تفسير سورة ص

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة ص من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ تَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فَلَمَّا كَانَ سَيْرُهَا دَلَالَةً عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ جَعَلَ ذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْهَا لَهُ
قَوْله تَعَالَى وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عمر وبن عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ قَالَ جَزَّأَ دَاوُد الدَّهْرَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَوْمًا لِنِسَائِهِ وَيَوْمًا لِقَضَائِهِ وَيَوْمًا يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ ربه ويوما لبنى إسرائيل يسئلونه وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَلْزَمُهُ الْجُلُوسُ لِلْقَضَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى يَوْمٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْكَوْنُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمِحْرَابُ صَدْرُ الْمَجْلِسِ وَمِنْهُ مِحْرَابُ الْمَسْجِدِ وَقِيلَ إنَّ الْمِحْرَابَ الْغُرْفَةُ وقَوْله تعالى إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَالْخَصْمُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ
وَإِنَّمَا فَزِعَ مِنْهُمْ دَاوُد لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَقَالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ وَمَعْنَاهُ أَرَأَيْت إنْ جَاءَك خَصْمَانِ فَقَالَا بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ هَذَا الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمَا كَانَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَعْضِهِمْ بَغْيٌ عَلَى بَعْضٍ وَالْمَلَائِكَةُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ فَعَلَمِنَا أَنَّهُمَا كَلَّمَاهُ بِالْمَعَارِيضِ الَّتِي تُخْرِجُهُمَا مِنْ الْكَذِبِ مَعَ تَقْرِيبِ الْمَعْنَى بِالْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَاهُ وَقَوْلُهُمَا
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً هُوَ عَلَى مَعْنَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ ضَمِيرِ أَرَأَيْت إنْ كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَأَرَادَ بِالنِّعَاجِ النِّسَاءَ وَقَدْ قِيلَ إنَّ دَاوُد كَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَأَنَّ أُورِيَا بْنَ حَنَانٍ لَمْ تَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ وَقَدْ خَطَبَ امْرَأَةً فَخَطَبَهَا دَاوُد مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ أُورِيَا خَطَبَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَكَانَ فِيهِ شَيْئَانِ مِمَّا سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ التَّنَزُّهُ عَنْهُ أَحَدُهُمَا خِطْبَتُهُ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ وَالثَّانِي إظْهَارُ الْحِرْصِ عَلَى التَّزْوِيجِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ النِّسَاءِ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَكَانَتْ صَغِيرَةً وَفَطِنَ حِينَ خَاطَبَهُ الْمَلَكَانِ بِأَنَّ الْأَوْلَى كَانَ بِهِ أَنْ لَا يَخْطُبَ الْمَرْأَةَ الَّتِي خَطَبَهَا غَيْرُهُ وَقَوْلُهُ وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ يَعْنِي خَطَبْت امْرَأَةً وَاحِدَةً قَدْ كَانَ التَّرَاضِي منا وقع بتزويجها وما روى في أخيار الْقُصَّاصِ مِنْ أَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ فَرَآهَا مُتَجَرِّدَةً فَهَوِيَهَا وَقَدَّمَ زَوْجَهَا لِلْقَتْلِ فَإِنَّهُ وَجْهٌ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يأتون للعاصي مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا مَعَاصٍ إذْ لَا يَدْرُونَ لَعَلَّهَا كَبِيرَةٌ تَقْطَعُهُمْ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ
تعالى ويدل عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَالَ وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْخِطْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ تَقَدَّمَ تَزْوِيجُ الْآخَرِ وقَوْله تَعَالَى فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يُخَاطِبَ الْحَاكِمَ بِمِثْلِهِ
وقَوْله تَعَالَى لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ من غير أن يسئل الْخَصْمَ عَنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ وَالْمَثَلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَنَّ دَاوُد قَدْ كَانَ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَكَمَ بِظُلْمِهِ قبل أن يسئله فَيَقَرُّ عِنْدَهُ أَوْ تَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِهِ وقَوْله تَعَالَى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ وَهُوَ يَعْنِي الشُّرَكَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ فِي أَكْثَرِ الشُّرَكَاءِ الظُّلْمُ وَالْبَغْيُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ قوله تعالى وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْصِيَةَ بَدِيًّا وَأَنَّ كَلَامَ الْمَلَكَيْنِ أُوقَعَ لَهُ الظَّنَّ بِأَنَّهُ قَدْ أَتَى مَعْصِيَةً وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَدَّدَ عَلَيْهِ الْمِحْنَةَ بِهَا لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَشْدِيدُ التَّعَبُّدِ وَالْمِحْنَةِ فَحِينَئِذٍ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ كَانَ مَعْصِيَةً وَاسْتَغْفَرَ مِنْهَا وقَوْله تَعَالَى وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ
رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي ص
وَلَيْسَتْ مِنْ الْعَزَائِمِ
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَجْدَةِ ص سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ سَجَدَ فِي ص وَرَوَى عُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ مِثْلَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ أَخَذْت سَجْدَةَ ص قَالَ فَتَلَا عَلَيَّ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَكَانَ دَاوُد سَجَدَ فِيهَا فَلِذَلِكَ سَجَدَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْجُدُ فِيهَا وَيَقُولُ هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا اقْتِدَاءً بداود لقوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَأَى فِعْلَهَا وَاجِبًا لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ خِلَافُ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ وَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَمَا سَجَدَ فِي غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ مَوَاضِعِ السُّجُودِ وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ أنها ليس بِسَجْدَةٍ لِأَنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مَوَاضِعِ السُّجُودِ إنَّمَا هُوَ حِكَايَاتٌ عَنْ قَوْمٍ مُدِحُوا بِالسُّجُودِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ وَهُوَ مَوْضِعُ السُّجُودِ لِلنَّاسِ بِالِاتِّفَاقِ وقَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً
وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيِ الَّتِي فِيهَا حِكَايَةُ سُجُودِ قَوْمٍ فَكَانَتْ مَوَاضِعُ السُّجُودِ وَقَوْلُهُ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ يَقْتَضِي لُزُومَ فِعْلِهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالظَّاهِرَ أَوْجَبْنَاهُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ فَإِنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا الرُّكُوعَ عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ في تأويل قوله تعالى وَخَرَّ راكِعاً أَنَّ مَعْنَاهُ خَرَّ سَاجِدًا فَعَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنْ السُّجُودِ فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ إذْ صَارَ عِبَارَةً عَنْهُ قَوْله تَعَالَى وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ رَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ الْعِلْمُ بِالْقَضَاءِ وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ الشُّهُودُ وَالْإِيمَانُ وَعَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلْمَيَّ قَالَ فَصْلُ الْخِطَابِ قَالَ الْخُصُومُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ بِالْحَقِّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا خُوصِمَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ إهْمَالُ الْحُكْمِ وَهُوَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الناكل عن اليمين يحبس حتى يقرأ ويحلف لِأَنَّ فِيهِ إهْمَالَ الْحُكْمِ وَتَرْكَ الْفَصْلِ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ زِيَادٍ أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ (أَمَّا بَعْدُ) وَلَيْسَ زِيَادٌ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْأَقَاوِيلِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رُوِيَ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ الدُّعَاءِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ الْخِطَابِ الْمَقْصُودِ بِهِ الْكِتَابُ
قَوْله تَعَالَى يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عبيد القاسم بن سلام قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عن حميد بن سلمة عَنْ الْحَسَنِ قَالَ إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يَخْشَوْهُ وَلَا يَخْشَوْا النَّاسَ وَأَنْ لَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ثُمَّ قَرَأَ يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى الْآيَةَ وَقَرَأَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا- إلى قوله- فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ لَمَّا اُسْتُقْضِيَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَتَاهُ الْحَسَنُ فَبَكَى إيَاسُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ مَا يَبْكِيك يَا أَبَا وَائِلَةَ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الْقُضَاةَ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ مَالَ بِهِ الْهَوَى فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْحَسَنُ إنَّ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ نَبَأِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ إِذْ يحكمان في الحرث إلى قوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً فأثنى على سليمان ولم يذم دواد ثم قال
الْحَسَنُ إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا وَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ بُيِّنَ فِي حَدِيثِ أَبِي بُرَيْدَةَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فَهُوَ فِي النَّارِ وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد السجستاني قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ السمني قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِي النَّارِ فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ
فَأَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي فِي النَّارِ مِنْ الْمُخْطِئِينَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ عَلَى الْقَضَاءِ بِجَهْلٍ
قَوْله تَعَالَى إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ- إلى قوله- بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قال مجاهد صفوان الْفَرَسِ رَفْعُ إحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ وَذَاكَ مِنْ عَادَةِ الْخَيْلِ وَالْجِيَادُ السِّرَاعُ مِنْ الْخَيْلِ يُقَالُ فَرَسٌ جَوَادٌ إذَا جاء بِالرَّكْضِ قَوْله تَعَالَى إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يحتمل وجهين أحد هما إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ الَّذِي يُنَالُ بِهَذَا الْخَيْلِ فَشُغِلْت بِهِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وَهُوَ الصَّلَاةُ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَيَحْتَمِلُ إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ الْخَيْلَ نَفْسَهَا فَسَمَاهَا خَيْرًا لِمَا يُنَالُ بِهَا مِنْ الْخَيْرِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقِتَالِ أَعْدَائِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِي لِرَبِّي وَقِيَامِي بِحَقِّهِ فِي اتِّخَاذِ هَذَا الْخَيْلِ قَوْله تَعَالَى حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ حَتَّى تَوَارَتْ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ كَقَوْلِ لَبِيدٍ:
حتى إذا لقيت يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
وَكَقَوْلِ حَاتِمٍ:
أَمَاوِيُ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الْفَتَى إذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فَأَضْمَرَ النَّفْسَ فِي قَوْلِهِ حَشْرَجَتْ وَقَالَ غَيْرُ ابن مسعود حتى توارت الْخَيْلُ بِالْحِجَابِ وقَوْله تَعَالَى رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَعَلَ يَمْسَحُ أعراف الخيل وعراقيبها حبالها وَهَذَا كَمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعِيدٍ الطالقاني قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ قَالَ حَدَّثَنِي عَقِيلُ بْنُ شَبِيبٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجُشَمِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَبِطُوا الْخَيْلَ وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَعْجَازِهَا أَوْ قَالَ أَكْفَالِهَا وَقَلِّدُوهَا ولا «١٧- احكام مس»
تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ
فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ إنَّمَا مَسَحَ أَعْرَافَهَا وَعَرَاقِيبَهَا عَلَى نَحْوِ مَا نَدَبَ إلَيْهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَشَفَ عَرَاقِيبَهَا وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا وَقَالَ لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي مَرَّةً أُخْرَى
وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَالثَّانِي جَائِزٌ وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ إذْ لَمْ يَكُنْ لِيُتْلِفَهَا بِلَا نَفْعٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ وَتَعَبَّدَ اللَّهَ بِإِتْلَافِهِ وَيَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِي تَنْفِيذِ الْأَمْرِ دُونَ غَيْرِهِ ألا ترى أنه كان جائز أَنْ يُمِيتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِأَكْلِهِ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يُتَعَبَّدَ بِإِتْلَافِهِ وَيُحْظَرَ الِانْتِفَاعُ بِأَكْلِهِ بَعْدَهُ
وقَوْله تَعَالَى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ أَيُّوبَ قَالَ لَهَا إبْلِيسُ إنْ شَفَيْتُهُ تَقُولِينَ لِي أَنْتَ شَفَيْتُهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ أَيُّوبَ فَقَالَ إنْ شَفَانِي اللَّهُ ضَرَبْتُكِ مِائَةَ سَوْطٍ فَأَخَذَ شَمَارِيخَ قَدْرَ مِائَةٍ فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً قَالَ عَطَاءٌ وَهِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فَأَخَذَ عُودًا فِيهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ عُودًا وَالْأَصْلُ تَمَامُ الْمِائَةِ فَضَرَبَ بِهِ امْرَأَتَهُ وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَرَادَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى بَعْضِ الْأَمْرِ فَقَالَ لَهَا قَوْلِي لِزَوْجِك يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَتْ لَهُ قُلْ كَذَا وَكَذَا فَحَلَفَ حِينَئِذٍ أَنْ يَضْرِبَهَا فَضَرَبَهَا تَحِلَّةً لَيَمِينِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ فَجَمَعَهَا كُلَّهَا وَضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً أنه يبر في يمينه إذا أصابه جَمِيعُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وَالضِّغْثُ هُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنْ الْخَشَبِ أَوْ السِّيَاطِ أَوْ الشَّمَارِيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَرَّ في يمينه لقوله وَلا تَحْنَثْ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ إذَا ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ أَنْ يُصِيبَهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ لَا يَبَرُّ وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الْكِتَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ هِيَ لِأَيُّوبَ خَاصَّةً وَقَالَ عَطَاءٌ لِلنَّاسِ عَامَّةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ دَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُسَمَّى ضَارِبًا لِمَا شَرَطَ مِنْ الْعَدَدِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِقَوْلِهِ وَلا تَحْنَثْ وَزَعَمَ بَعْضُ مِنْ يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَالَ فَاضْرِبْ بِهِ وَلا
258
تَحْنَثْ
فَلَمَّا أَسْقَطَ عَنْهُ الْحِنْثَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَأَدَّاهَا أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى شَيْءٍ وَهَذَا حِجَاجٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ لَا يَحْتَجُّ بِمِثْلِهِ مَنْ يَعْقِلُ ذَلِكَ لِتَنَاقُضِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ وَمُخَالِفَتِهِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ وَالْيَمِينُ تَتَضَمَّنْ شَيْئَيْنِ حِنْثًا أَوْ بِرًّا فَإِذَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فَقَدْ أَخْبَرَ بِوُجُودِ الْبِرِّ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ فَتَنَاقُضُهُ وَاسْتِحَالَتُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا يُوجِبُ أَنَّ كُلَّ مَنْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَضِيَّتِهِ لِسُقُوطِ الْحِنْثِ وَلَوْ كَانَ لِأَيُّوبَ خَاصَّةً وَكَانَ عِبَادَةً تعبد بها دون غيره كان الله أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ الْحِنْثَ وَلَا يُلْزِمَهُ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْهَا بِالضِّغْثِ فَلَا مَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ لَضَرْبِهَا بِالضِّغْثِ إذْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ بِرٌّ فِي الْيَمِينِ وَزَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَعَبَّدَ بِمَا شَاءَ فِي الْأَوْقَاتِ وَفِيمَا تَعَبَّدَنَا بِهِ ضَرْبُ الزَّانِي قَالَ وَلَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بِشَمَارِيخَ لَمْ يَكُنْ حَدًّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا ضَرْبُ الزَّانِي بِشَمَارِيخَ فَلَا يَجُوزُ إذَا كَانَ صَحِيحًا سَلِيمًا وَقَدْ يَجُوزُ إذَا كَانَ عَلِيلًا يُخَافُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ كُلَّ ضَرْبَةٍ لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ جَمَعَ أَسْوَاطًا فَضَرَبَهُ بها وأصابه كل أحد منها وأعيد عَلَيْهِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْوَاطِ وَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمَعَةً فَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَأَمَّا فِي الْمَرَضِ فَجَائِزٌ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى شَمَارِيخَ أَوْ دِرَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُ أَيْضًا فَيَضْرِبَهُ بِهِ ضَرْبَةً
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الهمداني قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أصحاب رسول الله ﷺ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ اشْتَكَى رِجْلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى فَعَادَ جِلْدَةً عَلَى عَظْمٍ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَالُ قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وقال استفتوا إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي قَدْ وَقَعْت عَلَى جَارِيَةٍ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا مَا رَأَيْنَا أَحَدًا بِهِ مِنْ الضُّرِّ مِثْلَ الَّذِي هُوَ بِهِ لَوْ حَمَلْنَاهُ إلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ مَا هُوَ إلَّا جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ شَمَارِيخَ مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَرَوَاهُ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ فِيهِ فَخُذُوا عثكالا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَفَعَلُوا
وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عِبَادَةَ وَقَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ هَذَا وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
259
(فَصْلٌ) وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ تَأْدِيبًا لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَيُّوبُ لِيَحْلِفَ عَلَيْهِ وَيَضْرِبَهَا وَلَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِضَرْبِهَا بَعْدَ حَلِفِهِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَبَاحَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ إذَا كَانَتْ نَاشِزًا بِقَوْلِهِ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ- إلى قوله- وَاضْرِبُوهُنَّ وَقَدْ دَلَّتْ قِصَّةُ أَيُّوبَ عَلَى أَنَّ لَهُ ضَرْبَهَا تَأْدِيبًا لِغَيْرِ نُشُوزٍ وقَوْله تَعَالَى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فَمَا رُوِيَ مِنْ الْقِصَّةِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ دَلَالَةِ قِصَّةِ أَيُّوبَ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا لَطَمَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ أَهْلُهَا الْقِصَاصَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْلِفَ وَلَا يَسْتَثْنِيَ لِأَنَّ أَيُّوبَ حَلَفَ وَلَمْ يَسْتَثْنِ وَنَظِيرُهُ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْأَشْعَرِيِّينَ حِينَ اسْتَحْمَلُوهُ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ ثُمَّ حَمَلَهُمْ وَقَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ كَفَّارَةٌ لَتَرَكَ أَيُّوبَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يَضْرِبَهَا بِالضِّغْثِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ مَا هُوَ خَيْرٌ
وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا فَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وَفِيهَا
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يُجَاوَزُ بِهِ الْحَدُّ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَهَا مِائَةً فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهِ إلَّا أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَهِيَ عَلَى الْمُهْلَةِ وَلَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَضْرِبْ امْرَأَتَهُ فِي فَوْرِ صِحَّتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إلَّا أَنْ يضربه بيده لقوله وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا فِيمَنْ لَا يَتَوَلَّى الضَّرْبَ بِيَدِهِ إنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ لَا يَحْنَثُ لِلْعُرْفِ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَرَاخِيًا عَنْهَا لَأُمِرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالضَّرْبِ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَى مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَدَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِضَرْبِهَا بِالضِّغْثِ لِيَخْرُجَ بِهِ مِنْ الْيَمِينِ وَلَا يَصِلَ إلَيْهَا كَثِيرُ ضَرَرٍ آخِرُ سُورَةِ ص.
260
Icon