تفسير سورة الشورى

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات: (١- ١٢) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ١٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)
15
التفسير:
قوله تعالى:
«حم عسق.»
هذه أحرف خمسة بدأت بها السورة الكريمة.. وذلك العدد هو غاية ما بدىء به من حروف مقطعة، على حين قد بدئت بعض السور بحرف واحد مثل «ص» و «ق» و «ن» كما بدئت بعض السور بحرفين مثل: «طه» و «طس» و «يس» و «حم» وبعضها بثلاثة أحرف مثل: «الم» و «الر» و «طسم» وبعضها بأربعة أحرف مثل «المص» و «المر»..
ومما يلفت النظر فى هذا، أن الكلمة العربية قد تبنى على حرف واحد، مثل «ق» فعل أمر من «وقى» أو حرفين مثل «قل» فعل أمر من قال، أو ثلاثة أحرف.. مثل «قرأ وسجد» أو أربعة أحرف مثل «بعثر» وزلزل أو خمسة أحرف مثل «تلعثم»..
وعلى هذا يمكن أن ينظر إلى هذه الحروف المقطّعة على أنها أفعال، أو أسماء، ذات دلالات خاصة، يعرفها النبىّ ويرى فى أضوائها ما لا يراه غيره وقد يشاركه فى هذه الرؤية بعض المؤمنين الراسخين فى العلم منهم..
وفى هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار والمعارف، التي تحويها هذه الأحرف فى كيانها.. فهى أشبه بصناديق مغلقة على كنوز من الأسرار والمعارف، يأخذ منها النبىّ ما شاء، على حين لا تأذن بشىء منها إلا لذوى البصائر من عباد الله الصالحين المقرّبين، ثم تظل مغلقة على أسرارها دون من ليسوا من أهلها..
وعلى هذا الفهم، نستطيع أن نردّ الإشارة فى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. إلى هذه الأحرف، وأن
16
الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه الكريم بهذه الأحرف التي تحمل فى كيانها دلالات يعرف النبىّ تأويلها، بما آتاه الله من علم، شأنه فى هذا شأن الأنبياء من قبله، الذين أوحى الله سبحانه وتعالى إليهم بمثل ما أوحى إليه به من هذه الأحرف، التي هى رموز إلى أمور يعرفون هم تأويلها، ويشاركهم بنسب مختلفة فى المعرفة بعض أتباعهم وحواريهم، من الراسخين فى العلم.
فالمراد- والله أعلم- بما يوحى به الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ هنا، هو بعض ما يوحى إليه، لا كلّه، وهو تلك الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السور، لا كلّ ما أوحى به إليه.
وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ».. إشارة إلى أن هذا الوحى الذي تلقى به النبىّ صلوات الله وسلامه عليه هذه الأحرف، لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه، فيتلقّى منه ما أذن الله بوحيه إليه من آياته وكلماته.
وإنما كان كلاما من ربّه، على تلك الصفة التي أشار إليها سبحانه فى قوله:
«وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً».. أي إلهاما منه سبحانه، حيث يجد الرسول كلمات ربّه قائمة فى صدره، مستولية على كيانه كلّه.. وهذا ما يشير إليه الرسول فى قوله: «إن روح القدس نفخ فى روعى»..
ومن هنا كان لهذه الأحرف هذا المقام الكريم، فى كتاب الله الكريم، فكانت تلك الأحرف على رأس السّور التي نزلت معها..
هذا، وسنزيد الأمر بيانا فى آخر السورة، عند تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ».
17
قوله تعالى:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ».. إشارة إلى ما لقدرة الله سبحانه وتعالى، من سلطان قاهر، يخضع له كل موجود فى هذا الوجود.. فهو- سبحانه- الخالق المالك المدبّر لكل ما فى السموات وما فى الأرض.. وهو «الْعَلِيُّ» الذي يعلو بسلطانه على كل سلطان..
العظيم الذي تذل لعظمته كل عظمة، وكل عظيم..
قوله تعالى:
«تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
أي إنه لجلال الله سبحانه ولعظمته ورهبوته، تكاد السماوات يتفطرن من «فَوْقِهِنَّ» أي يتشققن ويسقطن من علوّهن، فيقع بعضهن على بعض.
فالضمير فى «فَوْقِهِنَّ» يعود إلى السموات.. أي أنها تكاد تسقط من عليائها، هيبة وجلالا لله سبحانه.. وان الانفطار، وهو التشقق، هو من الخشية والجلال لهذا القرآن الموحى به إلى النبي، والذي لا يتأثر به هؤلاء المشركون، أصحاب القلوب القاسية.. وأن التشقق الذي يكاد يفتت السماوات، لا يقع- وحسب- من الجهة المواجهة للأرض، لما نزل عليها من كلام الله، بل يبلغ أقطارها العليا، وينفذ إلى أعلى سماء فيها..
وقوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» أي أن الملائكة وهم من عالم السماء. - عالم النور والطهر-. يسبحون بحمد ربّهم، ويتقربون إليه، ويبتغون مرضاته، بالعبادة والتسبيح: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ»..
«وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ».
18
وقوله تعالى: «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ».. أي أن من عبادة الملائكة وتسبيحهم لله، استغفارهم لمن فى الأرض.. إذ كان أهل الأرض متلبسين بالخطايا والذنوب.. فهم النقطة السوداء فى هذا الوجود النورانى، المشّع ولاء وخضوعا لله رب العالمين..
والمراد بمن فى الأرض هم المؤمنون، كما يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (٥: الشورى) وكما يقول سبحانه: (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (٧: غافر) وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».. أي أنه سبحانه يقبل استغفار الملائكة لمن يستغفرون لهم من المؤمنين، فيغفر الله سبحانه وتعالى لهم، فهو سبحانه «الْغَفُورُ» أي كثير المغفرة «الرَّحِيمُ»، أي واسع الرحمة، تسع رحمته كل شىء.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ»..
هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» - أي أنه سبحانه يغفر للذين تابوا وآمنوا، وأما الذين أشركوا بالله، واتخذوا من دونه أولياء، ولم يدخلوا فى دين الله، ولم يتوبوا إليه- فالله «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» أي ممسك بهم، قائم عليهم، متول حسابهم وجزاءهم.. وليس النبي بمسئول عنهم بعد أن بلغهم رسالة ربه.. «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (٤٠: الرعد).
19
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ.. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ».
فى هذه الآية إشارة إلى أن هناك وحيا من نوع آخر، غير الوحى الأول الذي جاء فى مطلع السورة فى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»..
وقد قلنا- حسب فهمنا- إن الوحى الذي أشار إليه قوله تعالى:
«كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هو وحي من الله بدون وساطة ملك، وأنه المشار إليه فى قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» فهذا الوحى، وحي من الله بدون وساطة.. وقلنا إن هذا الوحى من الله سبحانه، هو واقع على الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم.. أما الوحى بوساطة الملك فقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا».. وهذا يشمل القرآن الكريم كلّه، عدا تلك الحروف المقطعة.. ولهذا وصف بأنه قرآن عربى، أي يقرأ ويفهم عند من يحسن العربية ويفهم لغتها.. ولهذا أيضا اتبع بالعلة التي من أجلها كان وحي هذا القرآن، وهى التبليغ والإنذار: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى» أي أهل مكة «وَمَنْ حَوْلَها» أي ومن حولها من أهل القرى والخيام..
ووصف مكة بأنها أم القرى، إشارة إلى أنها ستكون قبلة المسلمين فى صلاتهم، ومجتمعهم فى حجّهم..
20
وقوله تعالى: «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ».. أي وتنذر الناس بلقاء ربهم «يَوْمَ الْجَمْعِ» أي يوم القيامة، حيث يبعث الله الناس من قبورهم، ويحشرون إلى ربهم، فيجتمعون جميعا، لا يغيب فرد واحد منهم.
وقوله تعالى: «لا رَيْبَ فِيهِ» الجملة حال من يوم الجمع، أي أن هذا اليوم آت لا شك فيه..
وقوله تعالى: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» أي أن هذا الجمع الذي يضم الناس جميعا، سينقسم هناك إلى فريقين: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فلينظر الإنسان إلى نفسه، وإلى أىّ فريق من الفريقين ينتسب.. فإن كان من المؤمنين المصدّقين بالله وبرسوله، وباليوم الآخر- فهو من فريق أهل الجنة، وإن كان من المكذبين الضالين، فهو فى الفريق المدعوّ إلى السعير..
قوله تعالى:
«وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».
أي أن الله سبحانه وتعالى، قد قضى فى عباده أن يكون فريق منهم فى الجنة، وفريق فى السعير، كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٢: التغابن).. هكذا كانت مشيئة الله فى عباده..
ولو شاء الله سبحانه لجعل الناس أمة واحدة، ولأدخلهم يوم القيامة مدخلا واحدا..
وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» أي أنّ من أراد الله سبحانه بهم خيرا، هداهم إلى الإيمان، وأدخلهم فى رحمته،
21
وأنزلهم منازل جناته ورضوانه.. فضلا منه وإحسانا، وكرما.. جعلنا الله منهم..
وقوله تعالى: «وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».. اختلف فيه النظم، فجاء على غير ما يقتضيه ظاهر المقام، الذي يقضى بأن يكون المعادل لقوله تعالى: «وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» - هو: «ويحرم من يشاء منها»..
فما سرّ هذا؟
السرّ- والله أعلم- هو أن الله سبحانه، هو صاحب المشيئة المطلقة التي لا معقب لها، وهو سبحانه بهذه المشيئة يفعل ما يشاء فى خلقه، فيعذّب من يشاء، ويرحم من يشاء.. «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (٣٩: الأنعام)..
تلك هى مشيئة الله المطلقة الغالبة «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (٦٨: القصص)..
ومع هذه المشيئة الغالبة المطلقة لله سبحانه، فقد جعل جلّ شأنه للإنسان- فضلا منه وكرما- مشيئة، تقود فطرته، لتلقى مع مشيئة الله، وتجرى فى محيطها العام المتدفق..
ولكن الإنسان- وبمشيئة الله الغالبة- أفسد فطرته، فجمعت به إرادته عن أن يستقيم على سواء السبيل، فكان بهذا ظالما، جائرا عن قصد السبيل القويم.. فالظالم هو الوصف الذي يرد على كل إنسان عاقل رشيد مريد، إذا هو كان فى موقع انحرف فيه عن طريق الحق الذي قام عليه الوجود كلّه..
22
وهذا الانحراف، هو بمشيئة لله سابقة غالبة، ولكنّ للإنسان كسبا فى هذا الانحراف، ومشيئة متلبسة به..
فالأمر فى ظاهره، هو: أن هذا الظلم والانحراف من كسب الإنسان، وهو فى باطنه بمشيئة غالبة لله، وقدر سابق! ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (٢٣: الأنبياء)..
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
أي أن هؤلاء الظالمين، قد اتخذوا من دون الله أولياء يرجون نصرهم..
ويبتغون العزّة عندهم.. «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده، لا يملك معه أحد نصرا، ولا عزّا.. «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً» (٤٤: الكهف).
وقوله تعالى: «وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى» إشارة إلى البعث، وأنه حقيقة مقررة، وأن إنكار المنكرين لا ينفعهم من لقاء هذا اليوم، ولا يصرفه عنهم، بل إنهم مبعوثون، ومحاسبون حسابا عسيرا.. «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» (٨: هود).
وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تأكيد للبعث، وأن إحياء الموتى واقع فى قدرة الله التي لا يعجزها شىء.
قوله تعالى:
«وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».
23
هو معطوف على قوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».. الذي هو من صفات الله سبحانه وتعالى، الذي يحيى الموتى، وبقدر على كل شىء، وإليه مردّ الحكم فيما اختلفتم فيه.. فهو سبحانه الذي يقضى فى هذا الاختلاف الذي خرجتم به أيها الظالمون عن دعوة الحقّ، وعن طريق الإيمان.
وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».. أي قل لهم أيها النبي: ذلكم المتصف بتلك الصفات، هو ربى الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، الذي عليه توكلت، فجعلت ولائى له، ومعتمدى عليه، والذي إليه أرجع فى كلّ أمورى، وأتوب إليه من كل ذنب.
قوله تعالى:
«فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».
هو من عطف البيان على قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي».. أي ربى الذي عليه توكلت وإليه أنيب، هو «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ»، أي خالقهما، وموجدهما ابتداء، على غير مثال سبق.. ومنه الفطرة، وهى أصل الخلقة.
ويمكن أن يكون هذا وما بعده من قول الرسول الكريم، استكمالا لقوله: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».. ويمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، تعقيبا على إقرار الرسول بوحدانية ربّه، وتوكّله عليه.. أي أن هذا الرّبّ الذي اتّخذه الرسول ربّا له، وتوكّل عليه، وأناب إليه- هو فاطر السماوات والأرض.
وقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً» أي هذا الربّ الذي خلق السموات والأرض، هو الذي خلقكم، وهو الذي «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» أي جعل لكم من جنسكم، ومن طبيعتكم أزواجا
24
لتسكنوا إليها، وتألفوا الحياة معها، كما أنه سبحانه قد جعل لكم من الأنعام أزواجا، ذكرا وأنثى لتتوالد، وتتكاثر، وتنتشر بينكم، وتتسع لحاجتكم منها، ركوبا، وحملا، وطعاما.
وقوله تعالى: «يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ».
الذّرء: إظهار عوالم المخلوقات، التي كانت مكنونة فى علم الله سبحانه وتعالى- ومنه الدّرأة، وهى بياض الشيب، لأنه ظهر بعد خفاء.
ومعنى الآية الكريمة، أن الله سبحانه بهذا التزاوج بين الرجل والمرأة، كثرّ نسل الإنسان، وأظهر به ما قدّر من مخلوقات بشرية، من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات.
والضمير فى «فِيهِ» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى: «أَزْواجاً» أي تزاوجا بين الذكر والأنثى، فى عالم الأحياء، من إنسان وحيوان.. فكأن هذا التزاوج هو الظرف، أو الوعاء الذي تتشكل فيه عوالم الأحياء، أي يكثّركم فى هذا التزاوج..
وقوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».
هو مبالغة فى نفى المثلية عن الله سبحانه وتعالى، وذلك ينفى المثلية عن مثله- تعالى الله سبحانه أن يكون له مثل.. فإذا انتفت المثلية عن المثل، وهذا المثل- أيا كان- لا يساوى من يماثله- فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل- أولى- بمعنى أنه ليس كمثل مثل الله شىء فى هذا الوجود، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل الله ذاته؟ ذلك مستحيل بعد مستحيل..
قوله تعالى:
«لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
25
المقاليد: جمع مقلد، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه القلادة، لأنها تحيط بالعنق.
أي أن الله سبحانه وتعالى، له السلطان القائم على السموات والأرض، وبيده سبحانه تصريفهما، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
الآيات: (١٣- ١٦) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٣ الى ١٦]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
26
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ».
أي ومن نعم الله سبحانه وتعالى، الذي خلقكم وجعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من الأنعام أزواجا- أنه شرع لكم دينا هو دينه الذي ارتضاه، وهو الدين الذي وصّى به نوحا، وهو الذي جاءكم به نبيكم محمّد، وحيا من ربه، وهو ما وصى به الله سبحانه الأنبياء، إبراهيم وموسى، وعيسى، عليهم السلام.
وقوله تعالى: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» هو بيان لما وصى الله سبحانه به أنبياءه عليهم السلام، وهو أن يقيموا الدين، وأن يبلّغوه أقوامهم، وأن يكونوا جميعا على هذا الدين، دين الله الذي ارتضاه لهم جميعا، والّا يتفرقوا فيه، فيكون لكل نبى، ولكل قوم دين.. إن دين الله واحد، هو الإسلام، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (١٩: آل عمران) وكما يقول سبحانه: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (١٥٣: الأنعام).. وكما يقول جل شأنه فيما أخذه من ميثاق على الأنبياء جميعا: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ». (٨١: آل عمران) وكما يقول النبي الكريم: «الأنبياء أبناء علّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد».
وهذه الوصاة للأنبياء، هى وصاة ملزمة لأقوامهم باتباع دين الله هذا، وهو الإسلام الذي كمل به الدّين، والذي أدركوه وبين أيديهم بعض منه..
ومطلوب من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن يؤمنوا بهذا الدين كلّه، وألا يتفرقوا فيه، فيذهب كل فريق ببعض منه، فيكون لكل جماعة دين من دين الله الواحد.
27
وهنا سؤال، وهو: لماذا اختلف النظم فى هذا المقطع من الآية الكريمة، فلم يجر على نسق واحد؟ فقال تعالى: «ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» ثم قال سبحانه:
«وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» ولم يجىء النظم هكذا: «وما وصّيناك به» بل جاء هكذا: «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ»..
فما سر هذا؟
الجواب: - والله أعلم- من وجوه: فأولا أن ما أوحى الله به سبحانه وتعالى إلى النبي من آياته وكلماته، لم يكن مجرّد وصاة.. بل إنه يحمل مع هذه الوصاة المعجزة التي تدلّ على أنه كلام الله، على حين أن ما كان يوحى إلى الأنبياء من وصايا لم يكن كلاما يحمل فى طياته معجزة متحدية.. وهذا هو بعض السر فى كلمة «أَوْحَيْنا» المقابلة لكلمة «وَصَّيْنا».. إذ أن الوحى فيه إشارات، ولطائف، لا تنكشف إلا لذوى البصائر والأفهام، على خلاف الوصاة فإنها تجىء صريحة واضحة الدّلالة، تعطى كلماتها كلّ ما فيها مرة واحدة.
وثانيا: أن هذا الوحى يحتاج إلى عقل بتدبّر هذه الكلمات الموحى بها، وهذا يعنى أن المبلّغ إليهم هذا الوحى، ينبغى أن يتدبروه ويعقلوه، وأن يستخلصوا منه مواقع العبر والعظات، وأن يأخذوا منه الأدلة والبراهين على ما يدعوهم إليه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والتصديق برسوله، وملائكته وكتبه ورسله..
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أن المبلّغين برسالات الرسل السابقين لم يكونوا مطالبين باستخلاص الدليل والبرهان على صدق الرسول، وعلى صدق ما جاءهم به من وصايا، إذ كان مع الرسول آية صدقه التي بين يديه من المعجزة أو المعجزات المادية، التي يمكّن الله سبحانه وتعالى له منها..
28
وثالثا: فى الوحى بالشيء رفق ولطف بالموحى إليه، ومخاطبته بالإشارة دون العبارة.. وهذا يعنى أن الذين يخاطبون بهذا الوحى هم فى درجة من الفطنة والذكاء وكمال العقل، بحيث لا يؤخذون بالزجر والقهر، وإنما يقادون بالحكمة، والمنطق، وهذا ما يتفق والرسالة الإسلامية، التي كمل بها دين الله، والتي من شأنها أن تلتقى بأوفر الناس حظّا من الكمال الإنسانى..
وسؤال آخر..
وهو: لماذا لم يجىء ذكر الأنبياء على نسق فى الترتيب الزمنى، فجاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد نوح، وقبل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟..
ثم لماذا وقد سبق ذكره- صلوات الله وسلامه عليه- إبراهيم وموسى وعيسى-لماذا لم يسبق نوحا أيضا؟
والجواب- والله أعلم- من وجوه كذلك:
فأولا: قدّم النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، على إبراهيم وموسى وعيسى، لأن رسالته هى مجمع رسالات الأنبياء عليهم السلام، وكتابه الذي أنزل عليه هو المهيمن على الكتب السماوية.. إذ قد جمعت الرسالة الإسلامية ما تفرق فى الرسالات السابقة، فكان الإسلام هو الدين كلّه، دين الله الذي كان لكل نبى نصيب منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (١٩: آل عمران) وقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (٣٣: التوبة) وقوله سبحانه: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
29
مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً»
(٦٨: المائدة) وقوله تبارك وتعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (٨٥: آل عمران).
وهذا يعنى أن من آمن بالرسالات السابقة، وأقامها على وجهها، لا بد أن يسلمه ذلك إلى الإيمان بالإسلام، لأنها من الإسلام، مادة وروحا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٤٨: المائدة).
وثانيا: قدم نوح- عليه السّلام- لأنه أول الأنبياء أصحاب الرسالات، وقد كانت له دعوة إلى الله، وكان له قوم يدعوهم إلى الله، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكر القرآن.. وبهذا تعتبر رسالته مفتتح الرسالات إلى دين الله، وهو الإسلام.. فكان تقديمه لازما لهذا الاعتبار..
وثالثا: أن تقديم نوح لم يكن إلا لمجرد الإشارة إلى أن دعوة الإسلام دعوة قديمة قدم الإنسانية، يوم بلغت الإنسانية مبلغ الخطاب والتكليف، ولم يكن لنوح حين جاء الإسلام، قوم أو كتاب، حتى يكون لتقديم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- على دعوة نوح حجة على قومه، وهيمنة على كتابه، على خلاف من هم من أتباع إبراهيم وموسى وعيسى، فقد كانوا بمشهد من عصر النبوة، وبمسمع من دعوة النبي، وهم لهذا مطالبون باتباع هذا النبي والإيمان به، وبكتابه المهيمن على ما فى صحف إبراهيم، وعلى التوراة والإنجيل.. فقد كان اليهود أتباع موسى، وكتابه التوراة، وكان النصارى أتباع عيسى، وكتابه الإنجيل، وكان المشركون على دين
30
إبراهيم، وإن كانوا جميعا قد تنكّبوا الطريق السّوىّ للدين الذي يدينون به..
وقوله تعالى: «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» - هو نحس للمشركين وتبكيت لهم، وازدراء لغرورهم الذي أراهم فى أنفسهم هذا الذي باعد بينهم وبين كتاب الله، ورسول الله، فأنفوا أن يستجيبوا لبشر مثلهم، وأن يتناولوا من يده الدواء الذي يشفى عللهم، ويذهب بأسقامهم..
لقد كبر عليهم هذا، ورأوه مما ينزل بقدرهم وينال من مكانتهم.. وإنه لعجيب غاية العجب، أن يكون هذا موقفهم من كتاب هو المهيمن على الكتب السماوية كلها، ومن رسول هو خاتم الرسل، ورسالته خاتم رسالات السماء، ومن دين هو مجتمع دين الله؟ «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ».. فهذا هو الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لهم. واصطفى لحمله إليهم صفوة أنبيائه، وخاتم رسله.. فكيف يستقبلون هذه المنّة العظيمة بهذا الكبر الأحمق، وهذا الغرور السفيه؟.
وقوله تعالى: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ»..
هو تعقيب على موقف هؤلاء المشركين من دعوة الله سبحانه وتعالى، التي يدعو بها رسوله الناس إلى الله.. إذ ليس كلّ مدعوّ مستجيبا لهذه الدعوة، ولكن الله سبحانه وتعالى يختار من بين المدعوين من يدخلهم فى ضيافتهم، ويأخذ بيدهم إلى رحاب كرمه وإحسانه، فيستجيبون للداعى مسرعين، فى غير تردّد أو إبطاء، وهناك آخرون من بين المترددين والمبطئين سوف يلحقون بهؤلاء السابقين، ويدخلون فى ضيافة الله سبحانه، إذا هم نزعوا أقدامهم من هذا الموقف المتردد الذي هم فيه، وأخذوا طريقهم
31
إلى الله.. إن الله سبحانه- سيهديهم إليه، وبيسر لهم سبل الوصول إلى رحاب فضله وإحسانه.. «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ».. وهكذا تختلف منازل الناس عند الله.. فأناس يجتبيهم ويختارهم، ويحملهم حملا على مطايا الفضل ومراكب الإحسان.. وأناس ينتظر بهم حتى يكون منهم سعى إليه، واتجاه إلى مواقع رحمته.. وعندئذ تلقاهم عناية الله على أول الطريق، فتقودهم إليه، وتنزلهم منازل رضوانه.. وأناس قعدوا حيث هم فأركسوا فى ضلالهم.. إنهم لم يكونوا من أهل الاجتباء، فتخف بهم مراكب اللّجا إلى الله، ولم يكونوا من ذوى القدرة على السباحة والعوم، الذين تمسك أيديهم بحبل الله، فيسلمهم ذلك الحبل إليه.. بل كانوا من غير هؤلاء وأولئك، ممن لم يرد الله لهم النجاة، فكانوا من المغرقين.
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ».
قوله تعالى:
«وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ».
أي أن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- كانوا على حال واحدة من الكفر والضلال، قبل مبعث الرسل إليهم، فلما بعث الله فيهم الرسولين الكريمين- موسى وعيسى- وجاءهم العلم على يديهما، وبيّنا لهم الهدى من الضلال- تفرقوا شيعا، فكانوا يهود ونصارى، وما كان اليهود: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، وكان النصارى: مؤمنين وكافرين ومشركين.. وهكذا تنازع القوم أمرهم، وفرقوا دينهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ.. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (١٥٩: الأنعام).
32
وقوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»..
أي ولولا ما سبق من قضاء الله، فى أن يؤخر حساب هؤلاء المختلفين من أهل الكتاب، إلى أجل مسمّى، موقوت لهم، وهو يوم القيامة- لولا هذا الذي سبق من قضاء الله «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ»، أي لفصل بينهم، وأخذ كل منهم بما يستحق من جزاء فى هذه الدنيا، فنجّى الذين آمنوا، ووقع بأس الله بالقوم الظالمين.
وقوله تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» - الضمير فى «مِنْهُ» يعود إلى «الدِّينِ» فى قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» وهو دين الإسلام، الذي يدعو إليه رسول الله بالكتاب الذي أنزل إليه من ربه..
والذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا الدعوة الإسلامية، فهؤلاء الذين يدينون باليهودية والنصرانية، هم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين أورثوهم- مع هذا الكتاب الذي فى أيديهم- فرقة فيه، واختلافا عليه، وهم لما ورثوا من فرقة وخلاف فى دينهم- فى شك وارتياب من هذا الدين الإسلامى الذي يدعون إليه، إذ كان دينهم الذي هو من هذا الدين، قد تغيرت معالمه، وطمست وجوهه، فلما التقى بدين الله الذي يردّ أصل دينهم إليه- لم يجدوه ملتئما معه، ولا آخذا سبيله، فكان ذلك الشك المريب منهم فى دين الله! قوله تعالى:
«فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ
33
اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».
«الفاء» فى قوله تعالى: «فَلِذلِكَ» - للسببية، والإشارة إلى هذا الخلاف الذي وقع بين أهل الكتاب فى دينهم، والذي أدى بهم إلى الشك والارتياب فى النبي وفيما يدعو إليه من دين الله..
أي فلأجل هذا فلا تلتفت إلى أهل الكتاب، ولا تقف طويلا معهم، إذ كانوا وتلك حالهم من الشك والارتياب.. «فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» أي فقم بدعوتك، واصدع بما تؤمر، مستقيما عليه، غير ناظر إلى ما يجىء إليك من القوم من جدل ومراء.. «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» فإن ما يجادلون به، هو أهواء وضلالات.. «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي قل آمنت بهذا الكتاب، وبما أنزل الله من كتاب سماوى سابق لهذا الكتاب الذي بين يدىّ.
كما يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (٨٤: آل عمران).
وتنكير الكتاب فى قوله تعالى: «مِنْ كِتابٍ» وجرّه بمن الدالة على الاستغراق- للإشارة إلى أن النبي مؤمن بكل كتاب نزل من عند الله.
قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» أي أمرت لأدعوكم إلى دين الله، بالعدل والإحسان، لا أكرهكم عليه، ولا أجادلكم إلا بالتي هى أحسن.
وقوله تعالى: «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» أي أن الرب الذي أدعوكم إليه ليس ربىّ وحدى، حتى يكون لى مصلحة خاصة فى دعوتكم إليه، فهو سبحانه ربكم كما هو ربى.. وفى هذا تعريض باليهود الذين يجعلون الله سبحانه وتعالى ربّا لهم وحدهم، يؤثرهم بما عنده من خير وإحسان، فيسمونه ربّ إسرائيل،
34
ويسمونه رب الجنود، ويجعلونه قائدا لجيشهم فى الحرب، كما تصرح بذلك التوراة التي فى أيديهم، فى أكثر من موضع منها..
وقوله تعالى: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» أي أن ما نعمله من خير أو شر، هو لنا وحدنا، ومجزيّون به، على الخير خيرا والسوء سوءا.. وكذلك ما تعملونه أنتم، هو لكم، تجزون به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.. «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (٣٨: المدثر).
وقوله تعالى: «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» أي لا جدل بينا وبينكم حتى تحاجونا ونحاجّكم.. «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ».
وقوله تعالى: «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يقضى فيما بيننا وبينكم من خلاف، يوم يجمع بيننا جميعا، يوم القيامة، فيقضى بالحق، ويجزى كلّا بما هو أهل له.. «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» والمرجع..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ».
«الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» أي يجادلون فى دينه، وفى كتابه الذي أنزله على رسوله.. «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» أي يجادلون فى دينه من بعد أن استجاب له الناس، وآمنوا به، واطمأنوا إلى دين.. فهذا الجدل وإن كان قد يقبل من غير المؤمنين بالله، فإنه غير مقبول من المؤمنين به، المستجيبين له من أهل الكتاب إذ لا يتفق إيمان بالله، وجدل فيه.
واليهود هم المقصودون بهذا الحديث، وهم الذين وقع عليهم غضب الله فى الدنيا، والعذاب الشديد فى الآخرة.. فهم مؤمنون بالله، ولكن إيمانهم هذا مشوب بالباطل والضلال، بما بدلوا وحرفوا فى دين الله..
35
ولقد كانوا يعرفون صدق النبي، ويعرفون صدق الدين الذي جاء به،.
ولكنهم جحدوا هذا، حسدا وبغيا، فأوردوا أنفسهم موارد الهلاك، وماتوا ظمأ دون أن يردوا الماء الحاضر بين أيديهم.. وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (٨٩- ٩٠ البقرة).
وفى إسناد الفعل: «اسْتُجِيبَ لَهُ» إلى غير فاعله، ولم يسند إلى الفاعل هكذا: «من بعد ما استجابوا» - إشارة إلى أن استجابتهم لم تكن استجابة خالصة من الشك والارتياب، ولهذا لم يسند فعل الاستجابة إليهم.
وقوله تعالى: «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي هذا الجدل الذي يجادل به أهل الكتاب من اليهود، وهذه الحجج التي يوردونها للاحتجاج على الرسول بها- هى حجج داحضة، أي باطلة، توقع الممسك بها فى مزالق الكفر والضلال.. والدّحض من الأرض: الزلق، الذي تزلّ به الأقدام.. وعليهم غضب فى الدنيا، ولهم عذاب شديد فى الآخرة
الآيات: (١٧- ٢٠) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
36
التفسير:
قوله تعالى:
«اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية التي قبلها توعّدت الذين يجادلون فى الله وفى آيات الله، من بعد ما استجابوا له، وآمنوا به- توعدتهم ببطلان حجتهم عند الله، وبحلول غضبه سبحانه عليهم فى الدنيا، وعذابه الشديد لهم فى الآخرة- فكان قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» - كان ذلك بيانا لمضمون ما تقرر فى الآية السابقة، وأن الذين يحاجون فى الله وفى الكتاب الذي أنزله من بعد ما استجيب لله منهم- حجتهم واهية باطلة، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، لأن الله سبحانه هو الذي أنزل هذا الكتاب بالحق، وأقامه فى الأرض ميزان عدل وحق بين الناس.. وبهذا الميزان- ميزان الحق والعدل- ستوزن أعمال الناس يوم القيامة «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» (٦- ٩: القارعة).
وقوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» استفهام يراد به التقرير، والإنذار بقرب الساعة، وأن المؤمنين بها، على رجاء اللقاء بيومها..
37
قوله تعالى:
«يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ».
أي أن الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله، يستعجلون الساعة، استعجال التكذيب والتحدّى، ويقولون: «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» ؟
أي متى هذا اليوم؟.
وفى تعدية الفعل «يَسْتَعْجِلُ» بحرف الجر «الباء» وهو فعل متعد بنفسه، إذ يقال مثلا: يستعجل الذين لا يؤمنون بالآخرة الآخرة- والله يقول: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (١- النحل) - إشارة إلى تضمين الفعل معنى المطالبة بها للتعجيز.. أي يطالب بالآخرة، ويستعجلون يومها، أولئك الذين لا يؤمنون بها..
واستعجال الذين لا يؤمنون بالآخرة ليوم القيامة، لأنهم يستعبدون وقوعه، كما أنهم لا يدرون ما يأتيهم منه من أهوال إذا وقع.. «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» (١٣- ١٤: الذاريات)..
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» - هو بيان لموقف المؤمنين من يوم القيامة، وهو موقف الخائف المشفق، لأنه يوم الحساب والجزاء، ويوم الأهوال والشدائد: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»
(٢: الحج).
وفى النظم القرآنى ما يبدو فى ظاهره، أنه جاء على غير الترتيب الذي
38
يقع فى نفس المؤمن، من مشاهد القيامة.. فالظاهر أن يؤمن المؤمن أولا بأن الساعة حق، ثم تكون خشيته، ويكون إشفاقه من لقائها.. ولكن النظم القرآنى قدم الخشية للقيامة، والإشفاق منها، على العلم بها وبأنها حق.. هذا ما يبدو فى ظاهر الأمر..
والذي ينظر فى النظم القرآنى، يرى أن الإشفاق قد تقدمه الإيمان، فالذين يشفقون من الساعة هم الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر.. كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها».. إذ لا يكون المؤمن مؤمنا بالله إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر.. أما العلم فهو مادة من المعرفة التي يؤيدها الدليل، ويدعمها البرهان، حيث يجىء إلى الإيمان الغيبى، فيؤكده، ويثبت دعائمه فى القلب..
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» - هو حكم على الذين يشكّون فى الساعة، ويكذبون بها، ويمارون ويجادلون فيها- حكم عليهم بالضلال البعيد عن الحق: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟» (٣٢: يونس) وماذا بعد الضلال إلا البلاء وسوء المصير؟.
قوله تعالى:
«اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» يشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من لطف بعباده، ورحمة بهم، إذ بعث فيهم رسوله، وأنزل إليهم كتابه هدّى ورحمة..
39
وقوله تعالى: «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» - إشارة إلى أن هذا الرزق الذي يسوقه الله سبحانه من لطفه ورحمته، هو رزق الإيمان، والهدى، ففى هذا الرزق تزكية النفوس وطهارتها بالإيمان وتقبلها للهدى، واتصالها بالملأ الأعلى، واستعدادها لدخول هذا الملأ، فى جنات النعيم..
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» - إشارة إلى أنه سبحانه هو صاحب السلطان، المتصرف فى ملكه كما يشاء، لا ينازعه أحد فيما يسوق من لطفه ورحمته إلى من يشاء من عباده.
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ».
أي هذا رزق الله- من هدى ونور- ممدود مبسوط.. فمن كان يريد الهدى والإيمان، ويعمل للآخرة، ويغرس فى مغارس الإحسان، يزد له الله سبحانه وتعالى فيما غرس، ويبارك عليه، ويضاعف له الجزاء أضعافا مضاعفة..
ومن أعرض عن الآخرة، وعمل للدنيا، وغرس فى مغارسها، أخذ ثمر ما غرس فى دنياه، واستوفى نصيبه منه، حتى إذا جاء إلى الآخرة، جاءها ولا نصيب له فى خيرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ، لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» ! (١٨- الإسراء)
الآيات: (٢١- ٢٦) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)
40
التفسير:
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
هو إضراب على موقف المشركين من قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى».
ففى هذا دعوة للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه الله لهم، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة، فقد أضرب الله سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم، ثم كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة
41
لهذه الدعوة، وهى أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم، وسادتهم، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم، ونضيح ضلالانهم، لم يأذن بها الله، ولم يرسل بها رسولا من عنده..
وفى إطلاق الشركاء على زعماء الباطل، ودعاة الضلال، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة، ويسبحون فى ضلالها، مع أتباعهم.. فهم جميعا- أتباعا ومتبوعين- على سواء فى هذا الضلال..
وقوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» - كلمة الفصل، هى الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» (١٧: النبأ) ولولا هذه الكلمة لقضى بينهم فى الدنيا، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم..
وقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي، فإنه ينتظرهم عذاب أليم فى الآخرة..
قوله تعالى:
«تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» هو انتقال بهؤلاء المشركين الظالمين من موقفهم فى هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، حيث يرون العذاب، فيقع فى نفوسهم أنهم صائرون إليه، وأن ما أنذروا به فى الدنيا قد وقع.. فقد كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يؤمنون بالعذاب..
وها هو ذا يوم البعث.. ومن ورائه العذاب المرصود لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (٥٣: الكهف)
42
وقوله تعالى: «وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ» الضمير للعذاب الذي جاء ذكره فى الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»... وفى عدم ذكره، والإشارة إليه بضميره- إشارة إلى أنه شىء مهول، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه، أما ما غاب عن أعينهم منه، فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه، وهو مما لا يحدّه وصف، من هول وبلاء..
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ».. هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات فى هذا اليوم، من نعيم فى روضات الجنّات، التي عرضها السموات والأرض «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» من عطائه الممدود، بلا حساب.
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» - الإشارة هنا، إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم، وما يتلقون من فضله وإحسانه.. فذلك هو الفضل الكبير حقا، الذي يعدل القليل منه كلّ ما فى الدنيا من مال ومتاع.. والله ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى:
«ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» الإشارة بذلك، بدل من الإشارة فى قوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» أي ذلك الفضل الكبير، هو ذلك الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من آيات ربّه، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ الله لهم من نعيم فى الآخرة، وحيث يرون بأعينهم مقامهم فى الدار الآخرة، ويبشرهم به يوم البعث، حيث
43
يقومون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١٢: الحديد) قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى».
أي أن هذا الخير الكثير الذي يحمله النبىّ إلى المؤمنين، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم، من فضل وإحسان يلقونه فى الآخرة «فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» - هذا كله لا يطلب النبي منهم عليه أجرا، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم، وما ينبغى أن يكون بينه- صلوات الله وسلامه عليه- وبينهم من رحمة ومودة،. وها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة فى الدنيا، ونعيما ورضوانا فى الآخرة..
ثم هاهم أولاء يلقونه- صلوات الله وسلامه عليه- بالقطيعة، ويرمونه بالعداوة، غير مراعين للقرابة حقّا، أو حافظين لها عهدا، أو مبقين على شىء من الإنصاف معه.. فلو أنهم أنصفوا القرابة، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه، من قطيعة النبي، والكيد له، والتربص به.. لأنه صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن قاطعا لهم، أو متوجها بكيد إليهم، أو متربصا بسوء بهم، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة بالخير والمعروف، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف..
وكان من شريعة الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه مع من يستجيبون لدعوته، ويطعمون
44
من مائدته، لا أن يزعجوه ويزعجوا ضيف الله الذين دعاهم إليه!.
هذا وجه من وجوه تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة..
ووجه آخر.. وهو أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من رحمة الله، وفضله وإحسانه، وإنما ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه- هو مودة فى سبيل القربى، إذ آثرهم على غيرهم، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور الذي معه.. فهو منهم، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه..
وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (١٢٨: التوبة)..
وقد بدأ النبىّ رسالته، وما تحمل من هدى وخير، بدعوة قومه إليها، فكانوا أول من استفتح بهم النبي الكريم دعوته، كما أمره الله سبحانه بذلك فى قوله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (٢١٤: الشعراء).
هذا، ومن بعض التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة فى القربى، هى مودة آل البيت رضى الله عنهم، وهى الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من المؤمنين.. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لى، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي. فهو الأجر الذي أسألكم إياه، على ما أقدم إليكم من خير، وما أحمل لكم من هدى..
وهذا التأويل بعيد.. وذلك من وجوه:
فأولا: أن مودة المؤمنين بعضهم لبعض، هى من دين المؤمنين، فالمؤمنون
45
كما يقول الله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ».. وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغى أن يكونوا متوادين.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم، أقربهم إلى رسول الله.. فآل بيت رسول الله داخلون فى هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين، من باب أولى.. «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» ! فحبّ آل بيت رسول الله ومودتهم، من إيمان كل مؤمن، فلا يحتاج هذا إلى ذكر خاص..
وثانيا: الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ينبغى أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذى قربى منه..
وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا فى هذا المعنى المحدود، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما فى هذه الدنيا من مال ومتاع.
فالأجر الذي يطلبه النبىّ إنما يطلبه من الله، كما يقول سبحانه على لسان أنبيائه.
«وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ».
(١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤ ١٨٠: الشعراء) وثالثا: هذه الآية مكية، وكان من آل بيت رسول الله كثيرون ممن لم يدخلوا فى الإسلام، كعميه أبى طالب، والعباس، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى، بالغا، ويكيد له كيدا عظيما، كأبى لهب، فلم يكن من المقبول- والأمر هكذا- أن تجىء دعوة السماء بمودة آل البيت الذين لم تتضح معالمهم فى الإسلام بعد.. وأولى من هذا أن تكون الدعوة بالمودة عامة، بين النبي وقومه جميعا، وخاصة المشركين منهم، ويكون معناها الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبىّ، وكيدهم له، وتركه وشأنه، مراعاة لتلك القرابة التي بينه وبينهم.. إذ لم يكن منه مساءة لهم، بل كان ودودا لهم، رحيما بهم، يريد لهم الخير، ويؤثرهم به..
ورابعا: أن الخطاب عام موجه إلى المشركين بصفة خاصة، الذين
46
يحاجهم القرآن، ويتهددهم بالنار، ويعرض لهم فى مقابلها الجنة، وما يلقى المؤمنون فيها.. «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى»
..
أي لا أسالكم أجرا على هذا الخير الذي تنالونه من هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والتي إن استجبتم لها بلغتم منازل الرضوان، ونزلتم حيث ينزل عباد الله المكرمون فى جنات النعيم.. وذلك كله فى غير مقابل منّى، إلا أن ترعوا ما بينى وبينكم من قرابة، هى التي جعلتنى أبدأ بكم، وأوثركم على غيركم، وهذا من شأنه أن يحملكم على رعاية هذه القرابة، فلا تكونوا أنتم أول كافر بي، ثم لا تكونوا أنتم أول من يسعى بالضر والأذى إلىّ..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً»..
هو دعوة إلى المشركين الذين يقفون هذا الموقف العدائى من النبي، أن يأخذوا جانب الخير الذي يدعوهم إليه، وأن يتقبلوا منه هذه المودة التي يؤثرهم بها.. فمن استجاب منهم لهذه الدعوة، وآثر الإحسان على السوء، والإيمان على الكفر، فإنه سيلقى جزاء إحسانه إحسانا مضاعفا من الله..
وفى قوله تعالى: «يَقْتَرِفْ» وفى استعمال هذا الفعل فى مقام الإحسان، على أنه يستعمل غالبا فى مجال الشرّ والمساءة «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» (١١٣: الأنعام) فى هذا إشارة إلى أن اليد
47
التي تعمل السوء، تستطيع أن تفعل الإحسان، وأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر، هو نفسه يمكن أن يسلك طريق الخير.. وإذن فإنه لا حجاز بين المشركين وبين الإيمان، وأنهم إذا كانوا يلبسون رداء الشرك الآن، فإنهم قادرون على أن ينزعوا هذا الثوب، وأن يتزبّوا بزىّ الإيمان.. فى لحظة واحدة.
وهذا ما يشير إليه التعقيب على هذا بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» فهذه مغفرة الله الواسعة، مبسوطة لمن يجيئون إليه، تائبين من ضلالهم، متبرئين من شركهم، حيث تشملهم الرحمة والمغفرة.. وحيث يشكر الله لهم ما صنعوا بأنفسهم من إحسان.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» وإنه ليس أخسر صفقة، ولا أضلّ سبيلا، ممن يرى- وهو المذنب الغارق فى الذنوب- يد المغفرة مبسوطة له، ويد الإحسان ممدودة إليه، ثم يحمد حيث هو، متلطخا بآثامه، غارقا فى ضلاله.
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».
هو إضراب على موقف المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول- إلى المحاسنة والمودة، إن لم يكن لأنه رسول الله، فلأنه منهم، وهم قومه، وأولى الناس به- ولكنهم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب، بعد أن رفضوا الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء، هدى ونورا.
فهاهم أولاء ماضون فى كيدهم للنبىّ، وعدوانهم عليه، واتهامهم له بالكذب: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً».. فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة فى القربى.
48
إنه اتهام صريح للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه، بدعوة الله..
وقوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ».. هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى، ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير.. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد ختم عليه فى قلبه- صلوات الله وسلامه عليه- فاحتواه كله، وغربت شمسه فيه، فلم يخرج منه شىء لهؤلاء المشركين، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» (٨٦- ٨٧: الإسراء).. والله سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد فى هؤلاء المشركين ويقطع دابرهم، فلا ترى منهم أحدا، فبكلمة من كلمات الله، يمحو سبحانه هذا الباطل، ويقضى على أهله، ويحقّ الحق، ويثبت دعائمه.
وقوله تعالى: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه فى هؤلاء المشركين، فإنما يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور، فيهلك الضالين الظالمين، وينجّى المؤمنين المتقين.
والمشيئة هنا فى قوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» مشيئة غير واقعة، لأنها معلقة بشرط غير واقع.. فالله سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» وقوله سبحانه: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» (١١٢: الأنعام). وقوله جل شأنه: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» (١١٨: هود).
49
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» هو بيان شارح لقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» فهذه الآية- كما قلنا- دعوة للمشركين الذين اقترفوا السيئات، أن يعودوا إلى أنفسهم، ويقيموها على طريق الهدى، ويقترفوا الحسنات، كما اقترفوا السيئات.. ثم كان أن تهدّدهم الله بما يقولون من منكر القول فى رسول الله، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً»، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع فى ظلام ليلهم إليهم، فقال تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ».
وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم الله بزواله عنهم، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة، وبيان شارح لها، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع فى ثنايا هذه الدعوة..
ففى قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» دعوة إلى التوبة، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات.. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم.. إنها إلى الله وحده.. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى الله، ويتوجهون بتوبتهم إليه، وعندئذ يجدون الله سبحانه هو الذي يتلقاها منهم.
وفى هذا إغراء باللّجأ إلى الله، وإطلاق الإنسان من أىّ ولاء لغير الله.. وذلك
50
فى أول الطريق إلى الله.. فإذا آمن بالله، آمن برسول الله، وجعل ولاءه لله ولرسوله، وللمؤمنين.
وفى تعدية الفعل (يقبل) بحرف الجر «عن» مع أنه يتعدى بمن، فيقال قبل فلان من فلان كذا، ولم يقبل منه كذا- فى هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل، بمعنى أن الله سبحانه هو الذي يحمل التوبة عن عباده التائبين، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب، مثقلة بالأوزار، فإن التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها الله عنهم.
وقوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده، ويتلقاها بما تحمل من أوزار وسيئات، فإنه سبحانه، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها، ويغفرها لأصحابها.. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر..
وفى الآية الكريمة دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة الله، ومغفرته، وأن يوجهوا وجوههم إليه تائبين من ذنوبهم، نادمين على ما فرط منهم، فالله سبحانه وتعالى يلقاهم بالرحمة والمغفرة..
ففى الصحيح، من رواية عبد الله بن مسعود، رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم، كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك» !! (أخطأ من شدة الفرح).
51
هذا، وليست التوبة، كلمة يلفظ بها اللسان، وإنما هى نية منعقدة على الندم على ما وقع من ذنوب، وعلى العزم على تجنب المعصية.
روى عن جابر بن عبد الله، أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر (أي تكبيرة الإحرام للصلاة) - فلما فرغ من صلاته، قال له علىّ كرم الله وجهه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال:
يا أمير المؤمنين.. وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، ولتضييع الفرائض، الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته»
.
قوله تعالى:
«وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ».
هو معطوف على قوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» - أي وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين، ويقبلهم.. فمعنى الاستجابة هنا القبول، ولهذا عدّى الفعل «يستجيب» لتضمنه معنى القبول.. أما الكافرون فلا يقبل عليهم الله سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد.. ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» أي أنهم يستجيبون لله، ويقبلون عليه تائبين.. وفى هذا إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا- هى دعودة من الله سبحانه وتعالى إلى العصاة، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا، وما عليهم إلا أن يستجيبوا لله، ويقبلوا هذا العطاء العظيم، من الرب الكريم.
52
الآيات: (٢٧- ٣٥) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٧ الى ٣٥]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ».
[الناس: بين الغنى والفقر] ما معنى بسط الرزق هنا؟ ولماذا يقع البغي من الناس مع بسط الرزق لهم؟
بسط الرزق معناه فى اللغة، سعته وكثرته، من مال ومتاع.
والمراد ببسط الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج، بل كل إنسان مكفول له الرزق الواسع، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره..
53
ويبدو فى ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد- يبدوا أنه مجتمع سعيد، يعيش فى رفه ورغد، ويحيا فى سلام وأمن.. إذ ماذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسدّ مطالبه وتقضى حوائجه؟..
ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى- إذا كان له وجود- تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كلّ حاجة الإنسان فى أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحبّ التملك والسلطان.. والإنسان فى سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسدّ جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه..
فهو لا يرضيه أبدا أن يكون فى مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو فى سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع.
وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هى موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتصّ البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس فى أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء..
لا لشىء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. وفى هذا يقول الشاعر العربي الجاهلى، الذي يضرب المثل بقبيلة «بِكْرٌ» حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت.. يقول:
54
إن الذئاب قد اخضرّت براثنها والناس كلّهم بكر إذا شبعوا
فكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم، فوسّع على بعض، وضيّق على بعض، حتى يعمر الكون، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، وحتى يشغلوا بمطالب العيش، وحتى يكون فى هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على بعض إلى السعى والعمل فى وجوه الأرض.. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى فى طلب الرزق، لكان شغلهم كله، هو البغي والعدوان.. فالذين بسط الله سبحانه وتعالى لهم الرزق، هم غالبا مثار بغى وعدوان، وقليل منهم من يشكر الله، ويذكر فضله، فيرعى حق الله فيما خوّله من نعم، وبسط له من رزق. وهذا مشاهد فى الدول الاستعمارية الآن.. إنها مصدر إزعاج لأمن الإنسانية وسلامتها..
وقد ضرب الله سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم، بقارون، فقال تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (٧٦: القصص) ! كما ضرب سبحانه وتعالى مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود- عليه السلام- فقال تعالى على لسان أحدهما: «إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» (٢٣: ص) وفى قوله تعالى: «وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ» (٦٢: العنكبوت).
وقوله تعالى: «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده، لأنه خبير عليم بهم، بصير مقدّر لما هو أصلح لهم.. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا فى الأرض، ولما صلح لهم أمر فيها..
55
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ»..
والغيث- وهو رزق من رزق الله- إنما ينزل بقدر، وحساب، حسب تقدير حكمة الله.. فهذا الغيث ينزل فى مواقع دون مواقع، فيكون حيث نزل الغيث، الخصب والنماء والخير الكثير. ويكون حيث لا غيث، الجدب والقحط.. وهكذا يكون الغنى والفقر، والرخاء والشدة.. وبهذا يعتدل ميزان الناس فى الحياة، ويتوازن موقفهم على جانبى الرجاء واليأس، والأمن والخوف فلا يكونون على حال واحدة أبدا، إذ لو كانوا على هذه الحال أو تلك، لا يتحولون عنها لملوا هذه الحياة، ولسئموا المقام فيها، ولجمدت مشاعرهم عليها.
وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» أي ينزل الغيث على عباده بعد أن يئسوا، وظنوا أن لا غياث لهم مما هم فيه، من جدب يسوقهم إلى التهلكة..
فإذا أصابهم الغيث بعد هذا الكرب العظيم، زغردت فى صدورهم بلابل البهجة والمسرة، وأقبلت عليهم الحياة بمواكب الأعراس، تزف إليهم بشائر الرزق والرحمة.. «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ»
أي ببثها هنا وهناك، فيكون فيها الحياة للأرض، والغذاء والرّى للإنسان، والحيوان، والنبات..
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» أي أن الله سبحانه هو «الْوَلِيُّ» أي الناصر والمعين، لا ناصر لكم غيره، ولا معين لكم سواه، حين تمدون أيديكم إلى من ينصر، وترفعون أبصاركم إلى من يعين.. وهو سبحانه «الْحَمِيدُ» أي المستحق للحمد وحده، على ما أنعم من نعم، وما أفاض من خير.
وفى الحديث الشريف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لوفد
56
«فزارة» وقد شكوا إليه الجدب: «إن الله عز وجل ليضحك من شعفكم وأزلكم «١» وقرب غياثكم» فقال أعرابى منهم: أو يضحك ربنا عز وجل؟
قال: «نعم» فقال الأعرابىّ: لا نعدم من ربّ يضحك خيرا، فضحك النبي ﷺ من قوله.
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ».
أي ومن آثار قدرة الله ورحمته، أنه خلق السموات والأرض، وخلق ما بث ونشر فيهما من مخلوقات.. وهو سبحانه قادر على جمع هذه المخلوقات المنتشرة فى عوالم الوجود، فى السموات وفى الأرض.. ثم إذا شاء سبحانه، جمعهم جميعا من أقطار السموات والأرض، وهم أحياء، ثم بعد أن يموتوا ويبعثوا..
وفى الآية إشارة إلى أن فى العوالم الأخرى- غير عالم الأرض- مخلوقات حية، على صور وأشكال لا يعلمها إلا الله، وأنها تموت وتحيا.. وهى فى سلطان الله سبحانه.. يبسطها ويقبضها، ويميتها ويحييها.. وليس ما على هذه الأرض من صور الحياة إلا صورة من صور لا حصر لها، من صور الحياة، فى هذا الوجود العظيم.
قوله تعالى:
«وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».
(١) الشعف: اللهفة، والحرقة من التطلع إلى الشيء الذي تريده النفس. -
والأزل، الشدة.
57
أي أن الله سبحانه وتعالى لا يسوق لعباده إلا الخير، وهذا شأنه سبحانه وتعالى فيما خلق من مخلوقات فى هذا الوجود.. ولكنّ الناس لهم إرادة عاملة، ولهم كسب هو ثمرة هذه الإرادة.. وهم بهذه الإرادة يحسنون ويسيئون، ويستقيمون على طريق الحق، ويركبون طرق الضلال.. فما كان منهم من إحسان، قابلهم معه إحسان من الله إليهم، وما كان منهم من إساءة ردّت إليهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (٧٩: النساء).
أما قوله تعالى فى سورة النساء: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..» (٧٨: النساء) فهذا ردّ على المشركين، الذين كانوا يتطيرون بالنبيّ.. ولهذا جاء قوله تعالى:
بعد ذلك: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» ليروا فى هذا أن ما أصابهم من سوء لم يكن من النبىّ، الذي لا يملك دفع سوء عن نفسه، كما لا يستطيع سوقه إلى أحد، وإنما الذي يملك هذا وذاك هو الله وحده.. وأن ما أصابهم أو يصيبهم من سوء، هو من عند أنفسهم ابتداء، وأنه من عند الله ابتداء وانتهاء!! وقوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ».. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، يعفو عن كثير من السيئات، ويتجاوز عن كثير من الذنوب، إذ لو أخذ سبحانه الناس بذنوبهم لأهلكهم جميعا، كما يقول سبحانه:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (٦١: النحل). وكما يقول «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (٤٥: فاطر).
قوله تعالى:
«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ».
58
أي أن الله سبحانه وتعالى إذ يعفو عن كثير من الذنوب، ولم يعجّل بجزاء أهلها عليها- فليس ذلك لما يكون للمذنبين من جاء أو سلطان، فسلطان الله فوق كل سلطان، وقوته فوق كلّ قوة، وليس لأحد عاصم يعصمه من بأس الله، أو يدفع عنه عذابه، فى الدنيا أو فى الآخرة، ولكنّ الله سبحانه يمهل الظالمين، ويمدّ لهم فى الضلالة، ليزدادوا إثما.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا».. (٧٥: مريم) ويقول سبحانه: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١٧٨: آل عمران).
روى عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر، رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا ما يحبّ فإنما هو استدراج «١» » ثم تلا قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (٤٤: ٤٥ الأنعام).
قوله تعالى:
«وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
أي ومن الآيات الدالة على قدرة الله، وعلى بسطة سلطانه، وعلى فضله وإحسانه على عباده، هذه «الْجَوارِ» أي السفن الجارية على الماء، كالجبال فى ضخامتها، وارتفاعها فوق سطح الماء.. فهى المعالم الوحيدة القائمة فوق وجه الماء، كما تقوم الجبال على اليابسة..
فهذه الجواري، إنما تجرى بقدرة الله سبحانه وتعالى، بهذه الرياح
(١) استدراج الله تعالى العبد، أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة وأنساه الاستغفار أو أن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته.
59
المسخرة، التي تجريها وتدفعها فوق الماء.. ولو شاء الله سبحانه لأمسك هذه الريح، فسكنت وسكن مع سكونها جريان هذه الفلك، فتظل رواكد على سطح الماء.. لا تتحرك..
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».. أي إن فى هذه السفن الجارية على الماء لآيات، لا آية واحدة، لكل صبار، أي كثير الصبر، يجد من صبره ما يعينه على الوقوف الطويل، الدارس، المتوسم، فى آيات الله، فيرى فى كل معلم من معالم هذا الوجود آيات من قدرة الله، وشواهد من إبداعه، وحكمته، وتدبيره.. وهذا هو بعض السرّ فى جمع الآيات، إذ لا يمكن أن يرى فى هذه الفلك وجريها على الماء، تلك الآيات منها، إلا الدارس، المتأمل، الذي يعينه صبره على الوقوف الطويل، والنظر المتفحص.. أما من ينظر نظرا عابرا فى معالم هذا الوجود، فإنه لا يرى إلا صورا وأشباحا.. إنه نظر جامد، أشبه بالمرءاة تظهر عليها صور الأشياء، ثم لا تمسك منها بشىء.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أصحاب هذا النظر البارد الفاتر، الساهم: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (١٠٥: يوسف).. وفى قوله تعالى: «شَكُورٍ» إشارة أخرى إلى أنّ هذه الآيات التي يراها المتأملون الدارسون، لا تكون آيات وشواهد إلا إذا صادفت قلبا مؤمنا، يردّ هذه الآيات التي تكشفت له، إلى قدرة الله، وتدبيره، وحكمته، فيفيض قلبه تسبيحا بحمد الله وشكرا له.. أما من يرى هذه الآيات بعين لا تكتحل بنور الإيمان، فإن هذه الآيات لا تحيا فى وجدانه، ولا تعيش فى مشاعره، فلا ينفعل بها، ولا يهتز لروعتها وجلالها، الذي يرى فيه المؤمنون بعض جلال الله، وروعة حكمته!
60
قوله تعالى:
«أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ».
هو معطوف على قوله تعالى: «يُسْكِنِ الرِّيحَ» أي إن يشأ الله سبحانه يسكن الريح فلا تتحرك، وتظل السفن رواكد على ظهر الماء، أو إن يشأ «يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا».
ويوبقهن: أي يهلكهن، والضمير يعود إلى الجواري وهى السفن..
وأصله من الإباق، وهو الفرار والهروب، يقال أبق العبد، أي هرب، وأفلت من سلطان صاحبه.. ومعنى هذا أن هذه السفن وهى تجرى على سطح الماء، لا ممسك لها إلا الله سبحانه، وأنه سبحانه لو شاء لأفلت زمامها من يد أصحابها، بأن يرسل عليها ريحا عاصفة، يضطرب لها البحر، ويفور، فتغرق، أو لا يستطيع أحد أن يمسك زمامها ولا يدرى أحد أين وجهتها.. وفى هذا الهلاك لراكبيها..
وفى قوله تعالى: «بِما كَسَبُوا» إشارة إلى أن ما يحدث لهذه الجواري من غرق، أوتيه، إنما هو بما كسب أصحابها من سيئات، كما يقول سبحانه فى آية سابقة: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ». (٣٠)
وقوله تعالى: «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» - معطوف على قوله تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا» أي وإن يشأ الله يعف عن كثير من سيئات المسيئين، فلا يعجل لهم الجزاء فى الدنيا، فتمضى سفنهم فى ريح رخاء حتى تبلغ مأمنها.. ثم يكون الحساب والجزاء فى يوم الحساب والجزاء..
ويجوز أن يكون المعنى: ويعفو عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين
61
الذين أخذوا ببعض ذنوبهم، لا كلّها، لأن ذنوبهم أكثر من أن تستوفى منهم بأى عذاب ينزل بهم فى هذه الدنيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (٤٥: فاطر).
قوله تعالى:
«وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ»..
هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» أي ويعف عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين فى الدنيا فلا يعجل لهم العذاب، وذلك ليعذبهم فى الآخرة، وليعلم الذين يجادلون فى آيات الله، ويكذبون بالبعث والجزاء- ليعلموا يومئذ ما لهم من محيص، أي ما لهم من مفر، ولا ملجأ..
الآيات: (٣٦- ٤٣) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)
62
التفسير:
قوله تعالى:
«فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
فى الآية الكريمة تهوين من شأن الدنيا، واستخفاف بمتاعها، إلى جانب ما فى الحياة الآخرة من جزاء كريم، ونعيم خالد لا يفنى.
فقوله تعالى: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» - هو حكم على هذه الحياة الدنيا، بأن كل ما يناله الإنسان منها من مال أو جاه أو سلطان- هو متاع، أي زاد لا يلبث أن ينفد، أو ثوب لا بد أن يبلى..
فكل ما فى الحياة الدنيا إلى نفاد، وزوال.. وإن كثر وعظم..
وقوله تعالى: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى» أي والذي يبقى ولا ينفد، هو ما تقبّله الله من أعمال صالحة، حيث يكون ثوابها عند الله نعيما لا يفنى، ورزقا لا ينفد..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - أي أن هذا الذي عند الله من جزاء حسن، هو للذين آمنوا، وتوكلوا على ربهم، وأسلموا أمرهم له.. وهو كأنه جواب عن سؤال تقديره: لمن هذا الذي عند الله فكان الجواب: للذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون.
63
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».
هو معطوف على قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - أي هذا الذي عند الله من خير، هو للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون.
وكبائر الإثم، هى كبائر الذنوب، كالقتل، والربا، وشرب الخمر، والزنا، ونحوها.. والفواحش: هى المنكرات، من قول، أو فعل.. وصورتها البالغة فى الفحش، تتمثل فى الزنا، ولهذا غلب على الزنا، الوصف بالفاحشة.
وفى قصر التجنب على كبائر الإثم، وكبائر الفواحش- إشارة إلى أن الصغائر معفوّ عنها، فضلا من الله وإحسانا، كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» (٣٢: النجم).
فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وليس من طبيعة الإنسان أن يتجنب الخطأ تجنبا مطلقا، ولكن الذي تحتمله الطبيعة البشرية هو أن يكون منه الإحسان إلى جانب الإساءة، وأن يتجنب الكبائر، إذ كان وجهها القبيح ظاهرا ظهورا بينا.. أما الصغائر، فإنها كثيرا ما تعرض للإنسان، وكثيرا ما يختلط عليه أمرها.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «فقاربوا وسدّدوا» أي اجتهدوا فى أن تكونوا أقرب شىء إلى الاستقامة والسداد.
وقوله تعالى: «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» هو صفة أخرى من صفات
64
الذين آمنوا.. وهى أنهم إذا ما استغضبوا، وغضبوا، غفروا لمن كان منه المساءة التي أغضبتهم.
وفى قرن المغفرة بالغضب، إشارة إلى أن المغفرة التي تكون والإنسان فى حال الاستثارة والغضب، هى المحمودة فى باب المغفرة، لأنها تجىء عن مجاهدة ومغالبة للنفس، إذ يقهر فيها الإنسان شهوة الانتقام، وبلوى فيها زمام هواه إلى حيث الصفح والمغفرة: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (٣٥: فصلت).
وقرن المغفرة بالغضب، أبلغ من قرنها بالإساءة.. فقد يساء إلى الإنسان، ولا يغضب، ولا تتحرك فى نفسه داعية الانتقام، فتكون مغفرته حينئذ مغفرة لم يتكلف لها الإنسان مجاهدة، ولم يحمل فى سبيلها مئونة..
وفى ذكر المغفرة هنا، إغراء بها، إذ كانت فى معرض مغفرة الله سبحانه وتعالى لما يقع من الإنسان من اللمم، ومن صغائر الذنوب.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فهؤلاء المؤمنون، من صفاتهم أن يستجيبوا لربهم، أي يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه.. ومن امتثالهم لأمر، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. وإقامة الصلاة، هى الركن الأول من أركان الدين بعد الإيمان بالله. وإيتاء الزكاة، هو الركن الثاني بعد إقامة الصلاة..
وفى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» - إشارة إلى أن من صفات
65
المؤمنين أن يكونوا على كلمة سواء فيما بينهم من شئون.. فتكون طريقهم واحدة، ووجهتهم واحدة، ويدهم واحدة، وموقفهم واحدا، فلا يذهب كل واحد منهم مذهبا، ولا تركب كل جماعة طريقا.. فهذا من شأنه أن يوهن قوة الجماعة الإسلامية، ويفتّ فى عضدها، ويوقع الشحناء بين جماعاتها وأفرادها..
هذا، ولم تجىء الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامى، دعوة قاهرة ملزمة، من غير أن يقوم إلى جانبها الوجود الذاتي للإنسان، والهاتف الشعورى المنبعث من ذاته، إلى هذه الوحدة، بل قام مع هذه الدعوة، بل أمام هذه الدعوة، دعوة إلى الشورى بين الجماعة الإسلامية، فى الأمر الذي يعرض لها، ويتطلب وحدة جماعتها.. فهذا الأمر يتلقاه المسلمون جميعا، ويتدارسونه فيما بينهم، ويقلّبون الرأى فيه، وفى هذا العرض للأمر، ما يكشف لهم عن وجه الرأى فيه، وما يأخذون أو يدعون منه.. وعندئذ يكون رأيهم قائما على وجهة واحدة، هى الوجهة التي رضيها الجميع، ونسجوا رايتها من تلك الخيوط التي اجتمعت من آرائهم، فكان لكل إنسان مكانه من هذه الراية التي يسير تحت ظلها.. وبهذا تكون مسيرة المسلمين تحت هذه الراية، مسيرة ينتظمها شعور واحد، ويحكمها رأى واحد، وتحتويها عزيمة واحدة، فيكون منهم بهذا نسيج واحد متلاحم، أشبه بنسيج هذه الراية التي تشكلت من مجتمع آرائهم.
وهذا هو بعض السر فى أن جاء النظم القرآنى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» بدلا من أن يجىء مثلا هكذا: وكانوا أمة واحدة، أو مجتمعا واحدا.. ذلك أنه لن تكون الأمة أمة واحدة، ولن يكون المجتمع مجتمعا واحدا، إلا إذا توحدت المشاعر، ولن تتوحد المشاعر، إلا إذا تلاقت الآراء وتوحدت، ولن تتلاقى الآراء وتتوحد، إلا مع عرضها، وتنخّلها، وذلك لا يكون إلا بالتشاور بينهم،
66
وعرض رأى كل ذى رأى، فى صراحة مطلقة، وحرية كاملة..
[الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا] ولا بد هنا من وقفة مع هذا المبدأ العظيم، الذي قرره الإسلام، ليكون مادة أولى، من مواد هذا الدستور السماوي الذي يحكم الجماعة الإسلامية، ويدين به الفرد والجماعة على السواء.. ذلك هو مبدأ الشورى.
فالشورى شريعة من شرائع الرسالة الإسلامية، حيث ينعقد بها الإجماع، الذي هو أصل من أصول التشريع الأربعة، المعتمدة فى الإسلام، وهى الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع.. حيث لا يكون الإجماع على أمر إلا بعد تمحيصه وتقليب وجوه الرأى فيه، وتقديم الحجج والأدلة بين يدى كل رأى، حتى ينتهى الأمر الذي يجمع عليه بالتقاء آراء ذوى الرأى فيه من المسلمين، وهم الذين أطلق عليهم أهل الحل والعقد..
وليس المراد بأهل الحلّ والعقد طبقة خاصة من الناس، أو طائفة معينة من طوائفهم، بل هم فى كيان المجتمع الإسلامى كله، فى كل زمان ومكان، لا يختص بهم موطن، ولا يحصرهم زمن.. فحيث كان المسلمون فهم جميعا المجتمع الإسلامى، وفيهم أهل الحل والعقد.. أي أصحاب الرأى والنظر.. فكل ذى رأى ونظر، هو من أهل الحل والعقد، وله أن يأخذ مكانه فى الأمر الذي يعرض للمسلمين، وأن يدلى برأيه، وبحجته التي تدعم هذا الرأى، كما أن له أن ينظر فى رأى غيره، وأن يقول رأيه فيه، معدّلا أو مجرّحا.. كل ذلك بالحجة القائمة على الحق والعدل، لا الهوى وحبّ الغلب..
والرأى الذي ينتهى إليه المسلمون، أو أولو الحل والعقد فيهم، هو ملزم لجماعتهم، لا يجوز لأحد منهم الخروج عليه.. وليس فى هذا الإلزام جور على ذاتية الفرد، أو عدوان على حقه فى النظر فى الأمور، ووزنها بميزان إدراكه
67
وتقديره، بل إن هذا الإلزام هو حماية للشخص من أن يتّبع هواه، أو أن يذهب مذهبا غير مأمون العاقبة، لو أنه أخذ برأيه، وترك رأى الجماعة، إذ كان رأيها هو الرأى الذي تلاقت عنده الآراء، ونخلته العقول..
وإذا كان الإجماع هو الوجه البارز من وجوه الشورى، فإن للشورى وجوها أخرى.. إذ ليس كل أمر يعرض للجماعة الإسلامية، ينتهى بالتشاور فيه، إلى إجماع فى الرأى، على نحو الإجماع المعروف فى الشريعة..
بل قد يقع الخلاف فى الرأى على أمر من الأمور، ثم يرجح جانب فيه على جانب، فيؤخذ بالجانب الراجح، ويترك الجانب المرجوح..!
على أن الذي يعنينا هنا ليس هو صور الشورى، وأشكالها، وإنما الذي يعنينا، وله المقام الأول، هو مبدأ الشورى ذاتها، من حيث اعتبارها حقيقة من حقائق الإسلام، وحكما من أحكامه العاملة التي يأخذ المسلم نفسه بها، ويقيم حياته عليها..
ففى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» خبر يراد به الأمر، من حيث اقترن بركنين من أركان الدين، وتوسطهما، وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، المأمور بهما شرعا.. فكان حكم الشورى حكمهما، من حيث الوجوب والإلزام..
وفى مجىء الشورى بعد إقامة الصلاة، وقبل إيتاء الزكاة، إشارة إلى أمور:
أولا: أن الصلاة أقوال وأفعال، والشورى كذلك أقوال تعقبها أفعال..
أما الزكاة فهى أفعال خالصة.. فناسب أن تقترن الشورى بالصلاة لمشاكلتها فى صورتها، وأن تتقدم من أجل هذا على الزكاة.
68
وثانيا: أن الصلاة يؤديها المؤمن منفردا، أو فى جماعة.. وهو فى حال انفراده يؤديها على الصورة التي يراها، من حيث الطول والقصر فى أفعالها، قياما، وركوعا، وسجودا.. أما فى حال أدائها فى جماعة، فإنه ليس له هذا الخيار، بعد أن يأخذ مكانه فى الجماعة، وينتظم فى عقدها، فهو والجماعة من وراء الإمام، الذي يجب أن يلزموا متابعته فى كل حركاته وسكناته..
والشورى، صورة مقاربة للصلاة من هذا الوجه الذي صورناها به..
فإذا كان الإنسان خاليا مع رأيه إزاء أمر من الأمور العارضة له، كان له أن يتصرف فى هذا الأمر على الوجه الذي يراه بعقله، ويؤديه إليه اجتهاده.. أما إذا دخل مع جماعة المسلمين فى أمر عام، وأخذ مكانه بينهم وانتظم رأيه مع آرائهم على طريق سواء، لم يكن له أن يخرج عن هذا الرأى الذي انتظمت وراءه آراؤهم، والذي يتمثل لهم حينئذ فى صورة الإمام الذي يأتمون به فى الصلاة.. فكما لا يخرج المأموم فى الصلاة عن متابعة الإمام، ولا يجوز له أن يستجيب لإرادته فى أن بطيل أو يقصّر، فى قيام، أو ركوع، أو سجود- كذلك لا يجوز أن يخرج المؤمن عن الرأى الذي اجتمع عليه المسلمون بعد تشاورهم فيه، وإن كان على خلاف ما يرى. فالرأى الذي أجمع عليه المسلمون هنا هو من رأى الإسلام، والسبيل التي يسلكها المسلمون- متابعة لهذا الرأى- هى سبيل الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (١١٥: النساء).
وثالثا: أن الصلاة فريضة عامة، تجب على كل مسلم ومسلمة وجوب عين،
69
- وكذلك التشاور بين المسلمين، أمر ملزم لهم جميعا، وحقّ يؤديه كل مسلم ومسلمة للجماعة الإسلامية، وإنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أخذ مكانه بين الجماعة الإسلامية وإبداء الرأى الذي يراه، فى أي أمر يعرض لهم، كما أنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أن يأخذ مكانه فى صلاة الجماعة بين الصفوف المنتظمة فى الصلاة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ».. ففى تنكير الشورى دليل على إطلاقها وعمومها.. وأنها ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها.. فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى، كما هو أهل للصلاة فى جماعة..
ورابعا: أن الصلاة يجب أن يسبقها من المسلم قبل الدخول فيها إعداد لها، وذلك بالتطهر، والوضوء.. وكذلك الشورى، يجب أن تسبقها طهارة النفس من الهوى، وخلوها من الدخل.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف «الدين النصيحة» قيل لمن يا رسول الله؟: قال: «لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»..
ولن تكون النصيحة نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم، وعن نية خالصة من الغش والنفاق..
وخامسا: أن للصلاة وقتا، فإذا جاء وقتها أذّن المؤذن بها، ودعا المسلمين إليها.. وكذلك للشورى وقتها.. فإذا حزب المسلمين أمر، تنادوا به، واجتمعوا له، وتشاوروا فيه..
ذلك هو بعض السر فى قرن المشورة بإقامة الصلاة.. ووراء ذلك أسرار وأسرار لا تنتهى..
أما وصلها بالزكاة من طرفها الآخر، فإنه يشير كذلك إلى أمور.. منها:
70
أولا: أن القرآن الكريم لم يعبّر فى هذا المقام عن الزكاة بلفظ الزكاة، بل جاء بها فى هذا النظم الكريم: «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» فجعلها إنفاقا من رزق، وهذا الرزق من الله سبحانه وتعالى.. وكذلك «الشورى» هى إنفاق من رزق، هو مما وهب الله من عقل، ومما رزق أهل العقل من علم ومعرفة.. وهذا يعنى أن إبداء الرأى من ذوى الرأى، أمر واجب عليهم، وهو الزكاة المطلوبة منهم فى هذا المقام، لما آتاهم الله من فضله، من علم، وحكمة، وحسن تدبير..
فمن رأى فى أمر من أمور المسلمين خللا، وكان عنده من الرأى والتدبير حا يصلح به هذا الخلل ثم أمسك رأيه، وحبس نصحه، كان آثما..
شأنه فى هذا شأن من كان ذا مال وسعة، ثم لم ينفق من ماله فى سبيل الله، وفى سدّ حاجات ذوى الحاجة من المؤمنين..
وثانيا: لم يقيد النص القرآنى هنا الإنفاق بالشيء الذي ينفق منه، من مال أو نحوه، بل جعله، إنفاقا مطلقا، يشمل كل ما يرزقه الله الإنسان من خير.. فسمّاه سبحانه رزقا، ليشمل المال وغير المال، من رأى، وعلم، وفنّ..
خلا يستبد المؤمن وحده، برزق رزقه الله إياه، وفيه فضل وسعة لغيره من المسلمين..
وثالثا: كذلك لم يقيد النص القرآنى ما ينفق من هذا الرزق بحدّ محدود، كالزكاة، بل جعله إنفاقا مطلقا.. لأنه فى مقام «الشورى» لا يكون الإنفاق بقدر محدود مما يملك الإنسان من علم، ومما عنده من معرفة، بل إنه مطلوب منه فى تلك الحال أن ينفق كل ما لديه، وأن يبذل كل ما عنده، غير ممسك بشىء من رأيه، أو محتجز شيئا من جهده، واجتهاده..
71
ونقرأ الآية الكريمة:
«وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».
وننظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» وفى مقام هذا المقطع من الآية، بين ما سبقها، وما جاء بعدها من كلمات الله، فنرى كيف احتفاء الإسلام بالشورى، وكيف أنه أفسح لها مكانا بين فريضتين من فرائضه، هما الصلاة والزكاة، اللتان آخى بينهما فى كل موضع جاء فيه ذكرهما فى القرآن الكريم.. كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (٣: البقرة) ويقول جلّ شأنه:
«وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» (٤٣: البقرة) ويقول سبحانه: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» (٥٥: مريم) ويقول عزّ من قائل: «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (٣١: مريم)..
ويقول تبارك اسمه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» (١- ٤: المؤمنون)..
والفصل بين الصلاة والزكاة بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» - ليس فصلا، لأن الإعراض عن اللغو هنا، هو من تمام الصلاة التي يحفها الخشوع والخشية.. أما الفصل بين الصلاة والزكاة بالشورى، فهو لما للشورى من منزلة فى ذاتها، وأنها جديرة بأن تكون فى هذا المقام، وأن تتوسط أعظم فريضتين من فرائض الإسلام، وأهم ركنين من أركانه، بعد الإيمان بالله.
والسؤال هنا: لماذا كانت الشورى بهذه المنزلة من الإسلام؟ ولماذا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية بهذا القدر، وتنوّه بها إلى هذا الحدّ؟
72
ولقد أشرنا من قبل إلى ما للشورى من آثار فى بناء المجتمع، وفى حياطة هذا البناء، وفى دفع العوارض التي تعرض له، وتهدّد وجوده..
ونريد هنا أن ننظر إلى المجتمع الإسلامى، الذي يقوم أمره على الشورى، وما للشورى من آثار مادية، ونفسية، وروحية، وعقلية. فى حياطته، ودعم بنائه.
فالمسلمون مطالبون.. ديانة.. كما هم مطالبون سياسة وتدبيرا.. أن يقيموا أمرهم كله على الشورى.. وهذا من شأنه أن يجعلهم دائما فى تواصل وفى تواص بالنصح، ومشاركة فى السراء والضرّاء، حيث يجد المرء أنه مطالب بأن يكشف لأخيه عن المشكلات التي تعرض له، فيجد من صاحبه الرأى والنصيحة يبذلها له فى إخلاص، بل ويسعى معه فى دفع الضرّ عنه، ما استطاع، حسبة لله، وأداء لحق وجب عليه..
فإذا كان الأمر العارض من البلايا العامة، التي تمسّ المجتمع، أو طائفة من المجتمع، تنادى لها المسلمون جميعا، وتداعوا عليها بالرأى، والعمل معا، وحمل كلّ منهم همها، وشارك فيها بكل ما وسعه من جهد.. هذا ما يقضى به الدّين، إلى جانب ما تقضى به ضرورات أخرى كثيرة..
وآثار هذه المشاركة كثيرة عميقة..
فأولا: أنها توحّد مشاعر المجتمع الإسلامى وتشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض.. وتجعل منهم جسدا واحدا، فلا يشعر أحدهم أنه بمنجاة من الخطر الذي يهدّد أي عضو من أعضاء الجماعة.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله تعالى: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر»..
73
وثانيا: فى عرض مشكلات المجتمع على الجماعة، وطلب الرأى والنصيحة من أفرادها- تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية معها، وإفساح مكان له فيها.. وهذا من شأنه أن يهيىء للفرد فرصا طيبة، يبرز فيها وجوده، ويربّى فيها ملكاته، وينمى قواه المدركة، حتى يكون أهلا لأن يأخذ مكانه منها، وهذا بدوره، داعية قوية تدعوه إلى طلب العلم والمعرفة، وإلى لقاء الجماعة بما حصل من علم، وما وعى من معرفة..
وثالثا: فى عرض الآراء، وفى تقليب وجوهها، تصحيح لكثير من الآراء الخاطئة، وبالتالى تصحيح للمشاعر التي تتوالد عن هذه الآراء، والتي لو شارك المرء الجماعة فى عمل من الأعمال، وهو بهذه الآراء، وتلك المشاعر، لكان آلة متحركة بغير وعى، عاملة بغير شعور، إن لم يكن جسدا غريبا، يعوق مسيرة الجماعة، ويقلل من جهدها.. ولهذا كانت دعوة الله سبحانه إلى النبىّ الكريم، بأن يقيم أمره فى المسلمين على الشورى، فيقول سبحانه:
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» (١٥٩: آل عمران).. والرسول صلوات الله وسلامه عليه- بما أراه ربه- فى غنى عن المشورة، وعن أخذ الرأى من أحد، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- كما وصفه الحق جلّ وعلا: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (٣: النجم).. ولكن هكذا أقام الله سبحانه أن النبىّ مع الجماعة الإسلامية على المشورة، حتى تصحح الآراء الخاطئة على ضوء المشورة، وحتى يشترك الجميع مع النبىّ فى إقامة الرأى، وفى حمل تبعة العمل، وتحمل المسئولية فيما ينجم عنه.. وقد رأينا النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- بين يدى غزوة «بدر» يدعو الناس إليه قائلا: «أيها الناس.. أشيروا علىّ».. وذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه، حين خرج
74
بالمسلمين من المدينة للقاء عير أبى سفيان، لم يكن مخرجه لحرب قريش..
فلما أفلتت العير، جاءت قريش لتستنقذ العير أولا، ثم لتحارب النبي ثانيا..
فلما خلصت لها العير اتجهت إلى الحرب.. فكان هذا موقفا جديدا بالنسبة للنبى والمسلمين، ولم ير صلوات الله وسلامه عليه أن يلزم المسلمين رأيا فيه، فطلب رأيهم فى الحرب ولقاء قريش، أو العودة إلى المدينة.. فكان الرأى الذي أجمع عليه المسلمون، هو الحرب، ولقاء العدوّ.. وقد كانت الحرب، وكان النصر! هذه هى بعض ملامح الشورى، فى الإسلام. وهى.. كما ترى..
وثيقة من أروع الوثائق، ودستور من أقوم الدساتير فى بناء المجتمع. وفى وصل مشاعر أفراده بعضها ببعض، وفى صبّ آراء أفراده فى مجرى واحد يفيض بالخير والبركة عليهم جميعا..
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ».
هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فإن من صفاتهم- إلى جانب ما ذكر لهم من صفات- أنهم لا يقبلون الظلم، ولا ينزلون على حكم الظالمين، بل إنهم حرب على الظلم وأهله، يبذلون فى سبيل ذلك كل جهدهم وما ملكت أيديهم حتى إنهم ليقدّمون أنفسهم، ويبيعونها بيع السماح من أجل إقرار الحق، وإعلاء كلمته، والضرب على يد الباطل، وتنكيس رايته.. وليس الجهاد فى سبيل الله، والاستشهاد فى ميدان الجهاد، إلا صورة من صور دفع الظلم فى أبشع صوره وردّ البغي فى أقبح وجوهه.. لأن حرب الشرك والكفر هى
75
حرب على الظالمين والباغين، الذين يسعون فى الأرض فسادا، ويبغون فى الأرض بغير الحق..
وسواء أكان البغي الذي يصيب المؤمن بغيا واقعا عليه هو فى ذات نفسه، أو واقعا على الجماعة الإسلامية، فإن المؤمن مطالب- ديانة، إن لم يكن حمية وأنفة- أن يدفع هذا البغي، ويرد ذلك العدوان.. فالبغى منكر غليظ، والمؤمن حرب على المنكر، أيّا كان، وبأى سلاح يقدر عليه، وفى الحديث الشريف:
«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان».. فأدنى منازل الحرب للظلم، هو إنكاره بالقلب، وازدراؤه وازدراء أهله.. وهذه منزلة لا يصير إليها المؤمن إلا إذا أعجزته القدرة عن الجهر باللسان، والتشنيع على الظلم والظالمين، كما أنه لا يقف المؤمن عند حدّ الحرب باللسان، إلا إذا لم يملك القوة المادية التي يضرب بها فى وجه البغي والباغين..
وفى قوله تعالى: «هُمْ يَنْتَصِرُونَ».. وفى الإتيان بضمير الفصل «هم» - إشارة إلى أن من وقع عليهم البغي يجب أن يكونوا هم أول المتصدين له، العاملين على دفعه، لا ينتظرون حتى يتولى عنهم غيرهم الأخذ بحقهم، والانتصاف لهم ممن ظلمهم، وإن كان هذا لا يمنع المؤمنين جميعا أن يساندوهم ويشدوا ظهرهم..
وفى إسناد دفع الظلم، ورد البغي، إلى من وقع عليه ظلم وبغى- هو إعلان لإنكار هذا المنكر، ممن وقع عليه، وإلا كان سكوته عليه، هو رضا به، وتقبلا له، الأمر الذي لا يقيم حجة لغيره أن ينتصر له، ويقف فى المعركة معه..
وفى التعبير عن التصدّى للعدوان، ودفع البغي بقوله تعالى: «يَنْتَصِرُونَ»
76
بدلا من التعبير بلفظ مثل: يدفعون، أو يردّون، أو نحو هذا- تحريض لمن وقع عليه البغي أن يتحرك لرد هذا العدوان- لأنه، إن فعل- فسيكون على موعد مع النصر، الذي وعده الله سبحانه وتعالى إياه فى قوله جل شأنه:
«ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (٦٠: الحج) قوله تعالى:
«وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ».
هو تحريك لمشاعر أولئك الذين بغى عليهم أهل البغي أن يأخذوا بحقهم، وأنه إذا كان العفو سنّة كريمة، وعملا مبرورا، فإنه لا يكون كذلك حتى يجىء عن قدرة على من بغى، فيكون العفو هنا، عن فضل وإحسان، ممن بغى عليه، الأمر الذي يرى منه الباغي أن هناك يدا قادرة على أن تقطع هذه اليد التي بغت، فلا يتمادى بعد هذا فى بغيه، بل ينزجر ويندحر، ولا يطل برأسه من جحره بعد هذا أبدا..
ففى وصف البغي بالسيئة، إشارة إلى أنه من المنكر الذي ينبغى على المؤمن محاربته..
وفى وصف ردّ العدوان ودفع البغي بالسيئة، إشارة إلى أن من أساء، لا ينبغى أن يتحرج المؤمن من الإساءة إليه، وإلحاق الضرر به، كما أساء هو إلى غيره. وساق إليه الضرّ والأذى.. فالسيئة هنا، إنما هى سيئة بالإضافة إلى من بدأ بالإساءة.. فما هى إلا عمله قد ردّ إليه.. وفى قوله تعالى: «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» إشارة إلى أن الجزاء، هو من جنس العمل..
وقوله تعالى: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» - إشارة إلى الأخذ
77
بما هو أولى من جزاء السيئة بسيئة مثلها، وهو العفو عن المسيء، وذلك بعد القدرة عليه، ووقوعه ليد من بغى عليه.. فإن العفو مع القدرة- كما قلنا- هو عقوبة للمعتدى، ووقعها على النفوس الحية أقسى وأمر من كل عقوبة..
وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ» - إشارة إلى أن لمن أراد أن يأخذ بالعفو أن يسلك الطريق الذي يراه فى هذا المقام، فله أن يعفو عفوا عامّا، وأن يعفو عن بعض، ويأخذ ببعض، حسب ما يرى من المعفوّ عنه، ومن الظروف والأحوال المحيطة به..
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» - إشارة إلى المنتصر بعد ظلمه، ألا يتجاوز حدود الأخذ بحقه ممن ظلمه، وإلا كان ظالما، وانتقل بذلك من مبغىّ عليه إلى باغ، ومن مظلوم إلى ظالم، وقد كان الله سبحانه نصيرا له، فأصبح مخذولا من الله، مذموما: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ».
قوله تعالى:
«وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».
هو عرض شارح لقوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها».. وهو تحريك أيضا لمشاعر الثورة على البغي، ودفع لما يجد أهل السلامة والصلاح فى صدورهم من حرج فى أن ينالوا أحدا بسوء، حتى ولو كان مسيئا.. وهذا خروج على سنن العدل، ومجافاة لطبيعة الحياة، وإطلاق لأيدى السفهاء أن يعيثوا فى الأرض فسادا، وأن يبتلى بهم الأنقياء والأبرار ابتلاء عظيما.. ولهذا جاء الإسلام يقرر هذه الحقيقة، ويعطى أهله حق الدفاع عن أنفسهم، بلا بغى أو عدوان،
78
حتى يكون لهم من ذلك وقاية من آفات ذوى الشر والعدوان..
ولقد كانت دعوة المسيح- عليه السلام- إلى اليهود، أن «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك رداءك، فاخلع له ثوبك أيضا» - كانت تلك الدعوة بلاء من الله لليهود، ونقمة منه سبحانه، بعد أن بغوا وأفسدوا فى الأرض.. وكانت تلك الجرعات المرة القاسية التي قدمها السيد المسيح لهم- هى من بقايا الكئوس المرة القاسية، التي تجرعها الناس من سموم كيدهم، ومكرهم!.
فليس ثمة من سبيل ولا لوم، على من انتصر من بعد ظلمه، فانتصف ممن ظلمه. وأخذ بحقه منه.. وإنما السبيل واللوم على من بدأ بالظلم، وبغى على الناس.. أو على من انتصر من بعد ظلمه، فجاوز الحد، وانتهى به ذلك إلى أن يكون من الظالمين الباغين.. فهؤلاء لهم عذاب أليم، هو قصاص من العدل الإلهى، ينتصف فيه سبحانه للمظلوم من ظالمه..
قوله تعالى:
«وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ».
الواو للقسم، واللام واقعة فى جواب القسم.. والإشارة إلى الصبر والمغفرة.
أي إن الصبر والمغفرة من عزم الأمور.
وعزم الأمور، هو موجبها، ولازمها، الذي هو ملاكها، الذي تقوم عليه، بحيث لا يتم لها وضع صحيح إلّا به.. فلكل أمر عزيمة، هى السبب أو الأسباب الموصلة إليه.. وفى الحديث: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه».. وهى فرائضه، وما أوجبه الله سبحانه على عباده.
وفى إسناد عزم الأمور إلى الفاعل، أي فاعل الصبر والمغفرة، بدلا من إسناده إلى ذات الصبر والمغفرة- إشارة إلى أن المعوّل عليه فى إعطاء القيمة للصبر
79
والمغفرة هو الفاعل لها، وأنه بقدر صبره ومغفرته يتحقق للصبر والمغفرة، الصفة المناسبة التي تكون له منهما.. ومن حكم العرب: «خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله»..
والآية الكريمة تعقيب على هذه القضية العامة، التي تنتظم الناس جميعا، فهم بين ظالمين معتدين، ومتتصفين من الظالمين المعتدين.. وهذا يعنى أنهم فى حرب متصلة لا تنقطع أبدا.. يوقد الظالمون المعتدون نارها، ويزيدها المظلومون المعتدى عليهم ضراما، بالاشتباك فى صراع مع من ظلمهم واعتدى عليهم..
وهذه فتنة وابتلاء للناس.. وأنه إذا كان من حقّ المظلومين أن ينتصفوا من ظالميهم، فإن عليهم أن يذكروا أنهم فى وجه فتنة وابتلاء، وأنه من الحكمة أن يعالجوا الأمر برفق، وأن يأتوا إليه لإطفاء ناره، لا لتأججها.. وهذا أمر متروك لتقدير الإنسان، على ألا يخرج به الحال أبدا إلى الظلم والبغي.
فإن شاء صبر، وعفا، وإن شاء انتصف وانتصر..
الآيات: (٤٤- ٥٠) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٤ الى ٥٠]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
80
التفسير:
قوله تعالى:
«وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، عرضت قضية الظلم، وما يقع من بغى الناس بعضهم على بعض، وتوعدت الظالمين الباغين بالعذاب الأليم.. وهنا فى هذه الآية، إشارة إلى أن المصدر الأول للظلم والبغي، إنما يأتى من جهة الكفر بالله، والضلال عن سبيله، وأن الكافرين الظالمين هم الذين لا يجدون لله وقارا، ولا يخشون له بأسا، فهم لذلك يطلقون العنان لقوى الشر الكامنة فيهم، فيعتدون على حرمات الله، وعلى عباد الله، فى غير تحرج أو تأثم..
فهؤلاء الظالمون المعتدون، هم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ» أي ليس له نصير ينصره من بعد ضلاله وخذلان الله له..
وقوله تعالى: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» هو عرض للظالمين فى موقف الحساب والجزاء، وأنهم فى هذا الموقف
81
فى كرب وبلاء، يتنادون بالويل والثبور، وينظر بعضهم إلى بعض فى يأس قاتل، متسائلين: «هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» ؟ أي هل هناك من سبيل إلى الخروج مما نحن فيه، والعودة إلى الحياة الدنيا، لنصلح ما أفسدنا، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل؟ وهيهات هيهات!! قوله تعالى:
«وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» أي وفى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- يرى الرائي، الظالمين وهم يعرضون على النار، ويقفون بين يديها- يراهم خاشعين فى مهانة وذلة وضراعة.. «يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي لا يستطيعون أن يفتحوا أبصارهم على هذا الهول الذي يغفر لهم فاه، بل إن أبصارهم ليصعقها هذا الهول، فترتدّ عنه، ويدعوها الخوف منه، ومحاذرة الوقوع ليده، أن تنظر لترى أين موقعها منه، فلا تكاد تلمحه حتى ترتد عنه.. وهكذا تظل أبصارهم مشدودة إلى هذا الهول، تتحسسه، فى مخالسة، كما يتحسس الأعمى حية التفت بعنقه.!
قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» أي أن المؤمنين حين يرون هذا الموقف الذي يكون عليه الظالمون يوم القيامة.. ينظرون إلى أنفسهم، فيحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء، ويقولون فيما يقولون: «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» أي أنه ليس خسرانا هذا الخسران الذي يفوت الإنسان من حظوظ الحياة الدنيا، فى نفسه، وأهله، وماله.. وإنما الخسران حقّا هو هذا الخسران الذي يلقاه الظالمون
82
فى هذا اليوم، حيث قد صفرت أيديهم من كل شىء، وتقطعت بينهم وبين أهليهم الأسباب، فلا يلقاهم أحد من أولادهم وأهليهم إلا معرضا عنهم، مشغولا بنفسه وبما يعانيه- إن كان من أهل النار- أو مشتغلا عنهم بنعيم الجنة، ومنازعة أهلها طيّب الأحاديث، وكئوس النعيم- إن كان من أهل الجنة..
وفى التعبير بالماضي عن حديث المؤمنين فى هذا اليوم، إشارة إلى أن هذا الحديث، واقع من نفوس المؤمنين موقع اليقين وهم فى هذه الدنيا.. فهم يؤمنون بأن هذا هو الذي لا بد أن يكون يوم القيامة..
قوله تعالى:
«وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» - هو من قول المؤمنين فى الآخرة، وهو قولهم فى الدنيا، وإيمانهم به.. فالمؤمنون على يقين بأن الظالمين لا نصير لهم، ولا مدافع عنهم فى هذا اليوم، فإنهم ممن أضلهم الله، وسلك بهم مسالك الطريق إلى جهنم، فليس لهم سبيل إلى طريق آخر إلى غير هذا المورد الذي هم مساقون إليه..
قوله تعالى:
«اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ.. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» هو دعوة إلى الظالمين، المنحرفين عن طريق الهدى، أن يستجيبوا لربهم، وأن يقبلوا على ما دعاهم إليه من الإيمان به على لسان رسوله، وذلك «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» أي لا مرد لهم فيه إلى الحياة الدنيا، وليس لهم فيه من ملجأ يفرون إليه من هذا العذاب المحيط بهم فيه، وليس لهم فى هذا اليوم من يقوم فيهم مقام المنكر عليهم، ما هم فيه من ضلال، فقد انتهت رسالة
83
الرسل. فلا وعد ولا وعيد، ولا بشير ولا نذير..
قوله تعالى:
«فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» أي فإن أعرض هؤلاء الظالمون المدعوون إلى الاستجابة لله، عن قبول هذه الدعوة: «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» أي فإنك أيها النبي لست مرسلا إليهم لتقوم على حفظهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم: «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» أي ما عليك إلا أن تبلغهم رسالة ربك، وتدعوهم إليه، وتحذرهم بأسه وعقابه، وتبشرهم برحمته ورضوانه.. فإن هم استجابوا لله، بعد أن تبين لهم الرشد من الغى، فقد رشدوا ونجوا، وإن أبوا أن يستجيبوا لله، فليس لك أن تتولى حفظهم، وتأخذ بهم قسرا إلى طريق النجاة.. فإنه «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ».. وإنّ على كل إنسان أن يتولى حفظ نفسه، ووقايتها، وإقامتها على الطريق الذي يختاره لها.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» (٤: الطارق) أي ما كل نفس إلا قائم عليها حافظ، مطلوب منه أن يتولى حفظها، وهو هذا العقل الذي أودعه الله فيها، فإذا لم يوقظ الإنسان هذا الحارس، وينبهه إلى أداء وظيفته، ثم دخل عليه من يستبدّ به، ويستولى عليه، ويورده موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه..
قوله تعالى: «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ».
مناسبة هذا لما قبله، هى أن ما سبق من قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما
84
أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ»
- يشير ضمنا إلى ما فى بعض النفوس من فساد، لا تجد معه مساغا لطعم الخير، ولا اشتهاء له، وأن ذلك طبيعة غالبة فى الإنسان، كذلك من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته رحمة من عند الله، وأصابه خير- كسعة فى الرزق، أو نماء فى الثمر، والولد- لبسته الفرحة، وإن مسه ضر بما قدمت يداه نسى ما ألبسه الله تعالى إياه من نعم، ولم يعد يذكر لله إلا هذا الضرّ الذي أصابه بما صنعت يداه..
وفى إفراد الإنسان فى قوله تعالى: «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» - إشارة إلى كل فرد من أفراد هذا الجنس البشرى- فأل هنا للجنس- إذ أن كل إنسان أيا كان- مؤمنا كان أو كافرا- يفرح بالخير إذا أصابه، ويهشّ له، وتطيب نفسه به..
أما عود الضمير جمعا على الإنسان فى قوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» فذلك لأنه ليس كل إنسان فى حيّز هذا الشرط وجوابه، فيكفر بالله، أو يسىء الظن به فى حال الضر، بل إن الواقعين فى حيز هذا الشرط وجوابه، هم الذين لا يؤمنون بالله مطلقا، أو لا يؤمنون به إيمانا وثيقا، مثل أولئك الذين يعبدون الله على حرف، كما يقول الله تعالى فيهم:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (١١: الحج) فكثير من الناس يقفون هذا الموقف من ربهم..
إن أصابهم خير، رضوا به واطمأنوا إليه، وإن أصابهم شر بما قدمت أيديهم، أنكروا من الله ما كانوا يعرفون.. وقليل من الناس، وهم المؤمنون بالله حقّا- لا تختلف حالهم مع الله أبدا.. فهم على إيمان به، وحمد له، فى السراء
85
والضراء على السواء.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (١٧٧: البقرة)..
وجواب الشرط هنا هو قوله تعالى: «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» أي وإن يصبهم شر بما قدمت أيديهم، فهم جميعا هذا الإنسان الكافر الجحود.. وقد جىء بالجواب جملة اسمية، للإشارة إلى أن هذا الحكم ليس حدثا عارضا فى مجرى حياة الإنسان، بل إن ذلك جبلّة وطبيعة فيه، وأنه إذا كان ثوب النعمة الذي لبسه حينا من الزمن قد ستر منه هذه الطبيعة- فإن الضر الذي أصابه ونزع عنه هذا الثوب- قد كشف عنه ما كان مستورا منه، فظهر على حقيقته، وهو الكفران والجحود!..
وفى قوله تعالى: «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» - إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان من ضرّ هو من صنع يده.. كما يقول الله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (٧٩: النساء).. وأنّ تبدّل أحوال الناس من نعمة وعافية إلى سوء وبلاء، هو بما كسبت أيديهم..
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (٥٣: الأنفال)..
قوله تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ».
86
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة أشارت إلى ما يصيب الناس من خير وشر، وقد أضافت الخير إلى الله سبحانه، وأضافت الضرّ إلى كسب الناس، وحتى لا يقع فى وهم الناس- وخاصة من لا يعرفون الله ولا يقدرونه حقّ قدره- أن ما يصيب الناس من ضرّ هو مسوق إليهم من عند غير الله- حتى لا يقع هذا الوهم، جاء قوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ليدفع هذا الوهم، وليقرر أن كل ما فى السموات وما فى الأرض، وما يجرى فيهما من أمور- هو من عند الله: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (٧٨: النساء)..
فالله سبحانه يخلق ما يشاء، ويهب ما يشاء لمن يشاء.. فيعطى ويمنع، ويثيب ويعاقب..
«يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً»..
فهذا بعض تصريف الله فيما تتعلق به نفوس الناس، من حبّ الولد..
فبعض الناس يهبهم الله إناثا، وبعضهم يهبهم ذكورا، وبعضهم يهبه الذكور والإناث معا: «يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» أي يجعلهم أزواجا، ذكرا وأنثى، لا أن يتزوج بعضهم بعضا، وقد جاء النص القرآنى: «ذُكْراناً وَإِناثاً» للإشارة إلى ما يقع فى نسبة الذكور والإناث من اختلاف، عند من يرزقون الذكور والإناث.. فقد يرزق الإنسان ذكرا وأنثى، أو ذكرا وعددا من الإناث، أو عددا من الذكور وأنثى، أو أعدادا متساوية من الذكور والإناث..
وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» - إشارة إلى الصنف الرابع
87
الذي تكمل به الصورة، التي يكون عليها حال الناس جميعا فى هذا الرزق المقسوم من الولد..
فالناس فى هذا الرزق أربعة أصناف، لا يتجاوزونها..
بعضهم يرزق الإناث، ولا ذكور، وبعضهم يرزق الذكور، ولا إناث..
وبعضهم يرزق الذكور والإناث، وبعضهم عقيم، لا يرزق ذكورا ولا إناثا..
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» تعقيب على هذا الرزق الذي بين يديه سبحانه، والذي يهب منه ما يشاء لمن يشاء.. فهو العليم، بما يهب، ولمن يهب، وهو القدير على ما يشاء من عطاء ومنع.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (٥٤: الأعراف)..
الآيات: (٥١- ٥٣) [سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
88
التفسير:
قوله تعالى:
«وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ»..
[مفهوم جديد.. للحروف فى أوائل السور] بهذه الآية، والآيتين التي بعدها، تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يتم التلاقي بين بدئها وختامها.. فقد بدئت السورة بقوله تعالى:
«حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وختمت ببيان الصور التي يتم بها الاتصال بين الله ورسله، والتي يتلقّون بها كلماته وآياته.. وأن هذه الصور لا تخرج عن أحوال ثلاث..
الصورة الأولى: أن يكون ذلك الاتصال بين الله ورسله «وَحْياً» أي رمزا وإشارة، بحيث لا يعرف دلالة ما يوحى الله سبحانه به إلى الرسول- إلا الرسول وحده..
والصورة الثانية: أن يكون الاتصال بأن يكلم الله الرسول بكلماته التي يريد سبحانه إلقاءها إليه، وذلك من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم، سبحانه وتعالى، حيث لا يمكن أن تقع هذه الرؤية لأبصارنا المحدودة الكاملة، التي لا تتعامل إلا مع ما هو محدود، والله سبحانه وتعالى منزّه عن التجسد، والحدّ.. ولهذا كان قول الله لموسى حين قال:
«رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ».. «قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (١٤٣ الأعراف).
89
الصورة الثالثة: أن يكون ذلك بوساطة رسول من عالم الرّوح، يرسله الله سبحانه وتعالى، حاملا آياته وكلماته التي أذن بها له- إلى الرسول البشرى، فيتلقاها النّبى من رسول السماء.
وقد أشرنا فى أول هذه السورة، عند تفسير قوله تعالى: «حم عسق».. إلى أن هذه الأحرف المقطعة، هى صورة من صور الوحى، وهى الصورة الأولى التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً» فهى- أي هذه الأحرف- من هذا الوحى الرمزى، الذي هو سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين رسوله صلوات الله وسلامه عليه..! وهذا يعنى أن هذه الأحرف معروفة الدّلالة لرسول الله، وإلا لما كان لوحيها إليه حكمة.. وهذا بدوره يدعونا إلى القول بأن الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السّور القرآنية- يجرى عليها هذا المفهوم الذي فهمنا عليه هذه الأحرف المقطعة هنا فى تلك السورة.
والسؤال هنا، هو:
إذا كانت هذه الأحرف وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم، لا يعرف دلالتها إلا الرسول، فلماذا كانت قرآنا، يتلى، ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
وقبل أن نجيب على هذا نسأل: أكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، يعرف دلالة هذه الحروف؟
والجواب على هذا بالإيجاب، وذلك من وجهين:
فأولا: فى قوله تعالى فى أول السورة: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. وقد عاد اسم الإشارة
90
إلى هذه الأحرف، وإلى أنها صورة من صور الوحى، التي يتصل فيها النبىّ بربّه جلّ وعلا.
وثانيا: فى قوله تعالى: فى ختام السورة: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ... الآية».. إشارة إلى أن هذا الوحى هو مما كلم الله به نبيه.. والكلام لا يكون كلاما حتى تكون له دلالة مفهومة عند من يلقى إليه هذا الكلام.. لأن الكلام نقد متداول بين معط وآخذ، ولن تنم عملية المبادلة حتى يكون لهذا النقد قيمة معترف بها بين الطرفين، أو الأطراف المتعاملة به.. وقيمة اللغة هى فى دلالتها، وفى تحديد مفهومها بين المتخاطبين بها..
فكلام الله سبحانه وتعالى لرسله، سواء كان وحيا، أو من وراء حجاب، أو عن طريق رسول سماوى ينقله إلى الرسول البشرى- هذا الكلام الإلهى لا بدّ أن يكون واضح الدلالة، بيّن المفهوم عند الرسول المتلقى لهذا الكلام، قبل كل شىء.. ثم لا يمنع ذلك من أن يكون للناس- وخاصة قوم الرسول- مشاركة فى هذا الفهم، على اختلاف فى درجات هذا الفهم.
من الألف إلى الياء.. على حين تبقى للرسول درجة خاصة من الفهم لا يشاركه فيها غيره! ونعود إلى الاجابة على سؤالنا آنفا، وهو: إذا كانت هذه الأحرف المقطعة، وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم- فلماذا كانت قرآنا يتلى ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟
والجواب على هذا.. والله أعلم.. هو:
أولا: أن اختصاص الرسول الكريم، بفهم خاص، لبعض كلمات وآيات
91
من كلمات الله وآياته، التي يتلقاها وحيا من ربه- ليس هذا الفهم الخاص بالذي يعزل هذه الآيات أو الكلمات عن آيات القرآن وكلماته.. إذ أن هناك آيات وكلمات، تختلف مفاهيم أهل اللغة فيها، وفى تحديد دلالتها، وهى من المتشابه الذي أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ.. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (٧: آل عمران) - ومع ذلك فهى قرآن يقرأ ويتعبد به.
وثانيا: حكمة هذه الحروف المقطعة- وهى المتشابه- أنها دعوة إلى الايمان بالغيب، والتسليم بالتعبد بهذه الأحرف، دون أن يكون للعقل سلطان معها، بعد أن استوفى العقل حقّه، وأعمل كلّ سلطانه مع المحكم من الآيات، واستبان له- بما لا يدع مجالا للشك- أنها من عند الله.. فكان حمله على الإيمان بما لا مفهوم له عنده من كلمات الله، وإحالة ما لم يفهمه على ما فهم- كان ذلك دعوة مجددة له إلى الإيمان القائم على الولاء والتسليم المطلقين..
فذلك هو الإيمان فى صميمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا».. وهذا ما نجده فى بعض أعمال الحج التي يقف العقل أمامها دون أن يجد لها مفهوما يلتقى مع منطقه..
كالطواف، والسعى، ورمى الجمرات، ولمس الحجر الأسود أو تقبيله.. وهذه كلها، وكثير غيرها من أعمال الحجّ، هى من الإيمان القائم على التسليم المطلق لأمر الله، وبمعزل عن سلطان العقل، بعد أن امتلأ القلب إيمانا ويقينا بما تلقى من العقل من إشارات مضيئة من الحجج والبراهين، أضاءت له معالم الطريق الى
92
الله، وإقامته مقاما آمنا مطمئنا على الإيمان به «١».
وثالثا: فى اختصاص الرسول صلوات الله وسلامه عليه بهذا العلم الذي تحمله إليه هذه الأحرف المقطعة، وغيرها من الآيات المتشابهة.. فى هذا- فوق أنه مزيد فضل وإحسان من الله سبحانه لنبيه الكريم- هو تثبيت للنبىّ، فى مقام الدعوة إلى الله، وفى الصبر على ما يكابد من آلام فى سبيل هذه الدعوة، وما يلقى من ضرّ فيما يسوق إليه المشركون والمعاندون من كيد..
ففى هذه الأحرف، يرى الرسول- فيما أراه الله منها، من أنباء الغيب- الطريق الذي تسير فيه دعوته، وما يلقى على هذا الطريق من مواقع الهزيمة والنصر، وما ينتهى إليه هذا الطريق من إعزاز لدين الله، وانتصار لجند الله، وإعلاء لكلمة الله.. وفى هذا ما يعين الرسول الكريم على احتمال الخطوب والأهوال، حيث يجد النصر قريبا منه، يلوح له برايات الأمان، وينتظر سفينته التي تزأر من حولها الأمواج، وقد أعدلها مرفأ الأمن والسلام..
هذا، ويلاحظ أن هذه الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم- قد انتظمها جميعا أمران:
الأمر الأول: أنها جاءت على رأس هذه السور.. وهذا يعنى أنها مفاتح لها، يفتح بها هذا الخير الذي تحمله كل سورة فى آياتها وكلماتها من مواعظ، وأحكام..
ثم يعنى- من جهة أخرى- أنها ذات منزلة خاصة، إذ كانت وحيا مباشرا من الله سبحانه، على خلاف ما تلقى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من آيات ربه وكلماته، بواسطة الرسول السماوي، جبريل عليه السلام.
الأمر الثاني، الذي انتظم هذه الأحرف، أنه قد أعقبها، واتصل بها،
(١) وقد عرضنا لهذا فى مبحث خاص. (انظر تفسير سورة الحج)
93
ذكر القرآن، تنويها به، أو بيانا لما يحمل من هدى ونور، أو إشارة إلى منّة من منن الله على عباده المتقين. أو قسما بجلاله وعظمته، أو تشريفا للأدوات التي تخدم هذا الكتاب، وتعمل فى كتابته.
وما ورد من الحروف المقطعة فى أوائل السور، هو قوله تعالى:
«الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ». (البقرة) - «الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ»..
(آل عمران) - «المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (الأعراف).. «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» (يونس).. «الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود).
«الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (يوسف) «المر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» (الرعد) «الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» (إبراهيم) «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» (الحجر).. «كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (مريم).. «طه» ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (طه) - «طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (الشعراء).. «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» (النمل) «طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (القصص) «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (العنكبوت) «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» (الروم).
«الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» (لقمان).. «يس.. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» (يس)..
«ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (ص).. «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (غافر).. «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ»
94
(فصلت).. «حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الشورى).. «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» (الزخرف، والدخان) «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (الجاثية، والأحقاف)..
«ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» (ق).. «ن.. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» (ن).
هذا ويلاحظ عند النظر فى هذه المفاتح.. أمور.. منها:
أولا: اشتراك بعض السور فى صورة الحروف التي بدئت بها، مثل «الم» فقد بدئت بها «البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان»..
و «الر» التي بدئت بها سور: «يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر»، و «طسم» وقد بدئت بها سورتا «الشعراء والقصص» و «حم» التي كانت بدءا لست سور، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية.
والأحقاف.
والسؤال هنا هو: إذا كانت هذه المفاتح، تحمل دلالات خاصة، هى سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين الرسول الكريم، على هذا التأويل الذي تأولناها عليه- فكيف يتفق أن تتكرر هذه المفاتح؟ وما داعية تكرارها إذا كان السر الذي تحمله، هو فى أىّ منها؟
والجواب على هذا- والله أعلم- هو، أن هذا التكرار فى صورة الحروف، لا يعنى أن تكون محامل الأسرار فيها متماثلة من كل وجه..
وقد قلنا إن هذه الحروف، هى إشارات موحية، وإيماءات دالة.. وعلى هذا، فإنه ليس من الحتم اللازم أن تتحد الإشارتان أو الإشارات فى الصورة، ثم لا يكون اختلاف فى المحتوى والمضمون.. فالكلمة مثلا تختلف دلالتها باختلاف الحال المتلبس بها، والحركة بالعين أو اليد، قد تقع على صورة واحدة ولكن مفهومها يختلف، حسب تأويل المتلقى لها.. والأحلام مثلا، تتفق فى
95
صورتها ويختلف تأويلها.. حسب الأشخاص، وحسب الأحوال الشخص الواحد..
هذه صورة تقربنا من فهم ما نقول به، من أن الاتفاق فى صورة الحروف المكرّرة، لا يعنى الاتفاق فى دلالتها.. بل إن لكل صورة منها دلالة خاصة.. مع العلم بأن الله سبحانه قد وصف هذه الكلمات بأنها وحي، وأنها مما كلم الله به رسله، وقد قلنا إن الكلام لا يكون كلاما إلا إذا كان ذا دلالة مفهومة بين المتكلم، والمتلقى لهذا الكلام.. فكيف بكلام الله سبحانه وتعالى، وما يبلغه من موقع الفهم عند من يكرمه الله، وبكلمة بكلماته.. ؟
وسؤال آخر.. وهو إذا كان لكل صورة من صور هذه الحروف المكررة تأويلا خاصا، ودلالة خاصة.. أفما كان من الأولى- وفى اللغة متسع لهذا- أن يكون لكلّ دلالة صورة من اللفظ خاصة بها؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذا الاشتراك فى اللفظ والاختلاف فى المعنى، هو من مظاهر اللغة العربية التي نزل القرآن بلسانها، بمعنى أن الكلمة الواحدة قد تحمل دلالتين أو أكثر، مثل كلمة العين، التي تدل على عين الماء، والعين المبصرة.
وهذا الاشتراك ليس عن قصور فى مادة اللغة، وإنما هو من بلاغة هذه اللغة وذكاء أهلها.. حيث يفرّقون فى اللفظ المشترك بين المعنى الذي تقتضيه داعية الحال، وبين المعنى الذي لا مقتضى له فى تلك الحال، كما أنهم إذ يأخذون بالمعنى المراد للفظ المشترك فى الحال الداعية له، لا يقطعونه عن المعنى أو المعاني الأخرى التي يحملها فى كيانه..
فإذا جاء القرآن الكريم مستعملا اللفظ المشترك فى تلك الحروف المقطعة- كان جاريا فى هذا على أسلوب اللغة التي نزل بها، وأنه كما جاء باللفظ المشترك
96
فى الوحى الموحى به بوساطة الملك السماوي، جاء كذلك فى الوحى الموحى به من عند الله سبحانه وتعالى، بغير واسطة.. والله أعلم.
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ».
الإشارة هنا إلى قوله تعالى: «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ..»
أي وكما أرسل الله رسولا علويّا يوحى بإذنه ما يشاء إلى أنبيائه، كذلك أرسل هذا الرسول، إلى النبىّ الكريم، يحمل إليه من آيات ربه وكلماته، ما أذن الله سبحانه وتعالى به من وحي.. وفى هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الوحى، والتي كانت هى الصورة الغالبة على تلقّى رسول الله ما يتلّقى من وحي ربه..
أما الصورة الأخرى التي كان يتلقى فيها النبي كلمات ربه، فهى ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى أول هذه السورة بقوله: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. فالإشارة هنا، إلى هذه الأحرف المقطعة التي تلقاها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحيا من ربه، دون وساطة رسول سماوى.. على ما ذهبنا إليه من تأويل لهذه الآية، والذي نرجو أن يكون على منهج الحق والصواب.
والروح فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» يحتمل دلالتين: أولاهما: الدلالة على رسول الوحى، وهو جبريل عليه السلام، فهو روح من عند الله.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» (١٩٣- ١٩٤ الشعراء)
97
وثانيتهما: الدلالة على القرآن الكريم، فهو كلام الله.. وكلامه سبحانه وتعالى روح منه. كما يقول سبحانه وتعالى عن مريم: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (١٢: التحريم).. ثم يقول سبحانه عن هذه النفخة: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (١٧١: النساء) فالنفخة التي تلقتها مريم من روح الله، هى الكلمة التي ألقاها الله سبحانه وتعالى إليها..
وهذا يعنى أن القرآن روح، من روح الله، وأن الذي حمله إلى الرسول روح من روح الله كذلك.. فهو روح، يحمله روح.. وهذا يعنى من جهة أخرى، أن القرآن الكريم حياة وروح تلبس النفوس المستعدة لاستقبالها، كما تلبس الحياة والأرواح الأجساد، بعد أن يتم تكوينها، وتصبح مهيأة لاستقبالها.. وكما أن كل جسد يلبس من الأرواح بقدر ما هو مستعدّ له، كذلك النفوس، يفاض عليها من روح القرآن، على قدر ما هى مستعدة له، ومهيأة لقبوله..
وقوله تعالى: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» - هو بيان لحال النبي قبل أن يتلقى رسالة السماء، وما تحمل إليه من كلمات ربه.. وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن قبل هذا التلقي يدرى شيئا عن هذا الكتاب، أي القرآن الذي تلقاه من ربه.. كما يقول الله سبحانه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» (٣: يوسف) وفى قوله تعالى: «وَلَا الْإِيمانُ» - ما يسأل عنه، وهو: ما الإيمان الذي كان لا يعرفه النبي قبل النبوة؟ وعلى أي دين كان يدين؟
ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان على دين الفطرة
98
وهو دين إبراهيم عليه السلام.. فقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- مؤمنا بإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد بالخلق والأمر.. أما ما لم يكن يعرفه النبي من الإيمان، فهو ما يتصل بالشريعة التي تتصل بهذا الإيمان، والتي جاء القرآن الكريم مبيّنا لها.. فالإيمان: قول، وعمل.. عقيدة، وشريعة..
وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعرف الجانب العقيدى، ويتعبد لله عليه، قبل البعثة.. أما الجانب التشريعي، فلم يكن يعلم منه شيئا إلى أن تلقاه وحيا من ربه، فى أحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفيما أحل الله، أو حرم..
فنفى علم النبي بالإيمان قبل الوحى، ليس على إطلاقه، وإنما هو نفى لتمام العلم بالإيمان كله، عقيدة وشريعة..
قوله تعالى: «وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا»..
الضمير فى جعلناه، يعود إلى الروح الموحى به من أمر الله، أو إلى الكتاب..
وفى قوله تعالى: «جَعَلْناهُ نُوراً» - إشارة إلى ما يحمل القرآن من هدى ونور، يكشف معالم الطريق إلى الله..
وفى قوله تعالى: «نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» - إشارة أخرى إلى أن هذا النور، لا يهتدى به إلا من شاء الله سبحانه وتعالى له الهداية من عباده، فهو رزق من رزق الله، «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» - إشارة ثالثة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو نور من هذا النور، وأنه معلم من معالم الحق، يهدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وذلك فى سنته القولية والعملية.. وهذا يعنى أن السنة المطهرة- قولية وعملية- هى من هذا النور السماوي.
99
وقوله تعالى: «صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» هو بدل من «صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» - أي أن هذا الصراط المستقيم الذي يهدى إليه الرسول من شاء الله سبحانه وتعالى لهم الهداية من عباده- هذا الصراط، هو صراط الله، ودينه القويم، الذي رضيه لعباده، كما يقول سبحانه:
«وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (١٥٣ الأنعام) وقوله تعالى: «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» تعقيب على ما تقرر فى قوله تعالى: «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وهو أنه سبحانه- بما له من سلطان مطلق فى هذا الوجود كله، فى أرضه وسمائه- يردّ إليه كل أمر، ويرجع إليه كل شىء.. فلا يقع أمر إلا يإذنه، وعلمه وتقديره. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ»..
100
٤٣- سورة الزخرف
نزولها: مكية.. إجماعا.
عدد آياتها: تسع وثمانون آية.
عدد كلماتها: ثمانمائة وثلاث وثلاثون.. كلمة.
عدد حروفها: ثلاثة آلاف وأربعمائة.. حرف:
مناسبة السورة لما قبلها
جاء فى أول سورة الشورى: «حم، عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».. وقد قلنا فى تأويل هذه الآية: إن الوحى المشار إليه هنا، هو الوحى بتلك الحروف المقطعة، التي هى من كلام الله سبحانه وتعالى، لنبيه الكريم، من غير وساطة ملك، وإن هذا الوحى هو أشبه بالرمز والإشارة، بحيث لا يفهم ماوراء الرمز والإشارة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم..
ثم جاء قوله تعالى: فى أول سورة الزخرف هذه: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» فكان فى هذا إشارة إلى ما يوحى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- من آيات الله وكلماته، عن طريق الرسول السماوي، جبريل عليه السلام، مع ما تلقاه وحيا مباشرا من ربه..
وهذا الوحى به عن هذا الطريق، - طريق الرسول السماوي- هو الذي يشارك أهل اللسان العربي، النبىّ- صلى الله عليه وسلم- فى فهم دلالات ألفاظه، ومعانى آياته، لأنه بلسانهم الذي يتكلمون به، وبألفاظهم التي يتعاملون بها.. فليس إذن كلّ القرآن من هذا الوحى
101
الرمزى، الذي اختصّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بفهمه والعمل به، دون أن يطالب غيره من المؤمنين بالبحث عن دلالته، وإن كانوا مطالبين بالتعبد بتلاوته.
ومن جهة أخرى، فإنه قد جاء فى ختام سورة الشورى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ»..
ثم كان قوله تعالى فى مفتتح سورة الزخرف: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» - بيانا لهذا النور، الذي يهدى إلى صراط الله، وهو أنه قرآن كريم، بلسان عربى مبين، وأنه بهذا اللسان هو نعمة جليلة أنعم الله بها على العرب، الذين كان معهم وحدهم مفاتح الطريق إلى هذا النور، وكان إليهم قيادة الناس جميعا إلى الهدى.. ثم كان قوله تعالى بعد ذلك: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» - تهديدا لهؤلاء الذين جعل الله إلى أيديهم مفاتح هذا النور أن يصرف عنهم هذا العطاء الجزيل، إذا هم لم يقبلوه، ويحسنوا الانتفاع به.. وبهذا، وبكثير غيره مما سنراه عند وقوفنا بين يدى هذه السورة، نجد التآخى بين السورتين، ذلك التآخى الموصول بين آيات القرآن كلها، وسوره.. آية آية، وسورة سورة..
102
Icon