تفسير سورة الحج

اللباب
تفسير سورة سورة الحج من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الحج
مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله :" هذان خصمان " إلى قوله :" وهدوا إلى صراط الحميد " ١. وهي ثمان وتسعون آية، وعدد كلماتها ألفان ومائتان وإحدى وتسعون كلمة، وعدد حروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
١ من الآية (١٩) إلى الآية ٢٤..

مكية غير ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله: " هذان خصمان " إلى قوله: " وهدوا إلى صراط الحميد ". وهي ثمان وتسعون آية، وعدد كلماتها ألفان ومائتان وإحدى وتسعون كلمة، وعدد حروفها خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: قوله: ﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ﴾ أي: احذروا عقابه. والأمرُ بالتقوى يتناولُ اجتنابَ المحرمات، واجتنابَ تركِ الواجبات.
قوله: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة﴾ الزلزلة: شدة حركة الشيء، ويجوز في هذا المصدر وجهان:
أحدهما: أن يكون مضافاً لفاعله، وذلك على تقديرين:
أحدهما: أن يكون من (زَلْزَلَ) اللازم بمعنى: يُزَلْزِل، فالتقدير: أن تزلزل السَّاعة.
والثاني: أن يكون من (زَلْزَلَ) المتعدي، ويكون المفعول محذوفاً تقديره: إن زلزال الساعةِ الناسَ، كذا قدره أبو البقاء. والأحسن أن يقدر: إن زلزال الساعة الأرض، يدل عليه ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض﴾ [الزلزلة: ١]، ونسبة التزلزل أو الزلزال إلى الساعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني: أن يكون المصدر مضافاً إلى المفعول به على طريقة الاتساع في الظرف كقوله:
3
٣٧٤٣ - طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِل... وقد أوضح الزمخشري ذلك بقوله: ولا تخلو «السَّاعَةُ» من أن تكون على تقدير الفاعل لها، كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي، فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله، وعلى تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف، وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: ﴿مَكْرُ الليل والنهار﴾ [سبأ: ٣٣].

فصل


اختلفوا في وقت هذه الزلزلة، فقال علقمة والشعبي: هي من أشراط الساعة قبل قيام الساعة، ويكون بعدها طلوع الشمس من مغربها. وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها،
4
فتكون فعلها روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حديث الصور: «إِنَّهُ قَرْنٌ عظيمٌ ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفَزَع، ونفخة الصَّعْقِ، ونفخة القيامة، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال، وتَرْجُف الراجفة، تتبعها الرّادِفَة، قلوب يومئذٍ واجِفَة وتكون الأرض كالسفينة حصرتها الأمواج أو كالقِنْديل المعلق تموجها الرياح» قال مقاتل وابن زيد: هذا في أول يوم من أيام الآخرة وليس في الآية دلالة على هذه الأقوال، لأن هذه الإضافة [تصح] وإن كانت فيها ومعها كقولنا: آيات الساعة وأمارات الساعة.
قوله: «يَوْم»، فيه أوجه:
أحدها: أن ينتصب ب «تَذْهَلُ»، ولم يذكر الزمخشري غيره.
الثاني: أنه منصوب ب «عَظِيم».
الثالث: أنه منصوب بإضمار «اذْكُر».
الرابع: أنه بدل من «السَّاعة»، وإنما فُتِح لأنه مبني، لإضافته إلى الفعل وهذا إنما يتمشى على قول الكوفيين، وتقدم تحقيقها آخر المائدة.
الخامس: أنه بدل من «زَلْزَلة» بدل اشتمال، لأن كلاًّ من الحدث والزمان يصدق أنه مشتمل على الآخر. ولا يجوز أن ينتصب ب «زَلْزَلة» لما يلزم من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر.
قوله: «تَرَوْنَها» في هذا الضمير قولان:
أظهرهما: أنه ضمير الزلزلة؛ لأنها المحدث عنها، ويؤيده أيضاً قوله ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾.
والثاني: أنه ضمير الساعة.
فعلى الأول: يكون الذهول والوضع حقيقة؛ لأنه في الدنيا.
وعلى الثاني: يكون على سبيل التعظيم والتهويل، وأنها بهذه الحيثية، إذ المراد
5
بالساعة القيامة، وهو كقوله: ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً﴾ [المزمل: ١٧].
قوله: «تَذْهَل» في محل نصب على الحال من الهاء في «تَرَوْنَها»، فإن الرؤية هنا بَصَريَّة، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول، وأما الوجه الأول وهو أنّ «تَذْهَلُ» ناصب ل «يَوْمَ تَرَوْنَها» فلا محل للجملة من الإعراب؛ لأنها مستأنفة، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة، أو من الضمير في «عَظِيْم» وإن كان مذكراً، لأنه هو الزلزلة في المعنى، أو من «الساعة» وإن كانت مضافاً إليها، لأنه إما فاعل أو مفعول كما تقدم. وإذا جعلناها حالاً فلا بد من ضمير محذوف تقديره: تذهل فيها. وقرأ العامة: «تَذْهَل» بفتح التاء والهاء من: ذهل عن كذا يذهل. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني: بضم التاء وكسر الهاء، ونصب «كل» على المفعول به من أذهله عن كذا يُذْهله، عدّاه بالهمزة. والذهول: الاشتغال عن الشيء، وقيل: إذا كان مع دهشته وقيل: إذا كان ذلك لطرآن شاغل من هَمّ أو مرض ونحوهما، وذهل بن شيبان أصله من هذا. والمرضعة: من تلبست بالفعل، والمرضع من شأنها أن تُرْضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل: حائضة. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل «مُرْضِعَة» دون مُرْضِع؟ قلت: المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها (به). والمعنى: أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها. وقال بعض الكوفيين: المرضعة يقال للأم،
6
والمُرْضِع يقال للمستأجرة غير الأم، وهذا مردود بقول الشاعر:
٣٧٤٤ - كَمُرْضِعَةٍ أَوْلاَدَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلاَلُ عَنِ القَصْدِ
فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم. وقول العرب مرضعة يرد أيضاً قول الكوفيين: إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو: حائض وطالق. فالذي يقال: إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء، فيقال: حائضة وطَالِقَة وطامثة.
قوله: «عَمَّا أَرْضَعتْ» يجوز في «ما» أن تكون مصدرية، أي: عن إرضاعها، ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا. ويجوز أن تكون بمعنى (الذي)، فلا بد من حذف عائد، أي: أرضعته، ويقويه تعدي «تضع» إلى مفعول دون مصدر. والحمل - بالفتح - ما كان في بطن أو على رأس شجر، وبالكسر ما كان على ظهر.
قوله: ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾. العامة على فتح التاء من «تَرَى» على خطاب الواحد.
وقرأ زيد بن عليّ بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة، أو الساعة وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى به، أي: وتُرِي الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى. ويؤيد هذا قراءة أبي هريرة
7
وأبي زرعة وأبي نهيك «تُرَى النَّاسَ سُكَارَى» بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب «النَّاسَ»، بَنَوْه من المتعدي لثلاثة، فالأول قام مقام الفاعل وهو ضمير المخاطب، و «النَّاسَ سُكَارَى» هما الثاني والثالث.
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوماً سكارى، ف «النَّاس» هو الأول و «سُكَارَى» هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس في اختياره «وترى» كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعاً «النَّاسَ» على أنه مفعول لم يسم فاعله، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة. وقرأ الأخوان «سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى» على وزن وصفه المؤنثة بذلك واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى كمرضى وقتلى، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم في قوله «أَسْرَى». وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال: وقوم يقولون: «سَكْرَى» جعلوه مثل مَرْضَى. لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى، وهم المستثقلون نوماً لا من شرب الرائب.
وقال الفارسي: ويجوز أن يكون جمع سَكِر كزَمِن وزَمْنَى، وقد حكي: رجل سكر بمعنى سكران، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع. قال شهاب الدين: ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله:
8
٣٧٤٥ - وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْت يُثْقِلُني ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرْ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرْ
ويروى البيت الأول: الشارب الثمل. وبالراء أصح لدلالة البيت الثاني عليه.
وقرأ الباقون «سُكَارَى» بضم السين، وقد تقدم في البقرة خلاف، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع. وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما، وهو جمع تكسير واحده سكران. قال أبو حاتم: وهي لغة تميم. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سُكْرَى» «وَمَا هُمْ بِسُكْرَى» بضم السين فيهما. فقال ابن جني: هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي. وقال أبو الفضل: فُعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد.
9
وقال الزمخشري: وهو غريب. قال شهاب الدين: ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرُّبَّى والحُبْلَى. وجوَّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفاً من سكارى وكان من حق هذا القارئ أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن.
وقرئ «ويَرَى الناسُ» بالياء من تحت، ورفع «النَّاسُ».
وقرأ أبو زرعة في رواية «سَكْرَى» بالفتح «ومَا هُمْ بِسُكْرَى» بالضم. وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني. وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز، أي: ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾ على التشبيه ﴿وَمَا هُم بسكارى﴾ على التحقيق. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل أولاً: ترون، ثم قيل: ترى على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعاً رائين لها، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم.

فصل


«روي أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل في غزوة بني المصطلق، والناس يسيرون، فنادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاجتمعوا حوله، فقرأهما عليهم، فلم يُرَ أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه السلام:» أَتَدْرُونَ أَيَّ ذَلِكَ اليَوْم «؟ قالوا: اللَّهُ وَرَسُولُه أَعْلَم. قال:» ذَلِكَ يَوْم يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لآدم: قُمْ فَابعَثْ بَعْثَ النَّار مِنْ وَلَدِك، فَيَقُول آدَمُ: وَمَا بعث النَّارِ؟ فيقُولُ اللَّهُ تعالى مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعمائةٍ وتسعة وتسعون إلى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلى الجَنَّة، فَعِنْدَ ذَلِك يَشيْبُ الصَّغِيْر،
10
وتَضَعُ كُلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَترى النَّاسَ سُكَارَى وَما هُم بِسُكارى وَلَكِن عَذاب اللَّهِ شَدَيد «قال: فيقولون: وأَيُّنا ذِلكَ الواحِدُ فقال رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» تِسْعمائةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ومنكُمْ وَاحِد «.
وفي رواية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:»
يَسِّرُوا وسَدِّدُوا وقَارِبُوا فَإنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْن مَا كَانَتَا في قَوْم إِلاَ كَثُروا يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ «ثم قال:» إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُوْنُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنَّة «فكبَّرُوا وحَمَدُوا اللَّهَ، ثم قال:» إِنِّي لأرْجُوا أَنْ تَكُونوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّة «فَكبَّرُوا وحَمَدُوا الله، ثم قال:» إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تُكُونُوا ثُلُثَي أهلِ الجَنَّة، إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ مائَة وعشرُونَ صَفّاً، ثَمَانُونَ مِنْ أُمتَّي وما المُسلمُونَ في الكُفَّار إلا كالشَّامَةِ في جنب البعير، أو كالشَّعرة البيضاء في الثور الأسود «ثم قال:» ويَدْخُلُ مِنْ أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفاً الجَنَّة بِغَيْر حِسَاب «فقال عمر: سبعُونَ ألفاً. فقال:» نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفاً «فقام عكاشة بن محصن وقال: يار سول اللَّهِ ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم. قال:» أَنْتَ مِنْهُم «فقام رجل من الأنصار وقال مثل قوله، فقال:» سبقك بها عكاشة «. فخاض الناس في السبعين ألفاً، فأخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بما قالوا، فقال عليه السلام:» هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا ينظرون وعلى ربهم يتوكلون «.

فصل


معنى الآية قال ابن عباس: «تَذْهَلُ»
تشغل، وقيل: تتنسى «كُلُّ مُرْضِعَةٍ» إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة «عَمَّا أَرْضَعَتْ» أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ أي تسقط ولدها التمام وغير التمام. قال الحسن: وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل. قال القفال: ويحتمل أن يقال: إن من ماتت حاملاً أو مرضعة بعثت حاملاً ومرضعة تضع حملها من الفزع، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله: ﴿يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً﴾ [المزمل: ١٧].
11
و ﴿وَتَرَى الناس سكارى﴾ من الخوف ﴿وَمَا هُم بسكارى﴾ من الشراب. وقيل: معناه كأنهم سكارى، ولكن ما أرهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم.
فإن قيل: هل يحصل ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟
فالجواب: قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون، لقوله: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر﴾ [الأنبياء: ١٠٣] وقيل: بل يحصل للكل؛ لأنه سبحانه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله.

فصل


احتجت المعتزلة بقوله ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة. وبقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ٢٠] فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم، فالمعدوم شيء (واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣ - ٢٤] أطلق اسم الشيء على المعدوم في الحال، فالمعدوم شيء). وأجيب عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة. وهي جواهر قامت بها أعراض، وتحقق ذلك في العدم محال، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها، فلا بد من التأويل، ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً وهذا هو الجواب عن الباقي.
12
قوله :«تَرَوْنَها » في هذا الضمير قولان :
أظهرهما : أنه ضمير الزلزلة ؛ لأنها المحدث عنها١، ويؤيده أيضاً قوله ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾.
والثاني : أنه ضمير الساعة. ٢
فعلى الأول : يكون الذهول والوضع حقيقة ؛ لأنه في الدنيا.
وعلى الثاني : يكون على سبيل التعظيم والتهويل، وأنها بهذه الحيثية، إذ المراد بالساعة القيامة، وهو كقوله :﴿ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً٣ [ المزمل : ١٧ ].
قوله :«تَذْهَل » في محل نصب على الحال من الهاء في «تَرَوْنَها »، فإن الرؤية هنا بَصَريَّة، وهذا إنما يجيء على غير الوجه الأول٤، وأما الوجه الأول وهو أنّ «تَذْهَلُ » ناصب ل «يَوْمَ تَرَوْنَها » فلا محل للجملة من الإعراب ؛ لأنها مستأنفة، أو يكون محلها النصب على الحال من الزلزلة، أو من الضمير في «عَظِيْم » وإن كان مذكراً، لأنه هو الزلزلة في المعنى، أو من «الساعة » وإن كانت مضافاً إليها، لأنه إما فاعل أو مفعول كما تقدم. وإذا جعلناها حالاً فلا بد من ضمير محذوف تقديره : تذهل فيها٥. وقرأ العامة :«تَذْهَل » بفتح التاء والهاء من : ذهل عن كذا يذهل٦. وقرأ ابن أبي عبلة واليماني : بضم التاء وكسر الهاء، ونصب «كل » على المفعول به٧ من أذهله عن كذا يُذْهله، عدّاه بالهمزة. والذهول : الاشتغال عن الشيء٨، وقيل : إذا كان مع دهشته وقيل : إذا كان ذلك لطرآن شاغل من هَمّ أو مرض ونحوهما٩، وذهل بن شيبان١٠ أصله من هذا. والمرضعة : من تلبست بالفعل، والمرضع من شأنها أن تُرْضع كحائض فإذا أراد التلبس قيل : حائضة١١. قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل «مُرْضِعَة » دون مُرْضِع ؟ قلت : المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي١٢، والمرضع التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها ( به١٣ )١٤. والمعنى : أن من شدة الهول تذهل هذه عن ولدها فكيف بغيرها. وقال بعض الكوفيين : المرضعة يقال للأم، والمُرْضِع١٥ يقال للمستأجرة غير الأم، وهذا مردود بقول الشاعر :
كَمُرْضِعَةٍ أَوْلاَدَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلاَلُ عَنِ القَصْدِ١٦
فأطلق المرضعة بالتاء على غير الأم. وقول العرب مرضعة يرد أيضاً قول الكوفيين : إن الصفات المختصة بالمؤنث لا يلحقها تاء التأنيث نحو : حائض وطالق١٧. فالذي١٨ يقال : إن قصد النسب فالأمر على ما ذكروا١٩، وإن قصد الدلالة على التلبس بالفعل وجبت التاء، فيقال٢٠ : حائضة وطَالِقَة وطامثة٢١.
قوله :«عَمَّا أَرْضَعتْ » يجوز في «ما » أن تكون مصدرية، أي : عن إرضاعها، ولا حاجة إلى تقدير حذف على هذا٢٢. ويجوز أن تكون بمعنى ( الذي )، فلا بد من حذف عائد، أي : أرضعته، ويقويه تعدي «تضع » إلى مفعول٢٣ دون مصدر٢٤. والحمل - بالفتح - ما كان في بطن أو على رأس شجر، وبالكسر ما كان٢٥ على ظهر٢٦.
قوله :﴿ وَتَرَى الناس سكارى ﴾. العامة على فتح التاء من «تَرَى » على خطاب الواحد٢٧.
وقرأ زيد بن عليّ بضم التاء وكسر الراء على أن الفاعل ضمير الزلزلة، أو الساعة٢٨ وعلى هذه القراءة فلا بد من مفعول أول محذوف ليتمّ المعنى٢٩ به، أي٣٠ : وتُرِي٣١ الزلزلة أو الساعة الخلق الناس سكارى. ويؤيد هذا قراءة أبي هريرة وأبي زرعة وأبي نهيك «تُرَى النَّاسَ سُكَارَى » بضم التاء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ونصب «النَّاسَ٣٢ »، بَنَوْه من المتعدي لثلاثة، فالأول قام مقام الفاعل وهو ضمير المخاطب، و «النَّاسَ سُكَارَى » هما الثاني والثالث٣٣.
ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين فقط على معنى وتري الزلزلة أو الساعة الناس قوماً سكارى، ف «النَّاس » هو الأول و «سُكَارَى » هو الثاني وقرأ الزعفراني وعباس٣٤ في اختياره «وترى » كقراءة أبي هريرة إلا أنهما رفعاً «النَّاسَ » على أنه مفعول لم يسم٣٥ فاعله، والتأنيث في الفعل على تأويلهم بالجماعة٣٦. وقرأ الأخوان٣٧ «سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى » على وزن وصفه المؤنثة بذلك٣٨ واختلف في ذلك هل هذه صيغة جمع على فعلى٣٩ كمرضى وقتلى٤٠، أو صفة مفردة استغني بها في وصف الجماعة خلاف مشهور تقدم في قوله «أَسْرَى٤١ ». وظاهر كلام سيبويه أنه جمع تكسير فإنه قال : وقوم يقولون :«سَكْرَى » جعلوه مثل مَرْضَى. لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان ثم جعلوا روبى مثل سكرى، وهم المستثقلون نوماً لا من شرب الرائب٤٢.
وقال الفارسي : ويجوز أن يكون جمع سَكِر كزَمِن وزَمْنَى، وقد حكي : رجل سكر بمعنى٤٣ سكران، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع٤٤. قال شهاب الدين : ومن ورود سكر بمعنى سكران قوله :
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْت يُثْقِلُني ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرْ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرْ٤٥
ويروى البيت الأول : الشارب الثمل. وبالراء٤٦ أصح لدلالة البيت الثاني عليه٤٧.
وقرأ الباقون «سُكَارَى » بضم السين٤٨، وقد تقدم في البقرة خلاف، هل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع٤٩. وقرأ أبو هريرة وأبو نهيك وعيسى بفتح السين فيهما٥٠، وهو جمع تكسير واحده سكران٥١. قال أبو حاتم : وهي لغة تميم٥٢. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة والأعمش «سُكْرَى » «وَمَا هُمْ بِسُكْرَى » بضم السين فيهما٥٣. فقال ابن جني : هي اسم مفرد كالبشرى بهذا أفتاني أبو علي٥٤. وقال أبو الفضل : فُعلى بضم الفاء صفة الواحد من الإناث، لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد٥٥.
وقال الزمخشري : وهو٥٦ غريب٥٧. قال شهاب الدين : ولا غرابة فإن فعلى بضم الفاء كثير مجيئها في أوصاف المؤنثة نحو الرُّبَّى٥٨ والحُبْلَى. وجوَّز أبو البقاء فيه أن يكون محذوفاً من سكارى٥٩ وكان من حق هذا القارئ أن يحرك الكاف بالفتح إبقاء لها على ما كانت عليه وقد رواها بعضهم كذلك عن الحسن٦٠. وقرئ «ويَرَى الناسُ » بالياء من تحت، ورفع «النَّاسُ٦١ ».
وقرأ أبو زرعة في رواية «سَكْرَى » بالفتح «ومَا هُمْ بِسُكْرَى » بالضم٦٢. وعن ابن جبير كذلك إلا أنه حذف الألف من الأول دون الثاني٦٣. وإثبات السكر وعدمه بمعنى الحقيقة والمجاز، أي :﴿ وَتَرَى الناس سكارى٦٤ على التشبيه ﴿ وَمَا هُم بسكارى٦٥ على التحقيق٦٦. قال الزمخشري : فإن قلت : لم قيل أولاً : ترون، ثم قيل : ترى على الإفراد ؟ قلت : لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعاً رائين لها، وهي معلقة أخيراً بكون الناس على حال السكر، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم٦٧.

فصل


«روي أن هاتين٦٨ الآيتين نزلتا بالليل٦٩ في غزوة بني المصطلق، والناس يسيرون، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعوا حوله، فقرأهما عليهم، فلم يُرَ أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج على٧٠ الدواب ولم يضربوا الخيام٧١ ولم يطبخوا القدور، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه السلام٧٢ :«أَتَدْرُونَ أَيَّ ذَلِكَ اليَوْم » ؟ قالوا : اللَّهُ وَرَسُولُه أَعْلَم. قال :«ذَلِكَ يَوْم يَقُولُ اللَّهُ تَعَالى لآدم : قُمْ فَابعَثْ بَعْثَ النَّار٧٣ مِنْ وَلَدِك، فَيَقُول آدَمُ : وَمَا بعث النَّارِ ؟ فيقُولُ اللَّهُ تعالى مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعمائةٍ وتسعة وتسعون إلى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلى الجَنَّة، فَعِنْدَ ذَلِك يَشيْبُ الصَّغِيْر، وتَضَعُ كُلُّ ذات حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَترى النَّاسَ سُكَارَى وَما هُم بِسُكارى وَلَكِن عَذاب اللَّهِ شَدَيد » قال : فيقولون : وأَيُّنا ذِلكَ الواحِدُ فقال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :«تِسْعمائةٍ وتِسْعَةٌ وتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ومنكُمْ وَاحِد «. ٧٤
وفي رواية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«يَسِّرُوا وسَدِّدُوا وقَارِبُوا فَإنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْن مَا كَانَتَا في قَوْم إِلاَ كَثُروا يَأْجُوْجَ وَمَأْجُوْجَ » ثم قال :«إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُوْنُوا رُبْعَ أَهْلِ الجَنَّة » فكبَّرُوا وحَمَدُوا اللَّهَ، ثم قال :«إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّة » فَكبَّرُوا وحَمَدُوا الله، ثم قال :«إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تُكُونُوا ثُلُثَي أهلِ الجَنَّة، إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ مائَة وعشرُونَ صَفّاً، ثَمَانُونَ مِنْ٧٥ أُمتَّي وما المُسلمُونَ في الكُفَّار إلا كالشَّامَةِ في جنب البعير، أو كالشَّعرة البيضاء في الثور الأسود » ثم قال :«ويَدْخُلُ مِنْ أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفاً الجَنَّة بِغَيْر حِسَاب » فقال عمر : سبعُونَ ألفاً. فقال٧٦ :«نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفاً » فقام عكاشة بن محصن وقال : يا رسول اللَّهِ ادعُ اللَّهَ أن يجعلني منهم. قال :«أَنْتَ مِنْهُم » فقام رجل من الأنصار وقال مثل قوله٧٧، فقال٧٨ :«سبقك بها عكاشة٧٩ ». فخاض الناس في السبعين ألفاً، فأخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالوا، فقال عليه السلام٨٠ :«هم الذين لا يكذبون ولا يزنون ولا يسرقون ولا٨١ ينظرون وعلى ربهم يتوكلون٨٢ ».

فصل


معنى الآية قال ابن عباس :«تَذْهَلُ » تشغل، وقيل : تتنسى٨٣ «كُلُّ مُرْضِعَةٍ » إذا شاهدت ذلك الهول وقد ألقمت المرضع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة «عَمَّا أَرْضَعَتْ » أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته، وهو الطفل، ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ أي تسقط ولدها التمام وغير التمام. قال الحسن : وهذا يدل على أن الزلزلة تكون في الدنيا ؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل٨٤. قال القفال : ويحتمل أن يقال : إن من ماتت حاملاً أو مرضعة بعثت حاملاً ومرضعة تضع حملها من الفزع، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحامل على جهة المثل كما تأولوا قوله :﴿ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيبا ﴾٨٥٨٦. [ المزمل : ١٧ ].
و ﴿ وَتَرَى الناس سكارى ﴾ من الخوف ﴿ وَمَا هُم بسكارى ﴾ من الشراب٨٧. وقيل : معناه كأنهم سكارى، ولكن ما أرهقهم٨٨ من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم٨٩.
فإن قيل : هل يحصل ذلك الخوف لكل أحد أو لأهل النار خاصة ؟
فالجواب : قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون، لقوله :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾٩٠ [ الأنبياء : ١٠٣ ] وقيل : بل يحصل للكل ؛ لأنه سبحانه لا اعتراض٩١ عليه في شيء من أفعاله. ٩٢

فصل


احتجت المعتزلة٩٣ بقوله ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ٩٤ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة. وبقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ٩٥ [ البقرة : ٢٠ ] فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود، وإذا بطل هذا٩٦ ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم، فالمعدوم شيء ( واحتجوا أيضاً بق
١ انظر الكشاف ٣/ ٢٤. البحر المحيط ٦/ ٣٤٩..
٢ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٤٩ – ٣٥٠..
٣ من قوله تعالى: ﴿فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا﴾ [المزمل: ١٧]..
٤ انظر التبيان ٢/ ٩٣١..
٥ المرجع السابق..
٦ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٧ المرجع السابق..
٨ قال قطرب: البحر المحيط ٦/ ٣٤٦..
٩ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٤٦.
١٠ هو ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة، جد جاهلي، بنوه بطن من بكر بن وائل، منهم الأمير ابن الهيثم خالد بن أحمد وكثيرون الأعلام ٣/ ٢٧..
١١ اختلف النحويون في دخول الهاء في المرضعة، فقال الفراء: المرضعة والمرضع: التي معها صبي ترضعه قال: ولو قيل في الأم: مرضع لأن الرضاع لا يكون إلا من الإناث كما قالوا امرأة حائض وطامث، كان وجها، قال: ولو قيل في التي معها صبي: مرضعة كان صوابا. معاني القرآن ٢/ ٢١٤ وقال الأخفش: أدخل الهاء في المرضعة لأنه أراد – والله أعلم – الفعل، ولو أراد الصفة فيما نرى لقال: مرضع – معاني القرآن ٢/ ٦٣٥. وقال أبو زيد: المرضعة التي ترضع وثديها في ولدها، وعليه قوله تعالى: ﴿تذهل كل مرضعة﴾. قال: وكل مرضعة كل أم. قال: والمرضع التي دنا لها أن ترضع ولم ترضع بعد. والمرضع التي معها الصبي الرضيع. وقال الخليل: امرأة مرضع ذات رضيع، كما يقال امرأة مطفل ذات طفل بلا هاء لأنك تصفها بفعل منها واقع أو لازم، فإذا وصفتها بفعل هي تفعله قلت: مفعلة كقوله تعالى: ﴿تذهل كل مرضعة عما أرضعت﴾ وصفها بالفعل فأدخل الهاء في نعتها، ولو وصفها بأن معها رضيعا، قال: كل مرضع اللسان (رضع)..
١٢ في ب: للصبي..
١٣ الكشاف ٣/ ٢٤..
١٤ ما بين القوسين سقط من ب..
١٥ في ب: والمرضعة وهو تحريف..
١٦ البيت من بحر الطويل قاله ابن جذل الطعان، وروي الشطر الثاني: بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا. والشاهد أن الشاعر أطلق المرضعة – بالتاء – على غير الأم، ولذلك يرد بهذا البيت على بعض الكوفيين الذين يخصون المرضعة بالأم والمرضع بالمستأجرة وقد تقدم..
١٧ لأنهم لم يحتاجوا في هذه الصفات الخاصة بالمؤنث إلى هاء تفصل بين فعل المذكر والمؤنث لأن المذكر لا حظ له في هذا الوصف. وهو قول الفراء، انظر المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/ ١٧٣، والبحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
١٨ في ب: والذي..
١٩ في ب: ما ذكر..
٢٠ في ب: يقال..
٢١ وهو قول الأخفش وغيره من البصريين المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/ ١٨٩..
٢٢ انظر التبيان ٢/ ٩٣١ البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٢٣ وهو قوله: "حملها"..
٢٤ انظر التبيان ٢/ ٩٣١ البحر المحيط ٦/ ٣٥٠. واستظهره أبو حيان..
٢٥ ما كان: سقط من ب..
٢٦ انظر اللسان (حمل)..
٢٧ انظر التبيان ٢/ ٣٩١ البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٢٨ المرجعان السابقان..
٢٩ في ب: به المعنى..
٣٠ في ب: أو وهو تحريف..
٣١ في ب: ترى..
٣٢ المختصر: (٩٤) البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٣٣ في النسختين: هما الأول والثاني. والصواب ما أثبته. انظر التبيان ٢/ ٩٣١، البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٣٤ عباس بن عبد الله بن معبد بن عباس بن عبد المطلب العباسي المدني، عن أخيه إبراهيم وعكرمة، وعنه ابن جريح وابن إسحاق وابن عيينة. خلاصة تذهيب الكمال ٢/ ٣٥..
٣٥ في ب: علم ما لم يسم..
٣٦ التبيان ٢/ ٩٣١، البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٣٧ حمزة والكسائي..
٣٨ السبعة (٤٣٤) الكشف ٢/ ١١٦، النشر ٢/ ٣٢٥، الإتحاف (٣١٣)..
٣٩ في ب: فعل وهو تحريف..
٤٠ في ب: قتل وهو تحريف..
٤١ من قوله تعالى: ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ [الأنفال: ٦٧]. انظر اللباب ٤/ ١٧٩..
٤٢ الكتاب ٣/ ٦٤٩ بتصرف. والنص بلفظه في البحر المحيط ٦/ ٣٥٠. ونص الكتاب وقد قالوا: رجل سكران وقوم سكرى، وذلك لأنهم جعلوه كالمرضى. وقالوا رجال روبى، جعلوه بمنزلة سكرى، والروبى: الذين قد استثقلوا نوما، فشبهوه بالكسران، وقالوا للذين قد أثخنهم السفر والوجع روبى أيضا والواحد: رائب..
٤٣ في ب: يعني..
٤٤ البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٤٥ البيتان من بحر البسيط قالهما أبو حية النميري أو عمرو بن أحمر الباهلي وروي (الثمل) مكان (السكر) في البيت الأول، وهو في المقرب ١١٠، والمغني ٢/ ٥٧٩، شذور الذهب ١٩٠، ٢٧٥، المقاصد النحوية ٢/ ١٧٣ وشرح التصريح ١/ ٢٠٤، ٢٠٦ الهمع ١/ ١٢٨، ١٣١، شرح شواهد المغني ٢/ ٩١١، وشرح الأشموني ١/ ٢٦٣، الخزانة ٩/ ٣٥٥، ٣٥٩، الدرر ١/ ١٠٢، ١٠٩، والبيت الثاني في سمط اللآلي ٧٨٥، الخصائص ١/ ٢٠٧، شذور الذهب ١٩٠، وشرح شواهد الشافية ٣٦٠، يثقلني: يتعبني ويعييني. الثمل: السكر.
والشاهد فيهما أن قوله السكر بمعنى السكران، وفيه شاهد آخر وهو أن قوله (ثوبي) بدل من اسم (جعل) لا فاعل (يثقلني) لأنه يشترط في فعل جملة الخبر لأفعال المقاربة أن يكون رافعا لضمير الاسم..

٤٦ في النسختين: والثاني. والتصويب من الدر المصون..
٤٧ الدر المصون ٥/ ٦٣..
٤٨ السبعة: (٤٣٤) الكشف ٢/ ١١٦، النشر ٢/ ٣٢٥، الاتحاف (٣١٣)..
٤٩ عند قوله تعالى: ﴿وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم﴾ [البقرة: ٨٥]. وذكر هناك: وقرأ الجماعة غير حمزة والكسائي "أسارى" وقرأ هو "أسارى" بفتح الهمزة، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه: أحدها: أنها جمع أسرى، كـ (كسلان، وكسلى) (وسكران وسكرى). والثاني: أنها جمع أسير. الثالث: أنها جمع أسير، وإنما ضموا الهمزة من أسارى وكان أصلها الفتح كنديم وندامى، والرابع: أنها جمع أسرى الذي هو جمع أسير فيكون جمع الجمع. وأما قراءة حمزة فواضحة لأن فعلى ينقاس في فعيل نحو جريح وجرحى، وأما "أسارى" بالفتح، فهي أصل "أسارى" بالضم عن بعضهم انظر اللباب ١/ ٢٠٢..
٥٠ المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٥١ فعالى من أمثلة جمع الكثرة، ومما يطرد فيه ما كان وصفا على فعلان نحو سكران وغضبان، وعلى فعلى نحو سكرى وغضبى. انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥٠. شرح الأشموني ٤/ ١٤٣ – ١٤٤..
٥٢ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٥٣ المحتسب ٢/ ٧٢، البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٥٤ المحتسب ٢/ ٧٤..
٥٥ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٥٦ في الأصل: هو..
٥٧ الكشاف: ٣/ ٢٥..
٥٨ الربّى على فعلى بالضم: الشاة التي وضعت حديثا وقيل: الرُّبى: الحاجة، العقدة المحكمة، النعمة والإحسان، اللسان (ربب)..
٥٩ التبيان ٢/ ٩٣٢..
٦٠ الدر المصون ٥/ ٦٣ – ٦٤..
٦١ انظر التبيان ٢/ ٩٣١..
٦٢ البحر المحيط ٦/ ٣٥٠..
٦٣ المرجع السابق..
٦٤ في الأصل: سكرى..
٦٥ في الأصل: سكرى..
٦٦ انظر الكشاف ٣/ ٢٤..
٦٧ المرجع السابق..
٦٨ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/ ٤..
٦٩ في ب: في الليل..
٧٠ في ب: عن..
٧١ في ب: القيام. وهو تحريف..
٧٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٧٣ في الأصل: الناس. وهو تحريف..
٧٤ أخرجه البخاري (تفسير) ٣/ ١٦٠..
٧٥ من: سقط من الأصل..
٧٦ في ب: قال..
٧٧ في ب: مثل قوله تعالى. وهو تحريف..
٧٨ فقال: سقط من ب..
٧٩ أخرجه البخاري (طب) ٤/ ١٩، مسلم (إيمان) ١/ ١٩٧ – ١٩٨، الترمذي (قيامة) ٤/ ٣٦١، الدارمي (رقاق) ٧/ ٣٢٨، أحمد ١/ ٢٧١، ٤٠١، ٢/ ٣٠٢، ٣٥١، ٤٠٠، ٤٠١، ٤٥٦، ٥٠٢، ٤/ ٤٣٦..
٨٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٨١ في ب: وعلى، وهو تحريف..
٨٢ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/ ٤..
٨٣ انظر البغوي ٥/ ٥٤٧..
٨٤ انظر البغوي ٥/ ٥٤٧..
٨٥ [المزمل: ١٧]..
٨٦ انظر الفخر الرازي: ٢٣/ ٥..
٨٧ انظر البغوي ٥/ ٥٤٨..
٨٨ في ب: ما رهقهم..
٨٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/ ٥..
٩٠ [الأنبياء: ١٠٣]..
٩١ في ب: لا إعراض. وهو تحريف..
٩٢ انظر الفخر الرازي: ٢٣/ ٦..
٩٣ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٤ – ٥..
٩٤ في ب: لزلزلة. وهو تحريف..
٩٥ [البقرة: ٢٠] وغير ذلك في مواطن كثيرة من القرآن الكريم..
٩٦ هذا: سقط من ب..
قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله﴾ الآية. في النظم وجهان:
الأول: أنه أخبر فيما تقدم عن أهل القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله، ثم
12
ميز في هذه الآية قوماً من الناس الذين ذكروا في الأولى وأخبر عن مجادلتهم.
الثاني: أنه تعالى بيَّن أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها، قال: ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
قوله: «مَنْ يُجَادِلُ» يجوز أن تكون «مَنْ» نكرة موصوفة، وأن تكون موصولة، و «فِي اللَّهِ» أي: في صفاته، و «بِغَيْرِ عِلْمٍ» مفعول أو حال من فاعل «يُجَادِلُ» وقرأ زيد بن عليّ «وَيَتْبَع» مخففاً.

فصل


قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث، كان كثير الجدل، وكان يقول: الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين، وكان ينكر البعث، وإحياء من صار تراباً، ويتبع في جداله في الله بغير علم كل شيطان مريد. والمَرِيد: المتمرد المستمر في الشر. يريد شياطين الإنس، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر.
وقيل: أراد إبليس وجنوده، قال الزجاج المريد والمارد: المرتفع الأملس. يقال: صخرة مرداء، أي: ملساء. ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز [حد] مثله.
قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ﴾ قرأ العامة «كُتِبَ» مبنياً للمفعول، وفتح «أَنّ» في الموضعين. وفي ذلك وجهان:
أحدهما: أن «أَنَّه» وما في حيزه في محل نصب لقيامه مقام الفاعل، فالهاء في «عَلَيْه»، وفي «أَنَّه» تعودان على «من» المتقدمة. و «مَنْ» الثانية يجوز أن تكون شرطية، والفاء جوابها، وأن تكون موصولة والفاء زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وفتحت «
13
أن» الثانية، لأنها وما في حيزها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فشأنه وحاله أنه يضله، أو يقدر «فَأَنَّه» مبتدأ والخبر محذوف أي: فله أنه يضله.
الثاني: قال الزمخشري: ومن فتح فلأن الأول فاعل كتب، والثاي عطف عليه.
قال أبو حيان: وهذا لا يجوز؛ لأنك إذا جعلت «فَأَنَّه» عطفاً على «أنه» بقيت «أنه» بلا استيفاء خبر، لأن «من تولاه» «من» فيه مبتدأة فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل خبراً ل «أَنَّه»، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها، إذ جعلت «فأنه» عطفاً على «أنه». قال شهاب الدين: وقد ذهب ابن عطية إلى مثل قول الزمخشري فإنه قال: و «أنه» في موضع رفع (على المفعول الذي لم يسم فاعله.
و «أنه» الثانية عطف على الأولى مؤكد وهذا رد واضح. وقرئ «كُتِبَ» مبنياً للفاعل، أي: كتب الله، ف (أن) وما في حيزها في محل نصب) على المفعول به، وباقي الآية على ما تقدم.
وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو «إنه، فإنه» بكسر الهمزتين.
وقال ابن عطية: وقرأ أبو عمرو «إنه، فإنه» بالكسر فيهما وهذا يوهم أنه مشهور
14
عنه، وليس كذلك. وفي تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه، ذكرها الزمخشري:
الأول: أن يكون على حكاية المكتوب كما هو، كأنه قيل: كتب عليه هذا اللفظ، كما تقول: كتب عليه إن الله هو الغني الحميد.
الثاني: أن يكون على إضمار قيل.
الثالث: أن «كتب» فيه معنى قيل.
قال أبو حيان: أمّا تقديره قيل يعني فيكون «عليه» في موضع مفعول ما لم يسم فاعله، و «أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّه» الجملة مفعول لم يسم لقيل المضمر، وهذا ليس مذهب البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلاً فلا تكون مفعول ما لم يسم فاعله. وكان أبو حيان قد اختار ما بدأ به الزمخشري أولاً، وفيه ما فَرَّ منه وهو أنه أسند الفعل إلى الجملة فاللازم مشترك، وقد تقدم تقرير مثل هذا في أول البقرة. ثم قال: وأما الثاني يعني أنه ضمن «كُتِبَ» معنى القول -، فليس مذهب البصريين، لأنه لا تكسر «أن» عندهم إلا بعد القول الصريح، لا ما هو بمعناه. والضميران في «عَلَيه» و «أَنَّه» عائدان على «مَنْ» الأولى كما تقدم، وكذلك الضمائر في «تَوَلاَّه» و «فَأَنَّه» والمرفوع في «يضله ويهديه» لأن من الأولى هو المحدث عنه والضمير المرفوع في «تولاه» والمنصوب في «يضله ويهديه» عائد على «من» الثانية.
وقيل: الضمير في «عليه» ل «كُلَّ شَيْطَانٍ»، والضمير في «فَأَنَّه» للشأن.
15
﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ﴾ قرأ العامة «كُتِبَ» مبنياً للمفعول، وفتح «أَنّ» في الموضعين١٢.
وفي ذلك وجهان :
أحدهما : أن١ «أَنَّه » وما في حيزه في محل نصب لقيامه مقام الفاعل٢، فالهاء في «عَلَيْه »، وفي «أَنَّه » تعودان على «من » المتقدمة٣. و «مَنْ » الثانية يجوز أن تكون شرطية، والفاء جوابها، وأن تكون موصولة والفاء زائدة في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط٤، وفتحت «أن » الثانية، لأنها وما في حيزها في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فشأنه وحاله أنه يضله، أو يقدر «فَأَنَّه » مبتدأ والخبر محذوف أي : فله أنه يضله٥.
الثاني : قال الزمخشري : ومن فتح٦ فلأن الأول فاعل كتب، والثاني عطف عليه٧.
قال أبو حيان : وهذا لا يجوز ؛ لأنك إذا جعلت «فَأَنَّه » عطفاً على «أنه » بقيت «أنه » بلا استيفاء خبر، لأن «من تولاه » «من » فيه مبتدأة فإن قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل٨ خبراً ل «أَنَّه »، وإن جعلتها شرطية فلا جواب لها، إذ جعلت «فأنه » عطفاً على «أنه٩ ». قال شهاب الدين : وقد ذهب ابن عطية إلى مثل قول الزمخشري فإنه قال : و «أنه » في موضع رفع ( على المفعول الذي لم يسم فاعله.
و «أنه » الثانية عطف على الأولى مؤكد١٠ وهذا رد واضح١١. وقرئ «كُتِبَ » مبنياً للفاعل، أي : كتب الله١٢، ف ( أن ) وما في حيزها في محل نصب١٣ ) على المفعول به، وباقي الآية على ما تقدم.
وقرأ الأعمش والجعفي١٤ عن أبي عمرو «إنه، فإنه »١٥ بكسر الهمزتين١٦.
وقال ابن عطية : وقرأ أبو عمرو «إنه، فإنه » بالكسر فيهما١٧ وهذا يوهم أنه مشهور عنه، وليس كذلك١٨. وفي تخريج هذه القراءة ثلاثة أوجه، ذكرها١٩ الزمخشري :
الأول : أن يكون على حكاية المكتوب كما هو، كأنه قيل : كتب عليه هذا اللفظ، كما تقول : كتب عليه إن الله هو الغني الحميد.
الثاني : أن يكون على إضمار قيل.
الثالث : أن «كتب » فيه معنى قيل٢٠.
قال أبو حيان : أمّا تقدير قيل يعني فيكون «عليه » في موضع مفعول ما لم يسم فاعله، و «أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّه » الجملة مفعول لم يسم لقيل المضمر، وهذا ليس مذهب البصريين فإن الجملة عندهم لا تكون فاعلاً فلا تكون مفعول ما لم يسم فاعله٢١. وكان أبو حيان قد اختار ما بدأ به الزمخشري أولاً٢٢، وفيه ما فَرَّ منه وهو أنه أسند الفعل إلى الجملة فاللازم مشترك، وقد تقدم تقرير مثل هذا في أول البقرة٢٣. ثم قال : وأما الثاني يعني أنه ضمن «كُتِبَ » معنى القول-، فليس مذهب البصريين، لأنه لا تكسر «أن » عندهم إلا بعد القول الصريح، لا ما هو بمعناه٢٤. والضميران في «عَلَيه » و «أَنَّه » عائدان على «مَنْ » الأولى كما تقدم، وكذلك الضمائر في «تَوَلاَّه » و «فَأَنَّه » والمرفوع في «يضله ويهديه » لأن من الأولى هو٢٥ المحدث عنه٢٦ والضمير المرفوع في «تولاه » والمنصوب في «يضله ويهديه » عائد على «من » الثانية٢٧.
وقيل : الضمير في «عليه » ل «كُلَّ شَيْطَانٍ٢٨ »، والضمير في «فَأَنَّه » للشأن٢٩.
وقال ابن عطية : الذي يظهر لي أن الضمير الأول في «أنه » يعود على «كُلَّ شَيْطَانٍ » وفي «فأنه » يعود على «من » الذي هو المتولى. ٣٠

فصل٣١


قيل : معنى «كُتِبَ عَلَيْه » مثل، أي : كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه لظهور ذلك في حاله. وقيل : كتب٣٢ عليه في أم الكتاب. واعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون راجعاً إلى «مَنْ يُجَادِلُ »، وأن يرجع إلى الشياطين. فإن رجع إلى «مَنْ يُجَادِلُ » فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال : كتب : من يتبع الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار، وذلك زجر منه، فكأنه قال : كتب على من هذا حاله أن يصير أهلاً لهذا الوعد. وإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يتولاه فهو ضال. وعلى هذا الوجه أيضاً يكون زجراً عن اتباعه.
١ أن: يسقط من ب..
٢ انظر البيان ٢/ ١٦٨، التبيان ٢/ ٩٣٢، البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٣ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٤ انظر البيان ٢/ ١٦٨، التبيان ٢/ ٩٣٢، البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٥ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/ ٩١ – ٩٢، البيان ٢/ ١٦٨، التبيان ٢/ ٩٣٢، البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٦ في ب: يفتح وهو تحريف..
٧ الكشاف ٣/ ٢٥، وقد سبقه الزجاج حيث ذكر هذا الوجه في معاني القرآن وإعرابه ٣/ ٤١١، فإنه قال (فأنه يضله) عطف عليه، وموضعه رفع أيضا) ورد عليه مكي في مشكل إعراب القرآن ٢/ ٩١، بأنه لا يجوز العطف على "أن" الأولى إلا بعد تمامها، لأن ما بعدها من صلتها، إذ أن "من" في قوله "من تولاه" شرط والفاء جواب الشرط والشرط وجوابه في هذه الآية هما خبر "أن" الأولى..
٨ في ب: يشتغل..
٩ البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
١٠ تفسير ابن عطية ١١/ ٢٢٧ وقد سبقه الزجاج فإنه ذكر في معاني القرآن وإعرابه (وحقيقة "أن" الثانية أنها مكررة مع الأولى على جهة التوكيد، لأن المعنى كتب عليه أنه من تولاه أضله) ٣/ ٤١١، وقول الزجاج هذا جاء بعد قوله: ("فأنه يضله" عطف عليه). ورد عليه مكي هذا الوجه بقوله: (كيف تكون للتأكيد والمؤكد لم يتم؟ وإنما يصلح التأكيد بعد تمام المؤكد، وتمام "أن" الأولى عند قوله: "السعير"). مشكل إعراب القرآن ٢/ ٩١. وذكر هذا الوجه أيضا ابن الأنباري وضعفه من وجهين الأول: كما ذكر مكي بأن التوكيد لا يكون إلا بعد تمام الموصول بصلته كالعطف. والثاني: أن الفاء قد دخلت بين "أن" الأولى والثانية، والفاء لا تدخل بين المؤكد والمؤكد، وقد وجد هنا، فينبغي ألا يكون توكيدا. انظر البيان ٢/ ١٦٨ – ١٦٩..
١١ الدر المصون ٥/ ٦٤..
١٢ انظر التبيان ٢/ ٩٣٢ البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
١٣ ما بين القوسين سقط من ب..
١٤ تقدم..
١٥ في ب: وإنه، وهو تحريف..
١٦ المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
١٧ تفسير ابن عطية : ١/ ٢٢٧..
١٨ أي: أنه ليس مشهورا عن أبي عمرو، والظاهر أن ذلك من إسناد "كتب" إلى الجملة إسنادا لفظيا، أي: كتب عليه هذا الكلام، كما تقول: كتب: إن الله يأمر بالعدل. البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
١٩ في الأصل: ذكر. وهو تحريف..
٢٠ الكشاف: ٣/ ٢٥، ولم يذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة غير الوجه الثاني قال: (وقرئ بالكسر فيها حملا على معنى قيل له) التبيان ٢/ ٩٣٢..
٢١ البحر المحيط ٦/ ٣٥١. بتصرف يسير. وقد سبق أن ذكرت الاختلاف في الفاعل ونائبه هل يكونان جملة أم لا؟.
٢٢ حيث قال: (والظاهر أن ذلك من إسناد "كتب" إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتب إن الله يأمر بالعدل) البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٢٣ عند قوله تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} الآية (١١)، انظر اللباب ١/ ٦٢ – ٦٣..
٢٤ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥١ بتصرف يسير..
٢٥ في ب: وهو..
٢٦ انظر البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٢٧ المرجع السابق..
٢٨ انظر معاني القرآن للفراء ٢/ ٢١٥، البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٢٩ انظر البيان ٢/ ١٦٨، البحر المحيط ٦/ ٣٥١..
٣٠ تفسير ابن عطية ١٠/ ٢٢٧..
٣١ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/ ٦ – ٧ بتصرف يسير..
٣٢ كتب: سقط من الأصل..
وقال ابن عطية: الذي يظهر لي أن الضمير الأول في «أنه» يعود على «كُلَّ شَيْطَانٍ» وفي «فأنه» يعود على «من» الذي هو المتولى.

فصل


قيل: معنى «كُتِبَ عَلَيْه» مثل، أي: كأنما كتب إضلال من يتولاه عليه لظهور ذلك في حاله. وقيل: كتب عليه في أم الكتاب. واعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون راجعاً إلى «مَنْ يُجَادِلُ»، وأن يرجع إلى الشياطين. فإن رجع إلى «مَنْ يُجَادِلُ» فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد فكأنه قال: كتب: من يتبع الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار، وذلك زجر منه، فكأنه قال: كتب على من هذا حاله أن يصير أهلاً لهذا الوعد. وإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يتولاه فهو ضال. وعلى هذا الوجه أيضاً يكون زجراً عن اتباعه.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث﴾
الآية. لما حكى عنهم الجدال بغير علم في إثبات الحشر والنشر، وذمَّهم عليه، ألزمهم الحجة، وأورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين:
أحدهما: الاستدلال بخلقة الحيوان أولاً، ثم بخلقة النبات ثانياً، وهذا موافق لما أجمله في قوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩]. فكأنه تعالى قال: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٥١] أي شك من البعث ففكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولاً قادر على خلقكم ثانياً.
16
قوله: «مِنَ البَعْثِ». يجوز أن يتعلق ب «رَيْبٍ» ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «ريب». وقرأ الحسن «البَعَثِ» بفتح العين، وهي لغة كالطَّرَدِ والحَلَبِ في الطَّرْد والحَلْب بالسكون. قال أبو حيان: والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف فيما وسطه حرف حلق كالنَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والبصريون لا يقيمونه، وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان. وهذا يوهم ظاهره أن الأصل: البعث - بالفتح - وإنما خفف، وليس الأمر كذلك وإنما محل النزاع إذا سمع الحلقي مفتوح العين هل يجوز تسكينه أم لا؟ لا أنه كلما جاء ساكن العين من ألحقها يدعي أن أصلها بالفتح كما هو ظاهر عبارته.
قوله: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ أي: خلقنا أصلكم وهو آدم من تراب نظيره قوله: ﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ﴾ [آل عمران: ٥٩] وقوله: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُم». ويحتمل أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء فصحّ قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾.

فصل


قال النووي في التهذيب: التراب معروف؛ والمشهور الصحيح الذي قاله الفراء والمحققون أنه جنس لا يثنى ولا يجمع. ونقل أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح
17
عن المبرد أنه قال: هو جمع واحدته ترابة، والنسبة إلى التراب ترابي. وذكر النحاس في كتابه صناعة الكتاب: في التراب خمس عشرة لغة فقال يقال: تراب وتَوْرب على وزن جعفر، وتَوْرَاب، وتَيْرب - بفتح أولهما - والإِثلب والأَثلَب الأول بكسر الهمزة واللام، والثاني بفتحهما، والثاء مثلثة فيهما ومنه قولهم: بفيه الأثلب، وهو الكَثْكَث - بفتح الكافين وبالثاء المثلثة المكررة، والكثكث - بكسر الكافين - والدِّقعِم - بكسر الدال والعين - والدَّقعاء بفتح الدال والمد، والرَّغام - بفتح الراء والغين المعجمة - ومنه: أرغم الله أنفه، أي: ألصقه بالرغام وهو البرا مقصور مفتوح الباء الموحدة كالعصا، والكِلْخِم بكسر الكاف والخاء المعجمة وإسكان اللام بينهما، والكِلْخ بكسر الكاف واللام وإسكان الميم بينهما والخاء أيضاً معجمة، والعِثْير بكسر العين المهملة وإسكان الثاء المثلثة وبعدها مثناة من تحت مفتوحة.
قوله: ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ والنطفة اسم للماء القليل، أي ماء كان، وهو هنا ماء الفحل، وجمعها نطاف، فكأنه سبحانه يقول: أنا الذي قلبت ذاك التراب اليابس ماء لطيفاً مع أنه لا مناسبة بينهما. والمراد من الخلق من النطفة الذرية.
قوله: ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ والعلقة قطعة الدم الجامدة، وجمعها عَلَق ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة. وعن بعضهم وقد سئل عن أصعب الأشياء فقال: وقع الزلق على العلق، أي: على دم القتلى في المعركة.
قوله: ﴿ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾ المُضْغَة: القطعة من اللحم قدر ما يمضغ نحو الغُرْفَة، والأكْلَة بمعنى المغروفة والمأكولة.
18
قوله: ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ العامة على الجر في «مُخَلَّقةٍ» وفي «غَيْر» على النعت. وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما على الحال من النكرة، وهو قليل جداً، وإن كان سيبويه قاسه.
والمُخَلَّقَة: الملساء التي لا عيب فيها من قولهم: صخرة خلقاء، أي: ملساء وخَلَّقْتُ السواك: سوَّيْتُه ومَلَّسْتُه. وقيل: التضعيف في «مُخَلَّقَةَ» دلالة على تكثير الخلق؛ لأن الإنسان ذو أعضاء متباينة وخلق متفاوتة. قاله الشعبي وقتادة وأبو العالية وقال ابن عباس وقتادة: «مُخَلَّقة» تامة الخلق، و «غير مخلقة» أي ناقصة الخلق. وأبو مجاهد: مصورة وغير مصورة، وهو السقط. وقيل: المُخَلَّقَة من تمت فيه أحوال الخلق، وغير المخلقة من لم يتم فيه أحوال الخلق قاله قتادة والضحاك. وقيل: المُخَلَّقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته، وغير المخلقة السقط. وروى علقمة عن ابن مسعود قال: «إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه، وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال: غير مخلقة قذفها في الرحم دماً ولم يكن نسمة، وإن قال: مخلقة، قال الملك: أي رب أذكر أم أنثى أشقي أم سعيد، ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته». قوله: «لِنُبَيِّنَ لَكُم» أي: لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم لتسدلّوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل: لنبين لكم أن تغيير الصفة والخلقة هو اختيار
19
من الفاعل المختار، ولولاه لما صار بعضه مخلقاً وبعضه غير مخلق وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة.
قوله: ﴿وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ﴾ على رفع «وَنُقِرُّ»، لأنه مستأنف، وليس علة لما قبله فينصب نسقاً على ما تقدم.
وقرأ يعقوب، وعاصم في رواية بنصبه.
قال أبو البقاء: على أن يكون معطوفاً في اللفظ والمعنى مختلف، لأن اللام في «لِنُبَيِّنَ» للتعليل واللام المقدرة مع «نُقِرُّ» للصيرورة. وفيه نظر، لأن قوله: معطوفاً في اللفظ. يدفعه قوله: واللام المقدرة. فإن تقدير اللام يقتضي النصب بإضمار (إن) بعدها لا بالعطف على ما قبله. وعن عاصم أيضاً: «ثُمَّ نُخْرِجَكُمْ» بنصب الجيم. وقرأ ابن أبي عبلة «لِيُبَيِّن» و «يُقِرُّ» بالياء من تحت فيهما، والفاعل هو الله تعالى كما في قراءة النون.
وقرأ يعقوب في رواية «ونَقُرُّ» بفتح النون وضم القاف ورفع الراء من قرَّ الماء يقرُّه أي: صبَّه. وقرأ أبو زيد النحوي «ويَقر» بفتح الياء من تحت وكسر القاف ونصب الراء أي: ويقر الله وهو من قَرَّ الماء إذا صبه. وفي الكامل لابن جبارة «لنبين، ونقر، ثم نخرجكم» بالنصب فيهن يعني بالنون في الجميع، المفضل بالياء فيهما مع النصب أبو حاتم، وبالياء والرفع عن عمر بن شبة. انتهى.
وقال الزمخشري: والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى: يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره. ثم قال: والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل ومعناه: جعلناكم مدرجين هذا التدريج لغرضين:
20
أحدهما: أن نبين قدرتنا.
والثاني: أن نقر في الأرحام من نقر حتى يولدوا وينشئوا ويبغلوا حد التكليف فأكلفهم، ويعضد هذه القراءة قوله: ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾. قال شهاب الدين: تسميته مثل هذه الأفعال المسندة إلى الله تعالى غرضاً لا يجوز. وقرأ ابن وثاب «نِشَاء» بكسر النون وهو كسر حرف المضارعة كما تقدم في قوله: «نسْتَعِينُ».
والمراد بالأجل المسمى يعني نقر في الأرحام ما نشاء فلا نمحه ولا نسقطه إلى أجل مسمى وهو حد الولادة، وهو آخر ستة أشهر أو تسعة أشهر أو أربع سنين كما شاء وقدر تام الخلق والمدة.
قوله: ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ أي: تخرجون من بطون أمهاتكم، «طِفْلاً» حال من مفعول «نُخْرِجُكُم»، وإنما وحِّدَ، لأنه في الأصل مصدر كالرضا والعدل، فيلزم الإفراد والتذكير، قاله المبرد، وإما لأنه مراد به الجنس، ولأنه العرب تذكر الجمع باسم الواحد قال تعالى: ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤] وإما لأن المعنى نخرج كل واحد منكم، نحو: القوم يشبعهم رغيف، أي: كل واحد منهم. وقد يطابق به ما يراد به فيقال: طفلان وأطفال، وفي الحديث: «سُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ المُشْرِكِينَ». والطفل يطلق على الولد من حين الانفصال إلى البلوغ. وأما الطفل - بالفتح - فهو الناعم، والمرأة طفلة، قال:
21
٣٧٤٦ - وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطَفْلَةٍ ميَّالةٍ بَلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا
وقال:
٣٧٤٧ - أَحْبَبْتُ فِي الطَّفْلَةِ القُبَلاَ لاَ كَثِيراً يُشْبِه الحولا
أما الطَّفَل: بفتح الفاء والطاء - فوقت (ما بعد العصر، من قولهم: طفلت الشمس: إذا مالت للغروب، وأطفلت المرأة أي صارت ذات طفل).
قوله: ﴿ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ﴾ الأَشُدُّ: كمال القوة والعقل، وهو من ألفاظ الجموع التي لا واحد لها، فبنيت لذلك على لفظ الجمع، والمعنى: أنه سهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً كثيراً إلى بلوغ أشدكم، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد، لأن بين الحالتين وسائط.
قوله: ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾ العامة على ضم الياء من «يُتَوَفَّى» وقرأت فرقة «يَتَوفَّى» بفتح الياء، وفيه تخريجان:
أحدهما: أن الفاعل ضمير الباري تعالى، أي: يتوفاه الله تعالى. كذا قدره الزمخشري.
الثاني: أن الفاعل ضمير «من» أي: يتوفى أجله وهذه القراءة كالتي في البقرة ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٤] أي: مدتهم. ومعنى الآية: ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾ على قوته وكماله، ﴿وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾ وهو الهرم والخوف فيصير كما كان في أوان الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم. وروي عن أبي عمرو ونافع
22
أنهما قرآ «العُمْر» بسكون الميم وهو تخفيف قياسي نحو عُنْق في عُنُق.
قوله: «لِكَيْلاَ يَعْلَم» هذا الجار يتعلق ب «يرد» وتقدم نظيره في النحل والمعنى يبلغ من السن ما يغير عقله فلا يعقل شيئاً. فإن قيل: إنه يعلم بعض الأشياء كالطفل فالجواب: المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئاً. لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي مبالغة. ومن الناس من قال هذه الحال لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ﴾ [التين: ٥ - ٦] وهو ضعيف، لأن معنى قوله «ثُمَّ رَدَدْنَاهُ» دلالة على الذم، فالمراد ما يجري مجرى العقوبة، ولذلك قال ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التين: ٦] وهذا تمامِ الاستدلال بخلقة الحيوان. وأما الاستدلال بخلقة النبات فهو قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾ فنصب «هَامِدَةً» على الحال، لأن الرؤية بصرية. والهمود: الخشوع والسكون، وهمدت الأرض: يبست ودرست، وهمد الثوب: بلي، قال الأعشى:
٣٧٤٨ - فَالَتْ قُتَيْلَة مَا لجِسْمِكَ شَاحِباً وَأَرَى ثِيَابَكَ بَاليَاتٍ هُمَّدَا
والاهتزاز التحرك، وتجوز به هنا عن إنبات الأرض نباتها بالماء. والجمهور على «رَبَتْ» أي: زادت من ربا يربو. وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وأبو
23
عمرو في رواية «وربأت» بالهمز أي ارتفعت. يقال: ربأ بنفسه عن كذا، أي: ارتفع عنه، ومنه الربيئة، وهو من يطلع على موضع عال لينظر للقوم ما يأتيهم، وهو عين القوم، ويقال له: ربيء أيضاً قال الشاعر:
٣٧٤٩ - بَعَثْنَا رَبيْئاً قَبْلَ ذَلِكَ مُخْملا كَذِئْبِ الغَضَا يَمْشِي الضّراءَ وَيَتَّقِي
قوله: ﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنه صفة للمفعول المحذوف، تقديره: وأنبتت ألواناً أو أزواجاً من كل زوج.
والثاني: أن (من) زائدة، أي أنبتت كل زوج، وهذا ماش عند الكوفيين والأخفش والبهيج: الحسن الذي يسر ناظره، وقد بَهُج بالضم بهاجة وبَهْجَةً أي حسن وأبهجني كذا أي: سرني بحسنه.

فصل


المعنى: ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾ يابسة لا نبات فيها، ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء﴾ المطر «اهْتَزَّت» تحركت بالنبات، والاهتزاز الحركة على سرور، ورَبَتْ أي: ارتفعت وزادت، وذلك أن الأرض ترتفع وتنتفخ، فذلك تحركها. وقيل: فيه تقديم وتأخير معناه: ربت واهتزت. قال المبرد: أراد اهتزت وربا نباتها فحذف المضاف. والاهتزاز في النبات أظهر يقال: اهتز النبات، أي: طال، وإنما أنث لذكر الأرض.
﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ وهذا مجاز لأن الأرض لا تنبت وإنما المنبت هو الله تعالى، لكنه يضاف إليها توسعاً. ومعنى من كل نوع من أنواع النبات والبهجة: حسن
24
الشيء ونضارته، ثم إنه تعالى لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب وذلك قوله تعالى ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ الآية.
«ذلك» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ والخبر الجار بعده، والمشار إليه ما تقدم من خلق بني آدم وتطويرهم، والتقدير: ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطويرهم حاصل بأن الله هو الحق وأنه إلى آخره.
الثاني: أن «ذلك» خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر ذلك.
الثالث: أن «ذلك» منصوب بفعل مقدر، أي: فعلنا ذلك بسبب أن الله تعالى هو الحق فالباء على الأول مرفوعة المحل، وعلى الثاني والثالث منصوبة.
قوله: ﴿وأن الساعة آتية﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على المجرور بالباء، أي: ذلك بأن الساعة.
والثاني: أنه ليس معطوفاً عليه، ولا داخلاً في حيز السببية، وإنما هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: والأمر أن الساعة آتية و ﴿لاَّ رَيْبَ فِيهَا﴾ يحتمل أن تكون هذه الجملة خبراً ثانياً، وأن تكون حالاً.

فصل


المعنى: ذلك لتعلموا أن الله هو الحق، والحق هو الموجود الثابت فكأنه تعالى بَيَّن أن هذه الوجوه المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع. ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى﴾ وهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء، فكيف يستبعد منه إعادة الأموات. ﴿وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي: وأن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يجب اتصافه بهذه القدرة لذاته، ومن كان كذلك كان قادراً على الإعادة. ﴿وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور﴾ والمعنى: أنه تعالى
25
لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة، وأنه سبحانه قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه، فلا بد من القطع بوقوعه.
26
«ذلك١ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ والخبر الجار بعده٢، والمشار إليه ما تقدم من خلق بني آدم وتطويرهم، والتقدير : ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطويرهم حاصل بأن الله هو الحق وأنه إلى آخره.
الثاني : أن «ذلك » خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك ٣.
الثالث : أن «ذلك » منصوب بفعل مقدر، أي : فعلنا ذلك بسبب أن الله تعالى هو الحق٤ فالباء على الأول مرفوعة٥ المحل، وعلى الثاني والثالث منصوبة.
١ في ب: ذكر وهو تحريف..
٢ انظر التبيان ٢/٩٣٣، البحر المحيط ٦/٣٥٣..
٣ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤١٣، مشكل إعراب القرآن ٢/٩٢، البيان ٢/١٦٩، التبيان ٢/٩٣٤..
٤ المراجع السابقة والبحر المحيط ٦/٣٥٣..
٥ في الأصل: مرفوع..
قوله :﴿ وأن الساعة آتية ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على المجرور بالباء، أي : ذلك بأن الساعة.
والثاني : أنه ليس معطوفاً عليه، ولا داخلاً في حيز السببية، وإنما هو خبر١ والمبتدأ محذوف لفهم المعنى، والتقدير٢ : والأمر أن الساعة آتية٣ و٤ ﴿ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ﴾ يحتمل أن تكون هذه الجملة خبراً ثانياً، وأن تكون حالاً.

فصل٥


المعنى : ذلك لتعلموا أن الله هو الحق، والحق هو الموجود الثابت فكأنه تعالى بَيَّن أن هذه الوجوه المتنافية وتواردها على الأجسام يدل٦ على وجود الصانع. ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى ﴾ وهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء، فكيف يستبعد منه إعادة الأموات. ﴿ وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي : وأن٧ الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يجب اتصافه بهذه٨ القدرة لذاته، ومن كان كذلك كان قادراً على الإعادة. ﴿ وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ﴾ والمعنى : أنه تعالى لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة، وأنه سبحانه قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه، فلا بد من القطع بوقوعه.
١ في ب: الخبر..
٢ في الأصل: والتقدير أن ذلك..
٣ آتية: سقط من ب..
٤ و: سقط من ب..
٥ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٠ -١١..
٦ يدل: سقط من ب..
٧ في الأصل: أن..
٨ هذه: سقط من ب..
قوله تعالى: ﴿ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الآية، جعل ابن عطية هذه الواو للحال، فقال: وكأنه يقول هذه الأمثال في غاية الوضوح، ومن الناس مع ذلك من يجادل (فكان الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف.
قال أبو حيان: ولا يتخيل أن الواو في ﴿ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ﴾ ) واو حال، وعلى تقدير الجملة التي قدرها قبله لو كان مصرحاً بها فلا تتقدر ب (إذ)، فلا تكون للحال، وإنما هي للعطف. قال شهاب الدين: ومنعه من تقديرها ب (إذ) فيه نظر، إذ لو قدر لم يلزم منه محذور.
قوله: «بِغَيْرِ عِلْم» يجوز أن يتعلق ب «يُجَادِل»، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «يُجَادِلُ» أي: يجادل ملتبساً بغير علم، أي: جاهلاً.
قوله: «ثَانِيَ عِطْفِه» : حال من فاعل «يُجَادِل» أي: مُعْرِضاً، وهي إضافة لفظية نحو «مُمْطِرُنَا». والعامة على كسر العين، وهو الجانب كني به عن التكبر.
26
والحسن بفتح العين، وهو مصدر بمعنى التعطف، وصفه بالقسوة.
قوله: «لِيُضلَّ» متعلق إما ب «يُجَادِلُ»، وإما ب «ثاني عِطْفِه» وقرأ العامة بضم الياء في «يُضِلّ» والمفعول محذوف أي: ليضل غيره. وقرأ مجاهد وأبو عمرو في رواية بفتحها، أي: ليضل هو في نفسه.
قوله: ﴿لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً مقارنة أي: مستحقاً ذلك، وأن تكون حالاً مقدرة، وأن تكون مستأنفة. وقرأ زيد بن علي «وأُذِيْقُه» بهمزة المتكلم، و «عَذَابَ الحَرِيْق» يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته إذ الأصل العذاب الحريق أي: المحرق كالسميع بمنع المسمع.

فصل


قال أبو مسلم: الآية الأولى واردة في الأتباع المقلدين، وهذه الآية ورادة في المتبعة عن المقلدين، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعاً والآخر متبوع، وبين ذلك قوله: ﴿وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة. فإن قيل: كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلاً؟ قلنا: يجادل تصويباً لتقليده، وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد. وقيل: إن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحارث، وهو قول ابن عباس وفائدة التكرير المبالغة في الذم، وأيضاً: قد ذكر
27
في الآية الأولى اتباعه تقليداً بغير حجة، (وفي الثانية مجادلته في الدين، وإضلاله غيره بغير حجة).
والأول أقرب لما تقدم. ودلت الآية على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب حق حسن.
والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر؛ لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي. والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية، ولا نظريَّة ولا سمعيَّة فهو كقوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الحج: ٧١] ثم قال ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء قال مجاهد وقتادة: لاوي عنقه. وقال عطية وابن زيد: معرضاً عما يدعى إليه تكبراً. والعطف الجانب وعطفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي: يلويه ويمليه عند الإعراض عن الشيء، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً﴾ [لقمان: ٧] وقوله ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ﴾ [المنافقون: ٥]. ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ فمن ضم الياء فمعناه: ليضل غيره عن طريق الحق، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير. ومن فتح الياء فالمعنى: ليضل هو عن دين الله. ﴿لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ عذاب وهون، وهو القتل ببدر، فقتل النضر، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبراً. ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق﴾ ويقال له: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ والكلام في قوله: ﴿ذلك بِأَنَّ الله﴾ [الحج: ٦] كالكلام في قوله: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ﴾ وكذا قوله «وأنَّ اللَّهَ» يجوز عطفه على السبب، ويجوز أن يكون التقدير والأمر أن الله، فيكون منقطعاً عما قبله.
قوله: «ظَلاَّم» مثال مبالغة. فإن قيل: إذا قلت: إن زيداً ليس بظلام لا يلزم منه نفي أصل الظلم، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
فالجواب: أن المبالغة إنما جيء بها لتكثير محلها فإن العبيد جمع، وأحسن
28
هذا أن فَعَّالاً هنا للنسب أي: بذي ظلم لا للمبالغة.

فصل


قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على مطالب:
الأول: دلت على أن العبد إنما وقع في ذلك العذاب بسبب عمله فلو كان فعله خلقاً لله تعالى لكان حين خلقه استحال منه أن لا يتصف به فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله، فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك خلاف النص.
الثاني: أن قوله: ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ يدل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالماً بفعل ذلك العذاب، وهذا يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالماً، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال لكفر آبائهم.
الثالث: أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادراً عليه خلاف ما يقوله النَّظَّام، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.
الرابع: أنه لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم، لأن عندهم صحة نبوة النبي - عليه السلام - موقوفة على نفي الظلم، فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور. وأجاب ابن الخطيب عن الكلّ بالمعارضة بالعلم والداعي.
29
قوله :«ثَانِيَ عِطْفِه » : حال من فاعل «يُجَادِل » أي : مُعْرِضاً، وهي إضافة لفظية١ نحو «مُمْطِرُنَا٢ ». والعامة على كسر العين، وهو الجانب٣ كني به عن التكبر.
والحسن بفتح العين٤، وهو مصدر بمعنى التعطف، وصفه بالقسوة.
قوله :«لِيُضلَّ » متعلق إما ب «يُجَادِلُ »، وإما ب «ثاني عِطْفِه »٥ وقرأ العامة بضم الياء في «يُضِلّ » والمفعول محذوف أي : ليضل غيره٦. وقرأ مجاهد وأبو عمرو في رواية بفتحها٧، أي : ليضل هو في نفسه.
قوله :﴿ لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ ﴾ هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً٨ مقارنة٩ أي : مستحقاً ذلك، وأن تكون حالاً مقدرة١٠، وأن تكون مستأنفة١١. وقرأ زيد بن علي «وأُذِيْقُه » بهمزة المتكلم١٢، و «عَذَابَ الحَرِيْق » يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته إذ١٣ الأصل العذاب الحريق أي : المحرق كالسميع بمنع المسمع. ١٤

فصل


قال أبو مسلم١٥ : الآية١٦ الأولى١٧ واردة في الأتباع المقلدين، وهذه الآية واردة في المتبعة عن المقلدين، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعاً والآخر متبوع، وبين ذلك قوله :﴿ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد وإنما يقال فيمن يخاصم١٨ بناء على شبهة. فإن قيل : كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلاً ؟ قلنا : يجادل تصويباً لتقليده، وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد١٩. وقيل : إن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحارث، وهو قول ابن عباس وفائدة التكرير المبالغة في٢٠ الذم، وأيضاً : قد ذكر٢١ في الآية الأولى اتباعه تقليداً بغير حجة، ( وفي الثانية مجادلته في الدين، وإضلاله غيره بغير حجة٢٢ ).
والأول أقرب لما تقدم. ودلت الآية على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب٢٣ حق حسن.
والمراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر ؛ لأنه يهدي إلى المعرفة، وبالكتاب المنير الوحي. والمعنى يجادل من غير مقدمة ضرورية، ولا نظريَّة ولا سمعيَّة فهو كقوله تعالى٢٤ :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ٢٥ [ الحج : ٧١ ] ثم قال ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ ثني العطف عبارة عن التكبر والخيلاء٢٦ قال مجاهد وقتادة : لاوي عنقه٢٧. وقال عطية وابن زيد : معرضاً عما يدعى إليه تكبراً٢٨. والعطف الجانب وعطفا٢٩ الرجل : جانباه عن يمين وشمال، وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي٣٠ : يلويه ويمليه عند الإعراض عن الشيء، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً٣١ [ لقمان : ٧ ] وقوله ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ ﴾٣٢ ٣٣ [ المنافقون : ٥ ]. ﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ﴾ فمن ضم الياء فمعناه : ليضل غيره عن طريق الحق، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير. ومن فتح الياء فالمعنى : ليضل هو عن دين الله٣٤. ﴿ لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ ﴾٣٥ عذاب وهون، وهو القتل ببدر، فقتل النضر، وعقبة بن أبي معيط يوم بدر صبراً. ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ﴾ ويقال له :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ٣٦.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢١٦، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤١٤، مشكل إعراب القرآن ٢/٩٢، البيان ٢/١٧٠، التبيان ٢/٩٣٤، البحر المحيط ٦/٣٥٤..
٢ من قوله تعالى: ﴿فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا﴾ [الأحقاف: ٢٤]. والاستشهاد بالآية على أن الإضافة في "ممطرنا" إضافة لفظية، فهي في تقدير الانفصال أي: ممطر إيانا، فهو نكرة التبيان ٢/١١٥٧..
٣ في ب: الحال. وهو تحريف وذلك أن العطف: المنكب، وعطفا كل شيء: جانباه. اللسان (عطف)..
٤ المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦/٣٥٤، الإتحاف (٣١٣)..
٥ انظر التبيان ٢/٩٣٤..
٦ البحر المحيط ٦/٣٥٤ – ٣٥٥ الإتحاف (٣١٣)..
٧ البحر المحيط ٦/٣٥٤، الإتحاف (٣١٣)..
٨ في الأصل: حال..
٩ الحال المقارنة: هي المقارنة لعاملها في الزمن. نحو قوله تعالى: ﴿وهذا بعلي شيخا﴾ [هود: ٧٢]. المغني ٢/٤٦٥..
١٠ الحال المقدرة: هي المستقبلة نحو: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا ذلك، المغني ٢/٤٦٥..
١١ ذكر هذه الأوجه أبو البقاء. التبيان ٢/٩٣٤..
١٢ البحر المحيط ٦/٣٥٥..
١٣ في الأصل: إذا..
١٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٥..
١٥ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٢..
١٦ في ب: إن الآية..
١٧ وهي قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد﴾ [الآية ٣]..
١٨ في الأصل: لا يخاصم. وهو تحريف..
١٩ في ب: الأصل التقليد..
٢٠ في: سقط من الأصل..
٢١ في النسختين: قد كرر. والصواب ما أثبته..
٢٢ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٣ في ب: وفي الكتاب..
٢٤ تعالى: سقط من الأصل.
٢٥ [الحج: ٧١]..
٢٦ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣/١٢..
٢٧ انظر البغوي ٥/٥٥٦..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ في الأصل: والعطف. وهو تحريف..
٣٠ في الأصل: أن. وهو تحريف..
٣١ [لقمان: ٧]..
٣٢ [المنافقون: ٥]..
٣٣ انظر البغوي ٥/٥٥٦-٥٥٧..
٣٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٢، البحر المحيط ٦/٣٥٤، ٣٥٥..
٣٥ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٥٧..
٣٦ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٥٧..
والكلام في قوله :﴿ ذلك بِأَنَّ الله١ [ الحج : ٦ ] كالكلام في قوله :﴿ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ ﴾ وكذا قوله «وأنَّ اللَّهَ » يجوز عطفه على السبب، ويجوز أن يكون التقدير والأمر أن الله، فيكون منقطعاً عما قبله٢.
قوله :«ظَلاَّم » مثال مبالغة. فإن قيل : إذا قلت : إن زيداً ليس بظلام لا يلزم منه نفي أصل الظلم، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
فالجواب : أن المبالغة إنما جيء بها لتكثير٣ محلها فإن العبيد جمع، وأحسن من هذا أن فَعَّالاً هنا للنسب٤ أي : بذي ظلم لا٥ للمبالغة٦.

فصل


قالت المعتزلة٧ : هذه الآية تدل على مطالب :
الأول : دلت على أن العبد إنما وقع في ذلك العذاب بسبب عمله فلو كان فعله خلقاً لله تعالى٨ لكان حين خلقه استحال منه أن لا يتصف به فلا يكون ذلك العقاب٩ بسبب فعله، فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك خلاف النص.
الثاني : أن قوله :﴿ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ يدل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالماً بفعل ذلك العذاب، وهذا يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالماً، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال لكفر آبائهم.
الثالث : أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادراً عليه خلاف ما يقوله النَّظَّام، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.
الرابع : أنه لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم، لأن عندهم صحة نبوة النبي - عليه السلام١٠ - موقوفة على نفي الظلم، فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم١١ الدور. وأجاب ابن الخطيب عن الكلّ بالمعارضة بالعلم والداعي١٢.
١ من الآية (٦) من السورة نفسها..
٢ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٩٢..
٣ في ب: لتكثر..
٤ في الأصل: للنسبة..
٥ لا: سقط من ب..
٦ انظر البحر المحيط ٣/١٣١..
٧ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٢..
٨ تعالى: سقط من ب..
٩ في ب: العذاب..
١٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١١ في ب: لزوم. وهو تحريف..
١٢ آخر ما نقله عن الفخر الرازي ٢٣/١٣..
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾ الآية.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة: نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصحَّ بها جسمه، ونتجت فرسه مهراً حسناً، وولدت امرأته غلاماً، وكثر ماله قال: هذا دين حسن، وقد أصبت فيه خيراً واطمأن إليه، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه، وقَلَّ مالُه قال ما أصبت منذ دخلت هذا الدين إلا شراً فينقلب عن
29
دينه، وذلك الفتنة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾. قال أكثر المفسرين: أي: على شك، وأصله من حرف الشيء، وهو طرفه. وقيل: على انحراف، أو على طرف الدين لا في وسطه كالذي يكون في طرف العسكر إن رأى خيراً ثبت وإلا فرَّ. و «عَلَى حَرْف» حال من فاعل «يَعْبُد» أي: متزلزلاً.
ومعنى «عَلَى حَرْفٍ» أي على شك أو على انحراف أو على طرف الدين لا في وسطه.

فصل


لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه أعقبه بذكر المنافقين فقال: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة، كالذي يكون على طرف العسكر، فإن أحس بغنيمة قرّ وإلا فَرّ، وهذا هو المراد بقوله ﴿فَإن أصَابَهُ خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه﴾.
قال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه، ﴿فإن أصابه خير﴾ صحة في جسمه وسَعَة في معيشته «اطمأن به» وسكن إليه، ﴿وإن أصابته فتنة﴾ بلاء في جسده وضيق في معيشته ﴿انقلب على وجهه﴾ ارتد ورجع إلى ما كان عليه من الكفر.

فصل


ذكروا في السبب وجوهاً:
الأول: ما تقدم.
والثاني: قال الضحاك: نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس، قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصابنا خير عرفنا أنه حق، وإن كان غير ذلك عرفنا أنه باطل.
الثالث: قال أبو سعيد الخدري: «أسلم رجل من اليهود، فذهب بصره وماله وولده، فقال: يا رسول الله أقلني فإني ما أصبت من ديني هذا خيراً ذهب بصري
30
ومالي وولدي. فقال عليه السلام:» إنَّ الإسْلاَمَ لاَ يُقَالُ، إنَّ الإسْلاَمَ يَسْبِكُ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الحَدِيد والذَّهَبَ والفِضَّةَ «ونزلت هذه الآية. وهاهنا إشكال، وهو أن المفسرين أجمعوا على أن هذه السور مكيَّة إلا ست آيات ذكروها أولها ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا﴾ [الحج: ١٩] إلى قوله ﴿صِرَاطِ الحميد﴾ [الحج: ٢٤] ولم يعدوا هذه الوقائع (التي ذكروها في سبب نزول هذه الآية مع أنهم يقولون إن هذه الوقائع) إنما كانت بالمدينة كما تقدم النقل عنهم.
فإن قيل: كيف قال: ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب﴾ والخير أيضاً فِتْنَةٌ، لأنه امتحان. قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥].
فالجواب: مثل هذا كثيرٌ في اللغة، لأن النعمة بلاء وابتلاء قال تعالى ﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾ [الفجر: ١٥] ولكن إنما يطابق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي، لأنه لا دين له؛ فلذلك وردت الآية على ما يعتقده. فإن قيل: إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله ﴿انقلب على وَجْهِهِ﴾ وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب.
فالجواب أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره، فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب على الحقيقة. فإن قيل: مقابل الخير هو الشر فلما قال ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ﴾ كان يجب أن يقول: وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.
فالجواب: لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى: وإن أصابه شرٌّ بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح.
قوله: ﴿خَسِرَ الدنيا والآخرة﴾ قرأ العامة «خسر»
فعلاً ماضياً، وهو يحتمل ثلاثة أوجه:
الاستئناف، والحالية من فاعل «انْقَلَبَ»، ولا حاجة إلى إضمار (قد) على الصحيح.
31
والبدلية من قوله «انقلب» كما أبدل المضارع من مثله في قوله ﴿يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ﴾ [الفرقان: ٦٨ - ٦٩].
وقرأ مجاهد والأعرج وابن محيصن والجحدري في آخرين «خَاسِر» بصيغة اسم الفاعل منصوب على الحال، وهو توكيد كون الماضي في قراءة العامة حالاً وقرئ برفعه، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون فاعلاً ب «انقلب»، ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر، أي: انقلب خاسر الدنيا والآخرة، والأصل: انقلب هو.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو خاسر.
وهذه القراءة تؤيد الاستئناف في قراءة المضي على التخريج الثاني. وحق من قرأ «خاسر» رفعاً ونصباً أن يجر «الآخرة» لعطفها على «الدنيا» المجرورة بالإضافة. ويجوز أن يبقى النصب فيها، إذ يجوز أن تكون الدنيا منصوبة، وإنما حذف التنوين من «خاسر» لالتقاء الساكنين نحو قوله:
٣٧٥٠ - وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلا... فصل
معنى خسرانه الدنيا هو أن يخسر العز والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، ولا يبقى ماله ودمه مصوناً، وأما خسران الآخرة فيفوته الثواب
32
الدائم، ويحصل له العقاب الدائم، و ﴿ذلك هُوَ الخسران المبين﴾.
قوله: ﴿يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ﴾ إن عصاه ولم يعبده، ﴿وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾ إن أطاعه وعبده، و ﴿ذلك هُوَ الضلال البعيد﴾ عن الحق والرشد وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام.
والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق.
قوله: ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾. فيه عشرة أوجه، وذلك أنه إما أن يجعل «يَدْعُو» متسلطاً على الجملة من قوله: ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ أو لا، فإن جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه:
الأول: أنّ «يَدْعُو» بمعنى يقول، واللام للابتداء و «من» موصولة في محل رفع بالابتداء، و «ضَرُّه» مبتدأ ثان، و «أَقْرَب» خبره، وهذه الجملة صلة للموصول، وخبر الموصول محذوف تقديره: يقول للذي ضره أقرب من نفعه: إله، أو إلهي، ونحو ذلك، والجملة كلها في محل نصب ب «يَدْعُو» لأنه بمعنى يقول، فهي محكية به. وهذا قول أبي الحسن وعلى (هذا فيكون قوله: «لَبِئْسَ المَوْلَى» مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك). (ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى) إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة.
الثاني: أنَّ «يَدْعُو» مشبه بأفعال القلوب، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاده وأفعال القلوب تعلق ف «يَدْعُو» معلق أيضاً باللام، و «لَمَنْ» مبتدأ موصول، والجملة بعدة صلة، وخبره محذوف على ما مر في الوجه قبله، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب.
الثالث: أن يضمن «يَدْعُو» معنى يزعم، فتعلق كما تعلق، والمعنى. والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله.
33
الرابع: أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها، فاللام معلقة ل «يَدْعُو» وهو مذهب يونس، فالجملة بعده والكلام فيها كما تقدم.
الخامس: أن «يَدْعُو» بمعنى يسمي، فتكون اللام مزيدة في المفعول الأول، وهو الموصول وصلته، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره: يسمي الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك.
السادس: أن اللام مزالة من موضعها، والأصل: يدعو من لضره أقرب، فقدمت من تأخر. وهذا قول الفراء. ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول.
السابع: أن اللازم زائدة في المفعول به وهو «من» التقدير: يدعو من ضره أقرب، ف «من» موصولة والجملة بعدها صلتها، والموصول هو المفعول ب «يدعو» زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله: «رَدِفَ لَكُمْ» في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول. وقرأ عبد الله «يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ» بغير لام الابتداء، وهي مؤيدة لهذا الوجه. وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن «يَدْعُو» الثاني توكيد ل «يدعو» الأول فلا معمول له، كأنه قيل: (يدعو يدعو) من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه، فعلى هذا تكون الجملة من قوله ﴿ذلك هو الضلال﴾ معترضة بين المؤكد والمؤكد، لأن فيها تشديداً وتأكيداً، ويكون
34
قوله: «لَمَنْ ضَرُّهُ» كلاماً مستأنفاً، فتكون اللام للابتداء، و «مَنْ» موصولة، و «ضَرُّهُ» مبتدأ، و «أقرب» خبره، والجملة صلة، و «لَبِئْسَ» جواب قسم مقدر، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول.
الثاني: أن يجعل «ذلك» موصولاً بمعنى الذي، و «هو» مبتدأ، و «الضلال» خبره، والجملة صلة له، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولاً ب «يَدْعُو»، أي: يَدْعُو الذي هو الضلال وهذا منقول عن أبي علي الفارسي.
وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا «ذا» بشروط تقدم ذكرها. (وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقاً) أن تكون موصولة، وعلى هذا فيكون ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ﴾ مستأنفاً على ما تقدم.
الثالث: أن يجعل «ذَلِكَ» مبتدأ و «هُوَ» جوزوا فيه أن يكون بدلاً أو فصلاً أو مبتدأ، و «الضلال» خبر «ذَلِكَ» أو خبر «هُوَ» على حسب الخلاف في «هُوَ» و «يَدْعُو» حال، والعائد منه محذوف تقديره: يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب «مدعوًّا).
قال أبو البقاء: وهو ضعيف، ولم يبين وجه ضعفه.
وكأن وجهه أن»
يدعو «مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل، فكان ينبغي أن يقدروه داعياً، ولو كان التركيب يدعى مبنياً للمفعول لحسن تقديرهم: مدعو، ألا ترى أنك إذا قلت: جاء زيد
35
يضرب، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب.

فصل


اختلفوا في المراد بقوله: ﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾. قيل: المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم، لأنه يصح منهم أن يضروا، ويؤيد هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم، وهذ الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض.
وقيل المراد الأوثان، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه:
أحدها: أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها، ولكن عبادتها سبب الضرر، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس﴾ [إبراهيم: ٣٦] فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى، بمعنى كونها فاعلة، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر.
وثانيها: كأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية: ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها.
وثالثها: أن الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها، فكأنهم يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم.
قوله: ﴿لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير﴾ المولى هو الناصر، والعشير الصاحب والمعاشر.
والمخصوص بالذم محذوف تقديره: لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو. واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى: ﴿لَبِئْسَ المولى﴾ والمراد ذم ما انتصروا بهم.
36
قوله :﴿ يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ ﴾ إن عصاه ولم يعبده، ﴿ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ﴾ إن أطاعه وعبده، و ﴿ ذلك هُوَ الضلال البعيد ﴾ عن الحق والرشد١ وهذه الآية تدل على أن الآية الأولى لم ترد في اليهود ؛ لأنهم ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام.
والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى الرسول على وجه النفاق ٢.
١ انظر البغوي ٥/٥٥٨..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٥..
قوله :﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾. فيه عشرة أوجه، وذلك أنه إما أن يجعل «يَدْعُو » متسلطاً على١ الجملة من قوله :﴿ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ أو لا، فإن٢ جعلناه متسلطاً عليها كان فيه سبعة أوجه :
الأول : أنّ «يَدْعُو » بمعنى يقول، واللام للابتداء و «من » موصولة في محل رفع بالابتداء، و «ضَرُّه »٣ مبتدأ ثان، و «أَقْرَب » خبره، وهذه الجملة صلة للموصول، وخبر الموصول محذوف تقديره : يقول٤ للذي ضره أقرب من نفعه : إله، أو إلهي، ونحو ذلك، والجملة كلها في محل نصب ب «يَدْعُو » لأنه بمعنى يقول، فهي محكية به. وهذا قول أبي الحسن٥ وعلى ( هذا فيكون قوله :«لَبِئْسَ المَوْلَى » مستأنفاً ليس داخلاً في المحكي قبله، لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك٦ )٧. ( ورد بعضهم هذا الوجه بأنه فاسد المعنى )٨ إذ الكافر لا يعتقد في الأصنام أنَّ ضرّها أقرب من نفعها البتة٩.
الثاني : أنَّ «يَدْعُو » مشبه بأفعال القلوب، لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد وأفعال القلوب تعلق ف «يَدْعُو » معلق أيضاً باللام، و «لَمَنْ » مبتدأ موصول، والجملة بعده صلة، وخبره١٠ محذوف على ما مر في الوجه قبله، والجملة في محل نصب كما يكون كذلك بعد أفعال القلوب ١١.
الثالث : أن يضمن «يَدْعُو » معنى يزعم، فتعلق كما تعلق، والمعنى١٢. والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله١٣.
الرابع : أنَّ الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها، فاللام معلقة ل «يَدْعُو » وهو مذهب يونس١٤، فالجملة بعده والكلام١٥ فيها كما تقدم.
الخامس : أن «يَدْعُو » بمعنى يسمي، فتكون اللام مزيدة في١٦ المفعول١٧ الأول، وهو الموصول وصلته، ويكون المفعول الثاني محذوفاً تقديره : يسمي١٨ الذي ضره أقرب من نفعه إلهاً ومعبوداً ونحو ذلك ١٩.
السادس : أن اللام مزالة٢٠ من موضعها، والأصل : يدعو من لضره أقرب، فقدمت من تأخر. وهذا قول الفراء٢١. ورد هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول٢٢.
السابع : أن اللازم زائدة في المفعول به٢٣ وهو «من » التقدير : يدعو من ضره أقرب، ف «من » موصولة٢٤ والجملة بعدها صلتها، والموصول هو المفعول٢٥ ب «يدعو » زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله :«رَدِفَ لَكُمْ »٢٦ في أحد القولين ورد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعاً أو تقدم المفعول. وقرأ عبد الله «يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ » بغير لام الابتداء، وهي مؤيدة٢٧ لهذا الوجه. ٢٨ وإن لم نجعله متسلطاً على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن «يَدْعُو » الثاني توكيد ل «يدعو » الأول٢٩ فلا معمول له، كأنه قيل :( يدعو يدعو )٣٠ من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه، فعلى هذا تكون٣١ الجملة من قوله ﴿ ذلك هو الضلال ﴾ معترضة بين المؤكد والمؤكد، لأن فيها تشديداً وتأكيداً، ويكون قوله :«لَمَنْ ضَرُّهُ » كلاماً مستأنفاً، فتكون اللام للابتداء، و «مَنْ » موصولة، و «ضَرُّهُ » مبتدأ، و «أقرب » خبره، والجملة صلة، و «لَبِئْسَ » جواب قسم مقدر، وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو الموصول ٣٢.
الثاني : أن يجعل «ذلك » موصولاً بمعنى٣٣ الذي، و «هو » مبتدأ، و «الضلال » خبره، والجملة صلة له٣٤، وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولاً ب «يَدْعُو »، أي : يَدْعُو الذي هو الضلال٣٥ وهذا منقول عن أبي علي الفارسي٣٦.
وليس هذا ماش على رأي البصريين إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا «ذا » بشروط تقدم ذكرها. ( وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقاً )٣٧ أن تكون موصولة٣٨، وعلى هذا فيكون ﴿ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ ﴾ مستأنفاً على ما تقدم.
الثالث : أن يجعل «ذَلِكَ » مبتدأ و «هُوَ » جوزوا فيه أن يكون بدلاً أو فصلاً أو مبتدأ، و «الضلال » خبر «ذَلِكَ » أو خبر «هُوَ »٣٩ على حسب الخلاف في «هُوَ » و «يَدْعُو » حال، والعائد منه محذوف تقديره : يدعوه وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال ب «مدعوًّا ) ٤٠ ٤١.
قال أبو البقاء : وهو ضعيف٤٢، ولم يبين وجه ضعفه.
وكأن وجهه أن » يدعو «مبني للفاعل فلا يناسب أن يقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول بل المناسب أن يقدر اسم فاعل، فكان ينبغي أن يقدروه داعياً، ولو كان التركيب يدعى مبنياً للمفعول لحسن تقديرهم : مدعو٤٣، ألا ترى أنك إذا قلت : جاء زيد يضرب، كيف يقدرونه بضارب لا بمضروب ٤٤.

فصل٤٥


اختلفوا في المراد بقوله :﴿ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾. قيل : المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم، لأنه يصح منهم أن يضروا، ويؤيد٤٦ هذا أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم، وهذه الآية تقتضي٤٧ كون المذكور٤٨ فيها ضاراً نافعاً، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض.
وقيل المراد الأوثان، ثم أجابوا عن التناقض بوجوه :
أحدها : أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها، ولكن عبادتها سبب٤٩ الضرر، وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها كقوله٥٠ تعالى :﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ٥١ الناس ﴾٥٢ [ إبراهيم : ٣٦ ] فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سبباً للضلال، فكذلك هنا نفى الضرر عنهم في الآية الأولى، بمعنى كونها فاعلة، وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر.
وثانيها : كأنه سبحانه بيَّن في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع ثم قال في الآية الثانية : ولو سلمنا كونها ضارة نافعة لكان ضرها أكثر من نفعها.
وثالثها : أن الكفار إذا أنصفوا٥٣ علموا أنه لا يحصل منها لا نفع ولا ضرر في الدنيا، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها، فكأنهم٥٤ يقولون لها في الآخرة إن ضركم أعظم من نفعكم.
قوله :﴿ لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير ﴾ المولى هو الناصر، والعشير الصاحب والمعاشر.
والمخصوص بالذم محذوف تقديره : لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو. واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق، لأنه لا يكاد يستعمل في الأوثان٥٥، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله الذي هو خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء بقوله تعالى٥٦ :﴿ لَبِئْسَ المولى ﴾ والمراد ذم ما انتصروا بهم ٥٧.
١ على: مكرر في الأصل..
٢ في ب: وإن..
٣ في ب: وضر..
٤ في الأصل: ويقول..
٥ انظر معاني القرآن للأخفش ٢/٦٣٥ – ٦٣٦ وانظر أيضا معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤١٦، مشكل إعراب القرآن ٢/٩٣، البيان ٢/١٧٠، التبيان ٢/٩٣٥ البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٦ انظر التبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٧ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٦..
١٠ في ب: وجره وهو تحريف..
١١ انظر التبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٦..
١٢ والمعنى سقط من ب..
١٣ انظر التبيان ٢/٩٣٥ البحر المحيط ٦/٣٥٦..
١٤ سبق أن ذكرنا مذهب يونس في أن التعليق غير مختص بأفعال القلوب، بل يكون فيها وفي غيرها..
١٥ في ب: الكلام..
١٦ في ب: و..
١٧ في الأصل: الأفعال..
١٨ في ب: ويسمى..
١٩ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤١٦، البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٢٠ في ب: من آلة. وهو تحريف..
٢١ معاني القرآن ٢/٢١٧، ونسب مكي في هذا الوجه في مشكل إعراب القرآن ٢/٩٣، إلى الكسائي وانظر أيضا البيان ٢/١٧٠، والتبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٦ – ٣٥٧..
٢٢ انظر التبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٧..
٢٣ به: سقط من الأصل..
٢٤ في الأصل: موصول..
٢٥ هو المفعول: سقط من الأصل..
٢٦ من قوله تعالى: ﴿قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون﴾ [النمل: ٧٢]. والاستدلال بالآية على أن اللام في قوله "لكم" زائدة في المفعول به، ويجوز أن لا تكون اللام زائدة ويجعل الفعل على معنى دنا لكم، أو قرب من أجلكم والفاعل بعض. المغني ١/٢١٥، التبيان ٢/١٠١٣..
٢٧ في الأصل: وهو مئيد. وهو تحريف..
٢٨ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٧..
٢٩ [الحج: ١٢] ﴿يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه﴾..
٣٠ ما بين القوسين في ب: يدعو..
٣١ في ب: وعلى هذا فتكون..
٣٢ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢١٨، الكشاف ٣/٢٧، البيان ٢/١٧٠، التبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٣٣ في ب: يعني..
٣٤ في الأصل بعد قوله: والجملة صلة له: و"لبئس" جواب قسم مقدر وهذا القسم المقدر وجوابه خبر للمبتدأ "الذي"، يبدو أن هذا سهو من الناسخ فهذا الكلام موجود في الوجه الأول..
٣٥ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤١٦، التبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٣٦ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٣٧ ما بين القوسين مكرر في ب مع زيادة تقدم ذكرها..
٣٨ تقدم الحديث عن مذهب البصريين والكوفيين في استعمال أسماء الإشارة موصولة عند الحديث عن قوله تعالى: ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ [طه: ١٧]..
٣٩ في ب: هن. وهو تحريف..
٤٠ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤١٥ – ٤١٦، التبيان ٢/٩٣٥، البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٤١ ما بين القوسين في ب: وهو تحريف..
٤٢ التبيان ٢/٩٣٥..
٤٣ في ب: يدعو. وهو تحريف..
٤٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٦..
٤٥ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٧..
٤٦ في ب: ويؤيدوا. وهو تحريف..
٤٧ في ب: مقتضى. وهو تحريف..
٤٨ في ب: المذكورين..
٤٩ في ب: بب. وهو تحريف..
٥٠ في ب: لقوله.
٥١ في ب: ومن. وهو تحريف..
٥٢ [إبراهيم: ٣٦]..
٥٣ أنصفوا: سقط من ب..
٥٤ في ب: وكأنهم..
٥٥ في ب: يستعمل الأوثان. وهو تحريف..
٥٦ تعالى: سقط من الأصل..
٥٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٨..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ﴾ الآية. لما بين في الآية السالفة حال عباده المنافقين وحال معبودهم، وأن معبودهم لا ينفع ولا يضر بين هاهنا صفة عباده المؤمنين وصفة معبودهم، وأن عبادتهم حقيقة، ومعبودهم يعطهم أعظم المنافع وهو الجنة، التي من كمالها جمعها بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار، وبين أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ [النساء: ١٧٣]. واحتج أهل السنة في خلق الأفعال بقوله: ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ قالوا: أجمعنا على أنه تعالى يريد الإيمان، ولفظة «ما» للعموم فوجب أن يكون فاعلاً للإيمان لقوله: ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾.
وأجاب عنه الكعبي بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله (لا ما يريد أن يفعله) غيره.
وأجيب: بأن هذا تقييد للعموم وهو خلاف النص.
قوله: ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ﴾. «مَنْ» يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، والضمير في «يَنْصُرَهُ» الظاهر عوده على «مَنْ»، وفسر النصر بالرزق، وقيل يعود على الدين والإسلام فالنصر على بابه.
قال ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج: أن الضمير في «يَنْصُرَهُ» يرجع إلى محمد - عليه السلام - يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته، والانتقام ممن كذبه، والرسول - عليه السلام - وإن لم يجر له ذكر في هذه
37
الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾، والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله.
قوله: «فَلْيَمْدُد» إما جزاء للشرط، أو خبر للموصول، والفاء للتشبيه بالشرط. والجمهور على كسر اللام من «ليَقْطَعْ»، وسكنها بعضهم كما يسكنها بعد الفاء والواو لكونهن عواطف، ولذلك أجروا «ثم» مجراهما في تسكين هاء (هو) و (هي) بعدها، وهي قراءة الكسائي ونفاع في رواية قالون عنه.
قوله: ﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ﴾ الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض، لأن النظر تعلق بالاستفهام، وإذا كان بمعنى الفكر تعدى ب «في».
وقوله: ﴿مَا يَغِيظُ﴾ «ما» موصولة بمعنى الذي، والعائد هو الضمير المستتر، و «ما» وصلتها مفعول بقوله: «يُذْهِبَنَّ» أي: هل يذهبن كيده الشيء الذي يغيظه، فالمرفوع في «يغيظه» عائد على الذي والمنصوب على ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ﴾. وقال أبو حيان: و «ما» في «مَا يَغِيظُ» بمعنى الذي والعائد محذوف أو مصدرية.
قال شهاب الدين: كلا هذين القولين لا يصح، أما قوله: العائد محذوف فليس كذلك بل هو مضمر مستتر في حكم الموجود كما تقدم تقريره قبل ذلك، وإنما يقال: محذوف فيما كان منصوب المحل أو مجروره، وأما قوله: أو مصدرية فليس كذلك أيضاً، إذ لو كانت مصدرية لكانت حرفاً على الصحيح، وإذا كانت حرفاً لم يعد عليها ضمير وإذا لم يعد عليها ضمير بقي الفعل بلا فاعل، فإن قلت: أضمر في «يَغِيْظ» ضميراً فاعلاً يعود على ﴿مَن كَانَ يَظُنُّ﴾.
38
فالجواب: أن من كان يظن في المعنى مغيظ لا غائظ. وهذا بحث حسن.

فصل


المعنى: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء، والسبب الحبل، والسماء سقف البيت هذا قول الأكثرين، أي: ليشدد حبلاً في سقف بيته فليختنق به حتى يموت، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق.
وقيل: سمي الاختناق قطعاً. وقيل: ليقطع، أي: ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ صنيعه وحيلته، أي: هل يذهبن كيده وحيلته غيظه. والمعنى: فليختنق غيظاً حتى يموت، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعل لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت، ولكنه كما يقال للحاسد إذا لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظاً. وق ابن زيد: المراد من السماء: السماء المعروفة. ومعنى الآية: من كان يظن أن لا ينصر الله نبيه، ويكيد في أمره ليقطعه عنه، فليقطعه من أصله، فإن أصله من السماء، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل.

فصل


روي أن هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى الإسلام، وكان بينهم وبين اليهود حلف، وقالوا: لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا يُنصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤوونا فنزلت هذه الآية وقال مجاهد: النصر يعني الرزق، والهاء راجعة إلى «مَنْ» ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة: نزلت فيمن أساء الظن بالله - عَزَّ وَجَلَّ - وخاف أن لا يرزقه ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء﴾ أي: سماء البيت، ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ﴾ فعله ذلك ما يغيظ وهو خِيفَة أن لا يُرزق. وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب: من ينصرني نصره الله، أي من يعطيني أعطاه الله. قال أبو عبيدة: تقول العرب: أرض منصورة، أي ممطورة وعلى كل الوجوه فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه.
39
قوله: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ﴾ الكاف إما حال من ضمير المصدر المقدر، وإما نعت لمصدر محذوف على حسب ما تقدم من الخلاف، أي: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله «آيَاتٍ بَيِّنَات» ف «آيات» حال.
قوله: ﴿وَأَنَّ الله يَهْدِي﴾ يجوز في «أن» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها منصوبة المحل، عطفاً على مفعول «أنزلناه»، أي: وأنزلنا أن الله يهدي من يريد، أي: أنزلنا هداية الله لمن يريد هدايته.
الثاني: أنها على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بمحذوف والتقدير: ولأن الله يهدي من يريد أنزلناه، فيجيئ في موضعها القولان المشهوران أفي محل نصب هي أم جر؟ وإلى هذا ذهب الزمخشري، وقال في تقديره: ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون أنزله كذلك مبيناً.
الثالث: أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ مضمر تقديره: والأمر أن الله يهدي من يريد.

فصل


قال أهل السنة: المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة، أما الأول فغير جائز؛ لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين، ولأن قوله: ﴿يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي متعلقة بمشيئته سبحانه، ووضع الأدلة عند الخصم واجب، فيبقى أن المراد منه خلق المعرفة. قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار: هذا يحتمل وجوهاً:
أحدها: يكلف من يريد لأن من كلف أحداً شيئاً فقد وصفه له وبينه.
وثانيها: أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإنابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً.
وثالثها: أن يكون المراد أن الله يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا هدي ثبت على إيمانه كقوله تعالى: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: ١٧]. وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله: إن الله يهدي من قَبِلَ لا من لم يقبل، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي.
وأجيب عن الأول بأن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة، وعن الثاني، من الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان
40
لأنهما عند الخَصْم واجبان على الله، وقوله: ﴿يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ يقتضي عدم الوجوب.
41
قوله :﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ ﴾. «مَنْ » يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر١، وأن تكون موصولة، والضمير في «يَنْصُرَهُ » الظاهر عوده على «مَنْ »، وفسر النصر بالرزق٢، وقيل٣ يعود على الدين والإسلام فالنصر على بابه٤.
قال ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء٥ والزجاج٦ : أن الضمير في «يَنْصُرَهُ » يرجع إلى محمد - عليه السلام٧ - يريد أن من ظن أن لن ينصر٨ الله محمداً في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته، والانتقام ممن كذبه، والرسول - عليه السلام٩ - وإن لم يجر له ذكر في هذه الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله١٠ :﴿ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾، والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله ١١.
قوله :«فَلْيَمْدُد » إما جزاء للشرط، أو خبر للموصول، والفاء للتشبيه بالشرط. والجمهور على كسر اللام من «ليَقْطَعْ »، وسكنها بعضهم كما يسكنها بعد الفاء والواو لكونهن عواطف١٢، ولذلك أجروا «ثم » مجراهما في تسكين هاء ( هو ) و ( هي ) بعدها١٣، وهي قراءة الكسائي ونافع في رواية قالون عنه١٤.
قوله :﴿ هَلْ يُذْهِبَنَّ ﴾ الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض، لأن النظر تعلق بالاستفهام، وإذا كان بمعنى الفكر تعدى ب «في »١٥.
وقوله :﴿ مَا يَغِيظُ ﴾ «ما » موصولة بمعنى الذي، والعائد هو الضمير المستتر، و «ما » وصلتها مفعول بقوله :«يُذْهِبَنَّ » أي : هل يذهبن كيده الشيء الذي يغيظه، فالمرفوع في «يغيظه » عائد على الذي والمنصوب على ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ ﴾. وقال أبو حيان : و «ما » في «مَا يَغِيظُ » بمعنى الذي والعائد محذوف أو مصدرية ١٦. قال شهاب الدين : كلا هذين القولين لا يصح، أما قوله : العائد محذوف فليس كذلك بل هو مضمر مستتر في حكم الموجود كما تقدم تقريره قبل ذلك، وإنما يقال : محذوف فيما كان منصوب المحل أو مجروره١٧، وأما قوله : أو مصدرية فليس كذلك أيضاً، إذ لو كانت مصدرية لكانت حرفاً على الصحيح، وإذا كانت حرفاً لم يعد عليها ضمير وإذا لم يعد عليها ضمير بقي الفعل بلا فاعل، فإن قلت : أضمر١٨ في «يَغِيْظ » ضميراً فاعلاً يعود على ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ ﴾.
فالجواب : أن من كان يظن في المعنى مغيظ١٩ لا غائظ. وهذا بحث حسن٢٠.

فصل٢١


المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء، والسبب الحبل، والسماء سقف البيت هذا قول الأكثرين، أي : ليشدد حبلاً في سقف بيته فليختنق به حتى يموت، ثم ليقطع الحبل بعد الاختناق.
وقيل : سمي الاختناق قطعاً. وقيل : ليقطع، أي : ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً ﴿ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ صنيعه وحيلته، أي : هل يذهبن كيده وحيلته غيظه. والمعنى : فليختنق غيظاً حتى يموت، وليس هذا على سبيل الحتم أن يفعل لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق والموت، ولكنه كما يقال للحاسد إذا لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظاً. وقال ابن زيد : المراد من السماء : السماء المعروفة. ومعنى الآية : من كان يظن أن لا ينصر الله نبيه، ويكيد في أمره ليقطعه عنه، فليقطعه من أصله، فإن أصله من السماء، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي الذي يأتيه فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل.

فصل


روي أن هذه٢٢ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، وكان بينهم وبين اليهود حلف، وقالوا : لا يمكننا أن نسلم لأنا نخاف أن لا يُنصر محمد ولا يظهر أمره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا٢٣ فنزلت هذه الآية وقال مجاهد : النصر يعني الرزق، والهاء راجعة إلى «مَنْ » ومعناه من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة : نزلت فيمن أساء الظن بالله - عز وجل٢٤ - وخاف أن لا يرزقه ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء ﴾ أي : سماء البيت، ﴿ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ ﴾ فعله ذلك ما يغيظ وهو خِيفَة٢٥ أن لا يُرزق. وقد يأتي النصر بمعنى الرزق تقول العرب : من ينصرني نصره الله، أي من يعطيني أعطاه الله٢٦. قال أبو عبيدة٢٧ : تقول العرب : أرض منصورة، أي ممطورة٢٨ وعلى٢٩ كل الوجوه فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه.
١ وجواب الشرط قوله: "فليمدد" التبيان ٢/٩٣٥..
٢ وكان الظاهر عود الضمير على "من" لأنه المذكور، وحق الضمير أن يعود على المذكور. الفخر الرازي ٢٣/١٨، البحر المحيط ٦/٣٥٧..
٣ في ب: فصل..
٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٨..
٥ معاني القرآن ٢/٢١٨..
٦ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤١٧..
٧ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٨ في ب: ينصره. وهو تحريف..
٩ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٠ في قوله: سقط من ب..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٣/١٦-١٧..
١٢ في الأصل: عواطفا..
١٣ انظر السبعة (١٥١ – ١٥٢) الكشف ١/٢٣٤..
١٤ السبعة (٤٣٤ – ٤٣٥) الكشف ٢/١١٦ – ١١٧، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف ٣١٤، وحركة لام الطلب الكسرة، وسليم تفتحها طلبا للخفة، ويجوز تسكينها بعد الفاء والواو وثم، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها نحو قوله تعالى: ﴿فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي﴾ [البقرة : ١٨٦] وإسكانها بعد "ثم" قليل، وإسكان اللام بعد هذه الحروف يجري مجرى إسكان الهاء من (هو)، و(هي)، بعدها فإسكانها أكثر من تحريكها بعد الفاء والواو، وقليل بعد "ثم" انظر شرح المفصل ٣/٩٨، الهمع ٢/٥٥، وشرح الأشموني ٤١٤..
١٥ وقال أبو البقاء: (وهل يذهبن) في موضع نصب بـ "ينظر" التبيان ٢/٩٣٧..
١٦ البحر المحيط ٦/٣٥٨..
١٧ وذلك أن العائد المرفوع لا يجوز حذفه إلا بشرطين أحدهما: أن يكون مبتدأ غير منسوخ، وثانيهما: أن يكون خبره مفردا، والعائد هنا فاعل فلا يجوز أن يطلق عليه بأنه محذوف وإنما هو مضمر. واشترط البصريون أيضا في حذف العائد المرفوع في غير صلة (أي)، استطالة الصلة، والكوفيون لا يشترطون ذلك. شرح التصريح ١/١٤٣ – ١٤٤..
١٨ في ب: الضمير. وهو تحريف..
١٩ في ب: يغيظ. وهو تحريف..
٢٠ الدر المصون: ٥/٦٧..
٢١ هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٦٠، بتصرف يسير..
٢٢ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٦٠-٥٦١..
٢٣ في ب: ولا يؤذننا. وهو تحريف..
٢٤ في ب: تعالى..
٢٥ في الأصل: خنقه. وفي ب: صفة. والتصويب من البغوي..
٢٦ اللسان (نصر)..
٢٧ في ب: أبو عبيد..
٢٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٦٠-٥٦١..
٢٩ في الأصل: على..
قوله :﴿ وكذلك أَنزَلْنَاهُ ﴾ الكاف إما حال من ضمير المصدر المقدر، وإما نعت لمصدر محذوف على حسب ما تقدم من الخلاف، أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله «آيَاتٍ بَيِّنَات »١ ف «آيات » حال.
قوله :﴿ وَأَنَّ الله يَهْدِي ﴾ يجوز في «أن » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة المحل، عطفاً على مفعول «أنزلناه »، أي٢ : وأنزلنا أن الله يهدي من يريد، أي : أنزلنا هداية الله لمن يريد هدايته ٣.
الثاني : أنها على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بمحذوف والتقدير٤ : ولأن الله يهدي من يريد أنزلناه، فيجيء في موضعها القولان المشهوران أفي محل نصب هي أم جر ؟ وإلى هذا ذهب الزمخشري، وقال في تقديره : ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون أنزله كذلك مبيناً ٥.
الثالث : أنها في محل رفع خبراً لمبتدأ مضمر تقديره : والأمر أن الله يهدي من يريد ٦.

فصل٧


قال أهل السنة : المراد من الهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة، أما الأول فغير جائز ؛ لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين، ولأن قوله :﴿ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾ دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي متعلقة بمشيئته سبحانه، ووضع الأدلة عند الخصم واجب، فيبقى أن المراد منه خلق المعرفة. قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار : هذا٨ يحتمل وجوهاً :
أحدها : يكلف من يريد لأن من كلف أحداً شيئاً فقد وصفه له وبينه.
وثانيها : أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإنابة من يريد ممن آمن وعمل صالحاً.
وثالثها : أن يكون المراد أن الله يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا هدي ثبت على إيمانه كقوله تعالى :﴿ والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى٩ [ محمد : ١٧ ]. وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله : إن الله يهدي من قَبِلَ لا من لم١٠ يقبل، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي.
وأجيب عن الأول بأن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة، وعن الثاني، من الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان، لأنهما عند الخَصْم واجبان على الله، وقوله :﴿ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾ يقتضي عدم الوجوب.
١ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٨..
٢ أي: سقط من ب..
٣ انظر التبيان ٢/٩٤٦..
٤ والتقدير: سقط من ب..
٥ الكشاف: ٣/٢٨، وانظر أيضا التبيان ٢/٩٣٦..
٦ انظر البحر المحيط ٦/٣٥٨..
٧ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/١٨..
٨ في ب: هل. وهو تحريف..
٩ [محمد: ١٧]..
١٠ لم: تكملة من الفخر الرازي..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ الآية. لما قال: ﴿وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ [الحج: ١٦] أتبعه ببيان من يهديه ومن لا يهديه. واعلم أن (إن) الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبراً ل «أن» الأولى قال الزمخشري: وأدخلت «إنَّ» على كل واحد من جزأي الجملة لزيادة التأكيد ونحوه قول جرير:
٣٧٥١ - إنَّ الخَلِيفَة إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ سِرْبَالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الخَوَاتِيم
قال أبو حيان: وظاهر هذا أنه شبه البيت بالآية، وكذلك قرنه الزجاج بالآية، ولا يتعين أن يكون البيت كالآية، لأن البيت يحتمل أن يكون (إن الخليفة) خبره (به ترجى الخواتيم) ويكون (إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ) جملة اعتراض بين اسم (إنَّ) وخبرها بخلاف الآية فإنه يتعين قوله: ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ﴾ وحسن دخول «إن» على الجملة الواقعة خبراً لطول الفصل بينهما بالمعاطيف. قال شهاب الدين: قوله: فإنه يتعين قوله: ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ﴾ يعني أن يكون خبراً. ليس كذلك، لأن الآية محتملة لوجهين آخرين ذكرهما الناس:
41
الأول: أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: يفترقون يوم القيامة ونحوه، والمذكور تفسير له كذا ذكره أبو البقاء.
والثاني: أن «إن» الثانية تكرير للأولى على سبيل التوكيد، وهذا ماش على القاعدة وهو أن الحرف إذا كرر توكيداً أعيد معه ما اتصل به أو ضمير ما اتصل به، وهذا قد أعيد معه ما اتصل به أولاً، وهي الجلالة المعظمة فلم يتعين أن يكون قوله ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ﴾ خبراً ل «إنَّ» الأولى كما ذكر. واختلف العلماء في المجوس، فقيل: قوم يعبدون النار، وقيل: الشمس والقمر وقيل: اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح، وقيل: أخذوا من دين النصارى شيئاً ومن دين اليهود شيئاً، وهم القائلون بأن للعالم أصلان، نور وظلمة، وقيل هم قوم يستعملون النجاسات، والأصل: نجوس - بالنون - فأبدلت ميماً.
ومعنى ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي: يحكم بينهم، ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي: عالم بما يستحقه كل منهم، فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ﴾ الآية. قيل المراد بهذه الرؤية العلم، أي: ألم تعلم، وقيل: ألم تر بقلبك. والمراد بالسجود: قال الزجاج: أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والارض ﴿ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، ﴿أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله﴾ [البقرة: ٧٤]، {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
42
بِحَمْدَهِ} [الإسراء: ٤٤]، ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ﴾ [الأنبياء: ٧٩]. والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود.
فإن قيل: هذا التأويل يبطله قوله تعالى ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص، وإن كان ساجداً بذاته لا يكون ساجداً بظاهره، وأما المؤمن فإن ساجد بذاته وبظاهره، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها: أن نقطع قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ عما قبله، ثم فيه ثلاثة أوجه:
الأول: أن تقدير الآية: ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد، والثاني بمعنى العبادة، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً.
الثاني: أن يكون قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله: ﴿حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾.
والثالث: أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب، فيعطف «كثير» على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب.
وثالثها: أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهومية جميعاً يقول: المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة، وفي حق الجمادات الانقياء (ومن ينكر ذلك فيقول: إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة، وفي حق الجمادات الانقياد) فإن قيل: قوله: ﴿وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ [الرعد: ١٥] عام فيدخل فيه الناس، فلم قال ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ مرة أخرى؟
فالجواب: لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجد طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك، وهم الذين حق عليهم العذاب وقال القفال: السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل،
43
بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه، وعلى هذا تأولوا قوله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ [الإسراء: ٤٤].
وقال مجاهد: إنَّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ﴾ [النحل: ٤٨]. وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه.
قوله: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾. فيه أوجه:
أحدها: أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره: ويسجد له كثير من الناس، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه، والجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما في المعنى، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة.
الثاني: أنه معطوف على (ما تقدمه) وفي ذلك ثلاث تأويلات:
أحدها: أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل العقلاء وغيرهم، وهو الخضوع والطواعية، وهو من باب الاشتراك المعنوي.
والتأويل الثاني: أنه مشترك اشتراكاً لفظياً، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.
والتأويل الثالث: أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.
الثالث من الأوجه المتقدمة: أن يكون «كَثِيرٌ» مرفوعاً بالابتداء، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ كذا قدره الزمخشري، وقدره أبو البقاء مطيعون أو مثابون أو نحو ذلك.
44
الرابع: أن يرتفع «كثير» على الابتداء أيضاً ويكون خبره «مِنَ النَّاسِ» أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون والمتقون.
الخامس: أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف «كَثِيرٌ» على «كثير» ثم يخبر عنهم ب ﴿حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم.
قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال: وهذان التخريجان ضعيفان. (ولم يبين وجه ضعفهما). قال شهاب الدين: أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك، وأما الثاني فقد يظهر، وذلك أن التكرير يفيد التكثير وهو قريب من قولهم: عندي ألف وألف، وقوله:
٣٧٥٢ - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ... وقرأ الزُّهري «وَالدَّواب» مخفف الباء، قال أبو البقاء: ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين. وقرأ جناح بن حبيش: «وكَبِيرٌ» بالباء الموحدة.
وقرئ «وَكَثِيرٌ حَقًّا» بالنصب، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره: وكثير حق عليه العذاب حقاً، و «العَذَابُ» مرفوع بالفاعلية. وقرئ «حُقَّ» مبنياً للمفعول. وقال ابن عطية: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي: وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره. فقوله: معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله: يسجد.
45
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ ﴾ الآية. قيل المراد بهذه الرؤية العلم، أي : ألم تعلم١، وقيل : ألم تر بقلبك٢. والمراد بالسجود : قال الزجاج٣ : أنها مطيعة لله تعالى كقوله تعالى للسماء والأرض ﴿ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾٤، [ فصلت : ١١ ]، ﴿ أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ٥ [ يس : ٨٢ ] ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ﴾٦ [ البقرة : ٧٤ ]، ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ٧ [ الإسراء : ٤٤ ]، ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ٨ [ الأنبياء : ٧٩ ]. والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع ما يحدثه الله تعالى فيها من غير امتناع أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود٩.
فإن قيل : هذا التأويل يبطله قوله تعالى ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾، فإن السجود بالمعنى المذكور عام في كل الناس، فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة.
فالجواب من وجوه :
الأول : أن السجود بالمعنى المذكور وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص، وإن كان ساجداً بذاته لا يكون ساجداً بظاهره، وأما المؤمن فإن ساجد١٠ بذاته وبظاهره، فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها : أن نقطع قوله :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ عما قبله، ثم فيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن تقدير الآية : ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد، والثاني بمعنى العبادة، وإنما فعلنا ذلك لقيام الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً.
الثاني : أن يكون قوله :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب، لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله :﴿ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾.
والثالث : أن يبالغ في تكثير الحقوق بالعذاب، فيعطف «كثير » على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب.
وثالثها : أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول : المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة، وفي حق الجمادات الانقياد ( ومن ينكر ذلك فيقول : إن الله تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء الطاعة، وفي حق الجمادات الانقياد١١ )١٢ فإن قيل : قوله :﴿ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات ومن في والأرض ﴾ [ الرعد : ١٥ ] عام فيدخل فيه الناس، فلم قال ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ مرة أخرى ؟
فالجواب : لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجد طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع من ذلك، وهم الذين حق عليهم العذاب١٣ وقال القفال : السجود هاهنا هو الخضوع والتذلل، بمعنى كونها معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه، وعلى هذا تأولوا قوله :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ١٤١٥ [ الإسراء : ٤٤ ].
وقال مجاهد : إنَّ سجود هذه الأشياء سجود ظلها لقوله تعالى :﴿ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمائل سُجَّداً لِلَّهِ١٦١٧. [ النحل : ٤٨ ]. وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه ١٨.
قوله :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾. فيه١٩ أوجه :
أحدها٢٠ : أنه مرفوع بفعل مضمر تقديره : ويسجد له كثير من الناس٢١، وهذا عند من يمنع استعمال المشترك في معنييه، و٢٢الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يعطف ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما٢٣ في المعنى، ألا ترى أن سجود غير العقلاء هو الطواعية والإذعان لأمره، وسجود العقلاء هو هذه الكيفية المخصوصة.
الثاني : أنه معطوف على ( ما تقدمه٢٤ )٢٥ وفي ذلك ثلاث تأويلات :٢٦
أحدها : أن المراد بالسجود القدر المشترك بين الكل٢٧ العقلاء وغيرهم، وهو الخضوع والطواعية، وهو من باب الاشتراك المعنوي.
والتأويل الثاني : أنه مشترك اشتراكاً لفظياً، ويجوز استعمال المشترك في معنييه.
والتأويل الثالث : أن السجود المسند للعقلاء حقيقة ولغيرهم مجاز، ويجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز على خلاف في هذه الأشياء مذكور في كتب الأصول.
الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون «كَثِيرٌ » مرفوعاً٢٨ بالابتداء، وخبره محذوف وهو مثاب لدلالة خبر مقابله عليه وهو قوله :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ كذا قدره الزمخشري٢٩، وقدره أبو البقاء مطيعون أو٣٠ مثابون أو نحو ذلك٣١.
الرابع : أن يرتفع «كثير » على الابتداء أيضاً ويكون خبره «مِنَ النَّاسِ » أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة، وهم الصالحون والمتقون ٣٢.
الخامس : أن يرتفع بالابتداء أيضاً ويبالغ في تكثير المحقوقين٣٣ بالعذاب فيعطف «كَثِيرٌ » على «كثير » ثم يخبر عنهم ب ﴿ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾، ذكر ذلك الزمخشري كما تقدم٣٤.
قال أبو حيان بعد أن حكى عن الزمخشري الوجهين الأخيرين قال٣٥ : وهذان التخريجان ضعيفان٣٦. ( ولم يبين وجه ضعفهما٣٧ ). قال شهاب الدين : أما أولهما فلا شك في ضعفه إذ لا فائدة طائلة في الإخبار بذلك، وأما الثاني فقد يظهر، وذلك أن التكرير٣٨ يفيد التكثير وهو قريب من قولهم : عندي ألف وألف، وقوله :
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ٣٩ ٤٠ ***. . .
وقرأ الزُّهري «وَالدَّواب » مخفف الباء٤١، قال أبو البقاء : ووجهها أنَّه حذف الباء الأولى كراهية التَّضعيف والجمع بين ساكنين٤٢. وقرأ جناح بن حبيش :«وكَبِيرٌ » بالباء الموحدة٤٣.
وقرئ «وَكَثِيرٌ حَقًّا » بالنصب٤٤، وناصبه محذوف وهو الخبر تقديره : وكثير حق عليه العذاب حقاً، و «العَذَابُ » مرفوع بالفاعلية. وقرئ «حُقَّ » مبنياً للمفعول٤٥. وقال ابن عطية :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم أي : وكثير حق عليه العذاب يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره٤٦. فقوله : معطوف على ما تقدم يعني عطف الجمل لا٤٧ أنه هو وحده عطف على ما قبله بدليل أنه قدره المبتدأ وخبره قوله : يسجد.

فصل٤٨


قال ابن عباس في رواية عطاء :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ يوحده، ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ ممن لا يوحده، وروي عنه أنه قال :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ في الجنة. وهذه الرواية تؤكد أن قوله ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ مبتدأ وخبره محذوف. وقال آخرون الوقف على قوله ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ ثم استأنف بواو الاستئناف فقال :﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾.
( وأما قوله تعالى ﴿ وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ﴾ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب٤٩ ) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم٥٠ مكرماً لهم. ثم بين بقوله ﴿ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٠..
٢ انظر القرطبي ١٢/٢٤..
٣ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤١٨ – ٤١٩ بتصرف، والنص بلفظه من الفخر الرازي..
٤ [فصلت: ١١]..
٥ من قوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢]..
٦ من قوله تعالى: ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ [البقرة: ٧٤]..
٧ [الإسراء: ٤٤]..
٨ من قوله تعالى: ﴿وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين﴾ [الأنبياء: ٧٩]..
٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٠..
١٠ في ب: ساجدا. وهو تحريف..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٠..
١٢ ما بين القوسين سقط من ب..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٠-٢١..
١٤ [الإسراء : ٤٤]..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢١..
١٦ [النحل: ٤٨]..
١٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢١..
١٨ انظر البغوي ٥/٥٦٢، القرطبي ١٢/٢٤..
١٩ في ب: وفيه..
٢٠ في ب: أحدهما. وهو تحريف..
٢١ انظر الكشاف ٣/٢٨، البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٢٢ في ب: أو..
٢٣ في ب: إليها..
٢٤ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٩٤، البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٢٥ في ب: على مقدمه..
٢٦ في ب: أوجه تأويلات..
٢٧ في ب: كل..
٢٨ في ب: كثيرا مرفوعا. وهو تحريف..
٢٩ الكشاف ٣/٢٨..
٣٠ أو: سقط من ب..
٣١ التبيان ٢/٩٣٧. وانظر هذا الوجه أيضا في البيان ٢/١٧١، والبحر المحيط ٦/٣٥٩..
٣٢ الكشاف ٣/٢٨..
٣٣ في ب: المحققين: وهو تحريف..
٣٤ الكشاف ٣/٢٨..
٣٥ في ب: وقال..
٣٦ البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٣٧ ما بين القوسين سقط من الأصل..
٣٨ في ب: التكرار..
٣٩ صدر بيت من بحر بسيط، وعجزه:
ميتا وأبعدهم عن منزل الذَّام ***...
قاله عصام بن عبيد الزماني، وهو شاعر جاهلي، ونسبه الجاحظ إلى همام الرقاشي، وهو في البيان والتبيين ٢/٣١٦، ٣/٣٠٢، ٤/٨٥، المقرب (٣٩٤) الخزانة ٧/٤٧٣.
الذَّام: لغة في الذم ـ بتشديد الميم ـ وهو العيب. والشاهد فيه أن التكرير يفيد التكثير، إذ المراد: لو عدت القبور قبرا قبرا..

٤٠ الدر المصون ٥/٦٨..
٤١ المحتسب ٢/٧٦، البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٤٢ التبيان ٢/٣٩٦..
٤٣ البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٤٤ المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٤٥ البحر المحيط ٦/٣٥٩..
٤٦ تفسير ابن عطية ١٠/٢٤٦..
٤٧ في ب: إلا..
٤٨ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٢١..
٤٩ ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي..
٥٠ في ب: عليهم. وهو تحريف..

فصل


قال ابن عباس في رواية عطاء: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ يوحده، ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ ممن لا يوحده، وروي عنه أنه قال: ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ في الجنة. وهذه الرواية تؤكد أن قوله ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ مبتدأ وخبره محذوف. وقال آخرون الوقف على قوله ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس﴾ ثم استأنف بواو الاستئناف فقال: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾.
(وأما قوله تعالى ﴿وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب) ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم مكرماً لهم. ثم بين بقوله ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب.
قوله
تعالى
: ﴿هذان
خَصْمَانِ
اختصموا
فِي رَبِّهِمْ﴾
الآية. لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله، ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم. والخصم: في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالباً، وعليه قوله تعالى ﴿نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ﴾ [ص: ٢١].
ويجوز أن يثنى ويجمع ويؤنث، وعليه هذه الآية. ولما كان كل خصم فريقاً يجمع طائفة قال «اختصموا بصيغة الجمع كقوله: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا﴾ [الحجرات: ٩] فالجمع مراعاة للمعنى وقرأ ابن أبي عبلة» اختصما «مراعاة للفظ وهي مخالفة للسواد. وقال أبو البقاء: وأكثر الاستعمال توحيده فيمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء. و» اخْتَصَمُوا «إنما جمع حملاً على المعنى لأن كل خصم تحته أشخاص.
46
وقال الزمخشري: الخَصْم صفة وصف بها الفوج أو الفريق، فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، وقوله:» هَذَانِ «للفظ، و» اختَصَمُوا «للمعنى، كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ﴾ [محمد: ١٦]، ولو قيل: هؤلاء خصمان أو اختصما جاز أن يراد المؤمنون والكافرون. قال شهاب الدين: إن عنى بقوله: أن خصماً صفة بطريق الاستعمال المجازي فمسلم، لأن المصدر يكثر الوصف به، وإن أراد أنه صفة حقيقية فخطأه ظاهر لتصريحهم بأن نحو رجل خَصْم مثل رجل عَدْل، وقوله:» هذان «للفظ. أي: إنما أشير إليهم إشارة المثنى، وإن كان في الحقيقة المراد الجمع باعتبار لفظ الفوجين والفريقين ونحوهما. وقوله: كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ﴾ [محمد: ١٦] إلى آخره فيه نظر، لأن في تيك الآية تقدم شيء له لفظ ومعنى وهو» من «، وهنا لم يتقدم شيء له لفظ ومعنى.
وقوله تعالى: ﴿فِي رَبِّهِمْ﴾ أي: في دين ربهم، ، فلا بد من حذف مضاف أي جادلوا في دينه وأمره. وقرأ الكسائي في رواية عنه»
خصمان «بكسر الخاء. واحتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله: ﴿هذان خَصْمَانِ اختصموا﴾. وأجيب بأن المعنى جمع كما تقدم.

فصل


اختلفوا في تفسير الخَصْمَيْن، فقيل: المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم، وطائفة الكفار وجماعتهم، وأن كل الكفار يدخلون في ذلك، قال ابن عاس: رجع أهل الأديان الستة»
في رَبِّهِم «أي في ذاته وصفاته. وقيل: إنّ أهل الكتاب قالوا: نحن أحق بالله، وأقدم منكم كتاباً، ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تكتمونه، وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم. وقيل: هو ما روى قيس بن عباد عن أبي ذر الغفاري
47
أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن المغيرة.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله. وقال عكرمة: هما الجنة والنار. قالت النار: خلقني الله لعقوبته، وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقص الله على محمد خبرهما. والأقرب هو الأول؛ لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره.
وقوله: «هَذَانِ» كالإشارة إلى ما تقدم ذكره، وهم الأديان الستة المذكورون في قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ [الحج: ١٧].
وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب واليهود من حيث قالوا في نبيهم وكتابهم ما حكينا فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل على أن قوله: ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ [الحج: ١٧] أراد به الحكم، لأن ذلك التخاصم يقتضي أن الواقع بعده حكماً. فبين تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم ثلاثة أمور:
أحدها: قوله: ﴿فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ﴾، وهذه الجملة تفصيل وبيان لفصل الخصومة المعني بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ [الحج: ١٧] قاله الزمخشري.
وعلى هذا فيكون «هَذَانِ خَصْمَانِ» معترضاً، والجملة من «اخْتَصَمُوا» حالية وليست مؤكدة لأنها أخص من مطلق الخصومة المفهومة من «خَصْمَان» وقرأ الزعفراني في اختياره «قُطِعَتْ» مخفف الطاء، والقراءة المشهورة تفيد التكثير وهذه تحتمله. والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ [الأعراف: ٤١]، وقال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب. وقال بعضهم: يلبس أهل النار مقطعات من النار.
48
قوله: «يُصَبُّ» هذه الجملة تحتمل أن تكون خبراً ثانياً للموصول، وأن تكون حالاً من الضمير في «لَهُمْ»، وأن تكون مستأنفة. والحميم الماء الحار الذي انتهت حرارته، قال ابن عباس: لو قطرت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
قوله: «يُصْهَر» جملة حالية من الحميم، والصهر الإذابة، يقال: صَهَرْتُ الشحم، أي: أذبته، والصهارة الألية المذابة، وصهرته الشمس: أذابته بحرارتها، قال:
٣٧٥٣ - تَصْهَرُه الشَّمْسُ وَلاَ يَنْصَهِر... وسمي الصِّهْرُ صِهْراً لامتزاجه بأصهاره تخيلاً لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يُصَهِّر» بفتح الصاد وتشديد الهاء مبالغة وتكثيراً لذلك، والمعنى: أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء.
قوله: «والجُلُود» فيه وجهان:
أظهرهما: عطفه على «ما» الموصولة، أي: يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء، ويذاب أيضاً الجلود، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم.
والثاني: أنه مرفوع بفعل مقدر أي: يحرق الجلود.
قالوا: لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي بالنار، وهو في التقدير كقوله:
٣٧٥٤ - عَلَفْتُهَا تِبْناً (وَمَاءً بَارِداً)
49
٣٧٥٥ - وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا... ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩] فإنه على تقدير: وسقيتها ماء، وكحلن العيون، واعتقدوا الإيمان. قوله: «وَلَهُمْ مَقَامِعُ» يجوز في هذا الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «الذين كفروا»، وفي اللام حينئذ قولان:
أحدهما: أنها للاستحقاق. والثاني: أنها بمعنى (على) كقوله: «وَلَهُمُ اللَّعْنَة» وليس بشيء.
والوجه الثاني: أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم، ودل عليهم سياق الكلام، وفيه بعد. «مِنْ حَدِيد» صفة ل «مَقَامِعُ»، وهي مِقْمَعَة بكسر الميم، لأنها آلة القمع، يقال: قمعه يقمعه: إذا ضربه بشيء يزجره به، ويذله، والمقمعة: المطرقة، وقيل: السوط، أي: سياط من حديد، وفي الحديث «لَوْ وُضِعَتْ مِقْمَعَةٌ مِنْهَا في الأَرْضِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا الثَّقَلاَنِ (مَا أَقَلّوهَا) ».
قوله: «كُلَّمَا أَرَادُوا». «كُلّ» نصب على الظرف، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة، والعامل فيها هنا قوله: «أُعِيدُوا». و «مِنْ غَمٍّ» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه بدل من الضمير في «منها» بإعادة العمل بدل اشتمال كقوله:
50
﴿لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ﴾ [الزخرف: ٣٣]، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط، فقالوا: هو مقدر تقديره: من غمها.
والثاني: أنه مفعول له، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب. وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل، فإن فاعل الخروج غير فاعل الغم، فإن الغم من النار والخروج من الكفار. واعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج، والمعنى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن: أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضُرِبُوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً.
قوله: «وَذُوقُوا» منصوب بقول مقدر معطوف على «أُعِيدُوا» أي: وقيل لهم: ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾، أي: المُحْرِق مثل الأليم والوجيع. قال الزجاج: هو لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون: ﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾.
قوله: «يُحَلَّوْنَ» العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يُحَلِّيه إذا ألبسه الحليّ. وقرئ بسكون الحاء وفتح اللام مخففة، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة. قال أبو البقاء: من قولك: أُحْلي أي: أُلبس الحلي هو بمعنى المشدد.
وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة، وفيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من حَلِيَت المرأة تَحْلَى فهي حال، وكذلك حَلِيَ الرجل فهو حال، إذا لبسا الحلي (أو صارا ذوي حليّ).
51
الثاني: أنه من حَلِيَ بعيني كذا يحلى إذا استحسنه، و «من» مزيدة في قوله «من أساور» قال: فيكون المعنى: يستحسنون فيها الأساور الملبوسة ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال: وهذا ليس بجيد، لأنه جعل حلي فعلاً متعدياً، ولذلك حكم بزيادة (من) في الواجب، وليس مذهب البصريين، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازماً، فإن كان بهذا المعنى كانت «من» للسبب، أي بلباس أساور الذهب يُحَلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض.
وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء، وجوز في مفعول الفعل وجهاً آخر فقال: ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن، وتكون «من» مزيدة، أو يكون المفعول محذوفاً و «مِنْ أَسَاوِرَ» نعت له. فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين.
والثالث: أنه من حلي بكذا إذا ظفر به، فيكون التقدير: يُحَلَّوْنَ بأساور، و «من» بمعنى الباء، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم: لم يَحْلَ فلان بطائل أي: لم يظفر به.
واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما حلي بعيني كذا، فإنه من مادة الواو؛ لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
قوله: ﴿مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾. في من الأولى ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء، وإن لم يكن من أصول البصريين.
الثاني: أنها للتبعيض أي: بعض أساور.
الثالث: أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية، وبه بدأ وفيه نظر، إذ لم يتقدم شيء
52
مبهم وفي «مِنْ ذَهَبٍ» لابتداء الغاية، وهي نعت لأساور. كما تقدم.
وقرأ ابن عباس «مِنْ أسور» دون ألف ولا هاء، وهو محذوف من «أساور» كما قالوا: جندل والأصل جنادل. قال أبو حيان: وكان قياسه صرفه، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف. قال شهاب الدين: فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف، وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض، كهو في جوارٍ وغواشٍ وبابهما والأساور جمع سوار.
قوله: «ولُؤْلُؤاً» قرأ نافع وعاصم بالنصب، والباقون بالخفض. فأما النصب ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل تقديره: ويؤتون لؤلؤاً، ولم يذكر الزمخشري غيره، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل.
الثاني: أنه منصوب نسقاً على موضع «مِنْ أَسَاوِرَ» وهذا كتخريجهم «وَأَرْجُلَكُم» بالنصب عطفاً على محل «برؤوسكم»، ولأن ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ﴾ في قوة: يلبسون أساور، فحمل هذا عليه.
الثالث: أنه عطف على «أَسَاوِرَ»، لأن «من» مزيدة فيها كما تقدم.
الرابع: أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤاً ف «لُؤلُؤاً» عطف على الملبوس.
53
وأما الجر فعلى وجهين:
أحدهما: عطفه على «أَسَاوِر».
والثاني: عطفه على «مِنْ ذَهَب»، (لأنَّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضاً بنظم بعضه إلى بعض. فقد منع أبو البقاء أن يعطف على «ذَهَب» ). قال: لأنَّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة. قال شهاب الدين: بل قد يتخذ منه في العادة السوار.
واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ» بغير ألف بعد الواو. ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيهاً جارٍ في حرف فاطر أيضاً. وقرأ أبو بكر في رواية المعلى بن منصور عنه «لؤلؤاً» بواو أولاً وياء آخراً، والأصل «لؤلؤاً» أبدل الهمزتين واوين، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة.
54
وقرأ ابن عباس «وَليلياً» بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية في القلب وقرأ طلحة «وَلُولٍ» بالجرِ عطفاً على المجرور قبله، وقد تقدم، والأصل وَلُولُو بواوين ثم أعل إعلال أَدْلٍ. واللؤلؤ قيل: كبار الجوهر، وقيل: صغاره.
قوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا. قال عليه السلام «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرة، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه».
قوله: ﴿وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول﴾. يجوز أن يكون «من القول» حالاً من «الطيب»، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن فيه. و «من» للتبعيض أو للبيان.
قال ابن عباس: الطيب من القول: شهادة أن لا إله إلا الله، ويؤيد هذا قوله: ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ [إبراهيم: ٢٤] وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: ١٠]. وهو صراط الحميد، لقوله: ﴿وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢] وقال ابن زيد: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله. وقال السدي: هو القرآن. وقال ابن عباس في رواية عطاء: هو قول أهل الجنة: ﴿الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر: ٧٤]. ﴿وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد﴾ إلى
55
دين الله وهو الإسلام، و «الحميد» هو الله المحمود في أفعاله.
56
قوله :«يُصْهَر »١ جملة حالية من الحميم٢، والصهر٣ الإذابة، يقال : صَهَرْتُ الشحم، أي : أذبته، والصهارة الألية المذابة٤، وصهرته الشمس : أذابته بحرارتها، قال :
تَصْهَرُه الشَّمْسُ وَلاَ يَنْصَهِر٥ ***. . .
وسمي الصِّهْرُ صِهْراً لامتزاجه بأصهاره تخيلاً لشدة المخالطة. وقرأ الحسن في آخرين «يُصَهِّر » بفتح الصاد وتشديد الهاء٦ مبالغة وتكثيراً لذلك، والمعنى : أن الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم يذيب ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء ٧.
قوله :«والجُلُود » فيه وجهان :
أظهرهما : عطفه على «ما » الموصولة، أي : يذيب الذي في بطونهم من الأمعاء، ويذاب أيضاً الجلود، أي يذاب ظاهرهم وباطنهم٨.
والثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر أي : يحرق الجلود٩.
قالوا : لأن الجلد لا يذاب إنما ينقبض وينكمش إذا صلي١٠ بالنار، وهو في التقدير كقوله :
عَلَفْتُهَا تِبْناً ( وَمَاءً بَارِداً١١ )١٢ ***. . .
وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا١٣ ***. . .
﴿ والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان١٤ [ الحشر : ٩ ] فإنه على تقدير : وسقيتها ماء، وكحلن العيون، واعتقدوا الإيمان.
١ في ب: يصهر به..
٢ انظر التبيان ٢/٩٣٧..
٣ في ب: والضمير. وهو تحريف..
٤ اللسان (صهر) البحر المحيط ٦/٣٤٦..
٥ عجز بيت من بحر السريع قاله ابن أحمر يصف فرخ قطاة، وصدره:
تروي لقى ألقي في صفصف ***...
وهو في مجاز القرآن ٢/٤٨، المنصف ٣/٩٢، تفسير ابن عطية ١١/٢٤٩، القرطبي ١٢/٢٧ اللسان (صهر – لقى)، البحر المحيط ٦/٣٤٧..

٦ المختصر (٩٤) البحر المحيط ٦/٣٦٠، الإتحاف (٣١٤)..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٣..
٨ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/٩٤، البيان ٢/١٧١، البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٩ انظر البحر المحيط ٦/٣٦٠..
١٠ في ب: صل..
١١ صدر بيت من الرجز قاله ذو الرمة وعجزه:
حتى شتت همّالة عيناها ***...
وقد تقدم..

١٢ ما بين القوسين في ب: وما ردا..
١٣ عجز بيت من بحر الوافر الراعي النميري، وصدره:
إذا ما الغانيات برزن يوما ***...
وهو في الخصائص ٢/٤٣٢، الإنصاف ٢/٦١٠، المغني ٢/٣٥٧، شذور الذهب ٢٤٢، المقاصد النحوية ٣/٩١، ٤/١٩٣، شرح التصريح ١/٣٤٦، الهمع ٢/١٣٠، وشرح شواهد المغني ٢/٧٧٥، الأشموني ٢/١٤٠، حاشية يس على التصريح ١/٣٤٢، الدرر ٢/١٦٩..

١٤ [الحشر: ٩]..
قوله :«وَلَهُمْ مَقَامِعُ »١ يجوز في هذا الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على «الذين كفروا »، وفي اللام حينئذ قولان :
أحدهما : أنها للاستحقاق. والثاني : أنها بمعنى ( على ) كقوله :«وَلَهُمُ اللَّعْنَة »٢ وليس بشيء.
والوجه٣ الثاني : أن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم٤، ودل عليهم سياق الكلام، وفيه بعد. «مِنْ حَدِيد » صفة ل «مَقَامِعُ »، وهي مِقْمَعَة بكسر الميم، لأنها آلة القمع٥، يقال : قمعه يقمعه : إذا ضربه بشيء يزجره به، ويذله، والمقمعة : المطرقة، وقيل : السوط، أي : سياط من حديد، وفي الحديث «لَوْ وُضِعَتْ مِقْمَعَةٌ مِنْهَا في الأَرْضِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا الثَّقَلاَنِ ( مَا أَقَلّوهَا ) ٦ ٧.
١ في ب: ولهم مقامع من حديد..
٢ من قوله تعالى: ﴿يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار﴾ [غافر: ٥٢]..
٣ في الأصل: الوجه..
٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٥ وذلك أن (مفاعل) وزن يشبه (فعالل)، وهو جمع لكل ما بدئ بميم زائدة كأسماء المكان والزمان والآلة، وأمثلة المبالغة التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، نحو مهذار، ومعطير ومطعن، ومنشار، ومسجد، ومجلس. التبيان في تصريف الأسماء: (١٦١)..
٦ أخرجه ابن مردويه والحاكم وصححه البيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري. الدر المنثور ٤/٣٥٠..
٧ ما بين القوسين في ب: ما أقاموها..
قوله :«كُلَّمَا أَرَادُوا ». «كُلّ » نصب على الظرف، وتقدم الكلام في تحقيقها في البقرة١، والعامل فيها هنا قوله :«أُعِيدُوا »٢. و «مِنْ غَمٍّ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل من الضمير في «منها »٣ بإعادة العمل بدل اشتمال٤ كقوله :﴿ لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ٥ [ الزخرف : ٣٣ ]، ولكن لا بد في بدل الاشتمال من رابط، فقالوا : هو مقدر تقديره : من غمها ٦.
والثاني : أنه مفعول له٧، ولما نقص شرط من شروط النصب جر بحرف السبب٨. وذلك الشرط هو عدم اتحاد الفاعل، فإن فاعل الخروج غير فاعل الغم، فإن الغم من النار والخروج من الكفار٩. واعلم١٠ أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج، والمعنى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها. ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن : أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضُرِبُوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً ١١.
قوله :«وَذُوقُوا » منصوب بقول مقدر معطوف على «أُعِيدُوا » أي : وقيل لهم :﴿ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ﴾١٢، أي : المُحْرِق مثل الأليم والوجيع. قال الزجاج : هو لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون :﴿ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار١٣.
١ عند قوله تعالى: ﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه﴾ [البقرة: ٢٠]..
٢ انظر التبيان ٢/٩٣٧..
٣ في النسختين: فيها. والصواب ما أثبته..
٤ انظر البيان ٢/١٧٢، التبيان ٢/٩٣٧، البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٥ [الزخرف: ٣٣]. والاستدلال بالآية على أن قوله: "لبيوتهم" بدل من "لمن" بإعادة الجار، وهو بدل اشتمال البيان ٢/٣٥٣..
٦ انظر البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٧ انظر التبيان ٢/٩٣٧، البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٨ في ب: النسب. وهو تحريف..
٩ ذكرنا شروط المفعول له عند قوله تعالى: ﴿إلا تذكرة لمن يخشى﴾ [طه: ٣]..
١٠ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٢٣..
١١ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٢٣..
١٢ انظر البيان ٢/١٧٢، التبيان ٢/٩٣٧..
١٣ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤١٩..
قوله :«يُحَلَّوْنَ » العامة على ضم الياء وفتح اللام مشددة من حلاه يُحَلِّيه إذا ألبسه الحليّ١. وقرئ بسكون الحاء وفتح اللام مخففة٢، وهو بمعنى الأول كأنهم عدوه تارة بالتضعيف وتارة بالهمزة. قال أبو البقاء : من قولك : أُحْلي أي : أُلبس الحلي٣ هو بمعنى المشدد.
وقرأ ابن عباس بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة٤، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه من حَلِيَت المرأة تَحْلَى فهي حال، وكذلك حَلِيَ الرجل فهو حال، إذا لبسا الحلي ( أو صارا ذوي حليّ٥ )٦.
الثاني : أنه من حَلِيَ بعيني كذا يحلى إذا استحسنه، و «من » مزيدة في قوله «من أساور » قال٧ : فيكون المعنى : يستحسنون فيها الأساور الملبوسة٨ ولما نقل أبو حيان هذا الوجه عن أبي الفضل الرازي قال : وهذا ليس بجيد، لأنه جعل حلي٩ فعلاً متعدياً، ولذلك حكم بزيادة ( من ) في الواجب، وليس مذهب البصريين١٠، وينبغي على هذا التقدير أن لا يجوز، لأنه لا يحفظ بهذا المعنى إلا لازماً، فإن كان بهذا المعنى كانت «من » للسبب، أي بلباس أساور الذهب يُحَلّون بعين من رآهم أي يحلى بعضهم بعين بعض ١١.
وهذا الذي نقله عن أبي الفضل قاله أبو البقاء، وجوز في مفعول الفعل وجهاً آخر فقال : ويجوز أن يكون من حلي بعيني كذا إذا حسن، وتكون «من » مزيدة، أو يكون المفعول محذوفاً و «مِنْ أَسَاوِرَ » نعت له١٢. فقد حكم عليه بالتعدي ليس إلا، وجوز في المفعول الوجهين المذكورين١٣.
والثالث : أنه من حلي بكذا إذا ظفر به، فيكون التقدير : يُحَلَّوْنَ بأساور، و «من » بمعنى الباء١٤، ومن مجيء حلي بمعنى ظفر قولهم : لم يَحْلَ فلان بطائل أي : لم يظفر به١٥.
واعلم أن حلي بمعنى لبس الحلي١٦ أو بمعنى ظفر من مادة الياء لأنها من الحلية وأما١٧ حلي بعيني كذا، فإنه من مادة الواو ؛ لأنه من الحلاوة، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ١٨.
قوله :﴿ مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾. في من الأولى ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها زائدة كما تقدم تقريره عن الرازي وأبي البقاء، وإن لم يكن من أصول البصريين١٩.
الثاني : أنها للتبعيض أي : بعض أساور.
الثالث : أنها لبيان الجنس قاله ابن عطية، وبه بدأ٢٠ وفيه نظر، إذ لم يتقدم شيء مبهم٢١ وفي «مِنْ ذَهَبٍ » لابتداء الغاية، وهي نعت لأساور٢٢. كما تقدم.
وقرأ ابن عباس «مِنْ أسور » دون ألف ولا هاء٢٣، وهو محذوف من «أساور » كما قالوا : جندل والأصل جنادل. قال أبو حيان : وكان قياسه صرفه، لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنعه الصرف٢٤. قال شهاب الدين : فقد جعل التنوين في جندل المقصور من جنادل تنوين صرف٢٥، وقد نصَّ بعض النحاة على أنه تنوين عوض٢٦، كهو في جوارٍ وغواشٍ وبابهما٢٧ والأساور جمع سوار.
قوله :«ولُؤْلُؤاً »٢٨ قرأ نافع وعاصم بالنصب، والباقون بالخفض٢٩. فأما النصب ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار فعل تقديره : ويؤتون لؤلؤاً، ولم يذكر الزمخشري غيره٣٠، وكذا أبو الفتح حمله على إضمار فعل٣١.
الثاني : أنه منصوب نسقاً على موضع «مِنْ أَسَاوِرَ » وهذا كتخريجهم «وَأَرْجُلَكُم » بالنصب عطفاً على محل «برؤوسكم »٣٢، ولأن ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ ﴾ في قوة : يلبسون أساور، فحمل هذا عليه ٣٣.
الثالث : أنه عطف على «أَسَاوِرَ »، لأن «من » مزيدة فيها كما تقدم.
الرابع : أنه معطوف على ذلك المفعول المحذوف، التقدير يحلون فيها الملبوس من أساور ولؤلؤاً ف «لُؤلُؤاً »٣٤ عطف على الملبوس.
وأما الجر فعلى وجهين :
أحدهما : عطفه على «أَسَاوِر »٣٥.
والثاني : عطفه على «مِنْ ذَهَب »، ( لأنَّ السوار يتخذ من اللؤلؤ أيضاً بنظم بعضه إلى بعض٣٦. فقد منع أبو البقاء أن يعطف على «ذَهَب »٣٧ ). قال : لأنَّ السوار لا يكون من اللؤلؤ في العادة٣٨. قال شهاب الدين : بل قد يتخذ منه في العادة السوار ٣٩.
واختلف الناس في رسم هذه اللفظة في الإمام فنقل الأصمعي أنها في الإمام «لؤلؤ » بغير ألف بعد الواو٤٠. ونقل الجحدري أنها ثابتة في الإمام بعد الواو٤١ وهذا الخلاف بعينه قراءة وتوجيهاً جارٍ٤٢ في حرف فاطر أيضاً٤٣. وقرأ أبو بكر في رواية المعلى٤٤ بن منصور٤٥ عنه «لؤلؤاً » بهمزة أولا وواو آخرا وفي رواية يحيى عنه عكس ذلك٤٦.
وقرأ الفياض٤٧ " ولوليا " بواو أولاً وياء آخراً٤٨، والأصل «لؤلؤاً » أبدل الهمزتين واوين، فبقي في آخر الاسم واو بعد ضمة، ففعل فيها ما فعل بأدل جمع دلو بأن قلبت الواو ياء والضمة كسرة ٤٩.
وقرأ ابن عباس «وَليلياً » بياءين فعل ما فعل الفياض ثم أتبع الواو الأولى للثانية٥٠ في القلب٥١ وقرأ طلحة «وَلُولٍ »٥٢ بالجرِ عطفاً على المجرور قبله٥٣، وقد تقدم٥٤، والأصل وَلُولُو٥٥ بواوين ثم أعل إعلال أَدْلٍ٥٦. واللؤلؤ قيل : كبار الجوهر، وقيل : صغاره ٥٧.
قوله :﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ أي أنهم يلبسون في الجنة ثياب الإبريسم والمعنى أنه تعالى يوصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم٥٨ في الدنيا. قال عليه السلام٥٩ «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ في الآخرة، فإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه » ٦٠.
١ انظر التبيان ٢/٩٣٨، البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٢ المرجعان السابقان..
٣ التبيان ٢/٩٣٨..
٤ المختصر ٩٤ – ٩٥، المحتسب ٢/٧٧ البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٥ انظر التبيان ٢/٩٣٨، البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٦ ما بين القوسين في ب: وصار ذوا حلي..
٧ أي أبو الفضل الرازي. البحر المحيط ٦/٣٦٠..
٨ في الأصل: ملبوسة..
٩ حلي: سقط من ب..
١٠ والأخفش والكوفيون يجوزون زيادة (من) في الواجب..
١١ البحر المحيط ٦/٣٦١..
١٢ التبيان ٢/٩٣٨..
١٣ وهما كون "من" مزيدة في المفعول وهذا الوجه غير جائز على مذهب البصريين، لأن "من" لا تكون مزيدة عندهم في الواجب، وكون المفعول محذوفا..
١٤ قاله أبو الفضل الرازي البحر المحيط ٦/٣٦١..
١٥ اللسان (حلا)..
١٦ في ب: الحلية..
١٧ في الأصل: وما..
١٨ انظر المحتسب ٢/٧٧، اللسان (حلا)..
١٩ عند توجيه قراءة ابن عباس لقوله تعالى: ﴿يحلون﴾ بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام مخففة..
٢٠ فإنه قال: ("ومن" في قوله تعالى: ﴿من أساور﴾ هي لبيان الجنس ويحتمل أن تكون للتبعيض) تفسير ابن عطية ١٠/٢٥١..
٢١ في ب: منهم. وهو تحريف..
٢٢ في الأصل: ومن نعت الأساور. وهو تحريف..
٢٣ البحر المحيط ٦/٣٦١..
٢٤ المرجع السابق..
٢٥ في ب: تنوين من الصرف. وهو تحريف..
٢٦ قال سيبويه: (ويقول بعضهم: جندل وذلذل، يحذف ألف جنادل وذلاذل، وينونون يجعلونه عوضا من هذا المحذوف) الكتاب ٣/٢٢٨..
٢٧ الدر المصون ٥/٦٩..
٢٨ في الأصل: لؤلؤ..
٢٩ السبعة (٤٣٥) الكشف ٢/١١٧ – ١١٨، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف ٣١٤..
٣٠ قال الزمخشري: ("ولؤلؤا" بالنصب على ويؤتون لؤلؤا) الكشاف ٣/٢٩..
٣١ قال ابن جنى: (هو محمول على فعل يدل عليه قوله: "يحلون فيها من أساور" أي: يؤتون لؤلؤا، ويلبسون لؤلؤا) المحتسب ٢/٧٨، وانظر أيضا البيان ٢/١٧٢، التبيان ٢/٩٣٨..
٣٢ من قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين﴾ [المائدة : ٦]. وقرأ بنصب "وأرجلكم" نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم. السبعة (٢٤٢ -٢٤٣)..
٣٣ انظر البيان ٢/١٧٢، التبيان ٢/٩٣٨، البحر المحيط ٦/٣٦١، الإتحاف (٣١٤)..
٣٤ في ب: "لؤلؤ"..
٣٥ انظر الكشف ٢/١١٨، التبيان ٢/٩٣٨، البحر المحيط ٦/٣٦١، الإتحاف (٣١٤)..
٣٦ انظر البيان ٢/١٧٢، البحر المحيط ٦/٣٦١..
٣٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٣٨ التبيان ٢/٩٣٨..
٣٩ الدر المصون: ٥/٦٩..
٤٠ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٥٢، البحر المحيط ٦/٣٦١..
٤١ المرجعان السابقان..
٤٢ في ب: جاز..
٤٣ وهو قوله تعالى: ﴿جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير﴾ [فاطر: ٣٣] السبعة (٥٣٤ – ٥٣٥)..
٤٤ وفي ب بعد قوله: في رواية المعلى: قال البغوي: واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أثبتوها كما أثبتوا في قالوا وكانوا، وقال الكسائي: أثبتوها للهمزة لأن الهمزة حرف من الحروف..
٤٥ هو معلى بن منصور الحنفي الرازي، أبو يعلى الحافظ الفقيه، عن مالك والليث وغيرهما، وعنه عبد الله بن أبي شيبة وابن المديني وغيرهما، مات سنة ٢٢٣ هـ، خلاصة تذهيب الكمال ٣/٤٦..
٤٦ السبعة (٤٣٥) تفسير ابن عطية ١٠/٢٥٢ البحر المحيط ٦/٣٦١..
٤٧ لعله فياض بن غزوان الضبي الكوفي. وقد تقدم..
٤٨ المختصر (٩٥) البحر المحيط ٦/٣٦١..
٤٩ وذلك أن أصل: لوليا "لؤلؤا" فقلبت الهمزة الأولى والثانية واوا، لأن الهمزة إذا كانت ساكنة أو مفتوحة وقبلها مضموم فأردت أن تخفف أبدلت مكانها واوا، كقولك في الجؤنة، والبوس: الجونة والبوس، وفي الجؤن جون. ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة؛ لأنه ليس في العربية اسم معرب آخره واو قبلها ضمة أصلية، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء وذلك كما قلبت الواو في (أدل) جمع (دلو) ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة فإن أصل (أدل) أدلو، ثم قلبت الضمة كسرة، ثم أعل (أدلي) إعلال قاض، فصار (أدل). الكتاب ٣/٥٤٣، شرح الملوكي ٤٦٧ – ٤٧١..
٥٠ في ب: الثانية..
٥١ المختصر (٩٥) البحر المحيط ٦/٣٦١..
٥٢ في ب: ولو. وهو تحريف..
٥٣ البحر المحيط ٦/٣٦١..
٥٤ عند توجيه قراءة من قرأ من الجمهور بالخفض..
٥٥ في ب: ولولوا. وهو تحريف..
٥٦ أي: أن أصل (ولول) "لؤلؤ" فقلبت الهمزتان واوا، لما تقدم عند توجيهه قراءة الفياض، ثم قلبت الواو الثانية ياء لوقوعها متطرفة إثر ضمة، ثم قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء، فاستثقل اجتماع التنوين مع الياء فحذفت الياء، فصار (ولول) كما في أدل جمه دلو..
٥٧ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٥٢..
٥٨ عليهم: سقط من ب..
٥٩ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٦٠ أخرجه البخاري (لباس) ٤/٣١، مسلم (لباس) ٣/١٦٤١ – ١٦٤٢ – ١٦٤٥، الترمذي (أدب) ٥/١٢٢، ابن ماجه (لباس) ٢/١١٨٧، أحمد ١/ ٢٠، ٢٦، ٣٧، ٣٩، ٢/١٦٦، ٣/٢٣، ١٠١، ٢٨١، ٤/٥، ١٥٦..
قوله :﴿ وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول ﴾. يجوز أن يكون «من القول » حالاً من «الطيب »، وأن يكون حالاً من الضمير المستكن فيه١. و «من » للتبعيض أو للبيان.
قال ابن عباس٢ : الطيب من القول : شهادة أن لا إله إلا الله، ويؤيد هذا قوله :﴿ مَثَلاً٣ كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾٤ [ إبراهيم : ٢٤ ] وقوله :﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب ﴾٥ [ فاطر : ١٠ ]. وهو صراط الحميد، لقوله :﴿ وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾٦ [ الشورى : ٥٢ ] وقال ابن زيد : لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله. وقال السدي : هو القرآن. وقال ابن عباس في رواية عطاء : هو قول أهل الجنة :﴿ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾٧ [ الزمر : ٧٤ ]. ﴿ وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد ﴾ إلى دين الله وهو الإسلام، و «الحميد » هو الله المحمود في أفعاله٨.
١ انظر التبيان ٢/٩٣٨..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٦٨..
٣ في النسختين: مثل. وهو تحريف..
٤ من قوله تعالى: ﴿ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء﴾ [إبراهيم: ٢٤]..
٥ من قوله تعالى: ﴿من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه﴾ [فاطر: ١٠]..
٦ [الشورى: ٥٢]..
٧ [الزمر: ٧٤]..
٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٦٨..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ الآية. لما فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت، وعظم كفر هؤلاء فقال ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام﴾ وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد.
قال ابن عباس: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عام الحديبية عن المسجد الحرام وعن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهَدْي، فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالهم وهو محرم، ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل.
قوله: «وَيَصدُّونَ» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه معطوف على ما قبله، وحينئذ ففي عطفه على الماضي ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنّ المضارع قد لا يقصد به الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يُراد به مجرد الاستمرار، فكأنه قيل: إن الذين كفروا ومن شأنهم الصدّ عن سبيل الله، ومثله: ﴿الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله﴾ [الرعد: ٢٨].
الثاني: أنه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي.
الثالث: أنه على بابه فإن الماضي قبله مؤول بالمستقبل.
الوجه الثاني: أنه حال من فاعل «كَفَرُوا»، وبه بدأ أبو البقاء. وهو فاسد ظاهراً، لأنه مضارع مثبت وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول، فلا يحمل عليه القرآن. وعلى هذين القولين فالخبر محذوف، واختلفوا
56
في موضع تقديره، فقدره ابن عطية بعد قوله: «وَالبَادِ» أي: إن الذين كفروا خسروا أو أهلكوا، ونحو ذلك.
وقدره الزمخشري بعد قوله: «وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ» أي إن الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم، وإنما قدره كذلك؛ لأن قوله: ﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ يدل عليه. إلا أن أبا حيان في تقدير الزمخشري بعد «المَسْجِدِ الحَرَامِ» : لا يصح، قال: لأن «الَّذِي» صفة للمسجد الحرام، فموضع التقدير هو بعد «وَالْبَادِ». يعني أنه يلزم من تقديره الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو خبر «إنَّ» فيصير التركيب: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم الذي جعلناه للناس.
وللزمخشري أن ينفصل عن هذا الاعتراض بأن «الَّذِي جَعَلْنَاه» لا نسلم أنه نعت للمسجد حتى يلزم ما ذكر بل نجعله مقطوعاً عنه نصباً أو رفعاً. ثم قال أبو حيان: لكن مقدر الزمخشري أحسن من مقدر ابن عطية، لأنه يدل عليه الجملة الشرطية بعد من جهة اللفظ وابن عطية لحظ من جهة المعنى لأن من أذيق العذاب خسر وهلك.
الوجه الثالث: أن الواو في «وَيَصُدُّونَ» مزيدة في خبر «إنَّ» تقديره: إن الذين كفروا (يصدون).
وزيادة الواو مذهب كوفي تقدم بطلانه. وقال ابن عطية: وهذا مفسد للمعنى المقصود. قال شهاب الدين: ولا أدري فساد المعنى من أي جهة ألا ترى لو صرح بقولنا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ) لم يكن فيه فساد معنى، فالمانع إنما هو أمر صناعي عند أهل البصرة لا معنوي، اللهم إلا أن يريد معنى خاصاً يفسد بهذا التقدير فيحتاج إلى بيانه.
قوله: «الَّذِي جَعَلْنَاهُ» يجوز جره على النعت والبيان، والنصب بإضمار فعل،
57
والرفع بإضمار مبتدأ. والجعل يجوز أن يتعدى لاثنين بمعنى صيّر، وأن يتعدى لواحد. والعامة على رفع «سواء». وقرأ حفص عن عاصم بالنصب هنا، وفي الجاثية «سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ» وافقه على الذي في الجاثية الأخوان وسيأتي توجيهه. فأما على قراءة الرفع، فإِن قلنا: إنَّ «جَعَلَ» بمعنى (صير) كان في المفعول الثاني ثلاثة أوجه:
أظهرها: أن الجملة من قوله: ﴿سَوَآءً العاكف فِيهِ﴾ هي المفعول الثاني، ثم الأحسن في رفع «سَوَاءٌ» أن يكون خبراً مقدماً، و «العاكف»، والبادي مبتدأ مؤخر، وإنما وَحَّد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين، لأنَّ «سَواءٌ» في الأصل مصدر وصف به، وقد تقدم أول البقرة. وأجاز بعضهم أن يكون «سَوَاءٌ» مبتدأ، وما بعده الخبر، وفيه ضعف أو منع من حيث الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، ولأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت المعرفة المبتدأ. وعلى هذا الوجه أعني كون الجملة مفعولاً ثانياً فقوله: «للنَّاس» يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بالجعل، أي: جعلناه لأجل الناس كذا.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حالٌ من مفعول «جَعَلْنَاهُ»، ولم يذكر أبو البقاء فيه على هذا الوجه غير ذلك، وليس معناه متضحاً.
الوجه الثاني: أنَّ «لِلنَّاسِ» هو المفعول الثاني، والجملة من قوله: «سَوَاءٌ العَاكِفُ» في محل نصب على الحال، إما من الموصول وإما من عائده وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنه جعل هذه الجملة التي هي محطّ الفائدة فضلة.
58
الوجه الثالث: أن المفعول الثاني محذوف. قال ابن عطية: المعنى الذي جعلناه للناس قبلة ومتعبداً. فتقدير ابن عطية هذا مرشد لهذا الوجه. إلا أن أبا حيان قال: ولا يحتاج إلى هذا التقدير إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا الإعراب فيسوغ؛ لأن الجملة في موضع المفعول الثاني، فلا يحتاج إلى هذا التقدير وإن جعلناها متعدية لواحد كان قوله: «لِلنَّاسِ» متعلقاً بالجعل على الغلبة وجوَّز فيه أبو البقاء وجهين آخرين:
أحدهما: أنه حال من مفعول «جَعَلْنَاهُ».
والثاني: أنه مفعول تعدى إليه بحرف الجر.
وهذا الثاني لا يتعقل كيف يكون «لِلنَّاسِ» مفعولاً عدي إليه الفعل بالحرف هذا ما لا يعقل، فإن أراد أنه مفعول من أجله فهي عبارة بعيدة من عبارة النحاة. وأما على قراءة حفص فإن قلنا: «جَعَلَ» يتعدى لاثنين كان «سواء» مفعولاً ثانياً. وإن قلنا: يتعدى لواحد كان حالاً من هاء «جَعَلْنَاهُ» وعلى التقديرين ف «العَاكِفُ» مرفوع به على الفاعلية؛ لأنه مصدر وصف به، فهو في قوة اسم الفاعل المشتق، تقديره: جعلناه مستوياً فيه العاكف، ويدل عليه قولهم: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٍ هُوَ وَالعَدَمُ، فهو تأكيد للضمير المستتر فيه، والعدم نسق على الضمير المستتر؛ ولذلك ارتفع، ويروى: سَوَاءٍ وَالعَدَمُ؛ بدون تأكيد وهو شاذ وقرأ الأعمش وجماعة «سَوَاء» نصباً «العَاكِف» جرًّا، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من الناس بدل تفصيل.
59
والثاني: أنه عطف بيان، فهذا أراد ابن عطية بقوله: عطفاً على الناس.
ويمتنع في هذه القراءة رفع «سَوَاءٌ» لفساده صناعة ومعنى، ولذلك قال أبو البقاء: و «سَوَاء» على هذا نصب لا غير. وأثبت ابن كثير ياء «وَالبَادِي» وقفاً ووصلاً. وأثبتها أبو عمرو وورش وصلاً وحذفاها وقفاً. وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، وهي محذوفة في الإمام.

فصل


معنى الكلام: ويصدون عن المسجد الحرام الذي جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً كما قال: «وُضِعَ لِلنَّاسِ» وتقدم الكلام على معنى «سَوَاء» باختلاف القراءة.
وأراد ب «العَاكِف» المقيم فيه، و «البَادِي» الطارئ من البدو، وهو النازع إليه من غربته. وقال بعضهم: يدخل في «العَاكِف» الغريب إذا جاور ولزمه كالبعيد وإن لم يكن من أهله. واختلفوا في معنى «سَوَاء» فقال ابن عباس في بعض الروايات: إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها، فليس أحدهما أحق بالنزول الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون أحدهما سبق إلى المنزل، وهو قول قتادة وسعيد بن جبير، ومن مذهب هؤلاء تحريم كراء دور مكة وبيعها، واستدلوا بالآية والخبر أما الآية فهذه، قالوا: إن أرض مكة لا تملك، فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والباد، فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد. وأما الخبر فقوله عليه السلام: «مكة مناخ لمن سبق إليه»
60
وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبي حنفية وإسحاق الحنظلي.
وقال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق بمنزله منهم. وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا فالمراد ب «المَسْجِدِ الحَرَامِ» الحرم كله؛ لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام وإرادة البلد الحرام جائز لقوله تعالى
﴿سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام﴾ [الإسراء: ١]. وأيضاً فقوله: «العَاكِفُ» المراد منه المقيم، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل. وقيل: ﴿سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد﴾ في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة، أي ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس، قال عليه السلام: «يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلب من وُلِّي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صَلّى أية ساعة من ليل أو نهار» وهذا قول من أجاز بيع دور مكة.
وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخِّص في كراء بيوت مكة، فاحتج الشافعي بقوله تعالى: ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم﴾ [الحج: ٤٠]. فأضاف الديار إلى مالكيها أو إلى غير مالكيها. وقال عليه السلام يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن»، وقوله عليه السلام: «هل ترك لنا عقيل من رباع» وقد اشترى عمر بن الخطاب دار السجن، أترى أنه اشتراها من مالكيها أو من غير مالكيها.
61
قال إسحاق: فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي. والقول بجواز بيع دور مكة وإجارتها قول طاوس وعمرو بن دينار وبه قال الشافعي.
قوله: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن مفعول «يُرِدْ» محذوف، وقوله: «بإلحَادٍ بظُلمٍ» حالان مترادفان، والتقدير: ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب إليم. وإنما حذف ليتناول كل متناول، قال معناه الزمخشري.
والثاني: أنّ المفعول أيضاً محذوف تقديره: ومن يرد فيه تَعَدِّيا، و «بإلحاد» حال، أي: ملتبساً بإلحاد، و «بِظُلْمٍ» بدل بإعادة الجار.
الثالث: أن يكون «بظلم» متعلقاً ب «يُرِدْ» والباء للسببية، أي: بسبب الظلم و «بإلحَادٍ» مفعول به، والباء مزيدة فيه كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥].
٣٧٥٦ - لاَ يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ... وإليه ذهب أبو عبيدة، وأنشد للأعشى:
٣٧٥٧ - ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالنَا أَرْمَاحُنَا...
62
أي: ضمنت رزق. ويؤيده قراءة الحسن: ﴿وَمَنْ يُرِدْ إلحَادَهُ بِظُلْمٍ﴾.
قال الزمخشري: أراد إلحاده فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف ك «مَكْرُ اللَّيْلِ» ومعناه: ومن يرد أن يلحد فيه ظالماً.
الرابع: أن تضمن «يُرِدْ» معنى يلتبس فذلك تعدى بالباء، أي: ومن يلتبس بإلحاد مريداً له. والعامة على «يُرِد» بضم الياء من الإرادة. وحكى الكسائي والفراء أنه قرئ «يَرد» بفتح الياء، قال الزمخشري: من الورود ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالماً.

فصل


الإلحاد: العدول عن القصد، وأصله إلحاد الحافر. واختلف المفسرون فيه، فقيل: إنه الشرك، أي مَن لجأ إلى الحرم ليشرك به عَذّبه الله، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس، وهو قول مجاهد وقتادة.
وروي عن ابن عباس هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم من لا يظلمك. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سعد حيث استسلمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فارتد مشركاً، وفي قيس بن (ضبابة). وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن خطل حيث قتل الأنصاريّ وهرب إلى مكة كافراً، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقتله يوم الفتح. وقال مجاهد: تضاعَفُ السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات.
63
وعن سعيد بن جبير وحبيب بن أبي ثابت: هو احتكار الطعام بمكة. وعن عطاء هو قول الرجل في المبايعة: لا والله وبلى والله. وعن عبد الله بن عمر: أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له في ذلك فقال: كنا نُحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله، وبلى والله.
وعن عطاء: هو دخول الحرم غير محرم وارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر. ولما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بيَّن تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم فلهذا قرن الظلم بالإلحاد؛ لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣].
وقوله: ﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ بيان للوعيد.
64
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت﴾ الآية. أي؛ اذكر حين، واللام في «لإبراهيم» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها للعلة، ويكون مفعول «بَوَّأْنا» محذوفاً، أي: بوأنا الناس لأجل إبراهيم مكان البيت، و «بَوَّأَ» جاء متعدياً صريحاً قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني
64
إِسْرَائِيلَ} [يونس: ٩٣] ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً﴾ [العنكبوت: ٥٨]، وقال الشاعر:
٣٧٥٨ - كَمْ صَاحِبٍ لِي صَالِحٍ بَوَّأْتُه بِيَدَيَّ لَحْدا
والثاني: أنها مزيدة في المفعول به، وهو ضعيف لما تقرر أنها لا تزاد إلا بعد تقدم معمول أو كان العامل فرعاً.
الثالث: أن تكون معدية للفعل على أنه مضمن معنى فعل يتعدى بها، أي؛ هيأنا له مكان البيت، كقولك: هيأت له بيتاً، فتكون اللام معدية قال معناه أبو البقاء.
وقال الزمخشري: واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة ففسر المعنى بأنه ضمن «بَوأْنا» معنى (جعلنا)، ولا يريد تفسير الإعراب. وفي «مكان البيت» وجهان:
أظهرهما: أنه مفعول به.
والثاني: قال أبو البقاء: أن يكون ظرفاً. وهو ممتنع من حيث إنه ظرف مختص فحقه أن يتعدى إليه ب (في).

فصل


روي أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات:
أحدها: بناء الملائكة قبل آدم، وكانت من ياقوتة حمراء، ثم رفعت إلى السماء أيام الطوفان.
والثانية: بناء إبراهيم - عليه السلام -.
والثالثة: بناء قريش في الجاهلية، وقد حضر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا البناء.
65
والرابعة: بناء ابن الزبير.
والخامسة: بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم.
«وروى أبو ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال:» المسجد الحرام «.
قال: ثم قلت: أي؟ قال:»
المسجد الأقصى «. قلت: كم بينهما؟ قال:» أربعون سنة «والمسجد الأقصى أسسه يعقوب - عليه السلام - وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بعثَ اللَّهُ جبريلَ عليه السلام إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا ليَ بيتاً، فخطّ لهما جبريل فجعل آدمُ يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته: حسبك يا آدم. فلما بنياه أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه «روي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - أن ابنِ لي بيتاً في الأرض، فضاق به زرعاً، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج لها رأس، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت، ثم تطوقت في موضع البيت تطوُّق الحية، فبنى إبراهيم حتى إذا بلغ مكان الحجر، قال لابنه: ابغني حجراً، فالتمس حجراً حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال لأبيه: من أين لك هذا؟ قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه، قال: فمرّ عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يومئذ رجل شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أول من خرج، فقضى بينهم أن يجعلوه في مربط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم، فرفعوه، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فوضعه، وكانوا يدعونه الأمين.
قال موسى بن عقبة: كان بناء
66
الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة. قال ابن إسحاق: كانت الكعبة على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثماني عشرة ذراعاً، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
وأما المسجد الحرام فأول من أخر بنيان البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دوراً وزادها فيه، فلما وُلّي ابن الزبير أحكم بنيانه وأكثر أبوابه وحسن جدرانه، ولم يوسعه شيئاً آخر، فلما استوى الأمر إلى عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج، وتولى ذلك بأمره الحجاج.
وروي أن الله تعالى لما أمر إبراهيم - عليه السلام - ببناء البيت لم يدر أين يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكشفت ما حول البيت عن الأساس. وقال الكلبي: بعث الله سحابة بقدر البيت، فقامت بحيال البيت فيها رأس يتكلم وله لسان وعينان يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي، فبنى عليه.
قوله: ﴿أَن لاَّ تُشْرِكْ﴾ في «أَنْ» هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها هي المفسرة. قال الزمخشري بعد أن ذكر هذا الوجه: فإن قلت: كيف يكون النهي عن الشرك، والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئِة. قلت: كانت التبوئة مقصودة من أجل العبادة، وكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا لا تشرك. يعني الزمخشري أن «أن» المفسرة لابد أن يتقدمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ولم يتقدم
67
إلا لتبوئة وليست بمعنى القول فضمنها معنى القول، ولا يريد بقوله: قلنا: لا تشرك. تفسير الإعراب بل تفسير المعنى، لأن المفسرة لا تفسر القول الصريح.
الثاني: أنها المخففة من الثقيلة. قاله ابن عطية. وفيه نظر من حيث إن (أن) المخففة لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة.
الثالث: أنها المصدرية التي تنصب المضارع، وهي توصل بالماضي والمضارع والأمر، والنهي كالأمر، وعلى هذا ف «أن» مجرورة بلام العلة مقدرة أي: بوأناه لئلا تشرك، وكان من حق اللفظ على هذا الوجه أن يكون «أن لا يشرك» بياء الغيبة، وقد قرئ بذلك، قاله أبو البقاء: وقوى ذلك قراءة من قرأة بالياء.
يعني من تحت. ووجه قراءة العامة على هذا التخريج أن يكون من الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
الرابع: أنها الناصبة ومجرورة بلام أيضاً، إلا أن اللام متعلقة بمحذوف، أي: فعلنا ذلك لئلا تشرك، فجعل النهي صلة لها، وقَوَّى ذلك قراءة الياء قاله أبو البقاء. والأصل عدم التقدير مع عدم الاحتياج إليه. وقرأ عكرمة وأبو نهيك ﴿أن لا يشرك﴾ بالياء.
قال أبو حيان: على معنى أن يقول معنى القول الذي قيل له. وقال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة بمعنى: لئلا يُشْرِكَ. قال شهاب الدين: كأنه لم يظهر له صلة (أَنْ) المصدرية بجملة النهي؛ فجعل (لاَ) نافية، وسلّط (أَنْ) على
68
المضارع بعدها حتى صار علة للفعل قبله، وهذا غير لازم لما تقدم من وضوح المعنى مع جعلها ناهية.

فصل


وههنا سؤالات:
الأول: إذا قلنا: أنّ (أَنْ) هي المفسرة: فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسيراً للتبوئة؟
والجواب: أنه سبحانه لما قال: جعلنا البيت مرجعاً لإبراهيم، فكأنه قيل: ما معنى كون البيت مرجعاً له، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحداً لرب البيت عن الشريك والنظير مشتغلاً بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.
السؤال الثاني: أن إبراهيم - عليه السلام - لما لم يشرك بالله فيكف قيل: ﴿لاَّ تُشْرِكْ بِي﴾ ؟
والجواب: المعنى: لا تجعل في العبادة لي شريكاً، ولا تشرك بي غرضاً آخر في بناء البيت.
السؤال الثالث: أنَّ البيت ما كان معموراً قبل ذلك فكيف قال: «وَطَهِّرْ بَيتِي».
والجواب: لعل ذلك المكان كان صحراء فكانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم ببناء ذلك البيت في ذلك المكان وتطهيره عن الأقذار، أو كانت معمورة وكانوا وضعوا فيها أصناماً، فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد، فذلك هو التطهير عن الأوثان، أو يكون المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك.
وقوله: «لِلطَّائِفينَ» قال ابن عباس: للطائفين بالبيت من غير أهل مكة «والقائمين» أي: المقيمين فيها، «والرُّكَّع السُّجُود» أي: المصلين من الكل، وقيل: القائمون هم المصلون.
قوله: ﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج﴾. قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى (ناد).
69
وقرأ الحسن وابن محيصن «آذن» بالمد والتخفيف بمعنى أعلم. ويبعده قوله: «فِي النّاس» إذ كان ينبغي أن يتعدى بنفسه. ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على «بَوَّأْنَا» أي: واذكر إذ بوأنا وإذ أُذن في الناس، وهي تخريج وضاح.
وزاد صاحب اللوامح فقال: فيصير في الكلام تقديم وتأخير ويصير «يأتوك» جزماً على جواب الأمر في «وَطهِّر». وابن محصين «وآذن» بالمد: وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه حكى عنهما «وأَذِنَ» على أنه فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على «بَوَّأْنَا». قال شهاب الدين: ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو الفضل الرازي في اللوامح له عنهما، وذكرها أيضاً ابن خالويه، ولكنه لم يطلع عليها، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف، ولو تأنّى أصاب أو كاد.
وقرأ ابن ابي إسحاق «بالحجِّ» بكسر الحاء حيث وقع كما تقدم.

فصل


قال أكثر المفسرين: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال الله له: ﴿أذن في الناس بالحج﴾، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليَّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا، وفي رواية أبا قبيس، وفي رواية على المقام. فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال: يا
70
أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس: فأول من أجابه أهلُ اليَمَن فهم أكثر الناس حجاً. وقال مجاهد: من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار. قال ابن عباس: لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى. وقال الحسن وأكثر المعتزلة: إنّ المأمور بالأذان هو محمد - عليه السلام - واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حَمْله على أن محمداً هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله: «وَإِذْ بَوَّأنَا»، أي: واذكر يا محمد إذ بوأنا، فهو في حكم المذكور، فلما قال: «وَأَذِّنْ» فإليه يرجع الخطاب. قال الجبائي: أمر محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يفعل ذلك في حجة الوداع. قالوا: إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول، وفي قوله: «يَأْتُوكَ» دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُم الحجَّ فحُجُّوا».
قوله: «رِجَالاً» نصب على الحال، وهو جمع راجل نحو: صاحب وصِحَاب، وتاجر وتجار، وقائم وقيام. وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رُجَّالاً» بضم الراء وتشديد الجيم.
وروي عنهم تخفيفها، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد، ورويت عن ابن عباس أيضاً. فالمخفف اسم جمع كظؤار، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام. وروي عن عكرمة أيضاً «رُجَالَى»
71
كنُعَامى بألف التأنيث. وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم. قوله: ﴿وعلى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ نسق على «رجالاً»، فيكون حالاً أي: مشاة وركباناً. والضمور: الهزال، ضَمَر يضْمُر ضُمُوراً، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها.
قوله: «يأتين». النون ضمير «كُلِّ ضَامِر» حملاً على المعنى، إذ المعنى: على ضوامر، ف «يَأْتِينَ» صفة ل «ضامر»، وأتى بضمير الجمع حَملاً على المعنى، أي جماعة الإبل، وقد تقدم في أول الكتاب أن «كل إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع معناها إلا في قليل، كقوله:
٣٧٥٩ - جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْتُ كُلَّ حَديقَة كَالدِّرْهَمِ
وهذه الآية ترده، فإن»
كلّ «فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه إنما جاز ذلك؛ لأنه في جملتين، قيل له: فهذه الآية جملة واحدة، لأن» يأتين «صفة ل» ضَامِر «. وجوَّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل» رجالاً «و» كل ضامر «قال: على معنى الجماعات والرفاق. قال شهاب الدين: فعلى هذا
72
يجوز أن يقال عنده: الرجال يأتين، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا» كل ضامر «، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع. وقال البغوي: وإنما جمع» يَأْتِين «لمكان» كُلّ «وأراد النوق. وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة» يَأْتون «تغليباً للعقلاء الذكور. وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله: ﴿على كل ضامر﴾ حالاً أيضاً، ويكون» يأتون «مستأنفاً متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالاً وركباناً ثم قال: ﴿يأتون من كل فج﴾ وأن يتعلق بقوله» يأتون «أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ، و» يأتون «مستأنف أيضاً، فلا يجوز أن يكون صفة ل» رجالاً «ول» ضامر «لاختلاف الموصوف في الإعراب؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور، ولو قلت: رأيت زيداً ومررت بعمرو العاقلين. على النعت لم يجز بل على القطع. وقد جوَّز ذلك الزمخشري فقال: وقرئ» يَأْتُون «صفة للرجال والركبان وهو مردود بما ذكرنا. والفج: الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً. والعميق: البعيد سفلاً، يقال: بئر عميقة معيقة، فيجوز أن يكون مقلوباً إلا أنه أقل من الأول، قال:
٣٧٦٠ - إِذَا الخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ
وقرأ ابن مسعود: «مَعِيقٌ»
ويقال: عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقاً بفتح الفاء قال الليث: عميق (ومعيق، والعميق في الطريق أكثر. وقال الفراء: عميق لغة الحجاز) ومعيق لغة تميم وأعمقت البئر وأمعقتها وعَمُقَت ومَعُقَت عماقة ومعاقة وإعماقاً وإمعاقاً قال رؤبة:
73
٣٧٦١ - وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرقْ... الأعماق هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق وعلى هذا فلا قلب في معيق، لأنها لغة مستقلة، وهو ظاهر قول الليث أيضاً، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم، ويقال: غميق بالغين المعجمة أيضاً.

فصل


بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة».
وإنما قال تعالى: «يَأْتُوكَ رِجَالاً» ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّاً فكأنه أتى إبراهيم - عليه السلام -، لأنه يجيب نداءه.
قوله: «لِيَشْهَدُوا» يجوز في هذه اللام وجهان:
أحدهما: أن تتعلق ب «أَذِّنْ»، أي: أذن ليشهدوا.
والثاني: أنها متعلقة ب «يَأْتُوكَ». وهو الأظهر.
قال الزمخشري: ونكر «مَنَافِعَ» لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. قل سعيد بن المسيب ومحمد بن علي الباقر:
74
المنافع: هي العفو والمغفرة وقال سعيد بن جبير: التجارة، وهي رواية ابن زيد.
وعن ابن عباس قال: الأسواق. وقال مجاهد: التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة. ﴿وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ قال الأكثرون: هي عشر ذي الحجة قيل لها «مَعْلُومَات» للحرص على علمها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
والمعدودات: أيام التشريق. وروي عن علي: أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وهو اختيار الزجاج. لأن الذكر على «بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ» يدل على التسمية على نحرها. والنحر للهدايا إنما يكون في هذه الأيام. وروى عطاء عن ابن عباس: أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. وقيل: عبر عن الذبح والنحر بذكر اسم الله؛ لأن المسلمين لا ينفكون عن ذكر اسم الله إذا نحروا. ثم قال: ﴿على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم، وهي الإبل والبقرة والغنم. قال الزمخشري: البهيمة المبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي: الإبل والبقر والغنم.
قوله: «فَكُلُوا مِنْهَا». قيل: هذا أمر وجوب، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً تَرَفُّقاً على الفقراء.
وقيل: هذا أمر إباحة. واتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعاً كان للمُهْدِي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعه، فطبخت، وأكل لحمها، وحسي من مرقها، وكان هذا تطوعاً. واختلفوا في الهدي الواجب في النذور والكفارات والجبرانات للنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودم التقليم والحلق، والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد. فقال الشافعي وأحمد: لا يأكل منه. وقال ابن عمر: لا
75
يأكل من جزاء الصيد والنذور، ويأكل مما سواهما. وقال مالك: يأكل من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور. وعند أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما.
قوله: ﴿وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير﴾. يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له.
قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني. والبؤس شدة الفقر.
قوله: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾. العامة على كسر اللام، وهي لام الأمر. وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونها، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف، وهو نظير تسكين هاء (هو) بعد (ثُمَّ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت (ثُمَّ) مجرى الواو والفاء والتَّفَث: قيل أصله من التف. وهو وسخ الأظفار قلبت الفاء ثاء كمعثور في معفور. وقيل: هو الوسخ والقذر يقال: ما تفثك. وحكى قطرب: تفث الرجل، أي: كثر وسخه في سفره. قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التّفَث إلا من التفسير. وقال المبرد: أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وقال القفال: قال نفطويه: سألت أعرابياً فصيحاً ما
76
معنى قوله: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾، فقال: ما أفسر القرآن، ولكنا نقول للرجل: ما أتفثك، أي: أوسخك وما أدرنك. ثم قال القفال: وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي. والمراد بالتفث هنا: الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج أشعث أغبر، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. والمراد بالقضاء إزالة ذلك، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب. وقال ابن عمر وابن عباس: قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد: هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل: التفث هنا رمي الجمار. وقيل: معنى «لِيَقْضُوا تَفَثَهُم» ليصنعوا ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله، وفي ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها.
قوله: «وَليُوفُوا». قرأ أبو بكر «وَليُوفُّوا» بالتشديد، والباقون بالتخفيف.
وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وَفّى، وَوفَى، وأَوْفَى. وقرأ ابن ذكوان: «ولِيوفوا» بكسر اللام، والباقون بسكونها. وهذا الخلاف جار في قوله «وَلِيَطَّوَّفُوا». والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر، وقيل: ما أوجبه الدخول في الحج من المناسك. قال مجاهد: أراد نذر الحج والهدي، وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج. وقيل: المراد الوفاء بالنذر مطلقاً وقوله: «وَلِيَطَّوَّفُوا» المراد الطواف الواجب، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق وسمي البيت العتيق قال الحسن: القديم لأنه أول بيت وضع للناس. وقال ابن عباس وابن الزبير: لأنه أُعْتِقَ من الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله، ولما قصده أبرهة فُعِل به ما فعل. فإن قيل: قد تسلَّط الحجاج عليه؟
77
قوله :﴿ وَأَذِّن فِي الناس بالحج ﴾. قرأ العامة بتشديد الذال بمعنى ( ناد ) ١ ٢.
وقرأ الحسن وابن محيصن «آذن » بالمد والتخفيف بمعنى أعلم٣. ويبعده قوله :«فِي النّاس » إذ٤ كان ينبغي أن يتعدى بنفسه. ونقل أبو الفتح عنهما أنهما قرءا بالقصر وتخفيف الذال٥، وخرجها أبو الفتح وصاحب اللوامح على أنها عطف على «بَوَّأْنَا » أي : واذكر إذ بوأنا وإذ أُذن في الناس، وهي تخريج وضاح ٦. وزاد صاحب اللوامح فقال : فيصير في الكلام تقديم وتأخير ويصير «يأتوك » جزماً على جواب الأمر في «وَطهِّر »٧.
ونسب ابن عطية أبا الفتح في هذه القراءة إلى التصحيف فقال بعد أن حكى قراءة الحسن وابن محيصن «وآذن » بالمد : وتصحف هذا على ابن جنيّ فإنه حكى عنهما «وأَذِنَ » على أنه٨ فعل ماض وأعرب على ذلك بأن جعله عطفاً على «بَوَّأْنَا »٩. قال شهاب الدين : ولم يتصحف عليه بل حكى هذه القراءة أبو الفضل الرازي في اللوامح له عنهما، وذكرها أيضاً ابن خالويه١٠، ولكنه لم يطلع عليها، فنسب من اطّلع عليها للتصحيف، ولو تأنّى أصاب أو كاد١١.
وقرأ ابن أبي إسحاق «بالحجِّ » بكسر الحاء حيث وقع١٢ كما تقدم.

فصل


قال أكثر المفسرين١٣ : لما فرغ إبراهيم١٤ من بناء البيت قال الله له :﴿ أذن في الناس بالحج ﴾، قال : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ قال : عليك الأذان وعليَّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا، وفي رواية أبا قبيس، وفي رواية على المقام. فارتفع المقام حتى صار كأطول الجبال فأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً، وقد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم١٥، فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس١٦ : فأول من أجابه أهلُ اليَمَن فهم أكثر الناس حجاً١٧. وقال مجاهد : من أجاب مرّة حجّ مرّة ومن١٨ أجاب مرتين أو أكثر فيحج مرتين أو أكثر بذلك المقدار١٩. قال ابن عباس : لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى٢٠. وقال الحسن وأكثر المعتزلة : إنّ المأمور بالأذان هو محمد - عليه السلام - ٢١واحتجوا بأن ما جاء في القرآن وأمكن حَمْله على أن محمداً هو المخاطب فهو أولى وقد بينا أن قوله :«وَإِذْ بَوَّأنَا »، أي : واذكر يا محمد إذ بوأنا، فهو في حكم المذكور، فلما قال :«وَأَذِّنْ » فإليه يرجع الخطاب٢٢. قال الجبائي : أمر محمداً - صلى الله عليه وسلم٢٣ - أن يفعل ذلك في حجة الوداع. قالوا : إنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول، وفي قوله :«يَأْتُوكَ » دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدى به٢٤.
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُم٢٥ الحجَّ فحُجُّوا »٢٦.
قوله :«رِجَالاً » نصب على الحال٢٧، وهو جمع راجل نحو : صاحب وصِحَاب، وتاجر وتجار، وقائم وقيام٢٨. وقرأ عكرمة والحسن وأبو مجلز «رُجَّالاً » بضم الراء وتشديد الجيم.
وروي عنهم تخفيفها، وافقهم ابن أبي إسحاق على التخفيف، وجعفر بن محمد ومجاهد على التشديد، ورويت٢٩ عن ابن عباس أيضاً٣٠. فالمخفف اسم جمع كظؤار٣١، والمشدد جمع تكسير كصائم وصوام٣٢. وروي عن عكرمة أيضاً «رُجَالَى » كنُعَامى بألف التأنيث٣٣. وكذلك عن ابن عباس وعطاء إلا أنهما شددا الجيم٣٤. قوله :﴿ وعلى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ نسق على «رجالاً »، فيكون حالاً٣٥ أي : مشاة وركباناً٣٦. والضمور : الهزال، ضَمَر يضْمُر ضُمُوراً، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها ٣٧.
قوله :«يأتين ». النون ضمير «كُلِّ ضَامِر » حملاً على المعنى، إذ المعنى : على ضوامر، ف «يَأْتِينَ » صفة ل «ضامر »، وأتى بضمير الجمع حَملاً على المعنى٣٨، أي جماعة الإبل، وقد تقدم في أول الكتاب أن «كل » إذا أضيفت إلى نكرة لم يراع٣٩ معناها إلا في قليل٤٠، كقوله :
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ *** فَتَرَكْتُ كُلَّ٤١ حَديقَة كَالدِّرْهَمِ٤٢
وهذه الآية ترده، فإن «كلّ » فيها مضافة لنكرة وقد روعي معناها، وكان بعضهم أجاب عن بيت زهير بأنه٤٣ إنما جاز ذلك ؛ لأنه في جملتين، قيل له : فهذه الآية جملة واحدة، لأن «يأتين » صفة ل «ضَامِر ». وجوَّز أبو حيان أن يكون الضمير يشمل «رجالاً » و «كل ضامر » قال : على معنى الجماعات والرفاق٤٤. قال شهاب الدين : فعلى هذا يجوز أن يقال عنده : الرجال يأتين، ولا ينفعه كونه اجتمع مع الرجال هنا «كل ضامر »، فيقال جاز ذلك لما اجتمع معه ما يجوز فيه ذلك إذ يلزم منه تغليب غير العاقل على العاقل وهو ممنوع٤٥. وقال البغوي : وإنما جمع «يَأْتِين » لمكان٤٦«كُلّ » وأراد النوق٤٧.
وقرأ ابن مسعود والضحاك وابن أبي عبلة «يَأْتون » تغليباً للعقلاء الذكور٤٨. وعلى هذا فيحتمل أن يكون قوله :﴿ على كل ضامر ﴾ حالاً أيضاً، ويكون «يأتون » مستأنفاً متعلق به من كل فج أي يأتونك رجالاً وركباناً ثم قال :﴿ يأتون من كل فج ﴾ وأن يتعلق بقوله«يأتون » أي يأتون على كل ضامر من كل فجّ، و «يأتون » مستأنف أيضاً٤٩، فلا يجوز أن يكون صفة ل «رجالاً » ول «ضامر » لاختلاف الموصوف في الإعراب ؛ لأن أحدهما منصوب والآخر مجرور، ولو قلت : رأيت زيداً ومررت بعمرو العاقلين. على النعت لم يجز بل على القطع. وقد جوَّز ذلك الزمخشري فقال : وقرئ «يَأْتُون » صفة للرجال والركبان٥٠ وهو مردود بما ذكرنا. والفج : الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعاً٥١. والعميق : البعيد سفلاً، يقال : بئر عميقة معيقة٥٢، فيجوز أن يكون مقلوباً إلا أنه أقل٥٣ من الأول، قال :
إِذَا الخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ *** يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ٥٤
وقرأ ابن مسعود :«مَعِيقٌ »٥٥ ويقال : عمق وعمق بكسر العين وضمها عمقاً بفتح الفاء قال الليث : عميق ( ومعيق، والعميق في الطريق أكثر٥٦. وقال الفراء : عميق لغة الحجاز٥٧ ) ومعيق لغة تميم٥٨ وأعمقت البئر وأمعقتها وعَمُقَت ومَعُقَت عماقة ومعاقة وإعماقاً وإمعاقاً قال رؤبة :
وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي المُخْتَرقْ٥٩ ***. . .
الأعماق هنا بفتح الهمزة جمع عُمْق وعلى هذا فلا قلب في معيق، لأنها لغة مستقلة، وهو ظاهر قول الليث أيضاً، ويؤيده قراءة ابن مسعود بتقديم الميم، ويقال : غميق بالغين المعجمة أيضاً ٦٠.

فصل٦١


بدأ الله بذكر المشاة تشريفاً لهم، وروى٦٢ سعيد بن جبير بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :«إن٦٣ الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم ؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة »٦٤.
وإنما قال تعالى :«يَأْتُوكَ رِجَالاً » ؛ لأنه هو المنادي فمن أتى مكة حاجّاً فكأنه أتى إبراهيم - عليه السلام٦٥ -، لأنه يجيب نداءه.
١ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٦٢، البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٢ في ب: باذ. وهو تحريف..
٣ تفسير ابن عطية ١٠/٢٦٢ البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٤ في ب: إذا. وهو تحريف..
٥ المحتسب ٢/٧٨..
٦ قال أبو الفتح: ("أذن" معطوف على "بوأنا" فكأنه قال: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت وأذن، فأما قوله على هذا: "يأتوك رجالا" فإنه انجزم لأنه جواب قوله: وطهر بيتي للطائفين وهو على قراءة الجماعة جوابه قوله: وأذن في الناس بالحج) المحتسب ٢/٧٨..
٧ ونص كلام صاحب اللوامح كما في البحر المحيط: (وهو عطف على "وإذ بوأنا" فيصير في الكلام تقديم وتأخير، ويصير "يأتوك" جزما على جواب الأمر الذي هو "وطهر") ٦/٣٦٤..
٨ أنه: تكملة من تفسير ابن عطية..
٩ تفسير ابن عطية ١٠/٢٦٢ – ٢٦٣. وقال أبو حيان معلقا على كلام ابن عطية بعد نقله إياه: (وليس بتصحيف بل قد حكى أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه وصاحب اللوامح أبو الفضل الرازي ذلك عن الحسن وابن محيصن) البحر المحيط ٦/٤٦٤، وانظر أيضا المختصر (٩٥)..
١٠ المختصر (٩٥)..
١١ الدر المصون: ٥/٧٢..
١٢ تفسير ابن عطية ١٠/٢٦٣، البحر المحيط ٦/٣٦٤..
١٣ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٧٣ – ٥٧٤..
١٤ في ب: إبراهيم عليه الصلاة والسلام..
١٥ في ب: إلى ربكم..
١٦ في النسختين: ابن سعيد. والصواب ما أثبته..
١٧ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٧٣ -٥٧٤..
١٨ في ب: من..
١٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٨..
٢٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٨..
٢١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٩..
٢٣ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٩..
٢٥ في ب: لكم..
٢٦ أخرجه مسلم (حج) ٢/٥٠٨ أحمد ٢/٥٠٨..
٢٧ من الواو في "يأتوك". البيان ٢/١٧٤، التبيان ٢/٩٤٠..
٢٨ وذلك أن (فعال) وأمثلة جمع الكثرة، ويحفظ في وصف على (فاعل) كصائم وصيام، أو (فاعلة) كصائمة وصيام. شرح التصريح ٢/٣٠٩ شرح الأشموني ٤/١٣٥..
٢٩ في ب: وروي..
٣٠ المختصر (٩٥)، المحتسب ٢/٧٩، البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٣١ انظر الكتاب ٣/٦٠٩. وانظر المحتسب ٢/٧٣..
٣٢ (فعال) من أمثلة جمع الكثرة، ويطرد في كل وصف لمذكر على (فاعل) صحيح اللام، نحو ضارب وقائم وقارئ تقول في جمعها ضرّاب وقوام وقراء، وندر فعال في المعتل اللام، كغاز وغزاء. شرح التصريح ٢/٣٠٨. شرح الأشموني ٤/١٣٣ – ١٣٤..
٣٣ المحتسب ٢/٧٩ البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٣٤ المختصر (٩٥)، البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٣٥ في ب: رجالا. وهو تحريف..
٣٦ انظر البيان ٢/١٧٤، التبيان ٢/٩٤٠..
٣٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٢٩..
٣٨ انظر البيان ٢/١٧٤، التبيان ٢/٩٤٠..
٣٩ في الأصل: لم يراعى..
٤٠ اعلم أن لفظ (كل) حكمه الإفراد والتذكير ومعناها بحسب ما تضاف إليه فإن كانت مضافة إلى منكر وجب مراعاة معناها، وهو قول ابن مالك، فلذلك جاء الضمير مفردا مذكرا في قوله تعالى: ﴿وكل شيء فعلوه في الزبر﴾ [القمر: ٥٢]. ومفردا مؤنثا في قوله تعالى: ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾ [المدثر: ٣٨]. ومثنى في قول الفرزدق:
وكل رفيقي كل رحل وإن هما *** تعاطى القنا قوماهما أخوان
ومجموعا مذكرا في قوله تعالى: ﴿كل حزب بما لديهم فرحون﴾ [المؤمنون: ٥٣]، ومؤنثا في قول الشاعر:
وكل مصيبات الزمان وجدتها *** سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
وقول أبي حيان جواز الأمرين مطلقا، كقوله:
جادت عليه كل عين ثرة *** فتركن كل حديقة كالدرهم
فقال: (تركن) ولم يقل تركت، فدل على جواز: كل رجل قائم، وقائمون. وقول ابن هشام: إن المضاف إلى المفرد إن أريد نسبة الحكم إلى كل واحد وجب الإفراد نحو كل رجل يشبعه رغيف، أو إلى المجموع وجب الجمع كبيت عنترة، فإن المراد أن كل فرد من الأعين جاد، وأن مجموع الأعين تركن. المغني ١/١٩٦ – ١٩٨ الهمع ٢/٧٤..

٤١ في الأصل: على كل. وهو تحريف..
٤٢ البيت من بحر الكامل، قاله عنترة، وهو من معلقته وهو في شرح القصائد السبع الطوال (٣١٢) المنصف ٢/١٩٩، المغني ١/١٩٨، المقاصد النحوية ٣/٣٠٨، الهمع ٢/٧٤، الأشموني ٢/٢٤٨، الدرر ٢/٩١..
٤٣ في ب: أنه..
٤٤ البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٤٥ الدر المصون: ٥/ ٧٢..
٤٦ في ب: لمحار. وهو تحريف..
٤٧ البغوي: ٥/٥٧٤..
٤٨ المختصر (٩٥)، البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٤٩ انظر التبيان ٢/٩٤٠..
٥٠ الكشاف ٣/٣٠..
٥١ اللسان (فجج)..
٥٢ في النسختين: بئر عميق ومعيق. والصواب ما أثبته، ففي اللسان (عمق) وتقول العرب: بئر عميقة ومعيقة بعيدة القعر. وقال ابن الأنباري: (والبئر: أنثى، يقال في تصغيرها: بؤيرة، ويقال في جمع القلة: أبآر، وآبار على نقل الهمزة ومثله: رأي وأرآء وآراء، ويقال في جمعها أيضا في القلة: أبؤر... ويقال في جمع الكثرة: بآر. على مثال قولك: جمال وجبال) المذكر والمؤنث ١/٥١٧ – ٥١٨..
٥٣ أقل: سقط من الأصل..
٥٤ البيت من بحر الطويل لم أهتد إلى قائله وهو في تفسير ابن عطية ١٠/٢٦٦، البحر المحيط ٦/٣٤٧، الفجاج: جمع فج وهو الطريق الواسع بين جبلين. العميق: البعيد وأصله البعد سفلا، وهو موضع الشاهد. تشعث شعره: تلبد واغبر، والشعث: المغبر الرأس المنتتف الشعر. الشاحب: المتغير من هزال أو جوع أو سفر أو عمل، ولم يقيد في الصحاح بل قال شحب جسمه إذا تغير..
٥٥ الكشاف ٣/٣٠، البحر المحيط ٦/٣٦٤..
٥٦ اللسان (عمق)..
٥٧ ما بين القوسين سقط من ب..
٥٨ اللسان (عمق، معق)..
٥٩ رجز لرؤبة، وبعده:
مشتبه الأعلام لماع الخفق ***...
وهو في ديوانه (١٠٤) والكتاب ٤/٢١٠، الخصائص ١/٢٢٨، ٢٦٠، ٢٦٤، ٣٢٠، ٣٣٣، المنصف ٢/٣، ٣٠٨، المحتسب ١/٨٦، ابن يعيش ٢/١١٨، ٩/٢٩، ٣٤ اللسان (عمق) البحر المحيط ٦/٣٦، ٨٠، شرح شواهد المغني ٢/٧٦٤، ٧٨٢، الخزانة ١/٧٨، ١٠/٢٥، الدرر ٢/٣٨، ١٤٠ القاتم: المغبر، القتام: الغبار،
والواو في قوله (والقاتم) واو رب وهي عاطفة لا جارة، وقاتم مجرور برب لا بالواو على الصحيح.
الأعماق جمع عمق – بضم العين وفتحها – ما بعد من أطراف المفاوز، وهو موضع الشاهد هنا. الخاوي: الخالي: المخترق: المتسع يعني جوف الفلاة..

٦٠ انظر البحر المحيط ٦/٣٤٧..
٦١ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٢٩..
٦٢ في الأصل: روى..
٦٣ إن: سقط من ب..
٦٤ الدر المنثور ٤/٣٥٥..
٦٥ في ب: عليه الصلاة والسلام..
قوله :«لِيَشْهَدُوا » يجوز في هذه اللام١ وجهان :
أحدهما : أن تتعلق ب «أَذِّنْ »، أي : أذن ليشهدوا.
والثاني : أنها متعلقة ب «يَأْتُوكَ ». وهو الأظهر٢.
قال الزمخشري : ونكر «مَنَافِعَ » لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات٣. قل سعيد بن المسيب٤ ومحمد بن علي الباقر٥ :
المنافع : هي العفو والمغفرة وقال سعيد بن جبير : التجارة، وهي رواية ابن زيد.
وعن ابن عباس قال : الأسواق. وقال مجاهد : التجارة وما يرضى الله به من أمر الدنيا والآخرة٦. ﴿ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ﴾ قال الأكثرون : هي عشر ذي الحجة قيل لها «مَعْلُومَات » للحرص على علمها٧ بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها ٨.
والمعدودات : أيام التشريق٩. وروي عن علي : أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده١٠، وهو اختيار الزجاج١١. لأن الذكر على «بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ » يدل على التسمية على نحرها. والنحر للهدايا إنما يكون في هذه الأيام. وروى عطاء عن ابن عباس : أنها يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق١٢. وقيل : عبر عن الذبح والنحر بذكر اسم الله ؛ لأن المسلمين لا ينفكون عن ذكر اسم الله إذا نحروا١٣. ثم قال :﴿ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام ﴾ يعني الهدايا والضحايا تكون من النعم، وهي الإبل والبقرة والغنم١٤. قال الزمخشري : البهيمة المبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم١٥.
قوله :«فَكُلُوا مِنْهَا ». قيل : هذا أمر وجوب، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً تَرَفُّقاً على الفقراء. وقيل : هذا أمر إباحة١٦. واتفق العلماء١٧ على أن الهدي إذا كان تطوعاً كان للمُهْدِي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يؤخذ من كل جزور بضعه، فطبخت، وأكل لحمها، وحسي من مرقها، وكان هذا تطوعاً. واختلفوا في الهدي الواجب في النذور والكفارات والجبرانات للنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودم التقليم والحلق، والواجب١٨ بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد١٩. فقال الشافعي وأحمد : لا يأكل منه٢٠. وقال ابن عمر : لا يأكل من جزاء الصيد والنذور٢١، ويأكل مما سواهما٢٢. وقال مالك : يأكل من هدي التمتع، ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور٢٣. وعند أصحاب الرأي : يأكل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما٢٤.
قوله :﴿ وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير ﴾. يعني الزمن الفقير الذي لا شيء له ٢٥.
قال ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي٢٦ وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني٢٧. والبؤس شدة الفقر.
١ في الأصل: الآية. وهو تحريف..
٢ انظر التبيان ٢/٩٤٠..
٣ الكشاف: ٣/٣٠..
٤ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٧٤..
٥ هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو جعفر المدني الإمام المعروف بالباقر، أخذ عن أبيه وأبي سعيد وجابر وابن عمر وغيرهم، وأخذ عنه ابنه جعفر والزهري وغيرهما. مات سنة ١١٤ هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢/٤٤٠..
٦ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٧٤..
٧ في ب: عملها. وهو تحريف..
٨ انظر البغوي ٥/٥٧٥..
٩ وهو قول مقاتل. البغوي ٥/٥٧٥..
١٠ انظر البغوي ٥/٥٧٥..
١١ فإنه قال: ("ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام" يعني به يوم النحر والأيام التي بعده ينحر فيها لأن الذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٢٣..
١٢ انظر البغوي ٥/٥٧٥..
١٣ انظر الكشاف ٣/٣٠..
١٤ انظر البغوي ٥/٥٧٥..
١٥ الكشاف: ٣/٣٠..
١٦ انظر البغوي ٢٣/٣٠..
١٧ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٧٥. بتصرف..
١٨ في ب: والحج. وهو تحريف..
١٩ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٧٥ بتصرف..
٢٠ انظر البغوي ٥/٥٧٦..
٢١ في ب: والنذو. وهو تحريف..
٢٢ انظر البغوي ٥/٥٧٦..
٢٣ انظر البغوي ٥/٥٧٦..
٢٤ انظر البغوي ٥/٥٧٦..
٢٥ المرجع السابق..
٢٦ في الأصل: لا في. وهو تحريف..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣٠..
قوله :﴿ ثُمَّ ليَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ﴾. العامة على كسر اللام، وهي لام الأمر. وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونها١، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف، وهو نظير تسكين هاء ( هو ) بعد ( ثُمَّ ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت ( ثُمَّ ) مجرى الواو والفاء٢ والتَّفَث : قيل أصله من التف٣. وهو وسخ٤ الأظفار قلبت الفاء ثاء٥ كمعثور في معفور٦. وقيل : هو الوسخ٧ والقذر يقال : ما تفثك. وحكى قطرب : تفث الرجل، أي : كثر وسخه في سفره٨. قال الزجاج٩ : إن أهل اللغة لا يعرفون التّفَث إلا من التفسير١٠. وقال المبرد : أصل١١ التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وقال القفال : قال نفطويه١٢ : سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله :﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ﴾، فقال : ما أفسر القرآن، ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك، أي : أوسخك وما أدرنك١٣. ثم قال القفال١٤ : وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي١٥. والمراد بالتفث هنا١٦ : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج أشعث أغبر، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. والمراد بالقضاء إزالة ذلك، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب١٧. وقال ابن عمر١٨ وابن عباس١٩ : قضاء التفث مناسك الحج كلها. وقال مجاهد : هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار. وقيل : التفث هنا رمي الجمار٢٠. وقيل : معنى «لِيَقْضُوا تَفَثَهُم » ليصنعوا٢١ ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله، وفي ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها ٢٢.
قوله :«وَليُوفُوا ». قرأ أبو بكر «وَليُوفُّوا » بالتشديد، والباقون بالتخفيف ٢٣. وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وَفّى، وَوفَى، وأَوْفَى٢٤. وقرأ ابن ذكوان :«ولِيوفوا » بكسر اللام، والباقون بسكونها. وهذا الخلاف جار في قوله «وَلِيَطَّوَّفُوا »٢٥. والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر، وقيل : ما أوجبه الدخول في الحج من المناسك٢٦. قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي، وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج٢٧. وقيل : المراد الوفاء بالنذر مطلقاً٢٨ وقوله :«وَلِيَطَّوَّفُوا » المراد الطواف الواجب، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق٢٩ وسمي البيت العتيق قال الحسن : القديم لأنه أول بيت وضع للناس٣٠. وقال ابن عباس وابن الزبير : لأنه أُعْتِقَ من الجبابرة٣١، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله، ولما قصده أبرهة فُعِل به ما فعل. فإن قيل : قد تسلَّط الحجاج عليه ؟
فالجواب : أنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه٣٢ وقال ابن عيينة : لم يُمْلك قط٣٣. وقال مجاهد : أعتق من الغرق٣٤.
وقيل : لأنه بيت كريمٌ من قولهم : عِتاق الخيل والطير٣٥.

فصل٣٦


والطواف ثلاثة٣٧ أطواف :
الأول : طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً، يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه، ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه.
والثاني : طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق، ويسمى أيضاً طواف الزيارة وطواف الصدر، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.
والثالث : طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء، فلا وداع عليهما لما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض. والرمل يختص بطواف القدوم، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع.
١ وفي السبعة: قرأ أبو عمرو وابن عامر "ثم ليقضوا" يكسر لام الأمر واختلف عن نافع ففي رواية بكسر اللام، وفي رواية أخرى ساكنة اللام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "ثم ليقضوا" ساكنة اللام (٤٣٤ – ٤٣٥) الكشف ٢/١١٦ – ١١٧، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف (٣١٤)..
٢ سبق أن تحدثت عن حركة لام الأمر بعد واو العطف وفائه وثم عند قوله تعالى: ﴿فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ﴾ [الحج: ١٥]..
٣ في ب: التفث. وهو تحريف..
٤ في النسختين: مسح والصواب ما أثبته..
٥ في ب: باء. وهو تحريف..
٦ في ب: كمعفور في يعفور. والصواب ما أثبته، وهو قول أبي محمد البصري. البحر المحيط ٦/٣٤٧ وتبدل الثاء من الفاء كقولهم في أثاف: أثاث. انظر سر صناعة الإعراب ١/١٧٣..
٧ وقيل هو الوسخ: مكرر في ب..
٨ البحر المحيط ٦/٣٤٧..
٩ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٣١..
١٠ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٢٤ – ٤٢٤. والبغوي ٥/٥٧٣..
١١ في الأصل: أهل. وهو تحريف..
١٢ هو إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي الأزدي الواسطي أبو عبد الله الملقب نفطويه، كان عالما بالعربية واللغة والحديث، أخذ عن ثعلب والمبرد، ومن مصنفاته: إعراب القرآن، المقنع في النحو، الأمثال المصادر، أمثال القرآن، وغير ذلك، مات سنة ٣٢٣ هـ. بغية الوعاة ١/٣٣٨ – ٤٤٠..
١٣ في النسختين: وما أدراك. والصواب ما أثبته..
١٤ القفال: سقط من ب..
١٥ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٣٠..
١٦ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٧٦..
١٧ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٧٦..
١٨ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٧٦..
١٩ في الأصل: وابن العباس. وهو تحريف..
٢٠ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٧٧..
٢١ في الأصل: يصنعوا..
٢٢ كلها: سقط من ب..
٢٣ السبعة (٤٣٦) الكشف ٢/١١٦—١١٧، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف ٣١٤..
٢٤ عند قوله تعالى: ﴿وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠]..
٢٥ السبعة (٤٣٤ – ٤٣٥) الكشف ٢/٣٢٦، الإتحاف ٣١٤..
٢٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣١..
٢٧ انظر البغوي ٥/٥٧٧..
٢٨ المرجع السابق..
٢٩ انظر البغوي ٥/٥٧٨..
٣٠ المرجع السابق..
٣١ المرجع السابق والدر المنثور ٤/٣٥٧..
٣٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣١..
٣٣ انظر البغوي ٥/٥٧٨..
٣٤ المرجع السابق..
٣٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣١..
٣٦ هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٧٨ – ٥٧٩..
٣٧ في ب: ثلاث..
فالجواب: أنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وقال ابن عيينة: لم يُمْلك قط. وقال مجاهد: أعتق من الغرق.
وقيل: لأنه بيت كريمٌ من قولهم: عِتاق الخيل والطير.

فصل


والطواف ثلاثة أطواف:
الأول: طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً، يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه، ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه.
والثاني: طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق، ويسمى أيضاً طواف الزيارة وطواف الصدر، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به.
والثالث: طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء، فلا وداع عليهما لما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض. والرمل يختص بطواف القدوم، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع.
قوله
تعالى
: ﴿ذلك
وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله﴾
الآية. «ذَلِكَ» خبر مبتدأ مضمر، أي: الأمر والشأن ذلك، قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني، فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا، وقد كان كذا. وقدره ابن عطية: فرضكم ذلك أو الواجب ذلك. وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، أي ذلك
78
الأمر الذي ذكرته. وقيل: في محل نصب أي: امتثلوا ذلك. ونظير هذه الإشارة قول زهير بعد تقدم جمل في وصف هرم بن سنان:
٣٧٦٢ - هذَا وَلَيْسَ كَمنْ يَعْيَا بَخُطَّتِهِ وَسْطَ النَّدِيّ إِذَا نَاطِقٌ نَطَقَا
والحرمة ما لا يحلّ هَتْكُه، وجمييع ما كلفه الله بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصاً فيما يتعلق بالحج.
وعن زيد بن أسلم: الحرمات خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام. وقال ابن زيد: الحرمات ههنا: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام، (والإحرام).
وقال الليث: حرمات الله ما لا يحل انتهاكها.
وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به، وحرم التفريط فيه.
قوله: «فهو» «هُو» ضمير المصدر المفهوم من قوله: «وَمَنْ يُعَظّم»، أي؛ فتعظيم حرمات الله خير له، كقوله تعالى: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ [المائدة: ٨] و «خير» هنا ظاهرها التفضيل بالتأويل المعروف ومعنى التعظيم: العلم بوجوب القيام بها وحفظها.
79
وقوله: «عِنْدَ رَبِّهِ» أي: عند الله في الآخرة. وقال الأصم: فهو خير له من التهاون.
قوله: ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ ووجه النظم أنه كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضاً تَحْرُم، فبيَّن تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها، ثم استثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم في سورة المائدة في قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١]، وقوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١٢١].
قوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ يجوز أن يكون استثناء متصلاً، ويصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام لسبب عارض كالموت ونحوه. وأن يكون استثناءً منقطعاً؛ إذ ليس فيها محرم وقد تقدم تقرير هذا أول المائدة.
قوله: «مِنَ الأَوْثَانِ». في «مِنْ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها لبيان الجنس، وهو مشهور قول المعربين، ويقدر بقولك الرجس الذي هو الأوثان. وقد تقدم أن شرط كونها بيانية ذلك ويجيء مواضع كثيرة لا يتأتى فيها ذلك ولا بعضه.
والثاني: أنها لابتداء الغاية.
قال شهاب الدين: وقد خلط أبو البقاء القولين فجعلهما قولاً واحداً. فقال: و «مِنْ» لبيان الجنس، أي: اجتنبوا الرجس من هذا القبيل وهو معنى ابتداء الغاية
80
ههنا يعني أنه في المعنى يؤول إلى ذلك ولا يؤول إليه البتة.
الثالث: أنها للتبعيض. وقد غلّط ابن عطية القائل بكونها للتبعيض فقال: ومن قال إن «من» للتبعيض قلب معنى الآية فأفسده. وقد يمكن التبعيض فيها بأن معنى الرجس عبادة الأوثان، وبه قال ابن عباس وابن جريج فكأنه قال: فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم من الأوثان إنما هو العبادة، ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغيره مما لم يحرم الشرع استعماله، فللوثن جهات منها عبادتها وهي بعض جهاتها. قاله أبو حيان. والأوثان جمع وثن، والوثن يطلق على ما صُوِّر من نحاس وحديد وخشب ويطلق أيضاً على الصليب، قال عليه السلام لعدي بن حاتم وقد رأى في عنقه صليباً: «أَلْقِ هذَا الوَثَنَ عَنْكَ» وقال الأعشى:
٣٧٦٣ - يَطُوفُ العُفَاةُ بِأَبْوَابِهِ كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ
واشتقاقه من وَثن الشيء، أي أقام بمكانه وثبت فهو واثن، وأنشد لرؤبة:
٣٧٦٤ - عَلَى أَخِلاَّءِ الصَّفَاءِ الوُثَّنِ... أي: المقيمين على العهد، وقد تقدم الفرق بين الوثن والصَّنم.

فصل


قال المفسرون: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ أي؛ عبادتها، أي كونوا على جانب منها فإنها رجس، أي سبب رجس وهو العذاب، والرجس بمعنى الرجز.
81
وقال الزجاج: «مِن» ههنا للتجنيس، أي اجتنبوا الأوثان التي هي الرجس ﴿واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾. واعلم أنه تعالى لما حَثّ على تعظيم حرماته أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور، لأن توحيد الله وصدق القول أعظم الحرمات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد، لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا شيئاً منه، وما ظنك بشيء من قبيلة عبادة الأوثان. وسمى الأوثان رجساً لا للنجاسة لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس، ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. قال الأصَمّ: إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في القربان أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها. وهذا بعيد، وإنما وصفها بذلك استحقاراً واستخفافاً.
والزور من الازورار وهو الانحراف كما أن الإفك (من أَفِكه إذا صرفه) وذكر المفسرون في قول الزور وجوهاً:
الأول: قولهم: هذا حلال وهذا حرام، وما أشبه ذلك.
والثاني: شهادة الزور؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى الصبح فلما سلم قام قائماً، واستقبل الناس بوجهه، وقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» وتلا هذه الآية.
الثالث: الكذب والبهتان.
الرابع: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
قوله: «حُنَفَاءَ لِلَّهِ» حال من فاعل «اجْتَنِبوا»، وكذلك «غَيْرَ مُشْرِكِين»
82
وهي حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم «حنفاء» عدم الإشراك أي مخلصين له، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به، فلذلك قال ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾.
ثم قال: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء﴾ أي: سقط من السماء إلى الأرض.
قوله: «فَتَخْطَفُهُ». قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة، وأصلها تختطفه فأدغم. وباقي السبعة «فتَخْطَفُه» بسكون الخاء وتخفيف الطاء. وقرأ الحسن والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد. وروي عن الحسن أيضاً بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء. وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء «تخطفه» وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله: ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ﴾ [البقرة: ٢٠]. وقرأ أبو جعفر «الرياح» جمعاً.
وقوله: «خَرّ» في معنى (تخر)، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو «فتَخْطَفُه».
ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون «فَتَخْطَفُهُ» عطفاً عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي: فهو تخطفه. قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق فإن كان تشبيهاً مركباً، فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرّ من السماء فاختطفته
83
الطير فتفرق مُزَعاً في حواصلها، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة.
وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. والسحيق البعيد، ومنه: سَحَقَهُ الله، أي: أبعده، ومنه قول عليه السلام: «سُحْقاً سُحْقاً» أي بُعْداً بُعْداً. والنخلة السحوق الممتدة في السماء من ذلك.
قوله تعالى: ﴿ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله﴾ الآية. إعراب «ذَلِك» كإعراب «ذَلِكَ» المتقدم وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة. والمعنى: ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس، وقول الزور، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
قال ابن عباس: شعائر الله البُدْن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هَدْي، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل: شعائر الله أعلام دينه.
وقيل: مناسك الحج.
84
قوله: ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾. أي: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى (من) ليرتبط به، وإنما ذكرت القلوب، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها، فلهذا لا يكون مجدّاً في الطاعات، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص.
واعلم أن الضمير في قوله: ﴿فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه، أي: فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
والثاني: أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله، أي: فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره: فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوَّز إقامة (أل) مقام الضمير - وهم الكوفيون -، أجاز ذلك هنا، والتقدير: من تقوى قلوبهم كقوله: ﴿فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى﴾ [النازعات: ٤١]. والعامة على خفض «القلوب»، وقرئ برفعها، فاعلة للمصدر قبلها وهو «تقوى».
85
قوله :«حُنَفَاءَ لِلَّهِ » حال من فاعل «اجْتَنِبوا »١، وكذلك «غَيْرَ مُشْرِكِين »٢ وهي٣ حال مؤكدة إذ يلزم من كونهم «حنفاء » عدم الإشراك أي مخلصين له، أي تمسكوا بالأوامر والنواهي على وجه العبادة لله٤ وحده لا على وجه إشراك غير الله به، فلذلك قال ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾. ثم قال :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء ﴾ أي : سقط من السماء إلى الأرض.
قوله :«فَتَخْطَفُهُ ». قرأ نافع بفتح الخاء والطاء مشددة٥، وأصلها تختطفه٦ فأدغم٧. وباقي السبعة «فتَخْطَفُه » بسكون الخاء وتخفيف الطاء٨. وقرأ الحسن٩ والأعمش وأبو رجاء بكسر التاء والخاء والطاء مع التشديد١٠. وروي عن الحسن أيضاً١١ بفتح الطاء مشددة مع كسر التاء والخاء١٢. وروي عن الأعمش كقراءة العامة إلا أنه بغير فاء «تخطفه »١٣ وتوجيه هذه القراءات قد تقدم في أوائل البقرة عند قوله :﴿ يَكَادُ البرق يَخْطَفُ ﴾١٤ [ البقرة : ٢٠ ]. وقرأ أبو جعفر «الرياح » جمعاً١٥.
وقوله :«خَرّ » في معنى ( تخر )، ولذلك عطف عليه المستقبل وهو «فتَخْطَفُه » ١٦.
ويجوز أن يكون على بابه ولا يكون «فَتَخْطَفُهُ » عطفاً عليه بل هو خبر مبتدأ مضمر أي : فهو تخطفه١٧. قال الزمخشري : يجوز في هذا التشبيه أن يكون من١٨ المركب١٩ والمفرق٢٠ فإن كان تشبيهاً مركباً، فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال مَنْ خَرّ من السماء فاختطفته الطير فتفرق مُزَعاً٢١ في حواصلها، أو عصفت به الرياح حتى هوت به في بعض المطاوح٢٢ البعيدة.
وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوّه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة٢٣. والسحيق البعيد، ومنه : سَحَقَهُ الله، أي : أبعده، ومنه قول عليه السلام٢٤ :«سُحْقاً سُحْقاً »٢٥ أي بُعْداً بُعْداً. والنخلة السحوق الممتدة في٢٦ السماء من ذلك٢٧.
١ في ب: اختلفوا. وهو تحريف..
٢ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٤ وجوز ابن عطية أن يكون قوله: "غير مشركين" صفة لقوله (حنفاء)..
٣ في الأصل: وهو..
٤ لله: سقط من الأصل..
٥ السبعة (٤٣٦)، الكشف ٢/١١٩، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف (٣١٥)..
٦ في الأصل: تخطفه. وهو تحريف..
٧ أي أن أصل (تخطفه) بتشديد الطاء (تختطفه) نقلت حركة التاء إلى الخاء وقلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء فصارت (تخطفه). الممتع ٢/٧٢ – ٧١٣ شرح الشافية ٣/٢٨٥..
٨ أي أنه مضارع (خطف). السبعة (٤٣٦)، الكشف ٢/١١٩، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف ٣١٥..
٩ الحسن: سقط من ب..
١٠ تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٥، البحر المحيط ٦/٣٦٦..
١١ أيضا: سقط من ب..
١٢ الحسن: سقط من ب..
١٣ الحسن : سقط من ب..
١٤ "يخطف": سقط من ب. [البقرة: ٢٠]..
١٥ تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٥، البحر المحيط ٦/٣٦٦..
١٦ انظر التبيان ٢/٩٤١..
١٧ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٥..
١٨ من: مكرر في الأصل..
١٩ التشبيه المركب: ما كان وجه الشبه منتزعا من عدة أمور يجمع بعضها إلى بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه. انظر أسرار البلاغة (٧٣)..
٢٠ التشبيه المفرق أو المفروق: هو أن يؤتى بمشبه ومشبه به ثم بمشبه ومشبه به أو بأكثر من ذلك كقول الشاعر:
النشر مسك والوجوه دنا نير وأطراف الأكف عنم
بغية الإيضاح ٣/٥٥..

٢١ مزعا: هو جمع مزعة، وهو القطعة من اللحم، أي تفرق قطعا من اللحم في حواصلها. انظر اللسان (مزع)..
٢٢ المطاوح: المقاذف. وطوحته الطوائح: قذفته القذائف. اللسان (طوح)..
٢٣ الكشاف ٣/٣١-٣٢..
٢٤ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٢٥ أخرجه البخاري (فتن) ٤/٢٢١، مسلم (طهارة) ١/٢١٨، فضائل ٤/١٧٩٣، ابن ماجه (زهد) ٢/١٤٤٠، الموطأ (طهارة) ١/٣٠، أحمد ٢/٣٠٠، ٤٠٨، ٣/٢٨، ٥/٣٣٣، ٣٣٩..
٢٦ في الأصل: من. وهو تحريف..
٢٧ اللسان (سحق)..
قوله تعالى١ :﴿ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله ﴾ الآية. إعراب «ذَلِك » كإعراب «ذَلِكَ » المتقدم٢ وتقدم تفسير الشعيرة واشتقاقها في المائدة٣. والمعنى : ذلك الذي ذكرت من اجتناب الرجس، وقول الزور٤، وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب.
قال ابن عباس٥ : شعائر الله البُدْن والهدايا. وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هَدْي، وتعظيمها استحسانها واستسمانها. وقيل : شعائر الله أعلام دينه٦.
وقيل : مناسك الحج.
قوله :﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب ﴾. أي : فإن تعظيمها٧ من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى ( من ) ليرتبط به٨، وإنما ذكرت القلوب٩، لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه وقلبه خال عنها، فلهذا لا يكون مجدّاً في الطاعات، وأما المخلص الذي تمكنت التقوى من قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص ١٠.
واعلم أن الضمير في قوله :﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الشعائر على حذف مضافه، أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب.
والثاني : أنه ضمير المصدر المفهوم من الفعل قبله١١، أي : فإن التعظيم من تقوى القلوب والعائد على اسم الشرط من هذه الجملة الجزائية مقدر تقديره : فإنها من تقوى القلوب منهم. ومن جوَّز إقامة ( أل ) ١٢ مقام الضمير - وهم الكوفيون -، أجاز ذلك هنا، والتقدير : من تقوى قلوبهم١٣ كقوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾١٤ [ النازعات : ٤١ ]. والعامة على خفض «القلوب »، وقرئ برفعها، فاعلة للمصدر قبلها وهو «تقوى »١٥.
١ تعالى: سقط من الأصل..
٢ في قوله تعالى: ﴿ذلك ومن يعظم حرمات الله﴾ من الآية (٣٠) من السورة نفسها..
٣ عند قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام﴾ [المائدة: ٢]. وذكر هناك: قال ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج، وقال أبو عبيدة: شعائر الله هي الهدايا، ثم عطف عليه الهدايا، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه، والشعائر جمع، والأكثرون على أنه جمع شعيرة، وقال ابن فارس: واحدها شعارة، والشعيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، والشعيرة المعلمة، والإشعار الإعلام، وكل شيء علم فقد شعر، وهو هنا أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم، فيكون ذلك علامة أنها هدي... انظر اللباب ٣/٢٠٧..
٤ انظر البغوي ٥/٥٨١..
٥ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٨١ – ٥٨٢..
٦ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٥٨١ – ٥٨٢..
٧ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٣٣ – ٣٤..
٨ في الأصل بعد قوله: ليرتبط به: إلى من. وفي ب: قال الزمخشري: قال أبو حيان: وما قدره عامر من راجع من الضمير من الجزاء إلى (من)، ألا ترى أن قوله: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. ليس في شيء منه ضمير يرجع من الجزاء إلى "من" يربطه، وإصلاحه أن يقول: فإن تعظيمها منه، فالضمير في منه عائد على (من). البحر المحيط ٦/٣٦٨..
٩ في ب: المقلوب. وهو تحريف..
١٠ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/ ٣٣-٣٤..
١١ في الأصل: قلبه. وهو تحريف..
١٢ في الأصل: إلى. وهو تحريف..
١٣ مذهب الكوفيين وجماعة من البصريين إقامة (ال) مقام الضمير، وجعلوا منه قوله تعالى: ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾ [النازعات: ٤١، ٤٢] الأصل: مأواه، ومنع ذلك بعض البصريين، وقالوا: التقدير: هي المأوى له. انظر التبيان ٢/٩٤١، المغني ٢/٥٠١ – ٥٠٢، الأشموني ١/١٩٥ – ١٩٦..
١٤ [النازعات: ٤١]..
١٥ تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٦، البحر المحيط ٦/٣٦٨..
قوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ﴾ أي: في الشعائر بمعنى الشرائع، أي: لكم في التمسك
85
بها. وقيل: في بهيمة الأنعام، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك. ورواه مقسمٌ عن ابن عباس. وعلى هذا فالمنافع درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهرها إلى أجل مسمى، وهو أن يسميها ويوجبها هدياً؛ فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها.
وروي عن ابن عباس أن في البدن منافع مع تسميتها هدياً بأن تركبوها إن احتجتم إليها، وتشربوا لبنها إن احتجتم إليه، إلى أجل مسمّى إلى أن تنحروها. وهذا اختيار الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وهو أَوْلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «مَرَّ برجلٍ يَسُوقُ بَدَنَةً وهو في جهد، فقال عليه السلام:» ارْكَبْهَا «. فقال يا رسول الله إنها هدي. فقال:» ارْكَبْهَا ويلك «قال عليه السلام:» اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً «واحتج أبو حنيفة على أنه لا يملك من منافعها بأنه لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات. وأجيب بأن هذا قياس في معارضة النص فلا عبرة به، وأيضاً فإن أم الولد لا يملك بيعها ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا. ومن حمل المنافع على سائر الواجبات يقول:» لَكُمْ فِيهَا «أي: في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده.
والأول قول جمهور المفسرين لقوله: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ أي: لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافعِ محلها إلى البيت العتيق، أي: وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥].
وقوله:»
مَحِلُّهَا «يعني حيث يحل نحرها، وأما» البيت العتيق «فالمراد به الحرم كله لقوله: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: ٢٨] أي: الحرم كله، فالمنحر على هذا القول مكة، ولكنها نزهت عن الدماء إلى منى، ومنى من مكة قال عليه السلام:»
86
كل فجاج مكة منحر، (وكل فجاج منى منحر) «قال القفال: هذا إنما يختص بالهدايا التي تبلغ منى، فأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محلها موضعه.
ومن قال: الشعائر المناسك فإن معنى قوله: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق﴾ أي: محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة (يوم النحر).
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ الآية. قرأ الأخوان هذا وما بعده»
منسِكاً «بالكسر. والباقون بالفتح.
فقيل: هما بمعنى واحد، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر. وقيل: المكسور مكان، والمفتوح مصدر.
قال ابن عطية: والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب.
قال شهاب الدين: وهذا الكلام منه غير مرضي، كيف يقول: ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. والكسائي يقول: قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات، وهو روايته لذلك قرأنا متواتراً. وقوله: من الشاذ: يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيح في الاستعمال، وذلك أن فعل يفعُل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقاً، أي: سواء أريد به الزمان أم المكان أم
87
المصدر، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم مذكورة في هذا الكتاب.

فصل


«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» (أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه السلام «جَعَلْنَا مَنْسَكاً» ) أي ضرباً من القربان، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال: ﴿لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ أي: عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم. وقال: «بَهِيمة الأَنْعَام» قيد بالنعم، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصَّنَم العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة.
قوله: ﴿فإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ في كيفية النظم وجهان:
الأول: أن الإله واحد، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.
والثاني: ﴿فإلهكم إله وَاحِدٌ﴾ لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. «فَلَهُ أَسْلِمُوا» انقادوا وأطيعوا، فمن انقاد لله كان مخبتاً فلذلك قال بعده «وَبَشِّر المُخْبِتِينَ».
قال ابن عباس وقتادة: المخبت المتواضع الخاشع وقال مُجاهد: المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من الأرض. قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول: أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال: أنجد وأَتْهَمَ وأشَأم.
88
وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا.
قوله: ﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾. يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع، فالجر من ثلاثة أوجه: النعت للمخبتين، أو البدل منهم، أو البيان لهم. والنصب على المدح. والرفع على إضمارهم وهو مدح أيضاً، ويسميه النحويون قطعاً.
والمعنى: إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن، فأما ما يصيبهم من قبل الظَّلَمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة.
قوله: «والمُقِيْمي الصَّلاَةِ» في أوقاتها. والعامة على خفض «الصَّلاَة» بإضافة المقيمين إليها.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفاً كما تحذف النون لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل «والمُقِيْمِينَ الصَّلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة. وقرأ الضحاك: «والمُقِيْم الصَّلاَة» بميم ليس بعدها
89
قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ﴾ الآية١. قرأ الأخوان٢ هذا وما بعده٣«منسِكاً » بالكسر. والباقون بالفتح٤.
فقيل : هما بمعنى واحد، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر٥. وقيل : المكسور مكان٦، والمفتوح مصدر٧.
قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب ٨. قال شهاب الدين : وهذا الكلام منه غير مرضي، كيف يقول : ويشبه أن يكون الكسائي سمعه. والكسائي يقول : قرأت به. فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات، وهو روايته لذلك قرأنا متواتراً. وقوله : من الشاذ : يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيح في الاستعمال، وذلك أن فعل يفعُل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقاً، أي : سواء أريد به الزمان أم المكان أم المصدر٩، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم١٠ مذكورة في هذا الكتاب١١.

فصل


«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ »١٢ ( أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه السلام «جَعَلْنَا مَنْسَكاً » )١٣ أي ضرباً من القربان، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال :﴿ لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام ﴾ أي : عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم١٤. وقال :«بَهِيمة الأَنْعَام » قيد١٥ بالنعم، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين١٦، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصَّنَم العتر والعتيرة١٧ كالذبح والذبيحة.
قوله :﴿ فإلهكم إله وَاحِدٌ ﴾ في كيفية النظم١٨ وجهان :
الأول : أن الإله واحد، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح.
والثاني :﴿ فإلهكم إله وَاحِدٌ ﴾ لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه. «فَلَهُ أَسْلِمُوا » انقادوا١٩ وأطيعوا، فمن انقاد لله كان مخبتاً فلذلك قال بعده «وَبَشِّر المُخْبِتِينَ » ٢٠.
قال ابن عباس وقتادة : المخبت المتواضع الخاشع٢١ وقال مُجاهد : المطمئن إلى الله. والخبت المكان المطمئن من الأرض. قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول : أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال : أنجد وأَتْهَمَ وأشَأم ٢٢.
وقال الكلبي : هم٢٣ الرقيقة قلوبهم٢٤. وقال عمرو بن أوس٢٥ : هم الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا٢٦.
١ الآية: سقط من ب..
٢ الكسائي وحمزة..
٣ وهو قوله تعالى: ﴿لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه﴾ من الآية (٦٧) من السورة نفسها..
٤ السبعة (٤٣٦) الكشف ٢/١١٩، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف (٣١٥)..
٥ وذلك أن المصدر الميمي من الثلاثي يكون على مفعل بفتح العين إلا إذا كان مثالا واويا صحيح اللام وقد حذفت فاؤه في المضارع نحو وضع أو كان الواوي من باب فعل يفعل نحو وجل ووجل فالمصدر على مفعل الموحل وموضع واسم المكان من الثلاثي الذي يكون مضارعه على يفعل يكون على مفعل، فاسم المكان من خرج وكتب مخرج ومكتب. انظر شرح الشافية ١/١٦٨ – ١٧٠، ١٨١..
٦ اسم المكان الذي على مفعل من الثلاثي الذي مضارعه يفعل خارج عن القياس إلا أنه قد جاء منه كلمات سمع في عينها الفتح والكسر، وهي المفرق والمحشر، والمسجد والمنسك. ولا يخفى أن الكسر وإن كان خارجا عن القياس إلا أنه فصيح الاستعمال. انظر شرح الشافية ١/١٨١..
٧ انظر التبيان ٢/٩٤١..
٨ يبدو أن ابن عادل نقل نص ابن عطية من البحر المحيط ٦/٣٦٨ -٣٦٩، والنص كما في تفسير ابن عطية: (والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون (مفعل) من فعل يفعل، مثل مسجد من سجد يسجد، ولا يسوغ فيه القياس ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب) ١٠/٢٧٨..
٩ انظر شرح الشافية ١/ ١٦٨ – ١٨١..
١٠ وهذه الألفاظ هي: المنسك، والمجزر، والمنبت، والمطلع، والمشرق، والمغرب، والمفرق، والمسقط، والمسكن، والمسجد، والمنخر، والقياس في هذه الألفاظ فتح العين لأن مضارع أفعالها يفعل بضم العين. انظر شرح الشافية ١/١٨١..
١١ الدر المصون: ٥/٧٤..
١٢ في ب: ولكل أمة جعلنا منسكا..
١٣ ما بين القوسين سقط من ب..
١٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣٥..
١٥ في ب: قد. وهو تحريف..
١٦ انظر البغوي ٥/٥٨٤..
١٧ العتر: العتيرة، وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم، مثل ذبح وذبيحة والعتيرة. أول ما ينتج، كانوا يذبحونها لآلهتهم. اللسان (عتر)..
١٨ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٣٥..
١٩ في ب: وانقادوا..
٢٠ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٣٥..
٢١ البغوي: ٥/٥٨٥..
٢٢ الفخر الرازي ٢٣/٣٥..
٢٣ في الأصل: هو..
٢٤ انظر البغوي ٥/٥٨٥..
٢٥ هو عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي أخذ عن أبيه وعبد الله بن عمرو بن العاص وأخذ عنه النعمان بن سالم وعمرو بن دينار. مات سنة ٧٥ هـ.
خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ٢/٢٨٠..

٢٦ انظر البغوي ٥/٥٨٥، الفخر الرازي ٢٣/٣٥، الدر المنثور ٤/٣٦٠..
قوله :﴿ الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾. يجوز أن يكون هذا الموصول في موضع جر أو نصب أو رفع، فالجر من ثلاثة أوجه : النعت للمخبتين، أو البدل منهم، أو البيان لهم. والنصب على المدح. والرفع على إضمارهم١ وهو مدح أيضاً، ويسميه النحويون قطعاً.
والمعنى : إذا ذكر الله ظهر عليهم الخوف من عقاب الله والخشوع والتواضع لله، والصابرين على ما أصابهم من البلايا والمصائب من قبل الله، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن، فأما٢ ما يصيبهم من قبل الظَّلَمة فالصبر عليه غير واجب بل لو أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة ٣.
قوله :«والمُقِيْمي الصَّلاَةِ » في أوقاتها. والعامة على خفض «الصَّلاَة » بإضافة المقيمين إليها ٤.
وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية بنصبها على حذف النون تخفيفاً كما تحذف النون لالتقاء الساكنين٥. وقرأ ابن مسعود والأعمش بهذا الأصل «والمُقِيْمِينَ الصَّلاة » بإثبات النون ونصب الصلاة٦. وقرأ الضحاك :«والمُقِيْم٧ الصَّلاَة » بميم٨ ليس بعدها شيء٩. وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظاً وإنما يظهر مخالفتها لها وقفاً وخطاً. ثم قال :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أي : يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.
١ انظر التبيان ٢/٩٤٢، غير أن أبا البقاء لم يذكر في وجه الجر البيان..
٢ في ب: وأما..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣٥..
٤ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٩، التبيان ٢/٩٤٢، البحر المحيط ٦/٣٦٩..
٥ المراجع السابقة. أي أن أصل هذه القراءة. والمقيمين الصلاة حذفت النون كما حذفت من الذين والذين حيث طال الكلام، أي أنها حذفت للتخفيف ومثل هذا الحذف قول الشاعر:
الحافظو عورة العشيرة لا يأتيهم من ورائنا نطف
وحذف نون اللذين قول الأخطل:
أبني كليب إن عمي اللذا سلبا الملوك وفككا الأغلالا
انظر الكتاب ١/١٤٦..

٦ المختصر (٩٥) تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٩، البحر المحيط ٦/٣٦٩..
٧ في الأصل: والمقيمين. وهو تحريف..
٨ بميم: سقط من الأصل..
٩ تفسير ابن عطية ١٠/٢٧٩، البحر المحيط ٦/٣٦٩..
شيء. وهذه لا تخالف قراءة العامة لفظاً وإنما يظهر مخالفتها لها وقفاً وخطاً. ثم قال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي: يتصدقون فهم خائفون خاشعون متواضعون لله مشتغلون بخدمة ربهم بالبدن والنفس والمال.
قوله
تعالى
: ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ الآية. العامة على نصب «البُدْنَ» على الاشتغال، ورجح النصب وإن كان محوجاً للإضمار على الرفع الذي لم يحوج إليه، لتقدم جملة فعلية على جملة الاشتغال وقرئ برفعها على الابتداء والجملة بعدها الخبر والعامة أيضاً على تسكين الدال. وقرأ الحسن ويروى عن نافع وشيخه أبي جعفر بضمها، وهما جمعان لبدنة نحو ثَمَرة وثُمُر وثُمْر، فالتسكين يحتمل أن يكون تخفيفاً من المضموم وأن يكون أصلاً وقيل: البُدُن والبُدْنِ جمع بَدَن، والبَدَن جمع بَدَنَة نحو خشبة وخشب ثم يجمع خشباً على خُشْب وخُشُب. وقيل: البُدْن اسم مفرد لا جمع يعنون اسم الجنس. وقرأ ابن أبي إسحاق: «البُدُنّ» بضم الباء والدال وتشديد النون وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قرأ كالحسن فوقف على الكلمة وضعف لامها، كقولهم: هذا فرج ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك ويحتمل أن يكون اسماً على فُعُلّ كعُتُلّ.
90
وسميت البدنة بدنة، لأنها تبدن أي تسمن. وهل تختص بالإبل؟ الجمهور على ذلك، قال الزمخشري: والبدن جمع بدنة سميت لعظم بدنها وهي الإبل خاصة لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ألحق البقر بالإبل حين قال: «البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، والبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ» فجعل البقر في حكم الإبل، فصارت البدنة متناولة في الشريعة للجنسين عند أبي حنيفة وأصحابه، وإلا فالبدن هي الإبل، وعليه تدل الآية.
وقيل: لا تختص بالإبل، فقال الليث: البدنة بالهاء تقع على الناقة والبقرة والبعير، وما يجوز في الهدي والأضاحي، ولا تقع على الشاة. وقال عطاء وغيره: ما أشعر من ناقة أو بقرة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين سئل عن البقر فقال: «وهَلْ هِيَ إِلاَ مِنَ البُدْن» (وقيل: البدن يراد به العظيم السن من الإبل والبقر).
ونقل النووي في تحرير ألفاظ التنبيه عن الأزهري أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم. ويقال للسمين من الرجال، وهو اسم جنس مفرد.
قوله: ﴿مِّن شَعَائِرِ الله﴾ هو المفعول الثاني للجعل بمعنى التصيير.
وقوله: ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ الجملة حال من هاء «جَعَلْنَاهَا»، وإما من «شَعَائِرِ اللَّهِ» وهذان مبنيان على أن الضمير في «فِيْهَا» هل هو عائد على «البُدْن» أو على «شعائر الله»، والأول قول الجمهور.
قوله: ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ﴾. نصب «صَوَافَّ» على الحال، أي مصطفة جنب بعضها إلى بعض. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم «صَوَافِي» جمع صافية، أي: خالصة لوجه الله تعالى. وقرأ عمرو بن عبيد كذلك إلا أنه نون الياء فقرأ «صَوَافِياً».
واستشكلت من حيث إنه جمع متناه، وخرجت على وجهين:
أحدهما: ذكره الزمخشري: وهو أن يكون التنوين عوضاً من حرف الإطلاق عند
91
الوقف، يعني أنه وقف على «صَوافِي» بإشباع فتحة الياء فتولد منها ألف، يسمى حرف الإطلاق، ثم عوض عنه هذا التنوين، وهو الذي يسميه النحويون تنوين الترنم.
والثاني: أنه جاء على لغة من يصرف ما لا ينصرف. وقرأ الحسن «صَوَافٍ» بالكسر والتنوين، وجهها أنه نصبها بفتحة مقدرة فصار حكم هذه الكلمة كحكمها حالة الرفع والجر في حذف الياء وتعويض التنوين نحو هؤلاء جوار، ومررت بجوار وتقدير الفتحة في الياء كثير كقولهم:
٣٧٦٥ - أَعْطِ القَوْسَ بَارِيْهَا... وقوله:
92
وقول الآخر:
٣٧٦٧ - وَكَسَوْتُ عَارٍ لَحْمَه... ويدل على هذه قراءة بعضهم «صَوَافِيْ» بياء ساكنة من غير تنوين نحو رأيت القاضي يا فتى. بسكون الياء. ويجوز أن يكون سكن الياء في هذه القراءة للوقف ثم أجرى الوصل مجراه.
وقرأ العبادلة ومجاهد والأعمش «صَوَافِنَ» بالنون جمع صافنة، وهي التي تقوم على ثلاثة وطرف الرابعة أي: على طرف سنبكه، لأن البدنة تعلق إحدى يديها، فتقوم على ثلاثة إلا أن الصوافن إنما يستعمل في الخيل كقوله: «الصَّافِنَاتُ الجِيَاد» كما سيأتي، فيكون استعماله في الإبل استعارة.

فصل


سميت البدنة بدنة لعظمها يريد الإبل العظام الصحاح الأجسام، يقال: بَدَنَ الرجل بُدْناً وبَدَانَةً: إذا ضَخُم، فأما إذا أسن واسترخى يقال: بَدَّنَ تَبْدِيْناً.
﴿جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ أي: من أعلام دينه، سميت شعائر، لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هَدْي. ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ النفع في الدنيا والأجر في العقبى. ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا﴾ عند نحرها «صَوَافَّ» أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك لما روى زياد بن جبير
93
قال: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وقال مجاهد: الصواف إذا علقت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث. قال المفسرون: قوله: ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا﴾ فيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها، وهو أن يقال عند النحر: باسم الله والله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. والحكمة في اصطفافها ظهور كثرتها للناظر فتقوى نفوس المحتاجين، ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجراً، وإعلاء اسم الله وشعائر دينه.

فصل


إذا قال: لله عليَّ بدنة، هل يجوز نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد يجوز وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بمكة. واتفقوا في من نذر هدياً أن عليه ذبحه بمكة.
ومن قال: لله عليَّ جزور أنه يذبحه حيث شاء. وقال أبو حنيفة: البدنة بمنزلة الجزور، فوحب أن يجوز له نحرها حيث يشاء، بخلاف الهدي فإنه قال: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: ٩٥] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. واحتج أبو يوسف بقوله: ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدي.
وأجاب أبو حنيفة بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم، فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.
قوله: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض. وأصل الوجوب السقوط، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الجدار: أي سقط، ومنه الواجب الشرعي كأنه وقع علينا ولزمنا. قال أوس بن حجر:
٣٧٦٦ - كَأَنَّ أَيْدِيْهِنَّ بِالقَاعِ القَرِقْ أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ
94
قوله: ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر﴾ أمر إباحة ﴿وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر﴾ اختلفوا في معناهما، فقال عكرمة وإبراهيم وقتادة: القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر الذي يسأل. قال الأزهري: قال ابن الأعرابي: يقال: عَرَوْتُ فلاناً وأعْتَرَيْتُه وعَرَرْتَه واعْتَرَرْته: إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه.
قال أبو عبيدة: روى العوفي عن ابن عباس: القانع الذي لا يتعرض ولا يسأل، والمعتر الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل. فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة، يقال: قَنِعَ قَنَاعَةً: إذا رضي بما قسم له. وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي: القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل. وقيل: القانع الراضي بالشيء اليسير من قَنِعَ يَقْنَعُ قَنَاعَةً فهو قانع. والقنع بغير ألف هو السائل. ذكره أبو البقاء. وقال الزمخشري القانع السائل من قَنَعْتُ وكَنَعْتُ إذا خضعت له وسألته قنوعاً، والمُعتَرّ: المتعرض بغير سؤال أو القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قَنِعْتُ قَنَعاً وقَنَاعَةً، والمعتر المتعرض للسؤال. انتهى.
وفرق بعضهم بين المعنيين بالمصدر فقال: «قَنَعَ يَقْنَع قُنُوعاً» أي: سأل، وقناعةً أي: تعفف ببلغته واستغنى به، وأنشد للشماخ:
٣٧٦٨ - أَلَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسِ شَمْسُ النَّهَا ر والبَدْرُ لِلْجَبَلِ الوَاجِبِ
٣٧٦٩ - لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحه فيُغْنِي مَفَاقِرهُ أَعَفُّ مِنَ القُنُوْعِ
وقال ابن قتيبة: المعتر المتعرض من غير سؤال، يقال: عَرّهُ واعْتَرّهُ وَعَرَاهُ واعْتَرَاهُ أي: أتاه طالباً معروفه، قال:
95
٣٧٧٠ - لَعَمْرُكَ مَا المُعْتَرُّ يَغْشَى بِلاَدَنَا لِنَمْنَعَهِ بِالضَّائِعِ المُتَهَضِّمِ
وقول الآخر.
٣٧٧١ - سَلِي الطَّارِقَ المُعْتَرَّ يا أُمَّ مَالِكٍ إِذَا ما اعْتَرَانِي بَيْنَ قِدْرِي وَمَجزَرِي
وقرأ أبو رجاء: «القَنِعَ» دون ألف، وفيها وجهان:
أحدهما: أن أصلها القانع فحذف الألف كما قالوا: مِقْوَل، ومِخْيَط وجَنَدِل وعُلَبِط في مِقْوَال، ومِخْيَاط، وجَنَادِل، وعُلاَبِط.
والثاني: أن القانع هو الراضي باليسير، والقَنِع السائل كما تقدم تقريره. قال الزمخشري: والقنع الراضي لا غير. وقرأ الحسن: «والمُعْتَرِي» اسم فاعل من اعْتَرَى يَعْتَرِي وقرأ إسماعيل ويروى عن أبي رجاء والحسن أيضاً «والمُعْتَرِ» بكسر الراء اجتزاء بالكسر عن لام الكلمة.
وقرئ «المُعْتَرِي» بفتح التاء، قال أبو البقاء: وهو في معناه أي: في معنى «المُعْتَر» في قراءة العامة. قال بعضهم: والأقرب أن
96
القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر: هو الذي يعترض ويطالب ويعتريهم حالاً بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبداً.
وقال ابن زيد: القانع المسكين، والمعتر الذي ليس بمسكين، ولا يكون له ذبيحة، ويجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم.
قوله: «كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا». الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر، أي مثل وصفنا ما وصفنا من نحرها قياماً سخرناها لكم نعمة منا لتتمكنوا من نحرها. «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون» لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
قوله: ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا﴾ العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين، لأن التأنيث مجازي، وقد وجد الفصل بينهما. وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتباراً باللفظ.
وقرأ زيد بن عليّ ﴿لُحُومَهَا وَلاَ دِمَاءَها﴾ بالنصب والجلالة بالرفع، «وَلكِنْ يُنَالُهُ» بضم الياء على أن القائم مقام الفاعل «التَّقْوَى». و «مِنْكُم» حال من التقوى، ويجوز أن يتعلق بنفس «يناله».

فصل


لما كانت عادة الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزَّ وجلَّ فأنزل الله هذه الآية ﴿لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا﴾. قال مقاتل: لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها. ﴿ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة، وهي التقوى والإخلاص وما أريد به وجه الله.

فصل


قالت المعتزلة: دلَّت هذه الآية على أمور:
أحدها: أن الذي ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره.
وثانيها: أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره.
97
وثالثها: أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه، وجب أن يكون تقواه فعلاً له، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم.
ورابعها: أنه لما شرط القبول بالتقوى، وصاحب الكبيرة غير مُتَّقٍ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولاً وأنه لا ثواب له.
والجواب: أما الأولان فحقان، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم.
وأما الرابع: فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقياً مطلقاً، ولكنه مُتَّقٍ فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص، فوجب أن تكون طاعته مقبولة، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.
قوله: «كَذَلِكَ سَخَّرهَا» الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر «وَلِتُكَبِّرُوا» متعلق به أي إنما سخرها كذلك لتكبروا الله، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله وبعده. و ﴿على مَا هَدَاكُمْ﴾ متعلق بالتكبير، عُدِّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا، ثم قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره «وَبَشِّر المُحْسِنِيْن» كما قال من قبل «وَبَشِّر المُخْبِتِيْن» قال ابن عباس: المحسنين الموحدين. والمحسن الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسناً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه.
98
قوله :﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا ﴾ العامة على القراءة بياء الغيبة في الفعلين، لأن التأنيث مجازي، وقد وجد الفصل بينهما١. وقرأ يعقوب بالتاء فيهما اعتباراً باللفظ ٢.
وقرأ زيد بن عليّ ﴿ لُحُومَهَا وَلاَ دِمَاءَها ﴾ بالنصب والجلالة بالرفع، «وَلكِنْ يُنَالُهُ » بضم الياء٣ على أن القائم مقام الفاعل «التَّقْوَى ». و «مِنْكُم » حال من التقوى، ويجوز أن يتعلق بنفس «يناله ».

فصل


لما كانت عادة الجاهلية إذا نحروا البدن لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله عزَّ وجلَّ٤ فأنزل الله هذه الآية ﴿ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ﴾٥. قال مقاتل : لن يرفع إلى الله لحومها ولا دماؤها. ﴿ ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ ﴾ أي ولكن يرفع إليه منكم الأعمال الصالحة، وهي التقوى والإخلاص وما أريد به وجه الله ٦.

فصل٧


قالت المعتزلة : دلَّت هذه الآية على أمور :
أحدها : أن الذي ينتفع به فعله دون الجسم الذي ينحره.
وثانيها : أنه سبحانه غني عن كل ذلك وإنما٨ المراد أن يجتهد العبد في امتثال أمره.
وثالثها : أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه، وجب أن يكون تقواه فعلاً له، وإلا كان تقواه بمنزلة اللحوم.
ورابعها : أنه لما شرط القبول بالتقوى، وصاحب الكبيرة غير مُتَّقٍ، فوجب أن لا يكون عمله مقبولاً وأنه لا ثواب له.
والجواب : أما الأولان فحقان، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم.
وأما الرابع : فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقياً مطلقاً، ولكنه مُتَّقٍ فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص، فوجب أن تكون طاعته مقبولة، وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.
قوله :«كَذَلِكَ سَخَّرهَا » الكاف نعت مصدر أو حال من ذلك المصدر «وَلِتُكَبِّرُوا » متعلق به أي إنما سخرها كذلك٩ لتكبروا الله، وهو التعظيم بما يفعله عند النحر وقبله وبعده. و ﴿ على مَا هَدَاكُمْ ﴾ متعلق بالتكبير، عُدِّي بعلى لتضمنه معنى الشكر على ما هداكم أرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه، وهو أن يقول : الله١٠ أكبر ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا، ثم قال بعده على سبيل الوعد لمن امتثل أمره «وَبَشِّر المُحْسِنِيْن » كما قال من قبل «وَبَشِّر المُخْبِتِيْن » قال ابن عباس : المحسنين الموحدين١١. والمحسن١٢ الذي يفعل الحسن من الأعمال فيصير محسناً إلى نفسه بتوفير الثواب عليه ١٣.
١ انظر معاني القرآن للفراء ٢/٢٢٧، البيان ٢/١٧٦، التبيان ٢/٩٤٣، الإتحاف (٣١٥)..
٢ انظر البيان ٢/١٧٦، التبيان ٢/٩٤٣، الإتحاف (٣١٥)..
٣ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٠..
٤ في ب: الله تعالى..
٥ انظر البغوي ٥/٥٩٠..
٦ انظر البغوي ٥/٥٩٠..
٧ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٣٨..
٨ إنما: سقط من ب..
٩ في ب: لذلك..
١٠ في النسختين: اللهم..
١١ انظر البغوي ٥/٥٩١..
١٢ في الأصل: والمحسنين. وهو تحريف..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٣٨..
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَدْفَعُ»، والباقون «يُدَافِع». وفيه وجهان:
أحدهما: أن (فَاعِل) بمعنى (فَعَل) المجرد نحو جاوزته وجزته وسافرت وطارقت.
98
والثاني: أنه أُخرج على زنة المفاعلة مبالغة فيه لأن فعل المبالغة أبلغ من غيره.
وقال ابن عطية: يحسن «يُدَافِع» لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء مقاومته ودفعه عنهم مدافعة. يعني فتختلط فيها المفاعلة.

فصل


لما بيَّن الحج ومناسكه، وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر قبل ذلك صد الكفار عن المسجد الحرام، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال: ﴿إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾ قال مقاتل: إن الله يدفع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة، وهذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم، فاستأذنوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قتلهم سراً فنهاهم.
والمعنى: أن الله يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين، فلذلك قال بعده ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار، وهو كقوله ﴿لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ [آل عمران: ١١١] وقوله ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ﴾ [غافر: ٥١] وقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ [الصافات: ٧٢].
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ﴾ في أمانة الله «كَفُوْرٍ» لنعمته. قال ابن عباس: خافوا الله فجعلوا معه شركاء وكفروا نعمه. قال الزجاج: من تقرب إلى الأصنام بِذَبِيحَتِهِ وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور. قال مقاتل: أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه.
قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾. قرأ «أُذِنَ» مبنياً للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم،
99
والباقون قرأوه مبنياً للفاعل. قال الفراء والزجاج: يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل. وأما «يقاتلون» فقرأه مبنياً للمفعول نافع وابن عامر وحفص، والباقون مبنياً للفاعل. وحصل من مجموع الفعلين أن نافعاً وحفصاً بنياهما للمفعول. وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل، (وأن أبا عمرو) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل، وأن ابن عامر عكس هذا. فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في القتال. و «بأَنَّهُم ظُلِمُوا» متعلق ب «أُذِنَ»، والباء سببية، أي بسبب أنهم مظلومون.

فصل


قال المفسرون: «كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيقول لهم:» اصْبِرُوا فَإِنِّي لَمْ أُوْمَرْ بِالقِتَال «
حتى هاجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال، ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فكانوا يمنعون، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي يمنعونهم من الهجرة «بأنَّهُم ظُلِمُوا»
أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء. ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ وهذا وعد منه تعالى بنصرهم، كما يقول المرء لغيره: إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك.
قوله: ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ يجوز أن يكون «الذين» في محل جر نعتاً للموصول الأول، أو بياناً له، أو بدلاً منه وأن يكون في محل نصب على المدح، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ.
100

فصل


لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظُلموا، فسر ذلك الظلم بقوله ﴿الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله﴾، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين:
الأول: أنهم أُخرجوا من ديارهم.
والثاني: أخرجوهم بسبب قولهم: «رَبُّنَا اللَّه». وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على الاستثناء المنقطع، وهذا مما يُجمع العرب على نصبه، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر. فلو توجه العامل جاز فيه لغتان: النصب وهو لغة الحجاز، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل نحو ما فيها أحد إلا حمار. وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل، لأنك لو قلت: الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح.
الثاني: أنه في محل جر بدلاً من «حَقّ».
قال الزمخشري: أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله ﴿هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله﴾ [المائدة: ٥٩] انتهى.
وممن جعله في موضع جر بدلاً مما قبله الزجاج. إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال: ما أجازاه من البدل لا يجوز، لأن البدل لا يجوز إلا حيث سبقه نفي أو نهي
101
أو استفهام في معنى النفي (نحو: ما قام أحد إلا زيد، ولا يضرب أحد إلا زيد، وهل يضرب أحد إلا زيد) وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل (لا يقال: قام القوم إلا زيد، على البدل، ولا يضرب القوم إلا زيد، على البدل) لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت: قام إلا زيد، وليضرب إلا عمرو لم يجز.
ولو قلت في غير القرآن: أخرجِ الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاماً، هذا إذا تخيل أن يكون ﴿إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾ في موضع جر بدلاً من «غَيْر» المضاف إلى «حَقّ»، وأما إذا كان بدلاً من «حق» كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي غيراً فيصير التركيب: بغير إلا أن يقولوا؛ وهذا لا يصح، ولو قدرنا (إلا) بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد، فنجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب: بغير قولهم ربنا الله، فيكون قد أضيف غير إلى غير، وهي هي، فيصير بغير غير، ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد، أن تقول: ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل (إلا) بمعنى سوى، ويصح على الصفة، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول: ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل.
قوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله﴾ تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين.
وقرأ نافع وابن كثير «لَهُدِمَتْ» بالتخفيف، والباقون بتثقيل الدال على التكثير، لأن المواضع كثيرة متعددة، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضاً.
قوله: ﴿صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ العامة على «صَلَوات» بفتح الصاد واللام جمع صلاة وقرأ جعفر بن محمد «وصُلُوَات» بضمّهما. وروي عنه أيضاً بكسر الصاد وسكون اللام. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام. وأبو العالية بفتح
102
الصاد وسكون اللام، والجحدري أيضاً «وصُلُوت» بضمهما وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صَلْب وصُلُوب والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها. والجحدري أيضاً وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفاً فقرءوا «صُلُوثا»، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضاً، وروي عن الجحدري أيضاً «صُلْوَاث» بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة. وقرأ عكرمة «صِلْوِيثا» بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف وحكى ابن مجاهد أنه قرئ «صِلْوَاث» بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة. وقرأ الجحدري «وصُلُوْب» مثل كعوب بالباء الموحدة وجمع صليب وفُعُول جمع فَعِيل شاذ نحو ظَرِيف وظُرُوف وأَسينَة وأُسُون.
وروي عن أبي عمرو «صَلَوَاتُ» كالعامة إلا أنه لم ينون، منعه الصرف للعلمية والعجمة، كأنه جعله اسم موضع فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات المعهودة. ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات، أو تضمن «هُدِّمَتْ» معنى عطلت، فيكون قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف. والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل
103
ملة بحسبها. وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال: وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها، وقيل: هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى.
وأما غيرها من القراءات، فقيل: هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات والصوامع: جمع صومعة، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع، وهو الحديد القول، ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون. وقال قتادة: للصابئين. والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج.
وقال أبو العالية هي كنائس اليهود. وقال الزجاج: الصوامع للنصارى، وهي التي بنوها في الصحارى، والبيع لهم أيضاً وهي التي بنوها في البلد، والصلوات لليهود.
وقال الزجاج: وهي بالعبرانية صَلُوْثا. والمساجد للمسلمين. وهذا هو الأشهر.
وقال أبو العالية: الصلوات للصابئين. وقال الحسن: إنها بأسرها أسماء المساجد، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد.

فصل


معنى ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال: ولولا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة.
وقال الكلبي: يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد.
104
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس: يدفع الله بالمحسن عن المسيء، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق، وبالذي يحج عن الذي لا يحج.
وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بيْتِهِ وَمِنْ جِيْرَانِهِ» ثم تلا هذه الآية. وقال الضحاك: يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة. وقال مجاهد: يدفع عن الحقوق بالشهود، وعن النفوس بالقصاص. فإن قيل: لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ فالجواب أما على قول الحسن: فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها. وأما على قول غيره فقال الزجاج: المعنى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد.
فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ. فإن قيل: كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ فالجواب من وجوه:
الأول: المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان، إذا قابله بالكفر دون الشكر.
الثاني: ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله: «واسْأَلِ القَرْيَة» أي أهلها، فالمراد مكان الصلاة.
الثالث: لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم: متقلداً سيفاً ورمحاً. وإن كان الرمح لا يتقلد. فإن قيل: لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟
فالجواب لأنها أقدم في الوجود. وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات﴾ [فاطر: ٣٢]. قال عليه السلام: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُون».
105
قوله: ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله﴾ يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من «فِيهَا» عليها. قال الكلبي ومقاتل: يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها. ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فِيهَا» بها تشريفاً لها. ثم قال ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ﴾ أي: ينصر دينه ونبيه.
وقيل: يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ﴾ أي: على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين. «عَزِيْزٌ» وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده.
قوله: ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ﴾ يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلاً من «مَنْ يَنْصُرُه» ذكره الزجاج أي: ولينصرن الله الذين إن مكناهم، و «إنْ مَكَّنَّاهم» شرط و «أقاموا» جوابه، والجملة الشرطية بأسرها صلة الموصول.

فصل


لما ذكر الذين أذن لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال: ﴿الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض﴾ والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق أي: نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد. قال قتادة: هم أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ثم قال ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور﴾ أي: آخر أمور الخلق ومصيرهم أي: يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور له بلا منازع.
106
قوله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾. قرأ «أُذِنَ » مبنياً للمفعول نافع وأبو عمرو وعاصم، والباقون قرأوه مبنياً للفاعل١. قال الفراء والزجاج : يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل٢. وأما «يقاتلون » فقرأه مبنياً للمفعول نافع وابن عامر وحفص، والباقون مبنياً للفاعل٣. وحصل من مجموع الفعلين أن نافعاً وحفصاً بنياهما٤ للمفعول. وأن ابن كثير وحمزة والكسائي بنوهما للفاعل، ( وأن أبا عمرو٥ ) وأبا بكر بنيا الأول للمفعول والثاني للفاعل، وأن ابن عامر عكس هذا. فهذه أربع رتب والمأذون فيه محذوف للعلم به أي للذين يقاتلون في القتال٦. و «بأَنَّهُم ظُلِمُوا » متعلق ب «أُذِنَ »، والباء سببية، أي بسبب أنهم مظلومون.

فصل٧


قال المفسرون٨ : كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج يشكون ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول لهم :«اصْبِرُوا فَإِنِّي لَمْ أُوْمَرْ بِالقِتَال » حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال، ونزلت هذه الآية بالمدينة. وقال مقاتل٩ : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فكانوا يمنعون، فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي يمنعونهم من الهجرة «بأنَّهُم ظُلِمُوا » أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء١٠. ﴿ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ وهذا وعد منه تعالى بنصرهم، كما يقول المرء لغيره : إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك، لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك١١.
١ فعلى قراءة البناء للمفعول القائم مقام الفاعل "للذين"، والله هو الفاعل. ومن قرأ بالبناء للفاعل فعلى أنهم بنوا الفعل للفاعل المتقدم الذكر، وهو الله جل ذكره.
السبعة (٤٣٧) الكشف ٢/١٢٠، البحر المحيط ٦/٣٧٣، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف (٣١٥)..

٢ معاني القرآن للفراء ٢/٢٢٧، معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤٣٠. بتصرف يسير. والنص بلفظه من الفخر الرازي ٢٣/٤٠..
٣ السبعة (٤٣٧)، الكشف ٢/١٢١، النشر ٢/٣٢٦، الإتحاف (٣١٥)..
٤ في ب: بناهما..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٣..
٧ فصل: سقط من الأصل..
٨ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٥٩٢ – ٥٩٣..
٩ في النسختين: مجاهد..
١٠ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/ ٥٩٢ – ٥٩٣..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٠..
قوله :﴿ الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ يجوز أن يكون «الذين » في محل جر نعتاً للموصول الأول١، أو بياناً له، أو بدلاً منه وأن يكون في محل نصب على المدح، وأن يكون في محل رفع على إضمار مبتدأ ٢.

فصل


لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظُلموا، فسر ذلك الظلم بقوله ﴿ الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله ﴾، فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين :
الأول : أنهم أُخرجوا من ديارهم.
والثاني : أخرجوهم بسبب قولهم :«رَبُّنَا اللَّه ». وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم٣.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ ﴾. فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع٤، وهذا مما يُجمع العرب على نصبه، لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه، وما كان كذا أجمعوا على نصبه نحو : ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر. فلو توجه العامل جاز فيه لغتان : النصب وهو لغة الحجاز، وأن يكون كالمتصل في النصب والبدل٥ نحو ما فيها أحد إلا حمار٦. وإنما كانت الآية الكريمة من الذي لا يتوجه عليه العامل٧، لأنك لو قلت : الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح ٨.
الثاني : أنه في محل جر بدلاً من «حَقّ ».
قال الزمخشري : أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله ﴿ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله ﴾٩ ١٠ [ المائدة : ٥٩ ] انتهى.
وممن جعله في موضع جر بدلاً مما قبله الزجاج١١. إلا أن أبا حيان رد ذلك فقال : ما أجازاه من البدل لا يجوز، لأن البدل لا يجوز إلا١٢ حيث سبقه نفي أو نهي أو استفهام في معنى النفي ( نحو : ما قام أحد إلا زيد، ولا يضرب أحد إلا زيد، وهل يضرب أحد إلا زيد١٣ ) وأما إذا كان الكلام موجباً أو أمراً فلا يجوز البدل ( لا يقال : قام القوم إلا زيد، على البدل، ولا يضرب القوم إلا زيد، على البدل ) لأن١٤ البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه، ولو قلت : قام إلا زيد، و١٥ليضرب إلا عمرو لم يجز. ولو قلت في غير القرآن : أخرجِ الناس من ديارهم إلا أن يقولوا لا إله إلا الله لم يكن كلاماً، هذا إذا تخيل أن يكون ﴿ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ ﴾ في موضع جر بدلاً من «غَيْر » المضاف إلى «حَقّ »، وأما إذا كان بدلاً من «حق » كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد، لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي١٦ غيراً فيصير التركيب : بغير إلا أن يقولوا ؛ وهذا لا يصح، ولو قدرنا ( إلا )١٧ بغير كما نقدر في النفي ما مررت بأحد إلا زيد، فنجعله بدلاً لم يصح، لأنه يصير التركيب : بغير قولهم ربنا الله، فيكون قد أضيف غير إلى غير، وهي هي، فيصير بغير غير، ويصح في١٨ ما مررت بأحد إلا زيد، أن تقول : ما مررت بغير زيد، ثم إن الزمخشري حين١٩ مثل البدل وقدره بغير موجب سوى التوحيد، وهذا تمثيل للصفة جعل ( إلا ) بمعنى سوى، ويصح على الصفة، فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل، ويجوز أن تقول : ما مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل٢٠.
قوله :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله ﴾ تقدم الخلاف فيه في البقرة وتوجيه القراءتين٢١.
وقرأ نافع وابن كثير «لَهُدِمَتْ » بالتخفيف، والباقون بتثقيل الدال٢٢ على التكثير، لأن المواضع كثيرة متعددة، والقراءة الأولى صالحة لهذا المعنى أيضا٢٣.
قوله :﴿ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ ﴾ العامة على «صَلَوات » بفتح الصاد واللام جمع صلاة٢٤ وقرأ جعفر بن محمد «وصُلُوَات » بضمّهما٢٥. وروي عنه أيضاً بكسر الصاد وسكون اللام٢٦. وقرأ الجحدري بضم الصاد وفتح اللام٢٧. وأبو العالية بفتح الصاد وسكون اللام٢٨، والجحدري أيضاً «وصُلُوت » بضمهما٢٩ وسكون الواو بعدهما تاء مثناة من فوق مثل صَلْب وصُلُوب٣٠ والكلبي والضحاك كذلك إلا أنهما أعجما التاء بثلاث من فوقها٣١. والجحدري أيضاً وأبو العالية وأبو رجاء ومجاهد كذلك إلا أنهم جعلوا بعد الثاء المثلثة ألفاً فقرءوا «صُلُوثا »٣٢، وروي عن مجاهد في هذه التاء المثناة من فوق أيضاً٣٣، وروي عن الجحدري أيضاً «صُلْوَاث » بضم الصاد وسكون اللام وألف بعد الواو والثاء مثلثة٣٤. وقرأ عكرمة «صِلْوِيثا » بكسر الصاد وسكون اللام وبعدها واو مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف٣٥ وحكى ابن مجاهد٣٦ أنه قرئ «صِلْوَاث » بكسر الصاد وسكون اللام بعدها واو بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة٣٧. وقرأ الجحدري «وصُلُوْب » مثل كعوب بالباء الموحدة٣٨ وجمع صليب وفُعُول جمع فَعِيل شاذ نحو ظَرِيف وظُرُوف وأَسينَة وأُسُون ٣٩.
وروي عن أبي عمرو٤٠ «صَلَوَاتُ » كالعامة إلا أنه لم ينون، منعه الصرف للعلمية والعجمة، كأنه جعله اسم موضع٤١ فهذه أربع عشرة قراءة المشهور منها واحدة وهي هذه الصلوات٤٢ المعهودة. ولا بد من حذف مضاف ليصح تسلط الهدم أي مواضع صلوات، أو تضمن «هُدِّمَتْ » معنى عطلت، فيكون قدراً مشتركاً بين المواضع والأفعال فإن تعطيل كل شيء بحسبه، وأخر المساجد لحدوثها في الوجود أو الانتقال إلى الأشرف٤٣. والصلوات في الأمم الملتين صلاة كل ملة٤٤ بحسبها. وظاهر كلام الزمخشري أنها بنفسها اسم مكان فإنه قال : وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها، وقيل : هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتا انتهى٤٥.
وأما غيرها من القراءات، فقيل : هي سريانية أو عبرانية دخلت في لسان العرب ولذلك كثر فيها اللغات٤٦ والصوامع : جمع صومعة، وهي البناء المرتفع الحديد الأعلى من قولهم رجل أصمع، وهو الحديد القول، ووزنها فَوْعَلة كدَوْخَلة٤٧، وهي متعبد الرهبان لأنهم ينفردون. وقال قتادة : للصابئين٤٨. والبيع جمع بيعة وهي متعبد النصارى قاله قتادة والزجاج٤٩.
وقال أبو العالية هي كنائس اليهود. ٥٠ وقال الزجاج : الصوامع للنصارى، وهي التي بنوها في الصحارى، والبيع لهم أيضاً وهي التي بنوها في البلد، والصلوات لليهود ٥١.
وقال الزجاج : وهي بالعبرانية صَلُوْثا٥٢. والمساجد للمسلمين. وهذا هو الأشهر.
وقال أبو العالية : الصلوات للصابئين٥٣. وقال الحسن : إنها بأسرها أسماء المساجد، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد ٥٤.

فصل


معنى ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ أي بالجهاد وإقامة الحدود كأنه قال : ولولا دفع الله أهل الشرك بالمؤمنين من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الإيمان وعطلوا ما يبنونه٥٥ من مواضع العبادة ٥٦.
وقال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن٥٧ القاعدين عن الجهاد٥٨.
وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس : يدفع الله بالمحسن٥٩ عن المسيء، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي٦٠، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق، وبالذي يحج عن الذي لا يحج٦١.
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :«إِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِالمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بيْتِهِ وَمِنْ جِيْرَانِهِ » ثم تلا هذه الآية٦٢. وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة٦٣. وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود، وعن النفوس بالقصاص٦٤. فإن قيل : لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين ؟ فالجواب أما على قول الحسن : فالمراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين وإن اختلفت العبارات عنها. وأما على قول غيره فقال الزجاج : المعنى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يتعبد فيه، فلولا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وفي زمن نبينا المساجد٦٥. فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ٦٦. فإن قيل : كيف تهدم الصلوات على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : المراد من هدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان، إذا قابله بالكفر دون الشكر٦٧.
الثاني : ما تقدم من باب حذف المضاف كقوله :«واسْأَلِ القَرْيَة »٦٨ أي أهلها، فالمراد مكان الصلاة.
الثالث : لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه كقولهم : متقلداً سيفاً ورمحاً. وإن كان الرمح لا يتقلد٦٩. فإن قيل : لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد ؟
فالجواب لأنها أقدم في الوجود. وقيل أخر المساجد في الذكر كما في قوله :﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات ﴾٧٠ [ فاطر : ٣٢ ]. قال عليه السلام٧١ :«نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُون »٧٢.
قوله :﴿ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله ﴾ يجوز أن يكون صفة للمواضع المتقدمة كلها إن أعدنا الضمير من «فِيهَا » عليها٧٣. قال الكلبي ومقاتل : يعود إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كلها٧٤. ويجوز أن يكون صفة للمساجد فقط إن خصصنا الضمير في «فِيهَا » بها٧٥ تشريفاً لها٧٦. ثم قال ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ ﴾ أي : ينصر دينه ونبيه٧٧.
وقيل : يتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. ﴿ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ ﴾٧٨ أي : على هذه النصرة التي وعدها٧٩ المؤمنين. «عَزِيْزٌ » وهو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده ٨٠.
١ من قوله تعالى: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا﴾ من الآية السابقة واقتصر ابن الأنباري على هذا الوجه. البيان ٢/١٧٦..
٢ انظر هذه الأوجه في التبيان ٢/٩٤٤، البحر المحيط ٦/٣٧٤، إلا أن أبا البقاء وأبا حيان لم يذكرا في وجر الجر البيان..
٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٠..
٤ وهو الراجح. تفسير ابن عطية ١٠/٢٨٨ – ٢٨٩، البيان ٢/١٧٧، البحر المحيط ٦/٣٧٤..
٥ وهو لغة تميم..
٦ انظر هذه القضية في البحر المحيط ٦/٣٧٤، وشرح التصريح ١/٣٤٨ – ٣٥٣، وشرح الأشموني ٢/١٤١ – ١٤٨..
٧ العامل: سقط من ب..
٨ البحر المحيط ٦/٣٧٤..
٩ من قوله تعالى: ﴿قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون﴾ [المائدة: ٥٩]..
١٠ الكشاف ٣/٢٤..
١١ فإنه قال: ("أن" في موضع جر، المعنى أخرجوا بلاحق إلا بقولهم: ربنا الله أي لم يخرجوا إلا بأن وحدوا الله، فأخرجتهم عبدة الأوثان لتوحيدهم) معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٣٠..
١٢ في ب: إلا من..
١٣ ما بين القوسين تكملة من البحر المحيط..
١٤ في ب: إلا أن..
١٥ في ب: أو..
١٦ في ب: يل..
١٧ إلا: تكملة من البحر المحيط..
١٨ في ب: سقط من الأصل..
١٩ في ب: عين. وهو تحريف..
٢٠ البحر المحيط ٦/٣٧٤..
٢١ عند قوله تعالى: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض﴾ [البقرة: ٢٥١]..
٢٢ السبعة (٤٣٨)، الكشف ٢/١٢١، النشر ٢/٣٢٧، الإتحاف (٣١٦)..
٢٣ في ب: صالحة له والمعنى أيضا..
٢٤ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٩١، التبيان ٢/٩٤٤، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٢٥ في النسختين: بضمها. والصواب ما أثبته. المحتسب ٢/٨٣، والتبيان ٢/٩٤٤ البحر المحيط ٦/٣٧٥، وحكاها ابن خالويه عنه بضم الصاد وسكون اللام. المختصر (٩٦)..
٢٦ "صلوات" البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٢٧ "صلوات" المحتسب ٢/٨٣، التبيان ٢/٩٤٤، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٢٨ "صلوات" المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٢٩ في الأصل: بضمها..
٣٠ المختصر (٩٦)، المحتسب ٢/٨٣، التبيان ٢/٩٤٤، البحر المحيط ٦/٣٧٥. قال الكلبي: "صلوات" مساجد اليهود. وقال الجحدري: "صلوت" مساجد النصارى. المحتسب ٢/٨٤..
٣١ "صلوث". البحر المحيط ٦/٣٧٥. قال قطرب: صلوث بالثاء: بعض بيوت النصارى. قال: والصلوث: الصوامع الصغار لم يسمع لها بواحد. المحتسب ٢/٨٥..
٣٢ في الأصل: صلوة، وهو تحريف. المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٣٣ "صلوتا". المحتسب ٢/٨٣..
٣٤ المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٣٥ المختصر (٩٦)، المحتسب ٢/٤٣، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٣٦ أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي الحافظ أبو بكر بن مجاهد البغدادي، أول من سبع السبعة، قرأ على عبد الرحمان بن عبدوس وقنبل المكي وعبد الله بن كثير وغيرهم وروى عنه إبراهيم بن أحمد الحطاب وإبراهيم بن عبد الرحمن بن أحمد وغيرهما. مات سنة ٣٢٤ هـ. طبقات القراء ١/١٣٩ – ١٤٢..
٣٧ المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٣٨ المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٣٩ الأسينة: سير واحد من سيور تضفر جميعها فتجعل نسعا أو عنانا، وكل قوة من قوى الوتر أسينة. والجمع أسائن. اللسان (أسن) البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٤٠ أي: وروى هارون عن أبي عمرو..
٤١ البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٤٢ في ب: الصلوة. وهو تحريف..
٤٣ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٥..
٤٤ في ب: مكة..
٤٥ الكشاف ٣/٣٤-٣٥..
٤٦ انظر المحتسب ٢/٨٤..
٤٧ الدّوخلة: البطنة، والبطنة امتلاء البطن من الطعام. اللسان (دخل – بطن)..
٤٨ انظر البغوي ٥/٥٩٤. وتفسير ابن عطية ١٠/٢٩١..
٤٩ انظر معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٣٠، الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٥٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٥١ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٣٠، الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٥٢ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٣٠..
٥٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٥٤ المرجع السابق..
٥٥ في الأصل: ما يبنوه..
٥٦ النظر الفخر الرازي ٢٣/٤٠ – ٤١..
٥٧ في الأصل: على..
٥٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٥٩ في ب : المحسن..
٦٠ في الأصل: لم يصل..
٦١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٦٢ المرجع السابق..
٦٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٦٤ المرجع السابق..
٦٥ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٣١..
٦٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١..
٦٧ في الأصل: الشرك. وهو تحريف..
٦٨ من قوله تعالى: ﴿واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون﴾ [يوسف: ٨٢]..
٦٩ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤١ – ٤٢..
٧٠ من قوله تعالى: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير﴾ [فاطر: ٣٢]..
٧١ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٧٢ أخرجه البخاري (جمعة) ١/١٥٧، ١٦٠، مسلم (جمعة) ٢/٥٨٦، وانظر الفخر الرازي ٢٣/٤٢..
٧٣ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٢٩٣، التبيان ٩٤٤..
٧٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٢..
٧٥ بها: سقط من ب..
٧٦ انظر إعراب القرآن للنحاس ٣/١٠١. والفخر الرازي ٢٣/٤٢..
٧٧ انظر البغوي ٥/٥٩٥..
٧٨ في ب: لقوي عزيز..
٧٩ في ب: وعد..
٨٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٢..
قوله :﴿ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ ﴾ يجوز في هذا الموصول ما جاز في الموصول قبله١ ويزيد هذا عليه بأنه يجوز أن يكون بدلاً من «مَنْ يَنْصُرُه » ذكره الزجاج٢ أي : ولينصرن الله الذين إن مكناهم، و «إنْ مَكَّنَّاهم » شرط و «أقاموا » جوابه، والجملة الشرطية بأسرها صلة الموصول٣.

فصل


لما ذكر الذين أذن لهم في القتال وصفهم في هذه الآية فقال :﴿ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض ﴾ والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق٤ أي : نصرناهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد. قال قتادة٥ : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون لأن الأنصار لم يخرجوا من ديارهم فوصفهم بأنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ثم قال ﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور ﴾ أي : آخر أمور الخلق ومصيرهم أي : يبطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور له بلا منازع ٦.
١ في قوله تعالى: ﴿الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق﴾ [الحج: ٤٠] التبيان ٢/٩٤٤، البحر المحيط ٦/٣٧٦..
٢ معاني القرآن وإعرابه ٣/٤٣١، وانظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٠، الكشاف ٣/٣٥، تفسير ابن عطية ١٠/٢٩٥، البيان ٢/١٧٧..
٣ انظر البيان ٢/١٧٧..
٤ الفخر الرازي ٢٣/٤٢..
٥ من هنا نقله عن البغوي ٥/٥٩٥..
٦ آخر ما نقله عن البغوي ٥/٥٩٥..
قوله تعالى: ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ الآية. لما بيَّن إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم، وضمن للرسول النصرة، وبين أن لله عاقبة الأمور، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول بالصبر على أذيته بالتكذيب وغيره، فقال: وإن يكذبوك قومك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم، وذكر الله تعالى سبعة منهم. فإن قيل: فلم قال: وكذب موسى. ولم يقل: وقوم موسى؟ فالجواب من وجهين:
الأول: أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط.
الثاني: كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم، وكُذِّب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره. «فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِيْنَ» أي: أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ» عاقبتهم ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب، وهذا استفهام تقرير، أي؛ أليس كان واقعاً قطعاً، أبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالحياة موتاً، وبالعمارة خراباً؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة، فلا بد من الرضا والتسليم، وإن شق ذلك على القلب.
والنكير: مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار. وأثبت يا نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً.
قوله: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ يجوز أن تكون «كأين» منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره (أَهْلَكْتُهَا) وأن تكون في محل رفع بالابتداء، والخبر (أَهْلَكْتُهَا). وتقدم تحقيق القول فيها. قال بعضهم: المراد من قوله: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ وكم، على وجه التكثير.
107
وقيل: معناه: ورب قرية. والأول أولى، لأنه أوكد في الزجر.
وقوله: «أَهْلَكْتُهَا» قرأ أبو عمرو ويعقوب «أَهْلَكْتُها» بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد لقوله: ﴿فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أَهْلَكْنَاهَا».
قوله: ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ جملة حالية من هاء «أَهْلَكْنَاهَا».
وقوله: ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ عطف على «أَهْلَكْتُها»، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشري بقوله: والثانية - يعني قوله: «فَهِيَ خَاوِيَةٌ» - لا محل لها، لأنها معطوفة على «أَهْلَكْنَاهَا» وهذا الفعل ليس له محل. تفريعاً على القول بالاشتغال، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة.

فصل


المعنى: وكم من قرية أهلكتها (أي أهلها) لقوله: «وَهِيَ ظَالِمَةٌ»، أي: وأهلها ظالمون، «فَهِيَ خَاوِيَةٌ» ساقطة «عَلَى عُرُوشِهَا» على سقوفها.
قال الزمخشري: كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي: الساقط من خوى النجم: إذا سقط، أو من خوى المنزل: إذا خلا من أهله. فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي: خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها، فسقطت فوق السقوف. وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر، أي: هي خالية وهي على عروشها، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان، وبقيت الحيطان قائمة، فهي مشرفة على السقوف الساقطة. قوله: «وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ» عطف على «قَرْيَةٍ»، وكذلك «قَصْرٍ» أي: وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما. وقيل: يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عُرُوشِها» أي: خاوية على بئر وقصر أيضاً، وليس بشيء.
108
والبئر: من بأرت الأرض، أي: حفرتها ومنه التأبير، وهو شق كيزان الطلع، والبئر: فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب. وقوله:
٣٧٧٢ - وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ... يحتمل التذكير والتأنيث. والمُعَطَّلَةُ: المهملة، والتعطيل: الإهمال.
وقرأ الحسن: «مُعْطَلَةٍ» بالتخفيف، يقال: أَعْطَلَتِ البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء. والمعنى: وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها. والمَشيدُ: المرتفع، قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل. وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد: المُجصص من الشِّيد وهو الجص. وإنما بني هنا من شاده، وفي النساء من شَيَّدَهُ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف، ولأنه رأس آية وفاصلة.

فصل


المعنى أنه تعالى بيَّن أن القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك البئر التي تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب، ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا
109
ساكن، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر، وهذا يدل على أن تفسير «على» ب «مع» أولى، لأن التقدير: وهي خاوية مع عروشها. قيل: إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن، أما القصر على قُلَّة جبل والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله، وبقي البئر والقصر خاليين. وروى أبو روق عن الضحاك: أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات، فبنوا قوم صالح حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس، وجعلوا وزيره سنحاريب، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان، وكان حمّالاً فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم.
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: وهذا عجيب، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها: عكا، فكيف يقال: إنه بحضرموت.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض﴾ الآية. يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية، فذكر ما يتكامل به الاعتبار، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع، فلهذا قال: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور﴾.
قوله: «فَتَكُونَ» منصوب على جواب الاستفهام، وعبارة الحوفي على جواب التقرير. وقيل: على جواب النفي وقرأ مبشر بن عبيد: «فَيَكُونَ» بالياء من
110
تحت لأن التأنيث مجازي. ومتعلق العقل محذوف أي: ما حل بالأمم السالفة. ثم قال: ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ﴾ أي: يعلمون بها، وهذا يدل على أن العقل العلم، وعلى أن محل العلم هو القلب، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل، فيكون القلب محلاً للعقل، ولهذا سمي الجهل بالعمى، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى. ثم قال: ﴿أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أي: ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها.
قوله: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى﴾ الضمير للقصة، و ﴿لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ مفسرة له، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث، ولو ذكر في الكلام فقيل: «فإنه» لجاز، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره «الأبصار» وفي «تعمى» ضمير راجع إليه.
قال أبو حيان: وما ذكره لا يجوز، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب (رُبَّ)، وفي باب نعم وبئس، وفي باب الإعمال، (وفي باب البدل)، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها، وفي باب ضمير الشأن، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة، وهذا ليس واحداً من الستة.
قال شهاب الدين: بل هذا من المواضع المذكورة، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنَّ» فهو نظير قولهم: هي العرب تقول ما شاءت، و:
٣٧٧٣ - هِيَ النَّفْسَ تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت... وقوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا﴾ [الأنعام: ٢٩] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ، ولا أثر له، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك.
قوله: ﴿التي فِي الصدور﴾ صفة أو بدل أو بيان، وهل هو توكيد كقوله: «يَطِيرُ
111
بِجَنَاحَيْهِ» لأن القلوب لا تكون في غير الصدور، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري: الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك.
(فقولك: الذي بين فكيك) تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً. وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله: تعمدت به إياه، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير، وليس من مواضع فصله، وكان صوابه أن يقول تعمدته به. كما تقول: السيف ضربتك به، لا ضربت به إياك.
وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى: ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ﴾ [الممتحنة: ١] ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ [النساء: ١٣١] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله. قال شهاب الدين: وأي خطأ في مثل هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده.
وقال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: ٣٧]، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر. وفي محل العقل خلاف مشهور، وإلى الأول مال ابن عطية قال: هو مبالغة كما تقول: نظرت إليه بعيني، وكقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم﴾ [آل عمران: ١٦٧]. وقد تقدم أن في قوله: «بِأَفْوَاهِهِمْ» فائدة زيادة على التأكيد.
112
فإن قيل : فلم قال : وكذب موسى. ولم يقل : وقوم موسى ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : أن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط.
الثاني : كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم، وكُذِّب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره. «فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِيْنَ » أي : أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي «ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ » عاقبتهم ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب، وهذا استفهام تقرير، أي ؛ أليس كان واقعاً قطعاً، أبدلتهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالحياة موتاً، وبالعمارة خراباً ؟ وأعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصر على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض، فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم، فإنه تعالى إنما يمهل لمصلحة، فلا بد من الرضا والتسليم، وإن شق ذلك على القلب ١.
والنكير : مصدر بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار٢. وأثبت ياء نكيري حيث وقعت ورش في الوصل وحذفها في الوقف، والباقون بحذفها٣ وصلاً ووقفاً ٤.
١ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/ ٤٣ – ٤٤..
٢ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٩٥، البحر المحيط ٦/٣٧٦..
٣ في ب: بحد فهما. وهو تحريف..
٤ السبعة (٤٤١)، الكشف ٢/١٢٤، النشر ٢/٣٢٧، الإتحاف ٦/٣..
قوله :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ يجوز أن تكون «كأين » منصوبة المحل على الاشتغال بفعل مقدر يفسره ( أَهْلَكْتُهَا ) وأن تكون في محل رفع بالابتداء، والخبر ( أَهْلَكْتُهَا ) ١. وتقدم تحقيق القول فيها٢. قال بعضهم : المراد من قوله :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ وكم، على وجه التكثير.
وقيل : معناه : ورب قرية. والأول أولى، لأنه أوكد في الزجر.
وقوله :«أَهْلَكْتُهَا » قرأ أبو عمرو ويعقوب «أَهْلَكْتُها » بالتاء، وهو اختيار أبي عبيد لقوله :﴿ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة «أَهْلَكْنَاهَا »٣.
قوله :﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ جملة حالية من هاء «أَهْلَكْنَاهَا » ٤.
وقوله :﴿ فَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ عطف على «أَهْلَكْتُها »، فيجوز أن تكون في محل رفع لعطفها على الخبر على القول الثاني، وأن لا تكون لها محل لعطفها على الجملة المفسرة على القول الأول. وهذا عنى الزمخشري بقوله : والثانية - يعني قوله :«فَهِيَ خَاوِيَةٌ » - لا محل لها، لأنها معطوفة على «أَهْلَكْنَاهَا » وهذا الفعل ليس له محل٥. تفريعاً٦ على القول بالاشتغال، وإلا إذا قلنا إنه خبر لكان له محل ضرورة.

فصل٧


المعنى : وكم من قرية أهلكتها ( أي أهلها٨ ) لقوله :«وَهِيَ ظَالِمَةٌ »، أي : وأهلها ظالمون، «فَهِيَ خَاوِيَةٌ » ساقطة «عَلَى عُرُوشِهَا » على سقوفها. قال الزمخشري : كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي : الساقط من خوى النجم : إذا سقط، أو من خوى المنزل : إذا خلا من أهله٩. فإذا فسرنا الخاوي بالساقط كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي : خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها، فسقطت فوق السقوف. وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خلت من الناس مع بقاء عروشها وسلامتها ويمكن أن يكون خبراً بعد خبر، أي : هي١٠ خالية وهي على عروشها، يعني أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان، وبقيت الحيطان قائمة، فهي مشرفة على السقوف الساقطة١١. قوله :«وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ » عطف على «قَرْيَةٍ »، وكذلك «قَصْرٍ » أي : وكأيٍّ من بئر وقصر أهلكناهما١٢. وقيل : يحتمل أن تكون معطوفة وما بعدها على «عُرُوشِها » أي : خاوية على بئر وقصر أيضاً، وليس بشيء١٣. والبئر : من بأرت الأرض، أي : حفرتها ومنه التأبير، وهو شق كيزان الطلع، والبئر : فعل بمعنى مفعول كالذِّبح بمعنى المَذْبُوح، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب١٤.
وقوله :
وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ١٥ ***. . .
يحتمل التذكير والتأنيث. والمُعَطَّلَةُ : المهملة، والتعطيل : الإهمال.
وقرأ الحسن :«مُعْطَلَةٍ » بالتخفيف١٦، يقال : أَعْطَلَتِ١٧ البئرُ وعَطَلْتُهَا فعَطَلَتْ بفتح الطاء، وأما عَطِلَتِ المرأة من الحُلِيّ فبكسر الطاء١٨. والمعنى : وكم من بئر معطلة متروكة مخلاة عن أهلها. والمَشيدُ : المرتفع، قال قتادة والضحاك ومقاتل : رفيع طويل١٩. وقال سعيد بن جُبير وعطاء ومجاهد : المُجصص من الشِّيد٢٠ وهو الجص٢١. وإنما بني هنا من شاده، وفي النساء٢٢ من شَيَّدَهُ، لأنه هناك بعد جمع فناسب التكثير، وهنا بعد مفرد فناسب التخفيف، ولأنه رأس آية وفاصلة٢٣.

فصل


المعنى أنه تعالى بيَّن أن٢٤ القرية مع تكليف بنيانهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف وكذلك٢٥ البئر التي٢٦ تكلفوها وصارت شربهم صارت معطلةً بلا شارب، ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجصِّ وطولوه صار خالياً بلا ساكن، وجعل ذلك عبرة لمن اعتبر، وهذا يدل على أن تفسير «على » ب «مع » أولى، لأن التقدير : وهي خاوية مع عروشها٢٧. قيل : إنَّ البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن، أما القصر على قُلَّة٢٨ جبل والبئر في سفحه٢٩، ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فأهلكهم الله، وبقي البئر والقصر خاليين٣٠. وروى أبو روق عن الضحاك : أن هذه البئر بحضرموت في بلدة يقال لها حاضوراء وذلك أن صالحاً مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به أتوا حضرموت، فلما نزلوها مات صالح فسميت بذلك لأن صالحاً حين حضرها مات، فبنوا قوم صالح حاضوراء، وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم جلهس بن٣١ جلاس، وجعلوا وزيره سنحاريب، فأقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً، فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان، وكان حمّالاً فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطّل بئرهم وخرب قصورهم ٣٢.
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري : وهذا عجيب، لأني زرت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها٣٣ : عكا، فكيف يقال : إنه بحضرموت ٣٤.
١ انظر التبيان ٢/٩٤٤، البحر المحيط ٦/٣٧٦..
٢ عند قوله تعالى: ﴿وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير﴾ [آل عمران: ١٤٦]..
٣ السبعة (٤٣٨). الكشف ٢/١٢١، النشر ٢/٣٢٧، الإتحاف (٣١٦)..
٤ انظر الكشاف ٣/٣٥، البحر المحيط ٦/٣٧٦..
٥ الكشاف ٣/٤٥..
٦ في ب: تعريفا..
٧ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٤٤ – ٤٥..
٨ ما بين القوسين سقط من ب..
٩ الكشاف ٣/٣٥..
١٠ هي: سقط من الأصل..
١١ انظر الكشاف أيضا ٣/٣٥..
١٢ انظر مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٠، تفسير ابن عطية ١٠/٢٩٧، البيان ٢/١٧٨، التبيان ٢/٩٤٥، البحر المحيط ٦/٣٧٦..
١٣ قال الفراء: (البئر والقصر يخفضان على العروش، وإذا نظرت في معناها وجدتها ليست تحسن فيها (على) لأن العروش أعالي البيوت، والبئر في الأرض، وكذلك القصر، لأن القرية لم تخو على القصر، ولكنه أتبع بعضه بعضا) معاني القرآن ٢/٢٢٨، وهذا يوضح سبب الضعف في هذا الوجه، ولهذا قال أبو حيان: (وجعل "وبئر معطلة وقصر مشيدة" معطوفين على "عروشها" جهل بالفصاحة) البحر المحيط ٦/٣٧٧ ولا يخفى أن الفراء قد عاد في نهاية كلامه إلى تفضيل هذا الوجه وهو العطف على العروش حيث قال: (والأول أحب إلي) معاني القرآن ٢/٢٢٨، وانظر أيضا مشكل إعراب القرآن ٢/١٠٠، تفسير ابن عطية ١٠/٢٩٧، البيان ٢/١٧٨..
١٤ في الأصل: القليل. وهو تحريف..
١٥ عجز بيت من بحر الوافر قاله سنان بن الفحل الطائي، وصدره:
فإن الماء ماء أبي وجدي ***...
وهو في أمالي ابن الشجري ٢/٣٠٦، الإنصاف ١/٣٨٤، ابن يعيش ٣/١٧٤، ٨/٤٥، شرح التصريح ١/١٣٧، الهمع ١/٨٤، الأشموني ١/١٥٨، الخزانة ٦/٣٤، الدرر ١/٥٩ شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٥٩١..

١٦ البحر المحيط ٦/٣٧٦..
١٧ في ب: عطلت..
١٨ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٦..
١٩ انظر القرطبي ١٢/٧٤..
٢٠ في ب: المشد. وهو تحريف. الشيد: بالكسر كل ما طلي به الحائط من جص أو ملاط وبالفتح المصدر، تقول: شاده يشيده شيدا: جصصه. اللسان (شيد)..
٢١ انظر القرطبي ١٢/٧٤..
٢٢ وهو قوله تعالى: ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة﴾ [النساء: ٧٨]..
٢٣ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٧..
٢٤ في الأصل: أهل. وفي ب: أن أهل..
٢٥ في الأصل: هذا..
٢٦ في الأصل: الذي..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٥..
٢٨ قلة كل شيء: رأسه. والقلة: أعلى الجبل. وقلة كل شيء أعلاه. اللسان (قلل)..
٢٩ السفح: عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء، وهو عرضه المضطجع، وقيل: أسفل الجبل. وقيل: هو الحضيض الأسفل، والجمع سفوح. اللسان (سفح)..
٣٠ انظر البغوي ٥/٥٩٦..
٣١ في ب: حلبس ابن..
٣٢ انظر البغوي ٥/٥٩٦ – ٥٩٧، والفخر الرازي ٢٣/٤٥..
٣٣ لها: سقط من الأصل..
٣٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٥..
قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض ﴾ الآية. يعني كفار مكة أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية، فذكر ما يتكامل به الاعتبار، لأن الرؤية لها حظّ عظيم في الاعتبار، وكذلك سماع الأخبار ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبير القلب، لأن من عاين وسمع ولم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع، فلهذا قال :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾١.
قوله :«فَتَكُونَ » منصوب على جواب الاستفهام٢، وعبارة الحوفي على جواب التقرير٣. وقيل : على جواب النفي٤ وقرأ مبشر بن عبيد٥ :«فَيَكُونَ » بالياء٦ من تحت لأن التأنيث مجازي. ومتعلق العقل٧ محذوف أي : ما حل بالأمم السالفة٨. ثم قال :﴿ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ أي : يعلمون بها، وهذا يدل على أن العقل٩ العلم، وعلى أن محل العلم هو القلب، لأنه جعل القلب آلة لهذا العقل، فيكون القلب محلاً للعقل، ولهذا سمي الجهل بالعمى، لأن الجاهل لكونه متحيراً يشبه الأعمى١٠. ثم قال١١ :﴿ أَوْ١٢ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ أي : ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية يعتبرون بها.
قوله :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ﴾ الضمير للقصة، و ﴿ لاَ تَعْمَى الأبصار ﴾ مفسرة له، وحسن التأنيث في الضمير كونه وليه فعل بعلامة تأنيث، ولو ذكر في الكلام فقيل :«فإنه » لجاز، وهي قراءة مروية عن عبد الله بن مسعود١٣، والتذكير باعتبار الأمر والشأن. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً يفسره «الأبصار » وفي «تعمى » ضمير راجع إليه١٤.
قال أبو حيان : وما ذكره لا يجوز، لأن الذي يفسره ما بعده محصور وليس هذا واحداً منه وهو في باب ( رُبَّ )، وفي باب نعم وبئس، وفي باب الإعمال، ( وفي باب البدل١٥ )، وفي باب المبتدأ والخبر على خلاف في بعضها، وفي باب ضمير الشأن، والخمسة الأُول تفسر بمفرد إلا ضمير الشأن فإنه يفسر بجملة١٦، وهذا ليس واحداً من الستة١٧.
قال شهاب الدين : بل١٨ هذا من المواضع المذكورة، وهو باب المبتدأ غاية ما في ذلك أنه دخل عليه ناسخ وهو «إنَّ » فهو نظير قولهم : هي العرب تقول ما شاءت، و :
هِيَ النَّفْسَ تَحْمِلُ مَا حُمِّلَت١٩ ***. . .
وقوله تعالى :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا ﴾٢٠ [ الأنعام : ٢٩ ] وقد جعل الزمخشري جميع ذلك مما يفسر بما بعده، ولا فرق بين الآية الكريمة وبين هذه الأمثلة إلا دخول الناسخ، ولا أثر له، وعجيب من غفلة الشيخ عن ذلك ٢١.
قوله :﴿ التي فِي الصدور ﴾ صفة أو بدل أو بيان، وهل هو توكيد كقوله :«يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ »٢٢ لأن القلوب لا تكون في غير الصدور، أو لها معنى زائد كما قال الزمخشري : الذي قد تعورف واعتقد أنَّ العمى في الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة وَمَثلٌ، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف لتقرر أن مكان العمى٢٣ هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك. ( فقولك : الذي بين فكيك )٢٤ تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة مني ولا سهواً، ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمداً٢٥. وقد رد أبو حيان على الزمخشري قوله : تعمدت به إياه، وجعل هذه العبارة عجمة من حيث إنه فصل الضمير، وليس من مواضع فصله، وكان صوابه أن يقول تعمدته به. كما تقول : السيف ضربتك به، لا ضربت به إياك ٢٦.
وقد تقدم نظير هذا الرد والجواب عنه بما أجيب عن قوله تعالى :﴿ يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ ﴾٢٧ [ الممتحنة : ١ ] ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ﴾ ٢٨ [ النساء : ١٣١ ] وهو أنه مع قصد تقديم غير الضمير عليه لغرض يمنع اتصاله. قال شهاب الدين : وأي خطأ في مثل٢٩ هذا حتى يدعي العجمة على فصيح شهد له بذلك أعداؤه وإن كان مخطئاً في بعض الاعتقادات مما لا تعلق له بما نحن بصدده٣٠.
وقال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر٣١، وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾٣٢ [ ق : ٣٧ ]، وعند قوم أن محل الفكر هو الدماغ، فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر٣٣. وفي محل العقل خلاف مشهور، وإلى الأول مال ابن عطية قال : هو مبالغة كما تقول : نظرت إليه بعيني، وكقوله :﴿ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم ﴾٣٤ ٣٥. [ آل عمران : ١٦٧ ]. وقد تقدم أن في قوله :«بِأَفْوَاهِهِمْ » فائدة زيادة على التأكيد.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/ ٤٥ – ٤٦..
٢ قاله ابن عطية. تفسير ابن عطية ١٠/٢٩٨..
٣ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٧..
٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٧..
٥ مبشر بن عبيد القرشي الحمصي، كوفي الأصل، روى عن زيد بن أسلم، وقتادة، وأبي الزبير، والزهري، وغيرهم روى عنه محمد بن شعيب والخليل بن مرة، وغيرهما. تهذيب التهذيب ١٠/ ٣٢ – ٣٣..
٦ المختصر (٩٦) البحر المحيط ٦/٣٧٧..
٧ في ب: الفعل. أي: متعلق "يعقلون"..
٨ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٨..
٩ في ب: القعل. وهو تحريف..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٦..
١١ ثم: سقط من ب..
١٢ في النسختين: و. وهو تحريف..
١٣ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٨..
١٤ الكشاف ٣/٣٦..
١٥ ما بين القوسين سقط من ب..
١٦ انظر المغني ٣/٤٨٩ – ٧٩٣، الهمع ١/٦٥ – ٦٧..
١٧ انظر البحر المحيط ٦/٣٧٨..
١٨ في ب: بلى..
١٩ في المغني: تحمل. والشاهد في هذين القولين أن الضمير مبتدأ مفسر بالخبر وهو من المواضع التي يكون مفسر الضمير فيها مؤخرا. انظر المغني ٢/٤٨٩ الهمع ١/٦٦..
٢٠ الدنيا: سقط من ب. [الأنعام: ٢٩] ومن [المؤمنون: ٣٧]..
٢١ الدر المصون: ٥/٧٧..
٢٢ من قوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم﴾ [الأنعام: ٣٨]..
٢٣ العمى: سقط من ب..
٢٤ ما بين القوسين سقط من ب..
٢٥ الكشاف ٣/٣٦..
٢٦ البحر المحيط ٦/٣٧٨..
٢٧ [الممتحنة: ١]..
٢٨ [النساء: ٣١]..
٢٩ في: سقط من الأصل..
٣٠ الدر المصون ٥/٧٧..
٣١ آخر: سقط من ب..
٣٢ [ق: ٣٧]..
٣٣ الفخر الرازي ٢٣/٤٦..
٣٤ من قوله تعالى: ﴿يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون﴾ [آل عمران: ١٦٧]..
٣٥ تفسير ابن عطية ١٠/٢٩٩، وفيه الآية مقدمة على المثال. والآية فيه ﴿بأفواهكم﴾ من قوله تعالى: ﴿وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم﴾ [النور: ١٥]، ومن قوله تعالى: ﴿وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم﴾ [الأحزاب: ٤]..
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ﴾ الآية. نزلت في النضر بن الحارث حيث قال: «إنْ كَان هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاء».
وهذا يدل على أنه - عليه السلام - كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم، ولهذا قال: ﴿وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ﴾، فأنجز ذلك يوم بدر. ثم بين أن العاقل لا ينبغي له أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ﴾ أي فيما ينالهم من العذاب وشدته ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾، فبين تعالى أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه. قاله أبو مسلم وقيل: المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة. وقيل: إن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء، لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا إمهال ألف سنة «مِمَّا تَعُدُّون» قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يَعُدُّون» بياء الغيبة، لقوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ وقرأ الباقون بالتاء، لأنه أعمّ، ولأنه خطاب للمسلمين. واتفقوا في «تنزيل» السجدة بالتاء. قال ابن عباس: يعني يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض وقال مجاهد وعكرمة: يوماً من أيام الآخرة، لما روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ المُهاجِرِينَ بالفَوْزِ التَّام يَوْمَ القِيَامَة تَدْخلونَ الجَنَّة قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْم، وذَلِكَ قَدر خَمْسمائةِ سَنَة».
113
قوله: ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي: أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم، فاغتروا بذلك التأخير، «ثُمَّ أَخَذْتُهُم» بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر، وهو معنى قوله «وَإليَّ المَصِير». فإن قيل: ما الفائدة في قوله أولاً «فكأين» بالفاء، وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟
فالجواب: أن الأولى وقعت بدلاً من قوله ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [الحج: ٤٤]، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: ﴿وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ﴾.
قوله: ﴿قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم: إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه.
قوله: ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾. لما أمر الرسول بأن يقول لهم: إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن هذه صفة المنذر، فقال: ﴿فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ فجمع بين الوصفين، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.
وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب، والكريم: هو الذي لا ينقطع أبداً وقيل: هو الجنة.
قوله: ﴿والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي: اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين، يقال لمن بذل جهده في أمر: إنه سعى فيه توسعاً، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال: إنه سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً، قال الزمخشري: يقال: سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه.
قوله: «مُعَجِّزِينَ» قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ.
114
والباقون: «مُعَاجِزِين» في الأماكن الثلاثة. والجحدري كقراءة ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن. وابن الزبير «مُعْجِزِين» بسكون العين فأما الأولى ففيها وجهان:
أحدهما: قال الفارسي: معناه ناسبين أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى العجز نحو: فسقته، أي: نسبته إلى الفسق.
والثاني: أنها للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان.
وأما الثانية فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا، وقيل: معاندين.
وقال الزمخشري: عاجَزَه: سَابَقَه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أَعْجَزَه وعَجَّزَه. فالمعنى: سَابِقِين أو مُسَابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم والمعنى: سعوا في معناها بالفساد. وقال أبو البقاء: إن «مُعَاجِزِين» في معنى المُشَدَّد مثل: عَاهَد: عَهَّد، وقيل: عاجَزَ سَابَق، وعَجَّز: سَبَق.

فصل


اختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يُعْجِزُونه ويغلبونه، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد.
فأما القائلون بالأول فقال قتادة: ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، أو يعجزوننا: يفوتوننا فلا نقدر عليهم كقوله تعالى ﴿أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا﴾ [العنكبوت: ٤]، أو يعجزون الله بإدخال الشُّبَهِ في قلوب الناس.
115
وأما معاجزين فالمغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى.
ثم قال: ﴿أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ أي: أنهم يدومون فيها.
116
قوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ أي : أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم، فاغتروا بذلك التأخير، «ثُمَّ أَخَذْتُهُم » بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر، وهو معنى قوله «وَإليَّ المَصِير ». فإن قيل : ما الفائدة في قوله أولاً «فكأين » بالفاء، وهاهنا قال «وكأين » بالواو ؟
فالجواب : أن الأولى وقعت بدلاً من قوله ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [ الحج : ٤٤ ]، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله :﴿ وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ١.
١ انظر الكشاف ٣/٣٦، الفخر الرازي ٢٣/٤٧..
قوله :﴿ قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم : إنما بعثت للإنذار١ فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه٢.
١ في ب: الإنذار. وهو تحريف..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٧..
قوله :﴿ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾. لما أمر الرسول بأن يقول لهم : إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن هذه صفة المنذر١، فقال٢ :﴿ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ فجمع بين الوصفين، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور٣، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.
وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب٤، والكريم : هو الذي لا ينقطع أبداً وقيل : هو الجنة ٥.
١ في الأصل: المنعمد..
٢ فقال: سقط من ب..
٣ في ب: محظور..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٧ – ٤٨..
٥ انظر البغوي ٥/٥٩٩..
قوله :﴿ والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ أي : اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين، يقال لمن بذل جهده في أمر : إنه سعى فيه توسعاً، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال : إنه سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً١، قال الزمخشري : يقال : سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه٢.
قوله :«مُعَجِّزِينَ » قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ ٣.
والباقون :«مُعَاجِزِين » في الأماكن الثلاثة٤. والجحدري كقراءة٥ ابن كثير وأبي عمرو في جميع القرآن٦. وابن الزبير «مُعْجِزِين » بسكون العين٧ فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : قال الفارسي : معناه ناسبين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى العجز نحو : فسقته، أي : نسبته إلى الفسق٨.
والثاني : أنها للتكثير ومعناها مثبطين الناس عن الإيمان٩.
وأما الثانية فمعناها ظانين أنهم يعجزوننا، وقيل : معاندين١٠.
وقال الزمخشري : عاجَزَه : سَابَقَه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل : أَعْجَزَه وعَجَّزَه. فالمعنى : سَابِقِين أو مُسَابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم١١ والمعنى : سعوا في معناها بالفساد. وقال أبو البقاء : إن «مُعَاجِزِين » في معنى المُشَدَّد مثل : عَاهَد : عَهَّد، وقيل : عاجَزَ سَابَق، وعَجَّز : سَبَق١٢.

فصل


اختلفوا في المراد هل معاجزين لله أو الرسول والمؤمنين، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه، وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يُعْجِزُونه ويغلبونه، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد١٣.
فأما١٤ القائلون بالأول فقال قتادة : ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا بزعمهم وأن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، أو يعجزوننا : يفوتوننا فلا نقدر عليهم كقوله تعالى ﴿ أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا ﴾١٥ [ العنكبوت : ٤ ]، أو يعجزون الله بإدخال الشُّبَهِ في قلوب الناس ١٦.
وأما معاجزين فالمغالبة١٧ في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة لا إلى الله تعالى١٨.
ثم قال :﴿ أولئك أَصْحَابُ الجحيم ﴾ أي : أنهم يدومون فيها.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٨..
٢ الكشاف ٣/٣٦..
٣ وهما قوله تعالى: ﴿والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم﴾ [سبأ: ٥] قوله تعالى: ﴿والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون﴾ [سبأ: ٣٧]..
٤ السبعة (٤٣٩)، الكشف ٢/١٢٢، النشر ٢/٣٢٧، الإتحاف ٣١٦..
٥ في ب: لقراءة. وهو تحريف..
٦ البحر المحيط ٦/٣٧٩..
٧ من أعجزني: إذا سبقك ففاتك. البحر المحيط ٦/٣٧٩..
٨ تفسير ابن عطية ١٠/٣٠٢، البحر المحيط ٦/٣٨٠..
٩ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤٣٣. البحر المحيط ٦/٣٨٠..
١٠ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤٣٣، البحر المحيط ٦/٣٧٩ – ٣٨٠..
١١ الكشاف ٣/٣٦ – ٣٧..
١٢ التبيان ٢/٩٤٥..
١٣ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٨..
١٤ في ب: وأما..
١٥ [العنكبوت: ٤]..
١٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٨..
١٧ في ب: فالغالب وهو تحريف..
١٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/٤٨..
قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ﴾ الآية. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهما من المفسرين: لما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش، وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء يُنَفِّر عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سورة ﴿والنجم إِذَا هوى﴾ [النجم: ١]، فقرأها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى بلغ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠]، ألقى الشيطان على لسانه لما كانت تحدثه به نفسه ويتمنّاه: تلك الغَرَانِيق العُلَى منها الشفاعة ترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به، ومضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قراءته، وقرأ السورة كلها وسجد في آخر السورة، فسجد المسلمون لسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حِفْنَةً من
116
البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما لأنهما كانا شيخين كبيرين، فلم يستطعا السجود، وتفرقت قريش، وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذِّكر، وقالوا قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه جبريل، فقال: يا محمد مَاذَا صَنَعْتَ تَلَوْتَ عَلَى النَّاسِ ما لم أنزل به عن الله عَزَّ وَجَلَّ، وقُلْتَ مَا لَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فحزن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً عظيمً فأنزل الله هذه الآية يعزيه، وكان به رحيماً.
قال ابن الخطيب: وأما أهل التحقيق فقالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول: أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين﴾ [الحاقة: ٤٤ - ٤٦]، وقوله: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ﴾ [يونس: ١٥]، وقوله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى﴾ [النجم: ٣ - ٤]. فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله: تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٣] وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وقوله:
﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: ٧٤] وكلمة «لَوْلاَ» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل، وقوله: ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ [الفرقان: ٣٢]، وقوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] وأما السنة: فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال: رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق.
117
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
وثانيها: أنه - عليه السلام - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلي، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة، وذلك يبطل قولهم.
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها: قوله: ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ﴾ وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى.
وخامسها: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: ﴿بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ [المائدة: ٦٧] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة. وأما من جهة التفصيل فالتمني جاء في اللغة لأمرين:
أحدهما: تمني القلب.
والثاني: القراءة، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] أي: إلا قراءة، لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف، وإنما يعلمه من القراءة.
وقال حسان:
118
وقيل: إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يُبْتلى بها.
وقال أبو مسلم: التَّمَنِّي هو التقدير، وتَمَنَّى هو تَفَعَّل من مَنَيْتُ، والمَنِيَّة وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله، ومَنَّى الله لك أي: قدَّر لك، وإذا تقرر ذلك فإن التالي مقدر للحروف يذكرها شيئاً فشيئاً. فالحاصل أن الأمنية إما القراءة وإما الخاطر، فإن فسرناها بالقراءة ففيه قولان:
الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول فيه ويشتبه على القارئ ما رووه من قوله: تلك الغرانيق العُلَى.
والثاني: المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته، ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه:
الأول: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يتكلم بقوله: تلك الغرانيق العلى، ولا الشيطان تكلم به، ولا أحد تكلم به لكنه - عليه السلام - لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم: تلك الغَرَانِيقُ العُلَى. وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال، قاله جماعة وهو ضعيف لوجوه:
أحدها: أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما جرت العادة بسماعه، فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه.
وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم في بعض هذا لتوهم بعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجمع العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات.
وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان.
الوجه الثاني: قالوا: إن ذلك الكلام كلام الشيطان وذلك بأن يلفظ بكلام من تلقاء
119
نفسه يوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول، قالوا: ويؤيد ذلك أنه لا خلاف أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول، فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول، وعند سكوته، فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول، وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له. وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع. فإن قيل: هذا الاحتمال قائم في الكل، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله أن يبين الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس.
فالجواب لا يجب على الله تعالى إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات، وإذا لم يجب على الله ذلك أمكن الاحتمال في الكل.
الوجه الثالث: أن يقال: المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس، وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع ذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها، فقال بعضهم: تلك الغرانيق العُلاَ، فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة مباحثهم، وطلبهم تغليطه، وإخفاء قراءته، ولعل ذلك في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته، ويسمعون قراءته، ويَلْغَوْنَ فيها.
وقيل: إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات، فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات، فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول، ثم أضاف الله ذلك إلى الشيطان، لأنه بوسوسته يحصل أولاً، أو لأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم نفسه شيطاناً.
وهذا أيضاً ضعيف لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول إزالة الشبهة وتصريح الحق، وتبكيت ذلك القائل، وإظهار أن هذه الكلمة صدرت منه، ولو فعل ذلك لنقل، فإن قيل: إنما لم يفعل الرسول ذلك، لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة دون هذه الزيادة، فلم يكن ذلك مؤدياً إلى اللبس كما لم يؤد سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس.
120
قلنا: لأن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته، لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور، فلم تكن تأدية تلك السورة بدون الزيادة سبباً لزوال اللبس.
وثانيهما: لو كان كذلك لاستحق العتاب على فعل الغير، وذلك لا يليق بالحكيم.
الوجه الرابع: أن المتكلم بهذا هو الرسول - عليه السلام - ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه:
إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً. فإن قالها سهواً كما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا: إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان، فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد، وفرح المشركون بما سمعوا، وأتاه جبريل واستقرأه فلما انتهى إلى الغرانيق قال: لم آتِكَ بهذا، فحزن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى أن أنزلت هذه الآية. وهذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع، وحينئذ تزول الثقة عن الشرع.
وثانيها: أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة، وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
وثالثها: هب أنه تكلم بذلك سهواً فكيف لا يتنبه لذلك حين قرأها على جبريل وذلك ظاهر. وأما إن تكلم بذلك قَسْراً، كما قال قوم إن الشيطان أجبر النبي على التكلم به وهذا أيضاً فاسد لوجوه:
أحدها: أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي لكان اقتداره علينا أكثر، فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين، ولجاز في أكثر ما يتكلم به أحدنا أن يكون ذلك بإجبار الشيطان.
وثانيها: أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال.
وثالثها: أنه باطل لقوله تعالى حاكياً عن الشيطان ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ﴾ [النحل: ٩٩]
121
وقال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ [الحجر: ٤٠] ولا شك أنه - عليه السلام - كان سيد المرسلين.
وأما إن كان تكلمه بذلك اختياراً وهاهنا وجهان:
أحدهما: أن يقول إن هذه الكلمة باطلة.
والثاني: أن يقول إنها ليست كلمة باطلة.
أما على الأول فذكروا فيه طريقتين:
الأول: قال ابن عباس في رواية عطاء: إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم، فجاءه جبريل فاستعرضه، فقرأ السورة، فلما بلغ إلى تلك الكلمة. قال جبريل: أنا ما جئتك بهذا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أَتَانِي آتٍ عَلَى صُورَتِكَ فَأَلْقَاهُ عَلَى لِسَانِي»
. الطريق الثاني: قال بعض الجهال: إنه - عليه السلام - لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه، ثم رجع عنها. وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة، لأن الأول يقتضي أنه - عليه السلام - ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي، وكل واحد منهما خروج عن الدين.
وأما الوجه الثاني وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق:
الأول: أن يقال: الغرانيق هم الملائكة، وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله ذلك.
الثاني: أن يقال: المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال: أشفاعتهن ترتجى؟
الثالث: أن يقال: ذكر تعالى الإثبات وأراد النفي كقوله ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦] أي: لا تضلوا، كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً﴾ [الأنعام: ١٥١] والمعنى أن تشركوا. وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن، أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين
122
أن لا يجوز عليهم شيئاً من ذلك، لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها نحو الفظاظة وقول الشعر، فقد ظهر القطع بكذب هذه الوجوه المذكورة في قوله: الغرانيق العلا هذا إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
فأما إن فسرنا التمني بالخاطر وتمني القلب، فالمعنى أنه - عليه السلام - إذا تمنى بعض ما يتمناه من الأمور وسوس إليه الشيطان بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته. ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه:
أحدها: أنه تمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا: إنه - عليه السلام - كان يحب أن يتألفهم، فكان يتردد ذلك في نفسه، فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه، وهذا أيضاً خروج عن الدين لما تقدم.
وثانيها: قال مجاهد إنه - عليه السلام - كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير، فنسخ الله ذلك بأن عرفه أن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها.
وثالثها: يحتمل أنه - عليه السلام - عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إذا كان مجملاً، فيلقي الشيطان في جملته ما لم ينزل، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده بأدلته وآياته.
ورابعها: معنى «إذَا تَمَنَّى» إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه، فرجع إلى الله في ذلك، وهو كقوله: ﴿إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١]، وكقوله: ﴿وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله﴾ [الأعراف: ٢٠٠]. ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب، لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتنة للكفار، وذلك يبطله قوله: ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ﴾.
والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار.
123

فصل


يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، وذلك هو المحكم. وقال أبو مسلم: معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكاً (وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم)، وما أرسلنا من نبي خلا عند تلاوته من وسوسة الشيطان، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك، وبطلان ما يكون من الشيطان، قال: وفيما تقدم من قوله: ﴿قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الحج: ٤٩] تقوية لهذا التأويل، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين: أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله قبلي ملكاً، وإنما أرسل رجالاً فقد يوسوس الشيطان إليهم.
فإن قيل: هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا: إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:
الأول: كيفية إزالتها، وهو قوله: ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ﴾ والمراد إزالته وإزالة تأثيره، وهو النسخ اللغوي، لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
وأما قوله: ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ﴾ فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن، وإلا فيُحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.
البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً، أما في حق الكفار فهو قوله: ﴿لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً﴾، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، والمراد به تشديد التبعد، لأن ما يظهر من الرسول - عليه السلام - من الاشتباه في القراءة سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً.
124
ثم قال: ﴿لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق، وخصهم بذلك، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى التدبر. (وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطناً وظاهراً. ثم قال: ﴿وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين. والمعنى: وإنهم. فوضع الظاهر موضع المضمر، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة. والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء. وأما في حق المؤمنين فهو قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ ولنرجع إلى الإعراب فنقول:
قوله: ﴿إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان﴾ في هذه الجملة بعد «إلاّ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محل نصب على الحال من «رَسُول» والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه، والحال محصورة.
والثاني: أنها في محل الصفة لرسول، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف، وبالنصب باعتبار محله، فإن «مِنْ» مزيدة فيه.
الثالث: أنها في موضع استثناء من غير الجنس. قاله أبو البقاء، يعني: أنه استثناء منقطع و «إذا» هذه يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفي، وأن تكون لمجرد الظرفية. قال أبو حيان: ونصوا على أنه يليها - يعني «إلا» - في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل، وما رأيت زيداً إلا يفعل، والماضي بشرط تقدم فعل نحو
﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ﴾ [الحجر: ١١]، أو مصاحبة (قد) نحو: ما زيد إلا قد فعل، وما جاء بعد (إلا) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض مصحوب ب (قد)، ولا
125
عار منها، فإن صح ما نصوا عليه يؤول على أن «إذا» جردت للظرفية، ولا شرط فيها، وفصل بها بين (إلا) والفعل الذي هو «أَلْقَى»، وهو فصل جائز، فتكون «إلا» قد وليها ماض في التقدير، ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل (إلا) وهو «وَمَا أَرْسَلْنَا». قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله: ﴿إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ﴾ [الغاشية: ٢٣ - ٢٤] وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين «إلا» وبين «ألقى» من غير ضرورة تدعو إليه، ومع عدم صحة المعنى.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا تمنى﴾ إنما أفرد الضمير، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على الآخر بالواو، لأن في الكلام حذفاً تقديره: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، والحذف إما من الأول أو الثاني. والضمير في «أُمْنِيَّتِه» فيه قولان: أظهرهما أنه ضمير الشيطان والثاني: أنه ضمير الرسول.
قوله: «لِيَجْعَلَ» في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها متعلقة ب «يُحْكِمُ»، أي: ثم يُحْكِمُ الله آياته ليجعل، وقوله: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ جملة اعتراض، وإليه نحا الحوفي.
والثاني: أنها متعلقة ب «يَنْسَخُ» وإليه نحا ابن عطية، وهو ظاهر أيضاً.
الثالث: أنها متعلقة ب «أَلْقَى»، وليس بظاهر. وفي اللام قولان:
126
أحدهما: أنها للعلة. والثاني: أنها للعاقبة. و «ما» في قوله: «ما يُلْقِي» الظاهر أنها بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله: «والقاسِيَة» أل في «القَاسِيَة» موصولة، والصفة صلتها، و «قُلُوبُهم» فاعل بها، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول، وأُنِّثت الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي، ولو وضع فعل موضعها لجاز تأنيثه. و «القَاسِيَة» عطف على «الذين»، أي: فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم.
قوله: «وَليَعْلَمَ الَّذِينَ» عطف على «لِيَجْعَلَ» عطف علة على مثلها والضمير في «أنَّه» قال الزمخشري: إنه يعود على تمكين الشيطان، أي: ليعلم المؤمنون أن تمكين الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق. أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في مُلكه ومِلكه فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به وقال ابن عطية: إنه يعود على القرآن، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق، وهو قول مقاتل.
وقال الكلبي: إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان.
قوله: «فَيُؤْمِنُوا» عطف على «وَليَعْلَمَ»، و «فَتُخْبِتَ» عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان. ومعنى «فَتُخْبِتَ» أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي كائن وكلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَه.

فصل


ومعنى «أُوتُوا العِلْمَ» أي: التوحيد والقرآن. وقال السُّدِّي: التصديق. «فَيُؤْمِنُوا به» أي: يعتقدوا أنه من الله.
قوله: ﴿وَإِنَّ الله لَهَادِ﴾ قرأ العامة «لهَادِ الَّذِينَ» بالإضافة تخفيفاً. وابن أبي
127
عبلة وأبو حيوة بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول. والمعنى: أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو الإسلام.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ﴾ الآية. لما بين حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى، فقال: ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ﴾ شك ونفاق «مِنْه» أي: من القرآن، أو من الرسول، أو مم ألقاه الشيطان.
والمِرية والمُرية بالكسر والضم لغتان مشهورتان، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان.
قوله: ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة﴾ وهذا يدل على أن الأعْصَار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه. «بغْتَة» أي: فجأة من دون أن يشعروا، ثم جعل الساعة لكفرهمِ، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وقيل: أراد بالساعة الموت. ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾. قال الأكثرون: هو يوم بدر. وقال عكرمة والضحاك: هو يوم القيامة. والعقيم من العُقْم، وفيه قولان:
أحدهما: أنه السد، يقال: امرأة مَعْقُومة الرَّحم أو مسدودته عن الولادة. وهو قول أبي عبيد.
والثاني: أن أصله القطع، ومنه (المُلْك عَقِيم) أي: لأنه يقطع صلة الرحم بالتراحم عليه، ومنه العقيم لانقطاع ولادتها. والعقم انقطاع الخبر، ومنه يوم عقيم، قيل: لأنه لا ليلة بعده، ولا يوم فشبه بمن انقطع نسله، وقيل: لأنهم لا يرون فيه خيراً. وقيل: لأن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم، فكيف يحصل الحمل فيه. هذا إن أريد به يوم القيامة.
وإن أريد به يوم بدر فقيل: لأن أبناء الحرب تقتل فيه، فكأن النساء لم يلدنهم فيكنّ عُقماً، يقال: رجل عَقِيم وامرأة عَقيم، أي: لا يولد لهما. والجمع عقم.
وقيل: لأنه الذي لا خير فيه، يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطراً، ولم تلقح شجراً.
128
وقيل: إنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه.
والقول الأول أولى لأنه لا يجوز أن يقال: ﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ﴾ ويكون المراد إلى يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر.
فإن قيل: لمّا ذكر الساعة، فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار. قلنا: ليس كذلك لأن الساعة مقدمات القيامة، واليوم العقيم كما مر نفس ذلك اليوم على أن الأمر لو كان كما قال لم يكن تكراراً، لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم.
وإن أريد بالساعة وقت الموت، وبعذاب يوم عقيم القيامة فالسؤال زائل.
قوله: ﴿الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ﴾، وهذا من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو هذا اليوم، وأراد أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه. و «يَوْمَئِذٍ» منصوب بما تضمنه «لِلَّهِ» من الاستقرار، لوقوعه خبراً. و «يَحْكُم» يجوز أن يكون حالاً من اسم الله، وأن يكون مستأنفاً، والتنوين في «يَوْمَئِذٍ» عوض من جملة، فقدرها الزمخشري: يوم يؤمنون. وهو لازم لزوال المِرْيَة، وقدره أيضاً: يوم نزول مِرْيَتِهِم.
ثم بيَّن تعالى كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين إلى عذاب مهين.
قوله: «والَّذِيْنَ كَفَرُوا» مبتدأ، وقوله: «فأولَئِكَ» وما بعده خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط بالشرط المذكور، و «لَهُم» يحتمل أن يكون خبراً عن «أولَئِكَ» و «عَذَاب» فاعل به لاعتماده على المخبر عنه. وأن يكون خبراً مقدماً وما بعده مبتدأ، والجملة خبر «أولئك».
129

فصل٢


يرجع٣ حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو٤ ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، وذلك هو المحكم. وقال أبو مسلم : معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل : وما أرسلنا إلى البشر ملكاً٥ ( وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم ) ٦، وما أرسلنا من نبي خلا عند٧ تلاوته من وسوسة الشيطان، وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك، وبطلان ما يكون من الشيطان، قال : وفيما تقدم من قوله :﴿ قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾٨ [ الحج : ٤٩ ] تقوية لهذا التأويل، كأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين : أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله قبلي ملكاً، وإنما أرسل رجالاً فقد يوسوس الشيطان إليهم.
فإن قيل : هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة. قلنا : إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلائهم بالوسوسة على الملائكة. واعلم أنه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين :
الأول : كيفية إزالتها، وهو قوله :﴿ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ﴾ والمراد إزالته وإزالة تأثيره، وهو النسخ اللغوي، لا٩ النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
وأما قوله :﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ﴾ فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن، وإلا فيُحمل على أحكام الأدلة التي لا تجوز فيها الغلط.
البحث الثاني : أنه تعالى بين١٠ أثر تلك الوسوسة شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً، أما في حق الكفار فهو قوله :﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً ﴾، وذلك أنهم افتتنوا١١ لما سمعوا ذلك، والمراد به تشديد التبعد، لأن ما يظهر من الرسول - عليه السلام١٢ - من الاشتباه في القراءة سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً.
ثم قال :﴿ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ شك ونفاق، وخصهم بذلك، لأنهم مع كفرهم محتاجون إلى التدبر. ( وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر )١٣ وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم باطناً وظاهراً. ثم قال :﴿ وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين. والمعنى : وإنهم. فوضع الظاهر موضع المضمر، قضى عليهم بالظلم وأبرزهم ظاهرين للشهادة عليهم بهذه الصفة الذميمة. والشقاق الخلاف الشديد والمعاداة والمباعدة سواء.
٢ هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٥٥ – ٥٦..
٣ في ب: رجع. وهو تحريف..
٤ في ب: الشهوة. وهو تحريف..
٥ ما بين القوسين سقط من ب..
٦ في ب: عن..
٧ الآية (٤٩) من السورة نفسها..
٨ بين: سقط من ب..
٩ في ب: لأن. وهو تحريف..
١٠ بين: سقط من ب..
١١ في ب: فتنوا..
١٢ في ب: عليه الصلاة والسلام..
١٣ ما بين القوسين سقط من الأصل..
وأما في حق المؤمنين فهو قوله :﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ﴾.
ولنرجع إلى الإعراب فنقول :
قوله :﴿ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان ﴾ في هذه الجملة بعد «إلاّ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب على الحال من «رَسُول » والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلا حاله هذه، والحال محصورة ١.
والثاني : أنها في محل الصفة٢ لرسول، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجر باعتبار لفظ الموصوف، وبالنصب باعتبار محله، فإن «مِنْ » مزيدة فيه٣.
الثالث : أنها في موضع استثناء من غير الجنس. قاله أبو البقاء٤، يعني : أنه استثناء منقطع و «إذا » هذه يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وإليه ذهب الحوفي٥، وأن تكون لمجرد الظرفية. قال أبو حيان : ونصوا على أنه يليها - يعني «إلا »٦ - في النفي المضارع بلا شرط نحو ما زيد إلا يفعل، وما رأيت زيداً إلا يفعل، والماضي بشرط تقدم فعل نحو ﴿ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ ﴾٧ [ الحجر : ١١ ]، أو مصاحبة ( قد ) نحو : ما زيد إلا قد فعل٨، وما جاء بعد ( إلا ) في الآية جملة شرطية ولم يلها ماض مصحوب ب ( قد )، ولا عار منها، فإن صح ما نصوا عليه يؤول على أن «إذا » جردت للظرفية، ولا شرط فيها، وفصل بها بين ( إلا ) والفعل الذي هو «أَلْقَى »٩، وهو فصل جائز، فتكون «إلا » قد وليها ماض في التقدير، ووجد شرطه وهو تقدم فعل قبل ( إلا ) وهو «وَمَا أَرْسَلْنَا »١٠. قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى هذا التكليف المخرج للآية عن معناها بل هي جملة شرطية إما حال أو صفة أو استثناء كقوله :﴿ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ ﴾١١ [ الغاشية : ٢٣ - ٢٤ ] وكيف يدعي الفصل بها وبالفعل بعدها بين «إلا » وبين «ألقى » من غير ضرورة تدعو إليه، ومع عدم صحة المعنى ١٢.
وقوله تعالى :﴿ إِذَا تمنى ﴾ إنما أفرد الضمير، وإن تقدمه سببان معطوف أحدهما على الآخر بالواو، لأن في الكلام حذفاً تقديره : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا إذا تمنى، ولا نبي إلا إذا تمنى كقوله :﴿ والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ﴾١٣ [ التوبة : ٦٢ ]، والحذف إما من الأول أو الثاني١٤. والضمير في «أُمْنِيَّتِه » فيه قولان : أظهرهما أنه ضمير الشيطان والثاني : أنه ضمير الرسول.
قوله :«لِيَجْعَلَ » في متعلق هذه اللام ثلاثة أوجه :
أظهرها١٥ : أنها متعلقة ب «يُحْكِمُ »، أي : ثم يُحْكِمُ الله آياته ليجعل، وقوله :﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ جملة اعتراض، وإليه نحا الحوفي١٦.
والثاني : أنها متعلقة ب «يَنْسَخُ » وإليه نحا ابن عطية١٧، وهو ظاهر أيضاً.
الثالث : أنها متعلقة ب «أَلْقَى »١٨، وليس بظاهر. وفي اللام١٩ قولان :
أحدهما : أنها للعلة٢٠. والثاني : أنها للعاقبة٢١. و «ما » في قوله :«ما يُلْقِي » الظاهر أنها بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مصدرية ٢٢.
قوله :«والقاسِيَة » أل في «القَاسِيَة » موصولة، والصفة٢٣ صلتها، و «قُلُوبُهم » فاعل بها، والضمير المضاف إليه هو عائد الموصول، وأُنِّثت٢٤ الصلة لأن مرفوعها مؤنث مجازي، ولو وضع فعل٢٥ موضعها لجاز تأنيثه٢٦. و «القَاسِيَة » عطف على «الذين »٢٧، أي : فتنة للذين في قلوبهم مرض وفتنة للقاسية قلوبهم.
قوله :«وَليَعْلَمَ الَّذِينَ » عطف على «لِيَجْعَلَ » عطف علة على مثلها والضمير في «أنَّه » قال الزمخشري : إنه٢٨ يعود على تمكين الشيطان، أي : ليعلم المؤمنون أن تمكين الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق٢٩. أما على قول أهل السنة فلأنه تعالى يتصرف كيف شاء في مُلكه ومِلكه فكان حقاً وأما على قول المعتزلة فلأنه تعالى حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به٣٠ وقال ابن عطية : إنه يعود على القرآن٣١، وهو وإن لم يجر له ذكر فهو في قوة المنطوق، وهو قول مقاتل٣٢.
وقال الكلبي : إنه يعود إلى نسخ الله ما ألقاه الشيطان.
قوله :«فَيُؤْمِنُوا » عطف على «وَليَعْلَمَ »، و «فَتُخْبِتَ » عطف عليه وما أحسن ما وقعت هذه الفاءان٣٣. ومعنى «فَتُخْبِتَ » أي تخضع وتسكن له قلوبهم لعلمهم بأن المقضي كائن وكلٌّ مُيَسَّر لِمَا خُلِقَ لَه ٣٤.

فصل


ومعنى «أُوتُوا العِلْمَ » أي : التوحيد والقرآن. وقال السُّدِّي : التصديق. «فَيُؤْمِنُوا به » أي : يعتقدوا أنه من الله ٣٥.
قوله :﴿ وَإِنَّ الله لَهَادِ ﴾٣٦ قرأ العامة «لهَادِ الَّذِينَ » بالإضافة تخفيفاً٣٧. وابن أبي عبلة وأبو حيوة بتنوين الصفة وإعمالها في الموصول٣٨. والمعنى : أن الله يهدي الذين آمنوا إلى طريق قويم وهو الإسلام.
١ وهو صحيح لقبولها واو الحال، أي: وما أرسلناه إلا وحاله هذه، البحر المحيط ٦/٣٨٢..
٢ هذا قول الزمخشري في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، ورد عليه بأنه مذهب لا يعرف لبصري ولا كوفي، لأنه يفصل بين الموصوف وصفته ب (إلا) فلا يقال: جاءني رجل إلا راكب لأنهما كشيء واحد فلا يفصل بينهما بها، كما لا يفصل بها بين الصلة والموصول ولا بين المضاف والمضاف إليه، ولأن "إلا" وما بعدها في حكم جملة مستأنفة والصفة لا تستأنف ولا تكون في حكم المستأنف، كذا ذكره ابن مالك تبعا للأخفش والفارسي وذكره أيضا صاحب البسيط فالصواب أن الجملة في الآية والمثال حالية، وإنما لم تقس الصفة على الحال لوضوح الفرق بينهما بجواز تقديم الحال على صحابه ويخالفه في الإعراب والتنكير، البحر المحيط ٦/٣٨٢، الهمع ١/٢٣٠..
٣ لأنها مسبوقة بنفي ومجرورها نكرة..
٤ التبيان ٢/٩٤٥..
٥ البحر المحيط ٦/٣٨٢..
٦ في ب: الراء. وهو تحريف..
٧ من قوله تعالى: ﴿وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون﴾ [الحجر: ١١]..
٨ واقتران الماضي ب (قد) يغني عن تقديم فعل قاله ابن مالك كقول الشاعر:
٣٧٧٤ - تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ وآخِرَها لاقَى حَمَام المَقَادِرِ
ما المجد إلا قد تبين أنه بندى وحلم لا يزال مؤثلا
لأن (قد) تقرب الفعل الماضي إلى الحال فأشبه المضارع، والمضارع لا يشترط فيه تقدم لشبهه بالاسم، والاسم بإلا أولى، لأن المستثنى لا يكون إلا اسما ومؤولا به وإنما ساغ وقوع الماضي بتقديم الفعل، لأنه مع النفي يجعل الكلام بمعنى: كلما كان كذا كان كذا فكان فيه فعلان كما كان مع (كلما) وقال ابن طاهر: أجاز المبرد وقوع الماضي مع (قد) بدون تقدم فعل، ولم يذكره من تقدم من النحاة. وفي البديع لو قلت: ما زيد إلا قام. لم يجز؛ فإن دخلت قد أجازها قوم. الهمع ١/٢٣٠..
٩ في ب: النفي. وهو تحريف..
١٠ البحر المحيط ٦/٣٨٢..
١١ [الغاشية: ٢٣، ٢٤]..
١٢ الدر المصون ٥/٧٨..
١٣ من قوله تعالى: ﴿يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين﴾ [التوبة: ٦٢]..
١٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٢..
١٥ في ب: أظهرهما. وهو تحريف..
١٦ البحر المحيط ٦/٣٨٢..
١٧ تفسير ابن عطية ١٠/٣٠٨..
١٨ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٢..
١٩ في ب: الكلام. وهو تحريف..
٢٠ واستظهره أبو حيان..
٢١ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٢..
٢٢ المرجع السابق..
٢٣ في الأصل: وصفة. وهو تحريف..
٢٤ في ب: وأثبتت. وهو تحريف..
٢٥ في ب: فعلى. وهو تحريف..
٢٦ انظر التبيان ٢/٩٤٥، البحر المحيط ٦/٣٨٢..
٢٧ انظر التبيان ٢/٩٤٥..
٢٨ في ب: وإنه..
٢٩ انظر الكشاف ٣/٣٧..
٣٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٦..
٣١ تفسير ابن عطية ١٠/٣٠٨..
٣٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٦..
٣٣ لدلالة الفاء على الترتيب والتعقيب، أي أن المعطوف متصل بالمعطوف عليه بلا مهلة، فالخشوع متصل بالإيمان، والإيمان متصل بالعلم بلا مهلة..
٣٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٦..
٣٥ انظر البغوي ٥/٦٠٤..
٣٦ في النسختين: لهادي..
٣٧ التبيان ٢/٩٤٦، البحر المحيط ٦/٣٨٣..
٣٨ المختصر (٩٦)، التبيان ٢/٩٤٦، البحر المحيط ٦/٣٨٣..
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ ﴾ الآية. لما بين حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى، فقال :﴿ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ ﴾ شك ونفاق «مِنْه » أي : من القرآن، أو من الرسول، أو مم ألقاه الشيطان١.
والمِرية والمُرية بالكسر والضم لغتان مشهورتان٢، وظاهر كلام أبي البقاء أنهما قراءتان ٣.
قوله :﴿ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة ﴾ وهذا يدل على أن الأعْصَار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه. «بغْتَة » أي : فجأة من دون أن يشعروا، ثم جعل الساعة لكفرهمِ، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء٤. وقيل : أراد بالساعة الموت. ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾. قال الأكثرون : هو يوم بدر. وقال عكرمة والضحاك : هو يوم القيامة٥. والعقيم من العُقْم، وفيه قولان :
أحدهما : أنه السد، يقال : امرأة مَعْقُومة الرَّحم أو مسدودته عن الولادة. وهو قول أبي عبيد.
والثاني : أن٦ أصله القطع، ومنه ( المُلْك عَقِيم ) أي٧ : لأنه يقطع صلة الرحم بالتراحم عليه، ومنه العقيم لانقطاع ولادتها٨. والعقم انقطاع الخبر، ومنه يوم عقيم، قيل : لأنه لا ليلة بعده، ولا يوم فشبه بمن انقطع نسله، وقيل : لأنهم لا يرون فيه خيراً. وقيل٩ : لأن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم، فكيف يحصل الحمل فيه. هذا إن أريد به يوم القيامة.
وإن أريد به يوم بدر فقيل : لأن أبناء الحرب تقتل فيه، فكأن النساء لم يلدنهم فيكنّ عُقماً، يقال : رجل عَقِيم وامرأة عَقيم، أي : لا يولد لهما. والجمع عقم.
وقيل : لأنه الذي لا خير فيه، يقال : ريح عقيم إذا لم تنشئ مطراً، ولم تلقح١٠ شجراً.
وقيل : إنه١١ لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه.
والقول الأول أولى لأنه لا يجوز أن يقال :﴿ وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ ﴾ ويكون المراد إلى يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر ١٢.
فإن قيل : لمّا ذكر الساعة، فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار. قلنا : ليس كذلك لأن الساعة مقدمات القيامة، واليوم العقيم كما مر١٣ نفس ذلك اليوم على أن الأمر لو كان كما قال لم يكن تكراراً، لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم ١٤.
وإن أريد بالساعة وقت الموت، وبعذاب يوم عقيم القيامة فالسؤال زائل١٥.
١ أي أن الضمير في "منه" قيل: عائد على القرآن وقيل: على الرسول. وقيل: ما ألقى الشيطان. البحر المحيط ٦/٣٨٣..
٢ والمرية والمرية: الشك والجدل. بالكسر والضم. اللسان (مرا)..
٣ قال أبو البقاء: ("في مرية" بالكسر والضم، وهما لغتان) التبيان ٢/٩٤٦..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٦..
٥ انظر البغوي ٥/٦٠٥..
٦ أن: سقط من ب..
٧ في ب: أو..
٨ اللسان (عقم)..
٩ وقيل: سقط من ب..
١٠ في ب: ولم تنتج..
١١ في ب: إنه الذي..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٧..
١٣ كما مر: سقط من ب..
١٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٧..
١٥ في ب: أوائل. وهو تحريف..
قوله :﴿ الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ ﴾، وهذا من أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو هذا اليوم، وأراد أنه لا مالك١ في ذلك اليوم سواه. و «يَوْمَئِذٍ » منصوب بما تضمنه «لِلَّهِ » من الاستقرار، لوقوعه خبراً٢. و «يَحْكُم » يجوز أن يكون حالاً من اسم الله، وأن يكون مستأنفاً٣، والتنوين في «يَوْمَئِذٍ » عوض من جملة، فقدرها الزمخشري : يوم يؤمنون. وهو لازم لزوال المِرْيَة، وقدره أيضاً : يوم نزول مِرْيَتِهِم ٤.
ثم بيَّن تعالى كيف يحكم بينهم وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم والكافرين إلى عذاب مهين.
١ في ب: لا ملك. وهو تحريف..
٢ انظر التبيان ٢/٩٤٦..
٣ المرجع السابق..
٤ الكشاف ٢/٣٨، والتقدير الثاني أولى..
قوله :«والَّذِيْنَ كَفَرُوا » مبتدأ، وقوله :«فأولَئِكَ » وما بعده خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط بالشرط المذكور١، و «لَهُم » يحتمل أن يكون خبراً عن «أولَئِكَ » و «عَذَاب » فاعل به لاعتماده على المخبر عنه. وأن يكون خبراً مقدماً وما بعده مبتدأ، والجملة خبر «أولئك » ٢.
١ يجوز دخول الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ اسما موصولا بشرط أن يكون عاما، وأن تكون صلته جملة من فعل وفاعل أو ظرف أو جار ومجرور نحو الذي يأتيني فله درهم، والذي عندي فمكرم. وقد تقدم الحديث عن اقتران الخبر بالفاء في سورة مريم عند الآية (٦٥). وانظر التبيان ٢/٩٤٦..
٢ إذا وقع بعد الظرف أو الجار والمجرور، مرفوع فإن تقدمها نفي نحو ما في الدار أحد، أو استفهام نحو أفي الدار زيد، أو موصوف نحو مررت برجل معه صقر، أو موصول نحو جاء الذي في الدار أبوه، أو صاحب كالآية التي معنا، ونحو زيد عندك أخوه، أو حال نحو مررت بزيد عليه جبة ففي المرفوع ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن الأرجح كونه مبتدأ مخبرا عنه بالظرف أو المجرور، ويجوز كونه فاعلا.
الثاني: أن الأرجح كونه فاعلا، واختاره ابن مالك، وتوجيهه أن الأصل عدم التقديم والتأخير.
والثالث: أنه يجب كونه فاعلا، ونقله ابن هشام عن الأكثرين.
وحيث أعرب فاعلا ففي العمل فيه خلاف هل هو الفعل المحذوف أو الظرف أو المجرور لنيابتهما عن استقر وقربهما من الفعل لاعتمادهما، والمذهب المختار الثاني.
وشرط الاعتماد: مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين والأخفش لا يشترطون ذلك ولذا يجوز عندهم الوجهان في نحو في الدار أو عندك زيد، وعند البصريين يوجبون الابتداء. انظر المغني ١/٤٤٣ – ٤٤٤..

قوله: «والَّذِينَ هَاجَرُوا» مبتدأ، وقوله: «لَيَرْزُقَنَّهُم» جواب قسم مقدر، والجملة القسمية وجوابها خبر قوله: «والَّذِينَ هَاجَرُوا». وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ. ومن يمنع يضمر قولاً هو الخبر يحكي به هذه الجملة القسمية. وهو قول مرجوح.
قوله: «رِزْقاً» يجوز أن تكون مفعولاً ثانياً على أنه من باب الرعي والذبح أي: مرزوقاً حسناً. وأن يكون مصدراً مؤكداً.
130
وقوله: «ثُمَّ قُتِلُوا» وقوله: «مُدْخَلاً» تقدم الخلاف في القراءة بهما في آل عمران وفي النساء.

فصل


لما ذكر أن المُلْكَ له يوم القيامة، وأنه يَحكم بينهم، ويُدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر الوعد الكريم للمهاجرين، وأفردهم بالذكر تفخيماً لشأنهم فقال: «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا» فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله، وطلب رضاه ﴿ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ﴾ وهم كذلك قال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم وظاهر الآية العموم. ثم قال: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً﴾ والرزق الحسن هو الذي لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة. وقال الأصم: إنه العلم والفهم لقول شعيب - عليه السلام - ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ [هود: ٨٨]. (وقال الكلبي: «رِزْقاً حَسَناً» ) أي حلالاً وهو الغنيمة.
وهذان الوجهان ضعيفان لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت، وبعدهما لا يكون إلا نعيم الآخرة. ثم قال: ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ معلوم بأن كل الرزق من عنده. فقيل: إن التفاوت إنما كان بسبب أنه تعالى مختص بأن يرزق بما لا يقدر عليه غيره. وقيل: المراد أنه الأصل في الرزق، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله. وقيل: إن غيره ينقل من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل نفس الرزق.
وقيل: إن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به، إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق به حمداً أو ثناء، أو لأجل الرقّة الجنسية، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالاً زائداً، فالرزق الصادر منه لمحض الإحسان. وقيل: إن غيره إنما يرزق إذا حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل، وتلك الإرادة من الله، فالرازق في الحقيقة هو الله.
131

فصل


قالت المعتزلة: الآية تدل على أمور ثلاثة:
الأول: أن غير الله قادر.
الثاني: أن غير الله يصح أن يرزق ويملك، ولولا كونه قادراً فاعلاً لما صح ذلك.
الثالث: أن الرزق لا يكون إلا حلالاً، لأن قوله: «خَيْرُ الرَّازِقِيْن» يدل على كونهم ممدوحين.
والجواب: لا نزاع في كون العبد قادراً، فإن القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام.
والثالث بحث لفظي تقدم الكلام فيه.

فصل


دل قوله: ﴿ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ﴾ على أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء، لأنه تعالى جمع بينهما في الوعد، ويؤيده ما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «المَقْتُولُ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ والمُتَوَفَّى فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ قَتْلٍ هُمَا فِي الأَجْرِ شَريكَان» ولفظ الشركة مشعر بالتسوية وإلا فلا يبقى لتخصيصها بالذكر فائدة.
قوله: «لَيُدْخِلَنَّهُمْ» هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من «لَيَرْزُقَنَّهُم» وأن تكون مستأنفة. وقوله: «مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه» قال ابن عباس: إنما قال: «يَرْضَوْنَه» لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ف «يَرْضَوْنَ» وقوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] وقوله: ﴿ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [الفجر: ٢٨] ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ﴾ [التوبة: ٧٢].
ثم قال: ﴿وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة.
قوله تعالى: ﴿ذلك وَمَنْ عَاقَبَ﴾ «ذَلِكَ» خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر ذلك وما بعده مستأنف. والباء في قوله: ﴿بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء
132
والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة. «وَمَنْ عَاقَبَ» مبتدأ خبره «لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ».

فصل


المعنى: الأمر ذلك الذي قصصناه عليك ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ أي قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال.
قال مقاتل: نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكره المسلمون قتالهم، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا، فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية، وعفا عنهم وغفر لهم.
والعقاب الأول بمعنى الجزاء، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ﴿يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢].
وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك. وقال الضحاك: هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية.
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه: من حَرَّق حَرَّقْنَاه، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى: بل يقتل بالسيف.
فإن قيل: كيف تعلق الآية بما قبلها؟
فالجواب: كأنه تعالى قال: مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله﴾ [الشورى: ٤٠] ﴿وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى﴾ [البقرة: ٢٣٧] {وَلَمَن صَبَرَ
133
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: ٤٣] فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال: إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها. وقيل: إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة، فلوَّح بذكر هاتين الصفتين.
وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار﴾ وفيه وجهان:
الأول: أي: ذلك النصر بسبب أنه قادر، ومن قدرته كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما، فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر.
الثاني: المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر. ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده.
وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات. و «ذَلَكَ» مبتدأ و «بأَنَّ اللَّهَ» خبره، ثم قال: ﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي: أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدرك المسموع والمبصر، ولا يجوز المنع عليه، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ الآية. قرأ العامة «وأن ما» عطفاً على الأول. والحسن بكسرها استئنافاً. وقوله: «هُوَ الحَقّ» يجوز أن يكون فصلاً ومبتدأ.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون توكيداً. وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال: إياه، لأن المتبوع منصوب. وقرأ الأخوان
134
وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان «يَدْعُونَ» بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق، والفعل مبني للفاعل وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنياً للمفعول. والواو التي هي ضمير تعود على معنى «ما» والمراد بها الأصنام أو الشياطين، ومعنى الآية: أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق، أي: هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله: ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة﴾ [غافر: ٤٣].
﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير﴾ العلي القاهر المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك يفيد كمال القدرة.
135
قوله :«لَيُدْخِلَنَّهُمْ » هذه الجملة يجوز أن تكون بدلاً من «لَيَرْزُقَنَّهُم » وأن تكون مستأنفة١. وقوله :«مُدْخَلاً يَرْضَوْنَه » قال ابن عباس : إنما قال :«يَرْضَوْنَه » لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ف «يَرْضَوْنَ » وقوله :﴿ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾٢ [ الحاقة : ٢١ ] وقوله :﴿ ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾٣ [ الفجر : ٢٨ ] ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾٤ ٥ [ التوبة : ٧٢ ].
ثم قال :﴿ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، أو عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة، وأما الحليم فلا يعجل بالعقوبة على من يقدم على المعصية، بل يمهل لتقع منه التوبة فيستحق الجنة٦.
١ انظر التبيان ٢/٩٤٦..
٢ من قوله تعالى: ﴿فهو في عيشة راضية﴾ [الحاقة: ٢١]، [القارعة: ٧]..
٣ [الفجر: ٢٨]..
٤ [التوبة: ٧٢]..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٥٩ – ٦٠..
٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٠..
قوله تعالى :﴿ ذلك وَمَنْ عَاقَبَ ﴾ «ذَلِكَ » خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر ذلك وما بعده مستأنف١. والباء في قوله :﴿ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ للسببية في الموضعين قاله أبو البقاء٢ والذي يظهر أن الأولى يشبه أن تكون للآلة. «وَمَنْ عَاقَبَ » مبتدأ خبره «لَيَنْصُرَنَّه اللَّهُ » ٣.

فصل


المعنى : الأمر ذلك الذي قصصناه عليك ﴿ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ أي قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغياً عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتُدِئ بالقتال ٤.
قال مقاتل : نزلت في قوم من قريش أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من٥ المحرم، وكره المسلمون قتالهم، وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام، فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنُصِروا، فوقع في أنفس٦ المسلمين من القتال في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية، وعفا عنهم وغفر لهم ٧.
والعقاب الأول بمعنى الجزاء، وأطلق اسم العقوبة على الأول للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى :﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾٨ [ الشورى : ٤٠ ] ﴿ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾٩ ١٠ [ النساء : ١٤٢ ].
وهذه النُّصْرة تقوي تأويل من تأول الآية على مجاهدة الكفار لا على القصاص لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك. وقال الضحاك : هذه الآية في القصاص والجراحات لأنها مدنية ١١.
قال الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه : من حَرَّق حَرَّقْنَاه، ومن غَرَّق غَرَّقْنَاه لهذا الآية، فإن الله تعالى جوَّز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى : بل يقتل بالسيف. فإن قيل : كيف تعلق الآية بما قبلها ؟
فالجواب : كأنه تعالى قال : مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم ١٢.
ثم قال :﴿ إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ أي إن الله ندب المعاقبين إلى العفو عن الجاني بقوله :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ﴾١٣ [ الشورى : ٤٠ ] ﴿ وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ﴾١٤ [ البقرة : ٢٣٧ ] ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور ﴾١٥ [ الشورى : ٤٣ ] فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة فكأنه تعالى قال : إني عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها. وقيل : إنه تعالى وإن ضمن له النصر على الباغي لكنه عرض مع ذلك بما هو أولى وهو العفو والمغفرة، فلوَّح بذكر هاتين الصفتين.
وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده ١٦.
١ انظر التبيان ٢/٩٤٦..
٢ المرجع السابق..
٣ المرجع السابق..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٠..
٥ في الأصل: بقين في. وهو تحريف..
٦ في ب: أنفسهم. وهو تحريف..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٠..
٨ [الشورى: ٤٠]..
٩ [النساء: ١٤٢]. وذلك على سبيل المشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا انظر الإيضاح ٣٦٠..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٠ – ٦١..
١١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٠..
١٢ المرجع السابق..
١٣ [سورة الشورى: ٤٠]..
١٤ [البقرة: ٢٣٧]..
١٥ [الشورى: ٤٣]..
١٦ انظر الفخر الرازي: ٢٣/٦١..
قوله :﴿ ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار ﴾ وفيه وجهان :
الأول : أي : ذلك النصر بسبب أنه قادر، ومن قدرته كونه خالقاً لليل والنهار ومتصرفاً فيهما، فوجب أن يكون قادراً عالماً بما يجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادراً على النصر.
الثاني : المراد أنه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر١. ومعنى إيلاج أحدهما في الآخر أنه يحصل ظلمة هذا في ضياء ذلك بغيبوبة الشمس وضياء ذلك في ظلمة هذا بطلوعها كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده.
وقيل هو أن يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات٢. و «ذَلَكَ » مبتدأ و «بأَنَّ اللَّهَ » خبره، ثم قال :﴿ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ أي : أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدرك المسموع والمبصر، ولا يجوز المنع عليه، وذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر٣.
١ المرجع السابق..
٢ المرجع السابق..
٣ المرجع السابق..
قوله :﴿ ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق ﴾ الآية. قرأ العامة «وأن ما » عطفاً على الأول١. والحسن بكسرها استئنافاً٢. وقوله :«هُوَ الحَقّ » يجوز أن يكون فصلاً ومبتدأ.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون توكيداً ٣. وهو غلط لأن المضمر لا يؤكد المظهر٤، ولكان صيغة النصب أولى به من الرفع فيقال : إياه، لأن المتبوع منصوب. وقرأ الأخوان وحفص وأبو عمرو هنا وفي لقمان٥ «يَدْعُونَ » بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق، والفعل مبني للفاعل٦ وقرأ مجاهد واليماني بالياء من تحت مبنياً للمفعول٧. والواو التي هي ضمير تعود على معنى «ما »٨ والمراد بها الأصنام أو الشياطين٩، ومعنى الآية : أن ذلك الوصف الذي تقدم من القدرة على هذه الأمور لأجل أن الله هو الحق، أي١٠ : هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال وأن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كقوله :﴿ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة ﴾١١ ١٢ [ غافر : ٤٣ ].
﴿ وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير ﴾ العلي١٣ القاهر١٤ المقتدر نبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغباً بذلك في عبادته زاجراً عن عبادة غيره، وأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك يفيد كمال القدرة ١٥.
١ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٤..
٢ المرجع السابق..
٣ التبيان ٢/٩٤٧..
٤ وذلك لأن المظهر لا يؤكد إلا بظاهر، ولا يؤكد بمضمر فلا تقول: جاءني زيد هو، ولا مررت بزيد هو، لأنه يشترط في المؤكد أن لا يكون أعرف من المؤكد، والمضمر أعرف من المظهر فلم يجز أن يكون توكيدا له. وأيضا فإن الغرض من التوكيد الإيضاح والبيان وإزالة اللبس، والمضمر أخفى من الظاهر فلا يصلح أن يكون مبينا له. ابن يعيش ٣/٤٢..
٥ وهو قوله تعالى: ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير﴾ [لقمان: ٣٠]..
٦ السبعة (٤٤٠) الكشف ٢/١٢٣، النشر ٢/٣٢٧، الإتحاف (٣٩٦)..
٧ المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٨٤..
٨ ما: سقط من ب..
٩ والأولى العموم في كل مدعو دون الله تعالى. تفسير ابن عطية ١٠/٣١٣، البحر المحيط ٦/٣٨٤..
١٠ أي: سقط من ب..
١١ من قوله تعالى: ﴿لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار﴾ [غافر: ٤٣]..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦١..
١٣ العلي: سقط من ب..
١٤ في ب: الفاعل. وهو تحريف..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦١..
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ الآية لما دل على قدرته بما تقدم أتبعه بأنواع أُخَر من الدلائل على قدرته ونعمته فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ﴾ وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المراد الرؤية الحقيقية، لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين،
135
واخضرار النبات على الأرض مرئي، فحمل الكلام على حقيقته أولى.
والثاني: المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام.
الثالث: المراد ألم تعلم.
قال ابن الخطيب: والأول ضعيف، لأن الماء وإن كان مرئياً إلا أن كون الله منزلاً له من السماء غير مرئي، وإذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
قوله: «فتصبح» فيه قولان:
أحدهما: أنه مضارع لفظاً ماض معنى تقديره: فأصبحت، قاله أبو البقاء، ثم قال بعد أن عطفه على «أَنْزَل» : فلا موضع له إذاً. وهو كلام ضعيف، لأن عطفه على «أنزل» يقتضي أن يكون له محل من الإعراب وهو الرفع خبراً ل «أن». لكنه لا يجوز لعدم الربط.
الثاني: أنه على بابه، ورفعه على الاستئناف. قال أبو البقاء: فهي، أي: القصة، و «تُصْبِح» الخبر. قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ، بل هذه جملة فعلية مستأنفة لا سيما وقَدَّر المبتدأ ضمير القصة ثم حذفه، وهو لا يجوز، لأنه لا يؤتى بضمير القصة إلا للتأكيد والتعظيم والحذف ينافيه. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: فأصبحت، ولم صرف إلى لفظ المضارع. قلت: لنكتة فيه، وهي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول: أنعَمَ عليَّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت: فَرِحْتُ وغَدَوْتُ لم يقع ذلك الموقع. فإن قلت: فما له رفع ولم ينصب جواباً بالاستفهام. قلت: لو نصب لأعطى عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار، فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار، مثاله أن تقول لصاحبك: ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله. وقال ابن عطية: قوله: «فَتُصْبِِحُ» بمنزلة قوله: فتضحى أو تصير، عبارة عن استعجالها أثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة، ووقع قوله: «فتُصْبحُ» من حيث
136
الآية خبر، والفاء عاطفة وليست بجواب، لأن كونها جواباً لقوله: «أَلَمْ تَر» فاسد المعنى. قال أبو حيان: ولم يبين هو ولا الزمخشري قبله كيف يكون النصب نافياً للاخضرار، ولا كون المعنى فاسداً.
قال سيبويه: وسألته - يعني الخليل - عن ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾ فقال: هذا واجب وتنبيه، كأنك قلت: أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
قال ابن خروف: وقوله: هذا واجب. وقوله: فكان كذا. يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام ب «أتسمع». (ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام) لضعف حكم الاستفهام فيه.
وقال بعض شراح الكتاب: «فتُصْبِحُ» لا يمكن نصبه، لأن الكلام واجب، ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل فالأرض هذه حالها. وقال الفراء: «ألَمْ تَر» خبر، كما تقول في الكلام: اعلم أن الله يفعل كذا فيكون كذا. ويقول: إنما امتنع النصب جواباً للاستفهام هنا، لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام، وإن كان يقتضي تقريراً في بعض الكلام، هو معامل معاملة النفي المحض في الجواب، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] وكذلك الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب. فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا. بالنصب، فالمعنى ما تأتينا محدثاً، وإنما تأتينا ولا تُحَدَِّث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتي فكيف تحدث، فالحديث منتف في الحالتين، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته الهمزة وينفي الجواب، فيلزم من هذا التقدير إثبات الرؤية وانتفاء الاخضرار، وهو خلاف المقصود.
137
وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء كقوله:
٣٧٧٥ - أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِركَ الرُّسُومُ... يتقدر: إن تسأل تخبرك الرسوم، وهنا لا يتقدر: إن تر إنزال المطر تصبح الأرض مخضرة، لأن اخضرارِها ليس مترتباً على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال.
وإنما عبر بالمضارع، لأن فيه تصوير الهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض، والماضي يفيد انقطاع الشيء، وهذا كقول جحدر بن معاوية يصف حاله مع أسد نازله في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف الثقفي، وهي أبيات فمنها:
٣٧٧٦ - يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيْهمَا لَما أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ
لَما نَزَلْتَ بِحصْنٍ أَزْبَرَ مِهْصَرٍ لِلْقِرْنِ أَرْوَاح العِدَا مَحَّاجِ
فَأَكِرُّ أَحْمِلُ وَهو يُقْعِي باسْتِه فَإِذَا يَعُوْدُ فَرَاجِعٌ أَدْرَاجِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ أَنِّيْ مِنَ الحَجَّاجِ لَسْتُ بَنَاجِ
فقوله: فأَكِرُّ تصوير للحالة التي لابسها. قال شهاب الدين: أما قوله: وأيضاً فإن جواب الاستفهام ينعقد مع الاستفهام. إلى قوله: إنما هو مترتب على الإنزال. منتزع من كلام أبي البقاء. قال أبو البقاء: إنما رفع الفعل هنا وإن كان قبله استفهام لأمرين:
أحدهما: أنه استفهام بمعنى الخبر، أي قدر رأيت فلا يكون له جواب.
والثاني: أن ما بعد الفاء ينصب إذا كان المستفهم عنه سبباً له، ورؤيته لإنزال الماء لا يوجب اخضرار الأرض، وإنما يجب على الماء.
وأما قوله: وإنما عبر بالمضارع. فهو معنى كلام الزمخشري بعينه، وإنما غير عبارته وأوسعها.
138
وقوله: «فَتُصْبح» استدل به بعضهم على أن الفاء لا تقتضي التعقيب، قال: لأن اخضرارها متراخ عن إنزال الماء، هذا بالمشاهدة.
وأجيب عن ذلك بما نقله عكرمة من أن أرض مكة وتهامة على ما ذكروا أنها تمطر الليلة فتصبح الأرض غدوة خضرة، فالفاء على بابها. قال ابن عطية: شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر ليلاً بعد قحط فأصبحت تلك الأرض الرملة التي نسفتها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف. وقيل: تراها كل شيء بحسبه، وقيل: ثم جُمَلٌ محذوفة قبل الفاء تقديره: فتهتز وتربو وتنبت، بيّن ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ﴾ [الحج: ٥] وهذا من الحذف الذي يدل عليه فحوى الكلام كقوله تعالى: ﴿فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا﴾ [يوسف: ٤٥ - ٤٦] إلى آخر القصة. و «تُصْبِحُ» يجوز أن تكون الناقصة وأن تكون التامة «مُخَضَرَّة» حال قاله أبو البقاء. وفيه بعد عن المعنى إذ يصير التقدير فتدخل الأرض في وقت الصباح على هذه الحال. ويجوز فيها أيضاً أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بهذا الزمن الخاص، وإنما خص هذا الوقت لأن الخضرة والبساتين أبهج ما ترى فيه ويجوز أن تكون بمعنى تصير. وقرأ العامة «مُخضَرَّة» بضم الميم وتشديد الراء اسم فاعل من اخْضَرَّت فهي مُخْضَرَّة، والأصل مُخْضَررَة بكسر الراء الأولى فأدغمت في مثلها. وقرأ بعضهم «مَخْضَرَة» بفتح الميم وتخفيف الراء بزنة مَبْقَلة ومَسْبعة.
والمعنى: ذات خضروات وذات سِبَاع وذات بَقْل.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ أي: أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة، والسماء إذا أمطرت كان ذلك سبباً لعيش الحيوان أجمع. ومعنى «خَبِير» أي؛ عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك
139
من غير زيادة ولا نقصان. وقال ابن عباس: «لطيفٌ» بأرزاق عباده «خبير» بما في قلوبهم من القنوط. وقال الكلبي: «لطيف» في أفعاله «خبير» بأعمال خلقه.
وقال مقاتل: «لطيف» باستخراج النبت «خبير» بكيفية خلقه.
﴿لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ عبيداً وملكاً، وهو غني عن كل شيء لأنه كامل لذاته، ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من مطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاماً عليهم لا لحاجة به إلى ذلك، وإذا كان كذلك كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه، فكان مستحقاً للحمد، فكأنه قال: إنه لكونه غنياً لم يفعل ما فعله إلا للإحسان، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد فوجب أن يكون حميداً، فلهذا قال: ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد﴾.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض﴾ أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد، ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم، وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها للأكل والركوب والحمل.
قوله: «والفُلْكَ» العامة على نصب «الفُلْكَ» وفيه وجهان:
أحدهما: أنها عطف على ﴿مَّا فِي الأرض﴾ أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك، وأفردها بالذكر وإن اندرجت بطريق العموم تحت «ما» في قوله ﴿مَّا فِي الأرض﴾ لظهور الامتنان بها، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات، و «تَجْرِي» على هذا حال.
والثاني: أنها عطف على الجلالة، وتقديره: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْر، ف «تجري» خبر على هذا. وضم لام «الفُلْك» هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن، وهي قراءة ابن مقسم، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع «والفُلْك» على الابتداء، و «تَجْرِي» بعده الخبر. ويجوز أن يكون ارتفاعه
140
عطفاً على محل اسم «إن» عند من يجيز ذلك نحو إن زيداً وعمرو قائمان، وعلى هذا ف «تجري» حال أيضاً والباء في «بأمره» للسببية.

فصل


وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياحُ تجريها، فلولا صفتها على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك، وبأن خلق ما تُعْمَل منه السفن، وبأن بين كيف تعمل، وقال: «بأَمْرِه» لما كان تعالى هو المجري لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً، لأن ذلك يفيد (تعظيمه بأكثر مما يفيد) لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة.
قوله: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ﴾ (في «أَنْ تَقَعَ» ) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع.
الثاني: أنها في محل نصب فقط لأنها بدل من «السماء» بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه.
الثالث: أنها في محل نصب على المفعول من أجله، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع، والكوفيون لئلا تقع.
قوله: «إِلاَّ بإِذْنِه» في هذا الجار وجهان:
أحدهما: أنه متعلق ب «تَقَع» أي: إلا بإذنه فتقع.
والثاني: أنه متعلق ب «يمسك».
قال ابن عطية: ويحتمل أن يعود قوله: «إلا بإذنه» على الإمساك، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، كأنه أراد إلا بإذنه فيه نمسكها. قال أبو حيان: ولو كان
141
على ما قال لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير: ويمسك السماء بإذنه.
قال شهاب الدين: فهذا الاستثناء مفرغ، ولا يقع في موجب، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي ساغ ذلك إذ التقدير: لا يتركها تقع إلا بإذنه، والذي يظهر أن هذه الباء حالية، أي: إلا ملتبسة بأمره. ثم قال: ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام، فهو إذاً رؤوف رحيم قوله: ﴿وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ﴾ أنشأكم ولم تكونوا شيئاً «ثُمَّ يُميتُكُمْ» عند انقضاء آجالكم «ثُمَّ يُحْييْكُمْ» يوم القيامة للثواب والعقاب ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ لنعم الله عزَّ وجلَّ، وهذا كما يعدد المرء نعمه على ولده ثم يقول: إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران، وبعثاً له على الشكر، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣].
قال ابن عباس: الإنسان هنا هو الكافر، وقال في رواية: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف. والأولى أنه في كل المنكرين.
142
﴿ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ عبيداً وملكاً، وهو غني عن كل شيء لأنه كامل لذاته، ولكنه لما خلق١ الحيوان فلا بد في الحكمة من مطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاماً عليهم لا لحاجة به٢ إلى ذلك، وإذا كان كذلك كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه، فكان مستحقاً للحمد، فكأنه قال : إنه لكونه غنياً لم يفعل ما فعله إلا للإحسان، ومن كان كذلك كان مستحقاً للحمد فوجب أن يكون حميداً، فلهذا قال :﴿ وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني الحميد ﴾٣.
١ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٦٣..
٢ في ب: بهم. وهو تحريف..
٣ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٦٣..
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض ﴾ أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد، ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم، وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها للأكل والركوب والحمل١.
قوله :«والفُلْكَ » العامة على نصب «الفُلْكَ » وفيه وجهان :
أحدهما : أنها عطف على ﴿ مَّا فِي الأرض ﴾ أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك، وأفردها بالذكر وإن اندرجت بطريق العموم تحت «ما » في قوله ﴿ مَّا فِي٢ الأرض ﴾ لظهور الامتنان بها، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات، و «تَجْرِي » على هذا حال ٣.
والثاني : أنها عطف على الجلالة، وتقديره : أَلَمْ تَرَ أَنَّ٤ الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْر، ف «تجري » خبر على هذا٥. وضم لام «الفُلْك » هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن، وهي قراءة ابن مقسم٦، وقرأ أبو عبد الرحمان وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع «والفُلْك »٧ على الابتداء، و«تَجْرِي » بعده الخبر٨. ويجوز أن يكون ارتفاعه عطفاً على محل اسم «إن » عند من يجيز ذلك٩ نحو إن زيداً وعمرو قائمان، وعلى هذا ف «تجري » حال أيضاً١٠ والباء في «بأمره » للسببية.

فصل١١


وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياحُ تجريها، فلولا صفتها على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص١٢ أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك، وبأن خلق ما تُعْمَل منه السفن، وبأن بين كيف تعمل، وقال :«بأَمْرِه » لما كان تعالى هو المجري لها١٣ بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً، لأن ذلك يفيد ( تعظيمه بأكثر مما يفيد )١٤ لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة١٥.
قوله :﴿ وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ ﴾ ( في «أَنْ تَقَعَ »١٦ ) ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع ١٧.
الثاني : أنها في محل نصب فقط لأنها بدل من «السماء » بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه ١٨.
الثالث : أنها في محل نصب على المفعول من أجله، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع، والكوفيون لئلا تقع ١٩.
قوله :«إِلاَّ بإِذْنِه » في هذا الجار وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب «تَقَع » أي : إلا بإذنه فتقع٢٠.
والثاني : أنه متعلق ب «يمسك ».
قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله :«إلا بإذنه » على الإمساك، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه، كأنه أراد إلا بإذنه فيه نمسكها٢١. قال أبو حيان : ولو كان على ما قال لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير : ويمسك السماء بإذنه٢٢.
قال شهاب الدين : فهذا الاستثناء مفرغ، ولا يقع في موجب، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي ساغ ذلك إذ التقدير : لا يتركها تقع إلا بإذنه، والذي يظهر أن هذه الباء حالية، أي : إلا ملتبسة بأمره٢٣. ثم قال :﴿ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام، فهو إذاً رؤوف رحيم٢٤.
١ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٣..
٢ ما: سقط من ب..
٣ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/٤٣٧، تفسير ابن عطية ١٠/٣١٥، التبيان ٢/٩٤٧، البحر المحيط ٦/٣٨٧..
٤ في ب: إلى. وهو تحريف..
٥ انظر تفسير ابن عطية ١٠/١٣٥، التبيان ٢/٩٤٧، البحر المحيط ٦/٣٨٧..
٦ البحر المحيط ٦/٣٨٧..
٧ المرجع السابق..
٨ انظر تفسير ابن عطية ١٠/٣١٥ التبيان ٢/٩٤٨، البحر المحيط ٦/٣٨٧..
٩ وهم الكوفيون، فهم يجوزون العطف على محل اسم (إن) لأنهم لا يشترطون في العطف على المحل وجود المحرز أي الطالب لذلك المحل، ولأن (إن) لم تعمل عندهم في الخبر شيئا، بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها. والبصريون يمنعون العطف على محل اسم (إن) لأن بعضهم يشترط في العطف على المحل وجود المحرز، ومن لم يشترط منهم ذلك يمنع إن زيدا وعمرو قائمان لتوارد عاملين إن والابتداء على معمول واحد وهو الخبر، ويجيز إن زيدا قائم وعمرو. المغني ٢/٤٧٤، الهمع ٢/١٤١..
١٠ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٧..
١١ في الأصل: قوله. وهو تحريف..
١٢ في ب: لعوض. وهو تحريف..
١٣ في ب: لهما. وهو تحريف..
١٤ ما بين القوسين سقط من ب..
١٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٤..
١٦ ما بين القوسين سقط من الأصل..
١٧ انظر التبيان ٢/٩٤٨..
١٨ انظر التبيان ٢/٩٤٨، البحر المحيط ٦/٣٨٧..
١٩ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٧..
٢٠ انظر البحر المحيط ٦/٣٨٧..
٢١ تفسير ابن عطية ١٠/٣١٥..
٢٢ تفسير ابن عطية ١٠/٣٨٧..
٢٣ الدر المصون: ٥/٨٠..
٢٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٤..
قوله :﴿ وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ﴾ أنشأكم ولم تكونوا شيئاً «ثُمَّ يُميتُكُمْ » عند انقضاء آجالكم «ثُمَّ يُحْييْكُمْ » يوم القيامة للثواب والعقاب ﴿ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ ﴾ لنعم الله عزَّ وجلَّ١، وهذا كما يعدد٢ المرء نعمه على ولده ثم يقول : إن الولد لكفور لنعم الوالد زجراً له عن الكفران، وبعثاً له على الشكر، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله٣ :﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ﴾٤ [ سبأ : ١٣ ].
قال ابن عباس : الإنسان هنا هو الكافر، وقال في رواية : هو الأسود بن عبد الأسد٥ وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف. والأولى أنه في كل المنكرين٦.
١ في ب: الله تعالى. انظر البغوي ٥/ ٦٠٩..
٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٦٤..
٣ قوله: سقط من ب..
٤ [سبأ: ١٣]..
٥ في الأصل: الأسود. وهو تحريف..
٦ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٦٤..
قوله تعالى: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ لما عدد نعمه وأنه لرؤوف رحيم بعباده، وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر، أتبعه بذكر نعمه بما كلَّف، فقال: ﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾. وحذف الواو من قوله: «لِكُلِّ أُمَّةٍ» لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فحذف العاطف.
قال الزمخشري: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في
142
أمر النسائك فعطفت على أخواتها، وأما هذه فواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً.
قوله: «هم ناسكوه» هذه الجملة صفة ل «مَنْسَكاً». وقد تقدم أنه يقرأ بالفتح والكسر، وتقدم الخلاف فيه هل هو مصدر أو مكان. وقال ابن عطية: «نَاسِكُوه» يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان مكاناً لقال: ناسكون فيه. يعني أن الفعل لا يتعدى إلى ضمير الظرف إلا بواسطة (في). وما قاله غير لازم، لأنه قد يتسع في الظرف فيجري مجرى المفعول فيصل الفعل إلى ضميره بنفسه، وكذا ما عمل عمل الفعل.
ومن الاتساع في ظرف الزمان قوله:
٣٧٧٧ - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً قَلِيْلٍ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُه
ومن الاتساع في ظرف المكان قوله:
٣٧٧٨ - وَمَشْرَبٍ َشْرَبُه وشيلٍ لاَ آجِنُ المَاءِ وَلاَ وَبِيْلُ
يريد أشرب فيْه.

فصل


روي عن ابن عباس: المَنْسَك شريعة عاملون بها، ويؤيده قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨]. وروي عنه أنه قال: عيداً يذبحون فيه. وقال مجاهد وقتادة: قربان يذبحون. وقيل: موضع عبادة. وقيل: مألفاً يألفونه والأول أولى لأن المنسك
143
مأخوذ من النسك وهو العبادة، وإذا وقع الاسم على عبادة فلا وجه للتخصيص.
فإن قيل: هلا حملتموه على الذبح، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح وهلا حملتموه على موضع العبادة وعلى وقتها؟
فالجواب عن الأول: لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح، لأن سائر أفعال الحج تسمى مناسك قال عليه السلام: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم».
وعن الثاني: أن قوله: «هُمْ نَاسِكُوه» أليق بالعبادة منه بالوقت والمكان. «فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ» قرأ الجمهور بتشديد النون، وقرئ بالنون الخفيفة وقرأ أبو مجلز «فَلاَ يَنْزِعُنَّكَ» من نَزَعتهُ من كذا أي قلعته منه. وقال الزجاج: هو من نَازعتُه فَنَزَعْتُه أَنْزِعُه أي: غلبته في المنازعة. ومجيء هذه الآية كقوله تعالى: ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا﴾ [طه: ١٦] وقولهم: لا أَرَيَّنَكَ ههنا.

فصل


معنى الكلام على قراءة أبي مجلز: أي اثبت في دينك ثباتاً لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه وعلى قراءة: «يُنَازِعُنَّكَ» فيه قولان:
الأول: قال الزجاج: إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربك فلان أي: لا تضاربه.
قال بعض المفسرين: ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر﴾ في أمر الذبائح، نزلت في بُدَيْل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن حُبَيش قالوا لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا لَكُمْ تَأْكُلُونَ مَا تَقْتُلون بأَيْدِيْكُمْ وَلاَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّه.
144
والثاني: أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك، وقد استقر الآن الأمر على شرعك، وعلى أنه ناسخ لكل ما عداه، فكأنه قال: كل أمة بقيت منها بقية يلزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول - عليه السلام - فلذلك قال: ﴿وادع إلى رَبِّكَ﴾ أي: لا تخص بالدعاء أمة دون أمة، فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك، فإنك على هدى مستقيم والهدى يحتمل أن يكون نفس الدين، وأن يكون أدلة الدين، وهو أولى. كأنه قال: ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة، ولهذا قال: «وَإِنْ جَادَلُوْك» أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى المراء والتمسك بعادتهم ﴿فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي أنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قَبِل وبين نار وعقاب لمن رَدّ وأنكر. فقال: ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.
145
أي فإن عدلوا عن هذه الأدلة إلى المراء والتمسك بعادتهم ﴿ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ أي أنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قَبِل وبين نار وعقاب لمن رَدّ وأنكر.
فقال :﴿ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ فتعرفون حينئذ الحق من الباطل١.
١ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٦٥ – ٦٦..
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض﴾ الآية. لما قال: ﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ [الحج: ٦٩] أتبعه بما به يعلم أنه تعالى عالم بما يستحقه كل أحد، ويقع الحكم بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض﴾، وهذا استفهام معناه تقوية قلب الرسول - عليه السلام - والوعد له وإيعاد الكافرين بأن أفعالهم كلها محفوظة عند الله لا يضل عنه ولا ينسى. والخطاب مع الرسول والمراد سائر العباد لأن الرسالة لا تثبت إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات، إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق، فحينئذ لا يكون إظهار المعجزة دليلاً على الصدق، وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالماً بذلك، فثبت أن المراد
145
أن يكون خطاباً مع الغير ثم قال: ﴿إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ﴾ أي: كله في كتاب يعني اللوح المحفوظ.
وقال أبو مسلم: معنى الكتاب الحِفْظ والضَّبْط والشَّد، يقال: كَتَبْتُ المزادة أكْتُبُها إذا خَرزْتها، فحفظت بذلك ما فيها، ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به، فالمراد بالآية أنه محفوظ عنده. وأيضاً فالقول الأول يوهم أن علمه مستفاد من الكتاب.
وأجيب بأن هذا القول وإن كان صحيحاً نظراً إلى الاشتقاق لكن حمل اللفظ على المتعارف أولى، ومعلوم أن الكتاب هو ما كتب فيه الأمور.
فإن قيل: أي فائدة في ذلك الكتاب إذا كان محفوظاً؟
فالجواب أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات دليل على أنه تعالى غني في علمه عن ذلك الكتاب. وفائدة أن الملائكة ينظرون فيه، ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فيصير ذلك دليلاً لهم زائداً على كونه تعالى عالماً بكل المعلومات وقوله: ﴿إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي العلم بجميع ذلك على الله يسير. والمعنى: إن ذلك مما يتعذر على الخلق لكنه متى أراده الله تعالى كان، فعبر عن ذلك بأنه يسير، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور، وتعالى الله عن ذلك. ثم إنه تعالى بين ما يقدم الكفار عليه مع عظم نعمه ووضوح دلائله فقال:
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ حجة ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي: عن جهل، وليس لهم به دليل عقلي فهو تقليد وجهل، والقول الذي هذا شأنه يكون باطلاً.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أي وما للمشركين من نصير مانع يمنعهم من عذاب الله.
قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ يعني القرآن «بَيِّنَاتٍ» لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان الأحكام.
وقوله: «تَعْرِفُ» العامة على «تعرف» خطاباً مبنياً للفاعل، «المُنْكَر» مفعول به. وعيسى بن عمر «يُعْرَف» بالياء من تحت مبنياً للمفعول، «المنكر» مرفوع قائم مقامل الفاعل، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار.
وقوله: «الَّذِينَ كَفَرُوا» من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك، قال
146
الكلبي: تَعْرِف في وجوههم الكراهية للقرآن. وقال ابن عباس: التجبر والترفع. وقال مقاتل: أنكروا أن يكون من الله.
قوله: «يَكَادُونَ يَسْطُونَ» هذه حال إما من الموصول، وإن كان مضافاً إليه لأن المضاف جزؤه وإما من الوجوه لأنها يُعَبَّرُ بها عن أصحابها كقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾ [عبس: ٤٠] ثم قال: «أُولَئِكَ هُم». و «يَسْطُونَ» ضُمن معنى يبطشون فتعدى تعديته، وإلا فهو متعدّ ب (على). يقال: سطا عليه، وأصله القهر والغلبة، وقيل: إظهار ما يهول للإخافة، ولفلان سطوة أي تسلط وقهر. وقال الخليل والفراء والزجاج: السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به. أي: يكادون يبطشون ﴿بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ أي بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأصحابه من شدة الغيظ، يقال: سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال: ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم﴾ أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون. أو من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم. قوله: «النار» تقرأ بالحركات الثلاث، فالرفع من وجهين:
أحدهما: الرفع على الابتداء والخبر الجملة من «وعَدَهَا اللَّهُ»، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل: ما شر من ذلك؟ (فقيل: النار وعدها الله.
والثاني: أنها خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل: ما شر من ذلك) فقيل: النار أي: هو النار وحينئذ يجوز في «وَعَدَهَا اللَّهُ» الرفع على كونها خبراً بعد خبر، وأجيز أن يكون بدلاً من النار. وفيه نظر من حيث إن المبدل منه مفرد، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد، ويكون بدل اشتمال، كأنه قيل: النار وعدها الله الكفار.
147
وأجيز أن تكون مستأنفة لا محل لها. ولا يجوز أن تكون حالاً، قال أبو البقاء لأنه ليس في الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال.
وظاهر نقل أبي حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالاً فقال: وأجاز الزمخشري أن تكون «النَّارُ» مبتدأ و «وَعَدَها» خبر، وأن تكون حالاً على الإعراب الأول انتهى.
والإعراب الأول هو كون «النار» خبر مبتدأ مضمر. والزمخشري لم يجعلها حالاً إلا إذا نصبت «النار» أو جررتها بإضمار قد.
هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء، وهو عدم العامل. وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة. وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر، والمسألة من الاشتغال.
الثاني: قال الزمخشري: إنها منصوبة على الاختصاص.
الثالث: أن ينتصب بإضمار أعني، وهو قريب مما قبله أو هو هو. وأما الجر فهو قراءة ابن إبي إسحاق وإبراهيم بن نوح، على البدل من «شَرّ» والضمير في «وَعَدَهَا» قال أبو حيان: الظاهر أنه هو المفعول الأول، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ [ق: ٣٠]، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و «الَّذِينَ كَفَرُوا» هو المفعول الأول، كما قال: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [التوبة: ٦٨]. قال شهاب الدين: وينبغي أن يتعين هذا الثاني، لأنه متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل، فإذا قلت: وعدت زيداً ديناراً. فالدينار هو المفعول، لأنه لا يتأتى منه فعل، وهو
148
ثم إنه تعالى بين ما يقدم الكفار عليه مع عظم نعمه ووضوح دلائله فقال :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾.
حجة ﴿ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أي : عن جهل، وليس لهم به دليل عقلي فهو تقليد وجهل، والقول الذي هذا شأنه يكون باطلاً.
﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ أي وما للمشركين من نصير مانع يمنعهم من عذاب الله.
قوله :﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ يعني القرآن «بَيِّنَاتٍ » لأنه متضمن للدلائل العقلية وبيان الأحكام. وقوله :«تَعْرِفُ » العامة على «تعرف » خطاباً مبنياً للفاعل، «المُنْكَر » مفعول به. وعيسى بن عمر «يُعْرَف » بالياء من تحت مبنياً للمفعول، «المنكر » مرفوع قائم مقام الفاعل١، والمنكر اسم مصدر بمعنى الإنكار.
وقوله :«الَّذِينَ كَفَرُوا » من إقامة الظاهر مقام المضمر للشهادة عليهم بذلك، قال الكلبي : تَعْرِف في وجوههم الكراهية للقرآن. وقال ابن عباس : التجبر والترفع. وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله٢.
قوله :«يَكَادُونَ يَسْطُونَ » هذه حال إما من الموصول، وإن كان مضافاً إليه لأن المضاف جزؤه٣ وإما من الوجوه لأنها يُعَبَّرُ بها عن أصحابها كقوله :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴾ [ عبس : ٤٠ ] ثم قال :«أُولَئِكَ هُم »٤. و «يَسْطُونَ » ضُمن معنى يبطشون فتعدى تعديته٥، وإلا فهو متعدّ ب ( على ). يقال : سطا عليه، وأصله القهر والغلبة٦، وقيل : إظهار ما يهول للإخافة، ولفلان سطوة أي تسلط وقهر. وقال الخليل٧ والفراء٨ والزجاج٩ : السطو شدة البطش والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيماً لإنكار ما خوطبوا به١٠. أي : يكادون يبطشون ﴿ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من شدة الغيظ، يقال : سطا عليه وسطا به إذا تناوله بالبطش والعنف١١ ثم أمر رسوله بأن يقابلهم١٢ بالوعيد فقال :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ من ذلكم ﴾ أي بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون. أو من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم١٣. قوله :«النار » تقرأ بالحركات الثلاث، فالرفع١٤ من وجهين :
أحدهما : الرفع على الابتداء والخبر الجملة من «وعَدَهَا اللَّهُ »١٥، والجملة لا محل لها فإنها مفسرة للشر المتقدم كأنه قيل : ما شر من ذلك ؟ ( فقيل : النار وعدها الله.
والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر كأنه قيل : ما شر من ذلك١٦ ) فقيل : النار أي : هو النار١٧ وحينئذ يجوز في «وَعَدَهَا اللَّهُ » الرفع على كونها خبراً بعد خبر١٨، وأجيز أن يكون بدلاً من النار. وفيه نظر من حيث إن المبدل منه مفرد، وقد يجاب عنه بأن الجملة في تأويل مفرد١٩، ويكون بدل اشتمال، كأنه قيل : النار وعدها الله الكفار.
وأجيز أن تكون مستأنفة لا محل لها٢٠. ولا يجوز أن تكون حالاً، قال أبو البقاء لأنه ليس في الجملة ما يصلح أن يعمل في الحال ٢١.
وظاهر نقل أبي حيان عن الزمخشري أنه يجيز كونها حالاً فقال : وأجاز الزمخشري أن تكون «النَّارُ » مبتدأ و «وَعَدَها » خبر، وأن تكون حالاً على الإعراب الأول٢٢ انتهى.
والإعراب الأول هو كون «النار » خبر مبتدأ مضمر. والزمخشري لم يجعلها حالاً إلا إذا نصبت «النار » أو جررتها بإضمار قد ٢٣. هذا نصه وإنما منع ذلك لما تقدم من قول أبي البقاء، وهو عدم العامل. وأما النصب فهو قراءة زيد بن علي وابن أبي عبلة٢٤. وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الفعل الظاهر، والمسألة من الاشتغال٢٥.
الثاني : قال الزمخشري : إنها منصوبة على الاختصاص٢٦.
الثالث : أن ينتصب بإضمار أعني٢٧، وهو قريب مما قبله أو هو هو. وأما الجر فهو قراءة ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح٢٨، على البدل من «شَرّ »٢٩ والضمير في «وَعَدَهَا » قال أبو حيان : الظاهر أنه هو المفعول الأول، على أنه تعالى وعد النار بالكفار أن يطعمها إياهم، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾٣٠ [ ق : ٣٠ ]، ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني و «الَّذِينَ كَفَرُوا » هو المفعول الأول، كما قال :﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ ﴾٣١ ٣٢ [ التوبة : ٦٨ ]. قال شهاب الدين : وينبغي أن يتعين هذا الثاني، لأنه متى اجتمع بعد ما يتعدى إلى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول، فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول، ونعني بالفاعل المعنوي من يتأتى منه فعل، فإذا قلت : وعدت زيداً ديناراً. فالدينار هو المفعول، لأنه لا يتأتى منه فعل، وهو نظير أعطيت زيداً درهماً. فزيد هو الفاعل، لأنه آخذ للدرهم ٣٣.
وقوله :«وَبِئْسَ المَصِير » المخصوص بالذم محذوف تقديره : وبئس المصير هي النار.

فصل


والمعنى : أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم، وهي النار وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي.
١ المختصر (٩٦)، البحر المحيط ٦/٣٨٨..
٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٦٧..
٣ تقدم الكلام في مجيء الحال..
٤ من قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة﴾ [عبس: ٤٠ – ٤١، ٤٢] انظر التبيان ٢/٩٤٨..
٥ أي: تعدى بالباء..
٦ اللسان (سطا)..
٧ العين (سطو) ٧/٢٧٧..
٨ معاني القرآن ٢/٢٣٠...
٩ معاني القرآن وإعرابه ٣/ ٤٣٨..
١٠ انظر الفخر الرازي ٢٣/ ٦٨..
١١ انظر البغوي ٥/٦١٢..
١٢ في ب: يعاملهم. وهو تحريف..
١٣ انظر الكشاف ٣/٤٠..
١٤ وهو قراءة الجمهور. البحر المحيط ٦/٣٨٩..
١٥ انظر البيان ٢/١٧٩، الكشاف ٣/٤٠..
١٦ ما بين القوسين سقط من ب..
١٧ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٣/ ٤٣٨، الكشاف ٣/٤٠، البيان ٢/١٧٩، التبيان ٢/٩٤٨..
١٨ انظر الكشاف ٣/٤٠..
١٩ تقدم الكلام على بدل الجملة من المفرد، وقد أجازه ابن جني والزمخشري وابن مالك..
٢٠ انظر الكشاف ٣/٤٠، التبيان ٢/٩٤٨..
٢١ انظر التبيان ٢/٩٤٨..
٢٢ البحر المحيط ٦/٣٨٩..
٢٣ قال الزمخشري: (وأن يكون حالا عنها إذا نصبتها أو جررتها بإضمار قد) الكشاف ٣/٤٠..
٢٤ البحر المحيط ٦/٣٨٩..
٢٥ انظر التبيان ٢/٩٤٨، البحر المحيط ٦/٣٨٩..
٢٦ الكشاف ٣/٤٠..
٢٧ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٢/٤٣٨، التبيان ٢/٩٤٨..
٢٨ البحر المحيط ٦/٣٨٩..
٢٩ انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٢/٤٣٨، الكشاف ٣/٤٠، التبيان ٢/٩٤٨، البحر المحيط ٦/٣٨٩..
٣٠ من قوله تعالى: ﴿يوم نقول لجهنم هلا امتلأت وتقول هل من مزيد﴾ [ق: ٣٠]..
٣١ [التوبة: ٦٨]..
٣٢ البحر المحيط ٦/٣٨٩..
٣٣ الدر المصون٥/٨١..
نظير أعطيت زيداً درهماً. فزيد هو الفاعل، لأنه آخذ للدرهم.
وقوله: «وَبِئْسَ المَصِير» المخصوص بالذم محذوف تقديره: وبئس المصير هي النار.

فصل


والمعنى: أن الذي ينالكم من النار أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب والغم، وهي النار وعدها الله الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وبئس المصير هي.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ﴾
الآية لما بين أنهم يعبدون من دون الله ما لا حجة لهم به ولا علم ذكر هاهنا ما يدل على إبطال قولهم.
قوله: «ضُرِبَ مَثَلٌ» قال الأخفش: ليس هذا مثل وإنما المعنى جعل الكفارُ لله مثلاً. قال الزمخشري: فإن قلت: الذي جاء به ليس مثلاً، فكيف سماه مثلاً؟ قلت قد سميت الصفة والقصة الرائعة المتلقاة بالامتحان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستغربة مستحسنة. وقيل: معنى «ضَرَبَ» جعل، كقولهم: ضَرَبَ السلطان البَعْثَ، وضرب الجِزْيَة على أهل الذمة. ومعنى الآية: فجعل لي شَبَهٌ وشُبِّه بي الأوثان، أي: جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها. وقيل: هو مثل من حيث المعنى، لأنه ضرب مثل من يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذباباً. «فَاسْتَمِعُوا لَه» أي: فتدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع، وإنما ينفع بالتدبر.
قوله: ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ﴾ قرأ العامة «تَدْعُونَ» بتاء الخطاب والحسن ويعقوب وهارون ومحبوب عن أبي عمرو بالياء من تحت وهو في كلتيهما مبني للفاعل.
149
وموسى الأسواري واليماني «يُدْعَوْنَ» بالياء من أسفل مبنياً للمفعول. والمراد الأصنام. فإن قيل: قول «ضُرِبَ» يفيد فيما مضى، والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء فالجواب: إذا كان ما يورد من الوصف معلوماً من قبل جاز ذلك فيه، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر تقدم.
قوله: «لَنْ يَخْلُقُوا». جعل الزمخشري نفي «لَنْ» للتأبيد وتقدم البحث معه في ذلك. والذباب معروف، وهو واحد، وجمعه القليل: أذِبَّة، وفيه الكسرة، ويجمع على ذِبَّان وذُبَّان بكسر الذال وضمها وعلى ذُبّ. والمِذَبَّة ما يطرد بها الذباب. وهو اسم جنس واحدته ذبابة تقع للمذكر والمؤنث فتفرد بالوصف.
قوله: ﴿وَلَوِ اجتمعوا لَهُ﴾ قال الزمخشري: نصب على الحال كأنه قال يستحيل خلقهم الذباب حال اجتماعهم لخلقه وتعاونهم عليه فكيف حال انفرادهم. وقد تقدم أن هذه الواو عاطفة هذه الجملة الحالية على حال محذوفة، أي: انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحالة المقتضية لخلقهم، فكأنه تعالى قال: إن هذه الأصنام لو اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً.
150
قوله: ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً﴾ السلب اختطاف الشيء بسرعة، يقال: سلبه نعمته.
والسلب: ما على القتيل، وفي الحديث: «مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبه».
وقوله: ﴿لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ الاستنقاذ: استفعال بمعنى الإفعال، يقال: أنقذه من كربته، أي: أنجاه منه وخلصه، ومثله: أَبَلَّ المريض واسْتَبَلّ.

فصل


كأنه تعالى قال: أترُكُ أمر الخلق والإيجاد وأتكلمُ فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إذا سَلَبَ منها شيئاً فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب.
واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة، وأما الثانية فلا.
فإن قيل: هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة، وإما لنفي كونها مستحقة للتعظيم، والأول فاسد، لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة، فلا فائدة في إقامة الدلالة عليه. وأما الثاني فهذه الدلالة لا تفيده، لأنه لا يلزم من نفي كونها حيّة أن لا تكون معظمة، فإن جهات التعظيم مختلفة، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صور الكواكب، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين.
فالجواب: أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الضر والنفع، فهو يبطل بهذه الدلالة، فإنها لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى. وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، فقد تقرر في العقل أنَّ تعظيمَ غير الله ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله، والقوم كانوا
151
يعظمونها نهاية التعظيم، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم، فمن هاهنا استوجبوا الذم.

فصل


قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، فإذا جفَّ جاءت الذباب فاستلبته وقال السدي: كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فيقع الذباب عليه فيأكلن منه.
وقال ابن زيد: كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، ويطيبونها بأنواع الطيب، فربما يسقط منها واحدة فأخذها طائر وذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ﴿ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ قيل: هو إخبار. وقيل: تعجب. والأول أظهر.
قال ابن عباس: الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم، والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب. وقيل: العكس الطالب الصنم والمطلوب الذباب، فالصنم كالطالب لأنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه، والذباب بمنزلة المطلوب. وقال الضحاك: الطالب العابد والمطلوب المعبود، لأن كون الصنم طالباً ليس حقيقة بل على سبيل التقدير. وقيل: المعنى ضعف أي ظهر قبح هذا المذهب كما يقال عند المناظرة: ما أضعف هذا المذهب، وما أضعف هذا الوجه.
قوله: ﴿ما قدروا الله حق قدره﴾ أي: ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شركاء له في المعبودية. ﴿إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ :«قويّ» لا يتعذر عليه فعل شيء «عزيز» لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك.
قال الكلبي: في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام: أنها نزلت في مالك
152
ابن الصيف وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم من اليهود، حيث قالوا: إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض أعيا من خلقها، فاستلقى واستراح، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨].
153
قوله :﴿ ما قدروا الله حق قدره ﴾ أي : ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شركاء له في المعبودية. ﴿ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ :«قويّ » لا يتعذر عليه فعل شيء «عزيز » لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك.
قال الكلبي : في هذه الآية وفي نظيرها في سورة الأنعام١ : أنها نزلت في مالك ابن الصيف٢ وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وغيرهم من اليهود، حيث قالوا : إن الله تعالى٣ لما فرغ من خلق السماوات والأرض أعيا من خلقها، فاستلقى واستراح، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيباً لهم، ونزل قوله :﴿ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ٤٥ [ ق : ٣٨ ].
١ وهو قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس﴾ [الأنعام: ٩١]..
٢ في ب: الضيف. وهو تحريف..
٣ في ب: سبحانه..
٤ من قوله تعالى: ﴿ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب﴾ [ق: ٣٨]..
٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٠..
قوله تعالى: ﴿الله يصطفي من الملائكة رسلاً﴾ الآية لما ذكر ما يتعلق بالإلهيات ذكر هاهنا ما يتعلق بالنبوات. قال بعضهم: [تقدير الكلام: ومن الناس رسلاً. ولا حاجة لذلك، بل قوله «ومن الناس» مقدَّر التقديم، أي: يصطفي من الملائكة ومن الناس رسلاً]. قال مقاتل: قال الوليد بن المغيرة ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ ؟ [ص: ٨] فأنزل الله هذه الآية فإن قيل: كلمة «من» للتبعيض، فقوله «من الملائكة» يقتضي أن يكون الرسل بعضهم لا كلهم، وقوله: ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ [فاطر: ١] يقتضي كون كلهم رسلاً، فكيف الجمع؟
فالجواب: يجوز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلاً إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرافيل، والحفظة صلوات الله عليهم، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض. فإن قيل: قوله في سورة الزمر ﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ [الزمر: ٤] فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى، وهذه الآية تدل على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين، فلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد.
فالجواب: أن قوله: ﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى﴾ [الزمر: ٤] يدل على أن كل ولد
قال ابن عباس : ما قدموا وما خلفوا١ وقال الحسن :﴿ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ ما عملوا، «وَمَا خَلْفَهُم » ما هم عاملون من بعد٢. ثم قال :﴿ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور ﴾ إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالإلهية والحكم٣، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية ٤.
١ انظر البغوي ٥/٦١٤..
٢ المرجع السابق..
٣ في النسختين: والحكمة: وما أثبته من الفخر الرازي..
٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧١..
مصطفى ولا يدل على أن كل مصطفى ولد، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولداً. وأيضاً فالمراد من هذه الآية تبكيت من عبد غير الله من الملائكة، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان، وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة لأن الله اصطفاهم لمكان عبادتهم، فكأنه تعالى بيَّن أنهم ﴿مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الحج: ٧٤] إذ جعلوا الملائكة معبودة مع الله.
ثم بين تعالى: بقوله: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أنه يسمع ما يقولون، ويرى ما يفعلون ولذلك أتبعه بقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾. قال ابن عباس: ما قدموا وما خلفوا وقال الحسن: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما عملوا، «وَمَا خَلْفَهُم» ما هم عاملون من بعد. ثم قال: ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ إشارة إلى القدرة التامة، والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا﴾
إلى آخر السورة. لما ذكر الإلهيات ثم النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع، وهو من أربعة أوجه:
الأول: تعيين المأمور.
والثاني: أقسام المأمور به.
والثالث: ذكر ما يوجب تلك الأوامر.
والرابع: تأكيد ذلك التكليف.
فأما تعيين المأمور به فهو قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ وهذ خطاب للمؤمنين؛ لأنه
154
صرح بهم، ولقوله: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ»، ولقوله: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين﴾، وقوله ﴿وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾. وقيل: خطاب لكل المكلفين مؤمناً كان أو كافراً؛ لأن التكليف بهذه الإشارة عامّ في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمن بذلك. وأما فائدة التخصيص، فلأنه لما لم يقبله إلا المؤمنون خصهم بالذكر ليحرضهم على المواظبة على ما قبلوه، وكالتشريف لهم في ذلك الإفراد. وأما المأمور فأربعة أمور:
الأول: الصلاة وهو المراد بقوله: «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا» وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود، والصلاة هي المختصة بهذين الركنين، فجرى ذكرهما مجرى ذكر الصلاة، وذكر ابن عباس: أن الناس كانوا في أول إسلامهم يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية.
والثاني: قوله: «وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» قيل: وحدوه. وقيل: اعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات. وقيل: افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات بنية العبادة.
الثالث: قوله: «وَافْعَلُوا الخَيْرَ» قال ابن عباس: هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» لكي تفوزوا بالجنة. وقيل: كلمة «لَعَلَّ» للترجي، فإن الإنسان قلما يخلو في أداء الفريضة من تقصير، فليس هو على يقين من أن الذي أتى به هل هو مقبول عند الله والعواقب مستورة «وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له»

فصل


اختلفوا في سجود التلاوة عند قراءة هذه الآية، فذهب عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس: إلى أنه يسجد، وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق لما روى عقبة بن عامر قال: «قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين قال:» نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأهما «وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يسجد هاهنا. وعدد سجود القرآن أربع عشرة سجدة عند أكثر أهل العلم منها ثلاث في المفصل، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس: ليس في المفصل سجود، وبه قال مالك.
155
وقد صح عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في» اقْرَأ «و ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ [الانشقاق: ١]. وأبو هريرة متأخر الإسلام. واختلفوا في سجدة ص فروي عن ابن عباس أنها سجدة شكر وهو مذهب الشافعي وعن عمر أنه يسجد فيها، وهو قول الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق.
الرابع: قوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ﴾ يجوز أن يكون «حَقَّ جِهَادِهِ»
منصوباً على المصدر، وهو واضح. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي جهاداً حق جهاده. وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس: حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله﴾. قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله:
٣٧٧٩ - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِرا... يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل: حق جهاد فيه. فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير، وهو من باب هو حقّ عالم وجد، أي: عالم حقاً وعالم جداً.

فصل


المعنى: جاهدوا في سبيل الله «أعداء اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ» هو استفراغ الطاقة فيه. قاله ابن عباس، وعنه قال: لا تخافون لومة لائم. وقال الضحاك ومقاتل: اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته. وقال مقاتل بن سليمان: نسخها قوله: ﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ [التغابن: ١٦] وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً
156
إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ [البقرة: ٧٨] و ﴿يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر﴾ [البقرة: ١٨٥]. فكيف يقول: ﴿وَجَاهِدُوا فِي الله﴾ على وجه لا يقدرون عليه؟ وقال أكثر المفسرين: حق الجهاد أن يكون بنية صادقة. وقيل: يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة. وقيل: يجاهدوا آخراً كما جاهدوا أولاً، فقد كان جهادهم في الأول أقوى، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله» ؟ قال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء. واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن، وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جَهَادِهِ كما جاهدتم أول مرة» فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال: قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال: صدقت. وقيل: معنى الآية: استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان، وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر [وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما رجع من غزوة تبوك قال:
«رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر» ] وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس. وأما بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر، فهو ثلاثة:
الأول: قوله: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ» اختاركم لدينه، وهذه من أعظم التشريفات، فأي رتبة أعلى من هذه، وأي سعادة فوق هذا. ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ وهو كالجواب عن سؤال، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس؟ أجاب بعضهم بقوله: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ﴾، [روي أن أبا هريرة - رَضِيَ
157
اللَّهُ عَنْه قال: كيف قال الله ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ ] مع أنه منعنا عن الزنا؟ فقال ابن عباس: بلى، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا.
وهذا قول الكلبي، قال المفسرون: معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه. وقال ابن عباس ومقاتل: هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم، وإباحة الفطر في السفر للصائم، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة.

فصل


استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق، وقالوا: لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج، وذلك منفي بصريح هذا النص.
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً، وذلك من أعظم الحرج، ولما استوعى العدمان زال السؤال.
الموجب الثاني: قوله: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ» فيه أوجه:
أحدها: أنها منصوبة باتبعوا مضمراً. قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء.
الثاني: أنها منصوبة على الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم.
الثالث: أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها، كأنه قال: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قاله الزمخشري. وهذا أظهرها.
الرابع: أنها منصوبة بجعلها مقدراً. قاله ابن عطية.
158
الخامس: أنها منصوبة على حذف كاف الجر، أي: كملة أبيكم. قاله الفراء، وقال أبو البقاء قريباً منه، فإنه قال: وقيل تقديره: مثل ملة، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقوله: «إبراهيم» بدل أو بيان أو منصوب بأعني.

فصل


والمقصود من ذكر «إِبْرَاهِيم» التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم - عليه السلام - لأنهم من أولاده، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول هذا الدين.
فإن قيل: ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم. فالجواب: أن هذا خطاب مع العرب، وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل: خاطب به جميع المسلمين، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه وحفظ حقه كما يجب احترام الأب، فهو كقوله تعالى: «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ»، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنما أنا لكم مثل الوالد» فإن قيل: هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص، ويؤكده قوله: ﴿اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [النحل: ١٢٣].
فالجواب: إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان، فكأنه قال: عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع.
قوله: «هُو سَمَّاكُمْ» في هذا الضمير قولان:
أحدهما: أنه يعود على «إبْرَاهِيمَ»، لأنه أقرب مذكور إلا أن ابن عطية قال: وفي هذه اللفظة يعني قوله: «وَفِي هَذَا» ضعف قول من قال: الضمير ل «إبراهيم» ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف. انتهى.
ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله: «وَفِي هَذَا» عطف على «مِنْ قَبْلُ» و «هَذَا» إشارة إلى القرآن، فيلزم أن «إبْرَاهِيمَ» سمّاهم المسلمين في القرآن، وهو غير واضح؛ لأن
159
القرآن المشار إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال، فلذلك ضعف قوله.
قوله: إلا بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر: وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو البقاء: قيل: الضمير ل «إبْرَاهِيمَ» فعلى هذا الوجه يكون قوله «وَفِي هَذَا» أي: وفي هذا القرآن سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم: ﴿رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ [البقرة: ١٢٨]، فاستجاب الله له، وجعلها أمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
والثاني: أن الضمير يعود على الله تعالى، ويدلّ له قراءة أُبيّ «اللَّهُ سَمَّاكُمْ» بصريح الجلالة، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن الكريم أيضاً. وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله: ﴿لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس﴾. فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله.
فقوله: «لِيَكُونَ الرَّسُولُ» متعلق ب «سَمَّاكُمْ» فبيّن فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو الموجب الثالث لقبول التكليف، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة. وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله: ﴿فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ فهي المفروضات، لأنها المعهودة. واعتصموا بحبل الله أي بدلائله العقلية والسمعية.
قال ابن عباس: سلو الله العِصمة عن كل المحرمات. وقيل: ثقوا بالله وتوكلوا عليه. وقال الحسن: تمسكوا بدين الله «هُوَ مَوْلاَكُمْ» سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم. ﴿فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ فكأنه تعالى قال: أنا مولاكم بل أنا ناصركم. وحسن حذف المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة.

فصل


احتجت المعتزلة بهذه الآية من وجوه:
160
أحدها: أن قوله: «لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل؛ لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على الناس فقد أراد أن يكونوا جميعاً صالحين عدولاً، وقد علمنا أن منهم فسّاقاً، فدل ذلك على أن الله - تعالى - أراد من الفاسق كونه عدلاً.
وثانيها: قوله: «وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه.
وثالثها: قوله: «فَنِعْمَ المَوْلَى» فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شر المولى أحد إلا وهو شرٌّ منه، فكان يجب أن يوصف بأنه بئْس المولى. وذلك باطل فدل على أنه - سبحانه - ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا: إنه - تعالى - مولى الكافرين والمؤمنين جميعاً، فيجب أن يقال: نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله - تعالى - تعالى الله عند ذلك.
ورابعها: أن قوله: ﴿سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ﴾ يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله - تعالى - لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص.
والجواب عن الأول: وهو قولهم إن كونه - تعالى - مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكون عدلاً. فنقول: إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله، ويلزم كونه - تعالى - مريداً لجهل نفسه، وإن لم يكن ذلك واجباً فقد سقط الكلام.
وأما قوله: «واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» فيقال: هذا أيضاً وارد عليكم، فإنه - سبحانه - خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهى وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه شياطين الإنس والجن، وعلم لا محالة أنه يقع في الفجور والضلال، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى. فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازمٌ عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية والله أعلم.
روى الثعلبي بإسناده عن أُبيّ بن كعب: قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي».
161
سورة المؤمنون
162
الرابع : قوله :﴿ وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ يجوز أن يكون «حَقَّ جِهَادِهِ » منصوباً على المصدر، وهو واضح. وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي جهاداً حق جهاده١. وفيه نظر من حيث إن هذا معرفة فكيف يجعل صفة لنكرة.
قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة، وكان القياس : حقّ الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال ﴿ وَجَاهِدُوا فِي الله ﴾. قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول من أجله ولوجهه صحت إضافته إليه، ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله :
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِرا٢ ***. . .
يعني بالظرف الجار والمجرور كأنه كان الأصل : حق٣ جهاد فيه. فحذف حرف الجر وأضيف المصدر للضمير، وهو من باب هو حقّ عالم وجد، أي : عالم حقاً وعالم جداً ٤.

فصل


المعنى٥ : جاهدوا في سبيل الله «أعداء اللَّه حَقَّ جِهَادِهِ » هو استفراغ الطاقة فيه. قاله ابن عباس، وعنه قال : لا تخافون لومة لائم. وقال الضحاك ومقاتل : اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته. وقال مقاتل بن سليمان٦ : نسخها قوله :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾٧ ٨ [ التغابن : ١٦ ] وهذا بعيد لأن التكليف شرطه القدرة لقوله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾٩ [ البقرة : ٢٨٦ ] ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ١٠ [ البقرة : ٧٨ ] و ﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾١١ [ البقرة : ١٨٥ ]. فكيف يقول :﴿ وَجَاهِدُوا فِي الله ﴾ على وجه لا يقدرون عليه١٢ ؟ وقال أكثر المفسرين : حق الجهاد أن يكون بنية صادقة١٣. وقيل : يفعله عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم والغنيمة١٤. وقيل : يجاهدوا١٥ آخراً كما جاهدوا أولاً، فقد كان جهادهم في الأول أقوى، وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف١٦ : أما علمت أنا كنا نقرأ «وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله » ؟ قال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء، وبنو المغيرة الوزراء. واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن، وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية.
وروي عن ابن عباس أنه قرأ :«وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جَهَادِهِ كما جاهدتم أول مرة » فقال عمر - رضي الله عنه - : من الذي أمرنا بجهاده ؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال : صدقت. وقيل : معنى الآية : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله، وإقامة حقوقه بالحرب واليد واللسان، وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل وقال ابن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى، وهو الجهاد الأكبر [ وهو حق الجهاد وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة تبوك قال :«رجعنا من الجهاد والأصغر إلى الجهاد الأكبر »١٧ ]١٨ وأراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار، وبالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس. وأما بيان١٩ ما يوجب قبول هذه الأوامر، فهو ثلاثة :
الأول : قوله :«هُوَ اجْتَبَاكُمْ » اختاركم لدينه، وهذه من أعظم التشريفات، فأي رتبة أعلى من هذه، وأي سعادة فوق هذا. ثم قال :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾ وهو كالجواب عن سؤال، وهو أن التكليف وإن كان تشريفاً لكنه شاق على النفس ؟ أجاب بعضهم بقوله :﴿ مَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾، [ روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه قال : كيف قال الله ﴿ ما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ٢٠ ] مع أنه منعنا عن الزنا ؟ فقال ابن عباس : بلى، ولكن الإصر٢١ الذي كان على بني إسرائيل وضع عنّا٢٢.
وهذا قول الكلبي، قال المفسرون : معناه لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منها مخرجاً بعضها بالتوبة، وبعضها برد المظالم والقصاص، وبعضها بالكفارات وليس في دين الله ذنب إلا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العذاب منه٢٣. وقال ابن عباس٢٤ ومقاتل : هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل٢٥ جالساً، ومن لم يستطع ذلك فَلْيُوم، وإباحة الفطر في السفر للصائم، والقصر فيه والتيمم وأكل الميتة عند الضرورة٢٦.

فصل


استدلت المعتزلة بهذه الآية على المنع من تكليف ما لا يطاق، وقالوا : لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي، ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج، وذلك منفي بصريح هذا النص.
والجواب أنه لما أمره بترك الكفر، وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلاً، فقد أمر المكلف بقلب علم الله جهلاً، وذلك من أعظم الحرج، ولما استوى العدمان زال السؤال٢٧.
الموجب الثاني : قوله :«مِلَّةَ أَبِيكُمْ » فيه أوجه :
أحدها : أنها منصوبة باتبعوا مضمراً. قاله الحوفي وتبعه أبو البقاء٢٨.
الثاني : أنها منصوبة على الاختصاص، أي٢٩ : أعني بالدين ملة أبيكم ٣٠.
الثالث٣١ : أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه٣٢ مقامه. قاله الزمخشري٣٣. وهذا أظهرها ٣٤.
الرابع : أنها٣٥ منصوبة٣٦ بجعلها مقدراً. قاله ابن عطية٣٧.
الخامس : أنها منصوبة على حذف كاف الجر، أي : كملة أبيكم. قاله الفراء٣٨، وقال أبو البقاء قريباً منه، فإنه قال : وقيل تقديره : مثل ملة، لأن المعنى سهل عليكم الدين مثل ملة أبيكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه٣٩.
وقوله :«إبراهيم » بدل أو بيان أو منصوب بأعني.

فصل


والمقصود من ذكر «إِبْرَاهِيم » التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم والعرب كانوا محبين لإبراهيم - عليه السلام٤٠ - لأنهم من أولاده، فكان ذكره كالسبب لانقيادهم لقبول٤١ هذا الدين ٤٢. فإن قيل : ليس كل المسلمين يرجع نسبه إلى إبراهيم. فالجواب : أن هذا خطاب مع العرب، وهم كانوا من نسل إبراهيم. وقيل : خاطب به جميع المسلمين، وإبراهيم أب لهم على معنى وجوب إكرامه٤٣ وحفظ حقه كما يجب احترام الأب، فهو كقوله تعالى :«وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ »٤٤، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما أنا لكم مثل الوالد »٤٥. فإن قيل : هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص، ويؤكده قوله :﴿ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾٤٦ [ النحل : ١٢٣ ].
فالجواب : إنما وقع هذا الكلام مع عبدة الأوثان، فكأنه قال : عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم، وأما تفاصيل الشرائع فلا تعلّق لها بهذا الموضع٤٧.
قوله :«هُو سَمَّاكُمْ » في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه يعود على «إبْرَاهِيمَ »، لأنه أقرب مذكور٤٨ إلا أن ابن عطية قال : وفي هذه اللفظة يعني قوله :«وَفِي هَذَا » ضعف قول من قال : الضمير ل «إبراهيم » ولا يتوجه إلا بتقدير محذوف من الكلام مستأنف٤٩. انتهى.
ومعنى ضعف من قال بذلك أن قوله :«وَفِي هَذَا » عطف على «مِنْ قَبْلُ » و «هَذَا » إشارة إلى القرآن، فيلزم أن «إبْرَاهِيمَ » سمّاهم المسلمين في القرآن، وهو غير واضح ؛ لأن القرآن المشار إليه إنما أنزل بعد إبراهيم بمدد طوال، فلذلك٥٠ ضعف قوله.
وقوله : إلا بتقدير محذوف الذي ينبغي أن يقدر : وسميتهم في هذا القرآن المسلمين وقال أبو البقاء : قيل : الضمير ل «إبْرَاهِيمَ » فعلى هذا الوجه يكون قوله «وَفِي هَذَا » أي : وفي هذا القرآن٥١ سبب تسميتهم وهو قول إبراهيم :﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾٥٢ [ البقرة : ١٢٨ ]، فاستجاب الله له، وجعلها أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني : أن الضمير يعود على الله تعالى٥٣، ويدلّ له قراءة أُبيّ «اللَّهُ سَمَّاكُمْ }٥٤ بصريح الجلالة، أي سماكم في الكتب السالفة وفي هذا القرآن الكريم أيضاً. وهو مرويّ عن ابن عباس ويؤيده قوله :﴿ لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس ﴾. فبيّن أنه سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله ٥٥.
فقوله :«لِيَكُونَ الرَّسُولُ » متعلق ب «سَمَّاكُمْ »٥٦ فبيّن فضلكم على سائر الأمم، وسماكم بهذا الاسم لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو الموجب الثالث لقبول التكليف، وتقدم الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيداً علينا وكيف تكون أمته شهداء على الناس في سورة البقرة٥٧. وأما ما يجري مجرى المؤكد لما مضى فهو قوله :﴿ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ﴾ فهي المفروضات، لأنها المعهودة. واعتصموا بحبل الله أي بدلائله العقلية والسمعية.
قال ابن عباس : سلوا الله العِصمة عن كل المحرمات٥٨. وقيل : ثقوا بالله وتوكلوا عليه٥٩. وقال الحسن : تمسكوا بدين الله٦٠ «هُوَ مَوْلاَكُمْ » سيدكم والمتصرف فيكم وناصركم وحافظكم. ﴿ فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير ﴾ فكأنه تعالى قال : أنا مولاكم بل أنا ناصركم. وحسن حذف٦١ المخصوص بالمدح وقوع الثاني رأس آية وفاصلة.

فصل


احتجت المعتزلة بهذه الآية من وجوه٦٢ :
أحدها : أن قوله :«لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ » يدلّ على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل ؛ لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلاً مرضياً، فإذا أراد أن يكونوا شهداء على الناس فقد أراد أن يكونوا جميعاً صالحين عدولاً، وقد علمنا أن منهم فسّاقاً٦٣، فدل ذلك على أن الله - تعالى - أراد من الفاسق كونه عدلاً.
وثانيها : قوله :«وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ » وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه.
وثالثها : قوله :«فَنِعْمَ المَوْلَى » فإنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شر المولى أحد إلا وهو شرٌّ منه، فكان يجب أن يوصف بأنه بئْس المولى. وذلك باطل فدل على أنه - سبحانه - ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة ؟ قلنا : إنه - تعالى - مولى الكافرين والمؤمنين جميعاً، فيجب أن يقال : نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين، فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله - تعالى - تعالى الله عند ذلك.
ورابعها : أن قوله :﴿ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ ﴾ يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله - تعالى٦٤ - لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص.
والجواب عن الأول : وهو قولهم إن كونه - تعالى - مريداً لكونه شاهداً يستلزم كونه مريداً لكون عدلاً. فنقول : إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر يوجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله، ويلزم كونه - تعالى - مريداً لجهل نفسه، وإن لم يكن ذلك واجباً فقد سقط الكلام.
وأما قوله :«واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ » فيقال : هذا أيضاً وارد ع
١ التبيان ٢/٩٤٩..
٢ الكشاف ٣/٤١. صدر بيت من بحر الطويل لرجل من بني عامر، وعجزه: قليل سوى الطعن النهال نوافله ***....
٣ في ب: نحو. وهو تحريف..
٤ انظر البحر المحيط ٦/٣٩١..
٥ من هنا نقله ابن عادل عن البغوي ٥/٦١٥..
٦ هو مقاتل بن سليمان الأزدي، أبو الحسن الخراساني، المفسر، أخذ عن الضحاك، ومجاهد، وأخذ عنه ابن عيينة، وعلي بن الجعد مات سنة ١٥٠ هـ. تهذيب التهذيب ١٠/٢٧٩ – ٢٨٥..
٧ [التغابن: ١٦]..
٨ آخر ما نقله هنا عن البغوي ٥/٦١٥..
٩ [البقرة: ٢٨٦]..
١٠ [٧٨ من السورة نفسها]..
١١ [البقرة: ١٨٥]..
١٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٣..
١٣ انظر البغوي ٥/٦١٥..
١٤ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٣..
١٥ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٧٣..
١٦ هو عبد الرحمان بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة، أبو محمد المدني، شهد بدرا، والمشاهد، وهو أحد العشرة، وهاجر الهجرتين، وأحد الستة، أخذ عنه إبراهيم، وحميد، وأبو سلمة، وغيرهم، ومات سنة ٣٢ هـ. تهذيب التهذيب ٦/ ٢٤٤ – ٢٤٦..
١٧ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٧٣..
١٨ ما بين القوسين سقط من ب..
١٩ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٧٤..
٢٠ ما بين القوسين سقط من ب..
٢١ في الأصل: الأصل. وهو تحريف..
٢٢ آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣/٧٤..
٢٣ انظر البغوي ٥/٦١٥..
٢٤ ابن عباس: سقط من ب..
٢٥ في ب: فليصلي وهو تحريف..
٢٦ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٤..
٢٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٤..
٢٨ التبيان ٢/٩٤٩. وانظر البيان ٢/١٧٩..
٢٩ أي: سقط من ب..
٣٠ انظر الكشاف ٣/٤١، البحر المحيط ٦/٣٩١..
٣١ في ب: الثالث: أنها منصوبة بالاختصاص أعني بالدين ملة أبيكم. الرابع..
٣٢ إليه: سقط من ب..
٣٣ الكشاف ٣/٤١..
٣٤ في ب: أظهرهما. وهو تحريف..
٣٥ في الأصل: أنه..
٣٦ في النسختين: منصوب..
٣٧ تفسير ابن عطية ١٠/٣٢٦. والبيان ٢/١٧٩..
٣٨ معاني القرآن ٢/٢٣١..
٣٩ التبيان ٢/٩٤٩. وانظر البيان ٢/١٧٩..
٤٠ في ب: عليه الصلاة والسلام..
٤١ في ب: بقبول..
٤٢ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٤..
٤٣ في ب: الكرامة..
٤٤ [الأحزاب: ٦]..
٤٥ أخرجه أبو داود (طهارة) ١/١٨، ابن ماجه (طهارة) ١/١١٤، أحمد ٢/٢٤٧، ٢٥٠، وانظر البغوي ٥/٦١٦..
٤٦ من قوله تعالى: ﴿ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين﴾ [النحل: ١٢٣]..
٤٧ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٥..
٤٨ انظر الكشاف ٣/٤١، التبيان ٢/٩٤٩، البحر المحيط ٦/٣٩١..
٤٩ تفسير ابن عطية: ١٠/٣٢٧..
٥٠ في ب: فكذلك. وهو تحريف..
٥١ التبيان ٢/٩٤٩..
٥٢ [البقرة: ١٢٨]..
٥٣ وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد. الكشاف ٣/٤١، تفسير ابن عطية ٣٢٧١٠، التبيان ٢/٩٤٩، البحر المحيط ٦/٣٩١..
٥٤ المختصر (٩٧)، البحر المحيط ٦/٣٩١..
٥٥ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٥..
٥٦ انظر التبيان ٢/٩٤٩..
٥٧ عند قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ [البقرة: ١٤٣]. انظر اللباب ١/٢٩٢ – ٢٩٣، والفخر الرازي ٢٣/٧٥..
٥٨ انظر الفخر الرازي ٢٣/٧٥..
٥٩ انظر البغوي ٥/٦١٧..
٦٠ المرجع السابق..
٦١ في ب: هذا. وهو تحريف..
٦٢ من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي ٢٣/٧٥ – ٧٦..
٦٣ في النسختين: فاسق. والصواب ما أثبته..
٦٤ تعالى: سقط من ب..
Icon