سورة طه
مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية
ﰡ
( طه( قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بإمالة فتح الطاء والهاء وورش وأبو عمرو بإمالة الهاء خاصة والباقون بفتحهما وهما من أسماء الحروف وقد مر الكلام عليها في أوائل سورة البقرة وقيل هو اسم من أسماء الله تعالى وهو قسم كقوله صلى الله عليه وسلم " حم لا ينصرون " أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن البراء بن عازوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة الخندق " حم لا ينصرون " وقال مقاتل بن حبان : معناه في الأرض بقدميك ويريد في التهجد أخرج ابن مردويه في تفسيره عن علي رضي الله واخرج البزار عنه أنه قال : لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم :( يأيها المزمل قم الليل إلا قليلا( قال الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع أخرى فهبط عليه جبريل فقال : طه على الأرض بقدميك يا محمد كذا قرىء، فعلى هذا أصله طأ من وطايطا فقلبت الهمزة هاء وقلبت الهمزة في يطا ألف ثم بني عليه الأمر وضم إليه هاء السكت ويحتمل أن يكون ألف طأ مبدلة من الهمزة والهاء ضمير راجع إلى الأرض لكن يرد على هذا كتابتها على صورة الحروف وقال مجاهد وعطاء والضحاك معناه يا رجلن وقال قتادة هو يا رجل بالسريانية وقال الكلبي هو يا إنسان بلغة عك، فعلى هذا خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا عدوا طه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم لكونه كناية عنه.
قال البغوي قال الكلبي لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه يراوح بين قدميه إذا قام على أحدهما مرة قام على الأخرى مرة وكان يصلي الليل كله فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال :
( ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى( أي لتتعب. في القاموس : الشقاء الشدة والعسر وليد وقال الجوهري الشقاوة خلاف السعادة، وكما أن الشقاوة ضربان دنيوية وأخروية كذلك السعادة ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب نفسية وبدنية وخارجية، كذلك الشقاوة على هذه الأضرب والمراد في هذه الآية الشقاوة الدنيوية البدنية وهو التعب وقال بعضهم قد يوضع الشقاء موضع التعب وقال البيضاوي الشقاء شائع بمعنى التعب ومنه أشقى من ربض المهر وسيد القوم أشقاهم ولعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه أي سعدن أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما أنزل الله عليه الوحي يقوم على صدور قدميه إذا صلى، فأنزل الله ( طه ما أنزلنا القرءان لتقشى( وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن انس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع أخرى فأنزل الله :( طه ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى( وقيل هذه الآية رد لقول الكفار وتكذيب لهم حين رأوا اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في البعادة فقالوا ما أنزل القرآن عليك يا محمد إلا لشقائك فنزلت هذه الآية وجاز أن يكون مراد الكفار ونسبة الشقاوة إلى أسعد الناس نظرا منهم أنه ترك دين الآباء فشقى فرد الله عليهم قولهم وبين سعادته بما أنزل عليه تذكرة ممن اتصف بصفات الكمال يدل عليه ما اخرج ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس قال ك قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه فنزلت ك ( ما أنزلنا عليك القرءان لتشقى( وجاز أن يكون معنى الآية ( ما أنزلنا عليك القرآن( لتتعب وتبخع نفسك لفرطة أسفك على كفر قومك إذ ليس عليك غلا تبليغهم وجملة ما أنزلنا خبر طه عن جعلته مبتدأ على أنه دل بالسورة أو القرآن ولفظ القرآن فيها واقع موقع العرض وجواب إن جعلته مقسما له، ومناد له إن جعلته منادى واستئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدا أو طائفة من الحروف محكية.
( إلا تذكرة( استثناء منقطع يعني لكن تذكيرا ولا يجوز أن يكون بدلا من محل لتشقى لاختلاف الجنسين ولا مفعولا له لأنزلناه لأن الفعل الواحد لا يتعدى على العلتين وجاز أن يكون مستثنى مفرغا منصوبا على العلية لفعل محذوف من جملة مستأنفة تقديره ما أنزلناه إلا تذكرة وقيل هي مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن أو مفعولا له على أن لتشقى متعلق بمحذوف هو صفة للقرآن تقديره ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه لغرض إلا تذكرة ( لمن يخشى( أي لمن كان في قلبه خشية ورقة تلين بالإنذار أو لمن علم الله منه أن يخشى بالتخريف فإنه هو المنتفع به
( تنزيلا( منصوب بإضمار فعله او يخشى أو على المدح او على البدل من تذكرة أن جعل حالا لا إن جعل مفعولا له لفظا أو معنى لأن الشيء يعلل نفسه ولا بنونه ( ممن خلق الأرض والسموات العلى( متعلق بتنزيلا أو صفة له، وفيه التفات من التكلم إلى الغية للتفنن في الكلام وتفخيم المنزل من وجهين إسنادا وإنزاله إلى ضمير الواحد العظيم شأنه ونسبته على المختص بالصفات والأفعال العظيمة فذ=كر أفعاله وصفاته على الترتيب الذي هو عند العقل فبدا الخلق الأرض والسموات التي هي أصول العالم وقدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس وأظهر عنده من السموات العلى وهي جمع العليا تأنيث الأعلى.
( الرحمن على العرش استوى( مر تفسيره في سورة يونس ( له ما في السموات( من الملائكة والكواكب والجبال والأنهار ( وما في الأرض( من الجبال والأنهار والأشجار والمعادن والحيوانات والجن والإنس والشياطين والملائكة، ( وما بينهما( من الهواء والرياح والسحاب والرعد والبرق وغير ذلك ( وما تحت الثرى( وهو التراب الثدي في الحديث " فإذا كلب يأكل الثرى من العطش " يقال ثرى التراب إذا رش عليه الماء، قال البغوي قال الضحاك : يعني ما وراء الثرى من شيء قال ابن عباس أن الأرضين على ظهر النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش، والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منهما وهي الصخرة التي ذكر الله في قصة لقمان ( فتكن في صخرة ( والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى ولا يعلم تحتها إلا الله عز وجل وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست الرحمن مبتدأ ما بعده خبره او مرفوع على المدح وما بعده خبر محذوف أو الرحمن خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن
وجملة ( على العرش استوى(
وجملة ( له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى( أخبار مترادفة بغير عاطف نحو زيد عالم عاقل وجملة هو الرحمن على آخره بعد ذكر خلق الأرض والسموات العلى إما مستأنفة في جواب بين لنا صفته وغما مؤكدة لمضمون جملة فخلق
( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر أخفى( قال البيضاوي تقديره عن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غنى عن جهرك فإنه يعلم السر وأخفى وعندي تقديره عن تجهر بالقول أي بذكر الله ودعائه أو تخافت به فالله يعلمه ويجيبه ويثيب عليه فإنه أي لنه يعلم والسر وأخفى فضلا من الجهر، حذف أو تخافت به لدلالة سياق الكلام عليه كما حذف من قوله تعالى :( سرابيل تقيكم الحر( قوله والبرد قال البغوي قال الحسن السر ما أسر الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسر في نفسه، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير السر ما يسر في نفسه وأخفى من السر ما يلقى الله في قلبك من بعد ولا تعلم أنه سيحدث به لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر بذه غدا والله عليم ما أسررت اليوم وما تسر غدا، وقال علي بن طلحة عن ابن عباس : السر ما أسر ابن آدم في نفسه وأخفى ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعمله وقال مجاهد السر العمل الذي تسرون من الناس وأخفى الوسوسة، وقيل ك السر العزيمة وأخفى ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه، وقال : زيد بن أسلم يعلم السر أخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد وقالت الصوفية العلية السر وأخفى من المجردات الخمسة ترى بنظر الكشف فوق العرش وتتجلى برزاتها في بدن الإنسان وهي القلب والروح والسر والخفي والأخفى، فالقلب مهبط التجليات الولاية الآدمية والروح لولاية النوحية والإبراهيمية والسر لولا الموسوية، والخفي لولاية العيسوية والأخفى لولاية المحمدية عليه وعليهم الصلوات والتسليمات
الله لا إله هو مبتدأ خبر ( له الأسماء الحسنى( خبر ثان والجملة الكبرى مؤكدة مقررة لمضمون له ما في السموات على آخره، لأن من له ملك السموات والأرض لا يجوز إلا أن يكون متوحدة بالألوحية متصفا بجميع صفات الكمال التي يدل عليها الأسماء الحسنى التي لا يمكن الاتصاف بها لغيره، والحسنى تأنيث الأحين وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها وقد ذكرنا بحث أسماء الله الحسنى في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى ك ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها( .
( وهل أتاك حديث موسى( استفهام تقرير أي قد أتاك والجملة معطوفة على مضمون ما سبق من الكلام اعني قوله :( إلا تذكرة( فإنه مضمونه لكنت أنزلناه تذكرة أو قوله تنزيلا يعني تنزيلا يعني أتاك القرآن وأصبت تعب العبادة وتلت أصناف السعادة وقد أتاك حديث موسى متضمنا ما أصابه به من التعب وما ناله منم الدرجات فالله سبحانه بعد تمهيد نبوته صلى الله عليه وسلم ذكر قصة موسى ليأتم به في تحملأ حياة النبوة وتبليغ الرسالة والصبر على مقاسات الشدائد فإن هذه السورة من أوائل ما نزل
( إذ رءا( ظرف لحديث موسى يعني هل أتاك مع وقع من حادثة موسى وقت رؤيته ناران أو الفعل مضمر أي حين رأى نارا كان كبت وكيتن أو مفعول لا ذكر مقدر قال البغوي وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم استأذن سعيبا صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى مصر لزيارة والدته واخيه فأذن له فخرج بأهله وماله وكانت أيام الشتاء فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته في شهرها لا يدري أليلا تضع أنت نهارا فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأ المسير على جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، وأخذا امرأته الطلق فقدح زبذة فلميوره، وقيل إن موسى كان رجلا غيورا فكان يصحب الرفقة بالليل ويفارقهم بالنهار لئلا ترى امرأته فأخطأه مرة الطريق في ليلة مظلمة لما أراد الله عز وجل كرامته فجعل يقدح الزنذ ولا يورى فأبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور ( فقال لأهله امكثوا( أقيموا مكانكم خطاب لامرأته والرفقة، وقيل خطاب لامرأته بتأويل الأهل على سبيل التعظيم لكونها ابنة شعيب، قرأ حمزة لأهله امكثوا هنا في القصص بضم الهاء في الوصل والباقون بكسرها فيه ( إني( قرا نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياتء والباقون بإسكانها والباقون بإسكانها ( ءانست نارا( أي أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه وقيل الإيناس إبصار ما يونس به ( لعلي( قرأ الكوفيون بإسكان الياء والباقون بفتحها ( ءاتيكم منها بقبس( أي شعلة نار تقتبس أي تطلب من معظم النار كذا في القاموس جملة مستأنفة ( أو أجد على النار هدى( أي هاديا يدلني على ىالطريق أو يهديني أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في ما يعن لهم ولما كان حصولها مترقبا غير مقطوع به أورد كلمة الترجي بخلاف الإيناس فإنه كان محققا ولذلك حققه ومعنى الاستعلاء في على النار أن اهلها مشرفون أو مستعلون المكان القريب منها كما أن قوله مررت بزبد الباء للصوق مروره بمكان بقرب منه زيد.
( فلما أتاها( ظرف لنودي قال البغوي : رأى شجرة خضراء من أسفلها على أعلاها أطاقت نارا بيضاء تتقدكأ ضوء ما يكون فلا ضوء بغير خضرة الشجرة ولا خضرة الشجرة تغير ضوء الناء، قال ابن مسعود كانت الشجرة سمرة خضراء وقال قتادة ومقاتل والكلبي كانت من العوسج، وقال وهب كانت من العليق وقيل : كانت شجرة العناب روي ذلك عن ابن عباس قال أهل التفسير لم يكن الذي رآه موسى نارا بل نورا ذكر بلفظ النار لأنه موسى صلى الله عليه وسلم حسبه نارا وقال أكثر المفسرين أنه نور الرب وهو قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما قال سعيد بن جبير هي النار بعينها وهي أحد حجب الله عز وجلن يدل عليه ما روي عن أي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من بصره خلقه " كذا قال البغوي لكن في صحيح مسلم وسنن ابن ماجة " حجابه النور " قلت : النور هو ما ألطف من النار بحيث لا يحرق فالمآل واحدن وفي القصة أن موسى أخذ شيئا من الحشيش اليابس وقصد الشجرة فكان كلما دنا ناءت منه النار وإذا نأى دنتن فوقف متحيرا وسمع تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة ( نودي يا موسى(.
( إني( قرا نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ( أنا ربك( قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح همزة أني أي بأني وكسر الباقون بإضمار القول أو بإجراء النداء مجراه وتكرير الضمير للتأكيد والتحقيق قال البغوي قال وهب نودي من الشجرة فقيل يا موسى فأجاب سريعا ما يدري من دعا فقال إني أسمع صوتك ولا أدري مكانك فأين أنت قال : أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله عز وزجل فأيقن به قال البيضاوي قيل : إن لما نودي قال من المتكلم ؟ قال إني أنا الله فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان، فقال كط أن عرفت انه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات وجميع الأعضاء وهو إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم تلقى من ربه كلاما تلقيا روحانيا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فاتنفش به من غير اختصاص بعضو وجهة ( فاخلع نعليك( قيل أمر بذلك لكون الحفوة تواضعا لله تعالى، وقال البغوي كان السبب فيه ما روى عن ابن مسعود مرفوعا قال : كانتا من جلد حمار ميت ويروى غير مدبوغ وقال عكرمة ومجاهد أمر بخلع النعلين ليباشر بقدميه تراب الأرض المقدسة فتناله بركتها لأنه قد سمت مرتين فخلعهما موسى وألقاهما وراء الواد ( إنك بالواد المقدس( أي المطهر ( طوى( قرأ أهل الكوفة والشام بالتنوين ها هنا وفي سورة النازعات بتأويل المكان وقيل : هو مثنى من الطي مصدر لنودي أو لمقدس أي نودي ندائين أو قدس مرتين قلت أتصل الطي الدرج وجعل الشيء يعضه على بعض فلأجل هذه المشابهة استعمل بمعنى التثنية وقرأ الباقون بلا تنوين للعلمية والعدل لأنه علم للوادي معدول عن طاون أو التأنيث مع العلمية بتأويل البقعة عطف بيان للوادي قال الضحاك وادي مستدير عميق مثل الطور في استدارته وقيل : طوى بالتنوين مصدر قائم مقام فعله حال من الضمير المرفوع المستكن في التطرف الراجح إلى المخاطب وهو موسى وهو إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء فكأنه طوى عليه أي قطع عليه مسافة لو اجتهد في قطعها لبعد عليه غاية البعد.
قالت الصوفية العلية : عروج القلب إلى أصله أي إلى فوق العرش لو حصل بالاجتهاد فرضا لحصل في مدة خمسين ألف سنة بل أكثر فإن المسافة بين الأرض إلى العرش خمسين ألف سنة وهي المكنية بقوله تعالى :( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة( لكن ذلك العروج غنما يحصل بجذب الشيخ على سبيل الاجتباء قال العارف الرومي قدس سره.
سير وابردبرت يكب روزه راه***سير عارف بروت ناتخت شاء
( وأنا اخترتك( للنبوة والرسالة واصطفيتك قرأ حمزة وإنا مشددة النون واخترناك على التعظيم ( فاستمع لما يوحى( إليك اللام متعلق بكل من الفعلين على سبيل التنازع
( إني( قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ( أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني( ولا تعبد غيري الجملة بدل من ما يوحى دال على أنه مقصور على تقدير التوحيد الذي هو كمال العلم والأمر بالعبادة التي هني كمال العمل ( وأقم الصلاة( تخصيص بعد تعميم لكمال الاهتمام بها وعلو منزلتها في سائر العبادات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة عماد الدين " رواه أبو نعيم والبيهقي عن عمرو صاحب مسند الفردوس عن علي رضي الله عنه بلفظ " الصلاة عماد الإيمان " وابن عساكر عن أنس بلفظ " الصلاة نور الإيمان " وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم " أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة " روى مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بين العبد وين الكفر ترك الصلاة " وروى أحمد وأصحاب السنن عن بريدة نحوه وروى أحمد والدارمي والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه ذكر الصلاة يوما فقال :" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي ابن خلف " وروى الترمذي عن عبد الله بن شفيق قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة وبناء على ظاهر هذه الأحاديث قال أحمد بن حنبل من ترك الصلاة متعمدا فقد فكرن وأيضا وجه كونها أفضل العبادات أنها حسنة لذاتها بخلاف أكثر العبادات فإن الصوم لأجل قهر النفس الأمارة بالسوء والزكاة لدفع حاجة الفقير والحج لتعظيم البيت ونحو ذلكن وللدلالة على كونها حسنة لذاتها ذكر الله علة للأمر بإقامتها فقال :( لذكرى
قرا نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أي لتذكرني فيها فإن الصلاة بجميع أجزائه ذكر له تعالى واشتغال به القلب واللسان والجوارح، وقيل معنى لذكري لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها فيها، وقيل : معناه لأن أذكرك بالرحمة والثناء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى :" أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرتني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " متفق عليه من حديث أبي هريرة وقيل : هذا تقييد وليس بتعليل للأمر بالإقامة ومعناه أقم الصلاة لذكري خاصة لا تراني بها ولا تشوبها بذكر غيري، وقيل معناه لأوقات ذكري والآية على هذا مجمل ورد بيانه في موضع آخر بما قال :( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر( ونحو ذلك، وبحديث إمامة جبرائيل المشهور، وقيل : معناه أقم الصلاة لذكر صلاتي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليان إذا ذكرها " وفي رواية " لا كفارة لها إلا ذلك " قال الله تعالى :( وأقم الصلاة لذكرى( متفق عليه، وعن أبي قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس في النوم تفريط إنا التفريط في اليقظة فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال :( وأقم الصلاة لذكرى( رواه مسلم.
( إن الساعة ءاتية( الجملة في مقام التعليل للأمر بالعبادة أو مستأنفة لبيان فائدتها أو معترضة للترتيب وقال البغوي قيل معناه عن الساعة آتية أي تقدير حرف العطف ( أكاد أخفيها( قال الأخفش معناه أريد أخفيها أي أخفي وقتها، وقال البغوي لفظة كاد زائدة والمعنى أخفى وقتها وقيل معناه ( أكاد أخفيها( فلا أقول أنها آتية ولولا ما في الأخبار من اللطف بالعباد قطع الأعذار لما أخبرت بإتيانها نظيره قوله تعالى ( تكاد السموات يتفطرن( يعني لولا حلم الله لتفطرت السموات على القائلين باتخاذ الولد قلت لعل فيه إشارة إلى أن الإيمان بالله وعبادته في مرتبة من الفضل والحسن والشرف كان حقيقيا بين يكونان مقصودين للناس بذاتهما لا لغرض وغاية وإتيان الساعة المشتملة على الجنة والنار وغن كان من لوازم إتيانهما وعدم إتيانهما وثمراتهما المترتبة عليهما لكن الإيمان في نفسه عز وشرف لا بد من إتيانه والكفر في نفسه ذل وخسران لا بد من التحرز عنه فلولا أخبر الله تعالى بإتيان الساعة لم يكن إيمان من آمن بالله طمعا في الجنة أو خوفا من النار بل خالصا لوجه الله ومن ها هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " رواه يعني لم يعصه لو لم يخف عذا الله ولم تكن النار وقالت الرابعة البصرية أريد أن أحرق الجنة وأطفىء النار حتى يعبد الناس الله خالصا لوجهه من غير خوف وطمع ولكن الله سبحانه أخبر بإتيانها لطفا بالعباد وقطعا للعذاب الكفار وأكثر المفسرين قالوا معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها أي يعلم وقتها غيري ويؤيد هذا التأويل أن في بعض القراءات فكيف أظهرها لكم وهذا الكلام على عادة العرب أنهم إذا بالوغا في كتمان الشيء قالوا كتمت سرك من نفسي أي أخفيه غاية الإخفاء والحكمة في الإخفاء التهويل والتخويف لا لهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت، وقيل : معناه أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاه قال البيضاوي يؤيد هذا المعنى القراءة بفتح الهمزة، قال البغوي قرأ بفتح الألف ومعناه أظهرها يقال خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته كذا في النهاية للجزوري، فإن قيل إذا كان الخفاء المجرد بمعنى الإظهار وهمزة الإخفاء للسلب فكيف يكون معنى الإخفاء على القراءة المتواترة الإظهار وكيف يؤيدها قراءة الحسن ؟ قلت : المرجد قد يكون بمعنى الإظهار وقد يكون بمعنى الستر، قال في القاموس خفي يعني مثل رمى يرمي خفيا وخفيا ظهره واستخرجه كاختفاء وخفي يخفى كرضي يرضي خفاء فهو خاف وخفي لم يظهر فعلى هذا إذا زيد همزة الأفعال على المجرد المفتوح العين في الماضي ومكسورة في الغابر كان معناه الستر والسلب الإظهار كما هو مشهور وإذا زيد على مكسور العين في الماضي كان معناه الإظهار وسلب الستر ( لتجزي كل نفس بما تسعى( متعلق بآتية أو باخفيها على معنى أظهرها وكذا على معنى أكاد أخفي إتيانها فلا أقول آتية يعني لا أخبر بإتيانها حتى تجزي كل نفس ما عملت حبا لله من غير طمع في الجنة وخوف من النار بجزاء ما تسعى وذلك الجزاء هو لقاء الله ومراتب قربه.
( فلا يصدنك عنها( أي لا يصرفك عن لقاء الله أو عن الإيمان بإتيان الساعة أو هن إقامة الصلاة أو عن العمل للساعة ( من لا يؤمن ها( نهى الكافر من أن يصد موسى عنها والمراد منه نهيه صلى الله عليه وسلم من أن ينصد عنها بصده كقوله لا أرينك ههنا تنبيها على أن الفطرة السليمة يأبى عن الإعراض عنها ويقتضي الرسوخ في الدين وإن زيادة ( صد ) الكافر إنما هو لاعوجاج فيه ( واتبع هواه( فمال إلى اللذات المحسوسة الفانية، وكف نظره عن ذرك ما فيها من الشر وعن اعتقاد العقاب عليها عطف على ( لا يؤمن( أو حال بتقدير قد من فاعله ( فتردى( فتهلك بالانصداد منصوب بتقدير أن بعد الفاء في جواب النهي.
( وما تلك( استفهام تقرير استيقاظا وتنبيها على أنها عصا حتى يظهر كونها معجزة عظيمة إذا رأى منها عجائب كلمة ما مبتدأ وتلك خبره وهي بمعنى هذه وقوله :( يمينك( حال منها والعامل فيه معنى أفاشرة أي قارة أو أمخوذة بيمينك أو تلك موصول صلة بيمينك ( يا موسى( تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه
( قال هي عصاك( قال البغوي وكانت له شعبتان وفي أسسها أسنان ولها محجن، قال مقاتل اسمها تبعة ( توكأ( أعتمد ( عليها( إذا أعييت وعند الوثبة وإذا وقفت على رأس القطيع ( وأهش بها( أي أضرب بها الشجرة ليسقط ورقها ( على( رؤوس ( غنمي( كي تأكلها في القاموس هش الورق يهش خبطه إذا شربه شربا شديدا ( ولي( قرأ ورش وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ( فيها مئارب أخرى( حاجات أي قضاؤها ( أخرى( صفة لمآرب والقياس آخر وإنما قال أخرى رد إلى الجماعة لرعاية رؤوس الآي وكذا الكبرى، وذلك المأرب أن يلقيها على عاتقه فيعلق بها أدواته وزاده وأن يعرض الزندين على شعبيتها ويلقي عليها السكاء ويستظل به وإذا قصر الرشاء يصل به وإذا تعرضت السباع لغنمه يقاتل به قال البيضاوي كأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يتذكر حقيقتها وما يرى من منافعها حتى إذا رأى بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى استيقن كونها خارقة للعادة ولأجل ذلك ذكر حقيقتها ومنافعها مفصلا ومجملان ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه ومعنى الكلام أنها من جنس العصا ينتفع عنها منافع أمثالها وقال بعض أهل العشق أن موسى صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الجواب بقوله عصاي ويبسط في الكلام التذاذا بمكالمة المحبوب ثم أجمل ولم يصل جميعها أدبا وخوفا من تطويل الكلام.
( قال( الله تعالى ( ألقها يا موسى( يعني اطرح عصاك لتفرغ مما تتكئ ولا تتكئ الأنبياء وترى كنه ما فيها من المآرب قال وهب ظن موسى أنه تعالى يقول ارفضها
( فألقاها( موسى على وجه الرفض ثم حانت منه نظرة ( فإذا هي حية تسعى( تمشي بسرعة على بطنها، وقال الله سبحانه في موضع آخر ( كأنها حية( وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقال في موضع آخر ( فإذا هي ثعبان( وهو أكبر ما يكون من الحيات وأما الحية فإنها تطلق على الصغيرة والكبيرة والذكر والأنثى فقيل في تطبيق الآيات أن الجان عبارة عن ابتداء حالها فإنها صارت أولا على قدر العصا ثم تورمت وتنفخت حتى صارت ثعبانا في انتهاء حالها، وقيل : إنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان قال كأنها جان ولم يقل فإذا هي جان كما قال فإذا هي ثعبان مبين، قال محمد بن إسحاق نظر موسى فإذا العصا حية من عظم ما يكون من الحيات صارت شعيناها شدقين لها والمحجين عنقا وعرفا تهتز كالنيازك وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الحلقة من الإبل فتلقمها وتقصف الشجرة العظيمة بإتيانها وسمع لأسنانها صريفا عظيما فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا وهربن ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه
ثم نودي ( قال( الله تعالى يا موسى أقبل و( خذها( بيمينك ( ولا تخف( ( غني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم( ( سنعيدها سيرتها( أي هيئتها وحالاتها ( الأولى( كما كانت والسيرة فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وقوله : سيرتها بدل اشتمال من الضمير المنصوب في سنعيدها أي سنعيد سيرتها، وقيل لنفعها بها بنزع الخافض تقديره على سيرتها أو يقال على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه أو على الظرف أي سنعيدها في سيرتها أو على المصدرة بتقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى او على طريقة ضربته سوطان أي سنعيدها بسيرتها الأولى أو مفعول ثان لنعيدها بتضمين معنى الجعل أي سنعيدها ونجعلها ذات سيرتها الأولى فتنفع بها كما كنت تنتفع بها.
قال البغوي : كانت على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال الله خذها لف طرف المدرعة على يده، فأمر الله أن يكشف يده فكشف وذكر بعضهم انه لما لف المدرعة على يده قال له ملك أرأيت لو أذن الله بما تحاذره كانت المدرعة تغني عنك شيئا ؟ قال : لا لكني ضعيف من ضعف خلقتن فكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كمما كانت ويده في شعبيتها في الموضع إلى كان بعضها إذا توكأ قال المفسرون أراد الله أن يرى موسى ما أعطاه من الآية التي لا يقدر عليها مخلوق لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون قال البغوي روي عن ابن عباس أن موسى كان يحمل على عصاه زاده وسقاه فكانت تماشيه وتحدثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء ولو اشتهى ثمرة ركزها فتعصف غصن تلك الشجرة وأورقت وأثمرت، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي وكانت تضيء بالليل بمنزلة السادج، وإذا ظهر عدو كانت تجارب وتناضل عنه.
( واضمم يدك( أي كفك اليمنى ( إلى جناحك( قال البغوي يعني إبطك اليسرى وقال قال مجاهد : تحت وجناح الإنسان عضده إلى أصل إبطهن قال البيضاوي هو استعارة من جناح الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما أي يميلهما وفي القاموس الجوانح الضلوع تحت الترائب عم يلي الصدر واحدتها جانحة والجناح اليد والعضد والإبط ( تخرج( تقديره اضمم يدك على جناحك وأخرج تخرج فهو مجزوم على جواب الأمر ( بيضاء( منيرة مشرقة حال من الضمير المستكن في تخرج ( من غير سوء( أي من غير عيب وقبح كنى به عن البرص لأن الطباع تعافه متعلق بيضاء يعني ابيضت من غير سوء قال البغوي قال ابن عباس كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر ( ءاية( أي معجزة دالة على صدقك في دعوى النبوة حال ثان من الضمير المستكن في تخرج أو من الضمير في بيضاء أو مفعول بإضمار خذ أو دونك ( أخرى( سوى العصا
( لنريك( متعلق بالمضمر أعني خذ أو دونك أو بما دل عليه الآية أو القصة، أي بها وفعلنا ذلك لنريك ( من ءاياتنا الكبرى( صفة لآياتنا ولم يقل الكبر لرؤوس الآي أو مفعول ثان لنريك ومن آياتنا حال منها وقيل فيه إضمار تقديره لنريك الآية الكبرى من آياتنا قال ابن عباس كانت يد موسى أكبر آياته
( اذهب إلى فرعون( بعذ هاتين الآيتين فادعه إلى عبادتي ( إنه طغى( أي جاوز الحد في العصيان والتمرد حتى ادعى الألوهية جملة معللة لقوه : اذهب.
( قال( موسى ( رب( أي يا رب ( اشرح لي صدري( حتى يسمع فيه المعارف الحقة التي لا يكفي في دركها عقول العقلاء ومنها درك انه لا يقدر أحد غير الله سبحانه على شيء من الإنفاع والإضرار فيذهب من قلبه مخافة فرعون وجنودهن ونظرا إلى ذلك قال ابن عباس يريد حتى لا أخاف غيرك، وذلك أن موسى كان يخاف من فرعون خوفا شديدا لشدة شوكته وكثرة جنوده
( ويسر لي( قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ( أمري( يعني سهل علي إتيان ما وجب علي من تبليغ الرسالة وغير ذلك من التكاليف حتى يذهب عني كلفة التكاليف ومشاقها ويحصل للنفس لذة في تحمل شدائدها وفي إيهام المشروح والميسر أولا ودفعه بذكر الصدور والأمر ثانيا تأكيد ومبالغة
( واحلل عقدة من لساني( الظرف إما صفة لعقدة أو صلة لا حللن قال البغوي وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فلطم فر عون لطمة واخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته هذا عدوي وأراد أن يقتله، فقالت آسية إنه صبي لا يعقل ولا يميز وفي رواية أن أم موسى لما فطمته ردته فنشأ موسى في حجر فر عون وامرأته يربيانه واتخذاه ولدان فبينما هو يلعب هم فرعون بقتله فقالت آسية أيها الملك إنه صبي لا يعقل جربه إن شئت وجاءت بطشتين في أحدهما الجمر وفي الآخر الجواهر فوضعهما بين يدي موسى فأراد أن يأخذ الجواهر فأخذ جبريل يد موسى عليهما السلام فوضعهما على النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة، واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير أن فرعون حمل موسى يوما فأخذ بلحيته فنتفها فغضب أمر بقتله فقالت آسية إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت فأحضر بين يديه فأراد أخذ الجواهر فأخذ جبريل يده ووضعها على الجمرة ووضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة
( يفقهوا قولي( فغنما يحسن التبليغ من البليغ واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال بم تمسك بقوله تعالى :( قد أوتيت سؤالك( ومن لم يقل به احتج بقوله :( هو أفصح مني لسانا( وبقوله تعالى حكاية عن فرعون ( أم لنا خير من هذا الذي هو هين ولا يكاد يبين( وأجاب عن الأول بأنه لم يسال حل عقدة لسانه مطلقا بل عقدة يمنع الإفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا مجزوما في جواب الأمر.
( واجعل لي وزيرا( معينا وظهيرا مشتقا من الوزير بمعنى الثقل لأنه يحمل الثقل عن الأمير، أو من الوزر بمعنى الملجأ من الجبل لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره ومنه المؤازرة وقيل : أصله أزير من الأزر بمعنى القوة فعيل بمعنى مفاعل كالعشير بمعنى المعاشر والجليس بمعنى المجالس قلبت همزتها واوا لقلبها في موازر ( من أهلي( إما صفة لوزيرا أو صلة لأجعل
( هارون( مفعول أول لأجعل ووزيرا ثانيهما قدم للعناية به، ولي صلة أو حال وجاز أن يكون لي مفعولا وزيرا ومن أهلي ولي تبيين كقوله :( ولم يكن له كفؤا أحد( ( أخي( قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها على الوجوه بدل من هارون أو مبتدأ خبره
( أشدد به أزري( قال في القاموس الأزر الإحاطة والقوة والضعف ضد التقوية والظهر فالمعنى قوية ظهري أو اشدد به قوتي أو قويه ضعفي
( وأشركه في أمري( أي في أمر النبوة وتبليغ الرسالة قرأ ابن عامر اشدد بفتح اللف القطعي واشركه بضم همزة القطع على صيغة المضارع المجزوم على انه جواب الأمر والجمهور بهمزة الوصل المضمومة في الابتداء وفتح همزة القطع في الثاني على صيغة الأمر على أنه بدل اشتمال من قوله اجعل
( كي نسبحك( تسبيحا ( كثيرا( قال الكلبي أي تصلي لك كثيرا
( ونذكرك( ذكرا ( كثيرا( فغن التعاون نهج الرغبات وتؤدي على تكاثر الخيرات
( إنك كنت بنا بصيرا( عالما بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا وأن هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به.
( قال( الله تعالى ( قد أوتيت سؤالك( أي جميع مسؤولاتك فعل بمعنى المفعول كالخير بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول ( يا موسى(.
( ولقد مننا عليك( جواب قسم محذوف أي والله لقد أنعمنا عليك ( مرة أخرى( أي في وقت آخر قيل ذلك وقيل هي هذه المرة
( إذ( للتعليل وجاز أن يكون ظرفا لمننا ( أوحينا إلى أمك( بالإلهام أو في المنام أو على لسان بني في وقتها أو ملك لا على وجه النبو كما أوحى إلى مريم.
فائدة ك الوحي والنبوة التي التشريع مختص بالأنبياء وهم الرجال فحسب وهي التي انقطعت وختمت بخاتم النبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وأما الوحي الذي ليس للتشريع سواء كان بطريق الإلهام أو كلام الملائكة كما كان لمريم فغير مختص بالأنبياء بل يكون للأولياء أيضا ولم ينقطع بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكذا حصول كمالات النبوة بالتبعية قد يكون لغير الأنبياء أيضا قال الشيخ الكبر محي الدين ابن العربي قدس سره في الفتوحات في الباب المائتين والسبعين إن النبوة وإن انقطعت في هذه الأمة بحكم التشريع فما انقطع الميراث منها فمنهم من يرث النبوة ومنهم من يرث رسالة ومنهم يرث النبوة والرسالة معا، وما قال العلماء النبوة اختصاص النبي فالمراد منه سوء التشريع بنصب الأحكام بوحي النبي وهي التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :" عن النبوة والرسالة قد انقطعت فلا نبوة بعدي " وقال الشيخ في آخر باب الصلاة من الفتوحات نحو ذلك وقال هناك وهؤلاء هم المقربون الذين قال الله فيهم ( عينا يشرب بها المقربون( وقد ذكرت في تفسير سورة النساء وسورة الواقعة أن المراد بالمقربين هم الذين حصل لهم كمالات النبوة بالوارثة، فالوحي الذي ليس للتشريع وليس مختص بالأنبياء هو الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحديث حيث قال :" لقد كان فيما قبلكم من ا ؟لأمم ناس محدثون فإن يكن من أمتي منهم أحد فإنه عمر " رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وأبو نعيم الموصلي في مسنده عن أبى هريرة وعن عائشة وفي الصحيحين عن أبي هريرة بلفظ " لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمتي أحد فعمر " ولأجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب " رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وصححاه عن عقبة بن عامر والطبراني عن عصمة بن مالك وعن أبى سعيد الخذري وابن عساكر عن ابن عمر.
قال الشيخ الشعراوي في البواقيت والجواهر : هل يكون الإلهام بلا واسطة فالجواب نعم قد يلهم العبد من الوجه الخاص الذي بين كل إنسان وبين ربه عز وجل، فلا يعلم به الملك ولكن هذه الوجهة يتسارع الناس إلى إنكاره ومنه إنكار موسى على خضر فعلم أن الرسول والنبي يشهد ان الملك رؤية بصر، وغير الرسول يحسن بأثره ولا يراهن فيلهم الله بواسطته ما يشاء أو يعطيه من الوجه الخاص ارتفاع الوسائط وهذا أجل الإلقاء وأشرفه ويجتمع في هذا الرسول والولي ونقل الشيخ عبد الوهابة الشعراوي عن الشيخ أبي المواهب الشاذلي قدس الله سرهما أنه كان يقول في إنكار بعضهم على من قال حدثني قلبي عن ربي لا إنكار عليه لا لأن المراد أخبرني قلبي عن ربي بطريق الإلهام الذي هو وحي الأولياء وهو دون وحي الأنبياء صلى الله عليه وسلم ولا إنكار غلا على من قال كلمني ربي كما كلم موسى صلى الله عليه وسلم انتهى كلامه قلت : الولي أيضا قد يشهد الملك رؤية بصر كما رأت مريم جبرائيل صلى الله عليه وسلم حين تمثل لها بشرا سويا والله أعلم.
( ما يوحى( أي ما لا يعلم إلا بالوحي أو مما ينبغي أن يوحى لعظم شأنه وشدة اهتمامه
( أن اقذفيه( عن مفسره لما يوحى لأن الوحي بمعنى القول أو مصدرية بتقدير الياء أي أن اقذفي موسى أي ألقيه ( في التابوت فاقذفيه في اليم( يعني نهر النيل ( فليلقيه اليم بالساحل( أي الجانب سمي ساحلا لأن الماء بسحله أي يفسره أورد صيغة الأمر لتناسب ما تقدم ومعناه الإخباري يلقيه اليم بالساحل وغنما عطف نظرا إلى التناسب اللفظي وقيل ك هو أمر بمعناه هو أمر للبحر معطوف على أمر لأم موسى كما يقال أحسن على زيد وليحسن زيد إليكن وقيل : هو معطوف على أوحينا بتقدير قلنا تقديره أوحينا إلى أم موسى كذا فقلنا ليلقه اليم بالساحل قلت : عن كان الأمر بمعنى الخبر فهو داخل في الوحي وإن كان بمعنى المر للبحر فلا حاجة إلى تقدير قلنا وجاز حينئذ عطفه على فأقذفيه في اليم. فإن قيل كيف يتصور الأمر للبحر والبحر مما لا يعقل ؟ قيل : هو أمر تكوين ؟ يشترط له التعقل، وقال البيضاوي لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجبا لتعلق إرادة الله به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطلع على أمره بذلك، وأخرج الجواب مخرج جواب الأمر فقال :( يأخذه عدو لي وعدو له( يعني فرعون وقال المحققون من الصوفية عن الجمادات وغن كانت لا تعقل ولا تفهم بالنسبة إلينا ولا يجوز إلينا مخاطبتها لكنها عاقلة مطيعة لأمر الله سبحانه كما يدل عليه النصوص قال الله تعالى :( وأذنت لربها وحقت( وقال الله تعالى :( قالتا أنبئنا طائعين( وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن الجبل ينادي الجبل أي فلان هل مر بك أحد يذكر الله وقال الفاضل الرومي :
خاك وباد وىب وآتس بنده اند ييش تو مرده وبرحق زنده اند
وإطلاق العدو على فرعون بالنسبة على الله كان على الحقيقة لكونه مشركا وبالنسبة إلى موسى كان على المجاز باعتبار ما يؤول، فإنه لم يكن عدوا له وقت الأخذ ولأجل ذلك كرر لفظ العدو ولامتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجاز أن يكون التكرير للمبالغة ويكون المراد في الفظين باعتبار ما يؤول أو باعتبار الوقت الموجود حيث كان في صدد قتل موسى بإخبار الكهنة إياه أنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون زوال ملكك على يده ولجل ذلك قتل كثيرا من أبناء بني إسرائيل ولم يعرف موسى انه ذلك الغلام وإلا لقلته، والضمائر كلها راجعة إلى موسى صلى الله عليه وسلم ورجوع بعضها غليه بعضها إلى التابوت يفضي إلى تنافر النظم، والمقذوف في البحر الملقى إلى الساحل وإن كان هو التابوت ما الذات، لكن كان موسى أيضا بالعرض لكونه في جوف التابوت.
قال البغوي : اتخذت أم موسى ثابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا ووضعت فيه موسى وقرت رأسه وخصاصه يعني شقوقه ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينما فرعون جالس على رأس النهر مع امرأته آسية إذ هو بتابوت يجيء بالماء فأمر الجواري والغلمان بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجهان فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك نفسه فلذلك قوله تعالى :( وألقيت عليك محبة مني( ظرف مستقر صفة لمحذوف أو لغو متعلق بألقيت أي ألقيت عليك محبة كامنة مني قد ذرعتها في القلوب أو ألقيت مني محبة عليك يعني أحببتك ومتى أحبه الله أحببته القلوب، قال ابن عباس أحببته وحببته إلى خلقي قال عكرمة ما رآه أحد إلا أحبه قال قتادة ملاحة كانت في عيني موسى ما رآه أحد إلا عشقه وجاز أن يكون المعنى ألقيت محبة كائنة مني عليك أي في قلبك بحيث تستولي تلك المحبة عليك فأجيني وأخلصت قلبك لمحبتي بحيث لم يلتفت إلى غيري فصرت رأس المحبين قال المجدد للألف الثاني رضي الله عنه كان مبدأ تعين الكليم صلوات الله عليه المحبة الصرفة ومبدأ تعين الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم المحبوبية الصرفة فلجل ذلك كان الكليم عليه الصلاة والسلام رأس المحبين والحبيب صلى الله عليه وسلم رأس المحبوبين، والصوفي بنظر الكشف يرى في دائرة الحب محبطا وهي الخلة مبدأ التعين الخليل صلى الله عليه وسلم ومركزا وهو المحبة الصرفة مبدأ التعين الكليم عليه الصلاة والسلام والمركز أعلى وأفضل وأوسع من المحيط كالقمر بالنسبة على الهالة ثم المركز عند الصعود وإليه يرى دائرة محيطها مبدا التعين الكليم صلى الله عليه وسلم ومركزها لتعين الحبيب صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه ولما كان الحبيب صلى الله عليه وسلم في غاية المرتبة من المحبوبية صار مبدأ تعينه مركزا لدائرة المحبوبية الصرفة وترك محيطها وهو المحبوبية الممتزجة لبعض أفراد أمتهن وذلك الفرد هو المجدد للألف الثاني رضي الله عنه والله أعلم وظاهر اللفظ يقتضي أن اليم ألقاها بالساحل ( فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا( فإن صح آل فرعون أخرجوه من اليم فيل الساحل بحيث فهو خره والله أعلم وقوله ك ألقيت معطوفة على قوله :( أوحينا( ( لتصنع( أي تربي ويحسن إليك من صنعت فرسي إذا أحسنت القيام عليه، قرأ أبو جعفر بالجزم على أنمها أمر ( على عيني( قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها حال من الضمير المخاطب المرفوع يعني لتصنع كائنا على حفظي وقوله لتصنع على قراءة الجمهور معطوف على علة مضمرة تقديره ليعطف عليك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل تقديره وفعلت ذلك لتصنع، وعلى قراءة أبو جعفر على يأخذه.
( إذ تمشي أختك( مريم لتعرف خبرك وأحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحد منهان ظرف لألقيت او لتصنع أو بدل من إذ أوحينا على أن المراد بها وقت متسع وقيل إذ للتعليل ( فتقول هل أدلكم على من يكفله( أي على امرأة ترضعه ويضعهم إليها فلما قالت : ذلك قالوا نعم، فجاءت بأمه فقبل ثديها فلذلك قوله تعالى :( فرجعناك إلى أمك( لما وعدناها بقولنا :( إنا رادوه إليك( ( كي تقر عينها( ببقائك ( ولا تحزن( هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ( وقتلت نفسا بلقائك( أي رجلا قبطيا كافرا ظالمان استغائ صلى الله عليه وسلم عليه الإسرائيلي كذا قال ابن عباس وكان إذا ذاك ابن اثني عشر سنة كذا قال كعبب الأخبار ( فنجيناه من الغم( أي غم قتله خوفا من عقاب الله بالمغفرة ومن اختصاص فرعون بالأمن منه بالهجرة إلى مدين ( وفتناك فتونلا( مصدر كالقعود أو جمع، قال البغوي قال ابن عباس اختبرناك وقال الضحاك ابتليناك ابتلاء على أنه مصدر أو أنواعا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجور وبدر في حجرة وبدرة وقال مجاهد أخلصناك إخلاصا وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفنون وقوعه في محن خلصه الله منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع غلا من ثدي أمه، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي ثم خروجه إلى مدين قلت ثم ناله في سفره إلى مدين من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألاف والمشي راجلا على حذر وفقد الزاد وإيجار نفسه إلى غير ذلك فالمعنى خلصناك من تلك المحن ومرة بعد أخرى كما يفتن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه.
( فلبثت( عشر ( سنين( لرعي الأغنام قضاء لأوفى الأجلين في صداق ابنة شعيب صلى الله عليه وسلم ( في أهل مدين( وهي على ثمان مراحل من مصر، وقال وهب لبث موسى عند شعيب ثمان وعشرين سنة، عشرة سنين منها مهر ابنته وثماني عشرة بعد ذلك حتى ولد له ( ثم جئت( إلى الوادي المقدس ( على قدر( أي على القدر الذي قدرن بأنك تجيء كذا قال محمد ابن كعب أو على القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء يعني إذا بلغ عمرك أربعين كذا قال عبد الرحمن بن كيسان وهو معنى قول أكثر المفسرين أي على المواعد الذي وعده الله وقدره أن يوحي إليه بالرسالة وهو أربعين سنة ( يا موسى( كرر الله سبحانه ذكره استئناسا له وحبا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب شيئا أكثر ذكره " رواه صاحب مسند الفردوس من حديث عائشة
( واصطنعتك( أي ربيتك وأحسنت تربيتك ( لنفسي( قرا الكوفيون وابن عامر بسكون الباء فيسقط وصلا في اللفظ لالتقاء الساكنين والباقون يفتحون الياء يعني ربيتك واخترت لنفسي حتى لا تشتغل ظاهرا وباطنا بغيري قلت : ويحكم أن يكون معناه جعلتك لمكارم الخلاق وصنعتك بحيث صلحت لمناجاتي واقترابي وأداء رسالتي
( اذهب أنت وأخوك بآياتي( أي بمعجزاتي قال ابن عباس يعني الآيات التسع التي بعث بها ( ولا تنيا( قال السدي لا تفترا وقال محمد بن كعب لا تقصرا قال في القاموس الزنى كفتى التعب والفترة ضد ( في ذكرى( قرأ ابن عامر والكوفيون بسكون الياء فيسقط وصلا في اللفظ والباقون بالفتح كان هذا الوحي لموسى وقد كان هارون حينئذ بمصر فأمر الله موسى أن يأتي هارون وأوحي إلى هارون وهو بمصر يتلقى فأوحى الله سبحانه إليهما.
( اذهبا إلى فرعون إنه طغى( بادعائه الألوهية أمر الله موسى أولا وحده بالذهاب ثم أمره وأخاه ثانيا فلا تكرار وقيل : الذهاب الأول مطلقا والثاني مقيد فلا تكرار
( فقولا له قولا لينا( قال ابن عباس لا تعنفا في قولكما وقال عكرمة والسدي كنياه فقولا يا أبا العباس وقيل : يا أبا الوليد وقال مقاتل يعني بالقول اللين ( فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى( فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرا من أن يحمله حمية الجاهلية على أن يسطو عليكما ؟ن وقيل : أمرهما بالطاقة في القول لما كان له على موسى حق التربية، وقال السدي القول أن موسى أتاه ووعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم وملكا لا ينزع عنه إلا بالموت، ويبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موتهن وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمرا دون هامان وكان غائبا فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال : أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت ادري أن لك عقلان ورأيا وأنت رب تريد أن تكون مربوبا وأنت تعيد تريد أن تعبد فقلبه عن رأيه ( لعله يتذكر( إن تحقق عنده صدقكما ( أو يخشى( يعن إن لم يتحقق عنده تعالى كان عالما بأنه لا يرجع والجملة في محل النصب على الحالة من فاعل قولان يعني قولا حين التذكر من فرعون أو خشيته أو على العلية لقوله قولا يعني وقال الحسن بن الفضل هذا ينصرف إلى غير فرعون مجازه لعله يتذكر متذكر أو يخشى خاش.
( قالا( أي موسى وهارون ( ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا( قال ابن عباس أن يعجل علينا بالقتل والعقوبة قبل إتمام الدعوة وإظهار المعجزات يقال فرط عليه فلان إذا عجل بمكروه من فرط إذا تقدم ومنه الفارط ( أو أن يطغى( أي يزداد طغيانا فيقول فيك ما ينبغي لجرأته وقساوته ويزداد في الإساءة إلى عبادك
( قال( الله تعالى ( لا تخافا إنني معكما( تعليل لقوله لا تخافا يعني لا تخافا لأنني معكما بالحفظ والنصر ( أسمع( دعاء كما ( وأرى( ما يراد بكما فاصنع لست بغافل عنكما فلا تهتما أو أسمع وأرى ما يجري بينكما وبين فرعون من قول وفعل فأفعل في كل حال بكما ما ينبغي من النصر ودفع المكروه ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعا مبصرا والحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا ثم الحفظ.
( فأتياه فقولا إنا رسولا ربك( أرسلنا إليك وإلى بني إسرائيل ( فأرسل( الفاء للسببية ( معنا بني إسرائيل( إلى الشام أو أطلقهم عن أعمالك وخل عنهم لعبادة الله تعالى ( ولا تعذبهم( بالتكاليف الصعبة والأعمال الشاقة التي كان فرعون يستعملهم فيها قد جئناك بآية أي حجة ( من ربك( على صدقنا في دعوى الرسالة جملة مقرونة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات بالبرهان لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها وكذلك قوله ( قد جئتكم ببينة( وقوله :( فأت بئاية( ونحو ذلك ( والسلام على من اتبع الهدى( جملة معترضة أي سلامي وسلام للملائكة وخزنة الجنة على المهتدين أو السلامة في الدارين لهم من النقمة في الدنيا والعذاب في الآخرة
( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب( أي عذاب الله في الدنيا والآخرة ( على من كذب( الرسل ( وتولى( اعرض عن الإيمان بالله وعبادته قيل : الجملة تذييل أو تعليل لكونه رسولا قل أو دل من قوله ( إنا رسولا ربك( فأتيا وقال له ما أمرا به يدل على ذلك سياق الآية، وفائدة الحذف الاختصار والدلالة على أن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة.
( قال( فرعون لهما في جواب ما قال ( فمن ربكما( الذي أرسلكما ( يا موسى( إنما خاطب اثنين وخص موسى بالنداء لنه أصل وهارون وزيره وتابعه أو لإدلاله عليه بالتربية أو لأنه عرف أن له رتبة ولأخيه فصاحة
( قال( موسى ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى( قال الحسن وقتادة أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه قال مجاهد أعطى كل شيء صورته التي هو عليها ولم يجعل لخلق الإنسان كخلق البهائم ولا خلق البهائم كخلق الإنسان ثم هداه إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح، وقال سعيد بن جبير أعطى كل شيء خلقه يعني زوجه من جنسه المراة للرجل والناقة للبعير والأتان للحمار والرمكة للفرس ( ثم هدى( أي أعلمه كيف يأتي الذكر والأنثى وقيل معناه : أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطى وكيف يصل به إلى بقائه وكماله اختيارا أو طمعا قال البيضاوي هذا جواب في غاية البلاغة فإنه إخبار عن الموجودات بأسرها على مراتبها وبيان لكون الغني القادر المنعم على الإطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله ولهذا بهت الذي كفر وأقحم عن الدخل عليه وصرف الكلام عنه
( قال فما بال( يعني ما حال ( القرون الأولى( من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم الذين عبدوا الأصنام وأنكروا البعث فماذا يفعل بهم بعد موتهم
( قال علمها عند ربي( أي أعمالهم محفوظة عند ربي ( في كتاب( مثبت في اللوح المحفوظ ( لا يضل ربي ولا ينسى( جملة مستأنفة أو صفة لكتاب يعني الكتاب الذي لا يضله الله ولا ينساه والضلال أن تخطىء الشيء في مكانه فلم تهتد إليه والنسيان أن تذهب منك الشيء بحيث لا يخطر ببالك وهما محالا على العالم بالذات وقيل : معنى لا يضل ربي أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب هو عن شيء ولا ينسى ما كان من أمرهم والمعنى أن الله مجازيهم على ما عملوا من خير أو شر.
( الذي جعل لكم الأرض مهدا( الموصول مرفوع صفة لربي أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح قرأ الكوفيون مهدا ها هنا وفي الزخرف ولم يختلفوا في الذي في سورة النبأ وهو مصدر سمي به، والباقون مهاد أو هو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد يعني جعلها كالمهد لكم ( وسلك لكم فيها سبلا( السلوك النفاذ في الطريق قال الله تعالى :( لتسلكوا منها سبلا فجاجا( ويجىء لازما ومتعديا وفي القاموس سلك المكان سلوكا سلكه غيره فالأول لازم والمكان ظرف والثاني متعد، واستعمل في الآية متعديا وجعل السبل مفعولا به مجازا أو هو ظرف كما أسند الجري إلى النهر مجازا في جري النهر فمعنى حصل لكم فيها سبلا بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها أي تلك السبل من أرض إلى أرض لتبلغوا منافها وهذا معنى قول ابن عباس سهل لكم فيها طرقا قال : البغوي السلك إدخال الشيء في الشيء والمعنى دخل الأرض لأجلكم طرقا تسلكونها ومنه قوله تعالى ( ما سلككم في سفر( أي ما أدخلكم فيها ( وأنزل من السماء ماء( مطرا ( فأخرجنا به( بذلك الماء قيل ثم كلام موسى صلى الله عليه وسلم عند قوله ( وأنزل من السماء ماء( ثم اخبر الله عن نفسه تتميما لما وصفه به موسى خطابا لأهل مكة والظاهر أنه من كلام موسى عليه السلام حكاية من الله تعالى تقديره أنزل من السماء ماء وقال منة عليكم أخرجنا به الخ يعني لتشكروه أو كلام موسى والمعنى أخرج أبناء جنسنا من الآدميين ( أزواجا( يعني أعناقا سميت بذلك لازدواجها واقتراب بعضها ببعض ( من نبات( بيان وصفة لأزواج وكذلك ( شتى( صفة لأزواج، ويحتمل أن يكون صفة للنبات فإنه من حيث إنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع، وهي جمع شتيت كمريض ومرضى من شت الأمر إذا تفرق أي متفرقا في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم
ولذلك قال ( كلوا وارعوا( رعى جاء لازما ومتعديا يقول العرب رعيت القوم فرعت والمعنى ها هنا أسيموا ( أنعامكم( ترعى الأمر للإباحة وتذكر النعمة والجملة حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول أي أخرجنا أصنافا قائلين كلوا وارعوا يعني معدنيهما لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه ( إن في ذلك( المذكور من جعل الأرض مهدا وإنزال الماء من السماء وإخراج النبات من الأرض للانتفاع ( لآيات( دالة على وجود الخالق ووجوبه وإحاطة علمه وقدرته وتكوينه واتصافه بالكمالات وتنزهه عن المناقض ( لأولي النهى( أي لذوي العقول جمع نهية، سميت بها لكونها ناهية صاحبها عن القبائح والمضار
( منها( أي من الأرض ( خلقناكم( يعني خلقنا من تراب الأرض آبائكم آدم ومواد أبدانكم فإن النطفة يتولد من الأغذية وهي يخلق من الأرض وقال البغوي قال عطاء الخراساني : إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فبذره على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة، ودليل قول عطاء ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من مولود إلا وفي سرته من تربته التي يولد منها فإذا رد إلى أرذل عمره رد إلى تربته التي خلق منها يدفن فيها وإني وأبا بكر وعمر خلقنا من تربة واحدة وفيها ندفن " رواه الخطيب عن ابن مسعود وقال : غريب وأورده ابن الجوزي في الموضوعات قال الشيخ المحدث ميزا محمد الحارثي البدخشي رحمه الله : إن لهذا الحديث شواهد عن ابن عمرو وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة بتقوى بعضها ببعض فهو حديث حسن وما ذكر العيني في شرح الصحيح البخاري في كتاب الجنائز عن محمد بن سيرين أنه قال لو حلفت حلفت صادقا غير شاك ولا مستثنى أن الله تعالى خلق نبيه صلى الله عليه وسلم ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة، وما أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا عبد الله هنيئا لك مريا خلقت من طينتي وأبوك يطير مع الملائكة في السماء " وما روى الديلمي في مسند الفردوس وابن النجار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" طينة المعتق طينته " لعله قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من أعتقه.
ومن هذه الأحاديث وتأويل عطاء في الآية يظهر أنه يكون بعض الناس مخلوق من طينة نبي من الأنبياء ويسمى ذلك في اصطلاح الصوفية أصالة الطينة، بل من طينة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أصالة الكبرى في الاصطلاح قلت : فالله سبحانه يوم خلق السموات والأرض قدر بعض أجزاء الأرض معدة لخلق بعض أفراد الإنسان وبعضها لبعض آخر، فما أعدت منها لخلق نبي من الأنبياء صلى الله عليهم وسلم لعل التجليات الذاتية المختصة بذلك النبي والبركات الإلهية ما زالت نازلة فائضة على تلك الجزء من أجزاء الأرض حتى استعدت لأن يتخمر منها بيدنه الشريف ثم ما أعدت منها لخلق نبي من الأنبياء جاز أن يبقى منها شيء فتكون مادة لغيره فيتشرف بها ذلك الغير كما ورديه الخير في النخلة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم وليس من الشجر شجرة أكرم على الله شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران فأطعموا نساءكم والولد الرطب فإن لك يكن رطب فثتمر " رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده والبخاري في تاريخه وابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وابن السني وأبو نعيم في الطلب وابن مردويه عن علي رضي الله عنهن وأخرج ابن عساكر عن أبي سعيد الخذري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلقت النخلة والرمانة والعنب من فضلة طينة آدم " وكذا ادعى الأصالة الكبرى الشيخ أحمد مجدد للألف الثاني رضي الله عنه بمكشوفة في المكتوب التاسع والتسعين من المجلد الثالث، واعتراض بذلك الدعوى عليه عليه السلام بعض الناس غما جهلا أو عنادا فويل لمن عاند أولياء الله لم يذهب على حسن الظن في شانهم والله اعلم.
( وفيها نعيذكم( بتفكيك الأجزاء بعد الموت ( ومنها نخرجكم( يوم القيامة بالبعث بتأليف أجزائكم المتفتنة المختلطة بالتراب على الصورة السابقة ورد الأرواح إليها ( تارة( أي حينا أو مرة كذا في القاموس ( أخرى(.
( ولقد أريناه( أي بصرناه ( ءاياتنا( أو عرفناه صحتها ( كلها( تأكيد لشمول الأنواع ولشمول الأفراد على أن الإضافة للعهد يعني آياتنا التسع التي أعطيناها موسى وإن موسى عليه الصلاة والسلام أراه تلك الآيات وعد عليه ما أوتي غيره من المعجزات ( فكذب( فرعون موسى من فرطك عناده وقال إنه ساحر ( وأبى( عن الإيمان والطاعة
قال( أي فرعون بدل اشتمال من قوله : كذب وأبى أو تأكيد وتقرير له ( أجئتنا( استفهام تقرير ( لتخرجنا من أرضنا( أي أرض مصر يعني تريد أن تغلب على ديارنا فيكون فيها الملك لك
( بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله( أي مثل سحرك يعارضه
( بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله( أي مثل سحرك يعارضه
( فاجعل بيننا وبينك موعدا( لذلك أي وعدا لقوله :( لا تخلفه( قرأ أبو جعفر بالجزم على أنه جواب اللام ( نحن ولا أنت( فإن الإخلاف يكون في الوعد دون الزمان والمكان والمضاف محذوف تقديره مكان موعد أي وعد ( مكانا( بدل من المكان المحذوف، وجاز أن لا يقدر المضاف ويكون مكانا منصوبا بالمصدر أو بفعل دل على المصدر ( سوى( قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بضم السين والباقون بكسرها وهما لغتان مثل عدي وعدى وطوى ومعناه متصفا يستوي منه المسافة إلينا وإليكم كذا قال قتادة ومجاهد وروى عن ابن عباس وقال الكلبي يعني سوى المكان وقف أبو بكر وحمزة والكسائي بالإمالة وورش وأبو عمرو على أصلهما بين بين والباقون بالفتح على أصولهم
( قال( موسى ( موعدكم يوم الزينة( فيه الضمير أي مكانا موعدكم مكان يوم الزينة أو موعدكم موعد يوم الزينة، أو هو جواب من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسدي كان عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون كل سنة وقيل هو يوم النيروز وقال ابن عباس وسعيد بن جبير يوم عاشوراء عنى ذلك اليوم ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد ويشبع ذلك في الأنظار ( وان يحشر الناس( أي يجمعون ( ضحى( في وقت الصحوة نهارا ليكون أبعد من الريبة، عطف على اليوم أو على الزينة.
( فتولى( أي أدبر ( فرعون( عن موسى ( فجمع كيده( أي ذو كيده وحيلته يعني السحرة وآلاتهم ليغلب على موسى ( ثم أتى( بالموعدة
( قال لهم موسى( أي لفرعون ومن معه من السحرة وقال البغوي الضمير للسحرة الذين جمعهم فرعون وكانوا اثني وسبعين ساحرا مع كل واحد حبل وعصى وقال كعب كانوا أربع مائة، وقيل كانوا اثنا عشر ألفا وقيل : أكثر من ذلك، ( وبينكم( مفعول به أي ألزمكم الله الويل أي الهلاك أو مصدر لفعله المحذوف أي هلكتم هلاكا أو منادى بحذف حرف النداء أي ويلكم فهي جملة دعائية أو ندذائية مقدمة للنهي لإظهار تقبيح الحال بارتكاب المنهي قبل الشروع في المقال ( لا تفتروا على الله كذبا( مفعول مطلق لا تفتروا لأنه بمعنى لا تكذبوا على الله كذبا بإشراك أحد معه ( فيسحتكم( قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وكسر الحاء من الأفعال والباقون بفتح الياء والحاء من المجرد معناهما واحد، والإسحات لغة نجد وتميم والسحت لغة الحجاز، قال مقاتل والكلبي معناه فيهلككم وقال قتادة فيستأصلكم ( بعذاب( عظيم من عنده ( وقد خاب( أي خسر خسرانا ولم ينل ما طلب ( من افترى( وكان كذلك حيث افترى فرعون وكذب على الله واحتال ليبقى ملكه وألوهيته الباطلة فلم ينفعه
( فتنازعوا( يعني السحرة أو فرعون وقومه ( أمرهم( أي في أمرهم يعني في أمر مجادلة موسى ومعارضته هل ينبغي أم لا ( بينهم( قال محمد بن إسحاق لما قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا قال بعضهم لبعض ما هذا يقول ساحر ( وأسروا النجوى( وهو اسم أو مصدر ناجتيه أي ساورته أصله أن تخلوا به في نجوة من الأرض وهي المرتفعة بما فيه خلاصه يعني أسروا تنازعهم فيما بينهم وقال الكلبي أسروا إن غلبنا موسى اتبعناه.
( قالوا( بعدما تنازعوا وتناجوا بينهم يعني استقر أمر مشاورتهم على هذا القول وكان هذا قول فرعون ( إن هذان لساحران( على آخره كما مر فيما قيل حيث ( قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى( واستقر قولهم جميعا بعد المشاورة على هذا القول طوعا أو كرها كما ذكر الله سبحانه ومنازعة فرعون وقومه في سورة المؤمن حيث قال ( وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا( إلى قوله ( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد( قرأ ابن كثير وحفص بتخفيف النون في إن على أنها هي المخففة من المثقلة واللام هي الفارقة أو هي نافية واللام بمعنى إلا يعني ما هذان إلا ساحران ويشدد ابن كثير النون من هذان وقرأ الباقون أن مشددة فقرأ وأبو عمرو هذين على الأصل والباقون هذان بالألف واختلفوا في توجيهه ؟ فروى هشام بن عروة عن أبي عن عائشة أنه خطأ من الكاتب وهذا القول خطأ خارق للإجماع وقيل : هذا بلغة أبو الحارث بن كعب وخثعم وكنانة فإنهم يجعلون المثنى في الرفع والنصب والجر بالألف يجعلونها علامة للتثنية وأعربوا المثنى تقديرا ويقولون آتاني الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان وكذل يجعلون كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها في التثنية يقولون كسرت يداه وركبت علاه موضع يديه وعليه وكذا في الأسماء الستة المضافة إلى غير ياء المتكلم قال الشاعر :
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف وهذا الساحران خبران تقديره إنه هذان لساحران وقيل ك إن بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر روي أن أعرابيا سأل ابن الزبير فحرمه فقال لعن الله ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير إن صاحبها أي نعم قال البيضاوي وفيها أن اللام لا تدخل على خبر المبتدأ وقيل : أصله عن هذان لهما ساحران، أو أن يعني نعم هذان ساحران فحذف ضمير الشأن وضميرها وفيه أن المؤكد باللام لا يليق الحذف.
( يريدان أن يخرجاكم من أرضكم( مصر بالاستيلاء عليه ( بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى( تأنيث للمثل بمعنى الأفضل، قال ابن عباس يعني بسراة قومكم وأشرافكم يقال هؤلاء طريقة قومهم أي أشرافهم حدث الشعبي عن علي قال يصرفا وجوه الناس إليهما وقال قتادة طريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا وأموالا فقال عدو الله يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم كأنه قال فرعون هذا القول لما قال له موسى أرسل معي بني إسرائيل وقيل أراد بطريقتكم المثلى بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه فمعنى هذا القول قوله ( إني أخاف أن يبدل دينكم(
قرأ أبو عمر بوصل الألف وفتح الميم من المجرد يعني لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به وجمعتموه وهذه القراءة يطابق قول فجمع كيده والباقون يقطع الألف وكسر الميم فقد قيل : معناه الجمع أيضا يقول العرب أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد والصحيح ان معناه العزم أي اعزموا جعل الأشياء على خط مستو كالناس والأشجار وهو ها هنا بمعنى الفاعل يعني ائتوا مصطفين مجتمعين لأنه أهيب في صدور الرائين كذا قال مقاتل والكلبي نظيره ما قال الله تعالى :( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص( وصفا على هذا حال من فاعل ائتوا، وقال ابن عبيدة الصف المجمع ويسمى المصلى صفا فالمعنى ثم أتوا المكان الموعود ( وقد أفلح اليوم من استعلى( أي فاز بالمطلوب من غلب وهو اعتراض.
( قالوا( أي السحرة بعدما أتووا الموعد مراعاة للأدب، أو استعطافا لكيدهم ووثوقهم بالغلبة في كلا التقديرين ( يا موسى إما أن تلقي( عصاك أولا ( وإما أن نكون أول من ألقى( أن مع ما بعدها في الموضعين منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره اختر إما أقاءك أولا وإما كوننا أول من ألقى أو الأمر الذي حان حينه إما إلقاؤك أولا وإما كوننا أول الملقين
( قال( موسى ( بل ألقوا( أنتم أولا مقابلة للأدب الأدب وعدم مبالاة بسحرهم وإسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى الله بذكر الأول صريحا في شقهم وتغير النظم إلى وجد أبلغ ولأن يبرزوا ما معهم أو يستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه ( فإذا حبالهم وعصيهم( أصله عصور فليت الواوان يائين وكسرت العين والصاد وفي الكلام حذف تقديره فألقوا حبالهم الخ وإذا ظرف زمان للمفاجأة منصوب يفعل المفاجأة مضاف إلى جملة اسمية وحبالهم مع ما عطف عليه مبتدأ وما بعده خبره والعائد إما ضمير يخيل أو ضمير أنها والجملة ابتدائية والمعنى فألقوا ففاجأ موسى، وقتا حبالهم وعصيهم فيها ( يخيل إليه من سحرهم( قرأ ابن ذكوان ليخيل بالتاء على أن الضمير المرفوع راجع إلى الحبال والعصي وقوله ( أنها تسعى( بدل اشتمال من الضمير المرفوع المستكن فيه وقرأ الباقون يخيل بالياء وعلى هذا إنها تسعى مفعول قائم مقام الفاعل يخيل، وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس فرأى موسى والقوم بسحرهم كأن الأرض امتلأت حبات تسعى، وكانت أخذت ميلا من كل جانب
( فأوجس( أي أحس وأضمر ( في نفسه خيفة( التنكير للتقليل أي خوفا قليلا ( موسى( الوجس في الأصل الصوت الخفي وفي القاموس الوجس الفرغ يقع في القلب أو السمع من صوت أو غيره يعني خاف موسى حينئذ خوفا مضمرا قيل : خاف من طبع البشرية ظنا منه أنها تقصدع، وقال مقاتل خاف على القوم أن يلتنبس عليهم الأمر فشكوا في أمره فلا يتبعوه والجملة معطوفة على فإذا حبالهم
( قلنا( حينئذ لموسى ( لا تخف إنك أنت الأعلى( الغالب الجملة في موضع العلة للنهي عن الخوف وتقرير لغلبته مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق وضمير الفصل وتعريف الخبر ولفظ العلو الدالة على الغلبة الظاهرة وصيغة اسم التفضيل
( وألق( عطف على لا تخف ( ما في يمينك( أيهمه ولم يقل عصاك إما تحقيرا للجبال والعصي يعني لا تبال بكثرة الحبال والعصي وألق العويدة التي في يدك، أو تعظيما للعصي أي لا تبال بكثرة هذه الأجرام وعظمها فإن ما في عينك أعظم منها أثرا فألقه ( تلقف( قرأ حفص بإسكان اللام مخففا من لقفته وتاء المضارعة تحتمل التأنيث بناء على أن الضمير ترجع إلى عصا حذفت إحدى التاءين وتاء المضارعة تحتمل التأنيث بناء على أن الضمير ترجع إلى عصا وتحتمل الخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب وقرأ ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستئناف والباقون بالجزم على أنه جواب للأمر يعني أن الذي زوروا وافتعلوا أو مصدرية يعني أن صنيعهم ( كيد ساحر( بوزن فاعل أي هيلة ساحر كذا قرأ الجمهور وقرأ حمزة والكسائي سحر بكسر السين بلا ألف بمعنى المصدر يعني حيلة سحر والإضافة بيانية أو التقدير كيد ذي سحر بحذف المضاف أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة وإنما وجد الساحر لأن المراد به الجنس ( ولا يفلح( جنس ( الساحر حيث أتى( قال ابن عباس لا يسعد حيث كان منن الأرض وأين أقبل وقيل : معناه حيث احتال أخرج ابن أبي حاتم والترمذي عن جنذب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا وجدتم الساحر فاقتلوه " ثم قرأ ( ولا يفلح الساحر حيث أتى( قال لا يؤمن من حيث وجد، جملة إنما صنعوا في محل التعليل للتلقف.
( فألقي السحرة سجدا( ها هنا حذف اختصار تقديره فألقى موسى عصاه فصارت ثعبانا فتلقف ما صفت السحرة فعرفت السحرة أنه ليس بسحر إنما هو آية من آيات الله تعالى فألقى السحرة أي ألقاهم ذلك المعرفة على وجوههم سجدا لله تعالى توبة عما صنعوا أو تعظيما لما رأوا من آيات الله يعني سجدوا مسرعين كأنهم ألقوا ( قالوا ءامنا برب هارون وموسى( الواو لمطلق الجمع يعني آمنا بربهما وليس في الآية دليل على انهم قدموا ذكر هارون على موسى وإلا لزم التعارض بين هذه الآية وبين آية الأعراف والشعراء فإن هناك ( ءامنا برب العالمين رب موسى وهارون( وتقديم هارون ها هنا لرعاية رؤوس الآي جملة قالوا مع ما في حيزها بدل اشتمال من قوله :( فألقي السحرة سجدا( وتأكيد له
( قال( فرعون للسحرة ( ءامنتم له( قرأ حفص على الخبر والباقون على الاستفهام للإنكار واللام في ( ءامنتم له( أي لموسى لتضمين الفعل معنى الإتباع فيه ( قبل أن ءاذن لكم( في الإيمان له ( إنه لكبيركم( أي عظيمكم في السحر وأعلمكم به ولأجل ذلك غلب عليكم لا لنبوته أو أنه لأستاذكم ( الذي علمكم السحر( وانتم تواطئتم على ما فعلتم والجملة معترضة ( فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف( أي يد اليمنى والرجل اليسرى، ومن ابتدائية متعلقة بلأقطعن كأن القطع ابتداء في مخالفة العضو العضو، أو ظرف مستقر صفة لمصدر ومحذوف أي قطعا مبتدأ من عضو مخالف للآخر اختلافها يدا أو رجلا يمنة ويسرة، أو حال من ( أيديكم وأرجلكم( يعني مبتدئا قطعها من مخالف للآخر ( ولأصلبنكم في جذوع النخل( أي عليها أورد كلمة في محل على تشبيها لتمكن المصلوب على الصلب تمكن المظروف في الظرف وخص النخل لطولها حتى يرى من بعيد ( ولتعلمن أينا أشد عذابا( أنا على إيمانكم برب موسى على ترك الإيمان به ( وأبقى( أي أدوم عذابا.
( قالوا( يعني السحرة ( لن نؤثرك( أي لن نختارك يا فرعون ( على ما جاءنا( به موسى ويجوز أن يكون الضمير فيه لما ( من البينات( أي المعجزات الواضحات يعني اليد والعصا، وقيل معناه من الدلالات وكان من دلاتلهم أنهم قالوا : لو كان هذا سحر فأين حبالنا وعصينا ؟ وقيل : من البينات أي من النبيين والعلم، قال البغوي حكي عن القاسم عن أبي بردة أنه قال أنهم لما ألقوا سجدا ما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها ورأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ( والذي فطرنا( عطف على ما جاءنا أي لن نؤثرك على الذي فطرنا أو قسم ( فاقض ما أنت قاض( ما أنت قاضيه أي صانعه فالمفعول مع الصلة مفعول به لاقضى بمعنى أصنع أو المعنى أحكم ما أنت حاكمه فالموصول مفعول مطلق أي أحكم حكما أنت حاكمه، ولا يجوز حينئذ أن يكون مفعولا به لأن القضاء بمعنى الحكم يتعدى بالياء ولا يجوز حذف الباء هناك ( إنا نقضي( أي إنا تصنع ما تهواه أو تحكم ما تراه ( هذه الحياة الدنيا( منصوب على أنه ظرف زمان بحذف المضاف يعني إنما تصنع أو تحكم زمان هذه الحياة الدنيا ويزول أمرك وسلطانك عن قريب قيل : إن فرعون صنع بهم ما أوعدهم وكان هو أول من سن ذلك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقيل : إنه لم يقدر على ذلك لما قال الله تعالى :( أنتما ومن اتبعكما الغالبون( .
( إنا ءامنا بربنا ليغفر لنا خطئاتنا( من الكفر والمعاصي جملة مقررة الجملة لن نؤثرك ( وما أكرهتنا عليه( عطف على خطايانا ( من السحر( بيان لما منصوب على أنه حال من الضمير المجرور فإن قيل : كيف قالوا هذا وقد جاؤوا مختارين يحلفون لعزة فرعون أن لهم الغلبة ؟ قال البغوي روي عن الحسن أنه كان يكره قوما على تعلم السحر كيلا يذهب أصله، فقد كان أكرههم في الابتداء وقال مقاتل كانت السحرة اثنين وسبعين اثنان من أصله، وسبعون من بني إسرائيل وكان فرعون أكره الذين هم من بني إسرائيل فذلك قولهم :( وما أكرهتنا عليه من السحر( وقال عبد العزيز وابن أبان قالت السحرة لفرعون أرنا موسى إذا نام فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه فقالوا : إن هذا ليس بسحر إن الساحر إذا نام بطل السحر فأبى عليهم أن يعارضوه فذلك قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر ( والله خير( منك ومن جميع ما خلق ثوابا لمن جاء مؤمنا قد عمل الصالحات ( وأبقى( أي أدوم منك ومن جميع ما خلق عقابا لكم يأته مجرما بالكفر والمعاصي كذا قال محمد بن إسحاق ومحمد بن كعب فهذا جواب لقوله :( ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى(
( إنه ) أي الشأن ( من يأت ربه مجرما( مات على كفره وعصيانه ( فإن له جهنم لا يموت فيها( فيستريح من العذاب ( ولا يحيى( حياة مهناة
( ومن يأته( قرأ قالون بخلاف عنه وأبو جعفر ويعقوب باختلاس كسرة الهمزة في الوصل وأبو شعيب بإسكانها والباقون بإشباعها يعني من مات ( مؤمنا قد عمل الصالحات( في الدنيا حال من الضمير مؤمنا ( فأولئك لهم درجات العلى( جمع العلية مؤنث أعلى أي المنازل الرفيعة
( جنات عدن( إقامة بدل من الدرجات أو عطف بيان ( تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها( حال من الضمير المجرور في لهم والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار ( وذلك جزاء من تزكى( أي تطهر من أدناس الكفر والمعاصي قال الكلبي أعطي زكاة نفسه وقال لا إله إلا الله، روى أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد الخذري والطبراني عن جابر بن سمرة وابن عساكر عن ابن عمرو وعن أبى مريم كلهم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أهل درجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم أنعما " وروى أحمد والشيخان في الصحيحين عن أبى سعيد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما ترون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا الرسل " والآيات الثلاث يحتمل أن يكون من كلام السحرة في مقام التعليل لقولهم :( والله خير وأبقى( وأن يكون ابتداء الكلام من الله تعالى تصديقا لقولهم.
( ولقد أوحينا إلى موسى( حين أراد الله إهلاك فرعون وقومه وإنجاء بني إسرائيل منه ( أن أسر بعبادي( أي سر بهم ليلا من أرض مصر هذه الجملة معطوفة على قوله ( ولقد مننا عليك مرة أخرى( وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ( فاضرب لهم طريقا( أي فاجعل لهم من قولهم ضرب له من ماله سهما أو فاتخذ من ضرب البن إذا عمله، قلت ويمكن تقدير الكلام فاضرب بعصاك البحر يكن طريقا ( في البحر يبسا( صفة لطريق مصدر وصف به ( لا تخف دركا( قرأ الجمهور بالرفع والجملة في محل النصب على أنه حال من فاعل اضرب أو صفة ثانية لطريق أي آمنا من درك العدو أو طريقا مأمونا من الدرك وقرا حمزة لا تخف بالجزم على النهي أو على انه جواب للأمر ( ولا تخشى( الغرق، استئناف وعطف على لا تخاف والألف فيه على قراءة حمزة للإطلاق كقوله :( وتظنون بالله الظنونا( أو حال من فاعل لا تخف، ففعل موسى ما أمر به وضرب البحر بعصاه ( فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم( وأيبس الله الأرض فمروا فيها
( فأتبعهم( معطوف على محذوف يعني فأسرى موسى بقومه : فأتبعهم ( فرعون بجنوده( الباء بمعنى مع والمعنى فأتبعهم فرعون مع جنوده حين أخبر أن موسى خرج ليلا مع بني إسرائيل وقيل صيغة الإفعال بمعنى الافتعال والباء للتعدية وقيل الباء زائدة والمعنى فأتبعهم جنوده وهذا التأويل لا يدل على خروج فرعون بنفسه وكان قد خرج ( فغشيهم من اليم( أي من ماء اليم أي البحر وكلمة من للبيان أو للتبعيض أي بعض ماء اليم لآكله حال من قوله ( ما غشيهم( وفيه مبالغة والمعنى طقهم ما لا يعرف كنهه إلا الله والضمير المنصوب في الموضعين لفرعون وجنوده وقبل الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى وقومه يعني غشي فرعون وجنوده فغرقوا ما غشى موسى وقومه فنجوا
( وأضل فرعون قومه( في الدين ( وما هدى( وهو تحكم به وتكذيب لقوله ( وما أهديكم غلا سبيل الرشاد( أو أضلهم في البحر وما نجا.
( يا بني إسرائيل( إما خطاب للذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل بآبائهم لكن السورة مكية ولم يكن بمكة المخاطبة مع بني إسرائيل بل مع قريش وأما خطاب لمن أنجاهم من البحر بعد إهلاك فرعون بتقدير قلنا استئنافا في جواب من قال فماذا فعل بهم بعد الإنجاء يعني قلنا يا بني إسرائيل ( قد أنجيناكم( وعلى التقدير الأول المضاف محذوف تقديره قد أنجينا آباءكم ( من عدوكم( فرعون بإغراقه ( ووعدناكم جانب الطور( منصوب على الظرفية ( الأيمن( صفة لجانب الطور بأدنى ملابسة لكونه على يمين موسى إذ لا يمين للجبل واعد الله سبحانه موسى بالمناجاة وإنزال التوراة عليه وأن يختار سبعين رجلا يحضرون معه وإنما نسب المواعدة إليه للملابسة ( ونزلنا عليكم( في التيه ( المن والسلوى( حال من فاعل نزلنا بتقدير القول أي قائلين
كلوا أو مستأنفة ( من طيبات( أي اللذائذ او حلالات ومن للبيان أو للتبعيض ( ما رزقناكم( قرأ حمزة والكسائي أنجيناكم وواعدناكم وما رزقناكم بالتاء المتوحد والباقون بالنون والألف على التعظيم ولم يختلفوا في نزلنا لأنه مكتوب بالألف ( ولا تطغوا فيه( أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما لكم فيه كالسرف والبطر والمنع عن المستحق ( فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي( قرأ الكسائي والأعمش فيحل بضم الحاد ومن يحلل بضم اللام من باب نصر ينصر من الحلول بمعنى النزول والباقون بكسرهما من باب ضرب يضرب من حل الدين إذا وجب أداؤه ( فقد هوى( أي هلك وتردى في النار.
( وإني لغفار لمن تاب( من الشرك ( ءامن بالله( وبما جاء به رسله من عنده ( وعمل صالحا( يعني أتى بما أمر الله به ( ثم اهتدى( قال عطاء عن ابن عباس يعني علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى وقال قتادة وسفيان الثوري يعني لزم الإسلام حتى مات عليه وقال الشعبي ومقاتل والكلبي يعني علم أن لك ثوابا وقال زيد بن أسلم تعلم العلم لتهتدي كيف يعمل، وقال الضحاك استقام أي على الهدى المذكور وقال سعيد بن جبير أقام على السنة والجماعة قلت : وعندي أن معناه ثم اهتدى إلى الوصول إلى الله بلا كيف وعروج مدارج القرب.
( وما أعجلك عن قومك يا موسى( خطاب لموسى معطوف على الخطاب لبني إسرائيل ( قد أنجيناكم( الخ ويا موسى أعجلك، قال البغوي أي ما حملك على العجلة عن قومك وذلك أن موسى اختار من قومه سبعين رجلا حتى يذهبوا معه على الطور ليأخذوا التوراة فساء بهم ثم عجل موسى من بينهم شوقا إلى ربه وخلف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل فقال الله تعالى :( وما أعجلتم عن قومك يا موسى( قلت : وهذا سؤال تقرير كما يسأل المحبوب من المحب حين يراه في غاية المحبة والشوق كي يذكر شوقه لكن فيه مظنة إنكار بما فيه من ترك موافقة الرفقة، فأجاب موسى عن الأمرين وقدم جواب الإنكار لكونه أهم
( قال( موسى ( هم أولاء على أثري( يعني ما قدمتم إلا بخطى يسيرة لا يعتد بها عادة وليس لبني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم بعضا ( عجلت( معطوف على قوله هم أولاء او حال بتقدير قد ( إليك( أي إلى مقام كرامتك والمكان الذي وعدتني لتجلياتك علي وكلامك مني ( رب( أي يا ربي ( لترضى( قيل : يعني لأن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك أوجب لازدياد مرضاتك قلت : بل معنى لترضى أي لغاية محبتك واشتعال الشوق إلى لقائك واستماع كلامك كما هو مقتضى اقتراب وقت لقاء المحبوب وذلك الشوق والمحبة يقتضي مرضاتك.
( قال فإنا فتنا قومك( والمراد بالفتن إما الابتلاء أو الإضلال يعني ابتليناهم بإظهار العجل هل يعبدونه أم لا، أو أضللناهم بعبادة العجل فإن قيل : فإنا قد فتنا مرتب على قول عجلت إليك والتقدير إذا عجلت إلي فأنا قد فتنا قومك وهذا الكلام يقتضي كون العجلة سببا للفتنة إلى الفاء السببية فما وجه هذه السببية ؟ قلت : لعل وجه ذلك أن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم أرسلوا لهداية الخلق بوجهين ظاهرا بدعوتهم إلى الإسلام وتعليمهم الأحكام وباطنا بجذبهم إلى الله عما سواه وفاضة نور الإيمان والمعرفة في قلوبهم حتى ينشرح صدورهم للإيمان ويروا الحق حقا والباطل باطلا ولا يتم ذلك إلا عند كمال توجههم إلى الخلق بشرا شرهم ولما كان عجلة موسى عليه الصلاة والسلام إلى الله تعالى مبنيا على غاية المحبة والشوق وسكر ذلك انقطع عند ذلك توجه باطنه من الأمة فحينئذ وقع أمة في الفتنة والضلال ومن ها هنا قال بعض الصوفية الولاية أفضل من النبوة وفسر بعضهم هذا القول بأن ولاية النبي أفضل من نبوته قالوا مقتضى الولاية الاستغراق والتوجه إلى الله سبحانه ومقتضى النبوة التوجه إلى الخلق والتحقيق ما حقق المجدد للألف الثاني رضي الله عنه أن النبوة هي الأفضل من الولاية مطلقا إذ الولاية عبارة عن التجليات الصفاتية والنبوة عن التجليات الذاتية فأين لهذا من ذلك وقال المجدد رضي الله عنه إن لكل واحد من النبوة والولاية وجها ونزولا والصوفي في مرتبة العروج في كلا النسبتين متوجه إلى الله لتحصيل الكمال، وفي مرتبة النزول في كليهما متوجه إلى الخلق للتكميل غير أنه في نسبة الولاية لما كان عروجه إلى الصفات دون الذات فله عند نزوله التفات ما إلى المبدأ فائض البركات غير متوجه إلى الخلق بالكلية وفي نسبة النبوة له عند نزوله توجه بالكلية إلى الخلق وفي بادي النظر يرى نفسه معرضا عن الله فيكون ذلك عليه شاقا ورياضة وعسرا لكنه في الحقيقة ليس بمعرض عنه تعالى بل مقبل عليه أيضا واتسع صدره لتوجيههم جميعا بل التوجه إلى الخلق لما كان بإذن الله وعلى حسب أمره ومرضاته فهو أيضا في المعنى توجه إلى الله سبحانه ومن ثم سمي هذا السير سيرا من الله بالله.
فإني في الوصال عبيد نفسي وفي الهجر أن مولى للموالي
وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة ألم نشرح لك في تفسير قوله تعالى :( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا( وجاز أن يكون الكلام في الآية وأنه قال الله تعالى بعدما أنجز وعده وأعطاه التوراة أرجع إلى قومه ( فإنا قد فتنا قومك( ( من بعدك( بعد انطلاقك إلى الجبل عند خوفهم عنك ( وأضلهم السامري( نسب الله سبحانه الفتنة والإضلال إلى نفسه لخلقه الضلالة فيهم والإضلال في السامري وإلى السامري لكسبه الإضلال والدعاء إلى عبادة العجل قال البغوي كانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألف والسامري قال في القاموس كان علجا من كرمان أو عظيما من بني إسرائيل منصوب إلى موضع لهم وقال البيضاوي منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم السامري واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا
( فرجع موسى إلى قومه( بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة ( غضبان( عليهم ( أسفا( حزينا شديد الحزن بما فعلوا ( قال( موسى لقومه حين آهم عبدوا العجل ( يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا( منصوب على المصدرية أو على المفعولية على أن الوعد بمعنى الموعود ( حسنا( بأن يعطيكم التوراة فيها هدى ونور ( أفطال عليكم العهد( الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أتأثرهم بمصاحبتي إياكم فآمنتم بالله وحده ووعدتموني أن تكونوا بعدي على ذلك فطال عليكم العهد أي زمان مفارقتي إياكم ( ام أن تحل( بكسر الحاء من باب ضري يضرب بإجماع القراء أي يجب ( عليكم غضب من ربكم( بعبادة ما دونكم وما هو مثل في الغباوة أي أردتم أن تفعلوا فعلا يوجب الغضب عليكم ( فأخلفتم موعدي( أي وعدكم إياي بالثبات على الإيمان والقيام على ما أمرتكم به.
( قالوا ما أخلفنا موعدك( بالثبات على الإيمان ( بملكنا( قرأ نافع وأبو جعفر وعاصم بفتح الميم وحمزة والكسائي بضمها والباقون بكسرها وكلها لغات في مصدر ملكت الشيء كذا في القاموس يعني ما أخلفنا متلبسا بملكنا أي قدرتنا واختيارنا على أمرنا، يعني المرء إذا وقع في البلية والفتنة من الله لم يملك نفسه ( ولكنا حملنا( قرأ نافع وابن كثير وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددا على البناء للمفعول من التحميل أي كلفنا حملها، وأبو عمرو وحمزة والكسائب ويعقوب وأبو بكر بفتح الحاء وتخفيف الميم من الحمل ( أوزارا( أي أثقالا ( من زينة القوم( صفة للأوزار كان ذلك من حلية قوم فرعون استعاذها بنو إسرائيل حين أرادوا الخروج من مصر باسم العرس كذا أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال البغوي سماها أو زارا لأنهم أخذوها على وجه العارية فلم يردوه وقيل إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذوها وكانت غنيمة ولم تكن الغنيمة حلالا في ذلك الزمان فسماها أو زارا لذلك ( فقذفتها( أي طرحناها في الحفيرة قال البغوي قيل : إنما السامري قال لهم احفروا حفيرة فلقوها فيها حتى يرجع موسى، وقال السدي قال لهم هارون إن تلك الغنيمة لا يحل فاحفروا حفيرة وألق'وها فيها حتى يرجع موسى فيرى رأيه ففطنوا ( فكذلك ألقى السامري( ما كان معه فيها وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس أوقد هارون نارا وقال اقذفوا ما معكم فيها فألقوا فيها، ثم ألقى السامري ما كان من تربة حافر فرس جبرائيل قال قتادة كان قد قبضه من ذلك بالتراب في عمامته
( فأخرج( أي السامري ( لهم( أي لبني إسرائيل ( عجلا جسدا( بدل من عجلا يعني أخرج من تلك الحلي عجلا ( له خوار( صفة لعجلا يعني صوت البقر ( فقالوا( أي السامري ومن اقتربه أول ما رواه ( هذا إلهكم وإنه موسى فنسي( أي ترك موسى ها هنا وذهب يطلبه عند الطور أو فنسي السامري أي ترك ما كان عليه من الإيمان وكفر بالله
( أفلا يرون( استفهام إنكار والجملة معطوفة على محذوف تقديره ألا ينظرون فلا يرون أي لا يعلمون أو التقدير أقروا بألوهيتها فلا يعلمون هذه الحمقاء ( ألا يرجع( أن مخففة من الثقيلة واسمه ضمير الشأن محذوف يعني أنه لا يرجع ذلك العجل ( إليهم قولا( أي لا يكلمهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا فهو دون حالا منهم فكيف اتخذوا إلها ( ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا( أي لا يقدر على إضرارهم ولا إنفاعهم ولا منه من الضر أو النفع فكيف استحق لعبادتهم قال البغوي قيل إن هارون مر على السامكري وهو يصوغ العجل فقال له ما هذا قال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي، فقال هارون اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه فألقى التراب في فم العجل فقال كن عجلا تخور فكان كذلك بدعوة هارون، والحقيقة ان ذلك فتنة ابتلى الله بها بني إسرائيل.
( ولقد قال لهم هارون من قبل( اللام في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على قوله ( وقد أوحينا على موسى أن أسر بعبادي( ( يا قوم إنما فتنتم به( أي ابتليتم بالعجل هل تستقيمون على التوحيد أو تضلون ( وإن ربكم الرحمن( الذي وجودكم وتوابعه أثر لرحمته ولا يصلح هذا العجل للرحمة ( فاتبعوني( في الثبات والاستقامة على عبادة الرحمن وحده ( وأطيعوا أمري( في ترك عبادة العجل الفاء السببية فإن ما قبلها سبب لما بعدها
( قالوا لن نبرح عليه( أي لن نزال على العجل وعبادته ( عاكفين( مقيمين ( حتى يرجع إلينا موسى( فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل.
فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال السبعون الذين معه هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ رأسه بيمينه ولحيته بشماله.
( قال يا هارون ما منعك إذ رايتهم ضلوا( بعبادة العجل
( ألا تتبعن( قيل وضع منع موضع دعا مجازا لوجود التعلق بين الصارف عن الشيء والداعي إلى تركه وقال الجمهور لا مزيدة والمعنى ما منعك من أن تتبعني أي تتبع أمري ووصيتي في القيام على دعوة الخلق إلى التوحيد ومنعهم عن الشرك باللسان والسنان وقيل : معناه ما منعك عن أن تأتي وتخبرني بما فعلوا فيكون مفارقتك إياهم زجرا لهم عما فعلوا أثبت ان كثير الياء ساكنة في لا تتبعني في الحالين ونافع وأبو عمرو أثبتناها وصلا فقط والباقون يحذفونها في الحالين ( أفعصيت أمري( الاستفهام لإنكار والجملة معطوفة على محذوف تقديره أرضيت بما فعلوا أو أقمت فيهم فعصيت أي خالفت أمري
( قال يا بنؤم( خص ذكر ألم استعطافا وترقيقا وقيل : لأنه كان أخاه من الأم والجمهور على أنهما كان عن أب وأم ( لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي( قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء والباقون بإسكانها أي بشعور رأسي وكان يجره إليه من شدة غيظه وفرط غضب الله ( إني خشيت( علة النهي يعني لو أنكرت عليهم بالقتال صاروا أحزابا يتقاتلون ( اخلفني في قوم وأصلح( فإنه يدل على المرفق إذ الإصلاح ينافي إراقة الدماء.
ثم أقبل موسى على السامري ( قال فما خطبك( قال البيضاوي مصدر منن خطب الشيء يخطبه إذا طلبه يعني ما أطلبك أي مطلوبك بهذا الفعل يعني غرضك الذي حملك عليه وفي النهاية ما خطك أي ما شانك وحالك والخطب الأمر الذي يقع فيه المخاطبة والشان والحال وفي القاموس الخطب الشان والأمر عظم أو صغر ( يا سامري }
{ قال بصرت بما لم يصبروا به( قرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة ( فقبضت قبضة( وهو المرة من القبض أطلق على المقبوض أي من تراب قبضت ( من أثر الرسول( أي من أثر فرس جبرائيل صلى الله عليه وسلم ( فنبذتها( أي ألقيتها في فم العجل قال بعضهم إنما خار لكون التراب مأخوذ من حافر فرس جبريل وغنما عرفه لأن أمه لما ولدته في السنة التي كان فرعون يقتل فيها البنين من بني إسرائيل وضعته في الكهف حذرا عليه فبعث الله جبرائيل ليريه لما قضي على يديه من الفتنة فكان جبرائيل يغدوه حتى استقل ( وكذلك سولت لي( أي زينت وحسنت لي ( نفسي( إن لإله ففعلته
( قال( له موسى ( فاذهب( أي أن فعلت ذلك فاذهب من عندي ( فإن لك( الفاء السببية يعني اذهب لأن لك ( في الحياة( الدنيا ما دمت حيا عقوبة من الله على ما فعلت ( أن تقول( ذلك لأجل وحشة ألقى الله تعالى في قلبه فكان لا يستأنس من أحد، وقيل كان إذا مس أحدا أو مسه أحد حما جميعا ولذلك كان يقول ذلك فكان في البرية طريدا وحيدا كالوحشي النافر حتى مات وقال البغوي أمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه فقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك ( وإن لك( يا سامري ( موعدا( من الله بعذاب الآخرة ( لن نخلفه( قرا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بكسر اللام على البناء للفاعل أي لن تغيب ولا مذهب لك عنه بل توافيه يوم القيامة وجاز أن يكون من أخلفت الموعد إذا وجدته خلقا، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي لن يخلفك الله إياه ( وانظر إلى إلهك( أي ما زعمته إلها بالباطل ( الذي ظلت عليه عاكفا( أي ظللت ودمت عليه مقيما فحذفت اللام الأولى تخففا ( لنحرقنه( بالنار أو بالمبرد على انه مبالغة في حرقه إذا برد بالمبرد وقرأ أبو جعفر بالتخفيف من الإحراق ( ثم لنسنفنه( أي لنذرينه رمادا أو مبرودا ( في اليم( أي البحر ( نسفا( فلا يصادف منه شيء ففعل موسى ذلك إظهار عبارة المفتنين به لمزيد أدنى نظر
( إنما إلهكم( المستحق لعبادتكم ( الله الذي لا إله إلا هو( إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم والقدرة ( وسع كل شيء علما( تمييز عن النسبة يعني وسع علمه كل شيء لا العجل الذي يصاغ ويحرق وإن كان حيا في نفسه كان مثلا في العبارة.
( كذلك( صفة لمصدر محذوف لقوله ( نقص عليك( يعني نقص عليك اقتصاصا مثل اقتصاصنا قصة موسى ( من أنباء ما قد سبق( أي من أخبار الأمور السابقة والأمم الماضية تبصرة لك وزيادة في علمك وتكثيرا المعجزات وتنبيها للمستبصرين من أمتك ( وقد ءاتيناك( حال من فاعل نقص ( من لدنا ذكرا( أي قرءانا مشتملا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار والتنكير فيه للتعظيم وقيل : معناه قد أعطيناك من لدنا ذكرا جميلا رصينا عظيما بين الناس أو المعنى جعلنا ذكرى مقرونا بذكرى في الأذان والإقامة والتشهد وغير ذلك.
( من أعرض عنه( صفة لذكر أو مستأنفة يعني من أغرض عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه أو عن ذكرك وقيل عن الله ( فإنه يحمل يوم القيامة وردا( أي حملا ثقيلا من الذنوب وقد مر في سورة مريم في تفسير قوله تعالى ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا( ما أخرج أن أبي حاتم عن عمرو بن قيس الملائي وفيه ان الكافر استقبله عمله القبيح في أقبح صورة وأنتن ريح فيقول : ألا تعرفني ؟ قال : لا ألا إن الله قبح صورتك وأنتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا إنما عملك السيئ طال ما ركبتني وأنا أركبك اليوم وتلا ( وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم( أو المعنى يحمل عقوبة ثقيلة سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يقدح الحامل وينقض ظهره.
( خالدين فيه( أي جزاء الوزر أو في حمله حال من فاعل يحمل، والجمع فيه والتوحيد في يحمل نظرا إلى معنى من ولفظها ( وساء لهم يوم القيامة حملا( تميز عن ضمير مبهم في ساء والمخصوص بالضم محذوف أي ساء حملا وزرهم واللام في لهم للبيان.
وجاز أن يكون معنى الآية أنه يحمل على عاتقه ما أخذ من عرض الدنيا بغير حق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة فلا أعرف أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء وبقرة له خوار وشاة تيعر " رواه الشيخان في الصحيحين في حديث عن أبي حميد الساعدي في اخذ العامل شيئا من الصدقات وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " زمن ظلم قدر شبر من ارض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " واخرج الطبراني عن الحكم بن الحارث السلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اخذ من طريق المسلمين شبرا جاء به يحمله من سبع أرضين " واخرج أحمد والطبراني عن يعلى بن مرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أيما رجل ظلم شبرا من الأرض كلف الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ثم يوقعه يوم القيامة حتى يقضي بين الناس " وأخرج الطبراني عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ظلم شبرا من الأرض جاء يوم القيامة مطوقا من سبع أرضين " وكذا أخرج أحمد والطبراني عن أبي مالك الأشعري وأخرج أحمد والشيخان عن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم الغلول وأمره ثم قال :" ألا لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك " فذكر الحديث نحوه، وفيه على رقبته فرس لها حمحمة على رقبته شاة لها شفاء على رقبته واخرج أبو يعلى والبزار عن عمر بن الخطاب نحوهن وكذا ورد في سعاة الصدقة إذا غلوا منها حديث سعد بن عبادة وهلب عند احمد وحديث ابن عمر وعائشة عند البزار وابن عباس وعابدة بن الصامت وابن مسعود عند الطبراني واخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف أن يحمله على عاتقه " واخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني بسند جيد عن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم " مر بقبة لرجل من الأنصار فقال :" كل بناء اكثر من هذا ( وأشار بيده على رأسه ) فهو وبال على صاحبه يوم القيامة " فبلغ صاحب القبة فهدمها " وأخرج الطبراني نحوه منن حديث وائلة بن الأسقع قال المنذري وله شواهد واخرط الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم مر على بئر يسقي عليها فقال : إن صاحب هذا البئر يحملها يوم القيامة إن لم يؤد حقها.
( يوم ينفخ( قرا أبو عمرو بالنون المفتوحة وضم الفاء على صيغة المتكلم المعروف والباقون بالياء المضمومة، وفتح الفاء على صيغة الغائب المجهول ( في الصور( عن أن عمر أن اعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال :" قرن ينفخ فيه " رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وابن المبارك وكذا أخرج مسدد عن ابن مسعود ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا( حال من المجرمين أي زرق العيون والزرقة هي الخضرة في سواد العين وصفهم بذلك لأنه أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب، لأن الروم كانوا أعداء أعدائهم وهم كانوا زرق العيون فيحشر الكفار زرق العيون سود الوجوه وقيل ك المراد بقوله : زرقا عميا لأن حدقة الأعمى تزرق وهذا التأويل يوافق قوله تعالى :( ونحشرهم يوم القيامة أعمى( وقيل : المراد عطاشا
( يتخافتون بينهم( حال من المجرمين أو مستأنفة يتكلمون بينهم خفية لما مل صدورهم من الرعب والهول ( إن لبثم إلا عشرا( مفعول ليتخافتون يعني يتكلمون سرا ما لبثتم في الدنيا زمانا إلا عشر ليال يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا لزوالها أو لاستطالتهم مدة الآخرة ولتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وعلموا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات وقيل ما لبثتم في القبور إلا عشرا وقيل : بين النفختين وهو أربعون سنة لأن العذاب يرفع عنهم بين النفختين وجاز أن تكون جملة عن لبثتم بتقدير يقولون عطف بيان أوز بدلا من يتخافتون أو حالا من فاعله
( نحن اعلم بما يقولون( فيه جملة معترضة يعني ليس الأمر كما قالوا ( إذ يقول أمثالهم طريفة( أي أوفاهم عقلا وأعد لهم قولا أو عملا ( وإن لبثتم إلا يوما( رجح الله تعالى قول هذا القائل لكون مدة عمر الدنيا بالنسبة إلى طول الآخرة أو لوجوه آخر أقل من نسبة عشر ليال إلى عمر الدنيا والله أعلم.
قال البغوي قال ابن عباس سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كيف تكون الجبال يوم القيامة ؟ فأنزل الله ( ويسئلونك عن الجبال( واخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال قالت قريش كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة ؟ فأنزل الله تعالى :( فقل ينسفها ربي نسفا( وقيل لم يسأل والتقدير وإن سألوك فقل ولذلك جيء بالفاء وبخلاف سائر الأجوبة حيث قال ( ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى( ( يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير( ( يسئلونك عن الأنفال قل الانفال لله( وغير ذلك والنسف القلع أي يقلعها من أصلها ويفتتها ويجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح
( فيذرها( أي يذر مقارها أو الأرض وإضمارها من غير ذكرها لدلالة الجبال عليها ( قاعا( في القاموس أي أرضا سهلا مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام ( صفصفا( في القاموس أي مستويا يعني كان أجزاؤها على صف واحد
( لا ترى فيها عوجا( أي اعوجاجا ( ولا أمتا( أي لا نتوا إن تأملت فيها بالمقياس الهندي ثلائتها أحوال مرتبة فالأولان باعتبار الإحساس والثالث باعتبار المقياس قيل : لا ترى استئناف مبين للحالين، قال مجاهد أي لا ترى انخفاضا ولا ارتفاعا قال الحسن العوج ما انخفض من الأرض والأمت ما نشر من الروابي
( ويومئذ( أي يثوم إذا نسفت على إضافة اليوم إلى وقت النسف ظرفه لقوله ( يتبعون الداعي( جملة مستأنفة او بدل ثان من يوم القيامة أي يتبعون صوت الداعي الذي يدعوهم على الحشر وهو إسرافيل عليه الصلاة والسلام يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس فيقول : يا أيها العظام النخرة والجلود المتمزقة والأشعار المنقطعة إن الله يامرك أن تجمعي لفصل الخطاب كذا أخرج ابن عساكر عن زيد جابر الشافعي ( لا عوج له( أي لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه أي لا عوج لدعائه وهو من المقلوب أي لا عوج له مدعو ولا يعدل عنه يمينا وشمالا أي لا يقدرون على العدول عنه بل يتبعونه سراعا ( وخشعت الأصوات للرحمن( أي خضعت يعني تخضع لمهابة الرحمن حال من فاعل يتبعون بتقدير قد أو عطف على يتبعون يعني وتخشع الأصوات للرحمن ( فلا تسمع( الفاء للسببية والخطاب لمخاطب غير معين ( إلا همسا( أي صوتا خفيا كصوت أخفاف الإبل في المشي قال البغوي قال مجاهد هو تخافت الكلام وخفض الصوت، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تحريك الشفاء من غير منطق وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي طلحة عن ابن عباس قاعا مستويا صفصفا لا نبات فيه عوجا واديا أمنا رابية وخشعت الأصوات سكنت همسا الصوت الخفي وأخرج من وجه آخر عنه قال أرضا ملساء لا ترى فيها أبنية مرتفعة ولا انخفاضا وأخرج من وجه آخر عنه قال همسا صوت وطء الأقدام يعني صوت أقدام الناس إذا نقلوا إلى المحشر
( يومئذ( أي يوم إذا كان كذلك ( لا تنفع الشفاعة( جملة مستأنفة أي لا تنفع شفاعة أحد أحدا ( إلا من أذن له الرحمن( الاستثناء من الشافعة أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أو من اعم المفاعيل أي إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له المفعول له ( ورضي له قولا( ورضي المكانة عند الله قوله في الشفاعة أو رضي له قول الشافع في شانه أو قوله لأجله وفي شانه قال ابن عباس يعني قال لا إله إلا الله قلت : هذا تفسير لمن تنفع شفاعة الشافعين له
( يعلم( أي الرحمن ( ما بين أيديهم( أي ما ين أيدي الشافعين ومشفوعين لهم ( وما خلفهم( يعني ما تقدم من أحوالهم في الدنيا وفي القبور وما يستقبلونه في الآخرة والجملة حال من الرحمن ( ولا يحيطون به علما( تميز من النسبة أي لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى وقيل بذلته، وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما فإنهم لم يعلموا جميع علومه تعالى.
( وعنت( أي ذلت وخضعت خضوع العناة، وهم الأسارى في يد الملك القهار عني يعني نصب وتعناه تحشمها قال البغوي ومنه العاني للأسر ( الوجوه للحي( الذي لا يموت ويصلح له فإن كلما كان حياته جائز الزوال فهو ميت في حد ذاته ( القيوم( القائم على كل نفس بما كسبت والقائم بتدبير الخلق والمراد بالوجوه أصحابها وظاهرها العموم ويجوز أن يراد بها وجوه المجرمين فيكون اللام بدل الإضافة ويؤيده قوله تعالى :( وقد خاب من حمل ظلما( أي شركا قال ابن عباس خسر من أشرك بالله والجملة معترضة أو مستأنفة لبيان ما لأجله عنت وجوههم ويحتمل أن يكون حالا من الوجوه وقال طلق بن حبيب المراد بالعناد السجود للحي القيوم قلت : وعلى هذا المعنى الآية سجدت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من أشرك ولم يسجد له، وجملة عنت الوجوه معطوفة على خشعت أو حال من فاعله بتقدير قد
( ومن يعمل من الصالحات( شرط وكلمة من للتبعيض أي بعض الصالحات يعني الفرائض منها وجاز أن يكون من للابتداء والتقدير ومن يعمل عملا كائنا من النيات الصالحات ( وهو مؤمن( حال من الضمير المرفوع في يعمل يعني أن الإيمان شرط صحة الطاعات وقبول الخيرات ( فلا يخاف( جزاء للشرط قرأ ابن كثير فلا يخف بالجزم والظاهر أنه مجزوم على أنه جزاء للشرط، وقال البيضاوي وغيره مجزوم على النهي وقرأ الجمهور ( فلا يخاف( بالرفع إما بناء على أنه تعليل لجزاء محذوف والفاء للسببية وتقديره ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن يفلح لأنه لا يخاف، وأما خبر لمبتدأ محذوف والجملة الاسمية جزاء للشرط تقديره فهو لا يخاف ( ظلما( أي لا يخاف أن يزاد على سيآته ( ولا هضما( أن ينقض من ثوابه حسناته كذا قال ابن عباس وقال أحست لا ينقص من ثواب حسناته ولا تحمل عليه ذنب مسيء وقال الشحاك لا يؤخذ بذنب من لم يعمل أو لا يبطل حسنة عملها وأصل الهضم النقص والكسر ومنه هضم الطعام والجملة الشرطية معطوفة على عنت الوجوه.
( وكذلك( عطف على قوله ( كذلك نقص عليك( صفة لمصدر محذوف منصوب بقوله :( أنزلناه( الضمير المنصوب راجع إلى القرآن يعني كما قصصنا عليك أنباء السلف من الأمم الماضية أنزلنا عليك القرآن إنزالا مثل ذلك الإنزال في كونه ( ممن خلق الأرض والسموات العلى( وفي كونه متضمنا للوعد والوعيد حال كونه ( قرءانا عربيا( مقروء بلسان العرب كله على وتيرة واحدة وأسلوب بديع معجز ( وصرفنا( أي كررنا ( فيه من( آيات ( الوعيد لعلهم يتقون( أي لكي يجتنبوا للشرك والمعاصي فيصيرا التقوى ملكة لهم ( أو يحدث( ذلك القرآن ( لهم ذكرا( عظة واعتبارا إما حين يسمعونه فيمنعهم عن المعاصي ولو في الجملة ولهذه التكتة أسند التقوى إليكم لكون التقوى ملكة لهم والأحداث إلى القرآن ونسبة الإحداث إلى القرآن مجاز من قبيل الإسناد إلى السبب والمعنى يحدث الله لهم بسبب القرآن ذكرا وقيل : كلمة أو بمعنى الواو
( فتعالى الله( فيه التفات من التكلم إلى الغيبة والفاء للسببية يعني جل جلاله وعلا من أن تماثل كلامه كلام غيره كما لا يماثل هو في ذاته وفي شيء من صفاته أحدا من خلقه فهو متعال عما يقول فيه المشركون قلت : بل هو متعال أيضا عما يصفه الواصفون الكاملون اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك على ما أردت ( الملك( النافذ أمره ونهيه القديم سلطانه العظيم العميم قهرمانه ( الحق( الثابت وجوده وصفاته وملكوته باقتضاء ذاته لا يحتمل الفساد والزوال ( ولا تعجل بالقرآن( أي بقراءته ( من قبل أن يقضي إليك وحيه( قرأ يعقوب تقضي بالنون المفتوحة وكسر الضاد وفتح الضاد على صيغة الغائب المبني للمفعول ووحيه بالرفع مستندا إليه نهي عن الاستعجال بقراءة القرآن قبل أن يفرغ جبرائيل من الإبلاغ، مثل قوله تعالى ك ( لا تحرك به لسانك لتعجل به( وقال مجاهد وقتادة معناه لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه فهي نهي عن تبليغ ما أجمل قبل أن يأتي بيانه ( وقل ربي زدني علما( يعني إلى ما علمتني سل زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة.
( ولقد عهدنا إلى ءادم( واللام جواب قسم مقدر يعني والله لقد أمرنا آدم ووصينا إليه أن لا ياكل من الشجرة يقال عهد غليه أي أوصاه كذا في القاموس ( من قبل( أي من قبل هذا ( فنسي( العهد أو المعنى فترك ما أمر به من الاحتراز عن الشجرة ( ولم نجد له عزما( أي جدا على حفظها أمر به أو صبرا عما نهي عنه والعزم في اللغة عقد القلب على إمضاء الأمر ومنه ( فإذا عزمت فتوكل على الله( ( زلا تعزموا عقدة النكاح( ( وإن عزموا الطلاق( وفي القاموس عزم عليه ويعزم أراد فعله وقطع عليه أوجد في الأمر وفي النهاية العزم الجد والصبر قلت : عقد القلب على إمضاء الأمر يستلزم الجد في إتيانه والصبر على مشاقه وقيل : معنى الآية لم نجد له عزما أي قصدا على اكل الشجرة بل أكل ناسيان يعني لم يكن له عقد قلب على إمضاء المعصية، ولم نجد عن كان من أفعال القلوب بمعنى العلم فله عزما مفعولا، وغن كان من الوجود ضد العدم فعزما مفعول وله حال فيه أو ظرف لغو متعلق بلم نجد وجملة لقد عهدنا قال صاحب الكشاف والبيضاوي وغيرهما إنها معطوفة على قوله تعالى :( وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون( يعني نقض العهد بعد تصريف الوعيد لهؤلاء ليس أمرا مبدعا منهم بل أساسا بناء آدم على العصيان وعرفهم راسخ فيه النسيان حيث عهدنا إلى آدم من قبل فنسي روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره " كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيضا من نور ثم عرضهم على آدم فقال : أي رب من هؤلاء ؟ قال : ذريتك، فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيض ما بين عينيه قال : أي رب من هذا ؟ قال : داود فقال : أي رب كلم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة، قال رب زده من عمري أربعين سنة، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاء ملك الموت فقال لآدم أو لم يبق من عمري أربعين سنة ؟ قال أولم تعطها ابنك داود ؟ فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته وخطأ فخطأ ذريته " وقال بعض المحققين هذا ليس بسديد لأن قوله تعالى ( صرفنا( يتعلق به كذلك وهو معطوف على قوله ( كذلك نقص عليك( وذلك إشارة إلى حديث موسى وقصة آدم عليه الصلاة والسلام في النسيان ومخالفة الأمر ليس مشابها بحديث موسى عليه الصلاة والسلام بل هو معطوف على قوله تعالى :( وهل أتاك حديث موسى( لأنه بمعنى قد أتاك وقصد آدم من القصص الماضية والله أعلم.
( و( اذكر ( إذ قلنا( أي اذكر حاله في ذلك الوقت ليتبين لك أنه نسي وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ( ولقد عهدنا إلى ءادم( لكنه يشكل بأن هذه الجملة بتقدير أمر إنشائية وجملة لقد عهدنا خبرية فلا يصلح العطف إلا أن يقال هذا مقدر منقول يعني ونقول أذكر إذ قلنا ( للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس( سبق القول فيه ( إن( أن يسجد جملة مؤكدة لما سبق من الكلام، وجاز أن يكون هذه الجملة تعليلا للاستثناء وحينئذ لا يجوز أن يقدر له مفعول وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه بل يجري الإباء مجرى الفعل اللازم ويكون معناه أظهر الإباء عن المطاوعة
( فقلنا( لآدم وهذه الجملة ومعطوفة على جملة مقدرة يعني فأدخلنا آدم الجنة فقلنا له ( يا ءادم إن هذا( يعني إبليس ( عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة( نهي في اللفظ لإبليس وفي المعنى نهي لهما أن يتبعنا أي لا تتبعاه فيتسبب إبليس لإخراجكما من الجنة حيث يخرجكما الله تعالى منها بسبب اتباعه وعصيان ربكم والفاء السببية إذ العداوة سبب لعدم الاتباع المنهي عنه معنى ( فتشقى( منصوب بعد الفاء في جواب النهي أي فتتعب وتنصب ويكون عيشك في كد يمينك وعرق' جبينك يعني الحرث والزرع والحصد والطحن والخبز قال البغوي روى عن سعيد ابن جبير أنه هبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جيبه فذلك شقاؤه وإفراد الضمير بعد إشراكها في الخروج محافظة للرؤوس الآي واكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم فيها أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال
ويؤكد قوله تعالى :( إن لك ألا تجوع فيها( أي في الجنة ( ولا تعرى }
( وأنك لا تظمؤا( أي لا تعطش { فيها ولا تضحى( أي لا تبرز للشمس فيؤذيك قال عكرمة لا يصيبك الشمس وأذاها لأنه ليس في الجنة شمس أهلها في ظل ممدود، فإنه بيان وتذكر لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن مستغنيا عن اكتسابها والسعي في تحصيل أعراضها قرأ نافع وأبو عمرو أنك بكسر الهمزة عطفا على أن لك والباقون بفتح الهمزة عطفا على أن لا تجوع والعاطف إن ناب من إن لكنه ناب من حيث إنه حرف عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يمتنع دخوله على أن كما امتنع من حيث إنه حرف عامل لا من حيث إنه حرف تحقيق فلا يستمتع دخوله على أن كما امتنع دخول أن عليه أو يقال لا يجوز دخول إن على أن من غير فصل وإما مع الفصل كما في هذه الآية فيجوز يقال إن في ظني أنك قائم وإن إعظامك علي واجب.
( فوسوس إليه الشيطان( فأنهى إليه وسوسة ( قال يا ءادم( بيان للوسوسة ( هل أدلك على شجرة الخلد( أي الشجرة التي من يأكل منها خلدج ولم يمت أصلا، أضافها إلى الخلد وهو الخلود لكونه سببه يزعمه ( وملك لا يبلى( أي لايزول ولا يضعف.
( فأكلا( يعني آدم وحواء منها ( فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما( أي أخذ يلزقان على سوءاتهما ( من ورق الجنة( للتستر وهو ورق التبن ( وعصى ءادم ربه( بأكل الشجرة ( فغوى( يعني ضل عن المطلوب وخطأ طريق الحق وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة التي هي سبب لضده أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو، وقال ابن الأعربي أي فسد عليه عيشه فصار من العز إلى الذل ومن الراحة إلى التعب قال ابن قتيبة يجدو أن يقال عصى آدم ولا يجوز أن يقال آدم عاص لأنه يقال عاص لمن اعتاد فعل العصيان ألا ترى أنه من خاط يقال خاط فلان ولا يقال فلان خاط حتى يعاود ذلك ويعتاده روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احتج آدم موسى عند ربهما فحج آدم موسى قال موسى أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من ورحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض ؟ قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله سبحانه برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها ( وعصى ءادم ربه فغوى( ؟ قال : نعم قال : أفتلومني على إني عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى " ورواه البغوي بلفظ " قال موسى يا آدم أنت أبونا فأخرجنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن خلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم موسى فحج آدم موسى ".
فإن قيل : إنكار المراد بقوله نسي أنه نسي العهد وفعل ما فعل فكيف ورد في حقه عصى فإن الإنسان رفع عنه النسيان ؟ قلنا : إما أن يكون رفع النسيان مختصا بهذه الأمة كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه الطبراني عن ثوبان وعن عمر حيث لم يقل رفع مطلقا قال في المجنون وشبهه " رفع القلم عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم " كما ذكرنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا( .
إن الآية تدل على المؤاخذة على الخطأ والنسيان لم تكن ممتنعا عقلا فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناول السموم عمدا كان خطأ يفضي إلى الهلاك كذلك الذنوب يفضي إلى العقاب لو لم يغفرها الله وإن كان بغير عزم وقال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطؤوا عجلت عليهم العقوبة فحرم عليهم من مطعوم أو مشروب على حسب ذلك الذنب قلت فلذلك حرم على آدم عليه الصلاة والسلام مطاعم الجنة ومشاربها وأما أن يقال أن حسنات الأبرار سيئات المقربين بالخطأ والنسيان إن كان مرفوعا عن الإنسان لا يؤاخذ بهما في الآخرة بالنار لكن الخواص من الناس لعلوا درجتهم مؤاخذون بهما وبما هو ترك الأولى والأفضل لا بالنار في الآخرة بل بالغبن على القلوب في الدنيا والهجران من المعاملات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي عن حديث الأغر المزني قال صاحب المدارك الأنبياء مأخوذة بالنسيان الذي لو تكلفوا حفظوا.
فائدة : ومن ههنا قال العلماء : يجوز صدور الصغيرة من الأنبياء قبل النبوة.
( ثم اجتباه ربه( أي اصطفاه وقربه بالحمل على التوبة وأصل الكلمة للجمع يقال جبى الخراج جباية والاجتباء افتعال منه فمعناه الاقتراب ويلزمه الاصطفاء ( فتاب عليه( أي رجع عليه بالرحمة والعفو ( وهدى( أي هداه إلى التوبة حق قال :( ربنا ظلمنا أنفسنا( وإلى مراتب القرب
( قال( الله جملة مستأنفة ( اهبطا منها( أي من الجنة خطاب لآدم وهواء لما كان هبوطهما مستلزم لهبوط ذريتهما فهو خطاب لذريتهما تبعا ولذلك أكد بقوله ( جميعا( وأورد ضمير الجمع في قوله :( فإما( زائدة للتأكيد أدغمت فيه نون أن الشرطية لبعضهم ( يأتينكم مني هدى( أي كتاب ورسول ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى( قال البغوي روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباسي قال : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله في الدنيا من الضلالة ووفاء يوم القيامة سوء الحساب وذلك بان الله يقول :( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى( وقال الشعبي عن ابن عباس أجاز الله تابع القرآن من أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة وقرأ هل الآية.
( ومن أعرض عن ذكري( يعني عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى عبادتي ( فإن له معيشة ضنكا( أي ضيقا مصدر وصف للمبالغة ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث قال البغوي عن ابن مسعود وأب هريرة وأبي سعيد الخذري أنهم قالوا هو عذاب القبر، وأخرج البزار وبسند جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإنه له معبيشة ضنكا قال عذاب القبر " قال أبو سعيد يضغط حتى يختلف أضلاعه وفي بعض المسانيد مرفوعا " يلتأم عليه القبر حتى تختلف أضلاعه فلا يزال يعذب حتى يبعث " وهو في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة وقال الحسن هو الزقوم والضريع والغسلين في النار وقال عكرمة هو الحرام وقال الشحاك الكسب الخبيث وعن ابن عباس قال : الشقاء، قلت : وإنما أطلق الضنك على الحرام والكسب الخبيث والشقاء لكونها مفضية إلى ضيق المقام في القبر أو النار قال الله تعالى في أهل النار ( وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين( وروى عن ابن عباس أنه قال : كل ماله أعطى العبد قل أو كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة وإن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا وذلك أنهم يرون الله ليس بخلف عليهم معائشهم من سوء ظنهم بالله عز وجل وقال سعيد بن جبير معناه نسلبه القناعة حتى لا يشبع وحاصل هذين القولين أن من أعرض عن ذكر الله كان مجامعا همه ومطامع نظره إلى أغراض الدنيا متهالكا على ازديادها خائفا على إنقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة فإنه قانع على ما أعطاه الله شاكر عليه متوكل فتكون حياته في الدنيا طيبة، قلت : وعلى هذا التأويل ليس المراد بمن أعرض عن ذكر الله الكافر المعرض عن الإيمان بل المعرض عن الإكثار ذكر الله فإن عامة المؤمنين منهمكون في طلب الدنيا خائفون على انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة فإنه قانع على ما أعطاه الله شاكر عليه متوكل على الله فتكون حياته في الدنيا طيبة، قلت : وعلى هذا التأويل ليس المراد بمن أعرض عن ذكر الله الكافر المعرض عن الإيمان بل المعرض عن الإكثار ذكر الله فإن عامة المؤمنين منهمكون في طلب الدنيا خائفون على انتقاصها فمن أعرض عن إكثار ذكر الله وجعل همته في إعراض الدنيا أظلم عليه وقته وتشويش عليه رزقه.
فإن قيل : إن كان تعب الرجل في دار الدنيا معيشة ضنكا فلذلك غير مختص بالكفار والفساق بل موجود في الأنبياء والصلحاء أشد البلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دنيه رقة ابتلي على قدر دينه فما يرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئته " رواه أحمد والبخاري في صالح والترمذي وابن ماجة عن سعد والطبراني عن أخت حذيفة نحوه والبخاري في التاريخ عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بسند حسن بلفظ " أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي " قلت : الجواب عندي بوجهين أحدهما أنه ليس المراد بالآية أن ضيق المعيشة مختص بالكفار بل هذه الآية نظيرة لقوله تعالى :( قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار( فالمعنى أنه من أعرض عن ذكري نعطيه في الدنيا معيشة قليلة فإن متاع الدنيا قليل كله نعطيه أياما معدودة في نوع من الضيق ثم نحشره يوم القيامة أعمى ثانيهما أن معيشة الدنيا لا تخلو لأحد من المؤمن والكافر عن تعب وبلاء قال الله :( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك( أي إلى لقائه غير أن ذلك التعب للمؤمن موجب لمحو الخطيآت أو رفع الدرجات كما يدل عليه الحديث المذكور فهو وإن كان شيق صورة لكنه فرج معنى وسبب لانشراح صدره باطنا بخلاف الكافر فإن ضيقه وتعبه أنموذج لعذابه المعد له في الآخرة ثم إذا صح للعبد المؤمن حب مع الله سبحانه فكل ما أصابه ووصله من الله تعالى يلتذ به ويفرح فإن ضرب الحبيب زينب، روى الحديث المذكور ابن ماجة وعبد الرزاق والحاكم عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشد البلاء الأنبياء ثم الصالحون لقد كان أحدهم يبتلي الفقر حتى ما يجد إلا العبادة يحويها ويلبسها ويبتلي بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء " والله أعلم.
( ونحشرهم يوم القيامة أعمى( قال ابن عباس أعمى البصر، وقال مجاهد أعمى عن الحجة،
ويؤيد قول ابن عاس قوله تعالى :( قال رب لم حشرتني( قرأ نافع بفتح الباء والباقون بإسكانها ( أعمى وقد كنت( في الدنيا ( بصيرا( فإنه لم يكن له في الدنيا حجة قال الله تعالى :( ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به( وقال :( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى( أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا سأله فقال : أرأيت قوله تعالى : ونحشر المجرمين زرقا وأخرى ( عميا( قال : عن يوم القيامة يكونون في حال زرقا وفي حال عميا
( قال كذلك( متعلق بفعل محذوف أي فعلت أنت كذلك إشارة إلى مبهم يفسر قوله ( أتتك ءاياتنا( الدالة على الوحدانية أو آياتنا المنزلة على الأنبياء ( فنسيها( فأعرضت عنها وتركتها غير منظور إليها كما يترك الأعمى ( وكذلك اليوم ننسى( يعني اليوم تترك في النار تركا مثل تركك إياها وقيل : التقدير الأمر كذلك وجملة أتتك في مقام التعليل
( وكذلك نجزي( أي نجزي جزاء مثل ذلك الجزاء ( من أسرف( يعني أضاع عمره بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الآيات ولم يؤمن بآيات ربه بل كذبها وخالفها ( ولعذاب الآخرة( في نار جهنم ( أشد وأبقى( من ضنك العيش والعمى وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى :( ومن أعرض عنت ذكري فإن له معيشة ضنكا( الخ.
( أفلم يهد لهم( الضمير المرفوع إلى الهدى والمراد منه الكتاب أو الرسول أو إلى الله تعالى المذكور في قوله تعالى :( وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بئايات ربه( وعلى هذا في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة ويؤيد هذا التأويل ( أفلم يهد لهم( بالنون على صيغة المتكلم، والمعنى أو لم يهد لهم الله أو القرآن أو الرسول يعني لكفار مكة، الاستفهام للإنكار يعني هداهم إلى صراط مستقيم فاستحبوا العمى على الهدى، والفاء للتعقيب معطوف على محذوف تقديره ألم يبين لهم فلم يهد لهم إنكار لعدم الهداية بعد البيان لفظا وفي المعنى إنكار لعدم اعتدائهم بعد الهداية وقيل : أفلم يهد لهم معطوف على مضمون إنكارهم السابق فإنه تعالى ذكر حال المؤمنين بقوله :( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى( وحال الكفار بقوله ( ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا( فقال بين الله لهم فيما تلونا حال الفريقين ألم يتبين لهم ( أفلم يهد لهم( وقيل لم يهد مسند على القرون السابقة او مسند إلى الجملة بمضمونها يعني ألم يهد لهم إهلاكنا القرون ( يمشون في مساكنهم( حال من القرون يعني أهلكناهم ماشين في مساكنهم أو حال من الضمير المجرور في لهم على تقدير إسناد الفعل إلى مضمون جملة كم أهلكنا يعني أفلهم يهد لكفار مكة حال تكوينهم ماشين في مساكن القرون الماضية ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى( لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.
( ولولا كلمة سبقت من ربك( وهي العدة بتأخير عذاب كفار هذه الأمة إلى يوم القيامة، وعدم استئصالهم في الدنيا لكون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وجملة سبقت صفة لكلمة وخبر المبتدأ محذوف يعني لولا كلمة سبقت حاصلة ( لكان( إهلاكنا هؤلاء الكفار ويمثل ما نزل بالقرون الخالية ثم عاد وثمود وإشباههم ( لزاما( أي ملازما لهؤلاء الكفار غير منفك عنهم مصدر من باب المفاعلة وصف به مبالغة أو على أنه بمعنى الفاعل أو اسم آلة سمي به اللازم لفرط لزومهم
( واجل مسمى( عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى لمدة بقائهم في الدنيا أو لقيام القيامة أو لعذابهم ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى وجاز أن يكون أجل مسمى عطف على الضمير المستكن في كان ولا بأس به بوجود الفصل والتقدير على هذا ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب لكان العذاب العاجل والعذاب المؤجل بأجل مسمى كلاهما لازمين لم، والجملة الشرطية أعني لولا كلمة إلى آخره معطوفة على جملة محذوفة مفهومة من قوله وكم أهلكنا تقديره كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم وهؤلاء الكفار مثلهم في استحقاق نزول العذاب ولولا كلمة لكان لزاما واجل مسمى.
( فاصبر( يا محمد يعني إذا علمت أن عذاب هؤلاء الكفار مؤجل إلى أجل مسمى فاصبر ( على ما يقولون( فيك ( وسبح( يعني صل متلبسا ( بحمد ربك( يعني حامدا على ما وقفك للصلاة والتسبيح وأعانك عليه كأن فيه إشارة إلى أن العبد إن صدر منه العبادة لا يغتر به بل يشكر الله على إتيانه وإعانته كما يشير إليه قوله تعالى :( إياك نعبد وإياك نستعين ) بعهد قوله :( إياك نعبد( يعني نستعين بك على عبادتك ويمكن أن يستنبط من هذه الآية وجوب قراءة الفاتحة في كل صلاة على ما يصرح به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وفي لفظ " لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب " رواه الشيخان في الصحيحين وأحمد فإن الآية اقتضت بإتيان الصلاة متلبسا بالحمد لكن التلبيس مجمل فالتحق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا له وظهر أن المراد بالتلبس بالحمد قراءة الفاتحة ( الحمد لله رب العالمين( إلى آخر السورة ( قبل طلوع الشمس( يعني صلاة الصبح ( وقبل غروبها( يعني صلاة العصر، وقيل المراد بقبل الغروب بعد نصف النهار يعني الظهر والعصر جميعا ( ومن ءانائي الليل( أي من ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر يعني المغرب والعشاء قال ابن عباس يريد أول الليل قلت ويمكن أن يراد به التهجد أيضا فإنها كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم والظرف متعلق بقوله ( فسبح( والفاء زائدة أو على تقدير أما يعني وأما من آناء الليل فسبح على الخصوص لكون الليل وقت خلو القلب عن الانشغال والنفس فيها أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيها أحسن وأفضل قال الله تعالى :( إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا( ( وأطراف النهار( عطف على قبل طلوع الشمس وعلى محل من آناء الليل ولعل هذا تكرير لصلواتي الفجر والعصر لإرادة الاختصاص ومزيد التأكيد لأن الفجر وقت نوم والعصر وقت اشتغال بالدنيا فالآية نظيرة لقوله تعالى :( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى( ومجيئه بلفظ الجمع للمن من الالتباس أو المراد بأطراف النهار صلاة الظهر فقط لأن وقته نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر، وجمعه باعتبار النصفين وقبل المراد من إناء الليل صلاة العشاء ومن أطراف النهار صلاة الظهر والمغرب لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار وفي أول الطرف الآخر فهو طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس وعند ذلك يصلي المغرب أو المراد منه التطوع في أجزاء النهار ( لعلك ترضى( أي لكي ترضى يعني سبح في هذه الأوقات لأن تنال من عند الله ما به ترضى وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء مفعول أي لكي يرضيك ربك، وقيل : معنى ترضى أي يرضاك الله كما قال ( ولسوف يعطيك ربك فنرضى( روى الشيخان في الصحيحين وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن جرير بن عبد الله أنه قال :" كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى القمر ليلة البدر فقال :" إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تصامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها( والله أعلم.
أخرج ابن شيبة وابن دردويه والبزار وأبو يعلى عن أبي رافع قال ى : نزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا وفي رواية يعني كذا وكذا من الدقيق أو أسلفني إلى هلال رجب فقال لا إلا برهن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال والله لئن باعني أو أسلفني لقضيت وإن الأمين في السماء أمين في الأرض اذهب بدرعي الحديد إليه فلم أخرج من عنده حتى نزلت ( ولا تمدن عينيك( أي نظر عينيك، عطف على فاصبر ولما كان قوله تعالى :( ولولا كلمة سبقت( الخ دالا على انتفاء العذاب العاجل عن الكفار وثبوت العذاب الآجل رتب عليه بالفاء الدالة على السببية جملتين تفيد إحداهما الأمر بالصبر بناء على انتفاء العذاب العاجل وثانيهما النهي عن مد النظر تمنيا بناء على تحقق العذاب الآجل ( إلى ما متعنا به( استحسانا له وتمنيا أن يكون له مثله ( أزواجا( مفعول لقوله ( متعناه( ( منهم( صفة له يعني ما متعنا به أصنافا من الكفرة وجاز أن يكون حالا من الضمير المحبوس والمفعول به قولهم منهم وكلمة من للتبعيض يعني ما معناه به بعضهم وناسا منهم حال كون المتمتع به أصنافا من المال ( زهرة الحياة الدنيا( منصوب بفعل محذوف دل عليه متعنا تقديره أعطيناهم زهرة الحياة الدنيا يعني زينتها وبهجتها أو منصوب بمتعنا تضمينه معنى أعطينا أو على البدلية من محل به، أو على البدلية من أزواجا بتقدير مضاف إن كان المراد أصناف الكفرة وبدون التقدير إن كان المراد أصناف المال قرأ يعقوب زهرة يفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهر أو جمع زاهر وصف لهم أنهم زاهروا الدنيا أي ازدهروها أي احتفظوا بها وفرحوا بها لتمنعهم في القاموس الازدهار بالشيء الاحتفاظ به والفرح به ( لنفتنهم فيه( أي لنبلوهم ونختبرهم أو لنتركهم في الكفر والضلال بأن يطغوا في دنياهم أو لنعذبهم في الآخرة بسبب متعلق بمتعنا ( ورزق ربك( أي ما رزقك ربك في الدنيا من الهدى والنبوة أو الكفاف من الحلال أو في الآخرة من الجنة ومراتب القرب ( خير( مما أعطوا في الدنيا ( وأبقى( منه فإنه لا ينقطع أبدا، والجملة حال من فاعل لا تمدن قال البغوي قال أبي بن كعب رضي الله عنه من لم يعتز يعز الله تقطعت نفسه خسرات ومن يتبع بصره في أيدي الناس يظل حزنه ومن ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل عمله وحضر عذابه.
( وأمر أهلك( أي قومك أهل دينك عطف على لا تمدن ( بالصلاة( أمره بأن أمره اتباعه بعد ما أمره به ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا يأمر المعيشة ولا لتفتوا إلى أرباب الثروة ( واصطبر( أي داوم ( عليها لا نسئلك رزقا( أي لا نكلفك أن ترزق أحدا من خلقنا ولا أن ترزق نفسك وإنما نكلفك العمل هذه الجملة في مقام التعليل للاصطبار على الصلاة ( نحن نرزقك( وإياهم ففرغ بالك لأمر الآخرة هذا تعليل لعدم سؤال الرزق ( والعاقبة( يراد ما يعقب العمل الصالح من الثواب كما يراد بالعقاب ما يعقب العمل السوء من العذاب ( للتقوى( أي لأهل التقوى، قال ابن عباس قال ابن عباس الذين صدقوك واتبعوني واتقوني أخرج سعيد بن منصور في سنته والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية.
( وقالوا( يعني المشركين ( لولا يأتينا( محمد صلى الله عليه وسلم ( بئاية( دالة على صدقه في ادعاء النبوة ( من ربه( قيل هذه جملة معطوفة على يقولون يعني واصبر على ما يقولون وعلى ما قالوا وهذا كلام مستأنف أنكروا إتيان الآيات ولم يتعدوا بما جاء به من الآيات الكثيرة تعنتا وعنادا وطلبوا آيات مقترحة فألزمهم الله تعالى بإتيانه بالقرآن الذي هو رأس المعجزات وأبقاها لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعي النبوة بنوع من العلم والعمل على وجه خارق العادة ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرا وأبقى منه أثرا فكذا ما كان من هذا القبيل ونبههم أيضا على وجه أثنى من وجوه إعجاز المختصة بهذا الباب فقال :( أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى( الاستفهام للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره ألم يعرفوا صدقك في ادعاء النبوة ولم تأتهم بيان ما في الصحف الأولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية فإن اشتمال القرآن على زيدجة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يتعلم ممن علمها آية واضحة على صدقه وفيه إشعار بأن القرآن كما هو برهان على نبوته صلى الله عليه وسلم شاهد لصحته ما تقدمه من الكتب من حيث إنه معجز وليست هي كذلك ل هي مفتقرة إلى ما يشهد عليها قرأ نافع وأبو عمرو وحفص تأتهم بالتاء لتأنيث الفاعل والباقون بالياء التحتية تقدم الفعل وكون التأنيث غير حقيقي وقيل : معناه أو لم تأتهم بيان ما في الصحف الولى من أنباء الأمم أنهم اقترحوا الآيات فلما أتتهم ولم يؤمنوا بها كيف عجلنا بهم العذاب وأهلكناهم فما يؤمنوا أنهم عن تأتهم الآيات المقترحة أن يكون حالهم كحال أولئك.
( ولو( ثبت ( أنا أهلكناهم( يعني كفار قريش لأجل إشراكهم بالله ( بعذاب( متعلق بأهلكنا ( من قبله( يعني بعذاب نازل من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبل البينة والتذكير لأنها في معنى البرهان ( لقالوا( يوم القيامة ( ربنا( أي يا ربنا ( لولا( هلا ( أرسلت إلينا رسولا( بدعونا إلى التوحيد ( فتبع( منصوب بتقدير أن بعد الفاء في جواب التحضيض فإنه بمعنى الاستفهام ( ءاياتك( المنزلة على الرسول ( من قبل( ظرف لنتبع ( أن نذل( بالقتل والسبي في الدنيا ( ونخزى( بدخول النار يوم القيامة أو بأن نذل يوم القيامة ونخزى في جهنم.
مسألة : هذه الآية تدل على أن الإيمان بالله والتوحيد على العقلاء قبل بعثة الرسل والكفر حينئذ كان سببا لاستحقاق العذاب وإنما بعث الرسل لإتمام الحجة وقطع المعذرة ولمزيد الفضل وبه قال أبو حنيفة ح خلافا للشافعي ح.
( قل( يا محمد كلام مستأنف ( أي كل واحد منا ومنكم ( متربص
منتظر لما يؤل إليه أمرنا وأمركم ( فتربصوا( وذلك أن المشركين قالوا نتربص بمحمد حوادث الدهر وإذا مات تخلصا يعني انتظروا ( فستعلمون( يوم القيامة ( من أصحاب الصراط السوي( إلى الطريق الموصل إلى الجنة ( ومن اهتدى( من الضلالة أو اهتدى إلى النعيم المقيم ومن في الموضعين للاستفهام ومحلها الرفع بالابتداء ويجوز أن يكون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الاستفهامية المعلق عنها الفعل على ان العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب الصراط وعلى الصراط على أن المراد به النبي صلى الله عليه وسلم حمزة والكسائي يميلان أواخر هذه السورة من قوله تعالى : لتشقى إلى آخرها قوله : ومن اهتدى وأبو عمرو يميل من ذلك ما فيه راء نحو قوله تعالى : الثرى ومن افترى ولا تعرى شبهه وما عدا ذلك بين بين وورش جميع ذلك بين بين والباقون بإخلاص الفتح