. يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ﴾[المجادلة : ٦]. وقيل : معناهُ سريع الحساب ؛ أي سريع الْمُجَازَاةِ، وفيه إخبارٌ عن سرعةِ فناء الدنيا وقيامِ الساعة.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ ؛ يعني اذكروا اللهَ تعالى بالتكبيرِ إدبار الصلوات وعند الجمراتِ، يكبر مع كلِّ حصاةٍ ؛ وغيرها من الأوقاتِ. واختلفوا في الأيام المعدوداتِ ؛ فروي عن ابنِ عباس والحسنِ ومجاهد وعطاء والضحاكِ والنخعي :(أنَّ الأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ : أيَّامُ التَّشْرِيْقِ ؛ وَالأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ : أيَّامُ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) ؛ وهكذا رُوي عن أبي حنيفةَ وأبي يوسف ومحمدٍ. وروي أيضاً عن ابنِ عباسٍ :(أنَّ الأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ : أيَّامُ الْعَشْرِ، وَالأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ : أيَّامُ النَّحْرِ).
ولا شكَّ أن في هذه الرواية غلطاً وهي خلافُ الكتاب ؛ لأنَّ الله تعالى عقَّب الأيامَ المعدودات بقوله :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ ؛ وليس في العشرِ حكمٌ بتعليقِ يومين دون الثالث. وعن أبي يوسف :(أنَّ الْمَعْلُومَاتِ : أيَّامُ النَّحْرِ، وَالْمَعْدُودَاتِ : أيَّامُ التَّشْرِيْقِ) ؛ قال هذا القولَ استدلالاً من الآيتين ؛ لأنَّ الله تعالى قال في ذِكر الأيامِ المعلومات :﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾[الحج : ٢٨]. وقال في هذه الآية :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، فيومَ النَّحر على هذه الرواية من المعلوماتِ دون المعدوداتِ ؛ وآخرِ أيام التشريق من المعدوداتِ دون المعلوماتِ ؛ واليومُ الثاني والثالثُ من أيام النحرِ من المعلوماتِ والمعدودات جميعاً.
والجوابُ عن استدلالِ أبي يوسف من الآيتين : أنَّ لفظَ المعلومات يقتضي الشُّهرة ولفظَ المعدودات يقتضي تقليلَ العدد كما في قوله :﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾[يوسف : ٢٠] فاقتضى الظاهرُ أنَّ المعدوداتَ أقل من المعلوماتِ ؛ ويحتملُ أنْ يكون معنى﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾[الحج : ٢٨] لِمَا رزقهم كما قال اللهُ تعالى :﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾[البقرة : ١٨٥] أي لِما هداكم، فكأنَّ اللهَ تعالى أرادَ بالمعلوماتِ أيامَ العشر ؛ لأنَّ فيها يومَ النحر وفيه الذبحُ، ويكون ذلك اليومُ بتكرار سنين عليه أيَّاماً.
وأما الذِّكْرُ المذكورُ في هذه الآية فهو الذِّكْرُ عندَ رَمْيِ الجِمار في أيامِ التشريق. وقال بعضُهم : هو التكبيرُ في إدبار صلاةِ العصر في هذه الأيام ؛ يكبَّر من صلاة الغداةِ مِن يوم عرفة إلى صلاةِ العصر من آخر آيامِ التشريقِ عند جماعةٍ من الفقهاء. والتأويلُ الأولُ أصحُّ وأقرب إلى ظاهرِ القرآن ؛ لأن اللهَ تعالى عقَّب الذكرَ في هذه الآية بقوله :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أي من تعجَّل الرجوعَ إلى أهلهِ فلا إثمَ عليه في تركِ الرمي في اليوم الثالث ؛ ﴿ وَمَن تَأَخَّرَ ﴾ ؛ إلى آخرِ النَّفْرِ وأقام هنالكَ في اليوم الثالث، ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ ؛ أي لِمن اتَّقى الإثمَ والفسوقَ والتفريطَ في حقوق الحجِّ كلها. وأما مَن لم يَتَّقِ فغيرُ موعود له الثوابُ. وقال ابنُ عمر وابنُ عباس وعطاءُ وعكرمة ومجاهدُ وقتادة والضحاك والنخعيُّ والسديُّ :(مَعْنَى الآيَةِ : فَمَنْ تَعَجَّّلَ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ أيَّامِ التَّشرِيْقِ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ ؛ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَعْجِيْلِهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ النَّفْرِ فِي الثَّانِي مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَتَّى يَنْفِرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ؛ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيْرِ، فَإنْ لَمْ يَنْفِرْ فِي الْيَوْمِ الثًّانِي وَأقَامَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ؛ فَلْيُقِمْ إلَى الْغَدِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَرْمِي الْجِمَارَ ثُمَّ يَنْفِرُ مَعَ النَّاسِ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاوةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ، كَانَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ ؛ حُلْوَ الْكَلاَمِ ؛ فَاجِرَ السَّرِيْرَةِ ؛ حَلاَّفاً شَدِيْدَ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِلِ، وَكَانَ يُجَالِسُ النَّبِيَّ ﷺ فَيُظْهِرُ لَهُ الْحَسَنَ وَيَحْلِفُ باللهِ أنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَتَّبعُهُ عَلَى دِيْنِهِ ؛ وَكَانَ ﷺ يَسْمَعُ كَلاَمَهُ فَيُعْجِبُهُ، وَكَانَ يُدْنِيْهِ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى نِفَاقِهِ).
ومعنى الآية :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ ﴾ كلامهُ وحديثهُ ؛ أي يفرحُ بإظهارهِ الأيمانَ وتُسَرُّ بقوله، ﴿ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ أي يقولُ : اللهُ شهيدٌ على ما في قلبي كما هو على لسانِي من الإيمانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾ أي شديدُ الخصومة جَدِلٌ بالباطل. والأَلَدُّ : مأخوذ من لَدَّتَي الْعُنُقِ ؛ وهما صَفْحَتَاهُ. وتأويلهُ : أن خصمهُ في أيِّ وجهٍ أخذَ من أبواب الخصومة من يمين أو شمالٍ غلبهُ في ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ ؛ أي إذا أعرضَ عنك الأخنسُ يا محمدُ وفارقكَ أسرعَ مشياً في الأرض لِيَعْصِيَ فيها ويضُرَّ المؤمنين، وليهلِكَ ما قدرَ عليه من زرعٍ ونسلٍ، ﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ أي لا يرضَى المعاصي.
روي : أنَّ الأخنسَ خرج من عندِ النبيِّ ﷺ فَمَرَّ بزرعٍ فأحرقهُ ؛ وبحمارٍ فعقرهُ ؛ فنَزلت هذه الآية بما فيها من الوعيدِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ، وصارت عامةً في جميع المفسدين. وقيل : معنى الآية :﴿ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾ أي ليوقعَ الفتنةَ بين الناس فيشتغلُوا عن الزراعةِ وعن أعمالهم، فيكونُ في ذلك هلاكُ الحرثِ والنسل. وقيل : يُخيف الناسَ حتى يَهربُوا من شَرِّهِ، فيخرِّبُ الضِّياعَ وينقطعُ نسلُ الناسِ والدواب.
وفي هذه الآية تحذيرٌ من الاغترار بظاهر القول وما يبديه الرجلُ من حَلاوة المنطقِ، وأمْرٌ بالاحتياطِ في أمرِ الدين والدنيا حتى لا يُقْتَصَرَ على ظاهرِ أمر الإنسانِ خُصوصاً فيمَن هو ألَدُّ الْخِصَامِ ؛ ومَن ظهرت منه دلائلُ الريبة. ولهذا قالوا : إنَّ علينا استبراءَ حالِ من نراه في الظاهرِ أهلاً للقضاء والشهادةِ والفتيا والأمانةِ، وأن لا يُقْبَلَ منهم ظاهرُهم حتى يُسألَ عنهم ويُبحثَ عن أمرهم، إذ قد حذَّرَ اللهُ تعالى أمثالَهم في توليتهم على أمور المسلمين ؛ ألا ترى أنه عقَّبه بقوله :﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾ فيحتمل أن يكونَ المرادُ بالتولِّي : أن يتولَّى أمراً من أُمور المسلمين ؛ فأعلمَ اللهُ بهذه الآيةِ أنه لا يجوزُ الاقتصار على الظاهرِ دونَ الاحتياط والاستبراءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾ ؛ أي إذا قيلَ لها المنافق : احذرْ عقوبةَ الله ولا تفسدْ، أخذتْهُ الْمَنَعَةُ والحميَّةُ والأَنَفَةُ بسبب الإثم الذي فيهِ والكفرِ الذي في قلبهِ ؛ يعني أنه تَكَبَّرَ وقال : أمثلي يقالُ له : اتَّقِ. ويقال : حملتهُ العزَّة على فعل ما يوجبُ الإثمَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ ؛ أي كفاهُ النارُ في الآخرة عقوبة ونَكالاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ ؛ أي لبئسَ القرار النارُ. والْمِهَادُ : الْفِرَاشُ الْمُوطِئُ للنومِ كما يُمهد للطفلِ ؛ فلما كان المعذَّبُ يُلْقَى في نار جنهم، جعل ذلك مهاداً له على معنى : أنَّ جهنم للكافرِ مكان كالمهادِ للمؤمن في الجنةِ.
ويُحكى : أنَّ يهودياً كانت له حاجةٌ إلى هارون الرشيد، فاختلفَ إلى بابهِ زماناً فلم يَقْضِ حاجتهُ، فوقفَ يوماً على الباب، فخرجَ هارونُ وهو يسعى بين يديهِ، فقال لهُ : اتَّقِ اللهَ يا أميرَ المؤمنين! فَنَزَلَ هارونُ عن دابَّته وَخَرَّ سَاجِداً ؛ فلما رفعَ رأسهُ أمَرَ بحاجته فَقُضِيَتْ. فقيلَ له : يا أميرَ المؤمنين، نَزَلْتَ عن دابَّتك لقولِ يهوديٍّ؟! قال : لاَ، ولكنْ ذكرتُ قولَ اللهِ ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي صُهَيْب بْنِِ سِنَانٍ وَعَمَّار بْنِ يَاسِرٍ وَأُمِّهِ سُمَيَّةَ وَأبيهِ يَاسِرٍ وَبلاَلٍ وَخَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ وَغَيْرِهِمْ، أخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي طَرِيْقٍ مَكَّةَ ؛ فَعَذَّبُوهُمْ، فَأَمَّا صُهَيْبُ فَقَالَ لَهُمْ : أنَا شَيْخٌ كَبِيْرٌ لاَ يَضُرُّكُمْ أمِنْكُمْ كُنْتُ أمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، أُعْطِيْكُمْ جَمِيْعَ مَالِي وَمَتَاعِي وَذَرُونِي وَدِيْنِي نَشْتَرِيْهِ مِنْكُمْ بمَالِي، فَفَعَلُواْ ؛ فَأَعْطَاهُمْ مَالَهُ وَتَوَجَّهَ إلَى الْمَدِيْنَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِيْنَةَ لَقِيَهُ أبُو بَكْرٍ فَقَالَ : رَبحَ الْبَيْعُ يَا صُهَيْبُ، قَالَ : وَبَيْعُكَ لاَ يَخْسَرُ، وَمَا ذَاكَ يَا أبَا بَكْرٍ! فَأَخْبَرَهُ بمَا نَزَلَ فِيْهِ ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾.
وَأمَّا سُمَيَّةُ وَيَاسِرٌ فقُتِلاَ، وَكَانَا أوَّلَ قَتِيْلَيْنِ قُتِلاَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ لَهُمَا بمَكَّةَ :" اصْبرُواْ يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةَ " وَأمَّا الآخَرُونَ ؛ فَإنَّهُمْ أعْطُواْ عَلَى الْعَذَاب بَعْضَ مَا أرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَسَب الإسْلاَمِ ؛ وَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُطْمَئِنَّةً بالإيْمَانِ، فَتُرِكُواْ وَقَدِمُواْ الْمَدِيْنَةَ، وَفِيْهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾[النحل : ١٠٦].
ومعنى قوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾ على هذا التأويلِ الذي ذكرناهُ : ومِن الناس من يشرِي نفسَهُ ودينَهُ بمالهِ. وعن عمرَ وعليٍّ رضي الله عنهما : أنَّهما قالاَ في هذه الآيةِ :(هَوَ الرَّجُلُ يَأْمُرُ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُقْتَلُ عَلَيْهِ) فعلى هذا معنى قولهِ تعالى :﴿ يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾ أي يبيعُ نفسَهُ يبذُلُها في الجهادِ في سبيل الله. وهذا من أسماءِ الأضدادِ، قال الشاعرُ في شريتُ بمعنى بعتُ : وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْأي هلكتُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ نُصب على أنه مفعولٌ لهُ ؛ كأنَّه قال : لابتغاءِ مرضاةِ الله. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ ؛ أي رحيمٌ بهم يُرَغِّبُهُمْ في الخيرِ، ويُثِيْبُهُمْ عليهِ رأفةً بهم. ويقالُ إنَّهُ لرأفتهِ ورحمتهِ أمرَهم ببيعِ أنفسهم لكي ينالوا من كريمِ ثوابهِ ما هو خيرٌ لهم.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيْمَنْ أسْلَمَ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب : عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَأصْحَابُهُ، وَذَلِكَ أنَّهُمْ عَظَّمُواْ السَّبْتَ وَكَرِهُواْ لُحُومَ الإبلِ وَألْبَانَهَا، وَاتَّقَواْ أشْيَاءَ كَانُواْ يَتَّقُونَهَا قَبْلَ أنْ يُسْلِمُواْ. وَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ التَّوْرَاةَ كِتَابُ اللهِ، فَدَعْنَا فَلْنُقِمْ فِي صَلاَتِنَا باللَّيْلِ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ وَأمَرَهُمْ أنْ يَدْخُلُواْ فِي جَمِيْعِ شَرَائِعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
ومعناها :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾ أي في الإسلامِ، وقال مجاهدٌ :(فِي أحْكَامِ الدِّيْنِ وَأعْمَالِهِ). وأصلهُ من الاسْتِسْلاَمِ والانقيادِ ؛ ولذلك قيلَ للصلح : سِلْمٌ. وقال حذيفةُ في هذه الآية :(الإسْلاَمُ ثَمَانِيَةُ أسْهُمٍ : الصَّلاَةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالصَّوْمُ سَهْمٌ، وَالْحَجُّ سَهْمٌ، وَالْعُمْرَةُ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ. وَقَدْ خَابَ مَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ).
وقال الحسنُ رضي الله عنه :(مَعْنَى الآيَةِ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ تَكَلَّمُواْ بكَلِمَةِ الإيْمَانِ ؛ أيْ أقِيْمُواْ عَلَى الإيْمَانِ) حَثَّ اللهُُ تعالى بهذه الآيةِ جميعَ المؤمنين على الإسلامِ والطاعة لِمن يشري نفسه ؛ ألا تراهُ قال بعدَ ذلك :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ ؛ أي لا تفعلوا فعل ألَدِّ الْخِصَامِ. وقيلَ :﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ أي لا تقتفوا آثارَهُ ؛ لأنَّ تَرْكَكُمْ شيئاً من شرائعِ الإسلام اتباعٌ للشيطان.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي إنه عدوٌّ لكم ظاهرُ العداوة، فإن قيل : كيفَ قال الله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ وهو لَم يُبْدِ لنا شخصهُ ؟ قِيْلَ : قد كانَ إبداؤهُ العداوةَ لأبينا آدمَ عليه السلام حين امتنعَ من السُّجودِ له وقال : أنا خيرٌ منه، فكان إبداؤُه وإظهاره العداوةَ لأبينا آدم عليه السلام أبداءً وإظهاراً لنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَآفَّةً ﴾ أي جميعاً مأخوذٌ من : كَكَفْتُ الثَّوْبَ ؛ أي جَمَعْتُهُ وَضَمَمْتُ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ. ومعنى كافَّة في اللغة : مشتقٌ من كَفَّ الشَّيْءَ يَكُفُّهُ ؛ أي مَنَعَهُ. وسميت الراحةُ مع الأصابع كفّاً ؛ لأنَّها يكفُّ بها عن سائر البدن. ورجلٌ مَكْفُوفٌ : أي كُفَّ بصرهُ عن النظرِ. ومنه قيل لحاشية القميصِ : كُفَّةُ ؛ لأنَّها تَمنعُ الثوبَ من أنْ ينتشرَ. وكلُّ مستطيلٍ فحرفه كُفُّة بالضم، وكل مستديرٍ فحرفه كِفَّةُ بالكسر نحو : كِفَّةُ الميزانِ.
واختلفَ القراءُ في السَّلَمِ ؛ فقرأ ابنُ عباس والأعمش :(السِّلْمِ) بكسرِ السين هنا وفي الأنفال وسورةِ محمدٍ. وقرأ أهل الحجاز والكسائي بالفتحِ، وقرأ حمزةُ وخَلَفٌ في الأنفال بالفتحِ وسائرها بالكسرِ، وقرأ الباقون هنا بالكسرِ والباقي بالفتح، وهما لغتان.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي إن زَلَلْتُمْ ؛ أي إن عَدَلْتُمْ عن الطريقِ المستقيم بالخروجِ عن طاعةِ الله إلى المعصية. وقال ابنُ عباس :(مَعْنَاهُ : فَإنْ مِلْتُمْ إلَى أوَّلِ شَرِيْعَتِكُمْ مِنْ تَحْرِيْمِ لُحُومِ الإبلِ وَالسَّبْتِ). ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ أي الدَّلاَلاَتِ وَالْحُجَجِ ؛ يَعْنِي مُحَمَّداً ﷺ وَشَرَائِعَهُ، ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي غالبٌ بالنقمة ولا يُعْجِزُهُ شيءٌ من ذلك.
وقوله ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي مُحْكِمٌ في الفعل، حكيمٌ في أمرهِ. ويقالُ : عالِمٌ ذو حكمةٍ فيما شَرَعَ لكم من دينهِ. وقال ابنُ حِبان :(مَعْنَى : فَإنْ زَلَلْتُمْ ؛ أيْ أخْطَأْتُمْ). وقال السديُّ :(فَإنْ ضَلَلْتُمْ). وقال ابنُ عباس :(يَعْنِي الشِّرْكَ).
وقرأ أبو السمَّالِ العدوي :(فَإِنْ زَلِلْتُمْ) بكسرِ اللاَّم، وفي هذه الآية تشبيهُ العصيانِ بزَلَّةِ القدمِ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ ؛ افترقَ الناسُ في تفسير هذه الآية على أربعةِ أقوالٍ ؛ فرقةٌ منهم يتأولونَها على ظاهرها ويَصِفُونَ الله بالإيتاءِ الذي هو زوالٌ من مكان إلى مكانٍ. وهذا القولُ غير مُرْضٍ تعالى اللهُ عنه. وفرقةٌ يفسرون الإتيانَ تفسيراً مجملاً لا يعدون ظاهر اللفظ، يقولونَ : يأتِي كيفَ شاء بلا كيفٍ. وهذا غير مُرْضٍ أيضاً.
وأما الفرقتان الأُخريان من أهل السُّنَّةِ والجماعة ؛ فإحداهما لا يفسِّرون هذه الآية ويقولون : نُؤْمِنُ بظاهِرها ونسكتُ عن الخوضِ في معناها ؛ لِما فيه من الاشتباهِ والتشبيه. وقال الكلبيُّ :(هَذَا مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لاَ يُفَسَّرُ). وقال ابنُ عباس :(نُؤْمِنُ بهَا وَلاَ نُفَسِّرُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُتَشَابهَاتِ :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾[آل عمران : ٧]).
وأمَّا الفرقةُ الرابعة فيفسرونَها ويردُّون مثلَ هذه المتشابهات إلى الآياتِ المحكماتِ ويقولون : معناها ما ينظرُ الكفارُ بعد قيامِ الحجةِ عليهم، إلا أنْ يأتيَهم أمرُ اللهِ وهو الحسابُ، أو أن يأتيَهم عذابُ اللهِ ؛ لأنَّ الإتيانَ لفظٌ مُشْتَبهٌ يحتملُ حقيقةَ الإتيانِ ويحتمل إتيانَ الأمرِ، وقد قامتِ الدلالةُ على أنَّ اللهَ تعالى لا يجوزُ عليه الإتيانُ والمجيء والانتقالُ والمزاولةُ ؛ لأنَّ ذلك من صفاتِ الأجسام وَالْمُحْدَثِيْنَ، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن ذلكَ، قال عليٌّ رضي الله عنه :(مَنْ زَعَمَ أنَّ اللهَ فِي شَيْءٍ أوْ مِنْ شَيْءٍ أوْ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ ألْحَدَ ؛ لأنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ لَكَانَ مُحْدَثاً ؛ وَلَوْ كَانَ فِي شَيْءٍ لَكَانَ مَحْصُوراً ؛ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ لَكَانَ مَحْمُولاً). وإذا كان لفظُ الإتيان مشتبهاً وَجَبَ رَدُّهُ إلى الْمُحْكَمِ نحوُ قولهِ تعالى في سورةِ النحل :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ﴾[النحل : ٣٣].
وقال بعضُهم : معناه : هل ينظرونَ إلا أن يأتيَهم الله بظُلَلٍ من الغمامِ وبالملائكةِ أو معَ الملائكة، فتكونُ في معنى الباء، فعلى هذا التأويل زالَ الإشكالُ وسَهُلَ الأمرُ. وأما ذكرُ الظُّلَّةِ في الآية، فإنَّ الْهَوْلَ إذا بَدَا من الظُّلة المظلمةِ من الحساب كان أعظمَ وأشدَّ، يدلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى في قصة شُعيب :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾[الشعراء : ١٨٩].
وأما قوله :﴿ وَالْمَلاَئِكَةِ ﴾ قرأ أبو جعفر بخفضِ (الْمَلاَئِكَةِ) عطفاً على الغمامِ ؛ أي (والظُّلَلِ) مِن الملائكةِ ؛ أي جماعةُ من الملائكة. قوله ﴿ وَالْمَلاَئِكَةُ ﴾ وسَمَّاهم الله ظُلَلاً ؛ لأن الملائكةَ لا تسيرُ بالأقدام ولكنها تطيرُ بالأجنحة كما تطيرُ الطيرُ. ومن قرأ :(وَالْمَلاَئِكَةُ) بالرفع ؛ وهي قراءةُ الجمهور والإجماع فتقديره : وتأتيهم الملائكةُ في ظُلَلٍ، يدلُّ عليه قراءة أُبَي وعبدِالله :(هَلْ يَنظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيْهُمُ اللهُ وَالْمَلاَئِكةُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ). والغمامُ : هو السَّحابُ الرقيقُ الأبيض، سُمِّيَ بذلك لأنه يَغُمُّ ؛ أي يَسْتِرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُضِيَ الأَمْرُ ﴾ أي المعنى : الحكمُ بإنزال الفريقين منازلهم من الجنة والنار. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ ؛ أي عواقب الأمور ومصير الخلائق إلى الله تعالى، ومن قرأ (تُرْجَعُ) برفع التاء فعلى ما لم يسم فاعله، ومن قرأ بنصب التاء فمعناه : وإلى الله تصير الأمور. ومن قرأ بالياء ؛ فلأن تأنيث الأمور غيرُ حقيقيٍّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ ؛ أي سَلْ يا محمدُ يهودَ أهلِ المدينة كم أعطيناهم ؛ أي أعطينا أسلافَهم وإمامَهم من علامةٍ واضحةٍ مثل العصا، واليدِ البيضاء ؛ وفَلْقِ البحرِ ؛ وتظليلِ الغمام ؛ وإنزالِ الْمَنِّ والسلوى وغيرِ ذلك مما كان في وقتِ موسى عليه السلام من المعجزات، كما آتيتُكَ من المعجزاتِ فلم يُؤْمِنْ أولئكَ كما لم يؤمن هؤلاءِ الكفار.
وهذا السؤالُ سؤالُ تقريعٍ وإنكارٍ للكفار وتقرير لقلب النبي ﷺ لا سؤالَ استفهامٍ ؛ لأنه ﷺ لا يحتاجُ إلى السؤالِ. والمعنى : كما أن هؤلاءَ لم يؤمنوا بالآياتِ البينات التي أعطيتَها فلا تَغتَمنَّ. و ﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ أي أنظرها في آياتِ بني إسرائيلَ كم أعطيناهُم من علاماتٍ واضحات في زمنِ موسى عليه السلام.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ؛ أي من يغيِّر حُجَّةَ الله الدالة على أمرِ نبيِّه ﷺ من بعد ما جاءته حجةُ الله بأن يجحدَها أو يصرفَها عن وجهها، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ أي شديدُ التعذيب لمن استحقَّه، وسَمى اللهُ تعالى الحجَّ نعمةً ؛ لأنَّها من أعظمِ النِّعَمِ على الناسِ في أمرِ الدين.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ نزلت هذه الآيةُ في مشركي العرب أبي جهلٍ وأصحابهِ، كانوا يتنعَّمون بما بَسَطَ الله لهم في الدنيا من المالِ ويكذبون بالمعادِ، ويسخرونَ من المؤمنين الذين يرفضونَ الدنيا ويُقبلون على الطاعةِ والعبادةِ، ويقولون : لو كان محمَّدٌ نبياً لاتبعه أشرافُنا، واللهِ ما يتبعهُ إلا الفقراءُ مثل ابن مسعودٍ وعمار وصهيب وسالم وأبي عبيدةَ بن الجراح وبلال وخبَّاب وعامرِ بن فهيرة وغيرهم، هكذا قالَ الكلبيُّ.
وقال مقاتلُ :(نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِيْنَ : عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأصْحَابهِ)، كَانُواْ يَتَنَعَّمُونَ فِي الدُّنْيَا بمَا بَسَطَ اللهُ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ، وَيَقُولُونَ : انْظُرُواْ إلَى هَؤُلاَءِ الَّّذِيْنَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ ﷺ أنَّهُ يَغْلِبُ بهِمْ! وَكَانُواْ يُعَيِّرُونَهُمْ بقِلَّةِ ذَاتِ أيْدِيْهِمْ. وقال عطاءُ :(نَزَلَتْ فِي عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَرُؤَسَائِهِمْ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيْرِ، سَخِرُواْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِيْنَ فَوَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى أنْ يُعْطِيَهُمْ أمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيْرِ بغَيْرِ قِتَالٍ أسْهَلَ شَيْءٍ وَأيْسَرَهُ).
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال : قالَ رسولُ الله ﷺ :" مَنِ اسْتَذَلَّ مُؤْمِناً أوْ مُؤْمِنَةً أوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذاتِ يَدِهِ، شَهَّرَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَفْضَحُهُ، وَمَنْ بَهَتَ مُؤْمِناً أوْ مُؤْمِنَةً أوْ قَالَ فِيْهِ مَا لَيْسَ فِيْهِ، أقَامَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى تَلٍّ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيْهِ، وَإنَّ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ اللهِ أعْظَمُ مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أحَبُّ إلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ مُؤْمِنٍ تَائِبٍ أوْ مُؤْمِنَةٍ تَائِبَةٍ، وَإنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْرَفُ فِي السَّمَاءِ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ أهْلَهُ وَوَلَدَهُ " وقال أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه :(لاَ تَحْقِرَنَّ أحَداً مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ، فَإنَّ صَغِيْرَ الْمُسْلِمِيْنَ عَنْدَ اللهِ كَبيْرٌ). وقال يحيى بن مُعاذ :(بئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ إذَا اسْتَغْنَى الْمُؤْمِنُ بَيْنَهُمْ حَسَدُوهُ، وَإذا افْتَقَرَ بَيْنَهُمْ اسْتَذَلُّوهُ).
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ أي فوقهم في الدرجةِ، يعني الذينَ اتَّقَوا الشركَ والفواحش والكبائرَ فوقَ الكفار يوم القيامة، في الجنةِ يكون المؤمنون في عِلِّيِّيْنَ والكفارُ في الجحيم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(يَعْنِي كَثِيْراً بغَيْرِ مِقْدَارٍ ؛ أيْ يَرْزُقُ رزْقاً كَثِيْراً لاَ يُعْرَفُ حِسَابُهُ). وقال الضحاكُ :(يَعْنِي بغَيْرِ تَبعَةٍ، يَرْزُقُهُ فِي الدُّنْيَا وَلاَ يُحَاسِبُهُ فِي الآخِرَةِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : أن الله تعالى لا يحاسَب على ما يرزقُ ؛ لأنه لا شريكَ له فيُمَانِعهُ ولا قسيمَ فينازعهُ، ولا يقال له : لِم أعطيتَ هذا وحَرَمْتَ هذا، ولا لِم أعطيتَ هذا أكثرَ مِن هذا ؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ لا يُسأل عما يفعلُ. وقيل : معناهُ : يعطي مِن غير أن يخافَ نفاذ خزائنهِ، فلا يحتاجُ إلى حساب ما يخرجُ منها ؛ إذ كان الحسابُ من المعطي إنَّما يكون ليعلمَ قدر العطاءِ لِئلا يتجاوز في عطائهِ إلى ما يُجْحَفُ به ؛ فهو لا يحتاجُ إلى الحساب لأنه عالِم غنيٌّ لا يخاف نفاذَ خزائنه ؛ لأنَّها بين الكافِ والنون.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(مَعْنَاهُ : كَانَ النَّاسُ أهْلَ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ : كُفَّاراً كُلَّهُمْ فِي ابْتِدَاءِ عَهْدِ نُوحٍ عليه السلام وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ إبْرَاهِيْمَ) يعني أنَّ أممَ الأنبياء عليهم السلامُ الذين بُعِثَ إليهم الأنبياءُ كانت كفاراً كما كانت هذه الأمةُ. وجائزٌ أن يقال : كانت أمةً واحدة على الكفر وإن كان فيهم مسلمونَ ؛ إذا كان المسلمون قليلين مقهورينَ في البقية ؛ لانصراف اسم الأمةِ على الأعمِّ الأكثرِ. وقال قتادةُ والضحاك :(كَانَ النَّاسُ أمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْحَقِّ) أي كانوا مؤمنين في زمن آدم عليه السلام وبعد وفاته إلى مبعث نوح عليه السلام، وكان بين آدم ونوح عشرةَ قرون كلهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحقِّ والهدى. قم اختلفوا في زمنِ نوح عليه السلام فبعثَ الله إليهم نوحاً وكان أوَّلَ نبيٍّ بُعِثَ، ثم بُعِثَ بعده النبيونَ. وقال الكلبيُّ :(هُمْ أهْلُ سَفِيْنَةِ نُوحٍ، كَانُوا كُلُّهُمْ مُؤْمِنِيْنَ، ثُمَّ اخْتَلَفُواْ بَعْدَ وَفَاةِ نُوحٍ، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِمْ نَبيَّهُ هُودُ عليه السلام).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ ؛ أي مبشِّرين لمن أطاعَ الله تعالى بالجنةِ، ومنذرينَ بالنار والسَّخَطِ لِمن عصاهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي وأنزلَ عليهم الكتاب ؛ إذِ الأنبياءُ صلوات الله عليهم لم يكونوا منذرينَ حتى ينْزل الكتابُ معهم، وقوله :﴿ بِالْحَقِّ ﴾ أي بالعدلِ.
وقولهُ :﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ ؛ أي ليقضيَ الكتابُ بينهم بالحكمَة، وأضافَ الحكمَ إلى الكتاب وإنْ كان اللهُ تعالى هو الذي يحكمُ على جهةِ التفخيم لأمرِ الكتاب. وقولهُ :﴿ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ أي من أمرِ الدين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي ولم يختلفْ في أمرِ الدين وبعثِِ النبيين إلا الذين أُعطوا الكتاب من بعدِ ما جاءتْهُم الدلالاتُ الواضحات من اللهِ. وقوله :﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ نُصِبَ على أنه مفعولٌ له ؛ أي لم يختلفوا إلا للبغيِ والحسدِ والتفرُّق ؛ وذلك أنَّ أهلَ الكتاب كانوا عَلِمُوا حقيقةَ أمرِ النبي ﷺ في كتبهم قبل مَبْعَثِهِ، فلما بعثهُ اللهُ كفروا به إلا قليلاً منهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾ ؛ أي فأرشدَ اللهُ المؤمنين ﴿ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ﴾ الذي اختلفَ فيه أهلُ الزَّيْغِ، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي بتوفيقهِ وقضائه وعلمهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ؛ أي واللهُ يُوَفِّقُ لِمعرفته من يشاءُ ممن كان أهلاً لذلك إلى طريقِ واضح يرضاهُ الله تعالى.
والأُمَّةُ في اللغة على وجوهٍ ؛ منها الجماعةُ كقوله تعالى :﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾[القصص : ٢٣] وقوله :﴿ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ ﴾[الأعراف : ٣٨] أي جماعاتٍ وقرون.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ ﴾ ؛ أي أظننتُم أيها المؤمنون أنْ تدخلوا الجنةَ ولم تصبكم صِفَةُ الذين مُحِنُوا من قبلكم ؛ أي ولم تُبْتَلُواْ كما ابْتُلِيَ الذين من قبلكم، ﴿ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ ﴾ أي الشدَّةُ وهي القتلُ، ﴿ وَالضَّرَّآءُ ﴾ والبلاءُ والفقرُ والمرض. وقيل : البأساء : نقيضُ النعماءِ، والضرَّاء : نقيض السرَّاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ﴾ ؛ أي حُرِّكُوا وخوِّفوا ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي جاهدوا حتى قال كلُّ رسولٍ بُعِثَ إلى أمته : متى فتحُ الله ؟ يقول الله تعالى :﴿ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ ؛ يعني ألا إنَّ نصرَ الله لك ولأُمتكَ يا محمدُ قريبٌ عاجلٌ كما نَصَرْتُ الرسلَ قبلك، والمثلُ قد يُذكر بمعنى الصفةِ كما قال الله تعالى :﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ ﴾[الرعد : ٣٥] أي صفةُ الجنة، ذهب السديُّ إلى أن هذه الآيةَ نزلت بالمدينةِ يوم الخندق حين اشتدَّت مخافةُ المؤمنين من العدوِّ.
ووجهُ إيصال هذه الآية بما قبلها : أنَّ الله تعالى قالَ فيما تقدَّم :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾[البقرة : ٢٠٨] ثم قالَ :﴿ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾[البقرة : ٢١٣]. وكان المسلمون اتَّكَلُواْ على مجرَّد اهتدائهم، فبيَّن اللهُ في هذه الآية أنه لا يجوزُ الاتِّكالُ على مجرَّدِ الإيمان من غير مُكَابَدَةِ ما قَاسَاهُ السلفُ من المؤمنين كما قالَ تعالى :﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾[العنكبوت : ٢].
وأما القراءةُ في قوله تعالى :﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ﴾ من نصبَ فعلَى الأصلِ ؛ لأن ﴿ حَتَّى ﴾ تنصبُ الفعل. ومن قرأ بالرفعِ أدخلَ (حتى) على جملةِ ما بعده لا على الفعلِ خاصة ؛ كأنه قالَ : حتى الرسولُ يقولُ، فلا يظهرُ عمل (حتى). قال الشاعرُ : فَيَا عَجَبَا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي كَانَ أبَاهَا نَهْشَلٌ أوْ مُجَاشِعُ
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ ؛ الآية قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَوَاباً عَنْ سُؤَالِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ الأَنْصَارِيّ لَمَّا حَثَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الصَّدَقَةِ وَرَغَّبَ فِيْهَا النَّاسَ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ ؛ قًَالَ عَمْرُو : يَا رَسُولَ اللهِ، بمَاذَا نَتَصَدَّقُ ؟ وَعَلَى مَنْ يُتَصَدَّقُ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناهُ يسألونَكَ أيَّ شيءٍ يتصدقون به، فقُل لهم : ما تصدقتُم به من مالٍ : فَعلى الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبيلِ ؛ والضِّيف النازلِ بكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي وما تفعلوه مِن خيرٍ من وجوه البرِّ فإنَّ اللهَ به عليمٌ يحصيَهُ ويجازيكم عليه، لا يضيعُ عنده عملُ عامل، فإن قيل : كيفَ يطابق في هذه الآيةِ جوابُ هذا السؤال ؛ لأنَّ السؤال إنَّما وقعَ على المنفقِ، والجوابُ إنَّما وقعَ على المنفَقِ عليه ؟ قيل : إن الجوابَ مطابقٌ لهذا السؤال ؛ لأن قوله : و ﴿ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ يتناول القليلَ والكثير لشمول اسمِ الخير، فكأن الجواب صدرَ عن القليل والكثيرِ مع بيان من تُصرف إليه النفقة ؛ لأن المسؤولَ إذا كان حكيماً يَعْلَمُ ما يحتاج إليه السائلُ ؛ أجابَ عن كل ما يحتاجُ إليه، كما " روي عن رسولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ ؛ فَقَالَ :[هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ؛ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ] " وإنَّما قالَ ذلك لأنه عَلِمَ أنَّهم لَمَّا جهلوا حُكم ماءِ البحر، فإنَّهم أشدُّ جهلاً بحكمِ ما فيه من المأكول، كذلك هؤلاء لَمَّا جهلوا الْمُنْفَقَ كان جهلهُم بالْمُنْفَقِ عليهم أكثرَ ؛ فلهذا ذكرَ الله المنفَقَ عليهم مع ذكر المنفَقِ.
واختلفوا في هذه النفقةِ المذكورة ؛ هل هي واجبةٌ أم لا ؟ قال الحسنُ :(الْمُرَادُ بهَا التَّطَوُّعُ عَلَى مَنْ لاَ يَجُوزُ وَضْعُ الزَّكَاةِ فِيْهِ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِيْنَ ؛ وَوَضَعَ الزَّكَاةَ فِيْمَنْ يَجُوزُ وَضْعُهَا فِيْهِمْ). وقال السديُّ :(هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بآيَةِ الزَّكَاةِ). والصحيح أنَّها ثابتةُ الحكمِ عامَّة في الفرضِ والتطوع ؛ لأن الآية متى أمكنَ استعمالُها لم يَجُزِ الحكمُ بنسخِها، ويحتملُ أن يكون المراد بها النفقةُ على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ قال ابنُ ".... " :(لَمَّا كَتَبَ اللهُ الْجِهَادَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ شُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَكَرِهَتْهُ نُفُوسُهُمْ، وَقَبلَتْهُ قُلُوبُهُمْ، وَأحَبَّ اللهُ تَعَالَى أنْ يُطَيِّبَ نُفُوسَهُمْ بهَذِهِ الآيَةِ).
وقيلَ في وجهِ اتصالها بما قبلَها : أنَّ ما قبلَها ذكرَ التعبُّدَ بالنفقةِ التي تَشُقُّ على البدنِ، وفي هذه الآية ذكرَ ما لا شيءَ في التعبُّدِ أشقُّ منه وهو القتالُ. ومعنى الآية : فُرِضَ عليكم القتالُ وهو شاقٌّ عليكم، وأرادَ بالكراهةِ كراهةَ الطبعِ لا عدمَ الرضا بالأمرِ، وهذا كما يكرهُ الإنسانُ الصومَ بالصيف من جهةِ الطبع، وهو مع ذلك يحبُّه ويرضاه من حيث إنَّ الله أمرهُ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي لعلَّكم تكرهونَ الجهادَ وهو خير لكم لِما فيه من النصر لدينِ الله تعالى على أعداء الله ؛ والفوز بالغنيمة مع عِظَمِ المثوبة، وإدراكِ محِلِّ الشُّهداء ﴿ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ أي لعلَّكم تحبُّون القعودَ عن الجهاد وهو شرٌّ لكم، تُحرمون الفتحَ والغنيمة والشهادةَ، ويتسلطُ عليكم العدوُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي يعلمُ ما فيه مصلحتُكم وما هو خيرٌ في عاقبة أموركم وأنتم لا تعلمون ذلك، فبادرُوا إلى ما أُمرتم به إذ ليس كلُّ ما تشتهون خيراً، ولا كل ما تحذرون شرّاً.
وفي هذه الآية دلالةٌ على فرض القتالِ كما قال تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَا ﴾[البقرة : ١٨٣] وأراد به فرضَ الصيام. ثم لا يخلو القتالُ المذكور في هذه الآية من أن يرجع إلى معهودٍ قد عرفَهُ المخاطَبون وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾[البقرة : ١٩٠] وقولهُ :﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾[البقرة : ١٩١].
وتكونُ هذه الآية تأكيداً لذلك القتلِ المعهودِ الذي عُلم حكمه، فيكونُ القتال في هذه الآية راجعاً إلى جنسِ القتال، فتكون هذه الآية مجملةً مفتقرةً إلى البيان ؛ لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يأمُرْ بالقتالِ الناسَ كلهم، فلا يصحُّ اعتقادُ العموم فيه، فكان بيانُ هذا المجملِ بقولهِ تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾[التوبة : ٢٩] وقوله :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة : ٥].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عباسٍ في سبب نزولِ هذه الآية :" أنَّ النَّبيَّ ﷺ بَعَثَ ابْنَ عَمَّتِهِ عَبْدَاللهِ بنَ جَحْشٍ قَبْلَ قِتَالِ بَدْرٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَهُوَ أمِيْرُهُمْ، كَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ الله ﷺ كِتَاباً، وَقَالَ لَهُ :[إذ نَزَلْتَ مَنْزِلَتَيْنِ، فَافْتَحِ الْكِتَابَ وَاقْرَأهُ عَلَى أصْحَابكَ، ثُمَّ امْضِ لِمَا أمَرْتُكَ بهِ، وَلاَ تُكْرِهْ أحَداً مِنْ أصْحَابكَ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ].
فَسَارَ عَبْدُاللهِ حَتَّى بَلَغَ مَنْزِلَتَيْنِ، ثُمَّ فَتَحَ الْكِتَابَ فَإذَا فِيْهِ :[بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، أمَّا بَعْدُ : فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ بمَنِ اتَّبَعَكَ مِنْ أصْحَابكَ حَتَّى تَنْزْلَ بَطْنَ نَخْلَةَ، فَتَرْصُدَ بهَا عِيرَ قُرَيْشٍ، لَعَلَّكَ تَأْتِيْنَا مِنْهُمْ بخَبَرٍ. وَالسَّلاَمُ.]. فَقَالََ عَبْدُاللهِ : سَمْعاً وَطَاعَةً لأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَانْطَلَقَ الْقَوْمُ مَعَهُ حَتَّى وَصَلُواْ بَطْنَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَنَزَلُواْ هُنَاكَ.
فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ مَرَّ بهِمْ عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فِي عِيْرِ لِقُرَيْشٍ فِي أوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبَ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَظُنُّونَ أنَّهَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى الأُخْرَى، فَأَمَرَ عَبْدُاللهِ أنْ يَحْلِقُواْ رَأسَ عُكَاشَةَ لِيُشْرِفَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَظُنُّواْ أنَّهُمْ عُمَّارٌ فَيَأْمَنُواْ. فَفَعَلَ ذلِكَ وَأمِنَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَالَوُاْ : قَوْمٌ عُمَّارٌ لاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهَُمْ.
وَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِاللهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ وَاسْتَأْسَرَ بَعْضَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَهَرَبَ بَعْضُهُمْ إلَى مَكَّةَ، وَاسْتَاقَ الْمُسْلِمُونَ الْعِيْرَ، فَعَيَّرَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بذَلِكَ وَقَالَواْ : اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، شَهْراً يَأْمَنْ فِيْهِ الْخَائِفُ وَيُطْلَقُ فِيْهِ الأَسِيرُ. وَوَقَفَ النَّبيُّ ﷺ فِي أمْرِ الْغَنِيْمَةِ "
، فَأَنْزَلَ اللهُ تََعَالَى هَذِهِ الآيَةِ). ويقال : لَمَّا أمرَ الله المسلمين بالقتال، ظنُّوا عمومَ الأمر في جميع الشهور، فسألُوا رسول الله ﷺ ليعرفوا، فنَزلت هذه الآيةُ. والقولُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ القرآن.
ومعنى الآيةِ :﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ عن قتالٍ في ﴿ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ لأن قوله :﴿ قِتَالٍ فِيهِ ﴾ بدلٌ الاشتمال عن الشهرِ الحرام، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ أي القتالٌ في الشهر الحرام عظيمُ الذنب عند اللهِ تعالى، ثم استأنفَ الكلام فقال :﴿ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي منعُ الناسِ عن الكعبة أن يأتوها ويطوفوا لها ﴿ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾ أي وكفرٌ بالله تعالى، ويقال : بالحجِّ، أو كفرٌ بالمسجد الحرام.
وَقِيْلَ : فيه تقديمٌ وتأخير، تقديرهُ : وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجدِ الحرام وكفرٌ بالله وإخراج أهل المسجدِ الحرام منه أعظمُ عقوبة عند الله من القتال في الشهرِ الحرام، أي الكفارُ مع هذا الإحرام أولَى بالعنتِ ممن قَتل مشركاً في الشهر الحرام كما قالَ تعالى :﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ ؛ أي الشركُ بالله أعظم عقوبةً وإثماً من القتالِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ ؛ قال ابنُ عباسٍ :(كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي بُدُوِّ الإِسْلاَمِ، وَهِيَ لَهُمْ حَلاَلٌ، وَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ﷺ يُنَادِي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَقْتَ الصَّلاَةِ : ألاَ مَنْ كَانَ سَكْرَاناً فَلاَ يَحْضُرْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْجَمَاعَةِ ؛ تَعْظِيْماً لِلْجَمَاعَةِ وَتَوْقِيراً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَأنَّ عُمَرَ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالَ : بَيِّنْ لَنَا أمْرَ الْخَمْرِ، فَإنَّهَا مُهْلِكَةٌ لِلْمَالِ مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾.
وأما الْمَيْسِرُ فقد كان جماعةٌ من العرب يجتمعون فيشترون جَزُوراً ؛ ثم يجعلون لكلِّ واحد منهم سهماً، ثم يقترعونَ عليها، فمن خرجَ سهمهُ بَرِئَ من ثَمنها وأخذ نصيبه من الجزور وبقي آخرهم عليه ثَمن الجزور كلَّه ولا يذوقُ من لحمها شيئاً، فتقتسمُ أصحابه نصيبَه، وربما كانوا يتصدقونَ بذلك على الفقراءِ، فسُئِلَ رسولُ الله ﷺ عن ذلك، فأنزلَ الله هذه الآية.
والْمَيْسِرُ : هو الْقِمَارُ، ويقال للقمار : مَيْسِرٌ، والمقامِرُ اليَاسِرُ، وقال مقاتلُ :(سُمِّيَ مَيْسِراً لأَنَّهُمْ كَانُواْ يَقُولُونَ : يَسِّرُواْ لَنَا ثَمَنَ الْجَزُور) ؛ وذلك أنَّ أهلَ الثروةِ من العرب كانوا يشربون جزوراً فينحرونَها، ويجزِّئونَها أجزاءً، قال ابنُ عمر :(عَشَرَةُ أجْزَاءٍ) وقال الأصمعيُّ :(ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرِيْنَ جُزْءاً) ثم يسهمون عليها بعشرةِ أقداحٍ ويقال لها الأزلامُ والأقلامُ، سبعةٌ منها لها أنصب ؛ وهي القذولة نصيبٌ واحد، والتوأم له نصيبان، والرقيبُ وله ثلاثة، والجليسُ وله أربعة، والنامسُ وله خمسة، والمسيلُ وله ستةُ، والمعلي وله سبعة. وثلاثةٌ منها لا أنصب لها، وهي المسح والسفيحُ والوغد، ثم يجعلون القداحَ في خريطةٍ سُمِّيت الربابة، قال أبو ذؤيبُ : وَكَأنَّهُنَّ ربَابَةٌ وَكَأنَّهُ يَسَرٌ يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُويضعونَ الرِّبابة على يدِ واحد عََدْلٍ عندَهم ويسمى الْمُجِيلُ والْمُفِيضُ، ثم يُجِيْلُها ويُخْرِجُ منها قدحاً واحد منهم، فأيُّّهم خرجَ سهمهُ أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فإن كان خرجَ له سهم من هذه الثلاثةِ التي لا أنصب لها، اختلفوا فيه ؛ قال بعضُهم : كان لا يأخذُ شيئاً ويغرم ثَمن الجزور كلَّه، وقال بعضهم : لا يأخذُ شيئاً ولا يغرمُ، ويكون ذلك القدحُ لغواً فيُعَادُ سهم ثانياً، فهؤلاء اليَاسِرُونَ، ثم يدفعون ذلك الجزورَ إلى الفقراءِ ولا يأكلون منه شيئاً، وكانوا يفتخرونَ بذلك ويذمُّون من لم يفعل منهم ويسمونه الْبَرَمِ.
فهذا أصلُ القِمار التي كانت العرب تفعلهُ، وإنَّما عَنَى اللهُ تعالى بالْمَيْسِرِ في هذه الآية أنواعَ القمار كلَّها، وقال طاووسُ ومجاهدُ وعطاء :(كُلُّ شَيْءٍ فِيْهِ قِمَارٌ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لَعِبَ الصِّبْيَانِ الصِّغَار بالْجَوْز وَالْكِعَاب). وعن عليٍّ رضي الله عنه قال :(النَّرْدُ وَالشَّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(لَمَّا نَزَلَ فِي أمْرِ الْيَتَامَى﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[الأنعام : ١٥٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾[النساء : ١٠] أشْفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ ؛ وَكَانَ كُلُّ مَنْ فِي حِجْرِهِ يَتِيْمٌ يَجْعَلُ لِلْيَتِيْمِ بَيْتاً وَطَعَاماً وَخَادِماً عَلَى حِدَةٍ ؛ وَكَانُواْ لاَ يُخَالِطُونَ الْيَتَامَى فِي شَيْءٍ، فَشُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : إنَّ اللهَ تَعَالَى أنْزَلَ فِي أمْرِ الْيَتَامَى مِمَّا أنْزَلَ مِنَ الشِّدَّةِ، أفَيُصْلَحُ لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أنْ نُخَالِطَهُمْ نَسْتَعِيْرُ مِنْهُمُ الْخَادِمَ وَالدَّابَّةَ وَنَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ شَاتِهِمْ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾ أي عن مخالطةِ اليتامى، ﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ ﴾ لأموالهم خيرُ الأشياءِ إذ هو خيرٌ من الإنفاق.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ أي وإن تشاركُوهم وتخلطوا أموالَهم بأموالكم في نفقاتِكم ومطاعمكم ومساكنكم وخدمِكم ودوابكم فتصيبوا من أموالِهم عِوَضاً من قيامكم بأمورهم وتكافئوهُم على ما يصيبون من أموالكم، فهُمْ إخوانكم في الدين.
وقرأ طاووسُ :(قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) بمعنى الإصلاحِ لأموالهم من غير أجرةٍ ولا أخذِ عِوَضٍ منهم خيرٌ وأعظم أجراً. وقرأ أبو مُخَلَّدٍ :(فَإِخْوَانَكُمْ) بالنصب ؛ أي تخالطوا إخوانَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ أي يعلمُ من كان غرضهُ بالمخالطة إصلاحَ أمر اليتامى، ومن يكون غرضهُ إفسادَ أمرهم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ﴾ ؛ أي لأثَّمكم في مخالطتهم وضيَّق عليكم. والعَنَتُ : الإثمُ ؛ ويسمى الفُجُور عَنَتاً ؛ لِما فيه من الإثمِ. وأصلُ العَنَتِ : الشدَّةُ والمشقَّة ؛ يقال : عَقَبَةٌ عَنُوتٌ ؛ أي شاقَّة كَئُودٌ. وقال أبو عبيدة :(مَعْنَاهُ : وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَهْلَكَكُمْ). قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي منيعٌ غالبٌ لا يمانَع فيما يفعل من المساهِل والمشاق، ذو حكمةٍ فيما أمركم به في أمرِ اليتامى وغير ذلك.
واسمُ اليتيم إذا أُطلق انصرفَ إلى الصغيرِ الذي لا أبَ له. والعربُ تسمى المنفردُ يتيماً ؛ يقولون : الدُّرَّةُ اليتيمةُ ؛ يريدون بذلك أنَّها منفردةٌ لا نظير لها.
وفي الآية ضروبٌ من الأحكام : منها قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾ يدلُّ على جواز خلطِ الوصي مالَه بمال اليتيم في مقدار ما يغلبُ على ظنه أن اليتيمَ يأكلُ قدر طعامِ نفسه بغالب الظن. ويدلُّ على جواز التصرف في مالهِ بالبيع والشراء ؛ وجواز دفعهِ مضاربةً إذا كان ذلك صلاحاً. ويدلُّ على أن لِوَلِيِّ اليتيمِ أن يعاقدَ نفسه في مالهِ إذا كان فيه خيرٌ ظاهر لليتيم على ما قالهُ أبو حنيفةُ رَحِمَهُ اللهُ. ويدلُّ على أنَّ للوصيِّ أيضاً أن يؤجِّرَ اليتيمَ ممن يعلمُه الصناعات والتجاراتِ، أو يستأجرَ من يُعَلِّمُهُ ما له فيه صلاحٌ من أمرِ الدين والأدب ؛ لأن كلَّ ذلك من الصلاح.
وقَوْلُُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾ فيه دليل على أن للولي أن يُزَوِّجَ اليتيمَ ابنته، أو يزوِّجَ اليتيمةَ ابنه، أو يتزوجَ اليتيمةَ لنفسهِ، فيكون قد خلطَ اليتيم بنفسهِ وعياله واختلطَ أيضاً به. يقال : فلانٌ خليط فلانٍ ؛ إذا كان شريكاً له في المال. ويقال : قد اختلطَ فلانٌ بفلانٍ ؛ إذا صَاهَرَهُ. ولا يكون التزويجُ إلا للولي الذي يكون ذا نَسَبٍ من اليتيم ؛ لأن الوصايةَ لا تُسْتَحَقُّ بها الولايةُ في النكاح.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ ؛ قال عبدُالله بن عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مَرْثدِ بْنِ أبي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ وَكَانَ شُجَاعاًَ فَوْراً، بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى مَكَّةَ لِيُخْرِجَ مِنْهَا نَاساً مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ سِرّاً ؛ فَلَمَّا قَدِمَهَا سَمِعَتْ بهِ امْرَأةٌ مُشْرِكَةٌ يُقَالُ لَهَا : عِنَاقٌ، وَكَانَتْ خَلِيْلَتَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؛ فَأَتَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ : يَا مَرْثَدُ، ألاَ تَخْلُوْ بي ؟ فَقَالَ : وَيْحَكِ يَا عِنَاقُ! إنَّ الإسْلاَمَ قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ذَلِكَ. فَقَالَتْ : هَلْ لَكَ أنْ تَتَزَوَّجَ بي، فَقَالَ : نَعَمْ، لَكِنْ أرْجِعُ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَأَسْتَأْمِرُهُ ثُمَّ أتَزَوَّجُكِ. فَقَالَتْ : أنْتَ تَتَبَرَّمُ، ثُمَّ اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ فَضَرَبُوهُ ضَرْباً شَدِيْداً ثُمَّ خَلَّواْ سَبيْلَهُ. فَلَمَّا رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أعْلَمَهُ بمَا كَانَ مِنْ أمْرِهِ وَأمْرِ عِنَاقٍ وَمَا لَقِيَ بسَبَبهَا، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ، أيَحِلُّ لِي أنْ أتَزَوَّجَهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : ولا تتزوجُوا المشركات حتى يُصَدِّقْنَ بتوحيدِ الله.
قال المفضلُ :(أصْلُ النِّكَاحِ الْوَطْءُ، ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيْلَ لِعَقْدِ التَّزْويْجِ : النِّكَاحُ). فحرَّمَ اللهُ نكاحَ المشركات عقداً ووطءاً، ثم استثنى الحرائرَ الكتابيَّات، فقالَ تعالى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾[المائدة : ٥].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ ؛ أي نكاحُ أمَةٍ مؤمنةٍ خيرٌ من نكاح حرَّة مشركةٍ ولو أعجبتكم الحرةُ المشركة بحُسنها وجمالها ومالِها. نزلَتْ في أمَةٍ سوداءَ كانت لحذيفةَ بنِ اليمان يقال لها خَنْسَاءُ، فقال لها حذيفةُ : يَا خَنْسَاءُ، قَدْ ذُكِرْتِ فِي الْمَلإِ الأَعْلَى مَعَ سَوَادِكِ ورَمَامَتِكِ، وَأنْزَلَ اللهُ ذلِكَ فِي كِتَابهِ، فَأَعْتَقَهَا حُذَيْفَةُ وَتَزَوَّجَهَا.
وقال السديُّ :" " نَزَلَتْ فِي أمَةٍ سَوْدَاءَ لِعَبْدِاللهِ بْنِ رَوَاحَةَ، كَانَ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهَا عَبْدُاللهِ فَلَطَمَهَا، ثُمَّ فَزِعَ وَأَتَى النَّبيَّ ﷺ، فَأَخْبَرَهُ بذَلِكَ، وَقَالَ ﷺ :[وَمَا هِيَ يَا عَبْدَاللهِ؟] فَقَالَ : هِيَ تَشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهَ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتُحْسِنُ الْوُضُوءَ فَتُصَلِّي، فَقَالَ :[هَذِهِ مُؤْمِنَةٌ]، وَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً لأَعْتِقُهَا وَلأَتَزَوَّجُهَا ؛ فَفَعَلَ، فَطَعَنَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ وَقَالُواْ : أتَنْكِحُ أمَةً ؛ وَقَدْ عَرَضُوا عَلَيْهِ حُرَّةً مُشْرِكَةً وَكَانُواْ يَرْغَبُونَ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ رَجَاءَ إسْلاَمِهِنَّ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ﴾ ؛ أي لا تُزَوِّجُواْ المشركينَ مسلمةً حتى يصدِّقوا باللهِ، ﴿ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾ ؛ أي ولو أعجبكم الحرُّ المشركُ بمالهِ وحُسن حالهِ.
قَوْلُهُ تَعالَى :﴿ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ ؛ يعني المشركينَ والمشركاتِ يدعون إلى عملِ أهل النار. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِه ﴾ ؛ أي واللهُ يدعو إلى أسباب الوُصول إلى الجنة والمغفرةِ ومخالطةِ المؤمنين وغيرِ ذلك، ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي بأمرهِ وعلمه الذي عَلِمَ أنه به وصُولكم إليهما.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَار يُقَالُ لَهُ : أبُو الدَّحْدَاحَةِ، أتَى إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : كَيْفَ نَصْنَعُ بالنِّسَاءِ إذَا حِضْنَ ؛ هَلْ نَقْرَبُهُنَّ أوْ لاَ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). فلما نزلت هذه الآيةُ عَمِدَ المسلمون إلى النساءِ الْحِيَّضِ فأخرجوهن من لبيوت كما كانت الأعاجمُ تفعلُ بنسائهم إذا حِضْنَ، وإذا فرغن واغتسلنَ ردُّوهن إلى البيوتِ، فقَدِمَ ناسٌ من الأعراب المدينةَ، فشَكَوا إلى رسولِ الله ﷺ عَزْلَ النساءِ عنهم، وقالوا : يا رسولَ اللهِ، إنَّ البردَ شديدٌ والثيابَ قليلةٌ وقد عزَلنا النساءَ، فإن آثَرْنَاهُنَّ بالثياب هَلَكَ أهلُ البيت برداً، وإذا آثَرْنَا أهلَ البيت هلكَ النساءُ الحِيَّضُ، وليس كلنا يَجِدُ وسعة فيوسعُ عليهم جميعاً، فقال ﷺ :" إنَّما أُمِرْتُمْ أنْ تَعْتَزِلُواْ مُجَامَعَتَهُنَّ إذَا حِضْنَ، وَلَمْ تُؤْمَرُواْ أنْ تُخْرِجُوهُنَّ مِنَ الْبُيُوتِ " وقرأ عليهمُ الآيةََ.
وقال بعضُهم : كانت العربُ في الجاهلية إذا حاضَت المرأَةُ، لَم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يُساكنُوها في بيت، ولم يجالسُوها على فراشِ كفعل اليهود والمجوسِ، فسألَ أبو الدَّحْدَاحِ رسولَ الله ﷺ عن ذلكَ، وقال : يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ بالْحِيَّضِ ؟ فأنزل الله هذه الآية.
ووجهُ اتصالِ هذه الآية بما قبلها آية أخرى فيما تقدَّم " من " حديث نكاحِ من تحرمُ ومَن تحلُّ، فبيَّن الله بعده حالَ التحليلِ والتحريم بهذه الآية.
وقال ابنُ عباس :(مَا رَأيْتُ قَوْماً كَانُوا خَيْراً مِنْ أصْحَاب رَسُُولِ اللهِ ﷺ ؛ مَا سَأَلُوهُ إلاَّ عَنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ مَسْأَلَةٍ حَتَّى قُبضَ، كُلُّهُنَّ فِي الْقُرْآنِ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾[البقرة : ٢١٧]﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ ﴾[البقرة : ٢١٥]﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾[البقرة : ٢١٩]﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ ﴾[البقرة : ١٨٩]﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ﴾[البقرة : ٢١٩]﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾[البقرة : ٢٢٠]﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ﴾[البقرة : ٢٢٢]﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴾[الأعراف : ١٨٧]﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾[البقرة : ١٨٦]﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ ﴾[الأنفال : ١]﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ﴾[الإسراء : ٨٥]﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾[الكهف : ٨٣]﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ﴾[طه : ١٠٥]).
ومعنى الآية :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ﴾ أي الدم مستقذر نجسٌ، وقال الكلبيُّ :(الأَذَى مَا يَعُمُّ وَيُكْرَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾ ؛ أي اعتزلوا مجامعتَهن وهن حيَّض، ﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ ؛ أي ولا تجامعوهنَّ حتى ينقطعَ عنهن الدمُ. عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله ﷺ :" مَنْ وَطِئَ امْرَأتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَأَصَابَهُ جُذَامٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ ؛ وَمَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ السَّبْتِ أو الأَرْبعَاءِ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ ".
فوطئُ النساءِ الْحِيَّضِ حرامٌ بنص القرآن، فإن وطأَها زوجها أثِمَ ولزمتهُ الكفارة، روي عنِ ابن عباس :
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ ؛ قال ابن عباس :(كَانَتِ الْيَهُودُ يَقُولُونَ : إنَّا لَنَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أنَّ كُلَّ إتْيَانٍ يُؤْتَى النِّسَاءُ غَيْرَ مُسْتَلْقِيَاتٍ فَإنَّهُ دَنَسٌ عِنْدَ اللهِ ؛ وَمِنْهُ يَكُونُ الْحَوَلُ والْخَبَلُ فِي الْوَلَدِ. فأَكْذَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى بهَذِهِ الآيَةِ).
وعن جابرِ بن عبدالله قال :" كَانَتِ الْيَهُودُ يَقُولُونَ : مَنْ جَامَعَ امْرَأتَهُ ضَحِيَّةً مِنْ قَفَاهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ وَلَدُهَا أحْوَلاً! ؟ فَذَكَرْتُ ذَلكَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَقَالَ :[كَذَبتِ الْيَهُودُ] " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾.
وقال الحسنُ وقتادة ومقاتلُ والكلبيُّ :(تَذَاكَرَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَالَيْهُودُ إتْيَانَ النِّسَاءِ ؛ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : إنَّا نَأْتِيَهُنَّ بَاركَاتٍ وَقَائِمَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ وَمِنْ بَيْنِ أيْدِيْهِنَّ وَمِنْ خَلْفِهِنَّ بَعْدَ أنْ يَكُونَ الْمَأْتَى وَاحِداً وَهُوَ الْفَرْجُ. فَقَالَ الْيَهُودُ : وَمَا أنْتُمْ إلاَّ كَالْبَهَائِمِ ؛ لَكِنَّا نَأْتِيْهِمْ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإنَّا لَنَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أنَّ كُلَّ إتْيَانٍ يُؤْتَى النِّسَاءُ غَيْرَ مُسْتَلْقِيَاتٍ فَإنَّهُ دَنَسٌ عِنْدَ اللهِ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْحَوَلُ وَالْخَبَلُ. فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّتِنَا وَبَعْدَمَا أسْلَمْنَا نَأْتِي النِّسَاءَ كَيْفَ شِئْنَا ؛ وَإنَّ الْيَهُودَ عَابَتْ ذَلِكَ عَلَيْنَا ؛ وزَعَمَتْ أنَّا كَذَا وَكَذَا ؟ فَأَكْذَبَ اللهُ تَعَالَى الْيَهُودَ ؛ وَرَخَّصَ لِلْمُسْلِمِيْنَ فِي ذَلِكَ فَقَال :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾.
وعن ابن عباس قال :(كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَار مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ أهْلُ الْكِتَاب ؛ فَكَانُواْ يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلاً عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ ؛ وَكَانُواْ يَقْتَدُونَ بكَثِيْرٍ مِنَ فِعْلِهِمْ ؛ وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْيَهُودِ أنْ لاَ يَأْتُواْ النِّسَاءَ إلاَّ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أشَدُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْمَرْأةِ. وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَار قَدْ أخَذُوا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحاً مُنْكَراً، وَيَتَلَذَّذُونَ بهِنَّ مُقْبلاَتٍ وَمُدْبرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ ؛ فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِيْنَةِ، تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ امْرأةً مِنَ الأنْصَار، فَذَهَبَ يَصْنَعُ بهَا كَذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ! وَقَالَتْ : إنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَإنْ شِئْتَ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإلاَّ فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى شَرِيَ أمْرُهُمَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ مُقْبلاَتٍ وَمُدْبرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ). والمعنى :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ أي مُزْدَرَعٌ لكم للولدِ.
وقال الزجَّاج :(مَعْنَاهُ : نِسَاؤُكُمْ ذَوَاتُ حَرْثٍ لَكُمْ ؛ فَبَيَّنَ كَيْفَ يَحْرِثُونَ لِلْوَلَدِ وَاللَّذَّةِ) أي ﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ ﴾ كيفَ ﴿ شِئْتُمْ ﴾ وحيثُ شئتم ومتى شئتم بعد أن يكونَ في موضعٍ واحد وهو الفرجُ. قال أبو عُبيد :(سُمِّيَتِ الْمَرْأةُ حَرْثاً عَلَى وَجْهِ الْكِنَايَةِ ؛ فَإنَّهَا لِلْوَلَدِ كَالأَرْضِ لِلزَّرْعِ). وفي الآية دليلٌ على تحريم الوطئِ في الدُّبر ؛ لأنه موضعُ الفَرَثِ لا موضع الحرثِ ؛ وإنما قَالَ الله تعالى :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾ وهذا من لُطْفِ كناياتِ القرآنِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ ؛ نزلت هذه الآية في عبدِالله بن رواحةَ الأنصاري رضي الله عنه حَلَفَ ألاَّ يدخلَ على خَتَنِهِ بشيرِ بن النعمان الأنصاريِّ ولا يكلِّمه ولا يصلحَ بينه وبين خصمهِ ؛ وجعلَ يقولُ : حَلَفْتُ باللهِ أنْ أفْعَلَ وَلاَ يَحِلُّ لِي إلاَّ أنْ أبَرَّ فِي يَمِيْنِي ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَرَأ عَلَيْهِ الآيَةَ، وَقَالَ :" مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِيْنٍ فَرَأى أنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا ؛ فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ؛ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِهِ، افْعَلُواْ الْخَيْرَ وَدَعُواْ الشَّرَّ " وكفَّر ابنُ رواحة عن يَمينه ورجعَ إلى الذي هو خيرٌ.
ومعنى الآية :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ ﴾ علَّة ﴿ لأَيْمَانِكُمْ ﴾ أي لا تجعلوا اليمينَ باللهِ مانعةً لكم من البرِّ والتقوى ؛ وهو أن يجعلَ الرجلُ اليمينَ مُعْتَرَضاً بينهُ وبين ما هو مندوبٌ إليه أو مأمورٌ به من البرِّ والتقوى والإصلاحِ ؛ يفعلُ ذلك للامتناع من الخيرِ ؛ لأن المعترضَ بين الشيئين يمنعُ وصول أحدهما إلى الآخرِ. ومعنى ﴿ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ أي لا تَبَرُّواْ ولا تتقوا القطيعةَ، ولا تُصلحوا بين المتشاجرين كما قال امرؤُ القيس : فَقُلْتُ يَمِيْنَ اللهِ أبْرَحُ قَاعِداً وَلَوْ قَطَعُواْ رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِيأرادَ بذلك : لا أبرحُ ؛ وكان أبو العباس يُنكر إضمارَ حرفِ النفي في هذه الآية ويقولُ :(هَذَا إنَّما يَكُونُ فِي تَصْرِيْحِ الْيَمِيْنِ) كقولِكَ : واللهِ أقومُ ؛ بمعنى واللهِ لا أقومُ. وأما في مثل هذا الموضعِ، فلا يجوزُ حذفُ حرفِ النفي. قال :(وَالصَّوَابُ أنَّ مَعْنَاهُ : لاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ كَرَاهَةَ أنْ تَبَرُّواْ). فحُذفَ المضافَ وأُقِيمَ المضافُ إليه مقامَهُ ؛ ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ ﴾[النور : ٢٢].
وذهبَ بعضُ المفسرين إلى أنَّ معنى الآية :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾ أي لا تَعْتَرِضُواْ باليمينِ بالله تعالى في كلِّ حقٍّ وباطلٍ ؛ وهو نَهيٌ عن كثرة الحلفِ، لِما في ذلك من الْجُرْأةِ على الله عَزَّ وَجَلَّ والابتذالِ لاسمه في كلِّ حقٍّ وباطلٍ. يقال : هذه عُرْضَةٌ لكَ ؛ أي عدة لك تبتذلُها فيما تشاءُ. ومعنى ﴿ أَن تَبَرُّواْ ﴾ على هذا الإثباتِ ؛ أي لا تحلفوا في كلِّ شيء لأَنْ تبرُّوا إذا حلفتم وتتَّقوا الْمَآثِمَ فيها.
ويجوزُ أن يكونَ قولَهُ تَعَالَى :﴿ أَن تَبَرُّواْ ﴾ مبتدأ، وخبرهُ محذوف تقديرهُ، أنْ تبرُّوا وتتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ؛ أي أوْلَى. فعلى هذا يكون موضعُ ﴿ أَن تَبَرُّواْ ﴾ رَفْعاً. وعلى التأويلِ الأول يكون نصباً ؛ لأن معناهُ : لأنْ تَبرُّوا، موضعهُ نُصب بنَزع الخافضِ.
وقال مقاتلُ :(نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرِ الصِّدِّيْقِ رضي الله عنه حِيْنَ حَلَفَ لاَ يَصِلُ ابْنَهُ عَبْدَالرَّحْمَنِ حَتَّى يُسْلِمَ). وقال ابنُ جريج :(نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رضي الله عنه حِيْنَ حَلَفَ لاَ يُنْفِقُ عَلَى مُسْطَحٍ حِيْنَ خَاضَ فِي حَدِيْثِ الإفْكِ).
قال المفسرونَ : هذا في الرجلِ يحلفُ بالله أن لا يَصِلَ رَحِمَهُ، ولا يكلِّمُ قرابتَه، ولا يتصدَّق، ولا يصنعُ خيراً، ولا يُصْلِحُ بين اثنين. فأمرهُ الله تعالى أن يَحْنِثَ في يمينه ويفعلَ ذلك الخير ويكفِّر عن يمينهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي سَميع لأيمانِكم عليم بما تقصدون باليمين عند الحلفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ ؛ اختلفَ العلماءُ في لَغْوِ اليمين المذكور في هذه الآيةِ ؛ فقال قومٌ : هو ما يَسْبقُ به اللسانُ على سرعةٍ وعجلة ليصلَ به كلامهُ من غير عَقْدٍ ولا قصدٍ ؛ مثلُ قول الإنسان : لاَ واللهِ ؛ بلى والله ؛ ونحو ذلكَ. فهذا لا كفَّارة فيه ولا إثْمَ عليه، وعلى هذا القولِ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا والشعبيُّ وعكرمة ومجاهدُ.
وقال أخرون : لَغْوُ الْيَمِيْنِ هو أنْ يحلفَ الإنسانُ على شيءٍ يرى أنه صادقٌ فيه، ثم تبينُ له خلاف ذلك ؛ فهو خطأٌ منه غير عمدٍ، فلا إثمَ عليه ولا كفارةَ ؛ وعلى هذا القولِ ابنُ عباس والزهري والحسن وإبراهيمُ النخعي وقتادة والربيعُ وزرارة بنُ أوفى ومحكولُ والسديُّ. وقال عليٌّ رضي الله عنه وطاووسُ :(اللَّغْوُ الْيَمِيْنُ فِي حَالَةِ الْغَضَب وَالضَّجَرِ مِنْ غَيْْرِ عَقْدٍ) وَلاَ عَزْمٍ)، ومثلهُ مرويٌّ عن ابن عباس. يدلُّ عليه قولهُ ﷺ :" لاَ يَمِيْنَ فِي غَضَبٍ ".
وقال بعضُهم : هو اليمينُ في المعصيةِ، لا يؤاخذهُ الله بالحنثِ في يمينه ويكفِّرُ، وبه قال سعيدُ بن جبيرٍ. وقال غيرهُ : ليس عليه في ذلك كفَّارة. وقال مسروقُ في الرجلٍ يحلفُ على المعصيةِ :(كَفَّارَتُهُ أنْ يَتُوبَ عَنْهَا، وَكُلُّ يَمِيْنٍ لاَ يَحِلُّ لَهُ أنْ يَفِيَ بهَا فَلَيْسَ فِيْهَا كَفَّارَةٌ ؛ وَلَوْ أمَرَهُ بالْكَفَّارَةِ لأَمَرْتُهُ أنْ يَتِمَّ عَلَى قَوْلِهِ). يدلُّ عليه ما رويَ عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" مَنْ نَذَرَ فِيْمَا لاَ يَمْلِكُ فَلاَ نَذْرَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ يَمِيْنَ لَهُ ".
وعنِ إبراهيم النخعيِّ قال :(لَغْوُ الْيَمِيْنِ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ كَلاَمَهُ بالْحَلْفِ، كَقَوْلِهِ : وَاللهِ لَيَأْكُلَنَّ ؛ وَاللهِ لَيَشْرَبَنَّ ؛ وَنَحْوِهَا، لاَ يَقْصِدُ بذَلِكَ الْيَمِيْنَ وَلاَ يُرِيْدُ بهِ حَلْفاً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيْهِ كَفَّارَةٌ). يدلُّ عليه ما " رويَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بقَوْمٍ يَنْتَضَّلُونَ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابهِ ؛ فَرَمَى رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ : وَاللهِ أصَبْتُ ؛ وَاللهِ أخْطَأْتُ. فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ : حَنَثَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ ﷺ :[كُلُّ أيْمَانِ الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيْهَا وَلاَ عُقُوبَةَ ".
وقالت عائشةُ :(أيْمَانُ اللَّغْوِ مَا كَانَ فِي الْهَزْلِ وَالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَةِ وَالْحَدِيْثِ الَّذِي لاَ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ). وقال زيدُ بن أسلمَ :(هُوَ دُعَاءُ الْحَالِفِ لِنَفْسِهِ، كَقَوْلِهِ : أعْمَى اللهُ بَصَرِي إنْ لَمْ أفْعَلْ كَذَا، أخْرَجَنِي اللهُ مِنْ مَالِي إنْ لَمْ آتِكَ غَداً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ أي بما تعمَّدتم الكذبَ ؛ وهو أن يحلفَ على شيءٍ يعلمُ أنه ليس كذلكَ. والمعنى :(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ } بما عزمتم وقصدتُم وتعمدتُم ؛ لأن كَسْبَ القلب العقدُ والنيةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ ؛ أي ﴿ غَفُورٌ ﴾ لِمن تابَ من اليمين الغَمُوسِ، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ حين رَخَّصَ لكم في الحنثِ ولم يعاقبكم على اليمينِ على ترك البرِّ.
واللَّغْوُ في اللغةِ : الْكَلاَمُ السَّاقِطُ الَّذِي لاَ فَائِدَةَ فِيْهِ وَلاَ حُكْمَ لَهُ، يقال : ألْغَيْتُ الشَّيءَ إذا طَرَحْتُهُ. وقد يذكرُ اللَّغو ويراد به الكلامُ الفاحشُ القبيح، قال اللهُ تعالى :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾[القصص : ٥٥] وقال تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾[الفرقان : ٧٢].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(إنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّّةِ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكْرَهُ امْرَأتَهُ وَيَكْرَهُ أنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ، فَيَحْلِفُ أنْ لاَ يَطَأَهَا أبَداً وَلاَ يُخْلِي سَبيْلَهَا إضْرَاراً ؛ فَتَبْقَى مُعَلَّقَةً لاَ ذَاتَ زَوْجٍ وَلاَ مُطَلَّقَةُ، حَتَّى يَمُوتَ أحَدُهُمَا. فََأَبْطَلَ اللهُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَجَعَلَ الأَجَلَ فِي هَذَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ إذَا تَمَّتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا بَانَتْ بتَطْلِيْقَةٍ).
وفي قراءةِ عبدالله :(لِلَّذِينَ آلَوْ مِنْ نِسَائِهِمْ) على لفظ الماضي ؛ والإيْلاَءُ : الْحَلْفُ ؛ يقال : آلَى يُؤلِي إيْلاَءً ؛ والاسمُ الألية، قال الشاعرُ : عَلَيَّ اللهَ وَصِيَامَ شَهْر أُمْسِكُ طَائِعاً إلاَ يَكْفِيوجمعُ الأَلِيَّةِ الألاَيَا قال الشاعر : قَلِيْلُ الألاَيَا حَافِظٌ لِيَمِيْنِهِ إذَا نَذَرَتْ مِنْهُ الإلِيَّةُ بَرَّتِوالإيلاءُ في الشرع : هو الحلفُ على تركِ الجماع الذي يكسبُ الطلاق بمضيِّ المدةِ. ومعنى الآية : للذينَ يحلفون من نسائهم لا يقرَبوهُن أربعةَ أشهر. والترُّبصُ : التَّوَقُّفُ. وقال بعضهم : التَّرَبُّصُ : التَّصَبُّرُ.
قولهُ :﴿ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فإن رجعوا عما حَلَفُوا عليه ؛ فَقَرُبَ الرجلُ امرأتَه أو كان عاجزاً عن الوطءِ ففَاءَ بلسانهِ، ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ لذنب الإضرار بالامتناع عن الجماع، ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ بهم إذ رخَّص لهم القُربان بالكفارة. وفي قراءة ابنِ مسعود. (فَإِنْ فَاءُوا فِيْهِنَّ).
واختلفَ العلماءُ فيما يكون مُولياً على وجوه ؛ ما روي عن علي وابن عباس والحسن رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ :(أنَّ الإيْلاَءَ هُوَ الامْتِنَاعُ مِنَ الْجِمَاعِ عَلَى جِهَةِ الْغَضَب ؛ وَالإصْرَارُ بتَأْكِيْدِ الْيَمِيْنِ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ رَضِيْعٌ يَخْشَى أنْ يَقْرُبَ أُمَّهُ أنْ تَحْبَلَ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بالْوَلَدِ، فَحَلَفَ أنْ لاَ يَقْرَبَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِياً).
وقال النخعيُّ وابنُ سيرين والشعبيُّ :(هُوَ الْيَمِيْنُ عَلَى أنْ لاَ يُجَامِعَهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْغَضَب أوْ فِي الرَِّضَا). وبهذا القولِ قال علماؤُنا رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى حتى قال أبُو يوسف وأبو حنيفةَ ومحمدٌ :(كُلُّ يَمِيْنٍ فِي زَوْجَةٍ مُنِعَتْ جِمَاعَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ تَعَيِيْنَ إيْلاَءٍ ؛ وَفِي أُخْرَى فَهُوَ إيْلاَءٌ).
والقولُ الثالث : ما رُوي عن سعيدِ بنِ المسيَّب :(أنَّ الإيْلاَءَ هُوَ الْيَمِيْنُ فِي الْجِمَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الضَّرَر حَتَّى لَوْ حَلَفَ لاَ يُكَلِّمُهَا كَانَ مُولِياً).
والقولُ الرابع : قولُ عبدالله بنِ عمر :(أنَّهُ إذا هَجَرَهَا فَهُوَ إيْلاَءٌ)، ولم يذكر الحلفَ.
والتَّرَبُّصُ : انتظارُ الشيء خيراً أو شرّاً يَحِلُّ بكَ أو به ؛ ولذلك سُمي المحتكرُ متربصاً لانتظاره غلاءَ السِّعرِ، قال الشاعرُ : تَرَبَّصْ بهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْماً أوْ يَمُوتُ حَلِيْلُهَا
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي وإن حقَّقوا الطلاقَ بالإقامةِ على حكمِ اليمين إلى تَمام أربعةِ أشهرٍ ؛ ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لإيْلائهِم ؛ ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بهم وبنِيَّاتِهِمْ. والعَزْمُ في اللغة : هو العقدُ على فعلٍ في المستقبلِ ؛ يقال : عَزَمَ على كذا ؛ إذا عَقَدَ قلبَهُ عليه. والعزمُ الشرعيُّ المذكور في هذه الآية على ثلاثةِ أوجهٍ : قال ابنُ عباس :(عَزِيْمَةُ الطَّلاَقِ انْقِضَاءُ الأَرْبَعَةِ أشْهُرٍ قَبْلَ أنْ يَفِيءَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ)، وهو قولُ ابن مسعود وزيدِ بن ثابت وعثمانَ بن عفانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ؛ قالوا :(إنَّهَا تَبيْنُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ بتَطْلِيْقَةٍ)، وبه أخذَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ.
وعن عليٍّ وابن عمر وأبي الدرداءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مثلُ القْولِ الأول. وروي عنهُم أيضاً :(أنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإمَّا أنْ يَفِيءَ وَإمَّا أنْ يُطَلِّقَ) وهذا قولُ عائشة وآخرين. وبه قال مالكُ والشافعيُّ ؛ فَإنِ امْتَنَعَ عَنْهُمَا ؛ فللشافعيِّ قولان ؛ أحدُهما : يَحْبسُهُ الْحَاكِمُ وَلاَ يُجْبرُهُ عَلَى أحَدِ الأَمْرَيْنِ. والثانِي : يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ.
وقال ابنُ جبير وسالم والزهريُّ وعطاء وطاووسُ :(إذَا مَضَتْ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ). فإن قيلَ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يقتضي أنَّ عزيْمةَ الطلاق مسموعةٌ ولا يكون كذلك إلا بقولٍ من الزوجِ بعدَ الإيلاء ؟ قُلْنَا : هذا القولُ لا يصحُّ ؛ لأن اللهَ تعالى لم يَزَلْ سميعاً ولا مسموعَ وقد قال تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[البقرة : ٢٤٤] وليس هناكَ قولٌ.
قوله عزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ؛ وقال ابنُ عباس :(كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ، فَإنْ كَانَتْ حُبْلَى كَانَ أحَقَّ برَجْعَتِهَا وَإلاَّ كَانَتْ أحَقَّ بنَفْسِهَا، فَكَانَتِ الْمَرْأةُ إذا أحَبَّتِ الرَّجُلَ قَالَتْ أَنَا حُبْلَى، وَلَيْسَتْ حُبْلَى لِيُرَاجِعَهَا. وَإذا كَرِهَتْهُ وَهِيَ حُبْلَى قَالَتْ : لَسْتُ حُبْلَى ؛ لِكَي لاَ يَقْدِرَ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا. فَجَعلَ اللهُ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَاتِ ثَلاَثةَ قُرُوءٍ، وَنَهَى النِّسَاءَ عَنْ كِتْمَانِ مَا فِي أرْحَامِهِنَّ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ).
ومعنى الآيةِ :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ ﴾ يَنْتَظِرْنَ ﴿ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ ماذا يصنعُ بهن أزواجهُنَّ من الْمُرَاجَعَةِ وتركِ المراجعةِ. وقد اختلفَ السلفُ في القَرْءِ المذكور ؛ قال أبو بكرٍ وعمرُ وعثمان وابنُ عباس وابن مسعود وأبو موسَى الأشعري :(هُوَ الْحَيْضُ)، وقالُوا :(إنَّ الزَّوْجَ أحَقُّ بهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وبه أخذَ أبو حنيفةَ وأصحابُه. وقال ابنُ عمر وزيدُ بن ثابت وعائشةُ :(الأَقْرَاءُ هِيَ الأَطْهَارُ)، (وَإذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَلاَ سَبيْلَ لَهُ عَلَيْهَا)، وبه قال مالكُ والشافعيُّ.
وإنَّما اختلفَ السلفُ في هذه المسألة ؛ لأن القَرْءَ في اللغةِ عبارةٌ عن الحيضِ وعن الطُّهرِ ؛ وهو من أسْماء الأضدادِ، قالَ أبو عبيدةَ :(هُوَ خُرُوجٌ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ ؛ يُقَالُ : قَرَأ النَّجْمُ إذَا طَلَعَ ؛ وَقَرَأ النَّجْمُ إذَا غَابَ). والمرأةُ تخرج من الطهر إلى الحيضِ، ومن الحيضِ إلى الطهر. قال الشاعرُ : يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارضٍ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِوأرادَ بذلك الحيضَ ؛ يعني : أن عداوتَه تَهيجُ في أوقات معلومةٍ كما أن المرأةُ تحيضُ في أوقات معلومةٍ. وقال آخرُ : أفِي كُلِّ عَامٍ أنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَزِيْمَ عَزَائِكَاوَمُوَرِّثةٍ عِزّاً وَفِي الْحَيِّ رفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكاًوأرادَ بالقرءِ في هذا البيتِ الطُّهرَ ؛ لأنه خرجَ إلى الغزو ولم يَغْشَ نساءَه فأضاع أقراءَهُن ؛ أي أطهارَهن.
فلما اختلفَ السلفُ واختلفت اللغةُ في هذا الاسم لم يجب حملهُ على الأمرين جميعاً، ووجبُ حمله على حقيقتهِ دون مجازه. واسم القَرْءِ حقيقةٌ في الحيضِ ؛ مجازٌ في الطهر ؛ لأن كلَّ طهرِ لا يسمى قرءاً وإنَّما الطهرُ الذي يكونُ بين الحيضتين، فسُمِّي بهذا الاسم لمجاوزتهِ الحيضَ. فلو كان هذا الاسمُ حقيقةً في الطهرِ لكان لا ينتفي عنه بحالٍ ؛ لأنَّ الأسْماء الحقائقَ لا تنتفي عن مسمَّياتِها بحال ؛ ووجدنا هذا الاسمَ ينتفي عن طهرِ الآيسة والصغيرةِ، فكان حملهُ على الحيض أولَى من حمله على غيرهِ.
فإذا اختلفتِ الأمةُ في ذلك كان المرجعُ إلى لغةِ النبيِّ ﷺ وقد قالَ ﷺ :" الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أيَّامَ أقْرَائِهَا " وأرادَ بالأقراءِ الحيضَ بالإجماعِ، واتَّفَقَ الصَّحَابَةُ أن عدَّة أُمِّ الْوَلَدِ بالْحَيْضِ وكذلك الاستبراء.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ ؛ قال عروةُ بن الزبير وقتادة في معنى هذه الآيةِ :(إنَّ الطَّلاَقَ الَّذِي يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ مَرَّتَانِ ؛ فَإنَّهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لاَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ). وفي الآيةِ ما يدلُّ على هذا ؛ لأنَّ الله عَقَّبهُ بقوله :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾. وعنِ ابن عباس ومجاهدٍ :(أنَّ الْمُرَادَ بالآيَةِ بَيَانُ طَلاَقِ السُّنَّةِ).
وقولهُ :﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ لفظهُ لفظ الخبرِ ومعناه الأمرُ والندبُ، وفي لفظ المرَّتين دليلٌ على أن التفريقَ سُنَّة ؛ لأن من طَلَّقَ اثنتين معاً لا يُقال طلَّقها مرتين، وليس في هذه الآيةِ كيفيةُ سُنة التفريق. وقد فسَّره اللهُ تعالى بقوله :﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾[الطلاق : ١] وأرادَ بذلك تفريقَ الطلاق على إظهار العدة ؛ ألا تَرَى أنه تعالى خاطَبَ الرجالَ إحصاءَ العدة، وذكرَ الرجعةَ في سياقِ الآية بقوله :﴿ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴾[الطلاق : ١] وعلى هذا قالَ ﷺ لابْنِ عُمَرَ حِيْنَ طَلَّقَ امْرَأتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ :" مَا هَكَذَا أمَرَكَ رَبُّكَ ؛ إنَّمَا أمَرَكَ أنْ تَسْتَقْبلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالاً، فَطَلِّقْهَا لِكُلِّ قَرْءٍ تَطْلِيْقَةً ؛ فَإِنَّهَا الْعِدَّةُ الَّتِي أمَرَ اللهُ أنْ يُطَلَّقَ فِيْهَا النِّسَاءُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي عليكم إمساكهن بحُسْنِ الصحبةِ والمعاشرة إذا أردتُم الرجعةَ، ﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ أي يتركوهن حتى ينقضيَ تَمام الطُّهر ويَكُنَّ أملكَ لأنفسهن. " وروي أنَّ النَّبيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ؛ فَقِيْلَ لَهُ : أيْنَ التَّطْلِيْقَةُ الثَّالِثَةُ ؟ فَقَالَ :[فِي قَوْلِهِ :﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ ] ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :" نَزَلَتْ فِي جَمِيْلَةَ بنْتِ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَي ابنِ سَلُولٍ وَفِي زَوْجِهَا ثَابتِ بْنِ قَيْسٍ، كَانَتْ تَبْغَضُهُ بُغْضاً شَدِيْداً لاَ تَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ إلَيْهِ، وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبّاً شَدِيْداً لاَ يَقْدِرُ عَلَى أنْ يَصْبرَ عَنْهَا ؛ وَكَانَ بَيْنَهُمَا كَلامٌ، فَأَتَتْ أبَاهَا فَشَكَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ : إنَّهُ يَضْرِبُنِي وَيُسِيْءُ إلَيَّ! فَقَالَ لَهَا : ارْجِعِي إلَى زَوْجِكِ، فَأَتَّتْهُ الثَّانِيَةَ وَبهَا أثَرُ الضَّرْب، فَشَكَتْ إلَيْهِ فَقَالَ لَهَا : ارْجِعِي إلَى زَوْجِكِ. فَلَمَّا رَأتْ أنَّهُ لاَ يُشْكِيْهَا وَلاَ يَنْظُرُ فِي أمْرِهَا أتَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَشَكَتْ عَلَيْهِ وَأرَتْهُ أثَرَ الضَّرْب بهَا، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ، لاَ أنَا وَلاَ هُوَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى ثَابتٍ وَقَالَ :[يَا ثَابتُ، مَا لَكَ وَلأَهْلِكَ؟] قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ نَبيّاً ؛ مَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أحَبُّ إلَيَّ مِنْهَا غَيْرُكَ، لَكِنَّهَا لاَ تُطِيْعُنِي، فَقَالَ لَهَا النَّبيُّ ﷺ :[مَا تَقُولِيْنَ؟] فَكَرِهَتْ أنْ تَكْذِبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَالَتْ : مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكَ الْيَوْمَ حَدِيْثاً يَنْزِلُ عَلَيْكَ خِلاَفُهُ غَداً، هَوَ مِنْ أكْرَمِ النَّاسِ لِزَوْجَتِهِ لاَ أعِيْبُ عَلَيْهِ فِي دِيْنٍ وَلاَ خُلُقٍ، وَلَكِنِّي أبْغَضُهُ لاَ أنَا وَلاَ هُوَ. فَقَالَ ثَابتُ : قَدْ أعْطَيْتُهَا حَدِيْقَةٍ لِي، قُلْ لَهَا فَلْتَرُدَّهَا عَلَيَّ وَأَنَا أُخْلِي سَبيْلَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ :[أتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ وَتَمْلِكِيْنَ أمْرَكِ؟] قَالَتْ : نَعَمْ، وَزيَادَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلُهُ :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ الآيَةُ، فَقَالَ ﷺ :[أمَّا الزِّيَادَةُ فَلاَ] ثُمَّ قَالَ لِثَابتٍ : خُذْ مِنْهَا مَا أعْطَيْتَهَا وَخَلِّ سَبيْلَهَا، فَفَعَلَ "
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ ﴾ ؛ نزلت في ثابتِ بن يسار الأنصاري ؛ طلَّقَ امرأتَه حتى إذا انقضَتْ عدَّتُها إلاَّ يومين أو ثلاثة ؛ وكادت تَبيْنُ منه راجَعها، ثم طلَّقها ففعل بها مثل ذلك، حتى مضت لها سبعةُ أشهر مُضَارّاً لها بذلك. وكان الرجلُ إذا أراد ان يُضَارَّ امرأتَه طلَّقها ثم تركها حتى تحيضَ الثالثة، ثم راجعها، ثم طلَّقها فتطولُ عليها العدة، فهذا هو الضِّرَارُ ؛ فأنزلَ اللهُ هذهِ الآية.
ومعنى الآية :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ ﴾ تطليقةً أو تطليقتين ﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ أي قاربنَ وقتَ انقضاء العدَّة ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي احبسوهُنَّ بالرجعةِ على أحسنِ الصُّحبة، لا على تطويلِ العدَّة، ﴿ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ أي اتركوهن بمعروفٍ حتى ينقضي تَمامُ أجلهن، ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ﴾ أي لا تحبسوهنَّ في العدةِ إضراراً ﴿ لِّتَعْتَدُواْ ﴾ عليهن ؛ أي تظلموهُن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ ؛ أي من يفعل ذلك الاعتداء فقد عرَّضَ نفسه لعذاب الله بإتيانِ ما نَهى الله عنه، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُسْلِماً أوْ مَاكَرَهُ ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً ﴾ ؛ أي لا تتركوا ما حدَّ الله لكم من أمرِ الطلاق وغيرهِ فتكونوا مقصِّرين لاعبين. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأتَهُ أوْ يُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَقُولُ : إنَّمَا كُنْتُ لاَعِباً، فَيَرْجِعُ فِي الْعِتْقِ وَالنِّكَاحِ ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ ﷺ :" مَنْ طَلَّقَ لاَعِباً أوْ أعْتَقَ لاَعباً فَقَدْ جَازَ عَلَيْهِ " أي نَفَذَ عليه.
وعن رسولِ اللهِ ﷺ أنهُ قالَ :" ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : الطَّلاَقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ " وفي بعضِ الروايات :" الطَّلاَقُ، وَالْنِّكَاحُ، وَالرَّجْعَةُ " وروي في الخبرِ :" خَمْسٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ : الطَّلاَقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْنَّذْرُ ".
وعن أبي موسى الأشعريِّ قال :" غَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الأَشْعَرِيِّيْنَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ، غَضِبْتُ عَلَى الأَشْعَرِيِّيْنَ ؟ قَالَ :[يَقُولُ أحَدُكمْ لامْرَأتِهِ : قَدْ طَلَّقْتُكِ، ثُمَّ يَقُولُ : قَدْ رَاجَعْتُكِ، لَيْسَ هَذَا طَلاَقُ الْمُسْلِمِيْنَ، طَلِّقُواْ الْمَرْأةَ فِي قُبُلِ طُهْرِهَا] " وقال الكلبيُّ :(مَعْنَى ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً ﴾ أيْ أمْسِكُواْ بمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُواْ بإحْسَانٍ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ ؛ أي احفظوا مِنَّة الله عليكم في أمر الدين. وقيل :﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ بالإيمانِ، ﴿ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ ﴾ يعني القرآنَ، ﴿ وَالْحِكْمَةِ ﴾ يعني مواعظَ القرآنِ والحدودَ والأحكامَ. وقيل : الحكمةُ هي فِقْهُ الحلال والحرامِ. وقوله :﴿ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ أي ينهاكم عن الإضرار وسائر المعاصي.
قوله عَزَّ وَجَّل :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ قال الحسنُ وقتادة :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ، كَانَتْ أُختُهُ جُمَيْلُ تَحْتَ أبي الْبَدَّاحِ طَلَّقَهَا تَطْلِيْقَةً وَاحِدَة ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى طَلاَقِهِ إيَّاهَا ؛ فَخَطَبَهَا فَرَضِيَتِ الْمَرْأةُ بذَلِكَ وَأحَبَّتْ أنْ تُرَاجِعَهُ، وَأبَى أخُوهَا مَعْقِلُ وَقَالَ لَهَا : إنِّي اخْتَرْتُهُ عَلَى أشْرَافِ قَوْمِي فَطَلَّقَكِ، ثُمَّ تُرِيْدِيْنَ أنْ تُرَاجِعِيْهِ؟! وَجْهِي مِنْ وَجْهِكِ حَرَامٌ أبَداً لأَنْ تَزَوَّجْتِيْهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ يَنْهَى مَعْقِلاً عَمَّا صَنَعَ).
وروي أنَّ أبَا الْبَدَّاحَ لَمَّا طلَّقَهَا وَتَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطِبُهَا وَأرَادَ مُرَاجَعَتَهَا، وَكَانَتِ الْمَرْأةُ تُحِبُّ مُرَاجَعَتَهُ، قَالَ لَهُ أخُوهَا : أفْرَشْتُكَ كَرِيْمَتِي وَآثَرْتُكَ عَلَى قَوْمِي فَطَلَقْتَهَا وَلَمْ تُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَجِئْتَ تَخْطِبُهَا؟! وَاللهِ لاَ أنْكِحُهَا أبَداً. فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعنَاها :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ ﴾ واحدةً أو اثنتين، ﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ يعني انقضت عدَّتُهن، وأرادَ ببلوغِ الأجلِ في هذه الآيةِ حقيقةَ البلوغِ بانقضاءِ العدَّة، ﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ أي لا تَمْنعوهُنَّ ﴿ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ يعني الذين كانوا أزواجاً لَهنَّ من قَبلُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أي إذا تراضَوا بنكاحٍ جديد ومهرٍ وشهود ؛ وما لا يكون مُستنكراً في عقلٍ ولا عادةٍ ولا خُلق.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ؛ أي ذلك الذي ذُكر من النَّهي عن العضلِ ﴿ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ ويؤمنُ بالبعث. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذالِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ﴾ ؛ أي أن لا تَمنعوها خيرٌ لكم وأفضلُ وأدخلُ في التزكية من المنعِ لَهنَّ، وأطهرُ من الذنب وأبعدُ من الريبة ؛ لأنه إذا كان في نفسِ كلِّ واحد منهما علاقةُ حُبٍّ لَمْ يُؤْمَنْ أن يتجاوزَا ذلك إلى غيرِ ما أحلًّ الله لَهما.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي (وَاللهُ يَعْلَمُ) حُبَّ كلٍّ منهما لصاحبهِ، ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ذلكَ. ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ ما لكم فيه الصلاحُ في العاجلِ والآجل، ويعلمُ ما يُزَكِّيْكُمْ مِمَّا يُرْدِيْكُمْ ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ ذلكَ.
فلما نزلت هذه الآية دَعَا النَّبيُّ ﷺ مَعْقِلاً فَقَرَأ عَلَيْهِ الآيَةَ وَقَالَ :" [إنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ تَمْنَعْ أُخْتَكَ مِنْ أبي الْبَدَّاحِ] فَقَالَ : إنِّي أُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأُشْهِدُكَ أنِّي قَدْ أنْكَحْتُهُ " وَكَفَّرَ عَنْ يَمِيْنهِ.
والْعَضْلُ في اللغة له معنَيان ؛ أحدُهما : المنعُ ؛ يقال : عَضَلَ الرجلُ المرأةَ يَعْضِلُهَا وَيَعْضُلُهَا إذا مَنَعَهَا من الأزواجِ ظُلماً. وَأعْضَلَ الداءُ الأطباءَ إذا أعياهم عن معالجتهِ، ويقال : داءٌ عُضَالٌ ؛ ومَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ. والآخرُ : التضييقُ ؛ يقال : عَضَلَ القضاءُ بالجيشِ إذا ضاق بهم، وعَضَلَتِ المرأةُ بولدِها إذا عَسُرَ خروجُه.
وفي الآيةِ دليلٌ على جواز نكاحِ المرأة على نفسِها إذا عقدت بغيرِ وليٍّ ؛ لأنَّ الله تعالى أضَافَ العقدَ إليها ونَهى الولِيَّ عن عَضْلِهَا إذا تراضَى الزوجان بالمعروفِ. ويدلُّ على ذلك قولهُ :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ ﴾[البقرة : ٢٣٠]. وقولهُ :﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾[البقرة : ٢٣٤].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ ؛ أي والمطلقاتُ اللاَّتِي لهن أولادٌ من أزواجهن المطلِّقين ولدنَهم قبلَ الطلاقِ أو بعده ؛ وقوله :﴿ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ لفظهُ لفظ الخبرِ ومعناه : الأمرُ، كأنه قال : لِتُرْضِعِ الوالداتُ أولادَهنَّ، كما قال تعالى :﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾[البقرة : ٢٢٨] يدلُّ على ذلك أنه لو كانَ قوله :﴿ يُرْضِعْنَ ﴾ خبراً لَمَا وُجِدَ مُخْبَرُهُ على خلاف ما أخبرَ الله به ؛ فلما كان من الوالداتَ مَن لا ترضعُ ؛ عُلِمَ أنه لَمْ يرد به الخبرَ ؛ فكان هذا محمولاً في حالِ قيام النكاح على الأوامرِ الواجبة من طريقِ الدين لا من جهة الحكم ؛ فإنَّها إذا امتنعت من الإرضاعِ لم يكنْ للزوجِ أن يُجْبرَهَا على ذلك من حيثُ الحكمُ، وإن أرضعتُ لم تستحقَّ نفقة الرضاع مع بقاءِ الزوجية، ولا يجتمعُ لها نفقتان.
وفي الآيةِ إثباتُ حقِّ الرضاعِ للأم، وبيانُ مدة الرضاعِ للمستحق على الولد، فإنَّ الولد لو امتنع من الإرضاع في الحولين أُجبر عليه كما قَالَ تعالى في آيةِ المطلقات :﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾[الطلاق : ٦] وقالَ :﴿ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾[الطلاق : ٦].
فإن قيلَ : كيفَ قال الله تعالى :﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ﴾ والحَوْلان لا يكونان إلا كاملينِ ؟ قيل : لإزالة الإبْهام ؛ فإنَّ الإنسان قد يقولُ : أقمتُ عند فلانٍ سنتين ؛ إذا كان قريباً مِن سنتين، وسِرْتُ شهراً ؛ إذا كان قريباً من شهرٍ، فبيَّن اللهُ تعالى أنَّهما حَولانِ كاملان : أربعةٌ وعشرون شهراً من يومِ يولدُ إلى أنْ يُفطمَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ أي لِمن أرادَ من الآباء أن يُتِمَّ الرضاعةَ المفروضة عليهِ ؛ أي هذا منتهى الرضاعةِ وليس فيما دون ذلك وقت محدودٌ، وإنما هو على مقدار إصلاح الصبيِّ وما يعيشُ به.
قرأ أبو رجاء :(الرِّضَاعَةُ) بكسرِ الراء ؛ قال الخليلُ :(وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الْوَكَالَةِ وَالْوِكَالَةِ ؛ وَالدَّلاَلَةِ والدِّلاَلَةِ). وقرأ مجاهدُ :(لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضْعَةَ) وهي فَعْلَةُ كالْمَرَّةِ الواحدة، وقرأ عكرمة :(لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةُ) على الفاعلِ. وقرأ ابنُ عباس :(لِمَنْ أرَادَ أنْ يُكْمِلَ الرَّضَاعَةَ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ ؛ معناهُ : وعلى الأب نفقتُهن وكسوتُهن كما يُعْرَفُ أنه العدلُ، يكون ذلك أجرةً لَهن على الرضاع إذا كانَ إرضاعُ الولد بعد الفراقِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ أي لا يُجبر الأب على النفقةِ والكسوة إلا مقدارَ طاقته، والتكليفُ هو الإلزامُ، قال الضحَّاك :(هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ الْمُزَوَّجَاتِ ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَابَلَ هَذِهِ النَّفَقَةَ بالإرْضَاعِ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ لاَ تَجِبُ بالإرْضَاعِ وَإنَّمَا تَجِبُ بسَبَب الزَّوْجِيَّةِ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾ ؛ قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ ويعقوبُ وسلامُ برفع الراء مشدَّدةً على الخبرِ مَنْسُوقاً على قوله :﴿ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ ﴾ وأصلهُ :(لا تضاررُ) فأُدغمت الراءُ في الراءِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ ؛ معناه : إنَّ الذين يَموتون منكم ويتركونَ نساءَهم من بعدهم ؛ ينتظرونَ في عدتِهن ؛ معنى ﴿ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ لا يتزوجنَ ولا يتزيَّنَّ في هذه المدةِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ ؛ أي إذا انقضت عِدتُهن ؛ ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ؛ أي لا حرجَ عليكم في تركهنَّ بعد انقضاء المدة ليتزيَّن زينةً لا يُنكر مثلها، ويتزوجنَ من الأكْفَاءِ ويفعلنَ كُلَّ معروفٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ؛ أي بما تعملون من الخيرِ والشر عالِمٌ يجزيكم به.
فإن قيل :(الَّذِيْنَ) اسمٌ موصول و ﴿ يُتَوَفَّوْنَ ﴾ ﴿ وَيَذَرُونَ ﴾ من صلته، وجملته مبتدأ ؛ و ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ فعلُ الأزواجِ لا فعلُ ﴿ الَّذِينَ ﴾ ولا فيه ضميرٌ عائد إلى ﴿ الَّذِينَ ﴾ ؛ فيبقى المبتدأُ بلا خبرٍ، والمبتدأُ لا يخلو من خبر اسماً كان أو فعلاً ؛ وليس من ذلك ها هُنا شيءٌ ؟ قيل : قال أبو العباسِ السرَّاج :(فِي الآيَةِ ضَمِيْرٌ تَقْدِيْرُهُ : أزْوَاجُهُمْ يَتَرَّبَصْنَ) لأن الفعلَ يدلُّ على الفاعل. وقال الأخفشُ :(تَقْدِيْرُهُ : يَتَرَبَّصْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ) حتى يكون الضميرُ عائداً إلى ﴿ الَّذِينَ ﴾. وذكرَ الزجَّاج : أنَّ النُّونَ فِي قَوْلِهِ ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ قَائِمٌ مَقَامَ الأَزْوَاجِ كِنَايَةٌ عَنْهَا لاَ مَحَالَةَ فَصَارَ كَالتَّصْرِيْحِ، وهذا كما يُقال : الذي يَموت ويخلف ابنتين ترثانِ الثلثين ؛ معناه يرثُ ابنتاهُ الثلثين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَشْراً ﴾ ظاهرُ لفظِ العشر يتناول الليالي ؛ ألا تَرى أنه يقالُ للأيام : عشرةُ أيامٍ ؛ وإنَّما غلبَ لفظ التأنيث في الآية فقيل :(عَشْرًا) ؛ لأنَّ العرب تُقَدِّمُ الليلَ على النهار ويعدُّون أولَ كلِّ شهر من الليلة ؛ ألا تراهم يُصَلُّونَ التراويحَ إذا رأوا الهلالَ ويَدَعُونَها إذا رأوا هلال شوَّال. ومن عادتِهم أنَّهم إذا ذكروا أحدَ العددَين على سبيل الجمعِ أرادوا مثلهُ العدد الآخر ؛ كما قال تعالى في قصَّة زكريَّا عليه السلام :﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾[آل عمران : ٤١] وقالَ في موضعٍ آخر :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾[مريم : ١٠] والقصةُ واحدة، فعبَّر تارةً بالأيام عن الليالي، وتارةً بالليالي عن الأيام.
ويقال : الحكمةٌُ في تقديرِ عدَّة الوفاة بأربعةِ أشهر وعشرٍ ما روي عن عبدِالله بن مسعودٍ أنه قالَ :[يُجْمَعُ خَلْقُ أحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِيْنَ يَوْماً نُطْفَةً، وَأرْبَعِيْنَ يَوْماً عَلَقَةً، ثُمَّ أرْبَعِيْنَ يَوْماً مُضْغَةً، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيْهِ الرُّوحُ فِي عَشْرَةِ أيَّامٍ، فَيُكْتَبُ أجَلُهُ وَرزْقُهُ وَأنَّهُ شَقِيٌّ أوْ سَعِيْدٌ]. فيجوزُ أنَّ الله قدَّر هذه في عدَّة الوفاة ؛ ليظهر أنَّها حاملٌ أو حائل.
واختلفوا في عدَّة الحاملِ ؛ فقال عمرُ وابن مسعودٍ وعبدالله بن عمرَ وأبو هريرةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ :(أنَّ الْحَامِلَ تَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ إذَا وَضَعَتْ. وإنْ كَانَ زَوْجُهَا عَلَى السَّرِيْرِ) حتى قال ابنُ مسُعود :(مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ، إنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ الآيةُ، قال ابنُ عباس :(التَّعْرِيْضُ : هُوَ أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلْمُعْتَدَّةِ : إنِّي أُريْدُ النِّكَاحَ وَأُحِبُّ الْمَرْأةَ مَنْ صِفَتُهَا كَذَا وَكَذَا ؛ فَيَصِفُهَا بالصِّفَةِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا حَتَّى تَعْلَمَ رَغْبَتَهُ فِيْهَا). وقيل : هو أن يقولَ لَها : إنكِ لتعجبينني وأرجُو أن يجمعَ الله بيني وبينكِ، أو يقول : يا ليتَ لي مثلكِ وإن قضَى اللهُ أمراً كانَ.
ومعنى الآية :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ ﴾ اللواتي هُنَّ في عدَّة موتٍ أو طلاقٍ بائن أو ثلاثٍ، قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ معناهُ : أو أضمرتُم في قلوبكم العزمَ على النكاحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ ؛ أي ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ﴾ في العدَّة لرغبَتكم فيهنَّ وخوفكم لسبقَ غيرِكم إليهنَّ، ﴿ وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾ أي لا يواعدُها الخاطِب في السرِّ ولا يواثقُها ؛ أي أن لا يتزوجَ غيرها. وقيل : لا يواعدُها في السرِّ تصريحاً. وقيلَ : المرادُ بالسرِّ الجمِاعُ ؛ لأنه لا يكون إلا في السرِّ، كأنه يقولُ : لا يُتعِبُ الخاطبُ نفسَه لها لرغبتها في نفسه.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ ؛ أي إلا أن يعرِّضوا بالخطبة كنايةً من غير إفصاح. قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ ؛ أي لا تعزموا على عقدِ النكاحِ، حذفَ (على) للتخفيف كما يقالُ : ضربتُ فلاناً ظهرَه وبطنَه ؛ أي على ظهرهِ وعلى بطنهِ. ومعنى :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾ أي حتى يبلُغَ فرضُ المطلقات أجلَهُ ؛ أي حتى تنقضي العدةُ ؛ فإن العدَّةَ فرضُ القرآن.
قَولُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ ؛ أي يعلمُ ما في قلوبكم من الوفاءِ وغير ذلك فاحذروا أن تخالفوه فيما أمركم ونَهاكم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ ؛ أي ﴿ غَفُورٌ ﴾ لمخالفتكم إن تُبْتُمْ، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ حين لم يعجِّل عليكم بالعقوبةَ.
والتَّعْرِيْضُ في اللغة : هو الإيْمَاءُ والتَّلْوِيْحُ والدَّلاَلَةُ على الشيءِ من غيرِ كشفٍ ولا تبيينٍ، نحوُ أنْ يقولَ الرجلُ لغيره : مَا أقبحَ البخلَ! يعرِّضه لذلكَ، والخِطْبةُ بكسر الخاء : هي الكلامُ الذي يستدعي به إلى النكاحِ. والخُطبةُ بالضم : هو الكلامُ المؤلَّفُ إما بموعظةٍ أو دُعاء إلى شيءٍ.
والكنايةُ : هي الدلالةُ على الشيءِ مع العدول عن الاسمِ عن الاسمِ الأخصِّ إلى لفظٍ آخر يدلُّ عليه، نحو أن يُكَنِّي عن زيدٍ فيقولُ لغيره : ما أبْخَلَ صديقكَ، وما أبخلَ الذي كُنا عنده. والإكنانُ : هو السَّتْرُ، يقال في كل شيء سَتَرْتَهُ أكْنَنْتُهُ ؛ وفيما يصونهُ كنيةً. قال الله تعالى :﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ﴾[الصافات : ٤٩] أي مَصُونٌ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾ ؛ أي لا حرجَ عليكم إن طلقتمُ النساءَ ما لم تجامعوهن أو تُسَمُّوا لَهُنَّ مَهراً ؛ ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ أي متِّعوا اللاَّتي طلقتموهن قبل المسيسِ. والفرضُ على الغنيِّ بمقدار غناه، وعلى الفقيرِ بمقدار طاقتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ أي ما تعرفونَ أنه القصدُ وقدر الإمكانِ ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي واجباً على المؤمنين. وانتصبَ (مَتَاعاً) على المصدر من قولهِ تعالى :﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾. ونصبَ (حَقًّا) على الحالِ من قوله ﴿ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً ﴾ تقديرهُ : عُرِفَ حَقّاً. ويجوزُ أن يكون : نصباً على معنى : حُقَّ ذلكَ عليهم حقّاً.
وفي الآيةِ دلالةُ جواز النكاحِ بغير تسميةِ المهر ؛ لأن اللهَ تعالى حَكَمَ بصحةِ الطلاق مع عدمِ التسميةِ، والطلاقُ لا يصحُّ إلا في نكاحٍ صحيح. ومعنى ﴿ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ أي ما لم تَمَسُّوهُنَّ ولم تفرضوا لهنَّ فريضةً. وقد تكون (أو) بمعنى الواو كقوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾[الإنسان : ٢٤] وكذلك قولهُ :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ ﴾[النساء : ٤٣] ؛ المعنى : وجاءَ أحدٌ منكم من الغائطِ.
وأعلى الْمُتْعَةِ : خادمٌ وثياب ووَرقٌ، وأدناها : خمارٌ ودِرعٌ ومِلْحَفَةٌ. ولا يجاوزُ بالمتعةِ نصفَ المثل بغيرِ رضا الزوج. وقد اختلفَ السلفُ في أن هذه المتعةَ هل يُجبر الزوج عليها أم لا ؟ قال شُريح :(إنَّ الْقَاضِي يَأْمُرُ الزَّوْجَ بهَا مِنْ غَيْرِ أنْ يُجْبرَهُ عَلَيْهَا). وكان شُريح يقول للزوج :(إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ أوْ مِنَ الْمُحْسِنِيْنَ فَمَتِّعْهَا).
وأما عندنا فإنَّ القاضي يُجبر الزوجَ على المتعةِ للمرأة التي طلَّقها قبلَ المسيسِ والفرضِ ؛ لأنَّ الله تعالى قال :(حَقّاً) وليسَ في ألفاظ الإيجاب آكدُ مِن قولهم :(حَقّاً عليه). وفي قولهِ :﴿ عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ بيانُ أنَّها من شروطِ الإسلام ؛ وعلى كلِّ أحدٍ أن يكون مُحسناً كما قالَ تعالى :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾[البقرة : ٢] وهو هدًى للناسِ كلهم. وقيل : إنَّما خصَّ المحسنين بالذكرِ تشريفاً لهم ؛ لأنه لا يجبُ على غيرهم، فوصفَ المؤمنين بالإحسانِ ؛ لأن الإحسانَ أكثرُ أخلاقِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾ ؛ معناهُ :(وَإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ) أن تجامعوهنَّ وقد سَمَّيتم لهن مهراً، فعليكم نصفُ ما سَميتم من المهرِ، إلا أن يتركنَ ما وجبَ لهن من الصِّداقِ، بأن تقولَ إحداهن : ما مَسَّنِي ولا قَرُبَنِي فَأَدَعُ له المهرَ.
قولهُ :﴿ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ ؛ ذهبَ أكثرُ المفسرين إلى أن الذي بيدهِ عقدةُ النكاح هو الزوجُ ؛ وعفوهُ أن يترُكَ لها جميعَ الصَّداق ولا يرجعُ عليها بشيءٍ منه إذا كان قد أعطاؤها مهرَها ؛ وإن لم يكن أعطاهَا فعفوهُ أن يتفضَّل عليها بأن يُتِمَّ لها جميعَ مهرها. وقد يكون الصَّداقُ عبداً بعينهِ أو عرضاً بعينه لا يُمكن تَمليكه بالإسقاطٍ والإبراء من واحدٍ من الجانبين، فيكونُ معنى العفوِ في ذلك الفضلُ ؛ وفي الآيةِ ما يدلُّ على ذلك وهو قولهُ :﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾. وإنَّما ندبَ الزوجَ إلى تتميم الصداقِ ؛ لأنه إذا تزوَّجها ثم طلَّقها فقد فعل ما يُشِينها، فكان الأفضلُ أن يعطيها مهرَها.
وذهبَ بعضُهم إلى أن (الَّذِي بيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) هو ولِيُّ المرأةِ حتى قالَ مالك لأبي البكرٍ : أنْ يسقطَ نصفَ الصَّداق عن الزوجِ بعد الطلاق قبلَ الدخول. والصحيحُ : هو الأول ؛ لأن قولَه ﴿ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ يقتضي عقدةً موجودة، والزوجُ هو الذي يَملك استدامةَ النكاحِ وحَلِّهِ، وهو الذي يَملك العقدَ على نفسهِ من غير ولِيٍّ يحتاجُ إليه. وتكونُ عقدة النكاحِ على الحقيقةِ بيدِ الزوج. وأما ولِيُّ المرأةِ فلا يَملك العقدَ عليها إلا برضاها، ولا يَملك إسقاطَ سائر حقوقِها.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ؛ ندبَ اللهُ كلَّ فريقٍ من الزوجِ والمرأة إلى العفوِ، كأنه قال : أيُّهما عَفَا عن صاحبهِ فقد أخذَ بالفضلِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ أي أقربُ إلى أن يتَّقي أحدُهما ظلمَ صاحبهِ، فإنَّ من تركَ حقَّهُ كان أقربَ إلى أن لا يظلمَ غيره بطلب ما ليس له، ومن بَذَلَ النفلَ كان أقربَ إلى بذلِ الفرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ ؛ أي لا تتركُوا الإحسانَ والإنسانيةَ فيما بينكم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ ؛ أي بما تعملون من الفضلِ والإحسانِ بصيرٌ عالِمٌ يجزيكم به. ونسيانُ الفضلِ هو الاستقصاءُ في استيفاء الحقِّ على الكمالِ حتى لا يتركَ شيئاً من حقِّه على صاحبهِ. فظاهرُ هذه الآية يقتضِي أن الزوجَ إذا كان سَمَّى لها مَهراً بعدَ عقد النكاحِ ثم طلَّقها ينتصفُ ؛ وإليه ذهب مالكٌ والشافعي ؛ وهو قولُ أبي يوسفَ الأول ثم رجعَ إلى قولِ أبي حنيفة ومحمد. فكأن المرادَ بهذه الآيةِ على قولهم : أنْ يكونَ الفرضُ في نفسِ العقد ؛ لأن التسميةَ بعد تَمام عقدِ النكاح تقديرٌ لمهر المثلِ أو بدلٌ عنه، فيسقطُ بالطلاقِ قبل الدخول ؛ فتجبُ المتعة.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاوةِ الْوُسْطَى ﴾ ؛ أي وَاظِبُوا وداومُوا على الصلواتِ المفروضةِ في مواقيتِها وشروطِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ والصَّلَاوةِ الْوُسْطَى ﴾ اختلفُوا فيها ؛ فعن عليٍّ وابنِ عباس وأبي هريرةَ وعبدالله والحسنِ والنخعيِّ وقتادة وأبي أيوبَ والضحاكِ والكلبيِّ ومقاتل :(إنَّهَا صَلاَةُ الْعَصْرِ) يدلُّ عليه ما رَوى سمرة بن جندبٍ عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" الصَّلاَةُ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ " وفي بعضِ الأخبار : هي التي فرَّط فيها سليمانُ.
وعن هشامِ بن عروةَ عن أبيهِ قال : كَانَ فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا :(حَافِظُوا علَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ) ﴿ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ ﴾ ؛ وهكذا كان يقرؤُها أُبَيّ بن كعبٍ. وعن أبي يونسَ رضي الله عنه مولَى عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ قَالَ : أمَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنْ أكْتُبَ لَهَا مُصْحَفاً، فَقَالَتْ : إذا بَلَغْتَ ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ ﴾ فَآذنِّي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أعْلَمْتُهَا فَأَمْلَتْ عَلَيَّ :(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ).
وروى نافعٌ عن حفصةَ زوجِ النبيِّ ﷺ أنَّهَا قَالَتْ لِكَاتِب مُصْحَفِهَا : إذَا بَلَغْتَ ( ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاوةِ الْوُسْطَى ﴾ فَأَخْبرْنِي، حَتَّى أُخْبرَكَ بَما سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمَّا بَلَغَ إلَى ذَلِكَ وَأخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَهُ : اكْتُبْ، فَإنَّي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطََى صَلاَةِ الْعَصْرِ ".
وعن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قالَ يومَ الخندقِ :" شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَاراً " وقال عليٌّ رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً " ثُمَّ صَلاَّهَا بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ
" ورويَ أن رجلاً قال في مجلسِ عمر بن عبدالعزيز بنِ مروان : أرْسَلَنِي أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأنَا غُلاَمٌ صَغِيْرٌ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أسْأَلُهُ عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى، فَأَخَذَ بإصْبَعِي الصَّغِيْرَةِ وَقَالَ :[هَذِهِ الْفَجْرُ] وَقَبَضَ الَّتِي تَلِيْهَا وَقَالَ :[هَذِهِ الظُّهْرُ]، ثُمَّ قَبَضَ الإبْهَامَ وَقَالَ :[هَذِهِ الْمَغْرِبُ] ثُمَّ قَبَضَ الَّتِي تَلِيْهَا وَقَالَ :[هَذِهِ الْعِشَاءُ] ثُمَّ قَالَ :[أيُّ أصَابعِكَ بَقِيَ؟] قُلْتُ : الْوُسْطَى، وَقَالَ :[وَأيُّ صَلاَةٍ بَقِيَتْ؟] قُلْتُ : الْعَصْرُ، قَالَ :[هِيَ الْعَصْرُ] ".
قالوا : وإَّما كانت العصرُ هي الوسطى ؛ لأنَّها بينَ صلاتَي ليل وصلاتَي نَهارٍ ؛ وإنَّما خصَّها بالذكر لأنَّها تقعُ في وقت اشتغالِ الناس بأمور البيت، فخصَّها بالذِّكر للحثِّ عليها. روى بُرَيْدَةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" بَكِّرُواْ بالْعَصْرِ يَوْمَ الْغَيْمِ، فَإنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبطََ عَمَلُهُ " وروى نافعٌ عن ابنِ عمر : أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ :
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ ؛ أي إذا خِفتم من العدوِّ ولم يُمكنكم أن تقوموا قانتينَ موفِّين حقَّ الصلاة ؛ فصلُّوا قياماً على أرجلِكم ؛ وحيثُما توجَّهتم بالإيْماء إذا يُمكنكم استقبالُ القبلةِ وإقامةُ الركوعِ والسجود. ﴿ أَوْ رُكْبَاناً ﴾ على دوابكم إذا لم يُمكنكم استقبالُ القبلة وإقامة الركوع والسجودِ ؛ ولم تستطيعوا النُّزول فصلوا رُكباناً حيثما توجَّهت بكم لا عُذرَ لكم في تركِ الصلاة حالةَ الخوف.
وانتصبَ (رجَالاً) على الحالِ. وكان الحسنُ يقول :(فَرِجَالاً) أي قائمين ماشِين.
وذهب أبو حنيفةَ وأصحابُه إلى أنَّهم لا يصلُّون وهم يقاتلونَ أو يَمشون ؛ لما رويَ عن النبيِّ ﷺ :" أنَّهُ فَاتَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ثَلاَثُ صَلَوَاتٍ، فَقَضَاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيْب " فلولا أنَّ الاشتغالَ بالقتال يفسدُها لَما ترك الإيْماء بها حالَ القيام.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ أي إذا أمِنْتُمْ من الخوفِ فصلُّوا لله تعالى كما أمركم قانتينَ مؤدِّين حقوقَ الصلاة وشرائطها. قوله :﴿ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ معناه : ما لم تكونوا تعلمونَهُ قبل التعليمِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَاريْثِ وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْعِدَّةِ). وكانت المرأةُ في ابتداء الإسلام إذا احتضرَ زوجُها أوصى لها في مالهِ بنفقة سَنَةٍ من طعامها وشرابها وكسوتِها وسُكناها، وكان ذلك حظُّها من الميراثِ من مال زوجها، وإنْ كانت من أهل الْمَدَر سكنت بيتَ زوجها حتى تَبْنِي بيتاً، وإنْ كانت من أهل الوَبَرِ سكنت بيتَ زوجها حتى تغزلَ بيتاً فتتحوَّل إليه. فإن خرجت من بيتِ زوجها أو تزوجت فلا نفقة لها ولا سُكنى.
ثم نُسخت الوصية بآيةِ المواريث وبقوله ﷺ :" لاََ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " ونسخَ حكمُ الْحَوْلِ باعتبار أربعة أشهر وعشراً عدَّة الوفاة بقولهِ :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾[البقرة : ٢٣٤].
ومعنى الآية :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ ﴾ نساءً ؛ أي يتركون نساءً من بعدهم ؛ فعليهم ﴿ وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ ﴾. ويقال : كتبَ عليهم وصيةً ؛ وكانت هذه الوصيةُ واجبةً من الله تعالى لنسائِهم أوصَى الميت أو لم يُوصِ كما قال تعالى في آيةِ المواريث :﴿ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ﴾[النساء : ١٢].
قرأ الحسنُ وأبو عمرو وابن عامرٍ والأصمُّ والأعمشُ وحمزة وحفصٌ :(وَصِيَّةً) بالنصب على معنى : فَلْتُوصُوا وصيةً. وقرأ الباقونَ بالرفعِ على معنى : لأزواجِهنَّ وصيةٌ، أو كُتِبَ عليهم وصيةٌ.
وقوله :(مَتَاعًا) نُصب على المصدر ؛ أي متعوهُن متاعاً، وقيل : جعلَ اللهُ ذلك لهم متاعاً ؛ وقيل : نُصب على الحالٍ. وقوله :﴿ إِلَى الْحَوْلِ ﴾ أي متعوهن بالنفقةِ والسُّكنى والكِسْوَةِ وما يحتاج إليه حَوْلاً كاملاً. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ أي لا تخرجوهن من بيوتِ أزواجهن.
وإنَّما انتصب (غَيْرَ) لأنه صفةٌ للمتاعِ، وقيل : على الحالِ، وقيل : بنَزع الخافضِ ؛ أي من غيرِ إخراج، وقيل : على معنى : لاَ إخراجاً، كما يقال : أتيتك غيرَ رغبةٍ إليك.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾ ؛ أي فإن خَرَجْنَ من قِبَلِ أنفسهن قبل مُضِيِّ الحول غير إخراجِ الورثة ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ يا أولياءَ الميْتِ ﴿ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ﴾ من النُّشوز والتزيُّنِ والتزوُّج بالمعروف إذا لم تكنِ المرأةُ حُبلى من الميْتِ. وقيل : معناهُ :﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ ﴾ بعد انقضاء عدتِهن، ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ﴾.
وفي معنى رفعِ الْجُنَاحِ عن الرجالِ بفعل النساء وجهان ؛ أحدُهما : لا جُناح عليكم في قطعِ النفقة إذا خرجنَ قبل تَمام الحول. والثانِي : لا جُناح عليكم في تركِ منعهِنَّ من الخروجِ ؛ لأن مقامَها حَولاً في بيت زوجها غيرُ واجبٍ عليها ؛ خيَّرها اللهُ تعالى في ذلك إلى أن نُسخت بأربعةِ أشهرٍ وعشر ؛ لأن ذلكَ لو كان واجباً عليها لكان واجباً على أولياءِ الزوج منعُها من ذلك.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ ؛ قال سعيدُ بن جبير وأبو العاليةِ والزهريُّ :(الْمُرَادُ بالْمَتَاعِ فِي هَذِهِ الآيَةِ : الْمُتْعَةُ ؛ وَهِيَ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ). وذهبَ أصحابُ أبي حنيفة إلى أنَّ المتعةَ تجب للمطلقاتِ كلُّهن من طريقِ الديانة بحكمِ هذه الآية ؛ ولكن لا يجبرُ الزوجُ على المتعةِ إلا لمطلقةٍ لم يُدخل بها ولم يفرضْ لها مهراً للآية المتقدمةِ. وقال بعضُهم : أراد بالمتاعِ في هذه الآية نفقةَ عدَّة الطلاقِ ؛ لأن اللهَ تعالى عطفَهُ على قولهِ :﴿ مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ ﴾[البقرة : ٢٤٠] والمرادُ هناك النفقةُ والسكنى.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ؛ أي مثلُ هذا البيان ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ دلائلَهُ في المستقبلِ كما بيَّن في الماضي من أمور دينكم ودُنياكم ؛ لكي تفهمُوا ما أُمرتُم به. ويقال : لكي تكملَ عقولُكم ؛ فإن العقلَ الغريزيَّ إنَّما يكمل بالعقلِ المكتسب، وحقيقةُ العاقل أن يعملَ ما افترضَ عليه، وحقيقةُ العمل استعمالُ الأشياءِ المستقيمة.
قوله عَزَّ وَجَلّ :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(وَذَلِكَ أنَّ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ بَنِي إسْرَائِيْلَ أُمِرَ بالْخُرُوجِ إلَى قِتَال عَدُوِّهِمْ ؛ فَخَرَجُوا لِلْقِتَالِ ثُمَّ جَبنُواْ وَكَرِهُواْ الْقِتَالَ، فَقَالُواْ لِمَلِكِهِمْ : إنَّ الأَرْضَ الَّتِي تُرِيْدُهَا فِيْهَا الْوَبَاءُ فَلاَ تَأْتِهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الْوَبَاءُ، فَقَالَ لَهُمْ اللهُ : مُوتُواْ).
واختلفُوا في عددِهم ؛ فقال مقاتلُ والكلبي :(كَانُوا ثَمَانِيَةَ آلاَفٍ). وقال أبو رَوْقٍ :(عَشَرَةَ آلاَفٍ). وقال أبو مالكٍ :(ثَلاَثُونَ ألْفاً). وقال السديُّ :(بضْعَةٌ وَثَلاَثُونَ ألْفاً). وقال ابنُ جُريج :(أرْبَعُونَ ألْفاً) وقال عطاءُ بن أبي رَبَاح :(تِسْعُونَ ألْفاً). وقال الضحَّاكُ :(كَانُواْ عَدَداً كَثِيْراً). فَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُلُوفٌ ﴾ دليلٌ على كَثرتِهم ؛ إذ لو كانوا كما قالَ مقاتل والكلبيُّ لقالَ : وهم آلافٌ ؛ لأن مِن عشرةِ آلاف إلى ما دونِها يقالُ فيها : آلافٌ، ولا يُقالُ فيها : أُلوفٌ ؛ لأن الألوفَ جمعُ الكثيرِ. والآلافُ جمعُ القليلِ.
فمكثوا موتَى ثمانيةَ أيامٍ حتى انتفخوا وبلغَ بني إسرائيل موتُ أصحابهم، فخرجوا إليهم ليدفنُوهم، فعجزوا عنهم مِن كثرتِهم، فحَظَرُوا عليهم الحظائِرَ، ثم أحياهُم اللهُ تعالى بعد ثَمانيةِ أيَّامٍ، فبقي فيهم من ريحِ النَّتَنِ التي كانت فيهم بعد الموتَ حتى بقيَ في أولادهم إلى اليومِ.
وقال السُّدِّيُّ :(وَقَعَ الطَّاعُونُ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ، فَخَرَجَ قَوْمٌ مِنْهُمْ هَاربيْنَ مِنْ دِيَارهِمْ حَتَّى انْتَهَواْ إلَى مَكَانٍ فَمَاتُواْ وَتَفَرَّقَتْ عِظامُهُمْ وَتَقَطَّعَتْ أوْصَالُهُمْ، فَأَتَى عَلَيْهِمْ مُدَّةٌ وَقَدْ بَلِِيَتْ أجْسَادُهُمْ، فَمَرَّ بهِمْ نَبيٌّ يُقَالُ لَهُ حِزْقِيْلُ ثَالِثُ خُلَفَاءِ بَنِي إسْرَائِيْلَ بَعْدَ مُوسَى عليه السلام ؛ لأنَّهُ كَانَ بَعْدَ مُوسَى يُوشُعُ بْنُ نُونٍ، ثُمَّ كَالِبُ بْنُ يوفنا، ثُمَّ حِزْقِيْلُ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ : ابْنُ الْعَجُوز، وَذَلِكَ أنَّ أُمَّهُ كَانَتْ عَجُوزاً فَسَأَلَتِ اللهَ تَعَالَى الْوَلَدَ وَقَدْ كَبُرَتْ وَعَقُمَتْ، فَوَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَهَا ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ ابْنَ الْعَجُوز).
وقال الحسنُ ومقاتل :(هُوَ ذُو الْكَفْلِ، وإنَّمَا سُمِّيَ حِزْقِيْلُ ذَا الْكَفْلِ ؛ لأنَّهُ تَكَفَّلَ بسَبْعِيْنَ نَبيّاً وَأنْجَاهُمْ مِنَ الْقَتْلِ، فَقَالَ لَهُمُ : اذْهَبُواْ فَإنِّي إنْ قُتِلْتُ كَانَ خَيْراً مِنْ أنْ تُقْتَلُواْ جَمِيْعاً، فَلَمَّا جَاءَ الْيَهُودُ وَسَأَلُواْ حِزْقِيْلَ عَنِ الأَنْبِيَاءِ السَّبْعِيْنَ، فَقَالَ لَهُمْ : ذَهَبُواْ وَلَمْ أدْر أيْنَ هُمْ. وَحَفِظَ اللهُ ذَا الْكَفْلِ مِنَ الْيَهُودِ. فَلَمَّا مَرَّ حِزْقِيْلُ عَلَى أُوْلَئِكَ الْمَوْتَى وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلْ يُفَكِّرُ فِيْهِمْ مُتَعَجِّباً، فَقَالَ : الْحَمْدُ للهِ الْقَادِر عَلَى أنْ يُحْيِي هَذِهِ الأَجْسَادَ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ : يَا حِزْقِيْلُ، أتُرِيْدُ أنْ أُريَكَ كَيْفَ أُحْيي الْمَوْتَى ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ : لَهُ : نَادِهِمْ، فَنَادَى : أيُّهَا الْعِظَامُ، ثُمَّ قَالَ : ألاَ أيُّتُهَا الأَجْسَادُ الْبَالِيَةُ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُنَّ أنْ تَكْتَسِيْنَ لَحْماً، فَجَعَلَ اللَّحْمُ يَجْْرِي عَلَيْهِنَّ حَتَّى صِرْنَ أجْسَاداً مِنَ اللُّحُومِ، ثُمَّ قَالَ : ألاَّ أيَّتُهَا الأَجْسَادُ الْبَالِيَةُ الْخَاويَةُ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُنَّ أنْ تَقُمْنَ بإذْنِ اللهِ، فَقَامُواْ.
قوله عَزَّ وَجَلَ :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ قال أكثرُ المفسرين : هذا خطابٌ لِهذه الأمة، معناه : قاتلوا في طاعةِ الله تعالى ولا تَهربوا من الموت كما هربَ هؤلاء الذين سمعتم خبرَهم، فلا ينفعكم الهربُ واعلموا أنَّ الله سميعٌ لِما يقولهُ المنافق بعلمهِ : الهربُ من القتال، عليمٌ بما يضرُّه. وقال بعضهُم : هذه الآيةُ خطاب للذين جَبنُوا، وهي متصلةٌ بقوله تعالى :﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ ﴾[البقرة : ٢٤٣] وقال لهم :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ ؛ قال :(سبعين) :" لَمَّا أنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ قالَ ﷺ :[رَب زدْ أُمَّتِي] فَنَزَلَ ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ فَقَالَ :[رَب زدْ أُمَّتِي] فَنَزَلَ ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ".
وفي الآية استدعاءٌ إلى الانفاق والبرِّ في سبيل الله بألطفِ الكلام وأبلغهِ، وسَمَّاهُ الله قرضاً تأكيداً لاستحقاقِ الجزاء ؛ لأنه لا يكون قرضاً إلا والعوضُ مستحَقٌّ فيه. ومعنى الآيةِ : مَن ذا الذي يتصدقُ بصدقة طيبةٍ من نفس طيبةٍ لا يَمُنُّ بها على السائلِ ولا يؤذيه، قال الحسنُ :(هُوَ النَّفَقَةُ فِي أبْوَاب الْبرِّ مِنَ النَّفْلِ). وقال ابنُ زيد :(هُوَ الإنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبيْلِ اللهِ). وقال الواقديُّ :(قَرْضاً حَسَناً) يَكُونُ الْمَالُ مِنَ الْحَلاَلِ). وقال سهلُ بن عبدالله :(هُوَ أنْ لاَ يَعْتَقِدَ بقَرْضِهِ عِوَضاً).
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ قرأ عاصم وأبو حاتم (فَيُضَاعِفَهُ) بالنصب، وقرأ ابن عامرٍ ويعقوب بالتشديدِ والنصب بغير ألِف، وقرأ ابنُ كثير وشيبةُ بالتشديد والرفعِ، وقرأ الآخرونَ بالألف والتخفيفِ ورفعِ الفاء. فمَن رَفَعَهُ عطفه على (يُقْرِضُ)، ومن نصبَ جعله جوابَ الاستفهام بالفاءِ. والتشديدُ والتخفيف لُغتان، ودليلُ التشديدِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ لأن التشديدَ للتكثيرِ.
قال الحسنُ والسديُّ :(هَذَا التَّضْعِيْفُ لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ). قال أبو زيدٍ :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ أي يُعْطِيَهُ سَبْعَمِائَةِ أمْثَالِهِ). كما قال تعالى في آيةٍ أخرى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ﴾[البقرة : ٢٦١]. وعن أبي عثمان النهديِّ قال : أدْخَلَ أبُو هُرَيْرَةَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ : صُمَّتَا إنْ لَمْ أكُنْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقُولُ :" يُضَاعِفُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ حَسَنَةً إلَى ألْفَي ألْفِ حَسَنَةٍ ".
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾ ؛ أي يُقَتِّرُ ويوسِّعُ على من يشاءُ من خلقهِ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾[التوبة : ٦٧] أي يُمسكوها عن النفقةِ في سبيل الله، وقولهُ :﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ ﴾[الشورى : ٢٧]. وقيل : معناهُ : يقبضُ الصدقاتِ ويبسطُ، والله يسلبُ النعمة من قومٍ ويبسطُها على قومٍ. وقيل : معناهُ : يقبضُ الصدقاتِ ويبسطُ عليها الجزاءَ عاجلاً وآجِلاً. وقيلَ : القبضُ والبسطُ الإحياءُ والإماتةُ، فمن أمَاتهُ الله فقد قَبَضَهُ، ومن مدَّ له في عمرهِ فقد بسطَ له.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ ؛ أي ترجعونَ في الآخرة فيجزيكم بما قدَّمتم، وقد جهلتِ اليهودُ معنى هذه الآية أو تجاهلت حتى قالت : إن اللهَ يستقرضُ منا فهو فقيرٌ ونحن أغنياءُ كما قال تعالى :﴿ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ﴾
وقوله عزَّ وَجَل :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي ألَمْ تعلم يا محمدُ بالملإ من بني إسرائيلَ. والملأُ من القوم : أشرافُهم ووجوهُهم يجتمعون للمشاورةِ. وجمعهُ الأَمْلاَءُ ؛ واشتقاقهُ مِن مَلأْتُ الشيءَ ؛ لا واحدَ له من لفظهِ كالإبلِ والخيلِ والجيشِ والقومِ والرهطِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن بَعْدِ مُوسَى ﴾ أي مِن بعدِ وفاة موسَى، وقولهُ :﴿ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا ﴾ اختلفُوا فيه مَن هو ؟ قال قتادةُ :(هُوَ يُوشُعُ بْنُ نُونِ بْنِ افْرَاتِيْمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ). وقال السديُّ :(هُوَ شَمْعُونَ). وقد كان بعدَ يوشع، وإنما سُمي سَمعون لأن أُمَّهُ دعتِ الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقَها غُلاماً فاستجابَ الله دعاءها، فولدت غلاماً فسمَّته سَمعون، وقالت : قد سَمِعَ اللهُ دعائي، فلأجلِ ذلكَ سَمته سمعون. والسينُ في لغة العبرانية شينٌ، فهو بالعبرانيةِ شَمعون وبالعربية سَمعون. وقال الكلبيُّ ومقاتل وسائرُ المفسرين :(هُوَ إشْمُوِيلُ بْنُ هَلْقَانَا، وَبالْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ لَهُ : إسْمَاعِيْلُ بْنُ بَالِي وَهُوَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ عليه السلام).
وقال الكلبيُّ :(وَسَبَبُ مَسْأَلَتِهِمْ إيَّاهُ : أنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُوسَى عليه السلام خَلَفَ بَعْدَهُ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ يُوشُعُ بْنُ نُونٍ يُقِيْمُ فِيْهِمُ التَّوْرَاةَ وَأمْرَ اللهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، ثُمَّ خَلَفَ فِيْهِمْ حِزْقِيْلَ كَذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَعَظُمَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ الأَحْدَاثُ فَنَسُواْ عَهْدَ اللهِ تَعَالَى حَتَّى عَبَدُواْ الأَوْثَانَ، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِمْ إلْيَاسَ عليه السلام نَبيّاً فَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللهِ، ثُمَّ خَلَفَ بَعْدَ إلْيَاسَ عَلَيْهِمْ الْيَسَعَ وَكَانَ فِيْهِمْ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ ؛ فَعَظُمَتْ فِيْهِمْ الأَحْدَاثُ وَكَثُرَتْ فِيْهِمْ الْخَطَايَا وَظَهَرَ لَهُمْ عَدُوٌّ يُقَالُ لَهُ : البلساياء وَهُمْ قَوْمُ جَالُوتَ، وَكَانُواْ يَسْكُنُونَ سَاحِلَ الرُّومِ بَيْنَ مِصْرَ وَفِلَسْطِيْنَ ؛ وَهُمْ الْعَمَالِقَةُ. فَظَهَرُواْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى كَثِيْرٍ مِنْ أرَاضِيْهِمْ وَسَبَواْ كَثِيْراً مِنْ ذرَاريْهِمْ، فَضَرَبُواْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَلَقُواْ مِنْهُمْ بَلاَءً شَدِيْداً. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَبِيٌّ يُدَبِرُ أمْرَهُمْ، فَكَانُواْ يَسْأَلُونَ اللهَ تَعَالَى أنْ يَبْعَثَ لَهُمْ نَبيّاً يُقَاتِلُونَ مَعَهُ. وَكَانَ سِبْطُ النُّبُوَّةِ قَدْ هَلَكُواْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلاَّ امْرَأَةً حُبْلَى، فَأَخَذُوهَا وَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ خِشْيَةَ أنْ تَلِدَ أُنْثَى فَتُبْدِلُهَا بغُلاَمٍ، لِمَا تَرَى مِنْ رَغْبَةِ بَنِي إسْرَائِيْلَ فِي وَلَدِهَا، فَجَعَلَتِ الْمَرْأةُ تَدْعُو اللهَ أنْ يَرْزُقَهَا غُلاَماً، فَوَلَدَتْ غُلاَماً فَسَمَّتْهُ اشْمُوِيْلُ أيْ إسْمَاعِيْلُ. وَكَبُرَ الْغُلاَمُ فَتَعَلَّمَ التَّوْرَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَفِلَهُ شَيْخٌ مِنْهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ أنْ يَبْعَثَهُ اللهُ نَبيّاً أتَى جِبْرِيْلُ وَالْغُلاَمُ نَائِمٌ إلَى جَنْب الشَّيْخِ، فَدَعَاهُ : يَا اشْمُويْلُ، إذْهَبْ إلَى قَوْمِكَ فَبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبكَ، فَإنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَكَ فِيْهِمْ. فَلَمَّا أتَاهُمْ كَذَّبُوهُ وَقَالُواْ : إنْ كُنْتَ صَادِقاً فَابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلُ فِي سَبِيْلِ اللهِ).
وإنَّما سألوا الملكَ لأنَّهم علموا أنَّ كلمتَهم لا تتفقُ وأمورَهم لا تنتظمُ، ولا يحصلُ منهم الاجتماع على القتالِ إلا بمَلِكِ يحملُهم على ذلك ويجمع شَملَهم، فكان الملكُ هو الذي يجمع أمرهم والنبيُّ يشيرُ عليه ويرشدهُ ويأتيه من ربه بالخبرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ﴾ ؛ وكان السببُ فيه على ما ذكره المفسرون : أن اشْمويل عليه السلام سألَ الله تعالى أن يبعثَ لَهم مَلِكاً، فأُتِي بعصَا وقرنٍ فيه دهنٌ، وقالوا له : إن صاحبَكم الذي يكون مَلِكاً طولهُ طول هذه العصا، وقيل له : انظر إلى هذا القرنِ الذي فيه الدهنُ، فإذا دخلَ عليك رجلٌ فَنَشَّ الدهنُ في القرنِ ؛ فهو مَلِكُ بني إسرائيل فادهِن به رأسهُ وملِّكْه على بني إسرائيل. فقاسوا أنفسَهم بالعصا ؛ فلم يكن أحدٌ منهم مثلها.
قال وهب :(وَكَانَ طَالُوتُ رَجُلاً دَيَّاناً). وقال عكرمةُ والسديُّ :(كَانَ يَسْقِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ مِنَ النِّيْلِ، فَضَلَّ حِمَارُهُ ؛ فَخَرَجَ فِي طَلَبهِ). وقال بعضُهم : ضَلَّتْ حُمولات لأبيهِ، فأرسلَهُ أبوه مع غلامٍ له يطلُبانها، فمرَّا ببيت اشمويل، فقال الغلامُ لطالوتَ : لو دخلنا على هذا النبيِّ فسألناه عن الحمولاتِ ليُرشدنا ويدعو لنا بخيرٍ. فقالَ طالوتُ : نفعل ذلكَ، فدخلاَ عليه، فبينما هما عنده إذ نَشَّ الدهنُ الذي في القرنِ فقام أشمويلُ وقاسَ طالوتَ بالعصا فكان على طولهِ، فقال لطاللوت : قرِّب رأسكَ، فقرَّبه، فدهنه بذلك الدهن، ثم قال له : أنتَ ملكُ بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملِّككَ عليهم. فقال طالوتُ : أوَما عَلِمْتَ أن سِبطي أدنى أسباط بني إسرائيل ؟ قال : بَلَى، قال : فبأيِّ آيةٍ أكونُ أهلاً لذلك ؟ قال : بآيةِ أنكَ ترجعُ إلى أبيك، وقد وجدَ أبوكَ حُمولاته، فرجعَ فكان كذلك.
ثم قالَ أشمويل لبني إسرائيلَ :(إنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً فَقَالُوا أنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أحَقُّ بالْمُلْكِ مِنْهُ). وإنَّما قالوا ذلك لأنهُ كان في بني إسرائيل سِبطان ؛ سِبْطُ نبوَّةٍ وسِبْطُ مَمْلَكَةٍ. وكان سِبط النبوة لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهَارون، وسِبط المملكة سبط يهودا بن يعقوبَ ومنه كان دَاود وسليمان، ولم يكن طالوتُ من هؤلاء ولا من هؤلاء، وإنَّما هو من سبط بنيامين بن يعقوب، فمن أينَ يكونُ له الملكُ علينا ونحن أحقُّ بالملك منه. ومع ذلك هو فقيرٌ لم يؤتَ سَعَةً من المالِ ينفقهُ علينا كما يفعلهُ الملوك.
﴿ قَالَ ﴾، أشمويل :﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ؛ أي اختارَهُ عليكم للملكِ، ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ ؛ أي فضَّله عليكم بالعلمِ ؛ وذلك أنه كان أعلمَهم في وقته، فرفعهُ الله تعالى بعلمه. وقيل : كانَ عالماً بأمر الحرب، وكان طويلاً جسيماً وكان يفوقُ الناس بمنكبيه وعنقه ورأسهِ. وإنَّما سُمي طالوتَ لطولهِ وقوَّتهِ، فأعلمهم اللهُ تعالى أن العلمَ هو الذي يجبُ أن يقعَ به الاختيار، وأن الزيادةَ في الجسمِ مِمَّا يهيبُ به العدوّ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ﴾ ؛ قال ابن عباس :(هذا جوابٌ عن قولِهم لنبيِّهم : واللهِ ما نصدقك أنَّ الله بعثهُ علينا، ولكنكَ أنت بعثته علينا مَلِكاً مضارَّة لنا حينَ سألناكَ مَلِكاً، وإلا فآتنا بآيةِ أن الله قد بعثهُ علينا. فقالَ لهم :﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ أي الدلالةُ على كون طالوتَ ملكاً، أن يأتيكم التابوتُ الذي أخذَه منكم عدوُّكم. وكان ذلك التابوتُ من عودٍ الشمار الذي يتخذُ منه الأمشاطُ المرصَّعة بالذهب عليه صفائحُ الذهب، وكانت السكينةُ في التابوت ؛ وهي شبهُ دابَّةٍ رأسُها كرأسِ الْهِرَّةِ ولها ذنبٌ كذنبها له رأسان، ووجهٌ كوجه الإنسان ولها جناحان من زبرجد وياقوت، وكان فيها روحٌ تكلمهم بالبيانِ فيما اختلفوا فيه، وكان لعينَيها شعاعٌ إذا نظرتْ إلى إنسانٍ ذُعِرَ).
قال ابنُ عباس :(كانت بنو إسرائيلَ إذا حضر القتال قدَّموا التابوتَ بين أيديهم إلى العدوِّ، فإذا أتَتِ السكينةُ في التابوت وسُمع من التابوت أنينُها أقربَ نحوَ العدو وهم يَمضون معه أينما مَضَى، فإذا استقرَّ ثبتُوا خلفه، وكانت السكينةُ إذا صرخت في التابوتِ بصراخ هِرَّة أيقنوا بالنصرِ وجاءهم الفتحُ، فلما عَصَتْ بنو إسرائيل الأنبياءَ صلوات الله عليهم، سلَّطَ الله عليهم عدوَّهم فقاتلهم وغلبَهم على التابوت، ومَضَوا به إلى قريةٍ من قُرى فلسطين، وجعلوه في بيتِ صَنَمٍ لهم، وجعلوا التابوت تحتَ الصنم، فأصبحوا من الغدِ والصنمُ تحته، وأصنامهم كلَّها أصبحت مكسَّرةً، فأخرجوا التابوتَ من بيتِ الصنم، ووضعوهُ في ناحيةٍ من مدينتهم، فأخذَ أهل تلك الناحيةِ وجعٌ في أعناقهم حتى هلكَ أكثرُهم، فقال بعضهم لبعض : أليسَ قد علمتُم أن إلهَ بنو إسرائيلَ لا يقومُ له شيء، فأخرجُوا التابوتَ إلى قريةٍ أخرى، فبعثَ اللهُ على أهل تلك القريةِ بلاءً حتى كان الرجلُ منهم يبيتُ سالِماً ويصبحُ ميتاً قد أُكِلَ ما في جوفه، فأخرجوهُ منها إلى الصحراء ودفنوهُ في مَخْرَاةٍ لهم، فكان كل من تغوَّط هنالك منهم أخذه الباسورُ والقولنج، فتحيَّروا! فقالت لهم امرأةٌ من بني إسرائيل كانت عندهم قد سَبَوها : اعلموا أنكم لا تزالون ترون ما تكرهون ما دامَ التابوتُ فيكم فأخرجوه عنكم، فأتوا بعَجَلٍ بإشارة تلك المرأةِ فحملوا عليها التابوتَ، ثم علَّقوها على ثورين ثم ضربُوا جنوبَها فأقبل الثوران يسيران، ووكَّلَ اللهُ أربعةً من الملائكةِ يسوقون الثورين، فلم يَمر التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مُقدَّساً، فأقبلاَ حتى وقعَا على أرض بني إسرائيل فوضعُوا التابوت في أرضِ بني إسرائيل، فلما رَأى بنو إسرائيلَ التابوتَ كبَّروا وحمدوا اللهَ وأطاعوا طالوتَ وأقروا بُملْكِهِ، فذلكَ قولهُ :﴿ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ ﴾ أي تَسُوقُهُ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ ؛ الآية، أي فلما خرجَ طالوتُ من البلد ﴿ بِالْجُنُودِ ﴾ يعني خرج بهم من بيتِ المقدس وهُمْ سبعون ألفَ مقاتلٍ ؛ وقيل : ثَمانون ألفاً، ولم يختلَّف عنه إلا كبيرٌ لهرمهِ أو مريضٌ لسقمِه أو ضريرٌ لضررهِ أو معذورٌ لعذره. وذلك أنَّهم لَمَّا رأوا التابوت قالوا : قد أتانا التابوتُ وهو النصرُ لا شكَّ فيه، فسارعوا إلى الجهاد، فخرجَ معهُ خَلْقٌ كثير ؛ فقال : لا حاجةَ لي في كلِّ ما أرى، ولا أبتغي إلا كلَّ شابٍّ نشيطٍ فارعٍ، ولا يخرجُ معي صاحبُ تجارة ولا رجلُ عليه دَين، ولا رجلٌ تزوجَ امرأةً لم يَبْنِ بها ؛ لأنَّهم يكونون مشغولين. فاجتمعَ إليه ثَمانون ألفاً من شرطهِ. فخرجَ بهم في حرٍّ شديد، فأصابَهم العطشُ ؛ فسألوا الماءَ ؛ فقال لهم طالوتُ :﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ أي مُخْتَبرُكُمْ بنهرٍ جارٍ ؛ وهو نَهر الأردن وفلسطين ؛ ليرى طاعتَكم وهو أعلمُ ؛ ﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ ؛ أي فليسَ من أهل دِيني وطاعتي، وليسَ معي على عدوِّي، ﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ ﴾ ؛ أي ومن لم يشربه، ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ ؛ ومعي على عدوِّي، وقد يطلقُ لفظ الطعمِ على الشرب، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ﴾[المائدة : ٩٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ ﴾ ؛ قرأ ابنُ عباس وأبو الجوزاء وابنُ كثير وشيبة ونافعُ وأبو عمرٍو وأيوبُ :(غَرْفَةً) بفتح الغين، وقرأ الباقون بضمِّها ؛ وهي قراءةُ عثمان، وهما لُغتان. قال الكسائيُّ :(الغُرْفَةُ بالضَّمِّ : الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْكَفِّ مِنَ الْمَاءِ إذا غُرِفَ. وَالْغَرْفَةُ بالْفَتْحِ الاغْتِرَافُ، فَالضَّمُّ اسْمٌ وَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ). وقال أبو حاتم :(الغُرْفَةُ بالضِّمِّ : مِلْئُ الْكَفِّ وَمِلْئُ الْمَغْرَفَةِ، وَبالْفَتْحِ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْقَلِيْلِ وَالْكَثِيْرِ). قال الكلبيُّ ومقاتل :(كَانَتِ الغُرْفَةُ لَيَشْرَبَ مِنْهَا الرَّجُلُ وَخَادِمُهُ وَدَابَّتُهُ).
قيل : ابتلاهُم اللهُ بذلك النهر ليميِّزَ الصادقَ من الكاذب، وكان أشمويل هو الذي أخبَر طالوتَ بذلك ؛ لأنَّ الله تعالى :﴿ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾[الجن : ٢٦-٢٧] فلا يجوزُ هذا القول إلا من نَبيٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ ﴾ ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾ ؛ نصبَ ﴿ قَلِيلاً ﴾ على الاستثناءِ. قرأ ابنُ مسعود :(إلاَّ قَلِيْلٌ) بالرفعِ، كقول الشاعرِ : وَكُلُّ أخٍ مُفَارقُهُ أخُوهُ لَعَمْرُو أبيْكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِومعنى الآية : أنه لَمَّا عُرض لهم النهرُ وقد اشتد بهم العطشُ ؛ وقعوا فيه فشربوا كلُّهم أكثرَ من غُرفة إلا قليلاً منهم ؛ وهم ثلاثُمائة عشرَ رجلاً كعدَّة أهل بدرٍ، قالَ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ لأَصْحَابهِ :" أنْتُمْ عَلَى عَدَدِ أصْحَاب طَالُوتَ ".
قالوا : فمَنِ اغترفَ غُرفة قويَ وصحَّ إيْمانه وعبَر النهرَ سالماً لكفتْهُ تلك الغرفة الواحدة لشربهِ وخادمهِ ودوابه. وأما الذين أخذُوا أكثرَ من ذلك وخالفوا اسودَّت شفاهُهم واشتدَّت عَطْشَتُهُمْ فلم يَرْوَوْا وبقَوا على شطِّ النهر وجَبُنُوا عن لقاءِ العدوِّ ولم يشهدُوا الفتحَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾ ؛ معنَاها : لَمَّا خرجُوا واصطفُّوا لِمحاربةِ جالوتَ وجنوده، قالوا : ربَّنا أصْببْ علينا الصَّبْرَ صَبّاً، ﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ ؛ في أماكِنها في الحرب بتقويةِ قلوبنا، ﴿ وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي أعِنَّا على قومِ جالوتَ بإلقاء الرُّعب في قلوبهم، ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ ؛ في هذا الحالِ ؛ لأنَّ ذكرَ الهزيْمةِ بعد سؤالِ النصر يدلُّ على إجابةِ الدعاء، كأنَّ الله تعالى قال : فاستجابَ اللهُ دعاءَهم فهزموهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ ؛ قال المفسرونَ : لَمَّا عبرَ طالوتُ ومن معه النهرَ، كان من جُملة من عبَر معهم أبو داودَ عليه السلام واسْمهُ إيشا في ثلاثةَ عشر ابناً له وكان داودُ أصغرَهم، ثم إنَّ جالوت أرسلَ إلى طالوت : أنْ أرسِلْ إلَيَّ مَن يقابلني، فإنْ قتلنِي فلكم مُلكي، وإن قتلتهُ في ملكُكم. فشُقَّ ذلك على طالوتَ ونادى في عسكرهِ : مَن قتلَ منك جالوتَ زوَّجتهُ ابنتي وأعطيتهُ نصفَ مملكتِي، فلم يُجِبْ أحدٌ منهم وَهَابَ الناسُ جالوتَ، فسألَ طالوتُ نبيَّهم أن يدعو اللهَ، فدعا اللهَ تعالى، فأتى بقرنٍ فيه دهنٌ فقيل لهُ : إن صاحبَكم الذي يقتلُ جالوت هو الذي يَضَعُ هذا القرنَ على رأسهِ فيغلِي الدهنُ، فدعا طالوتُ بني إسرائيل فجرَّبَهم، فلم يوافق ذلك منهم أحدٌ، فأوحى الله إلى نبيِّهم أنَّ في أولاد إيشا مَن يقتلُ جالوتَ، فدعا طالوتُ إيشا وقال لهُ : اعرضْ عليَّ أولادَكَ، فأخرجَ له اثنا عشر رجلاً أمثال الاسطواناتِ، وفيهم رجلٌ فارع عليهم، فجعل يعرِضُهم على القرنِ، فلم يَرَ شيئاً، فلم يزل يردِّدُ القرنَ على ذلك الجسيمِ حتى أُوحى إليه أنَّا لا نأخذُ الرجالَ على قدر صورهم، بل على إصلاحِ قلوبهم، فقُل لإيشا : هل لكَ ولدٌ غيرُهم ؟ فقالَ : لاَ، فقال : رَب إنه زعمَ أنه لا ولدَ له غيرهم، فقال : كَذَبَ. فقال له : إنَّ ربك كذَّبَك، فقال : صدقَ اللهُ، إن لي ابناً صغيراً يقال له داودُ اسْتَحَيْتُ أن يراهُ الناس لقِصَرِ قامته وحقارتهِ، فجعلتهُ في الغنم يرعى وهو في شِعْب كذا، وكان داودُ عليه السلام قَصِيراً مشقاً أزْرَقاً، فخرجَ طالوتُ في طلبه، فوجدَ الوادي قد سَالَ بينه وبين الزريبةِ التي كان يريحُ إليها الغنمَ، فوجده يحملُ شاتين يجوزُ بهما السيلَ ولا يخوضُ بهما الماءَ، فلما رآهُ قال : هذا هوَ لا شكَّ فيه، هذا يرحمُ البهائمَ فهو بالناس أرحمُ. فدعاه فوضعَ القرنَ على رأسه ؛ ففاضَ، قال : هل لكَ أن تقتلَ جالوت وأزوِّجُك بابنتي وأعطيكَ نصف مملكتي، قال : نَعَمْ، قال له : فهل جرَّبت نفسكَ في شيء، قال : معم ؛ وقعَ الذئبُ في غنمي فضربتهُ ثم أخذتُ برأسه وجسدهِ وقطَعت رأسه من جسدهِ، فقال له طالوتُ : إن الذئبَ ضعيفٌ، فهل جربتَ نفسكَ في غيره، قال : نعم ؛ دخلَ الأسدُ في غنمي ؛ فضربتهُ وأخذت بلحييه فشققتُهما.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي القرآنُ بما فيه من الأخبار الماضية آياتُ الله بتَنْزيل جبريلَ عليه السلام بها عليك لبيانِ الحقِّ من الباطل، ﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ؛ لأنك أخبرتَ بهذه الآيات مع أنكَ لم تشاهِدْها ولم تخالِطْ أهلَها. وقيل في معنى هذه الآياتِ : إماتةُ اللهِ الألوفَ دفعةً واحدة وإحياؤهم دفعةً واحدة وإعطاؤهُ الملك طالوتَ وهو من أهل الحمولِ الذي لا ينقادُ له الناس، ونصرُ أصحاب طالوت مع قلَّة عددهم وضَعْفِهم على جالوتَ وأصحابهِ مع شوكتهم وكثرتِهم دلالهٌ على قدرتِه وعلى نبوَّة أنبيائه صلواتُ الله عليهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ لأنكَ قد أُعْطِيْتَ من الآياتِ مثلَ ما أُعطيَ الأنبياءُ صلواتُ اللهِ عليهم وزيادةً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ الذي نزَّلنا عليك خبرَهم في القرآنِ هم الرسلُ لم يكونوا في الفضْلِ متساوينَ، ولكن ﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ في الدنيا والعُقبى. ثم فَسَّرَ فضيلةَ كلِّ واحد منهم فقال :﴿ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ وهو مُوسى عليه السلام كَلَّمَهُ اللهُ من غيرِ سفير، ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ ﴾ فوقَ بعضٍ ﴿ دَرَجَاتٍ ﴾ ؛ أي اتَّخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً، وسخَّرَ لسليمانَ الريحَ والجنَّ والشياطين وعلَّمه منطقَ الطيرِ. وقال مجاهدُ :(وأرَادَ بهَذِهِ الآيَةِ فَضِيْلَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى جَمِيْعِ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾[الشرح : ٤]. وقيل : هو إدريسُ كما قال تعالى :﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ﴾[مريم : ٥٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ ؛ أي أعطيناهُ الدلالات على إثبات نبوَّّتهِ من إبراءِ الأَكْمَهِ وَالأَبْرَصِ وإحياءِ الموتى والإنْبَاءِ بما غابَ عنه، ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ أي قوَّيناهُ وأعنَّاهُ بجبريل الطاهرِ حين أرادوا قتلَهُ حتى رفعهُ الله إلى السماء. وقال الحسنُ :(الرُّوحُ جِبْرِيْلُ، وَالْقُدُسُ هُوَ اللهُ تَعَالَى ؛ فَيَصِيْرُ تَقْدِيْرُ الآيَةِ : وَقَوَّيْنَاهُ برُوحِ اللهِ تَعَالَى). وعنِ ابن عباسٍ أنه قال :(الْقُدُسُ اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ الَّذِي كَانَ بهِ عِيْسَى عليه السلام يُحْيِي الْمَوْتَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ ﴾ ؛ أي لو شاءَ اللهُ لَمْ يَقْتَتِلِ الذينَ مِن بعدِ الرسل مِن بعد ما وَضُحَتْ لَهم الحججُ والدلائل كما قالَ تعالى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾[الأنعام : ٣٥]. وقيل : معناهُ : ولو شاءَ اللهُ لأنزلَ آيةً تضطرُّهم إلى الإيْمان وتَمنعهم عن الكفر كما قال تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ﴾[الشعراء : ٤].
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـاكِنِ اخْتَلَفُواْ ﴾ أي شاءَ اختلافَهم فاختلفوا. ويقال : لم يُلْجِئْهُمْ إلىَ الإيْمان ؛ لأنَّ التكليفَ لا يُحسن مع الضرورةِ، والجزاءُ لا يُحسن إلا مع التَّلْجِئَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ ﴾ أي بالكتب والرسلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ ؛ أي ولو شاء الله لم يقتتلوا مع اختلافهم بأن يأمرَ المؤمنينَ بالكَفِّ عن القتالِ، وبأن يَلْجِئَهُمْ جميعاً إلى تَرْكِ القتالِ، ﴿ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ مِن تقدير الاتِّفَاقِ والاختلافِ وغيرِ ذلك مِن مَّا تُوجِبُهُ الحكمةُ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾ ؛ حثٌّ على الانفاقِ في الجهاد في سبيل اللهِ. وقيل : هو الأمرُ بالزكاةِ المفروضة. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ ﴾ يعني يومَ القيامةِ ﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ﴾ أي ليس فيه فِدَاءٌ ﴿ وَلاَ خُلَّةٌ ﴾ أي ليسَ فيه خُلَّةٌ لغير المؤمنينَ. وأما المؤمنونَ فتكون لَهم خُلَّةٌ كما قالَ تعالى :﴿ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾[الزخرف : ٦٧]. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾ أي لغيرِ المؤمنين، وأما المؤمنونَ فيشفعُ بعضهم لبعضٍ ويشفعُ لهمُ الأنبياءُ والرسلُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ أي هُم الذين ظلموا أنفسَهم حتى لا خُلَّةَ لهم ولا شفاعةَ. وكان عطاءُ يقول :(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ : وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ ؛ لأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ ظَالِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ ظَالِمٍ كَافِراً).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ ؛ ذكر وحدانيةِ الله تعالى وصفتهِ ؛ لِيُعْلِمَ أنَّ مَن كان بهذه الصفةِ لا يخفى عليه كُفْرُ مَن كَفَرَ ومعصيةُ من عصَى ؛ فيجازي كُلَّ عابدٍ على مَا عَمِلَ. فأولُ هذه الآية نفيُ معبودِ الكفَّار وإثباتُ معبودِ المؤمنين ؛ وإثباتُ الشيءِ مع نفي غيرهِ أبلغُ في الإثبات، كأنه قالَ :(اللهُ لا إلَهَ إلا هُوَ) دون غيرهِ، وهو المعبودُ لا معبودَ للخلقِ سواهُ.
ومعنى ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ الدائمُ الذي لا يَموت موصوفٌ بالبقاءِ على الأبدِ، وبه حَيَِّى كلَّ حيٍّ. وأما القيومُ فهو القائمُ بتدبيرِ الخَلْقِ في شأنِهم وأرزاقِهم وأعمالهم وآجالِهم ومجازاتِهم على عملهم، وقيل : معنى القيومُ العالِمُ بالأمور من قولهم : فلانٌ يقومُ بهذا الكتاب ؛ أي يُحسنه ويعلمُ ما فيه. وقيل : معنى ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ الدائمُ الذي لا يزولُ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ ؛ أي لا يأخذه نُعَاسٌ ولا نوم. والنُّعَاسُ : اسمٌ لأوَّلِ ما يدخلُ في الرأسِ من النومِ قبل وصولِه إلى القلب. والنومُ هو الذي يصلُ إلى القلب فيُستثقَلُ. ومعنى الآية : لاَ يغفلُ عن تدبيرِ الخلق، فإن قيل : ما معنى نفي النومِ بعد نفي النعاسِ ؟ قلنا : مثلُ هذا اللفظِ إنَّما يكونُ لنفي قليلِ النوم وكثيرهِ، ونظيرهُ قول العرب : فلانٌ لا يَملكُ قليلاً ولا كثيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كلهم عبيده وإماؤه وتحت قبضته وقدرته.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ ؛ هذا جواب عن قول المشركين في أصنامهم :﴿ هَـاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ﴾[يونس : ١٨] و﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾[الزمر : ٣] ؛ أي لا يشفع أحدٌ لأحد عند اللهِ إلا بأمره ورضائه، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض بالدعاء، وكما يشفع الأنبياء للمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ ؛ أي ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ من أمرِ الآخرةِ، ﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ مِن أمر الدنيا. قال مجاهدُ : على العكسِ من هذا. وقيل : يعلمُ الغيبَ الذي تَقَدَّمَهُمْ والذي يكونُ بعدَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ ؛ أي لا يعلمونَ الغيبَ لا مِمَّا تقدَّمَهم ولا مِمَّا يكون بعدَهم إلا بما شاءَ اللهُ أن يعلموه، وهو ما أنْبَأَ به الأنبياءَ صلواتُ اللهِ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ ؛ قال ابن عباس :(كُرْسِيُّهُ : عِلْمُهُ)، فَلاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. وقيل : وَسِعَتْ قدرتهُ التي يُمسك بها السموات والأرضَ. وقال الحسنُ :(الْكُرْسِيُّ : هُوَ الْعَرْشُ)، ويقال : هو سريرٌ دونَ العرشِ، ويقال : هو مكانٌ خَلَقَ اللهُ فيه السمواتِ والأرضَ. وقال عطاءُ والكلبي ومقاتلُ :(السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ فِي الصِّغَرِ كَحَلَقَةٍ فِي فَلاَةٍ)
وقال الكلبيُّ :(يَحْمِلُ الْعَرْشَ أرْبَعَةُ أمْلاَكٍ، لِكُلِّ مَلَكٍ أرْبَعَةُ أوْجُهٍ ؛ وَجْهُ إنْسَانٍ، وَوَجْهُ ثَوْرٍ، وَوَجْهُ أسَدٍ، وَوَجْهُ نَسْرٍ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ ؛ الآية، اختلفَ المفسرون في هذه الآية على ثلاثةِ أقوالٍ ؛ قال السديُّ والضحَّاك :(إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الأَمْرِ بقِتَالِ الْمُشْرِكِيْنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[فصلت : ٣٤]، وَكَانَ الْقِتَالُ غَيْرَ مُبَاحٍ فِي أوَّلِ الإسْلاَمِ إلَى أنْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ الصَّحِيْحَةُ بصِحَّةِ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا عَانَدُواْ بَعْدَ الْبَيَانِ أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِيْنَ بقِتَالِهِمْ لِقَوْلِِهِ تَعَالَى :﴿ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ﴾[التوبة : ٥] وَغَيْرِ ذلِكَ مِنْ مِنْ آيَاتِ الْقِتَالِ).
وقال الحسنُ وقتادةُ :(إنَّ هَذِهِ الآيَةَ خَاصَّةٌ فِي أهْلِ الْكِتَاب أنْ لاَ يُكْرَهُواْ عَلَى الإسْلاَمِ بَعْدَ أنْ يُؤَدُّواْ الْجِزْيَةَ، وَأمَّا مُشْرِكُو الْعَرَب فَلاَ يُقَرُّونَ بالْجِزْيَةِ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلاَّ الإسْلاَمُ أو السَّيْفُ).
والقولُ الثالث : أن معناهُ : مَن دخلَ في الإسلام بمحاربةِ المسلمين ثم رضي بعد الحرب فليس بمُكْرَهٍ ؛ أي لا يقولوا لهم : إنَّما أسلمتم كَرْهاً ؛ فلا إسلامَ لكم.
ومعنى الآية :﴿ لاَ إِكْرَاهَ ﴾ في الإسلامِ ؛ أي لا تُكرهوا على الإسلامِ، ﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ ﴾ ؛ أي قد وَضَحَ الطريقُ المستقيم من الطريقِ الذي ليس بمستقيم بما أعطاهُ الله أنبيائَه من المعجزاتِ، فلا تكرِهوا على ﴿ الدِّينِ ﴾. ودخولُ الألف واللام فِي (الدِّينِ) لتعريفِ المعهود.
قَوْلُُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا ﴾ ؛ أي فمن يكفرُ بما أمرَ الله أن يكفرَ بهِ، ويصدِّقُ بالله وبما أمرَ به، فقد عقدَ لنفسهِ من الدين عقداً وثيقاً لا تحلُّه حجةٌ من الحجَجِ لا انقطاعَ لها بالشبهةِ والشكوكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي سميعٌ لِما يعقدهُ الإنسان في أمرِ الدين، عالِمٌ بنيَّته في ذلك.
والغَيُّ : نقيضُ الرُّشْدِ. والطاغوتُ : مأخوذ من الطُّغيان، والطاغوتُ اسمٌ للأصنامِ والشياطين وكلُّ ما يُعبد مِن دون اللهِ تعالى.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ ؛ معناه : اللهُ ولِيُّ المؤمنين في نصرِهم وإظهارهم وهدايتِهم في إقامةِ الحجة في دينهم، ومتولِّي خزانتَهم على حُسن عملهم، يُخرجهم من ظُلُمَاتِ الكفرِ إلى نُور الهدى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ ؛ معناهُ : والذين جَحَدوا توحيدَ الله أولياؤُهم الذينَ يتولونَهم الطاغوتُ.
ومعنى :﴿ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾، ولم يكن لهم نورٌ ؛ قيل : أرادَ به اليهودَ والنصارى الذين كانوا على دينِ عيسى عليه السلام ؛ خَرجوا من التوحيدِ الذي كانوا فيه إلى الكفرِ بمُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ ؛ أي ألَمْ تعلم يا محمدُ بالذي جادلَ إبراهيمَ في ربه ؛ أي هل رأيتَ كالذي ﴿ حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ أي بأن أعطاهُ الله الملكَ وأُعجب بملكه وسلطانه وهو نَمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ أوَّل من تجبَّر في الأرضِ بادعاء الرُّبُوبيَّةِ فَخاصمَ إبراهيمَ في توحيدهِ. وقيل : إنَّّ الهاءَ في قوله ﴿ آتَاهُ ﴾ راجعةٌ إلى إبراهيمَ عليه السلام، و ﴿ الْمُلْكَ ﴾ هو النبوَّة ووجوبُ طاعتهِ على الناس.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾ ؛ وذلك أن نَمْرُودُ قال لإبراهيم : مَنْ رَبُّكَ ؟ قال :﴿ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾ عند انقضاءِ الأجل. فـ ﴿ قَالَ ﴾ ؛ نَمْرُودُ :﴿ أنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ﴾ قالَ إبراهيمُ : ائتني ببيانِ ذلك ؟ فأتَى برجلين من سجنهِ وجبَ عليهما القتلُ ؛ فقتلَ أحدهما وتركَ الآخر. فقال : هذا قد أحييتهُ، وهذا قد أمَتُّهُ. ﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ ؛ أي تَحيَّّر وانقطعَ بما ظهرَ عليه من الحجَّة، ﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ أي لا يرشِدُ المشركينَ إلى دينه وحجَّته.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يَثْبُتْ إبراهيمُ على الحجَّة الأولى ؛ والانتقالُ من الحجة إلى حجَّةٍ أخرى في المناظرةِ غيرُ محمودٍ ؟ قيل : عنهُ أجوبةٌ :
أحدُها : أن إبراهيم كان داعياً ولم يكن مُناظراً، فمى كان يراهُ أقربَ إلى الهداية أخذَ به.
والثاني : أنه روي أنه قالَ لنمرود : إنكَ أمََتَّ الحيََّ ولم تُحْيي الميَّتَ، والانتقالُ بعد الإلزامِ محمودٌ.
والثالث : أن نَمرودَ كان عالماً أن ما ذكرهُ ليس بمعارضةٍ وكان مَن حوله من أصحابهِ يوقنون بكذبهِ في قوله :﴿ أنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ﴾ لكن أرادَ التمويهَ على أغمَار قومه كما قال فرعونُ للسحرة حين آمنوا : أن هذا المكرَ مكرتُموه في المدينةِ، كذلك فعلَ نَمرودُ بقوله :﴿ أنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ﴾. فتركَ إبراهيم إطالةَ الكلامِ، وعَدَلَ إلى حجَّةٍ مسكتةٍ لا يُمكنه التمويهُ فيها.
فإن قيل : فهلاَّ قال نَمرود لإبراهيمَ : إن مجيءَ الشمس هو العادةُ ؟ فقُلْ لربك حتى يأتي بها من المغرب! قيل : عَلِمَ لِمَا رأى من المعجزات التي ظهرت أنهُ لو سأله ذلك لأتى بهِ. فكان يزدادُ فضِيحة عند الناسِ. وقيل : خَذَلَهُ عن هذا القولِ، فلم يُوَفَّق للسؤالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ البُهْتُ في اللغة : هي مُوَاجَهَةُ الرجلِ بالكذب عليه ؛ يقال : بَهَتَ يَبْهَتُ بُهتاناً، وبَاهَتَ يُبَاهِتُ مُبَاهَتَةً. وفي الحديثِ :" إنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ " أي كَذَبَةٌ. والبهتُ الحيرة عند انقطاعِ الحجة أيضاً. وفيه لغاتٌ : بَهَتَ وبَهِتَ وبُهِتَ، وأجودها بُهِتَ بضمِّ الباء.
قوله عَزَّ وَجلَّ :﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ ؛ عَطْفَ هذه الآية على معنى الكلامِ الأول لا على اللفظِ، كأنه قالَ : أرأيتَ كالذي (حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبهِ) (أوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ).
قال ابْنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عُزَيْرِ بْنِ شَرِيْحَيَّا، وَكَانَ مَنْ عُلَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيْلَ، سَبَاهُ بَخِتْنَصِّرَ مِنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى أرْضِ بَابلَ حِيْنَ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَخَرَجَ عُزَيْرُ فِي أرْضِ بَابلَ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى حِمَارٍ، فَمَرَّ بدَيْرِ هِرَقْلَ عَلَى شََاطِئِ دِجْلَةَ، فَطَافَ بالْقَرْيَةِ فَلَمْ يَرَ بهَا سَاكِناً وَعَامَّةُ شَجَرِهَا حَامِلٌ، فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ خَرَاب الْقَرْيَةِ وَمَوْتِ أهْلِِهَا وَكَثْرَةِ حَمْلِهَا وَهِيَ سَاقِطَةٌ عَلَى سُقُوفِهَا. وَذَلِكَ أنَّ السَّقْفَ يَقَعُ قَبْلَ الْحِيْطَانِ، ثُمَّ تَقَعُ الْحِيْطَانُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ شَيْئاً مِنَ التِّيْنِ وَالْعِنَب، وعَصَرَ الْعِنَبَ فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ جَعَلَ فَضْلَ التِّيْنِ فِي سَلَّةٍ وَفَضْلَ الْعِنَب فِي الأُخْرَى وَفَضْلَ الْعَصِيْرِ فِي الزِّقِّ، ثُمَّ نَظَرَ إلَى الْقَرْيَةِ فَـ ﴿ قَالَ أَنَّى يُحْيِـي هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ ؛ أيْ كَيْفَ يُحْيي اللهُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ بَعْدَ خَرَابهَا وَمَوْتِ أهْلِهَا!؟
لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ إنْكَاراً لِلْبَعْثِ، لَكِنْ أحَبَّ أنْ يَرَى كَيْفَ يُحْيي اللهُ الْمَوْتَى فَيَزْدَادُ بَصِيْرَةً فِي إيْمَانِهِ، فَنَامَ فِي ذلِكَ الدَّيْرِ ؛ ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ ﴾ في منامهِ ؛ ﴿ مِئَةَ عَامٍ ﴾ ؛ وَأعْمَى عَنْهُ السِّبَاعَ وَالطَّيْرَ، ثُمَّ أحْيَاهُ فَنُودِيَ : يَا عُزَيْرُ :﴿ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ ؟ وَكَانَ أُمِيْتَ فِي صَدْر النَّهَار، ﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ ؛ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ فِي آخِرِ النَّهَار، فَظَنَّ أنَّ مِقْدَارَ لُبْثِهِ يَوْمٌ، ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ ؟ فَـ ﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً ﴾، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى الشَّمْسِ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ :﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ ؛ فَنُودِيَ؟. ﴿ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ﴾ ؛ مَيْتاً، ﴿ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ ﴾، مِنَ التِّيْنِ وَالْعِنَب، ﴿ وَشَرَابِكَ ﴾، الْعَصِيْرِ، ﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾ ؛ أيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهَا بَعْدَ مِائَةِ عَامٍ وَلَمْ تُغَيِّرْهَا السُّنُونُ ؛ فَنَظَرَ فَإذَا بالْعِنَب وَالتِّيْنِ كَمَا شَاهَدَهُ وَبالْعَصِيْرِ طَرِيّاً.
ثُمَّ قِيْلَ لَهُ :﴿ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ﴾ ؛ فَنَظَرَ فَإذا هُوَ عِظَامٌ بيْضٌ تلوحُ قَدْ تَفَرَّقَتْ أوْصَالُهُ، فَسَمِعَ صَوْتاً :(أيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ إنِّي جَاعِلٌ فِيْكُنَّ رْوحاً فَاجْتَمِعْنَ) فَارْتَهَشَتِ الْعِظَامُ وَسَعَى بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، قَالَ : فَرَأَيْتُ الصُّلْبَ يَسْعَى كُلُّ فَقَرَةٍ مِنْهَا إلَى صَاحِبَتِهَا، ثُمَّ رَأيْتُ الْوِرْكَيْنِ يَسْعَيَانِ إلَى مَكَانِهِمَا ؛ وَالسَّاقَيْنِ إلَى مَكَانِهِمَا ؛ وَالْعِطْفَينِ إلَى مَكَانِهِمَا، ثٌمَّ رَأيْتُ كُلَّ الأَضْلاَعِ يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى فَقَرَتِهِ، ثُمَّ رَأيْتُ الْكَعْبَيْنِ سَعَيَا إلَى مَكَانِهِمَا ؛ وَالذِّرَاعَيْنِ إلَى مَكَانِهِمَا، ثُمَّ رَأيْتُ الْعُنُقَ يَسْعَى كُلُّ فَقَرَةٍ مِنْهُ إلَى صَاحِبَتِهَا، ثُمَّ جَاءَ الرَّأْسُ إلَى مَكَانِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْعَصَبَ وَالْعُرُوقَ وَاللَّحْمَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ بُسِطَ عَلَيْهِ الْجِلْدُ، ثُمَّ دُريَ عَلَيْهِ الشَّعْرُ، ثُمَّ نُفِخَ فِيْهِ الرُّوحُ، فَإذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْهَقُ. فَخَرَّ عُزَيْرٌ سَاجِداً للهِ تَعَالَى ؛ وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ :﴿ أعْلَمُ أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ ؛ تقديرُ الآية : ألَمْ ترَ إذ قالَ إبراهيمُ ؛ ويقال : وَاذْكُرْ إذ قالَ إبراهيمُ. قال ابنُ عباس :((سَبَبُ هَذِهِ الْقِصَّةِ : أنَّ إبْرَاهِيْمَ عليه السلام مَرَّ بجِيْفَةٍ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، تَنْقَضُّ عَلَيْهَا طُيُورُ السَّمَاءِ فَتَأْخُذُ مِنْهَا بأَفْوَاهِهَا فَتأْكُلُهُ، وَيَسْقُطُ مِنْ أفْوَاهِهَا فِي الْبَحْرِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ الْحِيْتَانُ، وَتَجِيْءُ السِّبَاعُ فَتَأْخُذُ مِنْهُ عُضْواً. فَوَقَفَ مُتَعَجِّباً!! وَقَالَ :﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ أيْ أوَلَمْ تُصَدِّقْ بأَنِّي أُحيْي الْمَوْتَى ؟ ﴿ قَالَ بَلَى ﴾ عَرَفْتُ، وَلَكِنْ أحْبَبْتُ أنْ أعْلَمَ كَيْفَ تُحْيي هَذِهِ النَّفْسَ الَّتِي أرَى بَعْضَهَا فِي بُطُونِ السِّبَاعِ ؛ وبَعْضَهَا فِي بُطُونِ الْحِيْتَانِ ؛ وَبَعْضَهَا فِي حَوَاصِلِ الطَّيْرِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ ). وَقيل : معنى ﴿ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ أي لِيَسْكُنَ قلبي أنكَ أعطيتني ما سألتُكَ. وقيل : إنك اتَّخَذْتَنِي خليلاً.
﴿ قَالَ ﴾ ؛ اللهُ تعالى :﴿ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ﴾ ؛ وذلك أنَّ إبراهيم عليه السلام لما مرَّ بالجيفةِ وقد توزَّعَتها الطيورُ والسباع والحيتانُ، تعجَّبَ وقال : يا رب قد علمتُ بأنكَ تجمعُها من بطونِ السباع وحواصلِ الطير وبطونِ الحيتان، فأرنِي كيفَ تُحْييْهَا لأُعَاينَ ذلك فأزدادُ يقيناً ؟ قال اللهُ تعالى لهُ :﴿ أوَلَمْ تُؤْمِنْ. قَالَ بَلَى ﴾ يا رب آمنتُ وليس الخبرُ كالمعاينةِ والمشاهدة.
وقال ابنُ زيد :(مَرَّ إبْرََاهِيْمُ عليه السلام بحُوتٍ مَيْتٍ نِصْفُهُ فِي الْبَحْرِ وَنِصْفُهُ فِي الْبَرِّ، فَمَا كَانَ فِي الْبَحْرِ فَدَوَابُّ الْبَحْرِ تَأْكُلُهُ، وَمَا كَانَ فِي الْبَرِّ فَدَوَابُّ الْبَرِّ تَأْكُلُهُ، فَقَالَ إبْلِيْسُ لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ : يَا إبْرَاهِيْمُ، مَتَى يَجْمَعُ اللهُ هَذَا مِنْ بُطُونِ هَؤُلاَءِ؟! فَقَالَ :﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى * قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ بذَهَاب وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَيَصِيْرُ الشَّيْطَانُ خَاسِئاً صَاغِراً).
وروي أنَّ نَمرودَ قال لإبراهيم : أنتَ تزعمُ أن ربكَ يحيي الموتى وتدعونِي إلى عبادتهِ، فقُل له يُحيي الموتَى إنْ كَان قادراً، وإلاَّ أقتلُكَ. فقالَ إبراهيمُ :﴿ رَب أرنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى * قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ﴾ بأني أُحييهم، فـ ﴿ قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ بقوةِ حُجَّتي ونَجاتي من القتلِ، فإنَّ عدوَّ اللهِ توعدَّني بالقتلِ إن لَمْ تُحيي لهُ ميتاً.
وقال ابنُ عباس وابن جبيرٍ والسديُّ :(لَمَّا اتَّخَذَ اللهُ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً، سَأَلَ مَلَكُ الْمَوْتِ رَبَّهُ أنْ يَأْذَنَ لَهُ فَيُبَشِّرَ إبْرَاهِيْمَ بذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ، فَأَتَى إلَى إبْرَاهِيْمَ وَقَالَ : يَا إبْرَاهِيْمُ، جِئْتُ أُبَشِّرُكَ بَأَنَّ اللهَ اتَّخَذَكَ خَلِيْلاً، فَحَمَدَ اللهَ تَعَالَى ؛ وَقَالَ : مَا عَلاَمَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أنْ يُجِيْبَ اللهُ دُعَاءَكَ وَيُحْيي الْمَوْتَى بسُؤَالِكَ. ثُمَّ انْطَلَقَ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ إبْرَاهِيْمُ :﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى * قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ أيْ لِيُعْلَمَ أنَّكَ تُجِيْبُنِي إذَا دَعَوْتُكَ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ﴾ ؛ وجهُ اتصالِ هذه الآية بما قبلَها آيةٌ أخرى فيما تقدَّمَ ذكرُ النفقةِ في الجهادِ بقولهِ تعالى :﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾[البقرة : ٢٤٥]، ثم ذكرَ ما كان مِن مسألةِ قوم أشمويل مِن الله أن يبعثَ له مَلِكاً يقاتلون معه أعداءَهم، وكانت الغلبةُ لهم مع قلَّةِ عددهم، ثم عقَّبَهُ الله تعالى بذكرِ أمورٍ تدلُّ على واحدانيَّته، فبيَّنَ أنَّ الكُفْرَ بعد هذهِ الآيات أعْظَمُ وأشْنَعُ، فمن كَفَرَ بعد هذا فقاتِلُوه وأنفِقُوا في القتال، فإنَّ النفقةَ في القتالِ تكونُ بسبعمائةٍ.
وعنِ ابنِ عبَّاس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّان وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. أمَّا عُثْمَانُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ : عَلَيَّ جِهَازُ مَنْ لاَ جِهَازَ لَهُ، وَأشْتَرِي بئْرَ رُومَةَ وَأجْعَلُهَا سَبيْلاً لِلْمُسْلِمِيْنَ. وَأمَّا عَبْدُالرَّحْمَنِ فَكَانَ لَهُ ثَمَانِيَةُ آلاَفٍ، فَجَاءَ بأَرْبَعَةِ آلاَفٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : إنَّ لِي ثَمَانِيَةَ آلاَفٍ ؛ أمْسَكْتُ نِصْفَهَا لِنَفْسِي وَلِعِيَالِي ؛ وَأقْرَضْتُ نِصْفَهَا لِرَبي وَهِيَ هَذِهِ. فَقَالَ ﷺ :" بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيْمَا أمْسَكْتَ وَفِيْمَا أعْطَيْتَ " وَأمَرَ بهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقُبضَتْ مِنْهُ).
ومعنى الآية : صفةُ ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي ﴾ طاعةِ الله كصِفَةِ ﴿ حَبَّةٍ ﴾ أُلقيت في الأرضِ وأخْرَجَتْ ﴿ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ﴾ أي كما تكونُ الحبَّة واحدةُ والمكتسبُ منها سبعمائة، فكذلك النفقةُ تكون واحدةً والمكتسبُ بها سبعمائةِ ضِعْفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ﴾ ؛ أي كما يُضَاعِفُ اللهُ في زرع الزُّرَّاعِ الحادثِ من البَذْر الجيِّد في الأرضِ العامرةِ، كذلك يُضَاعِفُ للمرءِ الصالحِ ثوابَ صدقتهِ بالمالِ الطيِّب إذا وضعَهُ في موضعهِ. يضاعفُ لمن يشاءُ من السَّبْعِ إلى السَّبعين إلى سبعمائة إلى مائةِ ألْفٍ إلى ما شاءَ الله من الأضعافِ مِمَّا لا يعلمهُ إلا هو.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي غَنِيٌّ بتلك الأضعافِ ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بمَنْ يُنْفِقُ. وقيل : معناهُ :﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ الفضلِ، جَوَادٌ لا ينقصهُ ما يتفضَّل به من السَّعَةِ والمضاعفةِ ؛ ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بمن يستحقُّ الزيادةَ.
والفائدةُ في تخصيصِ السبع في الآيةِ ما قالوا : إنَّ السَّبْعَ أشرفُ الأعدادِ كما روي عنِ ابن عبَّاس أنه قالَ :(كَادَتِ الأَشْيَاءُ تَكُونُ كُلُّهَا سَبْعاً ؛ فَإنَّ السَّمَواتِ سَبْعٌ ؛ وَالأَرْضُونَ سَبْعٌ ؛ وَالْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ سَبْعٌ ؛ وَالْبحَارَ سَبْعَةٌ ؛ وَأَيَّامَ الأُسْبُوعِ سَبْعَةٌ ؛ وَسُجُودَ الْعَبْدِ عَلَى سَبْعَةِ أعْضَاءٍ).
وأجمعَ أهلُ التفسير إلا السديِّ : أنَّ العدَّة المضاعفةَ بسبعمائة مختصَّةٌ بالإنفاقِ في الجهاد ؛ وأما غيرُ ذلك من الطاعاتِ ؛ فالحسنَةُ بعشرِ أمثالها كما قالَ الله تعالى :﴿ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾[الأنعام : ١٦٠].
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى ﴾ ؛ نَزَلَتْ فِي شأنِ النفقةِ التي يُسْتَحَقُّ بها الثوابُ المضاعفُ ؛ معناهُ :﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي ﴾ طاعةً اللهِ ﴿ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً ﴾ على السائلِ نحو أن يقولَ للسائل إذا وقعَ بينه وبينه خصومةٌ : أعطيتُك كذا، وأحسنتُ إليك، وما أشبهه مما يبغضُ على السائلِ. وأصلهُ من القَطْعِ ؛ يقال : مَنَنْتُ الشيءَ إذا قَطَعْتُهُ ؛ ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾[التين : ٦] أي غيرُ مقطوعٍ، ويقال : جَبَلٌ مَنِيْنٌ ؛ أي مقطوعٌ. وقيل : أصل الْمِنَّةِ النعمةُ، يقال : مِنَّ (يَمُنُّ) إذا أعْطَى وأنْعَمَ، قال اللهُ تعالى :﴿ هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ﴾[ص : ٣٩] أي أعْطِ أو أمسِك.
وقال الكلبيُّ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أمَّا عُثْمَانُ رضي الله عنه فَجَهَّزَ الْمُسْلِمِيْنَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بأَلْفِ بَعِيْرٍ بأَقْتَابهَا وَأحْمَالِهَا). " وروي أن عثمانَ جاء بألفِ مِثْقَالٍ في جيشِ العسرةِ فصبَّها في حِجْرِ رسولِ اللهِ ﷺ، فكانَ ﷺ يُدْخِلُ يَدَهُ فِيْهَا وَيُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ :[مَا يَضُرُّ عُثْمَانَ مَاذَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ]. وقال أبو سعيدٍ الخدري : رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَافِعاً يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ وَيَقُولُ :[يَا رَب، عُثْمَانُ رَضِيْتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ] فَمَا زَالَ يَدْعُو رَافِعاً يَدَيْهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ "، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وأما عبدالرحمن بن عوف فقد ذكرنا صدقته.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أَذًى ﴾ أي لا يؤذي السائلَ ؛ لا يُعَيِّرُهُ ولا يزجرهُ ؛ نحو أن يقول : أنتَ أبداً في فقرٍ وما أبلانا بكَ، وأراحَنَا اللهُ منكَ، وأعطيناكَ فما شكرتَ، وما أشبه ذلك. قَالَ ﷺ :" الْمَانُّ بمَا يُعْطِي لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَِ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَلاَ يُزَكِّيْهِ وَلَهُ عَذَابٌ ألِيْمٌ " فحظرَ اللهُ الْمَنَّ بالصَّنيعة على عبادهِ واختصَّ به صفةً لنفسه ؛ لأنه مِن العبدِ تَعيْيْرٌ وَتَكْدِيْرٌ ؛ ومِن اللهِ تعالى إفْضَالٌ وَتَذْكِيْرٌ. قال بعضُهم : أفْسَدْتَ بالْمَنِّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ حَسَنٍ لَيْسَ الْكَرِيْمُ إذَا أعْطَى بمَنَّانِقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ ؛ أيْ ﴿ لا خَوْفٌ عَلَيْهُمْ ﴾ فيما يستقبلُهم من أهوالِ يوم القيامةِ، ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ على ما خلَّفوا في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾ ؛ أي كلام حسنٌ وردٌّ جميلٌ على السائلِ ولطفٌ به ودعاءٌ له بالسعةِ ؛ وتجاوزٌ عن مَظْلَمَةٍ ؛ وعدة حسنةٌ ﴿ خَيْرٌ ﴾ عندَ الله ﴿ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾ لأن الصدقةَ إذا أتبعَها الآذى ذهبَ المالُ والثواب جميعاً. وقال الضحَّاك :(مَعْنَى الآيَةِ : قَوْلٌ فِي إصْلاَحِ ذاتِ الْبَيْنِ).
قوله :﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ ؛ قال ابنُ جرير :(وَمَعْنَى ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ أيْ سَتْرُ مِنْهُ عَلَيْهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ خَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ). وقيل : يتجاوزُ عن السائلِ إذا استطالَ عليه عندَ ردِّه ؛ علمَ الله أنَّ الفقيرَ إذا رُدَّ بغيرِ شيء شُقَّ عليهِ ذلك، فربَّما دعاهُ ذلك إلى بذاءةِ اللسان وإظهار الشكوى، وعَلِمَ ما يلحقُ المانع منه فحثَّه على العَفْوِ والصَّفْحِ.
رُوي عن رسولِ اللهِ ﷺ أنهُ قالَ :" إذا سَأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُواْ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ رُدُّوهَا عَلَيْهِ بوَقَارٍ وَلِيْنٍ وَببَذْلٍ يَسِيْرٍ أوْ رَدٍّ جَمِيْلٍ، فَإنَّهُ قَدْ يَأْتِيكُمْ مَنْ لَيْسَ بإنْسٍ وَلاَ جَانٌ يَنْظُرُ كَيْفَ صُنْعُكُمْ فِيْمَا خَوَّلَكُمُ اللهُ مِنَ النِّعَمِ ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ ؛ أي ﴿ غَنِيٌّ ﴾ عن صدقاتِ العباد، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ إذا لم يعجِّل بالعقوبةِ على الذي " مَنَّ " بصدقتهِ. روى بشْرُ بنُ الحارثِ ؛ قال : رَأيْتُ عَلِيّاً رضي الله عنه فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا أمِيْرَ الْمُؤْمِنِيْنَ، تَقُولُ شَيْئاً لَعَلَّ اللهَ يَنْفَعُ بِهِ ؟ فَقَالَ لِي : مَا أحْسَنَ عَطْفَ الأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ رَغْبَةً فِي ثَوَاب اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأحْسَنَ مِنْهُ صَبْرُ الْفُقَرَاءِ عَنِ الأَغْنِيَاءِ ثِقَةً باللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قوله عَزَّ وجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ ؛ أي تبطِلوا صدقاتِكم بذلك كإبطالِ مَن ينفقُ ماله مُرَاءَاةً وسُمعةً لِيَرَواْ نفقتهُ ويقال : إنه سخيٌّ كريم صالحٌ، يعني بذلك المنافقَ الذي ينفقُ ماله لا رغبةً في الثواب ولا رهبةً من العقاب، بل خوفاً من الناس ورياءً لهم أنه مؤمنٌ. ﴿ فَمَثَلُهُ ﴾ ؛ أي مَثل نفقةِ هذا المنافق الْمُرَائِي ؛ ﴿ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾ ؛ أي كحَجَرٍ أملسٍ ؛ ﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾ ؛ أي مطرٌ كثير شديدُ الوقعِ فذهب بالتراب الذي كان " على " الحجرِ، وبقيَ الحجرُ يابساً لا شيءَ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ ؛ أي حَجَراً صَلْباً أمْلساً لا يبقى عليه شيء، وهو مِن الأرضِ ما لا يُنْبتُ، ومن الرؤوسِ ما لا شعرَ عليه. قال رُؤْبَةُ :........................... بَرَّاقُ أصْلاَدِ الْجَبينِ الأَجْلَهِوهذا مثلٌ ضربه اللهُ لنفقةِ المنافق والمرائي والمؤمن الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي ؛ يعني أنَّ الناس يرونَ أن لهؤلاء أعمالاً كما ترَى الترابَ على هذا الصَّفوان، وإذا كان يومُ القيامة اضمحلَّ وبَطَلَ ؛ لأنهُ لم يكن للهِ كما أذهبَ الوابلَ ما كان على الصَّفوانِ من التراب، ﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾ لا شيءَ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾ ؛ أي لا يقدرُ الْمَانُّ بنفقتهِ والمؤذي والمنافقُ على ثواب شيء مما أنفقُوا، كما لا يقدرُ أحدٌ من الخلقِ على التراب الذي كان على الحجرِ الأملس بعدما أذهبَه المطرُ الشديد.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ أي لا يهديهم حتى يُخلصوا أعمالَهم. وقيل : لا يهديهم بالمثوبة لهم كما يهدي المؤمنينَ.
وأصلُ الوَابلِ من الوَبِيْلِ وهو الشديدُ كما قالَ تعالى :﴿ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾[المزمل : ١٦]. ويقال : وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبلُ ؛ إذا اشتدَّ مطرُها. والصَّلْدُ : الحجرُ الأملسُ الصلبُ، ويسمى البخيل صَلْداً تشبيهاً له بالحجرِ في أنه لا يخرجُ منه شيء. ويقال للأرضِ التي لا تُنْبتُ شيئاً : صُلْداً، وصَلَدَ الزَّنْدُ صُلُوداً إذ لَمْ يُور نَاراً.
وفي الآية دلالةٌ على أنَّ الصدقةَ وسائرَ القُرَب إذا لم تكن خالصةً لله تعالى لا يتعلَّقُ بها الثوابُ، ويكونُ فاعلها كمن لا يفعلُ ؛ ولهذا قالَ أصحابُنا : لا يجوزُ الاسئتجارُ على الحجِّ وسائر الأفعالِ التي من شرطِها أن تُفعل على وجهِ القربةِ ؛ لأن أخذَ الأجرَةِ عليها يُخرجها من أنْ تكون قربةً.
ثم ضربَ جَلَّ ذِكْرُهُ لنفقةِ المخلصين المثيبين مثلاً آخرَ أعلى من المثلِ الأول فقالَ :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ﴾ ؛ أي صِفَةُ الذين ينفقون أموالهم لطلب رضا الله تصديقاً وحقيقةً. قال الشعبيُّ والكلبي والضحَّاك :{ يَعْنِي تَصْدِيْقاً مِنْ أنْفُسِهِمْ، يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بهَا نُفُوسُهُمْ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ﴾ ؛ الآية ؛ هذا استفهامٌ في الظاهرِ يقتضي في الحقيقةِ تقديراً : أي لا يَوَدُّ أحدُكم كقولهِ تعالى :﴿ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾[الحجرات : ١٢]. ومعنى الآية : يتمنَّى أحدُكم أن يكونَ له بستانٌ من نخيل وكَرْمٍ ؛ تجري من تحتِ شجرِها ومساكنِها وغرفِها الأنْهارُ، له في الجنةِ من ألوانِ الثمار كلِّها، وأصابَه الْهَرَمُ والضعفُ وله أولادٌ ضعاف عَجَزَةٌ عن الحيلة، ﴿ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ ﴾، يعني تلكَ الجنةَ. والإعصارُ : ريْحٌ عاصفُ تَهُبُّ به مِن الأرضِ بالشدة كالعمودِ إلى نحو السماءِ، وتسميها العربُ الزَّوْبَعَةَ، وسُميت إعصاراً لأنَّها تعلُو كثوبٍ عُصِرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾ ؛ أي الجنةَ. وهذا مثلٌ ضربه الله لنفقةِ المنافقِ والمرائي، تقولُ عَمَلُ هذا المرائي في حُسنه كحُسن الجنةِ ينتفعُ بها كما ينتفعُ صاحب الجنةِ، فإذا كَبُرَ وضَعُفَ فصار له أولادٌ صغار ضِعَافٌ، أصاب جنتَهُ إعصارٌ فيه نارٌ، فاحترقت عندما هو أحوجُ إليها وضَعُفَ عن إصلاحِها لِكِبَرِهِ وضَعُفَ أولادهُ عن أصلاحِها لِصِغَرِهِمْ ؛ وعجزهِ وعجزهِم من أن يَغْرِسُوا مثلها، لا يُرَدُّ عليه شبابهُ وقوته ليغرسَ، فيحزنَ ويغتَمَّ ويهلك أسفاً وتحسُّراً على ذلك، فلا هو يجدُُ شيئاً يعيشه ولا معَ أولاده شيءٌ يعودون به عليه، فبقي هو وأولادهُ فُقْراءَ عجزةً متحيرينَ لا يقدرون على حيلةٍ، فكذلك يُبْطِلُ اللهُ صدقةَ هذا المرائي والمنافقُ والْمَانُّ بصدقتهِ ؛ حيثُ لا يسمع مستغيثَ لهما ولا توبةَ ولا إقالة، يُحْرَمُ أجرَها عند أفقرِ ما يكونُ إليها، ويرى في القيامةِ أعمالَه هباءً منثوراً، ولا يؤذنُ له في الرجوعِ إلى الدنيا ليتصدَّق وليكون من الصالحين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ أي كهذا البيانِ الذي بَيَّنَ اللهُ لكم فيما تقدَّم ؛ ويبيِّن لكم الدلالات والعلامات لكي تتفكَّروا فتعتَبروا.
فإنْ قيلَ : قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ﴾ فعلُ مستقبلٍ، وقوله :﴿ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ﴾ فعلُ ماضٍ، فكيفَ عطفَ الماضي على المستقبلِ ؟ والجوابُ من وجهين :
أحدُهما : أن (قد) ها هنا مقدَّرة ؛ المعنى وقد أصابهُ الكِبَرُ، فيكون للحالِ كما قالَ في آيةٍ أخرى :﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ ﴾[يوسف : ٢٧] أي قَدْ قُدَّ.
والثَّاني : أنَّ (يودُّ) يقتضي أن يكون في خبرهِ (لو) كما في قولِهِ :﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ ﴾[البقرة : ٩٦] وقولهِ :﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾[النساء : ٨٩] ويقتضي أن يكون في أخْبُرِهِ (إنْ) كما في هذه الآية و(لو) للماضي، و(أنّ) للمستقبل. ثم قد تستعمل (لو) مكانَ (إن) ؛ و(إنْ) مكان (لو) يقامُ أحدهما مقام الآخر، ويقولُ الإنسان : أنا أتَمنَّى لو كان لي ولدٌ، ويقول : أتَمنَّى إن كان لي ولدٌ. وإذا كان معنى التمنِّي قد يقعُ على الماضي صحَّ عطفُ الماضي عليهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ﴾ ؛ أي أنفقوا من خِيار ما كسبتم، وخيارهُ نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾[آل عمران : ٩٢]. وقال ابن مسعودٍ ومجاهد :(مِنْ حَلاَلٍ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الأَمْوَالِ) دليلهُ :﴿ ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾[المؤمنون : ٥١] وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ :" إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يُحِبُّ إلاَّ الطَّيِّبَ، لاَ يَكْسَبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ فَيَتَصَدَّقُ بهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ ؛ وَلاَ يُنْفِقُ فَيُبَارِكُ لَهُ فِيْهِ، وَلاَ يَتْرُكُهُ خَلْفَهُ إلاَّ كَانَ زَادَهُ إلَى النَّار، وَإنَّ اللهَ لاَ يَمْحُو السَّيِّءَ بالسَّيِّءِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّءَ بالْحَسَنِ، وَإنَّ الْخَبيْثَ لاَ يَمْحُو الْخَبيْثَ ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ﴾ أي من أعشار الحبوب والثمار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ ؛ أي لا تعمَدُوا إلى الرَّدِيء من أموالِكم منه تتصدقون، ولستم بقابضِيه وقابليهِ (إلا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ)، يقول : لو كانَ لبعضِكم على بعضٍ حقٌّ فجاءَ بدون حقِّه، لم يأخذ منهُ إلا أن يَتَغَامَضَ له عن بعضِ حقِّهِ ويتسامَحَ عن عيبٍ فيه، فكيفَ تُعطونه في الصدقةِ.
وقد رُوي في سبب نزول هذه الآية " أنَّ النبيَّ ﷺ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَقَالَ :[إنَّ للهِ فِي أمْوَالِكُمْ حَقّاً]. فَكَانَ يَأْتِي أهْلُ الصَّدَقَةِ بصَدَقَاتِهِمْ فَيَضَعُونَها فِي الْمَسْجِدِ، فَيُقَسِّمُهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ ذاتَ يَوْمٍ بَعْدَمَا تَفَرَّقَ عَامَّةُ أهْلِ الْمَسْجِدِ بعَذْقٍ مِنْ حَشَفٍ فَوَضَعَهُ فِي الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا أبْصَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ :[بئْسَ مَا صَنَعَ صَاحِبُ الْحَشَفِ] فأَمَرَ بهِ فَعُلِّقَ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ يَرَاهُ يَقُولُ : بئْسَ مَا صَنَعَ صَاحِبُ الْحَشَفِ "، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ.
وقال بعضُهم : معنى :﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ﴾ أي لا تتصدَّقوا بالحرامِ. فيكون معنى (إلا أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) على هذا التأويلِ : إلاَّ أن تَتَرَخَّصُواْ في تناولهِ إنْ كان حَرَاماً. والإغماضُ : تركُ النظرِ، يقال في الْمَثَلِ : أغْمِضْ فِي هَذَا وَغَمَّضْ ؛ أي لا تَسْتَقْصِ وكُنْ كأنَّكَ لَمْ تُبْصِرْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ ؛ أي ﴿ غَنِيٌّ ﴾ عن صدقاتِكم محمودٌ في أفعالهِ، ولم يأمرْكم بالصدقةِ عن عِوَضٍ ولكن بلاكُم بما أمركم، فهو مستحقٌ للحمدِ على ذلك وعلى جميعِ أمرهِ.
وفي الآية إباحةُ الكسب وإخبارٌ أن فيه ما هو طيِّب، قالَ ﷺ :" وَالْخَيْرُ عَشْرَةُ أجْزَاءٍ أفْضَلُهَا التِّجَارَةُ إذَا أخَذَ الْحَقَّ وَأعْطَى الْحَقَّ " وَقَالَ ﷺ :" تِسْعَةُ أعْشَار الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ مِنَ التُجَّار إلاَّ تَاجِرٌ حَلاَّفٌ " " سُئِلَ النَّبيُّ ﷺ : أيُّ كَسْبَ الرِّزْقِ أفْضَلُ ؟ قَالَ :[عَمَلُ الرَّجُلِ بيَدَيْهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ] " وقالَ ﷺ :" يَا مَعْشَرَ التُّجَّار، إنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ، فَشَوِّبُوهُ بالصَّدَقَةِ ".
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ ﴾ ؛ أي الشيطانُ يَعِدُكُمْ بالفقرِ فحذفَ الباءَ كقولِ الشاعرِ : أمَرْتُكَ الْخَيْرَ لَكِنْ مَا ائْتَمَرْتَ بهِ فَقَدْ تَرَكْتَ ذا مَالٍ وَذا نَشَبٍويقال : وَعَدْتُهُ خَيْراً ؛ وَوَعَدْتُهُ شَرّاً، وقالَ اللهُ تعالى في الخيرِ :﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ﴾[الفتح : ٢٠] وقال في الشَّرِّ :﴿ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾[الحج : ٧٢] وإذا لم تَذْكُرِ الخيرَ والشرَّ ؛ قُلْتَ في الخيرِ : وَعَدْتُهُ ؛ وفي الشرِّ : أوْعَدْتُهُ. قال الشاعرُ : وَإنِّي إذا أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفٌ مِيْعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِيومعنى :﴿ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ﴾ أي يخوِّفُكم الفقرَ بالنفقةِ في وجوهِ البرِّ وإنفاقِ الجيِّد من المالِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ ﴾ أي بالبخلِ ومنعِ الزكاة، وزَعَمَ الكلبيُّ أن كلَّ فَحشاءٍ في القرآن فهو زنَا إلا في هذه الآيةِ، وإنما سُمي منعُ الزكاة فحشاءً ؛ لأن العربَ تسمي البخيلَ فاحشاً ؛ والبخلَ فحشاءً. والفقرُ : سُوءُ الحالِ وقلةُ ذاتِ اليد، وفيه لغتان : الْفَقْرُ وَالْفَقُرُ، كالضَّعفِ والضُّعفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً ﴾ ؛ أي ﴿ مَّغْفِرَةً ﴾ لذنوبكم بالإنفاقِ من خِيَار الأموالِ، ﴿ وَفَضْلاً ﴾ أي خلفاً في الدُّنيا والآخرةِ، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ ؛ يوسِعُ الرزقَ والخلفَ والمثوبةَ، ويعلمُ حيث ينبغي أن تكونَ السَّعَةُ، قال ابنُ عباس وابن مسعودٍ :(ثِنْتَانِ مِنَ اللهِ وَثِنْتَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ ؛ فَمِنَ اللهِ الْمَغْفِرَةُ وَالْفَضْلُ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ الْفَقْرُ وَالْفَحْشَاءُ). ووعدُ الشيطانِ وَسَاوسُ وتَخَيُّلٌ ؛ أي يُخَيِّلُ إلَيْكَ أنَّكَ إنْ أمْسَكْتَ مالَكَ استغنيتَ، وإن تصدقتَ به افتقرتَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ اختلفوا في تفسيرِ الحكمة ؛ قال ابنُ مسعود :(هِيَ الْقُرْآنُ). وقال ابنُ عباس وقتادةُ :(عِلْمُ نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ ؛ وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابهِهِ ؛ وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ ؛ وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ؛ وَأمْثَالِهِ ؛ وَغَيْرِهِ). وقال السديُّ :(هُيَ النُّبُوَّةُ). وقال أبو العاليةِ :(هِيَ الْفِقْهُ). وقال مجاهدُ وإبراهيم :(هِيَ الإصَابَةُ وَالْفَهْمُ). وقال الربيع :(هِيَ خِشْيَةُ اللهِ تَعَالَى). وقال سهلُ بن عبدِالله :(هِيَ السُّنَّةُ). وقيل : هي سرعةُ الجواب مع إصابةِ الصواب، واللهُ أعلمُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ ؛ أي من يُعْطَ العلمَ فقد أُعطيَ خيراً كثيراً يصلُ به إلى رحمةِ اللهِ تعالى. قال بعضُ الحكماء : سَمَّى اللهُ العلمَ خيراً كثيراً، والدنيا مَتَاعاً قليلاً، فينبغي لِمن أُوتِيَ العلمَ أن يعرفَ قَدْرَ نفسهِ ولا يتواضعَ لأصحاب الدنيا لدنياهم. وقال الحسنُ :(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ؛ يَعْنِي الْوَرَعَ فِي دِيْنِ اللهِ).
قرأ الربيعُ :(تُؤتِي الْحِكْمَةَ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بالتاءِ، وقرأ يعقوب :(وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ) بكسرِ التاء، أرادَ ومن يُؤْتِهِ الله ؛ فحذف الهاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ ؛ وما يَتَّعِظُ إلا ذوُو العقولِ ؛ واللُّبُّ من العقلِ ما صَفِيَ عن دواعي الهوى، وَسُمِّي العقلُ لُبّاً لأنه أنْفَسُ ما في الإنسان كما أن لُبَّ الثمرةِ أنفسُ ما فيها.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ ؛ أي ما تصدَّقتم بهِ مِن صدقةٍ أو أوجبتُمُوه على أنفسِكم من فعلِ برٍّ مثلَ صلاةٍ أو صدقةٍ أو صومٍ، فإنَّ اللهَ لا يخفَى عليه ذلكَ ويقبلَه ويجازي عليهِ.
ويقالُ : معنى ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ أي يحفظهُ، وإنَّما قالَ :﴿ يَعْلَمُهُ ﴾ ولم يقل يعلمُهَا ؛ لأنه ردَّهُ إلى الآخرِ منهُما كقولهِ تعالى :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾[النساء : ١١٢]. وإنْ شئتَ حَمَلْتَهُ على (ما) التي قبلهُ كقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾[البقرة : ٢٣١] ولم يقل : بهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ ؛ أي وما للواضعينَ النفقةَ والنَّذْرَ في غيرِ موضعِهما بالرِّيَاءِ والمعصيةِ ونحوِهما (مِنْ) أعوانٍ يدفعون عنهم العذابَ. والأَنْصَارُ : جمع نَصِيْرٍ مثل جَنِيبٍ وأجنابٍ وشريفٍ وأشرافٍ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ ؛ وذلك أنَّهم قالوا : يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أفْضَلُ ؛ صَدَقَةُ السِّرِّ أوْ صَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ومعناها : إنْ تُظهروا الصدقات وتُعلنوها ؛ فَنِعِمَّا الشيءُ صدقةُ العلانيةِ.
وأصلُ ﴿ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ : فَنِعِمَا مَا هِيَ ؛ فَوُصِلَتْ وأُدْغِمَتْ. وكان الحسنُ يقرأ :(فَنِعِمَا مَا هِيَ) مفصولةً عن الأصلِ ؛ أي نِعْمَتِ الخصلةُ. و(ما) في موضعِ الرفع و(هِيَ) في محلِّ النصب كما يقول : نِعِمَّا الرجلُ رَجُلاً، فإذا عَرَّفْتَ رَفَعْتَ وَقُلْتَ : نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ.
وقرأ أبو جعفر ونافعُ وشيبة وعاصمُ وأبو عمرو بكسرِ النونِ وجزمِ العين، ومثلهُ في سورةِ النساء، واختارهُ أبو عبيدةَ وذلك أنَّها لغةُ النبيِّ ﷺ حين قال لَعَمْرِو بنِ العَاصِ :" نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ".
وقرأ ابنُ عامرٍ ويحيى بن وثابٍ والأعمشُ وحمزة والكسائي وخلفُ بفتح النونِ وكسرِ العين. وقرأ طلحةُ وابن كثيرِ وورش وحفصُ ويعقوب وأيوب بكسر النون والعين. وهي لغاتٌ صحيحةٌ.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ ؛ أي وإن تُسرُّوها وتعطوها الفقراءَ سِرّاً فهو خيرٌ لكم وأفضلُ من العلانيةِ، وكلاهُما مقبولٌ منكم إذا كانت النيةُ صادقةً، ولكن صدقةُ السرِّ أفضلُ، قال ﷺ :" صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّب، وَتُطْفِئُ الْخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَتَدْفَعُ سَبْعِيْنَ بَاباً مِنَ الْبَلاَءِ ".
وقَالَ ﷺ :" سَبْعَةُ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ : الإمَامُ الْعَادِلُ، وَشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ ؛ فَاجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ ؛ فَقَالَ : إنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِيْنُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ".
قال أهلُ المعاني : هذهِ الآيةُ في صدقةِ التطوعِ، ولإجماعِ العلماءِ أنَّ الزكاةَ المفروضةَ إعلانُها أفضلُ كالصلاةِ المفروضةِ في الجماعةِ أفضلُ من إفرادِها، وكذلكَ سائرُ الفرائضِ ؛ لمعنيينِ ؛ أحدِهما : ليقتدي به الناسُ، والثاني : لزوالِ التهمةِ ؛ لِئَلاَّ يسيءَ به الناسُ الظنَّ، ولا رياءَ في الفرضِ.
وأما النوافلُ والفضائلُ فإخفاؤها أفضلُ لِبُعْدِهَا عن الرياءِ، يدلُّ على صحَّةِ هذا التأويلِ ما روي عن أبي جعفرَ في قولهِ تعالى :﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ﴾ قالَ :(يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ ﴾ يَعْنِي التّطَوُّعَ). وعن ابنِ عباس أنه قالَ :(جَعَلَ اللهُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فِي السِّرِّ تَفْضُلُ عَلاَنِيَتَهَا بسَبْعِيْنَ ضِعْفاً، وَصَدَقَةُ الْفَرِيْضَةِ تُفْضُلُ عَلاَنِيَتُهَا سِرَّهَا بخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ ضِعْفاً). وَقَالَ ﷺ :" الْمُسِرُّ بالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بالصَّدَقَةِ، وَالْجَاهِرُ بالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بالصَّدَقَةِ " وذهب الحسنُ وقتادةُ إلى أن الإخفاءِ في كلِّ صدقةٍ أفضل ؛ مفروضةً كانت أم تطوُّعاً.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس والكلبيُّ :(اعْتَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَكَانَتْ مَعَهُ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ أسْمَاءُ بنْتُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رضي الله عنه، فَجَاءَتْهَا أُمُّهَا قُتَيْلَةُ وَجَدُّهَا أبُو قُحَافَةَ يَسْأَلُونَهَا الصِّلَةَ وَالْعَطِيَّةَ، فَقَالَتْ : لاَ أُعْطِيْكُمْ شَيْئاً حَتَّى أسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ؛ فَإنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى دِيْنٍ ؛ فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي ذلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمَا). وقال محمدُ بن الحنفيَّةِ :(كَانَ يَكْبُرُ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ التَّصَدُّقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرُواْ بذَلِكَ فِي غَيْرِ فَرِيْضَةٍ).
ومعنى الآيةِ : ليسَ عليكَ يا محمدُ تَحْصِيْلَ الهدى لهم بأن تَمنعهم من الصدقةِ لتحملهم على الإيْمانِ، ولكنَّ اللهَ يُثَبتُ وَيُرْشِدُ ويوَفِّقُ للخيرِ مَن يشاءُ. وروي أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه رَأى رَجُلاً مِنْ أهْلِ الذِّمَّةِ يَسْأَلُ عَلَى أبْوَاب الْمُسْلِمِيْنَ، فَقَالَ :(مَا أنْصَفْنَاكَ ؛ أخذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ وَأنْتَ شَابٌّ ؛ ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ الْيَوْمَ) فَأَمَرَ أنْ يَجْزِيَ عَلَيْهِ قُوتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ أي ما تنفِقُوا من مالٍ على برٍّ أو فاجِرٍ فلأنفسِكُم ثوابهُ ونفعهُ عائدٌ إليكم، ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ ؛ أي عَلِمَ اللهُ أنكم لا تريدون بنفقتِكُم إلا طلبَ مرضاةِ اللهِ وإنْ كان المتصدَّق عليه كافراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ أي ما تتصدَّقوا به من مالٍ يوفَّ إليكم ثوابهُ في الآخرةِ، ﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ أي لا تُنْقَصُونَ شيئاً من ثواب أعمالِكم وصدقاتِكم.
وظاهرُ الآيةِ يقتضي جوازَ دفعِ الصدقاتِ إلى الكفَّار إلاَّ أنَّ النَّبيَّ ﷺ خَصَّ مِنْهَا الزَّكَاةَ ؛ فَقَالَ :" أُمِرْتُ أنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ وَأرُدُّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ".
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ ؛ قيل : معناهُ : ما أنفقتُم من نفقةٍ للفقراء، وقيل : معناهُ : عليكم بالنفقةِ للفقراءِ الذين حُبسُوا في طاعةِ اللهِ ؛ أي أحْصَرَهُمْ فرضُ الجهادِ فمنعَهم من التصرُّفِ والسيرِ لطلب المعاشِ، وهؤلاء أصحابُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أنفسَهم لطلب العلمِ ؛ وفضل الجمعة ؛ وخدمةِ رسولِ الله ﷺ من أربعمائةِ رجلٍ لم يكن لهم مساكنُ ولا عشائرُ ؛ كانوا معتكفينَ في المسجدِ في صُفَّته ؛ قالوا : نخرجُ في كلِّ سَرِيَّةٍ يبعثُها رسولُ الله ﷺ في سبيلِ الله، فحثَّ اللهُ على الصدقةِ عليهم، فكان الرجلُ إذا بقيَ عنده فضلٌ أتاهم به.
وقوله تعالى :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ ﴾ الضربُ في اللغة : السَّيْرُ، يعني لا يستطيعون سَيْراً في الأرضِ للتجارة وطلب المعيشة، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ ﴾[النساء : ١٠١] وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ ﴾[المزمل : ٢٠]. وقالَ الشاعرُ : لَحِفْظُ الْمَالِ أيْسَرُ مِنْ فَنَائِهِ وَضَرْبٌ فِي الْبِلاَدِ بغَيْرِ زَادِوقال ابنُ زيد :(مِنْ كَثْرَةِ مَا جَاهَدُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ، فَصَارَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا حَرْباً عَلَيْهِمْ ؛ لاَ يَتَوَجَّهُونَ فِيْهَا جِهَةً إلاَّ وَلَهُمْ فِيْهَا عَدُوٌّ). وكان السديُّ يقول :(مَعْنَى ﴿ أُحصِرُواْ ﴾ أيْ مَنَعَهُمُ الْكُفَّارُ بالْخَوْفِ مِنْهُمْ ؛ فَلاَ يَسْتَطِيْعُونَ تَفَرُّقاً فِي الأَرْضِ لِمَنْعِ الْكُفَّار إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ). وقيلَ : هذا لا يصحُّ ؛ لأنه لو كان كذلكَ لقال : حُصِروا، بغير ألِفٍ.
وقال سعيدُ بن جبير :(هَؤُلاَءِ قَوْمٌ أصَابَتْهُمُ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَصَارُواْ زُمَناً وَأحْصَرَهُمُ الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ عَنِ الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ). فاختارَ الكسائيُّ هذا القولَ لأنه يقال : أُحْصِرُواْ من المرضِ والزَّمَانَةِ عن الضرب في الأرض، ولو أراد الحبسَ قال : حُصِرُواْ، وإنَّما الإحصارُ من الخوفِ أو المرضِ، والحَصْرُ : الحبسُ في غيرهما.
قَوْلُُهُ تَعَالَى :﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ قرأ الحسنُ وأبو جعفر وشيبة وابنُ عامر والأعمشُ وعاصم وحمزةُ :(يَحْسَبُهُمْ) بفتحِ السينِ في جميع القرآن، والباقون بالكسرِ.
ومعنى الآية : يظنُّهم الجاهلُ بأمرِهم وشأنِهم أغنياءَ من التعفُّفِ عن السؤالِ ؛ لِتَجَمُّلِهِمْ باللباسِ وكَفِّهِم عن المسألةِ. والتعفُّفُ يُذْكَرُ ويراد به تَرْكَ المسألةِ كما قالَ ﷺ :" مَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أعَفَّهُ اللهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ ؛ أي تعرفهم أنتَ يا محمدُ بعلامةِ فقرهم ورَثَاثَةِ حالِهم. وقيلَ : بتخشُّعهم وتواضُعِهم. وقيلَ : بصفرة ألوانِهم من الجوعِ وقيامِ الليل وصيامِ النهار. وقيلَ : بفَرَحِهِمْ واستقامةِ حالِهم عند تواردِ البلاءِ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ ؛ قال عطاءُ :(إذَا كَانَ عِنْدَهُ غَدَاءٌ لاَ يَسْأَلُ عَشَاءً، وَإنْ كَانَ عِنْدَهُ عَشَاءٌ لاَ يَسْأَلُ غَدَاءً). وقال أهلُ المعاني :﴿ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ ولا غيرَ إلحافٍ ؛ أي ليس لهم سؤالٌ فيكون إلحافاً، والإلْحَافُ : الإلْحَاحُ، دليلُ هذا القولِ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ﴾ أي من القناعةِ، ولو كانوا يسألونَ لكان يعرفُهم بالسؤالِ لا بالسيماءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس ومقاتلُ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيٍّ رضي الله عنه ؛ كَانَتْ لَهُ أرْبَعَةُ دَرَاهِمَ لَمْ يَمْلِكْ غَيْرَهَا ؛ فَتَصَدَّقَ بدِرْهَمٍ لَيْلاً ؛ وَبدِرْهَمٍ نَهَاراً ؛ وَبدِرْهَمٍ سِرّاً ؛ وَبدِرْهَمٍ عَلاَنِيَةً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ).
وعن ابنِ عباس قال :(لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[البقرة : ٢٧٣] بَعَثَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بدَنَانِيْرَ كَثِيْرَةٍ إلَى أصْحَاب الصُّفَّةِ حَتَّى أغْنَاهُمْ ؛ وَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُُ أبي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي جَوْفِ اللَّيْلِ بوِسْقٍ مِنَ التَّمْرِ - وَالْوِسْقُ سُتُّونَ صَاعاً فَكَانَ أحَبُّ الصَّدَقَتَيْنِِ إلَى اللهِ تَعَالَى صَدَقَةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَنَزَلَ فِيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ أرَادَ باللَّيْلِ سِرّاً صَدَقَةَ عليٍّ رضي الله عنه وَبالنَّهَار عَلاَنِيَةً صَدَقَةَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه).
وروي أيضاً عن ابنِ عباس في هذه الآية ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ﴾ : يَعْنِي فِي عَلْفِ الْخَيْلِ الْمُرْتَبطَةِ فِي سَبيْلِ اللهِ. وكان أبو هريرةَ إذا مَرَّ بفَرَسٍ سَمِيْنٍ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ؛ فَإذا مَرَّ بفَرَسٍ أعْجَفَ سَكَتَ.
وعن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قَالَ :" مَنِ ارْتَبَطَ فَرَساً فِي سَبيْلِِ اللهِ وَأنْفَقَ عَلَيْهِ احْتِسَاباً ؛ كَانَ شَبَعُهُ وَجُوعُهُ وَرَيُّهُ وَظَمَؤُهُ وَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ فِي مِيْزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وقال ﷺ :" الْمُنْفِقُ فِي سَبيْلِ اللهِ عَلَى فَرَسِهِ كَالْبَاسِطِ كَفَّيْهِ بالصُّرَّةِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ قال الأخفشُ وقُطْرُبُ :(جَعَلَ الْخَبَرَ بالْفَاءِ ؛ لأَنَّهُ فِي مَعْنَى (مَن)، وَجَوَابُ (مَن) بالْفَاءِ ؛ كَأَنَّهُ قَالَ : مَنْ أنْفَقَ كَذَا فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبهِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ قد تقدَّم تفسيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَاواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ ؛ معناهُ :﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَاواْ ﴾ في الدنيا ﴿ لاَ يَقُومُونَ ﴾ في الآخرةِ من قبورهم لِعِظَمِ بطونِهم، ﴿ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ﴾ في الدنيا الذي يضرِبُه ويصيبهُ ﴿ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ أي مِن الجنونِ. روي أنَّهم يُبعثونَ يوم القيامةِ وقد انتفخت بطونُهم كلَّما قامُوا سقطُوا والناسُ يَمشونَ عليهم وهم كالْمَجَانِيْنِ. قال الحسنُ :(هَذِهِ عَلاَمَةَ أكْلِ الرِّبَا ؛ يُعْرَفُونَ بهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَاواْ ﴾ ؛ ومعناهُ : كان الرجلُ إذا حلَّ مالهُ بعد الأجلِ طلبَهُ ؛ فيقول المطلوبُ : زدنِي في الأجل وأزيدُك في مالِكَ. فيفعلان ذلكَ ؛ فإذا قيلَ لهم : إن هذا ربَا ؛ قالوا : هُما سواءٌ ؛ والزيادةُ في آخرِ البيع بعد الأجلِ كالزيادة في أوَّلِ البيع إذا بعتَ بالنسيئةِ سواءٌ. وليس الأمرُ كما توهَّموا ؛ لأن الزيادةَ في الثمنِ في آخر البيعِ لأجْل الإبعاد في الأجَلِ بعدما صارَ الثمنُ دَيناً في الذمة يكون عِوَضاً عن الأجلِ ؛ والاعتياضُ عن الأجل باطلٌ، وأما الزيادةُ في الثمنِ في أصل العقدِ فتكون مقابلةً للبيعِ، ويجوزُ بيعُ المبيع بثمنٍ قليل وثَمن كثيرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَاواْ ﴾ ؛ أي أحلَّ الزيادةَ في أول البيعِ وحرَّم الزيادة في آخرهِ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ أي فمن جاءه زَجْرٌ من ربهِ ونُهِيَ عن الرِّبَا فانتهَى فلهُ ما مضى من أكلهِ الرِّبَا قبل النهيِ ؛ أي لا إثْمَ عليهِ في ذلكَ، وأمرُهُ فيما بقيَ من عمرهِ إلى اللهِ ؛ إنْ شاءَ عَصَمَهُ وإن شاءَ لَمْ يَعْصِمْهُ. وقيل : معناهُ :﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾ أي لهُ ما أخذَ من الربا قبل التحريمِ، ﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ في المستأنفِ في العفوِ والتجاوز.
وإنَّما لم يقل : فَمَنْ جَاءَتهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبهِ ؛ لأن تأنيثَ الموعظةِ ليس بحقيقيٍّ، فيجوزُ تذكيرهُ ويجوز أن ينصرفَ إلى المعنى، كأنه قالَ : فمن جاءَهُ وعظٌ ونُهي من ربهِ عن الرِّبا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي من عَادَ إلى أكلِ الربا ﴿ فَأُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا ﴾ دائمون إلى ما شاءَ الله. وقيل : معناهُ : مَن عادَ بعد النهي إلى قولهِ إنَّما البيعُ مثلُ الربا ؛ فأولئكَ أهلُ النار هم فيها مقيمون ؛ لأن مستحلَّ الربا كافرٌ لإنكارهِ آيةً مِن كتاب اللهِ تعالى.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ ﷺ أنهُ قَالَ :" سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أحَدٌ إلاَّ أكَلَ الرِّبَا، وَإنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أصَابَهُ مِنْ غُبَارهِ " وعن عبدِالله بن مسعودٍ قال :(آكِلُ الرِّبَا وَمُؤَكِّلَهُ وَكَاتِبُهُ وَشَاهِدُهُ إذا عَلِمُواْ بهِ ؛ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقال ﷺ :" الرِّبَا بضْعٌ وَسَبْعُونَ بَاباً ؛ أدْنَاهَا كَإتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ ".
والْخَبَطُ في اللغةِ هو الضربُ على غيرِ استواءٍ ؛ يقال : خَبَطَ البعيرُ إذا ضربَ بيدهِ. والْمَسُّ : الجنونُ، يقال : رجلٌ مَمْسُوسٌ ؛ أي مجنونٌ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَاواْ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ ؛ معناه : يُهْلِكُ اللهُ الربا ويذهبُ ببَرَكَتِهِ. والْمَحْقُ : نقصانُ الشيء حالاً بعد حالٍ، ويقال : إنِّ الربا ينقصُ حالاً بعد حالٍ إلى أن يتلفَ كلُّه. قوله :﴿ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ أي يقبلُها ويعطي خَلَفها في الدنيا، ويضاعفُ ثوابه في الآخرة واحدةً إلى عشر إلى سبعينَ إلى سبعمائةٍ إلى ما شاءَ الله من الأضعافِ. كما روي عن رسولِ اللهِ ﷺ أنهُ قالَ :" إنَّ اللهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يََقْبَلُ مِنْهَا إلاَّ الطَّيِّبَةَ، وَيُرَبيهَا لِصَاحِبهَا كَمَا يُرْبي أحَدُكُمْ مُهْرَهُ وَفَصِيْلَهُ حَتَّى أنَّ اللُّقْمَةَ تَصِيْرُ مِثْلَ أُحُدٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ ؛ أي يبغضُ كلَّ جاحدٍ تحريمَ الربا ؛ فاجرٍ عاصٍ بأكلهِ واستحلالهِ. وإنَّما قالَ :﴿ كَفَّارٍ ﴾ ولم يقل : كافرٍ ؛ ليبيِّن أن مستحلَّ الربا مع كونه كافراً كَفَّارٌ للنعمةِ. والأثيمُ : الْمَادِي في الإثْمِ، والآثِمُ : الفاعلُ للإثْمِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ ؛ معناهُ :﴿ إنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ باللهِ وكتبهِ ورسله وتحريمِ الربا ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فيما بينهم وبينَ ربهم، وأتَّمُّوا الصلواتَ الخمس، وأعطوا الزكاة المفروضةَ من أموالهم، فلهُم جزاؤهم وثوابُهم في الآخرة ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ إذا ذبحَ الموتُ ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ إذا أطبقتِ النارُ على أهلها.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَاواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي نَفَرٍ مِنْ ثَقِيْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحَبيْبٍ وَرَبيْعَةٍ وَعَبْدِ يَالَيْلِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرَ الثَّقَفِيّ، كَانَتْ لَهُمْ دُيُونٌ عَلَى بَنِي الْمُغَيْرَةِ ؛ وَكَانَ بَنُو الْمُغِيْرَةِ يُرْبُوهُمْ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبيُّ ﷺ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ وُضِعَ الرِّبَا كُلُّهُ، وَكَانَ أهْلُ الْطَّائِفِ قَدْ صَالَحُواْ عَلَى أنَّ لَهُمْ ربَاهُمْ مِنَ النَّاسِ يَأْخُذُونَهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ ربَا النَّاسِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، فَقَالَ ﷺ :" أُكْتُبْ فِي آخِرِ كِتَابهِمْ : أنَّ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهِمْ " فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ طَلَبَتْ ثَقِيْفُ مِنْ بَنِي الْمُغِيْرَةِ ربَاهُمْ ؛ فَقَالَتْ بَنُو الْمُغِيْرَةِ : مَا بَالَنُا نَكُونُ أشْقَى النَّاسِ ؛ وُضِعَ الرِّبَا عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَيُؤْخَذُ مِنَّا خَاصَّةً! فَقَالَتْ لَهُمْ ثَقِيْفُ : إنَّا صَالَحْنَا عَلَى ذلِكَ، فَاخْتَصَمُواْ إلَى أمِيْنِ مَكَّةَ وَهُوَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، فَلَمْ يَدْر مَاذا يَقْضِي بَيْنَهُمْ، فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بالْمَدِيْنَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ خِطَاباً لِثَقِيْفٍ).
ومعناها :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ ﴾ اخْشَوا اللهَ واتركوا ﴿ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَاواْ ﴾ فإنه لم يَبْقَ غيرُ ربَاكُمْ ﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ أي مصدِّقين بتحريم الرِّبا فهذا حكمهُ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ؛ أي إن لم تقبَلُوا أمرَ الله ولم تُقِرُّوا بتحريمِ الربا ولم تتركوهُ، فاعلموا أنكم كفَّارٌ يحاربكم اللهُ ورسوله ؛ أي يعذِّبكم الله في الآخرة بالنار ؛ ويعذِّبكم رسولهُ في الدنيا بالسَّيْفِ. والإذْنُ : الإعْلاَمُ، ومن قرأ (فَأْذِنُوا) أي فأعلِمُوا أصحابَكم المتمسكينَ بمثل ما أنتُمْ عليه : أنَّ مَنْ عامَلَ بالربا مستحِلاً له حاربَهم اللهُ ورسوله.
وقيل : معنَى الآيةِ : فإن لم تتركُوا ما بقيَ من الربا بعد نزولِ الأمر بتركهِ ﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾.
ومثلُ هذا اللفظ لا يوجبُ الإكفارَ ؛ لأن لفظَ محاربة الله ورسولهِ يُطلق على ما دونِ الكفر كما في آية قُطَّاعِ الطريقِ. وهذا الحكمُ في آية الربا إنَّما هو مستقيمٌ إذا اجتمعَ أهل بلدة لهم مَنَعَةٌ وقوَّةٌ على المعاملةِ بالربا وكانوا محرِّمين له، فإن الإمامَ يستتيبُهم ؛ فإن تابوا وإلا قاتلَهَم. وأما إذا عامَلَ واحد أو جماعةٌ قليلٌ عددهم معاملةَ الربا، فإن الإمام يستتيبُهم ؛ فإن تابوا وإلا زَجَرَهم وحبسَهم إلى أن يُظهروا توبتهم. وقد روي عنِ ابن عباس وقتادةَ والربيعِ فيمن أرْبَا :(أنَّ الإمَامَ يَسْتَتِيْبُهُ، فَإنْ تَابَ وإلاَّ قَتَلَهُ). فهذا محمولٌ على أن يفعله مُستحلاً له ؛ لأنه على خلافَ بين العلماء أنه ليسَ بكافرٍ إذا اعتقدَ تحريْمَه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون ﴾ ؛ أي فإن رجعتُمْ عن استحلالِ الربا وأقررتُم بتحريْمهِ. ويقال : إنْ تُبْتُمْ عن معاملةِ الربا ﴿ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ ﴾ التي أسلفْتُموها بني المغيرةِ، ﴿ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ بطلب الزيادة على رأسِ المال، ﴿ وَلاَ تُظْلَمُون ﴾ بحبسِ رأس المال عنكم.
قال ابنُ عباس :(فَلَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الآيَتَانِ، كَتَبَ بهِمَا رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى عَتَّابٍ، فَقَرَأهُمَا عَلَى ثَقِيْفٍ فَقَالُواْ : بَلَى، نَتُوبُ إلَى اللهِ فَإنَّهُ لإيْذَانٌ لَنَا بحَرْب اللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ طَلَبُواْ رُؤُوسَ أمْوَالِهِمْ مِنْ بَنِي الْمُغِيْرَةِ، فَقَالَتْ بَنُو الْمُغِيْرَةِ : نَحْنُ الْيَوْمَ أهْلُ عُسْرٍ وَأخِّرُونَا إلَى أنْ تُدْرَكَ الثِّمَارُ، فَأَبَواْ أنْ يُؤَخِّرُوهُمْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ ؛ أي إن كان المطلوبُ ذا ضيقٍ وشدَّةٍ ؛ فتأخيرهُ إلى سَعَةٍ ويَسَارٍ.
وروي عن ابنِ عباس وشريحٍ وإبراهيم :(أنَّ الإنْظَارَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الدَّيْنِ، يَعْنِي دَيْنَ الرِّبَا خَاصَّةً). وكان شُرَيْحٌ يحبسُ المعسرَ في غيره من الديون. وعن أبي هريرةَ والحسنِ والضحَّاك :(أنَّ ذلِكَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ دَيْنٍ) وهذا هو الأَصحُّ ؛ لأنَّ نزولَ الآية في رأسِ مال الربا لا يَمنعُ اعتبارَ سائرِ الديون بها بالاستدلال والقياسِ.
وذهبَ بعض النحويِّينَ : إلى أن الرفعَ في قوله ﴿ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ دليل على أنه ابتداءٌ على معنى : وإن وقعَ ذو عسرةٍ، أو وجد ذو عسرة، ولو كان مختصّاً هذا بالربا لقال : وإنْ كان ذَا عُسْرَةٍ، بالنصب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ ؛ هذا تحذيرٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ أن يوافي العبادُ ذلك اليومَ على غِرَّةٍ وغفلةٍ وتقصيرٍ في أوامر الله ومخالفتهِ فيما أحلَّ الله وحرَّم، يقول : اخْشَوا عذاب يومٍ ترجعون فيه إلى جزاءِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ ؛ أي توفَّى كلُّ نفسٍ جزاءَ ما عملت من خيرٍ أو شرٍّ، ﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ أي لا يُنقصُ من حسناتِهم ولا يُزاد في سيئاتِهم.
قرأ أبو عمرٍو ويعقوبُ :(تَرْجِعُونَ) بفتح التاء، واعتبرهُ بقراءة أُبَيّ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تَصِيْرُونَ فِيهِ إلَى اللهِ). وقرأ الباقون (تُرْجَعُونَ) بضمِّ التاء، اعتباراً بقراءة عبدِالله :(وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرَدُّونَ فِيهِ إلَى اللهِ).
قال ابنُ عباس :(هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا حَجَّ الْبَيْتَ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ عليه السلام وَهُوَ وَاقِفٌ بعَرَفَةَ بقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[المائدة : ٣] الآيَةُ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾. قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ، ضَعْهَا عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيْنَ وَمِائَتَي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَقُبضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ بتِسْعَةِ أيَّامٍ).
قال المفسرونَ :" لَمَّا نزلَ على رسولِ الله ﷺ ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾ قَالَ :[يَا لَيْتَنِي أعْلَمُ مَتَى ذلِكَ] فأنزلَ اللهُ هذه الآية ﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾، قَالَ :[أمَا إنَّ نَفْسِي نُعِيَتْ إلَيَّ] ثم بَكى بكاءً شديداً، فقيلَ لهُ : يا رسولَ اللهِ، أتبكي من الموتِ وقد غُفِرَ لك ما تقدَّمَ من ذنبكَ وما تأخرَ؟! فَقَالَ :[وَأيْنَ خَوْفُ الْمَطْلَعِ، وَأيْنَ ضِيْقُ الْقَبْرِ وَظُلْمَةُ اللَّحْدِ، وَأيْنَ الْقِيَامَةُ وَالأَهْوَالُ] " فعاشَ رسولُ الله ﷺ بعد نزولِ هذه الآيةِ عاماً ؛ ثم نزل قوله :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾[التوبة : ١٢٨] فعاش رسول الله ﷺ بعد نزول هذه الآية عَامَهَا بستةِ أشهرٍ.
ثم لَمَّا خرجَ رسولُ الله ﷺ إلى حَجَّةِ الوداعِ نزلَ عليه في الطريقِ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ ﴾[النساء : ١٧٦] إلى آخرِها، ثم نزلَ بعدَها وهو واقفٌ بعرفةَ﴿ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾[المائدة : ٣] الآيةُ، فعاشَ بعدها إحدَى وثَمانينَ ليلةً، ثم نزل بعدَها آياتُ الرِّبَا. ثم نزلَ بعد ذلكَ ﴿ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ وهي آخرُ آيةٍ نزلت، فعاشَ رسولُ الله ﷺ بعدَها إحدَى وعشرين ليلةً، قال ابن جُريج :(تِسْعَ لَيَالٍ). وقال ابن جُبير ومقاتلُ :(سَبْعَ لَيَالٍ). ثم ماتَ يومَ الاثنينِ لليلتين مضت من شهرِ ربيعٍ الأول حينَ زاغَتِ الشمسُ سنةَ إحدَى عشرةَ من الهجرةِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ ؛ قال ابنُ عباس :(لَمَّا حَرَّمَ الرِّبَا أبَاحَ السَّلَمَ) وَظَاهِرُ الآيَةِ عَلَى كُلِّ دَيْنٍ مِنْ سَلَمٍ وَغَيْرِهِ. ومعنى الآية :﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ﴾ تبايعتم بالنَّسيئةِ إلى وقتٍ معلوم فاكتبُوا الدَّين بأجلهِ وأشْهِدُوا عليه كَيْلا تحدِّث نفسُ أحدِكم بالطمعِ في حقِّ صاحبه، ولا يقعُ شكٌّ في مقدارهِ، ولا جحودٌ ولا نسيانٌ. والدَّين : ما كانَ مؤجَّلاً، والعينُ : ما كان حَاضِراً.
واختلفُوا في هذه الكتابةِ أنَّها فَرْضٌ أو ندبٌ ؟ فذهبَ أبو سعيدٍ الخدري والحسنُ والشعبيُّ :(أنَّ الْكِتَابَةَ والإشْهَادَ عَلَى الدُّيُونِ الآجِلَةِ كَانَا وَاجِبَيْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَا بقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾[البقرة : ٢٨٣]. وقال ابنُ عباس :(لاَ وَاللهِ، إنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ مَا فِيْهَا نَسْخٌ). وهو قولُ الربيعِ وكعبٍ، وهذا هو الأصحُّ ؛ لأن الأمرَ بالكتابةِ والإشهادِ إنَّما وردَ مقروناً بقولهِ :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾[البقرة : ٢٨٣]، ويستحيلُ ورودُ الناسخِ والمنسوخِ معاً في شيءٍ واحد، فكأنَّ المرادَ بالأمرِ الندبُ.
والفائدةُ في قوله :﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ بيانُ إعلامِ وجوب الأجلِ ؛ فإن جهالةَ الأجلِ في الْمُبَاعَاتِ تفسدُها. وقال بعضُهم : إن الكتابةَ فرضٌ واجبٌ.
وقال ابن جُريج :(مَنْ أدَانَ دَيْناً فَلْيَكْتُبْ، وَمَنْ بَاعَ فَلْيُشْهِدْ). يدلُّ عليه ما رُوي أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ :" ثَلاَثَةٌ يَدْعُونَ اللهَ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ : رَجُلٌ كَانَ لَهُ دَيْنٌ فَلَمْ يُشْهِدْ، وَرَجُلٌ أعْطَى سَفِيْهاً مَالاً وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأةُ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا ".
وقال قومٌ : هو مستحبٌ ؛ وإن كتَبَ فحسنٌ وإن تركَ فلا بأسَ، كقولهِ تعالى :﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ﴾[المائدة : ٢] وقولهِ تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ ﴾[الجمعة : ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ ؛ قرأ الحسنُ :(وَلِيَكْتُبْ) بكسرِ اللام وهذه لامُ الأمرِ، وهي إذا كانت مفردةً " سُكِّنَتْ " طلباً للخفَّةِ، ومنهم من يكسِرُها فليس فيها إلا الحركةُ، وإذا كان قبلَها (واو) أو (فاء) أو (ثُمَّ) فأكثرُ العرب على تسكينِها طلباً للخفَّةِ. ومنهم من يكسِرُها على الأصلِ.
ومعنى هذه الآيةِ : وَلْيَكْتُبْ كاتبٌ بين البائعِ والمشتري ؛ والطالب والمطلوب بالحقِّ والإنصافِ، فلا يزادُ فيه ولا ينقصُ منه، ولا يقدِّمُ الأجلَ ولا يؤخِّرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ﴾ ؛ أي لا يَمْتَنِعُ أن يكتبَ كما ألْهَمَهُ اللهُ شُكراً لِما أنعمَ عليه حيث علَّمهُ الكتابةَ وأحوجَ غيرهُ إليهِ ؛ ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾.
واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتِب ؛ والشهادةِ على الشاهدِ ؛ فقال مجاهدُ والربيع :(وَاجِبٌ عَلَى الْكَاتِب أنْ يَكْتُبَ). وقال الحسنُ :(ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ فِيْهِ عَلَى كَاتِبٍ غَيْرِهِ، فَيَضُرُّ بصَاحِب الدَّيْنِ إنِ امْتَنَعَ، فَإنَّ الْكِتَابَةَ حِيْنَئِذٍ عَلَيْهِ فَرِيْضَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ الآيةُ، معناه : إذا كنتم مسافرين ﴿ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً ﴾ يكتبُ الوثيقة بالحقِّ، (فَـ) الوثيقةُ (رهَانٌ) يقبضُها الذي له الحقُّ.
قرأ ابنُ عباس وأبو العالية ومجاهدُ :(كِتَاباً) يعني الصحيفةَ والدَّواةَ ؛ قالوا : لأنه ربَّما يجدُ الكاتبَ ولا يجد المرادَ والصحيفةَ والدواةَ. وقرأ الضحَّاك :(كُتَّاباً) على جمعِ الكاتب. وقرأ الباقون :(كَاتِباً) وهو المختارُ لموافقة الْمُصْحَفِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ قرأ ابنُ عباس ومجاهدُ وابن كثير وأبو عمرٍو :(فَرُهُنٌ). وقرأ عكرمةُ وعبدالوارث :(فَرَهْنُ) بإسكانِ الهاء. وقرأ الباقون :(فَرِهَانٌ) وهو جمعُ رهنٍ مثل نَعْلِ ونِعَالٍ ؛ وجَبَلٍ وجِبَالٍ. والرُّهُنُ : جمعُ رهان وهو جمع الجَمعِ، قاله الفرَّاءُ والكسائي. وقال أبو عبيدٍ :(هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ، مِثْلُ سَقْفٍ وسُفُفٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ ؛ أي إنْ كان الذي عليه الحقُّ أميناً عند صاحب الحق فلم يرتَهن منه شيئاً لِثِقَتِهِ وحُسن ظنِّه ؛ ﴿ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ أي فليؤدِّ المطلوبُ أمانتَه بأن لا يبخَسَ ولا يجحدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ ﴾ ؛ أي لا تكتُمُوها عند الحكَّام ولا تَمتنعوا عن أدائِها، ﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ ؛ أي فاجرٌ سَرِيْرَتُهُ، وأضافَ الإثْمَ إلى القلب وإن كان الآثِمُ هو الكاتِم ؛ لأن اكتسابَ الإثم بكتمانِ الشهادة يقعُ بالقلب ؛ وهذا أبلغُ في الوعيدِ وأحسنُ في البيانِ ؛ لأن كاتِم الشهادة يلحقهُ الإثم من وجهين ؛ أحدُهما : العزمُ على أن لا يؤدِّي. والثاني : تركُ أدائها باللسانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ ؛ أي عليمٌ بما تعملون به من كتمانِ الشهادةِ وإقامتها ؛ وأداءِ الأمانة والخيانةِ فيها ؛ عالِمٌ لا يخفَى عليه شيء مِمَّا تفعلونَ.
ولا خلافَ بين العلماء في جواز الرهن في الْحَضَرِ ؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ " اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَاماً إلَى أجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ " والفائدةُ في ذكرِ السفرِ في الآية : أن الأغلبَ من حالِ السفر عدمُ الشهود والكُتَّاب ؛ فخُصَّ الرهنُ بحال السفرِ. وعن مجاهد :(أنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الرَّهْنَ فِي الْحَضَرِ).
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ ؛ اختلفَ المفسرونَ في هذه الآيةِ ؛ فقال قومٌ : هي خاصَّة ؛ واختلفوا في خصوصِها، فقال بعضُهم : نزلت في كتمانِ الشهادة وإقامتِها. يعني ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ أيُّها الشهودُ مِن كتمان الشهادةِ أو تُخفوا الكتمانَ ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾. وهذا قولُ الشعبيِّ وعكرمةَ، وروايةُ مجاهد عن ابنِ عباس، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى فيما قبلها :﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ ﴾[البقرة : ٢٨٣] الآيةُ.
وذهبَ بعضُهم إلى أنَّها عامَّةٌ في الشهادةِ وفي غيرها، ثم اختلفُوا في وجهِ عمومِها ؛ فقال بعضُهم : هي منسوخةٌ.
" وروي أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَاءَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَنَاسٌ مِنَ الأَنْصَار إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ؛ فَجَثَواْ عَلَى الرُّكَب وَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَزَلَ عَلَيْنَا آيَةً أشَدُّ مِنْ هَذِهِ ؛ إنَّ أحَدَنَا لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بمَا لاَ يُحِبُّ أنْ يَثْبُتَ فِي قَلْبهِ - يعني يحدثُ نفسَهُ بأمرٍ من المعصيةِ ثُم لا يعملُ بها - وَإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بمَا تُحَدِّثُ بهِ نُفُوسَنَا إذا هَلَكْنَا ؟ فَقَالَ ﷺ :[هَكَذَا نَزَلَتْ]، فَقَالُواْ : كُلِّفْنَا مِنَ الْعَمَلِ مَا لاَ نُطِيْقُ، فَقَالَ ﷺ :[أفَتَقُولُونَ كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟!] فَقَالُواْ : بَلْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا يَا رَسُولَ الله. وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ ذلِكَ ؛ فَمَكَثُواْ حَوْلاً، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا. فَقَالَ ﷺ :[إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ يَعْمَلُواْ أوْ يَتَكَلَّمُواْ بهِ] " وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ وأبي هريرةَ وعائشةَ برواية ابنِ جبير وعطاءٍ وابن سيرين وقتادةَ والكلبيِّ وشيبانَ.
وقال بعضُهم : لا يجوزُ أن تكون هذه الآيةُ منسوخةً ؛ لأنَّها خبرٌ من عندِ الله ؛ والخَبرُ لا يحتملُ النسخَ ؛ لأنه خَلَفٌ ؛ تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كَبيْراً، لكنَّ المرادَ بالآية إظهارُ العمل وإخفاؤُه. وقال الربيعُ :(هَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرَِّفُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ : إنَّكَ أخْفَيْتَ فِي صَدْركَ كَذَا وَكَذَا، يُحَاسِبُهُ عَلَى مَا أسَرَّ وَأعْلَنَ مِنْ حَرَكَةٍ فِي جَوَارحِهِ وَهَمِّهِ فِي قَلْبهِ، فَهَكَذَا يُصْنَعُ بكُلِّ عِبَادِهِ، ثم يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ).
وقيل : لا يؤاخذُ المؤمنَ بما حاسبَهُ من ذلك، فمعناهُ : وإن تُظهروا ما في أنفسكم من المعاصي أو تُضمروا إرادتَها في أنفسكم فتخفوها ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ أي يخبرُكم بها ويحاسبُكم عليها، ثم يغفرُ لمن يشاء ويعذبُ من يشاء، وهذا قولُ الحسنِ والربيع وروايةُ الضحاكِ عن ابن عباس، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ ؛ الآية، لَمَّا سبقَ في السورة ذكرُ أحكامٍ كثيرة أثنى اللهُ على مَن آمن بها وقَبلَهَا، وقال عَزَّ من قائلٍ :﴿ ءَامَنَ الرَّسُولُ ﴾ بجميعِ الأحكامِ التي أنزلَها اللهُ تعالى، وكذلك المؤمنونَ كلُّهم آمنوا باللهِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَلائِكَتِهِ ﴾ ؛ إنَّما أتى بالملائكةِ لأن حَيّاً من خُزاعة كانوا يقولون : الملائكةُ بناتُ اللهِ، فقالَ ﷺ :" وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَلاَئِكَةَ عِبَادُ اللهِ ".
قولهُ :﴿ وَكُتُبِهِ ﴾ ؛ قرأ ابن عباس وعكرمةُ والأعمش وحمزة والكسائيُّ وخَلَفُ :(وَكِتَابهِ) بالألفِ. وقرأ الباقون (وَكُتُبهِ) بالجمعِ، وهو ظاهرٌ كقوله ﴿ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسِلِهِ ﴾. وللتوحيدِ وجهان ؛ أحدُهما : أنَّهم أرادوا القرآنَ خاصَّةً، والثاني : أنَّهم أرادوا جميعَ الكُتُب ؛ كقول العرب : كَثُرَ الدرهمُ والدينار في أيدي الناسِ، يريدون الدراهمَ والدنانيرَ. يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ﴾[البقرة : ٢١٣].
وقَوْلُهُ تََعَالَى :﴿ وَرُسُلِهِ ﴾ ؛ قرأ الحسن :(وَرُسْلِهِ) بسكونِ السين لكثرةِ الحركات ؛ ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ ؛ أي لا نفعلُ كما فعلَ أهلُ الكتاب آمنوا ببعضِ الرسل وكفروا ببعضٍ. وفي مُصحفِ عبدِالله :(لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). وقرأ جُرير بن عبدالله وسعيدُ بن جبيرٍ ويحيى بن يَعْمُرَ ويعقوبُ :(لاَ يُفَرِّقُ) بالياءِ، بمعنى لا يفرِّقُ الكلَّ، ويجوزُ أن يكون خبراً عن الرسولِ. وقرأ الباقون بالنون على إضمار القولِ ؛ تقديرهُ : قالوا لا نُفَرِّقُ، كقولهِ تعالى :﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم ﴾[الرعد : ٢٣-٢٤] ؛ أي يقولون : سلامٌ عليكم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ ؛ أي سَمعنا قولَك وأطَعنا أمرَكَ. وقيل : معنى ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ قَبلْنَا ما سَمعنا ؛ بخلافِ ما قالتِ اليهودُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ أي اغْفِرْ غُفْرَانَكَ يَا رَبَّنَا. وقيل : معناهُ : نسألُكَ غفرانَك. والأول مصدرٌ، والثاني مفعولٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ أي نحنُ مقرُّون بالبعثِ. ومعنى قوله :﴿ وَإِلَيْكَ ﴾ أي إلى جَزَائِكَ ؛ وهذا كما قالَ عَزَّ وَجَلَّ حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلام :﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾[الصافات : ٩٩] أي إلى حيثُ أمرُ رَبي.
قوله عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ ؛ قرأ إبراهيمُ بن أبي عبلةَ :(إلاَّ وَسِعَهَا) بفتحِ الواو وكسرِ السين على الفعلِ ؛ يريدُ إلا وَسِعَهَا أمرُهُ.
ومعنى الآيةِ :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً ﴾ فَرْضاً من فروضها من صومٍ أو صلاة أو صدقةٍ أو غير ذلك من حديثِ النفسِ ؛ إلا مقدارَ طاقتها كما قالَ ﷺ لِعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ :" صَلِّ قَائِماً ؛ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً ؛ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبكَ تُومِئُ إيْمَاءٌ ".
قال قومٌ : لو كلَّفَ اللهُ العبادَ فوقَ وسعِهم لكان ذلك لهُ ؛ لأن الخلقَ خلقهُ والأمرَ أمره، ولكنه أخبرَ أنه لا يفعلهُ.
Icon