تفسير سورة ص

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة ص من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ (ص)
قال ابن عطية (١): هو مفتاح أسماء الله تعالى، (ص) صادق الوعد صانع المصنوعات.
ابن عرفة: أسماء الله تعالى توقيفية؛ ولذلك استشكل النَّاس قول أصول الدين بأن الدليل على وحدانية الصانع إلا أنه يريد في القرآن معناه، ورد في القرآن في سورة الأحزاب (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، وفي سورة النمل (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).
قوله تعالى: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)
ذكروا فيه تأويلات.
قال ابن عرفة: ويحتمل عندي والقرآن المذكور على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة، لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فهو المعرف بالذكر الدائم بخلاف غيره من الكتب؛ فإنه لم يبق مذكورا لما وقع فيه من التغيير.
قوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢)﴾
كان بعض الطلبة يورد على هذا قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزةَ فَلِلَّهِ الْعِزةُ جَمِيعًا)، وأجيب: بأن العزة المختصة بالله بمعنى الرفعة والعلو، والعزة المسندة للكافرين هي بمعنى الممانعة [والتعنت*].
قال: والفرق بين العزة والشقاق؛ أن العزة مانعة فقط، والشقاق [ممانعةٌ مع*] ومكابرة ومجاهرة بالسوء، قال: ومن كلامهم [من عزَّ بزَّ*] أي من غلب سلب.
قوله تعالى: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ... (٣)﴾
ابن عرفة: لما تقدم التنبيه على إنعاتهم بالعزة والمكابرة، عقبه ببيان غفلتهم عن فعل مثل فعلهم نزل به العذاب والهلاك.
قوله تعالى: (فَنَادَوْا).
هذا يرد فيه ما أورد ابن عصفور في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا)، لأن النداء سابق على الإهلاك، كما أن مجيء البأس سابق أيضا عليه، والجواب كالجواب: إما أردنا إهلاكهم فنادوا، ويرد عليه ما قال [ابن هشام المصري*]: من أن الإرادة قديمة تقتضي التعقيب؛ فيلزم إما قدم العالم أو حدوث
الإرادة، وإما أن يجاب بأن الإهلاك نزل أولا ببعضهم، وهم رؤساؤهم، فنادى الأتباع (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ)، مستغيثين؛ أي لَا مخلص لهم؛ فلم ينفعهم ذلك، والمناص المخلص والمنجا والفرار.
قوله تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ... (٤)﴾
الضمير عائد على قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا)، لأن المتعجبين ليس هم السابقة؛ بل المعاصرون للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (فَقَالَ الْكَافِرُونَ).
أتى بالفاعل ظاهرا غير مضمر؛ والأصل أن يقول: فقالوا؛ لأن خبر المبتدأ تارة يكون عاما صالحا لكل واحدة، وتارة يكون خاصا لَا يصح إلا لذلك المبتدأ.
قوله تعالى: (وَعَجِبُوا).
العجب يصلح أن يقع من كل أحد فأتى بفاعله مضمرا، وقوله تعالى: (هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، كلام [مختلق*] لَا يصح أن ينسب لإلههم، وقولهم: (كَذَّابٌ)؛ إما أن يريدوا أنه كاذب في سحره، أو أنه عالم بالسحر كذاب في أموره على العموم، قيل له: لعل عندهم ساحر في شيء كذاب في شيء، كما قال تعالى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وعطف العجب هنا [بالواو*]، وفي (ق) بالفاء؛ لأن التعجب بالقول سبب على التعجب بالفعل، كقوله تعالى: (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)، بخلاف السحر والكذب؛ فإنه غير مسبب عن التعجب بالفعل.
قوله تعالى: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ... (٦)﴾
هم الأشراف، الأصوب تعلق (منهم) بالملأ لَا بـ (انطلق) يشعر بأنهم أشراف فقط، وتعلقه بـ[(انطلق) *] يشعر بأنهم أشرافهم؛ وإن كان في غيرهم من هو أشرف منهم.
قلت: جعله عكس ما قاله البصريون في إضافة الصفة المشبهة؛ أنه في معنى الحسن الوجه.
وقال الكوفيون: إنه في معنى الحسن وجهه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)﴾
قال ابن عرفة: إن قلت: ما فائدة تأكيده بـ إنَّ والمخاطب به غير منكر له؟ قلنا: هو مستغفر، والمستغفر عادته أن يتمنى مطلوبه ويستبعد الزيادة على مطلوبه من الإحسان والإنعام، فذلك أكده بـ إنَّ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ... (٢٦)﴾
وقال تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فقدم المجرور على خليفة، فأجيب بوجهين:
الأول: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون: بأن أحد أسباب التقديم الشرف، وكان آدم عليه الصلاة والسلام حينئذ معدوما والأرض موجودة، والوجود أشرف من العدم، وأما هنا فالمخاطب داود عليه الصلاة والسلام وهو موجود، وهو أشرف من الأرض بالضرورة.
الثاني: قال بعض الطلبة: هذه الآية في معرض التشريف لداود عليه الصلاة والسلام تقدم فيها ما يقتضي التشريف وهو الخلافة، وآية البقرة خرجت مخرج الاعتناء بالأرض، فجعل [الخلافة*] الموجبة لإزالة الفساد عنها، وتغيير المناكر.
قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
ابن عرفة: انظر ما أشد هل هذه أو آية العقود في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فقالوا: تلك أشد لأنهم توعدوا على عدم الحكم بالحق، وهذا الوعيد على الحكم بالهوى، فالحكم يتناول من حكم بالباطل، ومن حكم بالحق لمفارقتها غير مقصود، فآية العقود الوعيد فيها على عدم الحكم بالحق أعم من الحكم بالباطل، أو من ترك الحكم من أصل، وهذه الآية الوعيد فيها على الحكم بالهوى؛ أعم من أن يكون بالباطل متبعا للهوى، أو بالحق متبعا.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
ابن عرفة: قد يؤخذ منه جواز تعليل الحكم بعلتين [منتقلتين*]؛ لأن حلول العذاب بهم [يعلل*] باتباعهم الهوى المضل عن سبيل الله، ونسيانهم يوم الحساب سبب في ضلالهم، فالعلتان متداخلتان [في*] علة واحدة.
قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا... (٢٧)﴾
أخذ عنه نفي الجوهر المفارق؛ لأن الملائكة في السماء وهم فيما بينهما؛ فدل على أنهم في حيز.
ورده ابن عرفة: بأن الجوهر المفارق غير متحيز؛ كما أن [العرض*] غير متحيز، وكذلك النفوس البشرية عند الحكماء بعد مفارقتها للأجسام، والمراد: وما خلقنا [السماوات*] والأرض عبثا، ولا لغرض مقصود؛ بل خلقنا ذلك مصاحبا لمنفعة الخلق ومؤخرتهم لا لقصد ذلك.
قوله تعالى: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).
احتج بها الآمدي على العنبري القائل بأن الكافر غير المعاند لا [يخلد*] في النار، بخلاف المعاند فإنهم اتفقوا على أنه مخلد في نار جهنم.
والعجب من البيضاوي كيف لم يذكر غير مذهب باطل؟
ونقل نحوه عياض في الشفاء عن الغزالي، قلنا: قاله الغزالي في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة، وفي كتاب الحقائق.
قال ابن عرفة: وكلامه في كتاب الاعتقاد، كمذهب أهل السنة.
قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ... (٢٨)﴾
عبر عن المؤمنين بالفعل، وعن المفسدين بالاسم؛ إشارة إلى من اتصف بمطلق الإيمان والعمل الصالح؛ مخالف لما اتصف بأبلغ الفساد، فأحرى أن مخالفة من اتصف بأبلغ العمل الصالح هذا في ظرف الإيمان، ويبقى من اتصف بمطلق الفساد في الأرض، فيجاب عنه: بأن المراد من ثبت على فساده؛ لئلا يدخل فيه من أفسد وتاب؛ فإنه من قسم من آمن.
فإن قلت: [لم قدم*] تفاوت المؤمن للمفسد، وهلا عكس، كما قيل (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) لأن أسباب الفساد أكثر من أسباب الصلاح، بدليل ما تقدم في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظلُمَاتِ وَالنورَ)، قالوا: جمع الظلمات وأفرد النور؛ [لكثرة*] تشعب طرق الشرك [واتحاد*] الهدى، ونفي ما يتوهم ثبوته أو قرب ثبوته أولى، فالجواب: أنه بدأ بالمؤمنين اعتناء بهم وتشريفا لهم.
قوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
إن قلت: لم عبر في (الْمُتقِينَ) بالاسم، وعبر في قوله تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، بالفعل؟ قلت: لأن التقوى أمر اعتقادي تجدده خفي غير ظاهر، وهو أقرب للثبوت؛ فاللزوم والعمل الصالح أمر فعلي يتجدد شيئا فشيئا، وتجدده ظاهر يدرك بالحس.
فإِن قلت: هلا قيل: أم نجعل المتقين في الأرض كالفجار؟ قلنا: التقوى أمر علمي معنوي غير [مرئي بالحس*]، والعمل الصالح أمر فعلي محسوس فناسب ذكر محله، ولذلك قالوا: الإنسان له قوتان: علمية وعملية.
قوله تبارك وتعالى (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ... (٢٩)
قال ابن عرفة: النظر مطلوب في الجميع؛ والنتيجة إنما تحصل لأولي الألباب منهم، وظاهر الآية حجة لبعض المبتدعة، في [قولهم*]: إن [**المعلوم تذكرته]. وهو مذهب باطل لما يلزم عليه من قدم العالم، ويحتج بالآية من [**رجح] تنزيل القرآن على سرده، كما قال تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)؛ وتحتج لمن [يرى*] سرده، بقوله (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)؛ [**قوله: جواز العجل فيه بعد استبقاء الملك له (وَحْيُهُ) عن الله تعالى]، وكذلك حديث عائشة في [ركعتي*] الفجر: قالت: كان رسول الله ﷺ يخفف فيهما حتى نقول هل قرأ فيهما [أم لَا*]، وفي بعض [الروايات*]، أن ولد أحمد بن حنبل، قال لأبيه: أنت تسرد القرآن ولا ترتله، فقال: ما سردته حتى فهمت مواعظه وزواجره.
قوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ... (٣٠)﴾
قال ابن عرفة: إن قلت: هلا قيل: ووهبنا سليمان لداود؟ فالجواب: أنه قصد الاعتناء بداود والتشريف له؛ وأيضا إنما أخر سليمان ليعود الضمير عليه، في قوله (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، والضمير إنما يعود على أقرب مذكور.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ... (٣٤)﴾
الفتنة الاختبار، قال الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ)؛ فاقتضت أن الأنبياء والأولياء يفتنون فيفتنون على دينهم، وكذلك سليمان عليه السلام وما يزيدهم ذلك إلا إيمانا وتسليما كسورة الأحزاب؛ وفي آخر سورة براءة.
وما حكاه ابن عطية والزمخشري من قضية؛ [المرأة*] التي طلبت أن تحكم لأختها على خصمه فمن كلام القصاص لَا يليق ذكرها؛ والأنبياء معصومون منه، والأنسب في هذه أن تكون فتنة في [قوله*]: [لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ، يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ*].
قوله تعالى: (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا).
وقال تعالى في سورة يونس لفرعون (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)، ولم يقل: بجسدك، ففرق تقطعهم بأن البدن ينطلقَ على ما كثرت أجزاؤه، ولذلك يقال: فلان بدن، وفي الحديث أن عائشة رضي الله عنها وكرم وجه أبيها قالت: فلَمَّا بَدَّنَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي فلما طعن في السن، وفرعون كان قد بلغ الغاية في السن، وأما الجسد فيصدق على الصغير الناقص الأجزاء، ولذلك قال: لم تحمل من نسائه إلا واحدة ولدت شق ولد.
قوله تعالى: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي... (٣٥)﴾
نقلوا عن الحجاج، أنه قال: لقد كان حسودا.
قال ابن عطية: وهذا من فسقه.
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: بل هذا من جهله؛ فإن الإنسان تارة يطلب من أن يعطيه شيئا يخصه به دون غيره، وتارة يطلب منه شيئا علم منه أنه لَا يعطيه إلا رجلا واحدا؛ فيرغب منه أن يكون هو ذلك الرجل، والأول: طلب الإعطاء والخصوصية، والثاني: طلب الإعطاء فقط؛ فلعل الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه الصلاة والسلام أن هذه الهبة لَا ينالها إلا رجل واحد يكون نوعه منحصرا في شخصيه، فرغب من الله تعالى أن يكون هو ذلك الرجل، فليس في هذا حسد؛ إنما الحسد على طلب الإعطاء والخصوصية؛ لأنه يطلب منه شيئا؛ ويحرم منه غيره.
قوله تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ... (٣٦)﴾
الفاء للسبب، أي لسبب قوله (وَهَبْ لِي مُلْكا)؛ (سَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ).
قال القشيري: ومن الدليل على فضل نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ أن بعض الأولياء من شبه قدرة الله تعالى على أن تحمل الريح؛ فيقطع المسافة الطويلة في الزمن القصير.
قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون سؤالا تقديره؛ أن تأثير الفعل تارة يكون بوقوع أثره في الفاعل، وتارة بوقوع أثره في المنفعل، ويمثلونه بحائط عليه بنيته فحدث فيه اختلاف، فذهاب الخلل منه إما بإعدامه وبنائه، وإما بتخفيف الثقل الذي عليه، فالأول: تأثير في الفاعل وهو [الحامل*] للثقل، والثاني: في المنفعل وهو المحمول.
قال: وتوهم بظاهر الأثر الحاصل في الشيء المفارق، فهلا قيل: فأقدرناه على الريح؛ لأنه يكون تأثيرا في الفاعل راجع إلى ذاته؛ وأما تسخير الريح فهو تأثير في المنفعل بأمر خارق لذات الفاعل؛ وهو سليمان عليه السلام، وكذلك أيضا [عمل الحديد*] في قصة داود، في قوله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، ولم يقل: وأقدرناه على عمل الحديد، قال: والجواب: أن هداه [دعاه إلى الخالق بالتذكير بالنعمة*]، وهو أن الإنسان إذا أنعم عليه بصفة في غيره. فإنه يتوهم في كل وقت [زوالها*]، فهنا لو [وجدها*] باقية شكر الله على دوامها، بخلاف ما إذا كانت صفة له ملازمة لبدنه، فإنه قد يثق بها [ويأبى*] الشكر عليها؛ ويقبل عن تذكر زوالها؛ فتذكر زوال النعمة المفارق للبدن أقرب من تذكر زوال النعمة المخالطة للبدن.
قوله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)﴾
قال ابن عرفة: هذا من باب مطرنا السهل والجبل، فالمراد بالبناء: من يعمل منهم العمل المرتفع على الأرض، وبالغواص: من يعمل منهم العمل المنخفض في الأرض من حفر الآبار وغيرها.
قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨)﴾
وليس المعنى سخرنا له آخرين؛ بأن المقرن في الأصفاد غير مسخر للخدمة.
قوله تعالى: ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١)﴾
وقال تعالى في سورة الأنبياء (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فأجيب: أن آية الأنبياء أتت في معرض الامتنان؛ فذكر النعم لأن قبلها (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ)، ثم قال تعالى (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا)، ثم قال تعالى (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ)، وقال تعالى (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ)، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)، وهذه الآية خرجت مخرج ما عنى بالأنبياء لأن قبلها (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ)، ثم قال (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ)، ومنهم من أجاب: بأن (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ) فيما هو الأصل الأهم.
قوله تعالى: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ... (٤٢)﴾
ابن عرفة: يؤخذ منه جواز التداوي للمرض، أو ترجيحه مع الإجماع على عدم وجوبه؛ إلا إذا أدى تركه إلى الإخلال بالفرض؛ فإنه يجب كمن يمنعه المؤمن من الصلاة قائما، فيجب عليه التداوي. وهنا جعل له الماء دواه.
وذكر ابن عطية في سبب نزول الآية: أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره، قال: وروي أنه ذبح شاه وطبخها؛ وله جار جائع فلم يطعمه منها.
قال ابن عرفة: أما الثاني: [فخفيف*] إذ لعله لم يعلم بحاجة جاره، وأما الأول: فشديد لا يحل نقله وإسناده إلى الأنبياء.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان؛ ولا يجوز أن يسلط على أنبيائه؟ قلت: لما كانت وسوسته سببا فيما مسه من المرض نسبه إليه؛ وقد راع الأدب حيث لم [ينسبه*] إلى الله تعالى في دعائه مع أن الله تعالى فاعله.
قيل لابن عرفة: كيف وهو يقول إن العبد يخلق أفعاله، فقال: لعله ممن يقول بالاعتزال؛ ولا يقول بالتولد، وتخرج من كلام الزمخشري أنه قرئ بِنُصْبٍ، ونَصَبٍ. ابن عرفة: وهو خطأ، ولا يقرأ [**كما أخذوا الذي] ذكر ابن عطية، [وأبو*] حيان من خفض عن عاصم نصب، والقراءة المشهورة عن [الجميع (بِنُصْبٍ) *].
قوله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا... (٤٤)﴾
قال تعالى في طه (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، (قَالَ خُذهَا وَلَا تَخَف)، ولم يقل: خذها بيدك.
قال ابن عرفة: أجيب: بأن هذا من تمام النعمة على أيوب عليه السلام إشعار بأنه ردت له قوته وصحته كما كانت، فلذلك قال تعالى (وَخُذ بِيَدِكَ)؛ لأن أعضاءه كلها كانت معطلة.
قوله تعالى: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥)﴾
إشارة إلى القوة العلمية والعملية.
قوله تعالى: ﴿لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧)﴾
[**في الاصطفاء]؛ فإِن المصطفين متفاوتون في الأخيرية.
قوله تعالى: ﴿وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨)﴾
إنما عطفه بالواو تنبيها على دخول [**من دخول] زمن ذكر قبلهم تفهم في وصف الأخيرية.
قوله تعالى: ﴿هَذَا ذِكرٌ... (٤٩)﴾
كان بعضهم يقول: معناه هنا ذكر على سبيل التشريف لهذا لَا بالتعيين على سبيل العموم؛ وتشريف آخر وثواب تعميم.
قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢)﴾
يؤخذ منه مرجوحية تزويج الشابة للشيخ، أو الشاب للعجوز هذا على تفسير من قال: المراد أنهن أتراب لأزواجهن أسنانهن كأسنانهن.
قوله تعالى: ﴿هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ... (٥٩)﴾
قال أبو حيان: (معكم) ظرف متعلق بـ (مُقْتَحِمٌ)، ولا يصح أن يكون حالا من (هَذَا فَوْجٌ)، فيكون تعديا على مقتحم.
قال [**ابن عرفة: المختصر في هذا: انظر ابن عرفة] امتنع جعله حالا من (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ)، لأنه يكون المعنى: هذا فوج حالة كونه مقتحم، وعلى تلك الحالة غير مقتحم؛ لأنه قد دخل ووقع منه الاقتحام، لأنه لَا يصح أن يقول لزيد وهو معك في الدار: هذا زيد داخل الدار في الزمان والاقتحام في المكان، فتقول الخزنة لرؤساء الكفار عند وردوها هذا الفوج، وقبل دخوله عليهم (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ)، أو [يقوله بعض الطاغين*] لبعض؛ [أى: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبا، أى: أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا: أو رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء.*]
Icon