تفسير سورة الجاثية

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الجاثية من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

وعظائم الأمور، ثم بين أن عاقبتهم النار، وبئس القرار، ولا تنفعهم أصنامهم شيئًا، ولا تدفع عنهم ما قدر لهم من العذاب.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (١) فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته، ووحدانيته.. أردف بذكر آثارها، فمن ذلك تسخير السفن في البحار، حاملة للأقوات والمتاجر، رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم، ومنها تسخيره ما في السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال لتنتفعوا بها في مرافقكم وشؤونكم المعيشية، ثم أمر المؤمنين بأحسن الأخلاق، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين، ويحتملوا أذاهم، وعند الله جزاؤهم، فمن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها، ويوم القيامة يعرضون على ربهم، ويجازي كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (٢) فيما سلف من آيات ربوبيته، ووحدانيته، تسخير السفن في البحار، حاملةً للأقوات والمتاجر، وتسخير ما في السموات والأرض.. بين هنا، أنه أنعم علي بن ي إسرائيل بنعم كثيرة، وقد حصل بينهم الاختلاف بغيًا وحسدًا، تسليةً لرسوله - ﷺ -، بأن قومه ليسوا ببدع في الأمم، بل طريقهم طريق من تقدمهم، ثم أمر رسوله بأن يتمسك بالحق، ولا يكون له غرض سوى إظهاره، ولا يتبع أهواء الجاهلين الضالين، ثم ذكر أن القرآن معالم للهداية، تهتدي به القلوب الضالة عن طريق الحق، فتلزم العبادة وتصل إلى طريق النجاة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١)﴾؛ أي: هذه (٣) السورة مسماة بـ ﴿حم﴾، فهو خبر لمبتدأ
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
محذوف، إن جعلناه اسمًا للسورة، أو مبتدأ خبره ما بعده، وإن جعل حروفًا مسرودة على نمط التعديد، فلا محل له من الإعراب. وفي "التأويلات النجمية": يشير بالحاء إلى حياته، وبالميم إلى مودته، كأنه قال: أقسمت بحياتي ومودتي لأوليائي،
٢ - ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾؛ أي: تنزيل القرآن المشتمل على السور مطلقًا، خصوصًا هذه السورة الجليلة، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: واقع منه سبحانه وتعالى، والجملة جواب القسم، فدل على أن القرآن حق وصدق ﴿الْعَزِيزِ﴾ فدل على أنه معجز، غالب غير مغلوب ﴿الْحَكِيمِ﴾ فدل على أنه مشتمل على حكم بالغة، وعلى أنه ناسخ غير منسوخ، فليس كما يزعم المبطلون، من أنه شعر أو كهانة، أو تقول من عنده - ﷺ -، ممكن معارضته، وأنه كأساطير الأولين مثل حديث رستم، وإسفنديار وغيرهما، فيجب أن يعرف قدره، وأن يكون الإنسان مملوءًا به صدره.
والمعنى: تنزيل هذا الكتاب واقع من الله العزيز في ملكه، الحكيم في أمره وقضائه.
٣ - ثم أخبر سبحانه، بما يدل على قدرته الباهرة، فقال: ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: إن في خلقهما، وخلق ما فيهما من آثار القدرة كالكواكب، والجبال والبحار، ونحوها ﴿لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: لشواهد الربوبية لأهل التصديق، وأدلة الإلهية لأهل التوفيق، خص المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بتلك الآيات والدلالات، فإنهم يستدلون بالمخلوق على الخالق، وبالمصنوع على الصانع، فيوحدونه، وهو أول الباب، ولذا قدم الإيمان على الإيقان، ولعل (١) الوجه في طي ذكر المضاف هنا، وهو الخلق، وإثباته في الآية الآتية أن خلق السموات والأرض ليس بمشهود للخلق، وإن كانتا مخلوقتين، كما قال تعالى: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بخلاف خلق الإنسان، وما يلحق به من خلق سائر الدواب، فإنه كما أنه يستدل بخلقه على خالقه، فكذا يشاهد خلقه وتوالده،
(١) روح البيان.
فتكون المخلوقية فيه أظهر من الأول، هكذا لاح بالبال، والله أعلم بحقيقة الحال.
ومعنى الآيتين (١): أي إن هذا الكتاب الكريم، أنزله العزيز الغالب، القاهر لكل شيء، الحكيم في تدبيره لكل ما خلق، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية، والروحية، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد في النبات والحيوان والأجسام الإنسانية، ودوران الكواكب وانتظامها في سيرها، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة في صنعها، ومن ثم، أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة، فقال: إن في السموات السبع، اللاتي منهن ينزل الغيث، وفي الأرض التي منها يخرج الخلق، لأدلةً واضحةً للمصدقين بالحجج، إذا تأملوها، وفكروا فيها تفكير من سلك السبيل القويم، فيرتب المقدمات ليصل منها إلى النتائج التي هي لازمة لها، بحكم النظام الفكري، والترتيب العقلي.
٤ - وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي في الآفاق، أتبعها بذكر الأدلة التي في الأنفس، فقال: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ أنفسكم أيها الإنسان من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة متقلبة في أطوار، مختلفة إلى تمام الخلق ﴿وَ﴾ في خلق ﴿مَا يَبُثُّـ﴾ ـه الله سبحانه وتعالى وينشره، ويفرقه في الأرض، حال كونه ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وحيوانات تدب على الأرض، وما الموصولة معطوفة على المضاف إليه، والمعنى: وفي خلق ما ينشره الله تعالى، ويفرقه من دابة، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها، وأشكالها، وكئرة أنواعها، وأضمر ذكر الله هنا، لقرب العهد منه بخلافه في قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ كما سيأتي. ﴿آيَاتٌ﴾ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر، خبره الظرف المقدم، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة المصدرة بإنّ ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: لقوم من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه، واليقين علم فوق المعرفة والدراية، ونحوهما، وبينه وبين الإيمان فروق كثيرة، وحقيقة الإيمان هو اليقين، حين باشر الأسرار بظهور الأنوار، ألا ترى كيف سأل رسول الله - ﷺ - بقوله: "اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا ليس بعده كفر".
(١) المراغي.
يقول الفقير: لم يقل: للموقنين كما قال للمؤمنين، إشارةً إلى قلة هذا الفريق بالنسبة إلى الأول. وخص الإيقان بخلق الأنفس؛ لأن ما قبله من الإيمان بالآفاق، وهو ما خرج عنك، وهذا من الإيمان بالأنفس، وهو ما دخل فيك، وهذا أخص درجات الإيمان، فإنه إذا أكمل الإيمان في مرتبة الإيمان بترقي العبد إلى المشاهدة في مرتبة الأنفس، فكمال اليقين إنما هو في هذه المرتبة، لا في تلك المرتبة؛ لأن العلم بما دخل فيك أقوى منه بما خرج عنك، إذ لا يكذبه شيء، ولذا جاء العلم الضروري أشد من العلم الاستدلالي، وضم خلق الدواب إلى خلق الإنسان لاشتراك الكل في معنى الجنس، فافهم جدًا، واقنع.
وفي "التأويلات النجمية": أن العبد إذا أمعن نظره في حسن استعداده ظاهرًا وباطنًا، وأنه خلق في أحسن تقويم، ورأى استواء قده وقامته، وحسن صورته وسيرته، واستكمال عقله وتمام تمييزه وما هو مخصوص به في جوارحه وجوانبه، ثم تفكر فيما عداه من الدواب وأجزائها وأعضائها وأوصافها وطباعها.. وقف على اختصاص وامتياز بني آدم بين البرية من الجن في الفهم والعقل والتمييز ثم في الإيمان ومن الملائكة في حمل الأمانة، وتعلم علم الأسماء.
والمعنى: أي وإن في خلق الله إياكم على أطوار مختلفة من تراب، ثم من نطفة إلى أن تصيروا أناسي، وفي خلق ما تفرق في الكون من الدواب لحججًا لقوم يوقنون بحقائق الأشياء، فيقرونها بعد العلم بصحتها.
٥ - ﴿وَ﴾ في ﴿اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بتعاقبهما أو بتفاوتهما طولًا وقصرًا، أو بسواد الليل، وبياض النهار ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ عطف على ﴿اختلاف﴾ ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾؛ أي: مطر، وهو سبب الرزق، عبر عنه بذلك تنبيهًا على كونه آية من جهتي القدرة والرحمة ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ بأن أخرج منها أصناف الزروع والثمرات والنباتات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ أي: بعد يبسها، وعرائها عن آثار الحياة، وانتفاء قوة التنمية عنها، وخلو أشجارها عن الثمار، ففيه (١) تشبيه للرطوبة الأرضية بالروح الحيواني في كونها مبدأ التوليد، والتنمية، وتشبيه زوالها بزوال الروح وموت
419
الجسد ﴿وَ﴾ في ﴿تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾؛ أي: وفي تحويلها من جهة إلى أخرى، وتبديلها من حال إلى حال، إذ منها مشرقية ومغربية وجنوبية وشمالية وحارة وباردة ونافعة وضارة.
وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود، إما للإيذان بأنه آية مستقلة، حيث لو روعي الترتيب الوجودي، لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح، وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آيةً ليس لمجرد كونه مبدا لإنشاء المطر، بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار ﴿آيَاتٌ﴾ ودلالات على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: يستعملون عقولهم في مصنوعات الله تعالى، ويتأملون فيها، فيثبتون وجود صانعا وعظيم قدرته، وباهر حكمته.
والمعنى (١): أي وإن في تعاقب الليل والنهار عليكم، هذا بظلمته وسواده، وذلك بنوره وضيائه، وفيما أنزل الله من السماء من مطر تحيا به الأرض بعد موتها، فتهتز بالنبات والزرع من بعد جدوبها وقحوطها، فتخرج أرزاق العباد وأقواتهم، وفي تصريف الرياح لمنافعكم شماليةً مرة، وجنوبية أخرى، صبًا مرة، ودبورًا أخرى، لأدلة وحججا لله على خلقه، الذي يعقلون عنه حججه، ويفهمون ما وعظهم به من الآيات والعبر.
وقصارى ما سلف كله: أنكم إذا تأملتم الحكم المنبثة في السموات والأرض.. آمنتم بوحدة خالقها وقدرته، فإذا ازددتم علمًا.. ازداد تثبتكم وفهمكم، فصرتم موقنين بها؛ لأن الإيقان يكون بتوافر الأدلة وتكاثرها، ومتى أيقنتم بجمال هذا الكون وحسن نظامه.. أصبحتم من ذوي العقول الناضجة، والأفكار النافذة في أسرار هذا الكون، وبديع صنعه، فتستطيعون أن تنتفعوا بما فيه، وتسخروه لمنافعكم في هذه الحياة المليئة بالمطالب.
وإجمال ذلك: أن أول المراتب الإيمان بالله، فإذا ازداد المرء علمًا وحكمة
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
420
وبحثًا في دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنًا به وكلما ازداد بحثًا، ازداد عقله دراية، وفهما لأسرار هذا الكون، فسخره لمنافعه، واستفاد من نظمه التي وجد عليها، وعرف أنه لم يخلق عبثًا، بل خلق للانتفاع بما في ظاهره وباطنه، علويه وسفليه، أرضه وسماله، نوره وظلامه، فكأنه يقول: إنا أمرناكم بالنظر في العالم لتؤمنوا، فإذا ازددتم نظرًا أيقنتم بي، وذلك كله مما يربي عقولكم، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية.
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: لم ختم (١) الآية الأولى بقوله ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، والثانية بقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، والثالثة بقوله ﴿يَعْقِلُونَ﴾.
قلتُ: لأنه تعالى، لما ذكر العال ضمنًا، ولا بد له من صانع، موصوف بصفات الكمال، ومن الإيمان بالصانع، ناسب ختم الأولى ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ولما كان الإنسان أقرب إلى الفهم من غيره، وكان فكره في خلقه وخلق الدواب، مما يزيده يقينًا في إيمانه، ناسب ختم الثانية بقوله: ﴿يُوقِنُونَ﴾، ولما كان جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وما ذكره معهما مما لا يدرك إلا بالعقل، ناسب ختم الثالثة بقوله: ﴿يَعْقِلُونَ﴾، انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿آيَاتٌ﴾ جمعًا بالرفع فيهما، وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب: بالنصب فيهما، وزيد بن علي: برفعهما على التوحيد، وقرأ أبي وعبد الله: ﴿لآيات﴾ فيهما كالأولى، وتنكير آيات (٣) في المواضع الثلاثة للتفخيم كما وكيفا، والعقل يقال: للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
فَإِنَّ الْعَقْلَ عَقْلَانِ فَمَطْبُوْعٌ وَمَسْمُوْعُ
وَلَا يَنْفَعُ مَطْبُوْعٌ إِذَا لَمْ يَكُ مَسْمُوْعُ
(١) فتح الرحمن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
421
كَمَا لَا تَنْفَعُ الشّمْسُ وَضَوْءُ الْعَيْنِ مَمْنُوْعُ
وإلى الأول أشار النبي - ﷺ - بقوله: "ما خلق الله خلقًا، أكرم عليه من العقل". وإلى الثاني أشار بقوله: "ما كسب أحد شيئًا، أفضل من عقل يهديه إلى هدى، أو يرده عن ردى"، وهذا العقل هو المعني بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، وكل موضع ذم الكفار بعدم العقل، فإشارة إلى الثاني دون الأول، وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل، فإشارة إلى الأول، كما في "المفردات".
والمعنى (١): لقوم ينظرون بعيون عقولهم، ويعتبرون لأنها دلائل واضحة على وجود صانعها وعظيم قدرته وبالغ حكمته، وخص العقلاء بالذكر؛ لأنه بالعقل يمكن الوقوف على الدلائل. يقول الفقير: لعل سر تخصيص العقل بهذا المقام، وتأخيره عن الإيمان والإيقان، أن هذه الآية دائرة بين علوي وسفلي وما بينهما، وللعقل مدخل تعقل كل ذلك، واشتراك بين الإيمان والإيقان، فافهم جدًا.
٦ - ﴿تِلْكَ﴾ الآيات القرانية من أول السورة إلى هنا، وهو مبتدأ، وخبره قوله: ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، المنبهة على الآيات التكوينية ﴿نَتْلُوهَا﴾ ونقرؤها ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد بواسطة جبريل، حال كوننا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: محقين، أو حال كون الآيات متلبسةً بالحق والصدق، بعيدةً من الباطل والكذب، وقرىء ﴿يتلوها﴾ بياء الغيبة عائدًا على الله، وقال في "بحر العلوم": نتلوها عليك، حال عاملها معنى الإشارة، كأنه قيل: نشير إليها متلوة عليك، تلاوة متلبسة بالحق مقترنة به، بعيدةً من الباطل واللعب والهزل، كما قال: ﴿وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤)﴾، انتهى. ويجوز أن تكون إشارةً إلى الدلائل المذكورة؛ أي: تلك دلائله الواضحة على وجوده ووحدته وقدرته وعلمه وحكمته نتلوها عليك؛ أي: بتلاوة النظم الدال عليها ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ من الأحاديث، وخبر من الأخبار ﴿بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ﴾؛ أي: وبعد آيات الله، وتقديم الاسم الجليل لتعظيمه، كما في قولهم: أعجبني زيد
(١) روح البيان.
وكرمه، يريدون أعجبني كرم زيد، ونظيره قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ فإن اسم الله هنا أيضًا، مذكور بطريق التعظيم كما سبق هناك، أو معنى: بعد الله؛ أي: بعد حديث الله الذي هو القرآن، حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ وهو المراد بآياته أيضًا، ومناط العطف التغاير العنواني ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ يعني: أن القرآن من بين الكتب السماوية معجزة باهرة، فحيث لم يؤمنوا به، فبأي كتاب بعده يؤمنون؛ أي: لا يؤمنون بكتاب سواه، وقيل: المعنى القرآن آخر كتب الله، ومحمد - ﷺ - آخر رسله، فإن لم يؤمنوا به، فبأي كتاب يؤمنون، ولا كتاب بعده ولا نبي.
وقرأ (١) أبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بالياء التحتانية، وقرأ الأعمش، وباقي السبعة: ﴿تؤمنون﴾ بتاء الخطاب، وقرأ طلحة: ﴿توقنون﴾ بالتاء من فوق، وبالقاف من الإيقان والمعنى: يومنون بأي حديث، وإنما قدم الجار عليه؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام.
والمعنى (٢): أي هذه آيات القرآن بما فيها من حجج، وبينات نتلوها عليك، متضمنة للحق، فبأي حديث أيها القوم، بعد حديث الله الذي يتلوه على رسوله، وبعده حججه وبرهاناته، التي دلكم بها على وحدانيته، تصدقون إن كذبتم به.
والخلاصة: إذا كنتم لا تؤمنون بهذه الآيات، ولا تنقادون لها فبم تؤمنون وإلام تنقادون.
٧ - وبعد أن بين للكفار آياته، وذكر أنهم إن لم يؤمنوا بها فبأي حديث بعدها يؤمنون، أتبعه بالوعيد العظيم لهم، فقال: ﴿وَيْلٌ﴾؛ أي: عذاب شديد كائن ﴿لِكُلِّ أَفَّاكٍ﴾؛ أي: لكل كذّاب ﴿أَثِيمٍ﴾؛ أي: كثير الإثم مرتكب لما يوجبه؛ أي: فالويل أشد الويل، والعذاب أقسى العذاب لكل كذاب، في قوله أثيم في فعله،
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
٨ - وبعد أن وصف ذا الأفاك بالإثم أولًا. أتبعه بوصفه بالاستكبار عن سماع الآيات، فقال: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ﴾ صفة أخرى لأفاك، والمراد: آيات القرآن؛ لأن السماع إنما يتعلق بها، وكذا التلاوة في قوله: ﴿تُتْلَى﴾ وتقرأ تلك الآيات ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على ذلك الأفاك، والجملة حال من ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾. ﴿ثُمَّ يُصِرُّ﴾ ويقيم ذلك الأفاك على كفره، ويدوم عازمًا عليه عاقدًا. قال في "المفردات": الإصرار: التعقد في الذنب، والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه، وأصله: من الصر؛ أي: الشد، والصرة ما يعقد فيها الدراهم، أو من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صارًا؛ أي: ضاما أذنيه على رأسه، حال كونه ﴿مُسْتَكْبِرًا﴾ عن الإيمان بما سمعه من آيات الله تعالى، والإذعان بما نطق به من الحق، مزدريًا لها معجبًا بما عنده من الأباطيل، وكان (١) النضر بن الحارث بن عبد الدار، وقد قتل صبرًا، يشتري من أحاديث العجم مثل حديث رستم وإسفنديار، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، فوردت الآية ناعيةً عليه وعلى كل من يسير سيرته فيما هم فيه من الشر والفساد، وذلك التعميم لكلمة الإحاطة والشمول، وكلمة ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد الإصرار، والاستكبار بعد سماع الآيات، التي حقها أن تذعن لها القلوب، وتخضع لها الرقاب، فهي محمولة على المعنى المجازي؛ لأنه الأليق بمرام المقام، وإن كان يمكن العمل على الحقيقة أيضًا، باعتبار منتهى الإصرار ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾؛ أي: يصر مستكبرًا كأنه لم يسمع تلك الآيات، و ﴿كَأَنْ﴾ مخففة، واسمها ضمير الشأن، والجملة حال من فاعل ﴿يُصِرُّ﴾؛ أي: ثم يصر على كفره مستكبرًا، مشابها حاله حال من لم يسمعها؛ أي: مشبهًا بغير السامع في عدم القبول، والانتفاع ﴿فَبَشِّرْهُ﴾؛ أي: فبشر يا محمد ذلك الأفاك على إصراره واستكباره، وعدم استماعه إلى الآيات ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي: وجيع؛ أي: أنذره بعذاب شديد، فإن ذكر العذاب قرينة على الاستعارة، استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر السرور في المخبر به، للإنذار الذي هو ضده، بدخال الإندار في جنس البشارة على سبيل التهكم والاستهزاء، هذا
(١) روح البيان.
إذا أريد المعنى المتعارف للبشارة، وهو الخبر السار، ويجوز أن يكون على الأصل، فإنها بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في بشرة الوجه بالتغيير، وهو يعم خبر السرور والحزن، ولذا قال في "كشف الأسرار"؛ أي: أخبره خبرًا يظهر أثره على بشرته من الترح، وعبارة أبي حيان: فمعنى (١) ﴿ثُمَّ﴾، الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعدما رآها، وعاينها شيء يستبعد في العادة والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة، القاطعة بالحق من تليت عليه وسمعها، كان مستبعدًا في العقول إصراره على الضلالة عندها، واستكباره عن الإيمان بها.
والمعنى (٢): أي إذا سمع آيات الله تقرأ عليه، وهي مشتملة على الوعد والوعيد والإنذار والتبشير والأمر والنهي والحكم والآداب، أصر على الكفر بها وجحدها عنادًا، كأنه ما سمعها، ثم أوعده على ما فعل عذابًا أليمًا في نار جهنم، فقال: فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم، الموجع في جهنم، وبئس القرار، وفي تسمية هذا الخبر المخزي بشرى، وهي لا تكون إلا في الأمر السار، تهكم بهم، واحتقار لشأنهم، فهو من وادي قولك للكافر: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)﴾، وقول الشاعر:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ
٩ - ﴿وَإِذَا عَلِمَ﴾ ذلك الأفاك ﴿مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا﴾؛ أي: إذا بلغه من آياتنا شيء، وعلم أنه من آياتنا، لا أنه علمه كما هو عليه، فإنه بمعزل من ذلك، قرأ الجمهور (٣): ﴿عَلِمَ﴾ بفتح العين، وكسر اللام مخفة على البناء للفاعل، وقرأ قتادة، ومطر الوراق على البناء للمفعول، والمعنى: أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله سبحانه وتعالى: ﴿اتَّخَذَهَا﴾؛ أي: الآيات كلها ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: مهزوءًا بها لا ما سمعه فقط، وقيل: الضمير في ﴿اتَّخَذَهَا﴾ عائد إلى ﴿شَيْئًا﴾ لأنه عبارة عن الآيات، فالتأنيث باعتبار المعنى، والأول أولى؛ أي: وإذا وصل إليه
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
خبرها وبلغه شيء منها جعلها هزوا، وسخريةً. فقد رُوي: أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾ دعا بتمر وزبد، وقال لأصحابه: تزقموا من هذا، ما يعدكم محمد - ﷺ - إلا شهدًا، وحين سمع قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾؛ أي: على النار، قال: إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.
ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الأفاكون المتصفون بتلك الصفات، فالإشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من القبائح، والجمع باعتبار شمول كل، كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار كل واحدٍ واحد ﴿لَهُمْ﴾ بسبب جناياتهم المذكورة ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ﴾؛ أي: عذاب يهينهم، ويذلهم في نار جهنم، ويذهب بعزهم بما كانوا في الدنيا يستكبرون عن طاعة الله واتباع آياته واتخاذها هزوًا، ووصف (١) العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم، واستهزائهم بآيات الله
١٠ - ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾؛ أي: جهنم كائنة من قدامهم؛ لأنهم متوجهون إلى ما أعد لهم؛ أي: من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا، والتكبر عن الحق، جهنم فإنها من قدامهم؛ لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن المقدام كقوله: ﴿وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ﴾، وقول الشاعر:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِيْ
أو المعنى: من خلفهم؛ لأنهم معرضون عن ذلك، مقبلون على الدنيا، فإن الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام؛ أي: يسترها ﴿وَلَا يُغْنِي﴾؛ أي: لا يدفع ﴿عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا﴾ وجمعوا من الأموال والأولاد، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ﴿شَيْئًا﴾ من عذاب الله، فيكون مفعولًا به، أو لا يغني عنهم في دفع ذلك شيئًا من الإغناء؛ أي: إغناءً قليلًا، فيكون مصدرًا، يقال: أغنى عنه إذا كفاه، وقوله: ﴿وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ معطوف على ﴿مَا كَسَبُوا﴾؛ أي: ولا ينفعهم أيضًا ما عبدوه من دون الله من الأصنام،
(١) روح البيان.
وتوسيط (١) حرف النفي بين المعطوفين، مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى، من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعًا، مبني على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم، وقيل: زيادة ﴿لا﴾ في الجملة الثانية للتأكيد. و ﴿ما﴾ في الموضعين، إما مصدرية أو موصولة.
والمعنى (٢): أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد، ولا تغني عنهم أصنامهم التي عبدوها من عذاب الله شيئًا ﴿وَلَهُمْ﴾ فيما وراءهم من جهنم ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لا يعرف كنهه، ولا يقادر قدره؛ أي: بالغ إلى أقصى الغايات في كونه ضررًا.
١١ - وقوله: ﴿هَذَا هُدًى﴾ جملة مستأنفة؛ أي: هذا القرآن هدى للمهتدين به؛ أي: في غاية الكمال من الهداية، كأنه نفسها، كقولك: زيد عدل ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ القرآنية ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ﴾؛ أي: من أشد العذاب ﴿أَلِيمٌ﴾ بالرفع صفة عذاب.
والمعنى: أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول، هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم، لمن اتبعه وعمل بما فيه، والذين جحدوا بآياته الكونية في الأنفس والآفاق، وآياته المنزلة على ألسنة رسله، لهم العذاب المؤلم، الموجع يوم القيامة، وقرأ (٣) طلحة وابن محيصن وأهل مكة وابن كثير وحفص: ﴿أَلِيمٌ﴾ بالرفع صفة لـ ﴿عذاب﴾ وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وباقي السبعة: بالجر نعتًا لرجز
١٢ - ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: الإله الذي يستحق منكم العبادة، هو الإله ﴿الَّذِي سَخَّرَ﴾ وذلل ﴿لَكُمُ الْبَحْرَ﴾؛ أي: جعله على صفة، تتمكنون بها منه الركوب عليه، بأن جعله أملس السطح؛ أي: مستويه يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب، ولا يمنع الغوص والخرق لميعانه، فإنه لو جعل خشن السطح، بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض لم يتيسر جرى الفلك عليه، وكذا لو جعله بحيث لا تطفو عليه الأخشاب ونحوها، بل تسفلت وغرقت فيه، لم يتيسر ذلك أيضًا، ولو
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
جعله صلبًا مصمتًا، يمنع الغوص فيه، لم يمكن تحصيل المنافع المترتبة على الغصرص ﴿لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: بإذنه وتيسيره وأنتم راكبوها ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ بالتجارة والغوص على اللؤلؤ والمرجان، ونحوها من منافع البحر ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾؛ أي: ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك بالإقرار بوحدانية المنعم بها، والحكمة (١) في هذا التسخير مختصة بالإنسان لا بالفلك، سخر البحر والفلك له، وسخره لنفسه ليكون خليفته، ومظهرًا لذاته وصفاته نعمةً منه، وفضلًا لإظهار الكتز المخفي، فبحسب كل مسخر من الجزئيات والكليات، يجب على العبد شكره، وشكره أن يستعمله في طلب الله بأمره، ولا يستعمله في هوى نفسه، وله أن يعتبر من البحر الصوري، والذين يركبون البحر فربما تسلم سفينتهم، وربما تغرق كذلك العبد في فلك الاعتصام، في بحار التقدير، يمشي به في رياح المشيئة، مرفوع له شراع التوكل، مرسى في بحر اليقين، فإن هبت رياح العناية، نجت السفينة إلى ساحل السعادة، وإن هبت نكباء الفتنة، لم يبق بيد الملاح شيء؛ وغرقت في لجة الشقاوة، فعلى العبد أن يبتغي فضل الله، ويسعى في الطلب بأداء شكر النعم، كما في "التأويلات النجمية".
والمعنى (٢): أي إن ذلك الخالق الواحد، الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده، هو الذي يسَّر لكم استخدام البحر، لتجري فيه السفن بإذنه وقدرته، حاملةً أقواتكم ومتاجركم، لتقوم بشؤونكم المعيشية، ولتطلبوا رزق ربكم منه يالغوص للدر تارةً، والصيد تارةً أخرى، ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم، التي تحصلِ لكم بسبب هذا التسخير للبحر، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم وينهاكم عنه
١٣ - ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الموجودات، بأن جعلها مدارًا لمنافعكم؛ أي: سخر لكم أيها العباد جميع ما خلقه في سمواته وأرضه؛ مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، ومما سخره لكم من مخلوقات السموات الشمس، والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، ومن مخلوقات الأرض الدواب والأشجار والجبال مثلًا ﴿جَمِيعًا﴾ إما حال من {مَا فِي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
428
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، أو تأكيد له ﴿مِنْهُ﴾ صفة لـ ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: كائنًا منه تعالى، أو حال من ﴿ما﴾؛ أي: سخر لكم هذه الأشياء كائنةً منه مخلوقة له، أو خبر لمحذوف؛ أي: هي جميعًا منه تعالى. وفي "فتح الرحمن": جميعًا منه؛ أي: كل إنعام فهو من فضله؛ لأنه لا يستحق عليه أحد شيئًا، بل هو ويوجب على نفسه تكرمًا ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من التسخير ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة الشأن، كبيرة القدر، دالةً على وجود الصانع وصفاته ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في بدائع صنع الله تعالى، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها، ويوفقون لشكرها.
والمعنى: أي وسخر لكم جميع ما خلقه في سمواته وأرضه، مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم والمطر والسحاب والرياح، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمةً منه وفضلًا، وكل هذه أدلة على أنه الله، الذي لا إله غيره، لمن تأمل فيها واعتبر بها، وتدبرها حق التدببر.
والخلاصة: أن العالم كله، كأنه جسم واحد، يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس، ولا تسير سفن، إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك، فالعالم كله كساعة منتظمة، لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها، وخص المتفكرين لأنه لا يتفع بها إلا من تفكر فيها.
وعن طاووس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسأله: مم خلق الخلق؟ فقال: من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب، قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري، ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال: مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله: مم خلق الخلق؟ فقال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب، قال: مم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾، فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.
429
وفي الآية (١): إشارة إلى أن السموات والأرض وما فيهن خلقت للإنسان، فإن وجودها تبع لوجوده، وناهيك من هذا المعنى، أن الله تعالى أسجد ملائكته لآدم عليه السلام، وهذا غاية التسخير، وهم أكرم مما في السموات والأرض، ومثال هذا: أن الله تعالى لما أراد أن يخلق ثمرةً خلق شجرة، وسخرها للثمرة لتحملها، فالعالم بما فيه شجرة، وثمرتها الإنسان، ولعظم هذا المعنى قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: في هذا المعنى دلالات على شرف الإنسان، وكماليته لقوم لهم قلوب منورة بنور الإيمان والعرفان، إذ يتفكرون بفكر سليم، كما في "التأويلات النجمية".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مِنْهُ﴾، وقرأ ابن عباس ﴿منة﴾ بكسر الميم وشد النون، ونصب التاء على المصدر، قال أبو حاتم: نسبة هذه القراءة إلى ابن عباس ظلم، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس وعبد الله بن عمر والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير، وحكاها أيضًا عن هؤلاء الأربعة صاحب "اللوامح"، وحكاها ابن خالويه عن ابن عباس وعبيد بن عمير، وقرأ سلمة بن محارب كذلك؛ إلا أنه ضم التاء؛ أي: هو منة، وعنه أيضًا فتح الميم وشد النون، وهاء الكناية عائدة على الله، وهو فاعل ﴿سَخَّرَ﴾ على الإسناد المجازي، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ذلك، أو هو منة.
١٤ - ولما علم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله اغفروا واصفحوا وسامحوا عما يصدر من الكفار من الكلمات المؤذية، والأفعال الموحشة، ولا تقابلوهم بالمؤاخذة عليها إن أمرتهم بذلك ﴿يَغْفِرُوا﴾؛ أي: يغفر الذين آمنوا، ويعفوا، ويصفحوا ﴿لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ﴾ ولا يخافون ﴿أَيَّامَ اللَّهِ﴾ وعذابه، وانتقامه من أعدائه، ولا يرجون ثوابه، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية، ومعنى الرجاء هنا: الخوف، وأيام الله: وقائعه تعالى لأعدائه في الأمم
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
430
الماضية، لقولهم أيام العرب، لوقائعها كيوم بعاث بوزن غراب، موضع بقرب المدينة، ويومه معروف؛ أي: قل لهم: اغفروا، يغفروا ويصفحوا ويعفوا، وقيل: مجزوم بلام مقدرة تقديره: ليغفروا، فهو أمر مستأنف، وإنما جاز حذف اللام؛ لأن الأمر الذي هو ﴿قُلْ﴾ عوض عنه، وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقتها الله لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز به فيها وإضافتها إلى الله كبيت الله، وناقة الله والأول أولى، والأيام يعبر بها عن الوقائع، كما تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾، قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون، فلا يخافون عقابه. وقيل: المعنى لا يأملون نصر الله لأوليائه، وإيقاعه بأعدائه، وقيل: لا يخافون البعث.
والمعنى (١): قل يا محمد، للذين صدقوا الله ورسوله: اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين، الذي لا يخافون بأس الله ونقمته، إذا نالكم منهم أذى ومكروه، قاله مجاهد. روى الواحدي، والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب مع عبد الله بن أبي، في غزوة بني المصطلق، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي، فأبطأ عليه، فقال: ما حبسك؟ فقال: غلام عمر قعد على فم البئر، فما ترك أحدًا يستقي حتى ملأ قرب النبي - ﷺ -، وقرب أبي بكر، وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومئل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ عمر قوله، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله، فأنزل الله هذه الآية.
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببًا آخر، قال: لما نزل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قال يهودي بالمدينة يسمى فنحاصًا: احتاج رب محمد - ﷺ -، قال: فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه، وخرج في طلبه، فجاء جبريل إلى النبي - ﷺ - فقال: إن ربك يقول لك: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ فبعث رسول الله - ﷺ - في طلب عمر، فلما جاء
(١) المراغي.
431
قال: يا عمر ضع سيفك، قال: يا رسول الله صدقت، أشهد أنك أرسلت بالحق، ثم تلا رسول الله - ﷺ - الآية، فقال عمر: لا جرم والذي بعثك بالحق، لا ترى الغضب في وجهي.
ثم علل بالمغفرة، فقال: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿قَوْمًا﴾ كاملين كاظمين غيظهم على إذاية الكفار، جزاءًا كاملًا وافرًا ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛ أي: على ما يكسبونه من الأعمال الصالحة، التي منها كظم الغيظ. والمراد (١) بالقوم: المؤمنون. والتنكير لمدحهم، والثناء عليهم؛ أي: أمروا بذلك ليجزي الله سبحانه يوم القيامة قومًا أي قوم، لا قومًا مخصوصين، بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والمنافقين، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ، واحتمال المكروه ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم.
وقد جوز أن يراد بالقوم: الكفرة، و ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾: سيئاتهم التي من جملتها ما حكي من الكلمة الخبيثة، والتنكير حينئذ للتحقير، فإن قلت: مطلق الجزاء لا يصلح تعليلًا للأمر بالمغفرة، لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها، قلت: لعل المعنى: قل للمؤمنين: يتجاوزوا عن إساءة المشركين والمنافقين، ولا يباشروا بأنفسهم لمجازاتهم، ليجزيهم الله تعالى؛ أي: ليجزي أولئك الكفرة يوم القيامة جزاءً كاملًا، يكافىء سيئاتهم، كأنه قيل: لا تكافؤوهم أنتم حتى نكافئهم نحن، ويدل على هذا المعنى الآية الآتية، والأول أولى، وأيضًا إن الكسب في أكثر ما ورد في القرآن كسب الكفار، ويجوز (٢) أن يكون المعنى: ليجزيهم الله وقت الجزاء كيوم بدر، ونحوه. وفي الآية إشارة، إلى أن المؤمن إذا غفر لأهل الجرائم، وإن لم يكونوا أهل المغفرة لإصرارهم على الكفر، والأذى.. يصير متخلقًا بأخلاق الحق.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿لِيَجْزِيَ﴾ مبنيًا للفاعل؛ أي: ليجزي الله، وقرأ زيد بن
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
432
علي، وأبو عبد الرحمن والأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ بالنون مبنيًا للفاعل. وقرأ أبو جعفر وشيبة، وعاصم: ﴿ليجزى﴾ بالياء التحتية مبنيًا للمفعول مع نصب ﴿قَوْمًا﴾، وفيه حجة لمن أجاز بناء الفعل للمفعول، على أن يقام الجار والمجرور وهو ﴿بما﴾ مقام الفاعل، وينصب المفعول به الصريح وهو ﴿قَوْمًا﴾، ونظيره: ضرب بسوط زيدًا، ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن يكون الفعل بني للمصدر؛ أي: ليجزى الجزاء قومًا، وهذا أيضًا لا يجوز عند الجمهور، لكن يتأول على أن ينصب بفعل محذوف، تقديره: يجزي قومًا، فيكون الكلام جملتين إحداهما: ليجزى الجزاء، والأخرى: يجزيه قومًا. وعبارة البيضاوي هنا: وقرىء ﴿ليجزى قوم﴾، ﴿وليجزى قوما﴾؛ أي: ليجزى الخير أو الشر، أو الجزاء بمعنى: ما يجزى به لا المصدر. فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف.
والمعنى (١): أي ليجزي الله تعالى يوم القيامة قومًا بما كسبوا في الدنيا من أعمال طيبة، من جملتها الصبر على أذى الكفار، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم في جنات النعيم.
١٥ - ولما رغب سبحانه، ورهب، وقرر أنه لا بد من الجزاء.. أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملا ﴿صَالِحًا﴾ وهو ما طلب به رضي الله تعالى ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾؛ أي: فنفع ذلك العمل الصالح وثوابه لنفسه عائد إليها ﴿وَمَنْ أَسَاءَ﴾؛ أي: عمل عملًا سيئًا، وهو كل ما يوجب سخط الله تعالى ﴿فَعَلَيْهَا﴾؛ أي: فضرر إساءته وعقابها على نفسه لا يكاد يسرى عمل إلى غير عامله ﴿ثُمَّ﴾ بعد انقضاء آجالكم ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾؛ أي: إلى مالك أموركم لا إلى غيره ﴿تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: تردون بالموت، فيجازيكم على أعمالكم خيرًا كان أو شرًا، فاستعدوا للقائه، ففيه ترغيب على اكتساب العمل الصالح، وترهيب عن ارتكاب العمل السيء.
(١) المراغي.
فمن الأول العفو، والمغفرة للمجرم، وصاحبه متصف بصفات الله تعالى.
ومن الثاني المعصية، والظلم، وصاحبه متصف بصفات الشيطان، فمن كان من الأبرار فإن الأبرار لفي نعيم، ومن كان من الفجار فإن الفجار لفي جحيم.
والمعنى: أي من عمل من عباد الله بطاعته فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه فلنفسه عمل، ولها طلب الخلاص من عذابه، والله غني عن كل عامل، ومن أساء عمله في الدنيا بمعصية ربه فعلى نفسه جنى، ولها اكتسب الضر.
ثم بين وقت الجزاء فقال: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾؛ أي: ثم تصيرون إلى ربكم حين العرض للحساب، فيجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.
١٦ - ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا بني إسرائيل ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التوراة. قال سعدي المفتي: ولعل الأولى (١) أن يحمل الكتاب على الجنس حتى يشمل الزبور، والإنجيل أيضًا انتهى. وذلك لأن موسى، وداود، وعيسى عليهم السلام. كانوا في بني إسرائيل ﴿وَالْحُكْمَ﴾؛ أي: الحكمة النظرية، والعملية، والفقه في الدين، أو فصل الخصومات بين الناس، إذ كان الملك فيهم ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾ حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم تكثر في غيرهم ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾؛ أي: من اللذائذ، كالمن والسلوى ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ كلهم أولهم وآخرهم حيث آتيناهم ما لم نؤت أحدًا من العالمين، من كثرة الأنبياء فيهم، وفلق البحر، وإنجائهم، وغرق عدوهم، وإنزال المن والسلوى لهم، وانفجار اثنتي عشرة عينًا لهم من حجر صغير في مدة التيه، وتظليل الغمام عليهم، وليس المراد تفضيلهم على العالمين بحسب الدين والثواب، اهـ "زاده". وقيل: على عالمي زمانهم، فإنه لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله، ولا أحب إليه منهم
١٧ - ﴿وَآتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: وأعطينا بني إسرائيل ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: دلائل ظاهرة، ومعجزات قاهرة ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾؛ أي: في أمر الدين، فـ ﴿من﴾ بمعنى: في، كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾؛ أي: شرائع
(١) روح البيان.
434
واضحات في الحلال والحرام، أو معجزات ظاهرات، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: هو العلم بمبعث النبي - ﷺ -، وما بين لهم من أمره، وأنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾؛ أي: فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر الذي بين لهم ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ واليقين فيه؛ أي: إلا من بعد مجيء العلم بحقيقته، وحقيته إليهم ببيانه وإيضاحه، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبًا لثبوته، ورسوخه، وقيل: المراد بالعلم: يوشع بن نون، فإنه آمن به بعضهم، وكفر به بعضهم، وقيل: نبوة محمد - ﷺ -، فاختلفوا فيها ﴿بَغْيًا﴾ واعتداء من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة، وحسدا حدث ﴿بَيْنَهُمْ﴾ لا شكًا فيها، فقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق، واجتماع الكلمة، فلما جاءهم العلم، والشرع في كتابهم كان مقتضاه أن يدوموا على الاتفاق، بل كان ينبغي أن يزدادوا اتفاقًا، لكنهم لم يكونوا كذلك، بل صار ما هو مقتضٍ للاتفاق مقتضيًا للاختلاف لسوء حالهم، اهـ من "الخطيب".
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿يَقْضِي﴾ ويحكم ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين المختلفين من بني إسرائيل ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدين، فيجازي المحسن بحسانه، والمسيء بإساءته.
والمعنى (١): أي إن ربك سبحانه، يقضي يوم القيامة بين المختلفين من بني إسرائيل بغيًا وحسدًا، فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا، بعد العلم الذي أتاهم، والبيان الذي جاءهم منه، ويجعل الفلج للمحق على المبطل، والمقصد من هذا: أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فهو سيرى في الآخرة ما يسوءه.
وفي هذا: تحذير لهذه الأمة المحمدية أن تسلك مسلكهم، وأن تسير على نهجهم.
(١) المراغي.
435
١٨ - ولما ذكر سبحانه وتعالى إنعامه علي بني إسرائيل، واختلافهم بعد ذلك، وإعراضهم عن الحق بغيًا وحسدًا، ذكر حال نبيه - ﷺ -، وما منّ به عليه من اصطفائه، وأمره أن يعدل عن هذه الطريقة، وأن يستمسك بالحق، فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ ﴿ثُمَّ﴾ هنا (١) للاستئناف، والكاف مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، و ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ هو المفعول الثاني؛ أي: و (٢) جعلناك يا محمد على شريعة؛ أي: طريقة عظيمة الشأن، وسنة رفيعة القدر ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾؛ أي: من أمر الدين ﴿فَاتَّبِعْهَا﴾؛ أي: فاتبع يا محمد تلك الشريعة أنت وقومك وسائر أهل الأرض، بإجراء أحكامها في نفسك، وفي غيرك من غير إخلال بشيء منها.
وفي "التأويلات النجمية": إنا أفردناك من جملة الأنبياء بلطائف فاعرفها، وخصصناك بحقائق فأدركها، وسننّا لك طرائق فاسلكها، وأثبتنا لك الشرائع فاتبعها، ولا تجاوز عنها، ولا تحتج إلى متابعة غيرك، ولو كان موسى وعيسى حيين، لما وسعهما إلا اتباعك، قال جعفر الصادق رحمه الله تعالى: الشريعة في الأمور محافظة الحدود فيها، ومن الله الإعانة، والمراد بالشريعة هنا: ما شرعه الله سبحانه لعباده من الدين، والجمع شرائع؛ أي: جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين، يوصلك إلى فاتبعها، واعمل بأحكامها في أمتك ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ توحيد الله، وشرانعه لعباده؛ أي (٣): لا تتبع آراء الجهلة، واعتقاداتهم الزائفة التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش، ومن وافقهم كانوا يقولون له - ﷺ -: ارجع إلى دين آبائك، فإنهم كانوا أفضل منك وأسن،
١٩ - ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن الجهلة المذكورين ﴿لَنْ يُغْنُوا﴾؛ أي: لن يدفعوا ﴿عَنْكَ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: مما أراد الله بك من العذاب ﴿شَيْئًا﴾ إن اتبعتهم. قال بعضهم: يعني إن أراد بك نعمة فلا يقدر أحد على منعها، وإن أراد بك فتنة فلا يقدر أحد يصرفها عنك، فلا تعلق بمخلوق فكرك، ولا تتوجه بضميرك إلى غيرنا، وثق بنا، وتوكل علينا ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾؛ أي: أنصار
(١) الفتوحات.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
بعض؛ أي: بعضم ينصر بعضًا، فلا يواليهم، ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالمًا مثلهم؛ لأن الجنسية علة الانضمام والانتصار ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾؛ أي: ناصر المتقين الذين أنت قدوتهم، فدم على ما أنت عليه من تولية خاصة بالتقوى، والشريعة، والإعراض عما سواه بالكلية، وفي "التأويلات النجمية": سماهم الظالمين؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وسمّى المؤمنين المتقين لأنهم اتقوا عن هذا المعنى، واتخذوا الله الولي في الأمور كلها.
ومعنى الآيتين (١): أي ثم جعلناك بعد بني إسرائيل، الذين وصفت لك صفتهم على نهج خاص من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك، ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون الذين لا يعلمون توحيد الله، ولا شرائعه لعباده، وهم كفار قريش، ومن وافقهم فتهلك، ثم علل النهي عن اتباع أهوائهم فقال: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن هؤلاء الجاهلين بربهم لا يدفعون عنك شيئًا مما أراد بك، إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعته، ثم بين أولياء الكافرين وأولياء المؤمنين، فقال: وإن الكافرين ليتولى بعضهم شؤون بعض في الدنيا، أما في الآخرة فلا ولي ولا شفيع، ولا نصير يجلب لهم ثوابًا، ولا يدفع عنهم عقابًا، والله ولي المتقين؛ أي: والمتقون المهتدون وليهم الله، وهو ناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، فما أبعد الفرق بين الولايتين.
وقصارى ما سلف: دم على ما أنت عليه من اعتمادك على ولاية ربك ونصرته، وأعرض عما سواه.
٢٠ - ثم بين فضل القرآن، وذكر ما يجلبه التمسك بحبله المتين، فقال: ﴿هَذَا﴾ القرآن، وهو مبتدأ، خبره ﴿بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾؛ أي: براهين، ودلائل لهم فيما يحتاجهون إليه من أحكام الدين، أو إن اتباع الشريعة بصائر، وأنوار لقلوب من
(١) المراغي.
437
اتبعها تنورها بنور الإيمان، واليقين، وجمع الخبر باعتبار ما في المبتدأ من تعدد الآيات، والبراهين، اهـ "سمين". وقرىء (١) ﴿هذه بصائر﴾؛ أي: هذه الآيات بصائر؛ لأن القرآن بمعناها ﴿وَهُدًى﴾؛ أي: هاد من ورطة الضلالة إلى طريق الرشاد ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ عظيمة، ونعمة كاملة من الله تعالى، فإن الفوز بجميع السعادات الدنيوية، والأخروية إنما يحصل به ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾؛ أي: لقوم من شأنهم الإيقان بالأمور، وعدم الشك والتزلزل بالشبه فيها.
والمعنى: أي هذا القرآن دلائل للناس فيما يحتاجون إليه من أمر الدين، وبينات تبصرهم وجه الفلاح، وتعرفهم سبيل الهدى، وهو هدى ورحمة لقوم يوقنون بصحته، وهو تنزيل من رب العالمين، وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى، ورحمة لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه، دون من كذب به من أهل الكفر، فإنه عليهم عمى.
الإعراب
﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤)﴾.
﴿حم (١)﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة ﴿حم﴾؛ أي: مسماة بـ ﴿حم﴾ إن قلنا إنه علم للسورة، والجملة مستأنفة. ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾: مبتدأ، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾: صفتان للجلالة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: خبر لـ ﴿إِنَّ﴾ مقدم على اسمها. ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اللام: حرف ابتداء. ﴿آيَاتٍ﴾ اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر منصوب بالكسرة. ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ صفة ﴿آيَاتٍ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿في خلقكم﴾: خبر مقدم، ﴿وَمَا﴾: اسم موصول معطوف على ﴿خَلْقِكُمْ﴾. ﴿يَبُثُّ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما يبثه. ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾
(١) البحر المحيط.
438
حال من العائد المحذوف؛ أي: حال كونه من دابة، ﴿آيَاتٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿لِقَوْمٍ﴾ صفة ﴿آيَاتٌ﴾، وجملة ﴿يُوقِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قوم﴾ والجملة الابتدائية معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥)﴾.
﴿وَاخْتِلَافِ﴾ معطوف أيضًا على ﴿خَلْقِكُمْ﴾، منزل منزلته في كونه متعلقًا بمحذوف خبر مقدم، ﴿اللَّيْلِ﴾ مضاف إليه ﴿وَالنَّهَارِ﴾ معطوف على ﴿اللَّيْلِ﴾. ﴿وَمَا﴾ معطوف على ﴿اختلاف﴾، ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما أنزله الله، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ متعلقان بـ ﴿أَنْزَلَ﴾ ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾: حال من العائد المحذوف، أو متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿فَأَحْيَا﴾ معطوف على ﴿أَنْزَلَ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أحيا﴾، ﴿الْأَرْضَ﴾ مفعول به ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ظرف ومضاف إليه، ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ معطوف على ﴿اختلاف﴾، ﴿آيَاتٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿لِقَوْمٍ﴾ صفة لـ ﴿آيات﴾، وجملة ﴿يَعْقِلُونَ﴾ صفة لـ ﴿قوم﴾.
فائدة: قال الزمخشري: وقرىء ﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بالنصب والرفع على حد قولك: إن زيدًا في الدار وعمرًا في السوق، أو وعمرو في السوق، وأما قوله: ﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فمن العطف على معمولي عاملين، سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت هما إنّ وفي أقيمت ﴿الواو﴾ مقامهما، فعملت الجر في ﴿اختلاف الليل والنهار﴾، والنصب في ﴿آيَاتٌ﴾، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء، وفي عملا الرفع في ﴿آيَاتٌ﴾، والجر في ﴿اختلاف﴾، وقرأ ابن مسعود: ﴿وفي اختلاف الليل والنهار﴾.
فإن قلت: العطف على معمولي عاملين على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه، وقد أباه سيبويه، فما وجه تخريج الآية عنده؟
قلت: فيه وجهان عنده:
439
أحدهما: أن يكون على إضمار في، والذي حسنه تقدم ذكره في الآيتين قبلها، ويعضده قراءة ابن مسعود.
والثاني: أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور، معطوفًا على ما قبله، أو على التكرير ورفعهما بإضمار ﴿هي﴾، وقرىء ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ بالرفع.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)﴾.
﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿نَتْلُوهَا﴾ فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾، والعامل فيه ما في الإشارة من معنى الفعل، ويجوز أن تكون ﴿آيَاتُ اللَّهِ﴾ بدلًا من اسم الإشارة، وجملة ﴿نَتْلُوهَا﴾ هي الخبر، و ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿نَتْلُوهَا﴾، ﴿بِالْحَقِّ﴾ إما حال من الفاعل؛ أي: محقين، أو من المفعول؛ أي: متلبسة بالحق: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ الفاء: استئنافية، والباء: حرف جر، ﴿أَيِّ حَدِيثٍ﴾ مجرور بالباء. متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، والاستفهام توبيخي مضمن للإنكار؛ أي: لا يؤمنون. ﴿بَعْدَ اللَّهِ﴾ ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿حَدِيثٍ﴾، ﴿وَآيَاتِهِ﴾ معطوف على لفظ الجلالة، ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة.
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩)﴾.
﴿وَيْلٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة قصد الدعاء. ﴿لِكُلِّ أَفَّاكٍ﴾ خبر، والجملة مستأنفة، ﴿أَثِيمٍ﴾ صفة ﴿أَفَّاكٍ﴾، وهما صيغتا مبالغة للكذب والإثم، ﴿يَسْمَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿أَفَّاكٍ﴾. ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول به، وجملة ﴿يَسْمَعُ﴾: في محل الجر صفة ثانية لأفاك، أو حال من الضمير المستكن فيه، ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، وجملة ﴿تُتْلَى﴾: في محل النصب حال من ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ لأن سمع هنا دخل على ما يسمع فيتعدى إلى واحد فقط بالإجماع، وأما إذا دخل على ما لا يسمع كقوله تعالى: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾،
440
أو سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: كذا، ففيه الخلاف بين الأخفش ومن وافقه، وبين الجمهور، فعند الأخفش يتعدى حينئذ إلى الثاني، وعند الجمهور لا يتعدى إلى الثاني مطلقًا، كما هو مذكور في محله. ﴿ثُمَّ﴾ للعطف والترتيب الرتبي عند العقل. ﴿يُصِرُّ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على ﴿يَسْمَعُ﴾، ﴿مُسْتَكْبِرًا﴾ حال من فاعل ﴿يُصِرُّ﴾. ﴿كَأَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: كأنه، وجملة ﴿لَمْ يَسْمَعْهَا﴾: خبرها، والجملة التشبيهية في محل النصب حال ثانية من فاعل ﴿يُصِرُّ﴾؛ أي: حال كونه مثل غير السامع، ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حاله المذكور، وأردت بيان ما يستحقه.. فأقول لك بشره ﴿بشره﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿بِعَذَابٍ﴾ متعلق به. ﴿أَلِيمٍ﴾ صفة ﴿عذاب﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿عَلِمَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿أَفَّاكٍ﴾، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إذا﴾، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾ حال من ﴿شَيْئًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، ﴿اتَّخَذَهَا هُزُوًا﴾ فعل ماض ناسخ، وفاعل مستتر يعود على الأفاك، ومفعولان، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل الجر، معطوفة على جملة قوله: ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ﴾ على كونها صفة لـ ﴿أَفَّاكٍ﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ أول، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم لما بعده. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ ثان مؤخر. ﴿مُهِينٌ﴾ صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة.
﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١)﴾.
﴿مِنْ وَرَائِهِمْ﴾ خبر مقدم. ﴿جَهَنَّمُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الرفع بدل من جملة قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ على كونها خبرًا للمبتدأ الأول، والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، قال الشاعر وهو عبيد بن الأبرص:
441
ألَيْسَ وَرَائِيْ إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِيْ أَدُبُّ مَعَ الْوِلْدَانِ أَزْحَفُ كَالنَّسْرِ
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُغْنِي﴾: فعل مضارع. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول فاعل، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر المؤول هو الفاعل. ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿شَيْئًا﴾ مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، لا: زائدة لتأكيد نفي ﴿لا﴾ الأولى، ﴿مَا﴾ موصولة أو مصدرية معطوفة على ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا كَسَبُوا﴾ على كونها فاعل ﴿يُغْنِي﴾، ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل، ومفعوله الأول محذوف، تقديره: ولا ما تخذوه، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من فاعل ﴿اتَّخَذُوا﴾، ﴿أَوْلِيَاءَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾. والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة أو المصدرية، ﴿وَلَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر، ﴿عَظِيمٌ﴾ صفة ﴿عَذَابٌ﴾ والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، ﴿هُدًى﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿الذين﴾: مبتدأ أول، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ ثان مؤخر، ﴿مِنْ رِجْزٍ﴾ صفة ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة ﴿رِجْزٍ﴾، أو صفة ثانية لـ ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، وجملة الأول مع خبره معطوفة على جملة قوله: ﴿هَذَا هُدًى﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)﴾.
﴿اللَّهُ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة مسوقة للاعتبار بتسخير البحر إلى عظمته، والسفن الجارية فيه لمخلوق هو أضأل شيء بالنسبة لهما، ﴿سَخَّرَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الموصول، والجملة صلة له، ﴿لَكُمُ﴾ متعلق بـ ﴿سَخَّرَ﴾، ﴿الْبَحْرَ﴾: مفعول به، ﴿لِتَجْرِيَ﴾: اللام حرف جر وتعليل. ﴿تجري﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿الْفُلْكُ﴾: فاعل. ﴿فِيهِ﴾:
442
متعلق بـ ﴿تجري﴾، ﴿بِأَمْرِهِ﴾: حال من الفلك، أو متعلق بـ ﴿تجري﴾ أيضًا، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿سَخَّرَ﴾، تقديره: سخر لكم البحر لجريان الفلك فيه، ﴿وَلِتَبْتَغُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، اللام: حرف جر وتعليل أيضًا، ﴿تبتغوا﴾: فعل مضارع، وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تبتغوا﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولا بتغائكم من فضله، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: لجريان الفلك فيه، ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لعل﴾: حرف نصب وتعليل مستعارة لكي التعليلية، والكاف اسمها، وجملة ﴿تَشْكُرُونَ﴾ خبرها، والجملة الاسمية في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بلعل التعليلية؛ أي: ولشكركم إياه سبحانه وتعالى على هذا التسخير. ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ﴾: معطوف على ﴿سَخَّرَ﴾ الأول، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب، مفعول به، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة الموصول. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ﴿مَا﴾ الموصولة، أو تأكيد لها. ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: كائنًا منه تعالى، أو حال ثانية من ﴿مَا﴾؛ أي: سخر لكم هذه الأشياء حالة كونها كائنة منه تعالى، مخلوقة له تعالى. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبرها مقدم ﴿لَآيَاتٍ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿آيات﴾: اسمها مؤخر، ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة لـ ﴿آيات﴾، وجملة ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: صفة لـ ﴿قوم﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿قُلْ﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ومقول ﴿قُلْ﴾ محذوف تقديره: قل للذين آمنوا: اغفروا للذين لا يرجون أيام الله. ﴿يَغْفِرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم في جواب الطلب المحذوف، كما قدرناه، والجملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَغْفِرُوا﴾، ﴿لَا يَرْجُونَ﴾: فعل وفاعل
443
صلة الموصول، ﴿أَيَّامَ اللَّهِ﴾: مفعول به. ﴿لِيَجْزِيَ﴾: اللام: حرف جر وتعليل، ﴿يَجْزِيَ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأنْ مضمرة بعد لام كي جوازًا، ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿يَجْزِيَ﴾ وجملة ﴿يَجْزِيَ﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَغْفِرُوا﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة أو المصدرية.
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٦)﴾.
﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿عَمِلَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، ﴿صَالِحًا﴾: فعول به أو صفة لمصدر محذوف، ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾: الشرطية وجوبًا، ﴿لنفسه﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فثواب عمله كائن لنفسه، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة، مسوقة لبيان كيفية الجزاء. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط مبتدأ، وجملة ﴿أَسَاءَ﴾: فعل شرط لها، ﴿فَعَلَيْهَا﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فاساءته عليها، والجملة في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿إِلَى رَبِّكُمْ﴾: متعلق بما بعده، وجملة ﴿تُرْجَعُونَ﴾: من الفعل المغير، ونائب فاعله معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا﴾: فعل وفاعل، وهو بمعنى أعطينا يتعدى إلى مفعولين، ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: مفعول أول، ﴿الْكِتَابَ﴾ مفعول ثان، ﴿وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾: معطوفان على ﴿الْكِتَابَ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل. ومفعول به، معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾. {مِنَ
444
الطَّيِّبَاتِ}: متعلق بـ ﴿رزقناهم﴾، ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾، ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ متعلق بـ ﴿فضلناهم﴾.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ﴾: فعل وفاعل ومفعولان معطوف على ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾ الأول ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ ﴿فَمَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿اخْتَلَفُوا﴾ فعل وفاعل ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اخْتَلَفُوا﴾، ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية مع ﴿مَا﴾. المصدرية في تأويل مصدر بإضافة الظرف إليه؛ أي: إلا من بعد مجيء العلم إياهم.
﴿بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)﴾.
﴿بَغْيًا﴾: مفعول لأجله منصوب بـ ﴿اختلفوا﴾؛ أي: فما اختلفوا إلا لأجل البغي بينهم، و ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿بَغْيًا﴾. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَقْضِي﴾: خبره، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْضِي﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَقْضِي﴾، ﴿فِيمَا﴾: متعلق بـ ﴿يَقْضِي﴾ أيضًا، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿فِيهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ وجملة ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ﴾: ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ولكن هنا بمعنى الواو الاستئنافية، كما في "السمين". ﴿جَعَلْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ في موضع المفعول الثاني، والجملة مستأنفة، ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾: صفة لـ ﴿شَرِيعَةٍ﴾، ﴿فَاتَّبِعْهَا﴾: الفاء: عاطفة، ﴿اتبعها﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ - ومفعول به والجملة معطوفة على جملة ﴿جَعَلْنَاكَ﴾، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية؛ جازمة، ﴿تَتَّبِعْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ - مجزوم
445
بلا الناهية، معطوف على قوله: ﴿فَاتَّبِعْهَا﴾ ﴿أَهْوَاءَ الَّذِينَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صلة الموصول، ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿لَن﴾ حرف نفي ونصب، ﴿يُغْنُوا﴾: فعل مضارع، وفاعل منصوب بـ ﴿لَنْ﴾، وعلامة نصبه حذف النون، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي المذكور قبله، ﴿عَنْكَ﴾ متعلق بـ ﴿يُغْنُوا﴾، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: حال من ﴿شَيْئًا﴾؛ لأنه صفة نكرة، قدمت عليها، أو متعلق بـ ﴿يُغْنُوا﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، ﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف نصب، ﴿الظَّالِمِينَ﴾: اسمها، ﴿بَعْضُهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾: خبر، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ في قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾: خبره، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة ﴿إنّ﴾ ﴿هَذَا بَصَائِرُ﴾: مبتدأ وخبره، والجملة مستأنفة. ﴿لِلنَّاسِ﴾ صفة لـ ﴿بَصَائِرُ﴾. ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾: معطوفان على ﴿بَصَائِرُ﴾ ﴿لِقَوْمٍ﴾: نعت لكل من ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾، وجملة ﴿يُوقِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قوم﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لعبرًا للمؤمنين، ولشواهد على الربوبية للمصدقين. ﴿وَمَا يَبُثُّ﴾؛ أي: يفرق، وينشر. أصله: يبثث بوزن يفعل، نقلت حركة الثاء الأولى إلى الباء فسكنت، فأدغمت في الثاء الثانية. ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وهي كل ما يدب على وجه الأرض من الحيوان مع اختلاف صورها وأشكالها وكثرة أنواعها، وأصله: داببة بوزن فاعلة، أدغمت الباء الأولى في الثانية فصار دابة. ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾؛ أي: تعاقبهما ليل بعد نهار، ونهار بعد ليل. ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾؛ أي: مطر، وسمى بذلك؛ لأنه سبب له. ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾؛ أي: تحويلها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال. ﴿وَيْلٌ﴾ كلمة عذاب. ﴿لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ الأفاك كثير الإفك والكذب، والأثيم: كثير الإثم والمعاصي، وهما صيغتا مبالغة، كعليم بمعنى: كثير العلم. ﴿يُصِرُّ﴾ أصله: يصرر، نقلت حركة الراء الأولى إلى الصاد، فسكنت فأدغمت في الثانية. قال في "المفردات": الإصرار التعقد في الذنب والتشدد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه، وأصله: من الصر، وهو الشد، والصرة
446
ما يعقد فيها الدراهم. وقال بعضهم: الإصرار على الشيء ملازمته. ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ﴾؛ أي: من بعد اجالهم، والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام؛ أي: يسترها. وقال بعضهم: وراء في الأصل مصدر وارى، جعل ظرفًا ويضاف إلى الفاعل، فيراد به: ما يتوارى به، وهو خلفه وإلى المفعول فيراد به: ما يواريه، وهو قدامه، ولذلك عدَّ من الأضداد. وفي "القاموس": الوراء معرفةً يكون خلف وقدام ضدُّ أَوْ لا؛ لأنه بمعنى، وهو ما توارى عنك، والوراء أيضًا ولد الولد، ووري المخ كولي اكتنز، انتهى.
﴿وَلَا يُغْنِي﴾؛ أي: يدفع، يقال: أغنى عنه إذا كفاه. ﴿أَوْلِيَاءَ﴾ أصنامًا ﴿رِجْزٍ﴾ والرجز أشد العذاب. ﴿سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ﴾؛ أي: ذلَله وهيأه، بأن جعله أملس السطح، مستويه، يعلو عليه ما شأنه الغوص كالأخشاب، فإنه لو جعله خشن السطح، بأن كان ذا ارتفاع وانخفاض لم يتيسر جرى الفلك عليه، كما مر. ﴿لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ والمراد بأيام الله: الوقائع المشهورة التي انتصر الحق فيها على الباطل، وأديل الباطل بالجهاد، وهذا جري على أساليب العرب، إذ يقولون أيام العرب لوقائعهم المشهورة، كيوم بعاث على حد قول السموءل اليهودي.
وَأَيَّامُنَا مَشْهُوْرَةٌ فِيْ عَدُوِّنَا لَهَا غُرَرٌ مَعْلُوْمَةٌ وَحُجُوْلُ
وأصل أيام: أيوام بوزن أفعال اجتمعت الوا ووالياء، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء. ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ والشريعة في الأصل: ما يرده الناس من المياه والأنهار، فاستعير ذلك للدين، والعبادة؛ لأن العباد يردون ما تحيا به نفوسهم، والجمع شرائع اهـ "سمين". وفي "القرطبي": الشريعة في اللغة المذهب والملة، ويقال لمشرعة الماء، وهي مورد شريعة، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد، فالشريعة ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع الشرائع، والشرائع في الدين: المذاهب التي شرعها الله تعالى لخلقه، انتهى.
﴿لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أصله: يغنيون حذفت نون الرفع لدخول أداة النصب عليه، وهو ﴿لَنْ﴾، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت النون، لمناسبة الواو. ﴿وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أصله: وليي بوزن
447
فعيل، أدغمت ياء فعيل في لام الكلمة، فصار ولي بتشديد الياء. ﴿بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾ جمع بصيرة بوزن فعلية. وفي "المختار": البصيرة: الحجة، والاستبصار في الشيء اهـ. وفي "القاموس": والبصيرة عقيدة القلب والفطنة، والحجة. والهمزة في الجمع أعني: ﴿بَصَائِرُ﴾ بدل من ياء فعيلة، الواقعة حرف مد ثالثا، زائدًا في اسم مؤنث.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التأكيد بإن واللام في قوله: ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ﴾؛ لأن المخاطبين منكرون لوحدانية الله تعالى.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ﴾؛ أي: مطر من إطلاق المسبب وإرادة السبب، وهو المطر؛ لأن الرزق لا ينزل من السماء، ولكن ينزل المطر الذي ينشأ عنه النبات والرزق.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ لأنه استعار الإحياء للإنبات، فاشتق منه أحيا، بمعنى: أثبت على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿بَعْدَ مَوْتِهَا﴾؛ لأنه استعار الموت لليبس.
ومنها: الإتيان باسم إشارة البعيد في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ إشارة إلى بعد مرتبتها.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾.
ومنها: تنكير آيات في قوله: ﴿لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، وفي قوله: ﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، وفي قوله: ﴿آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: تنكيرها في المواضع الثلاثة،
448
للدلالة على فخامة شأنها، وعلو قدرها.
ومنها: تقديم الاسم الجليل في قوله: ﴿بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ﴾ دلالة على تعظيمه، وعلو شأنه، كما في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل في قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ حيث استعار البشارة التي هي الإخبار، بما يظهر سرورًا في المخبر به، للإنذار الذي هو ضده بإدخال الإندار في جنس البشارة على سبيل التهكم، والاستهزاء.
ومنها: تنكير شيئًا في قوله: ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا﴾ إفادة للتقليل.
ومنها: التضاد في قوله: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ وهو استعمال لفظ يحتمل المعنى وضده، وهو مشترك بين المعنيين، فيستعمل في الشيء وضده، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: توسيط حرف النفي بين المعطوفين في قوله: ﴿وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ﴾ مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر، وأجلى من عدم إغناء الأموال، والأولاد مجاراة على زعمهم الفاسد، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه ضرب من التهكم.
ومنها: الإطناب بتكرار اللفظ في قوله: ﴿سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ﴾، وقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لإظهار الامتنان.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
ومنها: المبالغة بذكر المصدر في قوله: ﴿هَذَا هُدًى﴾ كان القرآن الكريم لوضوح حجته عين الهدى.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ كالإضافة في بيت
449
الله، وناقة الله.
ومنها: تنكير قومًا في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ لغرض مدحهم، والثناء عليهم، إن أريد بهم المؤمنون، أو للتحقير والإهانة إن أريد بهم الكافرون.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾؛ لأنها حقيقة فيما يرده الناس من المياه والأنهار، ثم استعير للدين.
ومنها: الإظهار في مقام الاضمار في قوله: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ تسجيلًا عليهم باسم الظلم؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: وإنهم بعضهم أولياء بعض.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
450
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (١) سبحانه وتعالى، لما ذكر الفرق بين الكافرين والمؤمنين في الولاية، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض، وأن الآخرين وليهم الله.. أردف ذلك بذكر الفارق بينهم في المحيا
(١) المراغي.
451
والممات، فالمحسنون مرحومون في الحالين، ومجترحوا السيئات مرحومون في الدنيا فحسب، ثم ذكر الدليل على هذا، بأن الله ما خلق الخلق إلا بالحق، المقتضي للعدل أو الانتصاف للمظلوم من الظالم، والتفاوت بين المحسن والمسيء في الجزاء، وإذا لم يكن هذا في المحيا كان في دار الجزاء حتمًا، لتجزي كل نفس بما كسبت فلا تظلم بنقص ثواب، أو بمضاعفة عقاب، ثم عجيب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى، وأضله الله وهو العليم باستعداده وخبث طويته، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه، واجتراح الآثام والمعاصي، فهو ممن ختم الله على سمعه وقلبه، فلا يتأثر بعظة، ولا يفكر في آية، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار، فمن بعد الله يهديه أفلا تتذكرون، وتتفكرون في هذا.
قوله تعالى: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين قد اتخذوا إلههم هواهم، وأن الله سبحانه، قد أضلهم على علم بحالهم، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم، وجعل على بصرهم غشاوة.. ذكر هنا جنايةً أخرى من جناياتهم، وحماقةً من حماقاتهم تلك، أنهم أنكروا البعث، وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام، لا مستند لها من نقل ولا عقل، ولم يجدوا حجةً يقولونها إلا أن قالوا: إن كان ما تقوله حقًا، فأرجعوا آباءنا الموتى إلى الحياة، فأمر الله رسوله أن يجيبهم، بأنه هو الذي يحييهم ثم يميتهم، ثم يجمعهم في يوم لا شك فيه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١)، لما أثبت فيما سلف، أنه قادر على الإحياء مرة ثانية، كما قدر على ذلك في المرة
(١) المراغي.
452
الأولى.. ذكر هنا دليلًا آخر على ذلك، وهو أنه تعالى مالك الكون كله، فهو قادر على التصرف فيه بالإحياء في الإعادة، كما أحياه في البدء، ثم ذكر من أهوال هذا اليوم، أن كل أمة تجثو على ركبها، وتجلس جلسةَ المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، وكل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كَتَبَتْهَا الحفظة، لتحاسب عليها، ويقال لهم: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ولا شاهد عليكم أصدق من كتابكم، فهو صورة أعمالكم قد كتبتها الملائكة في دنياكم.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ...﴾ الآيات إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه، لما ذكر (١) أهوال العرض والحساب، وأن أعمال كل أمة تعرض عليها، ويقال لهم: هذا ما كتبته الحفظة في الدنيا، فهو شهادة صدق لا شك فيها.. أردف هذا، ببيان أنه بعد انتهاء هذا الموقف، يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم، ويوبخ الكافرون على ما فرط منهم في الدنيا، ويقال لهم: لا عذر لكم في الإعراض عن آياتي، حين كانت تتلى عليكم إلا الاستكبار، والعناد، وقد كنتم في الحياة الأولى إذا قيل لكم: إن يوم القيامة آت لا شك فيه، قلتم: لا يقين عندنا به وهو موضع حدس وتخمين، فها هو ذا قد حل بكم، جزاء ما اجترحتموه من السيئات، وما كنتم تستهزؤون في دنياكم، إذ قد خدعتكم بزخارفها، فظننتم أن لا حياة بعد هذه الحياة، ولا مأوى لكم إلا جهنم فادخلوها، ولا مخرج لكم منها، ولا عتبى حينئذ، فلا تنفع توبة مما فرط منكم من الذنوب.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما قاله الكلبي (٢): أنها نزلت في علي، وحمزة، وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا
(١) المراغي.
(٢) تفسير الرازي ٢٧/ ٢٦٦.
453
للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقًا.. لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالًا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع، مساويًا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه ابن المنذر، وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حينا من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...﴾ الآية. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي، أحد المستهزئين؛ لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.
نزول بقية الآية: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾ قال مقاتل (١): نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي - ﷺ -، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال: مه وما دلك على ذلك، قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله، وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه، وتؤمن به، قال: تتحدث عني بنات قريش، أني اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدًا فنزلت: ﴿وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٢١ - قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ...﴾ إلخ، كلام (٢) مستأنف مسوق لبيان تباين حالي المسيئين، والمحسنين إثر بيان تباين حالي الظالمين، والمتقين. و ﴿أَمْ﴾ منقطعة، وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان، لكن لا بطريق إنكار الوقوع نفيه، كما في قوله تعالى:
(١) تفسير القرطبي ١٦/ ١٧٠.
(٢) أبو السعود.
454
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾ بل بطريق إنكار الواقع واستقباحه، والتوبيخ عليه، والاجتراح الاكتساب، و ﴿حَسِبَ﴾ فعل ماض من أخوات ظن و ﴿الَّذِينَ﴾ فاعله، وجملة ﴿أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ سادة مسد المفعولين لـ ﴿حَسِبَ﴾، وقوله: ﴿كَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ جار ومجرور لنفي موضع المفعول الثاني لـ ﴿لجعل﴾، وقوله: ﴿سَوَاءً﴾: بالنصب حال من الضمير في الظرف، والموصول معًا لاشتماله على ضمير الفريقين، على أن السواء بمعنى المستوي، و ﴿مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ﴾ مرتفعان بالسواء على الفاعلية.
والمعنى (١): بل أظن الذين اكتسبوا الشرك والمعاصي، مع مالهم من مساوي الأحوال، أن نصيرهم في الحكم، مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، مع ما لهم من محاسن الأعمال، ونعاملهم معاملتهم في الكرامة، ورفع الدرجة، حالة كون كلا الفريقين مستويًا، محياهم ومماتهم؛ أي: محيا الفريقين جميعًا ومماتهم، كلا لا يستوون في شيء منهما، فإن هؤلاء في عن الإيمان والطاعة، وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله ورضوانه في الممات، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي وهوانهما في المحيا، وفي لعنة الله، والعذاب الخالد في الممات، وشتان بينهما، وقيل: المراد إنكار أن يستووا في الممات، كما استووا في الحياة؛ لأن المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحة، وإنما يفترقون في الممات ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾؛ أي: ساء وقبح حكمهم هذا، على أن ﴿مَا﴾: مصدرية، والفعل للإخبار عن قبح حكمهم، أو بئس شيئًا حكموه، ذلك على أن ﴿سَاءَ﴾ بمعنى بئس، و ﴿مَا﴾: نكرة موصوفة بمعنى شيء، والفعل لإنشاء الذم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سواءٌ﴾ بالرفع، و ﴿مماتهم﴾ بالرفع أيضًا، وأعربوا ﴿سواءٌ﴾ مبتدأ، وخبره ما بعده، ولا مسوغ لجواز الابتداء، بل هو خبر مقدم وما بعده المبتدأ، والجملة خبر مستأنف، والمعنى: إنكار حسبانهم أن محياهم
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
455
ومماتهم سواء، وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وحفص: ﴿سَوَاءً﴾ بالنصب، وما بعده مرفوع على الفاعلية، أجرى ﴿سَوَاءً﴾ مجرى مستويًا كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وجوز في انتصاب ﴿سَوَاءً﴾ وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوبًا على الحال، و ﴿كَالَّذِينَ﴾ المفعول الثاني: والعكس، وقرأ الأعمش: ﴿سواء﴾: بالنصب ﴿محياهم ومماتهم﴾ بالنصب أيضًا، وخرج على، أن محياهم ومماتهم ظرفي زمان، والعامل إما ﴿أَنْ نَجْعَلَهُمْ﴾ وإما ﴿سَوَاءً﴾.
والثاني: أن يجعل بدلًا من مفعول ﴿نَجْعَلَهُمْ﴾، والمفعول الثاني: ﴿سَوَاءً﴾؛ أي: نجعل محياهم ومماتهم سواءً.
ومجمل معنى الآية (١): أي أيظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي في الدنيا، فكفروا بالله وكذبوا الرسل، وخالفوا أمره، وعبدوا غيره، أن نجعلهم كالذين آمنوا به، وصدقوا رسله، فنساوي بينهم في دار الدنيا، وفي الآخرة، كلا، لا يستوون في شيء منهما، فإن أهل السعادة في عز الإيمان والطاعة، وشرفهما في المحيا، وفي رحمة الله، ورضوانه في الممات، وأهل الشقاء في ذل الكفر، والمعاصي، وهوانهما في المحيا، وفي لعنة الله، والعذاب الخالد في الممات، فشتان ما بينهما وما أبعدما بين الثريا والثرى.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)﴾، وقوله: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨)﴾ ﴿سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾؛ أي: ساء ما ظنوا، وبعد أن نساوي بين الأبرار، والفجار في دار الآخرة، وفي هذه الدار، وفي الآية إرشاد إلى تباين حالي المؤمن العاصي، والمؤمن المطيع، وقد أثر عن كثير من الناسكين، المخبتين لربهم، أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية، حتى سموها مبكاة العابدين.
أخرج عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" والطبراني، وجماعة عن أبي
(١) المراغي.
456
الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية، فلما أتى على قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ الآية، لم يزل يكررها ويبكي، حتى أصبح وهو عند المقام، وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خشيم، أن الربيع كان يصلي، فمر بهذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ﴾ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت.
فلا يطمعن (١) البطال في ثواب العمال ولا الجبان في مقام الأبطال ولا الجاهل في مقام العالم ولا النائم في ثواب القائم، فعلى اجتهاد المرء يزيد أجره، وبقدر تقصيره ينحط قدره، وفي بعض الكتب السالفة: إن لله مناديًا ينادي كل يوم: أبناء الخمسين زرع دنا حصاده، أبناء الستين هلموا إلى الحساب أبناء السبعين ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ أبناء الثمانين لا عذر لكم، ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا وتجالسوا بينهم، فتذكروا ما عملوا، ألا أتتكم الساعة فخذوا حذركم.
وفي الخبر: "إذا أراد الله سبحانه بعبد خيرًا، بعث إليه ملكًا من عامه الذي يموت فيه، فيسدده، وييسره، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت، فقعد عند رأسه فقال: يا أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فذلك حين يحب لقاء الله، ويحب الله لقاءه، وإذا أراد بعبد شرًا بعث إليه شيطانًا من عامه الذي يموت فيه، فأغواه، فإذا كان عند موته، أتاه ملك الموت، فقعد عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده، فذلك حين يبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه"، ويقال: إذا أراد الله أن ينقل العبد من ذل المعصية إلى عن الطاعة، آنسه بالوحدة، وأغناه بالقناعة، وبصره بعيوب نفسه، فمن أعطي ذلك، فقد أعطي خير الدنيا والآخرة.
وعن أبي بكر الوراق رحمه الله تعالى: طلبنا أربعةً فوجدناها في أربعة، وجدنا رضي الله في طاعة الله تعالى، وسعة العيش في صلاة الضحى، وسلامة
(١) روح البيان.
457
الدين في حفظ اللسان، ونور القلب في صلاة الليل، فعليك بالتدارك قبل فوت الوقت، فإن الوقت سيف قاطع.
٢٢ - ثم أقام الدليل على عدم التساوي، وأبان حكمة ذلك، فقال: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: لأجل إظهار الحق والعدل بين العباد، فالباء تعليلية بمعنى اللام، وقوله: ﴿وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ﴾ معطوف على ﴿بِالْحَقِّ﴾ عطف علة على علة؛ لأن الباء تعليلية؛ أي: ولتجزى كل نفس مكلفة ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ من خير أو شر ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: النفوس المدلول عليها بكل نفس؛ أي: والحال أن الخلائق ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب المحسن، أو بزيادة عقاب المسيء.
والمعنى (١): أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين والمبطلين، ويجوز أن يكون معطوفًا على علة محذوفة، تقديرها: وخلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل بهما على قدرته، ولتجزى كل نفس، إلخ. وجوز ابن عطية أن تكون هذه اللام لام الصيرورة؛ أي: فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم، وضل عنها آخرون؛ لأن يجازى كل واحد بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، انتهى. ولا وقف على قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ وعند أبي حاتم، فالوقف عليه تام بجعل لام ﴿لتجزى﴾ لام قسم؛ أي: لم يخلق الله السموات والأرض للجور والظلام، بل خلقهما للحق والعدل، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء، في العاجل والآجل، وليثيب كل عامل بما هو له أهل، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به، أو يجعل للمسيء ثواب إحسان غيره.
والخلاصة: كل عامل يجزى بما كسبت يداه، ولا يظلم بنقص ثواب، ولا بتضعيف عقاب.
٢٣ - ثم بين أحوال الكافرين، وذكر جناياتهم على أنفسهم، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ
(١) المراح.
458
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وهو تعجيب لحال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى، فكأنه عبده، والهمزة: للاستفهام التعجيبي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أنظرت يا محمد إلى حال أسير الهوى، فرأيت من اتخذ ما تهواه نفسه الخبيثة إلهًا ومعبودًا، وترك متابعة الهدى، واختار متابعة الهوى، ففي الكلام استعارة تمثيلية، أو تشبيه بليغ حذف منه أداة التشبيه؛ أي: جعل هواه كإلهه في طاعته؛ أي: انظر يا محمد، واعجب من حال من ركب رأسه وترك الهدى وأطاع الهوى، فكأنه جعله إلهًا يعبده من دون الله، فهو لا يهوى شيئًا إلا فعله، لا يخاف ربًا ولا يخشى عقابًا، ولا يفكر في عاقبة ما يعمل، قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به، وعبد الآخر، وعن أبي رجاء العطاردي: أنه أدرك الجاهلية، وهو ثقة مات سنة خمس ومئة، وعمره مئة وعشرون سنة، قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا أحسن منه.. ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حَثْوةً من تراب، فحلبنا عليها، ثم طفنا بها.
وفي هذا: إيماء (١) إلى ذم اتباع هوى النفس، ومن ثم قال وهب بن منبه: إذا شككت في خير أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك وقال الإشبيلي الزاهد:
فَخَالِفْ هَوَاهَا وَاعْصِهَا إِنَّ مَنْ يُطِعْ هَوَى نَفْسِه يُنْزَعْ بِهِ شَرَّ مَنْزَعِ
وَمَنْ يُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوْجَةَ تُرْدِهِ وَتَرْمِ بِهِ فِيْ مَصْرَعٍ أَيَّ مَصْرَعِ
وقال البوصيري:
وَخَالِفِ النَّفْس وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمْا وَإِنْ هُمَا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
وقال بعضهم:
نُوْنُ الْهَوَانِ مِنَ الْهَوَى مَسْرُوْقَةٌ فَأَسِيْرُ كُلِّ هَوًى أَسِيْرُ هَوَانِ
وقال الآخر:
(١) المراغي.
459
فَاعْصِ هَوَىَ النَّفْسِ وَلَا تُرْضِهَا إِنَّكَ إِنْ اسْخَطْتَهَا زَانَكَا
حَتَّى مَتَى تَطْلُبُ مَرْضَاتَهَا وَإِنَّمَا تَطْلُبُ عُدْوَانَكَا
وقال ابن عباس: ما ذكر الله سبحانه هوى في القرآن إلا ذمه، قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾، وقال: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾، وقال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وروى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - ﷺ - فيما ذكره النووي في كتاب "الحجة" للمقدسي: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به". وقال أبو أمامة سمعت النبي - ﷺ - يقول: "ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى".
وروى شداد بن أوس عن النبي - ﷺ -: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله". أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم. وعنه - ﷺ - أنه قال: "إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة". أخرجه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني. وعنه أنه قال: "ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، والمنجيات: خشية الله في السر والعلن، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب". أخرجه الطبراني في "الأوسط" عن ابن عمر وهو ضعيف، وحسبك ذمًا لاتباع الهوى، قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (٤١)﴾.
وقيل: معنى ﴿أرأيت﴾ أخبرني عن حال من اتخذ هواه إلهًا، فيتعدى (١) إلى مفعولين، الأول: هو من اتخذ، والثاني: محذوف تقديره: مهتديًا يدل عليه قوله: فمن يهديه من بعد الله؛ أي: لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه، وفيه حينئذ تجوزان (٢)، إطلاق الرؤية، وإرادة الإخبار على طريق إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب؛ لأن الرؤية سبب للإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع
(١) البحر المحيط.
(٢) الفتوحات.
460
مطلق الطلب.
وقرىء (١): ﴿آلهته هواه﴾ لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه، فكأنه اتخذ هواه آلهةً شتى، يعبد كل وقت واحدًا منها. وقوله: ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ﴾ سبحانه معطوف على صلة ﴿مَنِ﴾، وقوله: ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ إما حال من الفاعل؛ أي: حال كون الله عالمًا في سابق علمه، بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح، أو من المفعول؛ أي: حال كون ذلك الضال، عالمًا بأن الحق هو الدين، ويعرض عنه عنادًا، كقوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد؛ لأنه قد علم أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية، لما في جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام واتباع الشهوات، فهو يوغل في القبائح دون زاجر، ولا وازع.
﴿وَ﴾ قد ﴿خَتَمَ﴾ وطبع ﴿عَلَى سَمْعِهِ﴾ فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى ﴿وَ﴾ ختم على ﴿قَلْبِهِ﴾ فلا يعي حقًا، ولا يسترشد إلى صواب ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ عظيمة، وغطاء مانعًا، يمنعه أن يبصر حجج الله، وآياته في الآفاق والأنفس فيستدل بها على وحدانيته تعالى، ويعلم بها أن لا إله غيره.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٧)﴾. وقرأ الجمهور (٢): ﴿غِشَاوَةً﴾ بكسر الغين المعجمة، وقرأ عبد الله، والأعمش: بفتحها، وهي لغة ربيعة، وقرأ الحسن، وعكرمة، وعبد الله أيضًا: بضمها، وهي لغة عكل، وقرأ الأعمش أيضًا وطلحة وأبو حنيفة ومسعود بن صالح وحمزة والكسائي: ﴿غشوة﴾ بفتح الغين وسكون الشين، وقرأ ابن مصرف والأعمش أيضًا كذلك إلا أنهما كسرا الغين.
ثم ذكر أن مثل هذا لا طمع في هدايته، فقال: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ﴾ ويرشده ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ إضلال ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه إياه؛ أي: فمن يوفقه لإصابة الحق، وإبصار محجة
(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.
461
الرشد بعد إضلال الله إياه، والاستفهام إنكاري؛ أي: لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألا تلاحظون (١) أيها الناس فلا تتذكرون، ولا تتفكرون، فتعلموا أن الهداية لا يملكها أحد سواه، أو فلا تتعظون؛ أي: أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا، أن من فعل الله به ما وصفنا، لن يهتدي أبدًا، ولم يجد لنفسه وليًا ولا مرشدًا، وقرأ الجمهور: ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ بتشديد الذال، والجحدري يخففها، والأعمش بتاءين.
ومجمل معنى الآية (٢): أي أخبرني عن حال ذلك الكافر الذي أطاع هواه وترك الهدى، واتخذ دينه ما يهواه، فكأنه جعل الهوى إلهه، يعبده من دون الله، فلا يهوى شيئًا إلا اتبعه دون مراعاة لما يحبه الله ويرضاه، فهذا مما يدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى شيئًا إلا فعله، والعبرة بعموم لفظ الآية، لا بخصوص السبب الذي نزلت الآية من أجله.
وقد أضله الله، وخذله مع علمه بالحق، ومعرفته الهدى من الضلال، وقيام الحجة عليه، وطبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وعلى قلبه حتى لا يفقه الهدى، وجعل غطاء على بصره وبصيرته حتى لا يبصر الرشد، ويدرك آيات الله في الكون، التي تدل على وحدانية الله تعالى، فمن يوفقه للصواب والحق، من بعد إضلال الله له بسبب انحرافه واتباعه هواه، أفلا تتذكرون تذكر اعتبار، وتتعظون حتى تعلموا حقيقة الحال.
٢٤ - ثم بين سبحانه بعض جهالاتهم، فقال: ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: قال منكروا البعث من غاية غيهم وضلالهم، وهم كفار قريش، ومشركوا العرب، وفي "كشف الأسرار": هذا من قول الزنادقة، الذين قالوا: الناس كالحشيش أي: ما الحياة ﴿إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ التي نحن فيها ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾؛ أي: يصيبنا الموت، والحياة فيها، وليس وراء ذلك حياة، وتأخير ﴿نحيا﴾ لأن فيها شبه مراعاة الفاصلة،
(١) روح البيان.
(٢) التفسير المنير.
462
ولأن ﴿الواو﴾ لمطلق الجمع، وقيل: نموت نحن ويحيا فيها أولادنا، وقيل: نكون نطفًا ميتةً، ثم نصير أحياء، وقيل: في الآية تقديم وتأخير؛ أي: نحيا ونموت، وكذا قرأ ابن مسعود. وعلى كل تقدير، فمرادهم بهذه المقالة: إنكار البعث، وتكذيب الآخرة، وقد جوز (١) أن يريدوا به التناسخ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان، قال الراغب: القائلون بالتناسخ قوم ينكرون البعث، على ما أثبتته الشريعة، ويزعمون أن الأرواح تنتقل من الأجساد على التأبيد؛ أي: إلى أجساد أخر. وفي "التعريفات": التناسخ عبارة عن تعلق الروح بالبدن، بعد المفارقة من بدن آخر، من غير تخلل زمان بين التعلقين، للتعشق الذاتي بين الروح والجسد. وقرأ زيد بن علي ﴿ونحيا﴾ بضم النون ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا﴾ ويعدمنا، ويفنينا ﴿إِلَّا الدَّهْرُ﴾؛ أي: إلا مرور الزمان، وهو مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، ثم يعبر به عن كل مدة كبيرة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة، وقيل: إلا مرور الأيام والليالي، قال مجاهد، يعني السنين والأيام. وقال قتادة: إلا العمر والمعنى واحد. وقال قطرب: وما يهلكنا إلا الموت. وقال عكرمة: وما يهلكنا إلا الله، وقرأ عبد الله: ﴿إلا دهر﴾، وتأويل إلا دهر يمر، كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين، قال ابن دريد في مقصورته:
يَا دَهْرُ إِنْ لَمْ تَكُ عُتْبَى فَاتَّئِدْ فِإِنَّ إِرْوَادَكَ وَالْعُتْبَى سَوَاء
ومجمل المعنى (٢): أي وقال المشركون الذين سبق ذكر بعض أوصافهم: لا حياة بعد هذه الحياة، التي نحن نعيش فيها، فنموت وتحيا أبناؤنا من بعدها، وهذا تكذيب صريح منهم للبعث والمعاد.
وقصارى ذلك: ما ثم إلا هذه الدار يموت قوم، ويعيش آخرون، وليس هناك بعث ولا قيامة ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾؛ أي: وما يفنينا إلا مر الليالي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
463
والأيام، فمرورها هو المؤثر في هلاك الأنفس، ويضيفون كل حادث إلى الدهر، وأشعارهم ناطقة بذلك، قال:
أَشَابَ الصَّغِيْرَ وَأَفْنَى الْكَبِيْرَ كَرُّ الْغَدَاةِ وَمَرُّ الْعَشِيّ
وقد كانت العرب في جاهليتهم، إذا أصابتهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، وقد جاء النهي عن سب الدهر، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "قال الله عَزَّ وَجَلَّ: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "يقول الله تعالى: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول وادهراه وأنا الدهر". قال الشافعي (١) وأبو عبيدة، وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله - ﷺ -: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر": كان العرب في الجاهلية إذا أصيبوا بشدة أو بلاء، قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله، فكأنهم إنما سبوا الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلذا نهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
ثم نعى عليهم مقالهم هذا، الذي لا دليل عليه، فقال: ﴿وَمَا لَهُمْ﴾؛ أي: وما لهؤلاء المشركين، الذين ينفون البعث والحياة بعد الموت ﴿بِذَلِكَ﴾؛ أي: بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا، وإسناد الحياة والموت إلى الدهر ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ ويقين، أسند إلى عقل، أو نقل، و ﴿مِنْ﴾: مزيدة لتأكيد النفي؛ أي: وما لهم علم ويقين بذلك ﴿إِنْ هُمْ﴾؛ أي: ما هم ﴿إِلَّا﴾ قوم ﴿يَظُنُّونَ﴾ بذلك؛ أي: ما هم إلا قوم قصارى أمرهم: الظن والتقليد من غير أن يكون لهم شيء يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم، وأما المؤمنون فقد
(١) ابن كثير.
464
أخذوا بالنصوص، وسلكوا طريق اليقين، وتجاوزوا عن برازخ الظن والتخمين، وأثبتوا البعث والحشر والصراط والجنة والنار.
والمعنى: أي وما لهم بقصر الحياة على حياة الدنيا، ونسبة الإهلاك إلى الدهر علم يستند إلى عقل، أو نقل، وقصارى أمرهم: الظن والتخمين، من غير أن يكون لهم ما يتمسكون به من حجة نافذة.
وفي الآية إشارة، إلى أن القول بغير بينة ولا حجة، لا ينبغي أن يعول عليه، وأن اتباع الظن منكر عند الله تعالى.
٢٥ - ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على منكري البعث ﴿آيَاتُنَا﴾ الناطقة بالحق، الذي من جملته البعث، حالة كونها ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالة على ما نطقت، أو مبينات له، نحو قوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى﴾ وغير ذلك: جواب ﴿إِذَا﴾، وبه استدل أبو حيان، على أن العامل في ﴿إِذَا﴾ ليس جوابها؛ لأن ﴿مَا﴾ النافية لها صدر الكلام، واعتذر عن دخول الفاء في الجواب، بأنها خالفت أدوات الشرط في ذلك، فإنها لا بد من دخول الفاء فيها، نحو: إن تزرنا فما جفوتنا؛ أي: فما تجفونا. و ﴿حُجَّتَهُمْ﴾ بالنصب على أنه خبر ﴿كَانَ﴾؛ أي (١): ما كان متمسكاتهم بشيء من الأشياء يعارضونها به ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾؛ أي: إلا قولهم عنادًا واقتراحًا ﴿ائْتُوا بِآبَائِنَا﴾؛ أي: أحيوهم، وابعثوهم من قبورهم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنا نبعث بعد الموت، وقد سبق في سورة الدخان؛ أي: لا حجة لهم إلا هذا القول الباطل، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحجة؛ لأنها إنما تطلق على الدليل القطعي. وتسميته (٢) حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم، أو لتنزيل التقابل منزلة التناسب للمبالغة، فأطلق اسم الحجة على ما ليس بحجة، من قبيل:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
أي: سماه حجة، لبيان أنهم لا حجة لهم البتة؛ لأن من كانت حجته هذا، لا يكون له حجة البتة، كما أن من ابتدأ بالضرب الوجيع في أول التلاقي، لا يكون بينهم تحية البتة، ولا يقصد بهذا الأسلوب إلا هذا المعنى، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة والمراد: نفي أن يكون لهم حجة البتة، وقرأ الجمهور (١): ﴿حُجَّتَهُمْ﴾ بالنصب على أنه خبر ﴿كَانَ﴾ واسمها ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وزيد بن علي وعبيد بن عمير وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد، وعاصم فيما روى هارون، وحسين عن أبي بكر برفع ﴿حجتُهم﴾ على أنه اسم ﴿كَانَ﴾.
٢٦ - ثم أمر رسوله أن يرد عليهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحْيِيكُمْ﴾ ابتداء ما شاء أن يحييكم في الدنيا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ فيها عند انقضاء آجالكم ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ﴾ بعد البعث جميعًا أولكم وآخركم، صغيركم وكبيركم، منتهين ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ للجزاء ثم أكد ذلك ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾؛ أي: لا شك في هذا البعث والجمع، فإن من قدر على البدء بقدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء، لا محالة لتجزى كل نفس بما كسبت، والأديان جميعًا متضافرة على تحققه، وحصوله يوم القيامة، والوعد المصدق بالمعجزات دل على وقوعه حتمًا، والإتيان بآبائهم حيث كان، مزاحمًا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه.
وقصارى ما سلف (٢): أن البعث أمر ممكن، أخبر به الأنبياء الصادقون، والحكمة تقتضي حصوله، والعقل يؤيده فهو واقع لا محالة ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ يعني: الكفرة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ تحتم البعث والجزاء بمقتضى وعده؛ أي: ينكرون البعث، ويستبعدون عودة الأجساد بعد موتها، وحين تكون عظامًا نخرة، كما قال: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)﴾؛ أي: يرون وقوعه بعيدًا، والمؤمنون يرونه قريبًا وما دعاهم إلى ذلك إلا جهلهم، وقصر نظرهم، وهذا (٣) استدراك
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
على قوله: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ بأن فيه شائبة ريب ما، وفيه إشارة إلى أن الله يحييكم بالحياة الإنسانية، ثم يميتكم عن صفة الإنسانية الحيوانية، ثم يجمعكم بالحياة الربانية إلى يوم القيامة، وهي النشأة الأخرى لا ريب في هذا عند أهل النظر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون؛ لأنهم أهل النسيان والغفلة.
وَفِيْ الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأَهْلِهِ وَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُوْرِ قُبُوْرُ
وإِنَّ أَمْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ وَلَيْسَ لَهُ حِيْنَ النُّشُوْرِ نُشُوْرُ
٢٧ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ لا لغيره ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: الملك المطلق، والتصرف الكلي فيهما، وفيما بينهما مخصوص بالله تعالى، وهو تعميم للقدرة بعد تخصيصها؛ أي: إن الله (١) سبحانه مالك العالم العلوي والسفلي، جار حكمه فيهما دون ما تدعون من دونه من الأوثان والأصنام.
ثم توعد الكافرين أهل الباطل فقال: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ والعامل في (٢) ﴿يَوْمَ﴾ ﴿يُخْسِرُ﴾ الآتي، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ بدل منه، قال العلامة التفتازاني: مثل هذا بالتأكيد أشبه، وأنى يتأتى أن هذا مقصود بالنسبة دون الأول؟.
قلت: اليوم في البدل بمعنى الوقت، والمعنى وقتئذٍ إذ تقوم الساعة، ويحشر الموتى فيه، وهو جزء من ﴿يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ فإنه يوم متسع مبدؤه من النفخة الأولى، فهو بدل البعض، والعائد مقدر، ولما كان ظهور خسرهم وقت حشرهم، كان هو المقصود بالنسبة، كذا في "حواشي سعدي المفتي"، ومعنى ﴿يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾: يظهر خسرانهم ثمة، يقال: أبطل فلان إذا جاء بالباطل، وقال شيئًا لا حقيقة له، والمراد: الذي يبطلون الحق، ويكذبون بالبعث؛ أي: يخسر المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل.
والمعنى (٣): أي ويوم تقوم الساعة، ويحشر الناس من قبورهم للعرض، والحساب سيظهر خسران أولئك المنكرين الجاحدين، بما أنزل الله على رسله من
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
الآيات والدلائل، بدخولهم في جهنم وبئس المستقر، وقد جعلت الحياة والصحة والعقل كأنها رؤوس أموال، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجري مجرى تصرف التاجر في ماله طلبًا للربح، أما الكفار فقد أتعبوا أنفسهم، وتصرفوا فيها بفعل الآثام، والإشراك بالله، تصرف التاجر الذي أساء في تجارته فوكس فيها، ولم يجد في العاقبة إلا الخسران والخذلان والطرد من رحمة الله، وذلك ما لا يرضاه عاقل لنفسه، يزن الأمور بميزان الحكمة والسداد.
٢٨ - ثم بين حال الأمم في ذلك اليوم، وما تلاقيه من الشدائد، انتظارا لفصل القضاء، فقال: ﴿وَتَرَى﴾ أيها المخاطب في ذلك اليوم، روية عين ﴿كُلَّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم المجموعة، مؤمنيهم وكافريهم، حال كونها ﴿جَاثِيَةً﴾؛ أي: باركة جالسة على الركب من هول ذلك اليوم، غير مطمئنة؛ لأنها خائفة، فلا تطمئن في جلستها عند السؤال والحساب، يقال: جثا إذا جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ﴿جَاثِيَةً﴾؛ أي: مجتمعة، بمعنى: أن كل أمة لا تختلط بأمة أخرى، يقال: جثوت الإبل وجثيتها، جمعتها، والجثوة بالضم: الشيء المجتمع.
فإن قيل (١): الجثو على الركب إنما يليق بالكافرين، فإن المؤمنين لا خوف عليهم يوم القيامة.
فالجواب: أن الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذا، إلى أن يظهر كونه محقًا مستحقًا للأمن.
وقرىء (٢): ﴿جاذية﴾ بالذال المعجمة، والجذو أشد استيفازا من الجثو؛ لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه. ﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾ كرر ﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾؛ لأنه موضع الإغلاظ والوعيد ﴿تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾؛ أي: إلى صحيفة أعمالها، فالإضافة مجازية للملابسة؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه، وقيل: إلى كتابها الذي أنزل عليها لتعبد ربها بهديه، وكتابها الذي نسخته الحفظة من أعمالها، ليطبق أحدهما
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
على الآخر، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا، ومن خالفه هلك، وكان من الأخسرين أعمالًا ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)﴾ ونحو الآية قوله: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
وفيه إشارة (١) إلى عجز العباد، وأن لا حول ولا قوة لهم فيما كتب الله لهم في الأزل، وأنهم لا يصيبهم في الدنيا والآخرة إلا ما كتب الله لهم على مقتضى أعيانهم الثابتة، فلا يجرون في الأفعال إلا على القضاء، وقرأ يعقوب ﴿كل أمة تدعى﴾ بنصب كل أمة على البدل، بدل النكرة الموصوفة من النكرة، وأفرد كتابها اكتفاءً باسم الجنس لقوله: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾.
ثم ذكر أنهم ينذرون ويبشرون بما سيبنى عليه حكم القضاء ﴿الْيَوْمِ﴾ معمول لقوله: ﴿تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: ويقال لهم حال دعائهم إلى كتابهم: اليوم تجازون بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا خيرها وشرها، فمن كان عمله الإيمان والطاعة، جزاه الله بالجنة، ومن كان عمله الشرك والعصيان، جزاه بالنار كما قال - ﷺ -: "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك، فيجثيان بين يدي الرب تعالى، فيقول الله للإيمان، انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك انطلق أنت وأهلك إلى النار".
٢٩ - وقوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾ إلخ، من تمام ما يقال لهم حينئذ، ولما كان كتاب كل أمة مكتوبًا بأمر الله، أضيف إلى نون العظمة تفخيمًا لشأنه، وتهويلًا لأمره، وإلا فالظاهر: أن يضاف إلى الأمة بأن يقال: هذا كتابها كما فيما قبلها. وعبارة "فتح الرحمن" هنا: فإن قلت: كيف أضاف الكتاب إلى الأمة ثم أضافه إليه تعالى في قوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾؟
قلت: الإضافة تحصل بأدنى ملابسة، فأضافه إلى الأمة لكون أعمالهم مثبتة فيه، وأضاف إليه تعالى لكونه مالكه، وآمر ملائكته بكتابته؛ أي: هذا الكتاب الذي تدعون إليه كتابنا؛ أي: كتاب حفظتنا الذي كتبته عليكم في الدنيا، ودونت
(١) روح البيان.
فيه أعمالكم.
﴿يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: يشهد عليكم ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصدق من غير زيادة، ولا نقص، والجملة خبر آخر لهذا، و ﴿بِالْحَقِّ﴾ حال من فاعل ﴿يَنْطِقُ﴾ فهو صورة تطابق ما فعلتموه حذو القذة بالقذة، وقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ﴾ إلخ، تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها؛ أي: إنا كنا نأمر الحفظة بنسخ ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، وكتابته في صحائف أعمالكم، وإثباتها عليكم حسنة كانت أو سيئة، صغيرة كانت أو كبيرة، أول فأول، فهي وفق ما عملتم بالدقة والضبط؛ لأن السين للطلب، وفي هذا (١) إجابة عما يخطر بالبال من سؤال فيقال: ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة، وبعد العهد، فأجيبوا بهذا الجواب.
قال الواحدي (٢): وأكثر المفسرين، على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم، فيجدون ذلك موافقًا لما يعملونه قالوا: لأن الاستنساخ لا يكون إلا من أصل. وقيل: المعنى نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون، وقيل: إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات، وتركوا المباحات، وقيل: إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه، أمر - عز وجل - أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب، وسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
٣٠ - ثم فصل حال الفريقين فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ من الأمم، وصدقوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحة، وهي الخالصة الموافقة للشرع ﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي﴾ محل ﴿رَحْمَتِهِ﴾ وهو الجنة؛ أي: فأما الذين آمنت قلوبهم، وعملت جوارحهم صالح الأعمال التي أمر بها الدين، فيكافئهم ربهم على ما عملوا، ويدخلهم جنات النعيم، وقد جاء في الحديث الصحيح: "أن الله تعالى قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء"
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من إدخالهم في رحمته تعالى ﴿هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: الظاهر كونه فوزًا لا فوز وراءه.
يقول الفقير: وأما الفوز (١) العظيم فهو دخول جنة القلب، ولقاؤه تعالى، ولكن لما كان هذا الفوز غير ظاهر بالنسبة إلى العامة، وكان الظاهر عندهم الفوز بالجنة، قيل هو الفوز المبين، وإن اشتمل الفوز المبين على الفوز العظيم؛ لأن الجنة محل أنواع الرحمة؛ أي: هذا المذكور هو الظفر بالبغية التي كانوا يطلبونها، والغاية التي كانوا يسعون في الدنيا لبلوغها، وهو فوز لا فوز بعده
٣١ - ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله وعملوا السيئات، فيقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: ﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي﴾ المنزلة ﴿تُتْلَى﴾ وتقرأ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بواسطة رسلي، والجملة الاستفهامية مقول للقول المحذوف كما قدرنا، والهمزة فيه للاستفهام التقريعي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم، فحذف المعطوف عليه ثقة بدلالة القرينة عليه ﴿فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾؛ أي: تكبرتم عن الإيمان ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾؛ أي: قومًا عادتهم الإجرام والإشراك.
أي: وأما الذين جحدوا وحدانية الله تعالى، فيقال لهم تأنيبًا وتوبيخًا: ألم تكن تأتيكم رسلي فتتلو عليكم آيات كتبي فتتكبرون عن الإيمان، ولا عجب، فديدنكم الإجرام وارتكاب الآثام، والكفر بالله، لا تصدقون بميعاد، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب، والمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي
٣٢ - ﴿وَ﴾ كنتم ﴿إِذَا قِيلَ﴾ لكم؛ أي: إذا قال لكم المؤمنون: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: إن ما وعده من الأمور الآتية فهو بمعنى الموعود ﴿حَقٌّ﴾ واقع لا محالة ﴿وَالسَّاعَةُ﴾؛ أي: القيامة التي هي أشهر ما وعده ﴿لَا رَيْبَ فِيه﴾ ولا شك في وقوعها لكونها مما أخبر به الصادق المصدوق، ولقيام الشواهد على وجودها ﴿قُلْتُمْ﴾ من غاية عتوكم يا منكري البعث من الكفار والزنادقة ﴿مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ﴾؛ أي: أي شيء
(١) روح البيان.
هي، استغرابًا لها؛ أي: أنكرتموها، وقلتم ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾؛ أي: ما نعلم ذلك إلا حدسًا وتوهمًا. وأصله (١): نظن ظنًا، فأدخل حرف النفي والاستثناء لاثبات الظن، ونفي ما عداه، كأنه قال: ما نحن إلا نظن ظنًا، أو لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغةً، ثم أكده بقوله: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾؛ أي: أنها كائنة.
فإن قلت (٢): إن قولهم: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾ يدل على أنهم قاطعون بنفي البعث، وقولهم: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ يدل على أنهم شاكون في إمكانه ووقوعه، وبين الآيتين معارضة.
قلت: يجمع بينهما بأن المجرمين كانوا فرقتين في أمر البعث، فرقة جازمة بنفيه، وهم المذكورون في قوله: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ وفرقة كانت تشك وتتحير فيه، وهم المذكورون في هذه الآية. اهـ. "زاده" بتصرف.
وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد (٣): ﴿وإذا قيل أن وعد الله﴾ بفتح الهمزة، وذلك على لغة سليم، والجمهور قرؤوا بكسرها، وقرأ الجمهور ﴿والسَّاعَةُ﴾ بالرفع على الابتداء، وقرأ حمزة بالنصب عطفًا على ﴿وعد الله﴾، وهي مروية عن الأعمش وأبي عمرو وعيسى وأبي حيوة، والعبسي والمفضل.
والمعنى (٤): أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار من طريق الرسول - ﷺ - والمؤمنين: إن وعد الله بالبعث والحساب، وبجميع الأمور المستقبلة في الآخرة حق ثابت، وواقع لا محالة، والقيامة لا شك في وقوعها فآمنوا بذلك، واعملوا لما ينجيكم من العذاب قلتم: لا نعرف ما القيامة إن نتوهم وقوعها توهمًا مرجوحا، أو ظنا لا يقين فيه ولا علم، وما نحن بمتحققين، ولا موقنين أن القيامة آتية؛ أي: كأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه، وأكدوا هذا المعنى بقولهم: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾.
٣٣ - ثم بعد هذا التوبيخ والنقاش، ذكر الله تعالى ما يفاجؤون به من العذاب
(١) بيضاوي.
(٢) زاده.
(٣) البحر المحيط.
(٤) التفسير المنير.
فقال: ﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾؛ أي: ظهر للكفار في الآخرة ﴿سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ في الدنيا من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: أعمالهم السيئة، على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة، وعاينوا وخامة عاقبتها: والمراد (١) الشرك والمعاصي، التي كانت تميل إليها الطبائع والنفوس، وتشتهيها وتستحسنها، ثم تظهر يوم القيامة في الصور القبيحة، قالوا فالحرام على صورة الخنزير، والزكاة التي لم تؤد على صورة الشجاع الأقرع، والعلم بلا عمل على صورة الشجرة اليابسة، والرجوع عن الحق إلى الباطل في صورة تحول الوجه إلى القفا، إلى غير ذلك من الصور المتنوعة، بحسب الأعمال المختلفة، ولكن ليس لبعض هذه الصور أصول يستند إليه، فكل ما أثمر لهم في الآخرة، إنما هو من زرع زرعوه في مزرعة الدنيا بأعمالهم السيئة، ويجوز أن يراد ﴿سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ جزاؤها، فإن جزاء السيئة سيئة مثلها، فسميت باسم سببها، وهذا أولى ﴿وَحَاقَ﴾؛ أي: أحاط ﴿بِهِم﴾ ونزل عليهم ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ في الدنيا من الجزاء والعقاب
٣٤ - ﴿وَقِيلَ﴾ من جانب الحق سبحانه ﴿اليومَ﴾ وهو يوم القيامة ﴿نَنْسَاكُمْ﴾؛ أي: نترككم في العذاب ترك المنسي، ففي ضمير الخطاب استعارة بالكناية، بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب، وعدم المبالاة بهم، وقرينتها النسيان ﴿كَمَا نَسِيتُمْ﴾ في الدنيا ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾؛ أي: كما تركتم عدَّته ولم تبالوا بها، وهي الإيمان والعمل الصالح، وإضافة اللقاء إلى اليوم، من إضافة المصدر إلى ظرفه؛ أي: نسيتم لقاء الله، وجزاءه في يومكم هذا، فأجرى اليوم مجرى المفعول به، وجعل ملقيًا. ففي هذه الإضافة توسع، لما فيه من إضافة الشيء إلى ما هو واقع فيه، وفيه إشارة إلى أنهم زرعوا في مزرعة الدنيا بذر النسيان، فأثمرهم في الآخرة ثمرة النسيان ﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾؛ أي: مستقركم ومسكنكم الذي تأوون إليه ﴿النَّارُ﴾؛ أي: نار جهنم؛ لأنها مأوى من نسينا، كما أن الجنة تأوي من ذكرنا ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ ينصرونكم، فيمنعون عنكم العذاب؛ أي: ما لأحد منكم ناصر واحد، يخلصكم منها.
(١) روح البيان.
ومجمل معنى الآيتين (١): أي وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، حين قرؤوا كتب أعمالهم، التي دونتها الحفظة، كي لا يكون لهم حجة إذا نزل بهم العذاب، ثم جُوزوا بما كانوا يهزؤون به في الدنيا، ويقولون: ما هو إلا أوهام وأباطيل، وخرافات قد دونها المبطلون.
ثم ذكر ما يزيد في تعذيبهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، فقال: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ﴾ إلخ؛ أي: وقيل لهم تغليظًا في العقوبة وإمعانًا في التهكم، والسخرية: اليوم نترككم في العذاب، كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا، وليس لكم مستنقذ ينقذكم منه، ولا مستنصر يستنصر لكم ممن يعذبكم.
٣٥ - والخلاصة: أنه تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب: قطع الرحمة عنهم، وجعل مأواهم النار، وعدم وجود الأنصار والأعوان، من قبل أنهم أتوا بثلاثة ضروب من الإجرام: الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به، والاستغراق في حب الدنيا، وهذا ما عناه سبحانه بقوله: ﴿ذَلِكُمْ﴾ العذاب ﴿بِأَنَّكُمُ﴾؛ أي: بسبب أنكم ﴿اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿هُزُوًا﴾؛ أي: مهزوءًا بها، ولم ترفعوا لها رأسًا بالتفكر والقبول، ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ حين قلتم: لا بعث ولا حساب، فحسبتم أن لا حياة بعدها ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾؛ أي: من النار، والالتفات (٢) فيه من الخطاب إلى الغيبة، للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، استهانة بهم، أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار. وقرأ الجمهور: ﴿لَا يُخْرَجُونَ﴾ مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن وابن وثاب وحمزة والكسائي مبنيا للفاعل ﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾؛ أي: ولا هم يطلب منهم العتبى، والرجوع إلى طاعة الله سبحانه ليرضوه؛ أي: ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم؛ أي: يرضوه بالطاعة لفوات أوانه.
والمعنى (٣): أي هذا الذي حل بكم من عذاب الله، بسبب أنكم في الدنيا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
اتخذتم حجج الله، وآيات كتابه، التي أنزلها على رسوله، سخرية تسخرون منها، وخدعتكم زينة هذه الحياة، فآثرتموها على العمل لما ينجيكم من عذابه، ظنا منكم أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ولا بعث ولا حساب، فاليوم لا يخرجون من النار ولا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا، ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.
والخلاصة: أنهم لا يخرجون، ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم عليهم؛ أي: لا يُطلب إرضاؤه لفوات أوانه.
٣٦ - وبعد أن ذكر ما حوته السورة من آلائه تعالى، وإحسانه، وما اشتملت عليه من الدلائل التي في الآفاق والأنفس، وما انطوت عليه من البراهين الساطعة على المبدأ، والمعاد، أثنى على نفسه بما هو له أهل، فقال: ﴿فَلِلَّهِ﴾ سبحانه خاصة. ﴿الْحَمْدُ﴾؛ أي: جميع صنوف الحمد، وأنواعه، فلا يستحق لغيره؛ لأنه الفاعل المختار ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ﴾؛ أي: مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع، وخالقهما، و ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: مالك جميع المخلوقات، علويها وسفليها من الأرواح، والأجسام، والذوات، والصفات، فلا يستحق الحمد أحد سواه تعالى، وتكرير (١) الرب للتأكيد، والإيذان بأن ربيته تعالى لكل منها، بطريق الأصالة.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رَبِّ﴾ في المواضع الثلاثة، بالجر على الصفة للاسم الشريف، وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن: بالرفع في الثلاثة، على تقدير مبتدأ؛ أي: هو رب السموات إلخ،
٣٧ - ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْكِبْرِيَاءُ﴾؛ أي: العظمة والقدرة والسلطان والجلال والعز والقهر ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ وفي سائر المخلوقات، وخص السموات والأرض بالذكر لظهور آثارها، وأحكامها فيهما، وإظهارهما في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يغلب ﴿الْحَكِيمُ﴾ في كل ما قضى وقدر فاحمدوه؛ أي: لأن له الحمد، وكبروه؛ أي: لأن له الكبرياء، وأطيعوه؛ أي:
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
475
لأنه غالب على كل شيء، وفي كل صنعة حكمة جليلة.
وفي الحديث القدسي: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري". أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -، وقال بعضهم: وصف الحق سبحانه نفسه بالإزار والرداء دون القميص والسراويل؛ لأن الأولين غير مخيطين وإن كان منسوجين فهما إلى البساطة أقرب، والثانيين مخيطان ففيهما تركيب، ولهذا السر حرم المخيط على الرجل في الإحرام دون المرأة؛ لأن الرجل وإن كان خلق من مركب فهو إلى البساطة أقرب، وأما المرأة فقد خلقت من مركب محقق هو الرجل، فبعدت عن البسائط، والمخيط تركيب، فقيل للمرأة: ابقي على أصلك لا تلحقي الرجل، وقيل للرجل: ارتفع عن تركيبك، انتهى.
ومعنى الآية: أي فللَّه الحمد على أياديه على خلقه، فإياه فاحمدوا، وله فاعبدوا، فكل ما بكم من نعمة فهو مصدرها، دون ما تعبدون من وثن أو صنم، وهو مالك السموات السبع، ومالك الأرضين السبع، ومالك جميع ما فيهن، وله الجلال، والعظمة، والسلطان في العالم العلوي، والعالم السفلي، فكل شيء خاضع له، فقير إليه، دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وهو العزيز الذي لا يمانع، ولا يغالب، الحكيم في أفعاله وأقواله، تقدس ربنا جلت قدرته، وتعظمت آلاؤه.
وقصارى ذلك: له الحمد فاحمدوه، وله الكبرياء فعظموه، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.
الإعراب
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٢١)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة، بمعنى: بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. {حَسِبَ
476
الَّذِينَ}: فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لبيان تغاير حالي المسيئين والمحسنين، ﴿اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة صلة الموصول ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿نَجْعَلَهُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ومفعول أول. ﴿كَالَّذِينَ﴾: في موضع المفعول الثاني، وجملة ﴿جعل﴾ مع أن المصدرية في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي حسب، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿سَوَاءً﴾ بالنصب حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور في قوله: ﴿كَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿مَحْيَاهُمْ﴾ فاعل بـ ﴿سَوَاءً﴾، ﴿وَمَمَاتُهُمْ﴾ معطوف عليه، والمعنى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات، أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حال كونهم مستوين وإياهم في حياتهم ومماتهم؛ أي: مماثلين إياهم في الحالين، والاستفهام بمعنى: الإنكار والنفي، وبالرفع: ﴿سَوَاءٌ﴾ خبر مقدم، و ﴿مَحْيَاهُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور؛ أي: أم حسب الكفار أن نجعلهم مثل المؤمنين، حال كونهم مستوين في حياتهم ومماتهم، ليسوا كذلك، بل هم مفترقون أي افتراق في الحالين، وتكون هذه الحال مبينة لما انبهم في المثلية، الدال عليها الكاف التي هي في موضع المفعول الثاني. ﴿سَاءَ﴾ فعل ماض لإنشاء الذم. ﴿مَا﴾ مصدرية، وجملة ﴿يَحْكُمُونَ﴾: مع ﴿مَا﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿سَاءَ﴾ تقديره: ساء حكمهم هذا، أو ﴿مَا﴾ نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز، وفاعل ﴿سَاءَ﴾ مستتر تقديره: هو، وجملة ﴿يَحْكُمُونَ﴾ صفة لـ ﴿ما﴾، والتقدير: ساء هو شيئًا حكموه، والمخصوص بالذم حكمهم هذا.
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢)﴾.
﴿وَخَلَقَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿خلق الله السماوات﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على السموات، ﴿بِالْحَقِّ﴾: إما حال من الفاعل، أو من المفعول، أو صفة لمصدر محذوف، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافًا بيانيًا، مسوقًا لبيان دليل نفي الاستواء بين الفريقين. ﴿وَلِتُجْزَى﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ما
477
بعدها على تعليل محذوف، تقديره: وخلق الله السموات والأرض بالحق، ليدل على قدرته، ولتجزى كل نفس، واللام: حرف جر وتعليل، ﴿تجزى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ نائب فاعل. ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تجزى﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، والتقدير: ولجزاء كل نفس بما كسبت، الجار والمجرور: معطوف على الجار والمجرور في قوله: ليدل، على كونه متعلقًا بـ ﴿خلق﴾ وجملة ﴿كَسَبَتْ﴾ صلة لما المصدرية أو الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بما كسبته. ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ حالية، ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من نائب فاعل ﴿تُجْزَى﴾؛ لأنه بمعنى؛ ليجزى كل الخلائق بما كسبوا وهم لا يظلمون.
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٢٣)﴾.
﴿أَفَرَأَيْتَ﴾: الهمزة للاستفهام التعجيبي داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير: أنظرت يا محمد إلى حال أسير الهوى، فرأيت من اتخذ إلهه هواه، كما مر في مبحث التفسير، والجملة المحذوفة جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿رأيت﴾: فعل وفاعل، و ﴿مَنِ﴾ مفعول ﴿رأيت﴾ الأول، والثاني محذوف، تقديره: مهتديًا، ﴿اتَّخَذَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر صلة ﴿مَنِ﴾ الموصولة، ﴿إِلَهَهُ﴾: مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذَ﴾، ﴿هَوَاهُ﴾: مفعوله الثاني، أو بالعكس، ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، معطوف على ﴿اتَّخَذَ﴾، ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾: حال من المفعول، وهو أولى من جعله حالًا من الفاعل، والمعنى: أصله الله وهو عالم بالحق؛ لأن المبالغة فيه أشد، والتشنيع به أكثر. ﴿وَخَتَمَ﴾ فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على أضل، ﴿عَلَى سَمْعِهِ﴾ متعلق بـ ﴿خَتَمَ﴾، ﴿وَقَلْبِهِ﴾ معطوف على ﴿سَمْعِهِ﴾، ﴿وَجَعَلَ﴾ فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿ختم﴾، ﴿عَلَى بَصَرِهِ﴾ في موضع المفعول الثاني لـ ﴿جعل﴾، ﴿غِشَاوَةً﴾ مفعول أول لـ ﴿جعل﴾، ﴿فَمَنْ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ، وجملة ﴿يَهْدِيهِ﴾ خبره، ﴿مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾ جار
478
ومجرور متعلق بـ ﴿يَهدِيهِ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على مفعول. ﴿رأيت﴾، ﴿أَفَلَا﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتصرون على الغي فلا تذكرون، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَذَكَّرُونَ﴾: فعل مضارع، حذفت إحدى تائيه مرفوع بثبات النون، والواو فاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٦)﴾.
﴿وَقَالُوا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتفنيد مزاعمهم؛ إذ كانوا يزعمون أن هلاك الأنفس منوط بمرور الأيام والليالي. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداء استثناء مفرغ. ﴿حَيَاتُنَا﴾: خبر، ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة للحياة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾، ﴿نَمُوتُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود عليهم، والجملة مستأنفة، مسوقة لإيراد المزيد من عقائدهم الفاسدة، وجملة: ﴿وَنَحْيَا﴾ معطوفة على ﴿نَمُوتُ﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿يُهْلِكُنَا﴾: فعل ومفعول به. ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر. ﴿الدَّهْرُ﴾ فاعل، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿لَهُم﴾: خبر مقدم، ﴿بِذَلِكَ﴾ متعلق بـ ﴿عِلْمٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿عِلْمٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿قالوا﴾، ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، وجملة ﴿يَظُنُّونَ﴾: خبر المبتدأ. والجملة مستأنفة، ﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿تُتْلَى﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به. ﴿آيَاتُنَا﴾ نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ حال من ﴿آيَاتُنَا﴾، ﴿مَا﴾ نافية، ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿حُجَّتَهُمْ﴾ خبر ﴿كاَنَ﴾ مقدم، ﴿إِلَّا﴾ أداة حصر، وجملة ﴿أَنْ قَالُوا﴾ قالوا مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مرفوع على كونه اسم كان مؤخر تقديره:
479
ما كان حجتهم إلا قولهم ائتوا بآبائنا، وجملة ﴿كاَنَ﴾ جواب إذا، لا محل لها من الإعراب، وجملة إذا معطوفة على جملة قالوا ﴿ائْتُوا﴾ فعل أمر، وفاعل، ﴿بِآبَائِنَا﴾ متعلق به، والجملة الفعلية مقول قالوا: ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم صادقين فائتوا بآبائنا، وجملة الشرط مقول ﴿قالوا﴾، ﴿قُلِ﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿اللهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يُحْيِيكُمْ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾: معطوف على ﴿يُحْيِيكُمْ﴾، ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ﴾: معطوف على ﴿يُمِيتُكُمْ﴾ ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْمَعُكُمْ﴾ ﴿لَا﴾: نافية. ﴿رَيْبَ﴾ اسمها. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب حال من ﴿يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، ﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لكن﴾: حرف نصب، ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ اسمها وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبرها، والجملة الاستدراكية حال من ضمير ﴿فِيهِ﴾؛ أي: حال كونهم لا يعلمون مجيئه، ولا يعتقدون.
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لله﴾: خبر مقدم، ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يوم﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يَخْسَرُ﴾، وجملة ﴿تَقُومُ السَّاعَةُ﴾: مضاف إليه، ﴿يَوْمَئِذٍ﴾: ظرف أضيف إلى مثله، وهو بدل من الظرف قبله، بدل بعض من كل، كما مر في مبحث التفسير، ﴿يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، ﴿وَتَرَى﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ترى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر معطوف على ﴿يَخْسَرُ﴾، ﴿كُلَّ أُمَّةٍ﴾: مفعول به لـ ﴿ترى﴾، وهي بصرية تتعدى إلى مفعولي واحد، ﴿جَاثِيَةً﴾ حال من ﴿كُلُّ أُمَّةٍ﴾، ويحتمل أن تكون ﴿ترى﴾ علمية، و ﴿جَاثِيَةً﴾: مفعولها الثاني، ﴿كُلَّ أُمَّةٍ﴾: مبتدأ، ﴿تُدْعَى﴾ فعل مضارع مغير
480
الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿كُلَّ أُمَّةٍ﴾، والجملة خبر المبتدأ. ﴿إِلَى كِتَابِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تُدْعَى﴾، والجملة الاسمية في محل النصب، حال ثانية من ﴿كُلَّ أُمَّةٍ﴾، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾، ﴿تُجْزَوْنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، والواو نائب فاعل، وهو المفعول الأول. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف؛ أي: ويقال لهم توبيخًا لهم: اليوم تجزون، إلخ. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كاَنَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، ﴿يَنْطِقُ﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر، والجملة في محل النصب حال من ﴿كِتَابُنَا﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْطِقُ﴾، ﴿بِالْحَقِّ﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: نطقًا متلبسًا بالحق، أو حال من فاعل ﴿يَنْطِقُ﴾، ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿نَسْتَنْسِخُ﴾ خبره، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لذلك القول المحذوف، على كونها معللة لما قبلها، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نَسْتَنْسِخُ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كاَنَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠)﴾.
﴿فَأَمَّا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما يقال لهم يوم القيامة، وأردت بيان حال الفريقين.. فأقول لك. ﴿أما﴾: حرف شرط. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلته، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿فَيُدْخِلُهُمْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿أما﴾، ﴿يدخلهم﴾: فعل مضارع ومفعول به، ﴿رَبُّهُمْ﴾: فاعل، ﴿فِي رَحْمَتِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يدخلهم﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جواب ﴿أما﴾، وجملة ﴿أما﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل،
481
﴿الْفَوْزُ﴾: خبر، ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة لـ ﴿الْفَوْزُ﴾.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٣١)﴾.
﴿وَأَمَّا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿أما﴾: حرف شرط، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي إلخ، والجملة الإسمية جواب ﴿أما﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿أما﴾ معطوفة على جملة ﴿أما﴾ الأولى، ﴿أَفَلَمْ﴾: الهمزة للاستفهام التقريري، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم تأتكم رسلي، فلم تكن آياتي تتلى عليكم، والجملة المحذوفة في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم، ﴿تَكُنْ آيَاتِي﴾: فعل ناقص واسمه، مجزوم بـ ﴿لم﴾، ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿آيَاتِي﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، وجملة ﴿تُتْلَى﴾: في محل النصب خبر ﴿تَكُنْ﴾، وجملة ﴿لم تكن﴾ معطوف على تلك المحذوفة ﴿فَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾: الفاء عاطفة، ﴿استكبرتم﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿لم تكن﴾. ﴿وَكُنْتُمْ قَوْمًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبرهُ، معطوف على ﴿استكبرتم﴾، ﴿مُجْرِمِينَ﴾ صفة ﴿قَوْمًا﴾.
﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٣٣)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْتُمْ﴾ نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾، والجملة الفعلية في محل الخفص بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿وَالسَّاعَةُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿السَّاعَةُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا رَيْبَ فِيهَا﴾: خبره، والجملة الابتدائية معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾، وقرىء ﴿والساعة﴾ بالنصب عطفًا على ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾، ﴿قُلْتُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿نَدْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْتُمْ﴾،
482
﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿السَّاعَةُ﴾: خبرها، والجملة الاستفهامية سدت مسد مفعولي ﴿نَدْرِي﴾، علقت عنها باسم الاستفهام، ﴿إِن﴾: نافية، ﴿نَظُنُّ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿ظَنًّا﴾ مفعول مطلق، وظن هنا بمعنى الوهم، لا يتعدى إلى مفعولين، بل إلى واحد محذوف، تقديره: إن نظنه إلا ظنا، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْتُمْ﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: حجازية، ﴿نَحْنُ﴾: اسمها، ﴿بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾: خبرها، والباء زائدة، والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿وَبَدَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿بدا﴾: فعل ماض، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، ﴿سَيِّئَاتُ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿سَيِّئَاتُ﴾: مضاف ﴿مَا﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿عَمِلُوا﴾ صلة الموصول، ﴿وَحَاقَ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿حاق﴾ فعل ماض ﴿بِهِمْ﴾ متعلق به، ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بدا﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول.
﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٣٤)﴾.
﴿وَقِيلَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿قيل﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ﴾ إلخ نائب فاعل محكي لـ ﴿قيل﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿بدا﴾، ﴿الْيَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿نَنْسَاكُمْ﴾، ﴿نَنْسَاكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾، ﴿كَمَا﴾ الكاف، حرف جر ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿نَسِيتُمْ﴾: فعل وفاعل ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ﴾: مفعول به، ﴿هَذَا﴾ بدل من ﴿يَوْمِكُمْ﴾ أو صفة له، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾: مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: اليوم ننساكم نسيانا مثل نسيانكم. ﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مأواكم النار﴾: مبتدأ وخبر، ويجوز العكس، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَنْسَاكُمْ﴾ على كونها نائب فاعل لـ ﴿قيل﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية. ﴿لَكُم﴾:
483
خبر مقدم، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿نَاصِرِينَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ﴿ما﴾ قبلها.
﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)﴾.
﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّكُمُ﴾ الباء: حرف جر وسبب ﴿أنكم﴾: ناصب واسمه ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول أول. ﴿هُزُوًا﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾ وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب اتخاذكم آيات الله هزوًا، الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، معطوف على ﴿اتَّخَذْتُمْ﴾، ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة لـ ﴿الْحَيَاةُ﴾، ﴿فَالْيَوْمَ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حالكم في الدنيا، وأردتم بيان حالكم اليوم.. فأقول لكم: ﴿اليوم﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يُخْرَجُونَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُخْرَجُونَ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرَجُونَ﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾ نافية، ﴿هُم﴾: مبتدأ وجملة ﴿يُسْتَعْتَبُونَ﴾ من الفعل المغير ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، ﴿فَلِلَّهِ﴾: الفاء: استئنافية، ﴿لله﴾: خبر مقدم، ﴿الْحَمْدُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ﴾ بدل، أو نعت للجلالة، ﴿وَرَبِّ الْأَرْضِ﴾: معطوف عليه، وكذا ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: معطوف عليه بعاطف مقدر، ﴿وَلَهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿له﴾: خبر مقدم. ﴿الْكِبْرِيَاءُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على ما قبلها، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ حال من ﴿الْكِبْرِيَاءُ﴾، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله، واختار بعضهم أن يتعلق بنفس الكبرياء؛ لأنه مصدر، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوفة على ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: خبران له، والجملة معطوفة على ما قبلها، والله أعلم.
484
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾ والاجتراح: الاكتساب، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي. قال في "المفردات": سمي الصائد من الكلاب والفهود، والطير جارحة، وجمعها جوارح إما لأنها تجرح، وإما لأنها تكسب، وسميت الأعضاء الكاسبة جوارح تشبيهًا بها بأحد هذين، انتهى. والمراد بالسيئات: سيئات الكفر، والإشراك بالله سبحانه وتعالى. ﴿أَنْ نَجْعَلَهُمْ﴾؛ أي: أن نصيرهم في الحكم. ﴿مَحْيَاهُمْ﴾ الأصل فيه: محييهم بوزن مفعل، قلبت الياء الأخيرة ألفًا لتحركها وفتح ما قبلها، وقوله: ﴿مماتهم﴾ أصله: مموتهم بوزن مفعل أيضًا، نقلت حركة الواو إلى الميم، ثم أبدلت الواو ألفًا لتحركها في الأصل، وفتح ما قبلها في الحال، وقوله: ﴿سَاءَ﴾ أصله: سوأ بوزن فعل قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. ﴿نَمُوتُ﴾ أصله: نموت بوزن نفعل، نقلت حركة ﴿الواو﴾ إلى الميم فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. ﴿وَنَحْيَا﴾ أصله: نحيي قلبت الياء الثانية ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ وهو في الأصل: مدة بقاء العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، ثم يعبر به عن كل مدة طويلة، وهو خلاف الزمان، فإن الزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة، قال في "القاموس": الدهر: الزمان الطويل والأبد الممدود، ودهرهم أمر كمنع إذا نزل بهم مكروه، فهم مدهور بهم ومدهورون، اهـ.
﴿يَظُنُّونَ﴾ أصله: يظننون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الظاء فسكنت، فأدغمت في النون الثانية ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ الأصل فيه: يموتكم بوزن يفعل نقلت حركة الواو إلى الميم فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مد.
﴿جَاثِيَةً﴾؛ أي: باركة على الركب مستوفزة، وهي هيئة المذنب الخائف من مكروه، يقال: جثا على ركبتيه يجثو، ويجثي جثوًا وجثيًا، على فعول فيهما إذا جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه، وفيه إعلال بالقلب أصله: جاثوة من الجثو قلبت الواو ياء لتطرفها إثر كسرة. ﴿تُدْعَى﴾ صله: تدعو قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح.
485
﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ﴾ أصله: تجزيون قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. ﴿إِلَى كِتَابِهَا﴾؛ أي: إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة، لتحاسب على ما قيد فيها. ﴿يَنْطِقُ﴾؛ أي: يشهد. ﴿نَسْتَنْسِخُ﴾؛ أي: نأمر الملائكة بأن تكتب وتنسخ، والنسخ في الأصل: هو النقل من أصل كما ينسخ كتاب من كتاب، لكن قد يستعمل للكتبة ابتداءً.
﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا﴾ وقال في "التعريفات": الظن هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين، والشك، انتهى. واليقين: اتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه، نظرًا واستدلالًا، ولذلك لا يوصف به علم القديم، ولا العلوم الضرورية إذ لا يقال: تيقنت أن السماء فوقي.
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾ بدا فيه إعلال بالقلب، أصله: بدو قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح ﴿نَنْسَاكُمْ﴾ أصله: ننسيكم بوزن نفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ فيه إعلال بالإبدال، أصله: لقاي أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿وَمَأْوَاكُمُ﴾ أصله: مأويكم بوزن مفعل اسم مكان، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: حجج الله. ﴿وَغَرَّتْكُمُ﴾؛ أي: خدعتكم. ﴿الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾؛ أي: زينتها. ﴿يُسْتَعْتَبُونَ﴾؛ أي: ولا هم يطلب منهم العتبى، والرجوع إلى الله تعالى بالتوبة من ذنوبهم، والإنابة إلى ربهم لفوات أوانه وزمانه، وهو من باب استفعل السداسي، والسين والتاء فيه للطلب، يقال: استعتبته فأعتبني؛ أي: استرضيته فقبل مني عذري، والمعنى: ولاهم يطلب منهم أن يعتبوا ربهم؛ أي: أن يرضوه بالطاعة لفوات أوانه، وهو في الدنيا. ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ﴾ والكبرياء: العظمة والملك والجلال والعز والسلطان وهي صفة أثرها تنزهه تعالى عن كل ما لا يليق به.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التجوز في قوله: ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ فإنه بمعنى: أخبرني، ففيه تجوزان
486
إطلاق الرؤية، وإرادة الإخبار على طريق إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب؛ لأن الرؤية سبب للإخبار، وجعل الاستفهام، بمعنى: الأمر، بجامع مطلق الطلب، اهـ "زاده".
ومنها: الاستعارة التمثيلية، أو التشبيه البليغ، في قوله: ﴿مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ إذا قلنا حذف منه أداة التشبيه والأصل: كإلهِهِ في طاعته واتباعه.
ومنها: تنكير غشاوة في قوله: ﴿وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ لإفادة التنويع، أو للتعظيم.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾، وقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾.
ومنها: التهكم أو التقابل في قوله: ﴿مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾؛ لأن تسمية قولهم: حجة إما لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم، أو لتنزيل التقابل منزلة التناسب للمبالغة، فأطلق الحجة على ما ليس بحجة، من قبيل:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيْعُ
ومنها: التعميم في القدرة بعد تخصيصها في قوله: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ لأنه خصصها أولًا بقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾.
ومنها: شبه التأكيد في قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾؛ لأنه كالتأكيد لقوله: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ كما مر مع ما فيه.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا﴾ لإفادة الإغلاظ والتشديد، والوعيد.
ومنها: الإضافة المجازية في قوله: ﴿كِتَابِهَا﴾؛ لأن الإضافة فيه لأدنى ملابسة؛ لأن أعمالهم مثبتة فيه.
ومنها: الإضافة إلى نون العظمة في قوله: ﴿هَذَا كِتَابُنَا﴾ تفخيمًا لشأن
487
الكتاب، وتهويلًا لأمره.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ يقال: نطق الكتاب بكذا، إذا بينه ودل عليه. والاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة؛ لأن شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإنسان بلسانه.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: في جنته، ففيه إطلاق الحال وإرادة المحل والعلاقة المحلية.
ومنها: الاستعارة بالكناية في قوله: ﴿نَنْسَاكُمْ﴾ ففي ضمير الخطاب استعارة بالكناية، بتشبيههم بالأمر المنسي في تركهم في العذاب، وعدم المبالاة بهم، وقرينتها النسيان.
ومنها: إضافة المصدر إلى ظرفه توسعًا في قوله: ﴿لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾؛ أي: نسيتم لقاء الله وجزاءه في يومكم هذا، فأجرى اليوم مجرى المفعول به، وجعل ملقيًا.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا﴾ للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، استهانة بهم، أو بنقلهم من مقام الخطاب إلى غيابة النار كما مر في مبحث التفسير.
ومنها: أيضًا الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ﴾ إلخ، مثل تركهم في العذاب بمن حبس في مكان، ثم نسيه السجان من الطعام والشراب، حتى هلك بطريق الاستعارة التمثيلية، والمراد من الآية: نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي؛ لأن الله تعالى لا ينسى ولا يعرض عليه النسيان.
ومنها: تكرير الرب في قوله: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ للتأكيد والإيذان، بأن ربيته تعالى لكل منها، بطريق الأصالة كما مر.
ومنها: إظهار السموات والأرض في قوله: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مع كون المقام للإضمار، لتفخيم شأن الكبرياء.
488
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
489
خلاصة ما في هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
١ - إقامة الأدلة على وجود الخالق سبحانه.
٢ - وعيد من كذب بآياته، واستكبر عن سماعها.
٣ - طلب العفو من المؤمنين عن زلات الكافرين.
٤ - الامتنان علي بني إسرائيل، بما آتاهم من النعم الروحية والمادية.
٥ - أمر رسوله - ﷺ - أن لا يطيع المشركين، ولا يتبع أهواءهم.
٦ - التعجب من حال المشركين، الذين أضلهم الله على علم.
٧ - إنكار المشركين للبعث.
٨ - ذكر أهوال العرض والحساب، وشهادة صحائف الأعمال على الإنسان.
٩ - حلول العذاب بالمشركين، بعد أن تتبين لهم قبائح أعمالهم.
١٠ - ثناء المولى سبحانه على نفسه، وإثبات الكبرياء والعظمة له (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) وقد تم تسويد هذا الجزء الخامس والعشرين من القرآن الكريم، بيد جامعه ومؤلفه، في الليلة الثالثة والعشرين، منتصف الساعة الخامسة من شهر الله المحرم، من شهور سنة ألف أربع مئة وخمس عشرة ٢٣/ ١/ ١٤١٥ هـ من السنين الهجرية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكي التحيات، اللهم يا مولى النعم، ويا راحم الأمم، ويا محيي الرمم أنت المعبود، وأنت المقصود، وأنت المستعان بكرمك، وجودك، وفيضك، وفقنا لإتمام هذا التفسير على الوجه الذي يرضيك عنا، وأن تبارك في أعمارنا إلى إكماله، وأن تصرف عنا العوائق والمعائق إلى انتهائه يا منيل رغبة الراغبين، ويا مجيب دعوة الداعين آمين يا رب العالمين، والحمد لله الذي تتم به الصالحات حمدًا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه ليلة العشرين من ذي القعدة في تاريخ ٣٠/ ١١/ ١٤١٧ هـ.
تم بحمد الله تعالى المجلد السادس والعشرون، ويليه المجلد السابع والعشرون.
490
شعرٌ
491
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد السابع والعشرون»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[٢٧]
3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

4
شعرٌ
وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِيْ أَمْرٍ يُحَاوِلُهُ وَاسْتَعْمَلَ الصَّبْرَ إِلَّا فَازَ بِالظَّفَرِ
يُنَادِيْ الْبَحرُ يَلْفِظُ بِالْغَوالِيْ وَيَرْمِيْ بِالزَّبَرْجَدِ والَلآلِيْ
يَقُوْلُ لِسَابِحِيْهِ وَخَائِضِيْهِ هَلُمُّوْا فَالنَّفائِسُ فِيْ خِلَالِيْ
يَا مَنْ بارَكَ فِيْ التِّيْنِ وَالرُّمَانْ بَارِكِ اللَّهُمَّ فِيْ الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانْ
أَتَاكَ الرُّوْحُ يَعْبِقُ بِالْغَوَالِيْ وَيَرْمِي بالزَّبَرْجَدِ والَّلآلِيْ
يَقُولُ لِشَامِّيْهِ وَمُنْتَشِقِيْهِ هَلُمُّوْا فَالعُطُورُ فِيْ خِلَاليْ
آخرُ
إِذَا رَأَيْتَ أَثِيْمَا كُنْ سَاتِرًا وَحَلِيْمَا
يَا مَنْ يُقَبِّحُ قَوْلِيْ لِمْ لَا تَمُرُّ كَرِيْمَا
من كلام زين العابدين رضي الله عنه:
أَلَا أَيُّهَا الْمَأْمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِي
أَلَا يَا رَجَائِي أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِيْ كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ
فَزادِيْ قَلِيْلٌ مَا أَراهُ مُبَلِّغِيْ عَلَى الْزَّادِ أَبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ
أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةٍ وَمَا فِي الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ
ولقد أحسن من قال، وهو أبو علي الثقفيُّ:
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نحمدك يا مولى النعم، ويا مفيض الحكم على من اختاره من أهل الكرم، ونصلّي ونسلم على السلطان الأعظم، والقائد الأجل الأكرم، ومنبع العلوم والحكم، سيّدنا محمد، وعلى آله وأصحابه السادات الكرام، صلاةً وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم القيامة.
أما بعد: فإنّي لما فرغت من تفسير الجزء الخامس والعشرين من القرآن الكريم.. تفرغت للشروع في الجزء السادس والعشرين منه بإذن الله سبحانه وتوفيقه، فقلت مستمدًا من الله التوفيق والهداية، لأقوم الطريق في كتابة هذا التعليق:
سورة الأحقاف
مكية، قال القرطبي: في قول جميعهم، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: نزلت سورة حم الأحقاف بمكة بعد الجاثية، قيل: (١) إلا قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ الآية، قيل: إلا قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ﴾ فإنهما نزلتا بالمدينة. قيل (٢): وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾ إلى قوله: ﴿فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ فنزلت بالمدينة. وهي أربع أو خمس وثلاثون آية. وفي "الشهاب": الاختلاف في عدد الآيات مبني على أن ﴿حم (١)﴾ آية أولًا، وست مئة وأربع وأربعون كلمةً، وألفان وخمس مئة وخمسة وتسعون حرفًا.
التسمية: سميت سورة الأحقاف؛ لأنه يذكر فيها الأحقاف التي هي مساكن عاد الذين أهلكهم الله تعالى بطغيانهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف التي هي من
(١) الخازن.
(٢) المراح.
7
أرض اليمن، حيث قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾.
فضلها (١): وذكر في فضلها عن النبي - ﷺ -: "من قرأ سورة الأحقاف.. كتب له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا". ولكنه حديث موضوع لا أصل له.
الناسغ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة الأحقاف مكية، وجميعها محكم إلا آيتين:
أولاهما: قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ نسخت بقوله تعالي: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ...﴾ الآية. من سورة الفتح.
والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ نسخ معناها بآية السيف.
المناسبة (٢): تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي:
١ - تطابق السورتين في: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
٢ - تشابه موضوع السورتين، وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد.
٣ - ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم، ومطالبتهم بالدليل عليه، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة.
(١) البيضاوي.
(٢) التفسير المنير.
8
وعبارة "المراغي" هنا: ووجه اتصال هذه السورة بما قبلها: أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد، وذمِّ أهل الشرك، وتوعِّدهم عليه، وافتتح هذه بالتوحيد، وتوبيخ المشركين على شركهم أيضًا. انتهى.
وعبارة أبي حيان: ومناسبة أول هذه السورة لما قبلها (١): أنّ في آخر ما قبلها: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾، وقلتم: إنه - ﷺ - اختلقها، فقال تعالى: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)﴾ وهاتان الصفتان هما آخر تلك، وهما أوّل هذه. انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البحر المحيط.
9

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)﴾
المناسبة
بدأ سبحانه هذه السورة بإثبات أنّ هذا القرآن من عند الله لا من عند محمد كما تدّعون، ثم ذكر أنّ خلق السموات والأرض مصحوب بالحق، قائم بالعدل والنظام، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شيء، إذ لا شيء في الدنيا دائم، ولا بدّ من يوم يجتمع الناس فيه للحساب، حتى لا يستوي المحسن والمسيء، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب، ولم يفكّروا فيما شاهدوا في العالم من النظام والحكمة، فلا هم بسماع الوحي متعظون، ولا هم بالنظر في العالم المشاهد يعتبرون.
10
ثم نعى على المشركين حال آلهتهم، وأمر رسوله - ﷺ - أن يقول لهم: أخبروني ماذا خلق آلهتكم من الأرض، أو لهم شركة في خلق السموات حتى يستحقّوا العبادة، فإن كان لهم ما تدّعون.. فهاتوا دليلًا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن، أو ببقية من علوم الأولين، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها، وهي لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة؟ وهي غافلة عنكم، وفي الدار الآخرة تكون لكم أعداء، وتجحد عبادتكم لها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا تكلم (١) في تقرير التوحيد، ونفي الأضداد والأنداد.. أعقب هذا بالكلام في النبوة، وبيّن أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئًا من القرآن.. قالوا: إنه سحر، بل زادوا في الشناعة، وقالوا: إنه مفترى، فردّ عليهم بأنّه لو افتراه على الله.. فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به، وهو العلم بما تندفعون فيه من الطعن في نبوتي، ويشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والجحود.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم: إني لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد، ونَهْيي لكم عن عبادة الأوثان والأصنام، وما أدري ما يفعل بي في الدنيا، أأموت أم أُقتل كما قتل الأنبياء قبلي، ولا ما يفعل بكم، أترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل، وإني لا أعمل عملًا، ولا أقول قولًا إلا بوحي من ربي، وما أنا إلا نذير لا أستطيع أن آتي بالمعجزات والأخبار الغيبية، فالقادر على ذلك هو الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِه...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا نعى عليهم استهزاءهم بكتابه، وقولهم فيه: إنه سحر مفترى، وردَّ الرسول عليهم بأنّه ليس بأول رسول حتى
(١) المراغي.
11
يستنكرون نبوته، ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد الله تعالى لا بيده.. أردف (١) هذا بأمر رسوله أن يقول لهم: ما ظنكم أنّ الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله الله عليّ لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه، وقد شهد شاهد من بني إسرائيل الواققين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلتم، فآمن واستكبرتم.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود، فقالوا: لو كان هذا الدين خيرًا.. ما سبقنا إليه هؤلاء. ثم إنهم حين لم يهتدوا به قالوا: إنه من أساطير الأولين.
ثم ذكر أنّ مما يدلّ على صدق القرآن: أن التوراة وهي الإمام المقتدى به بشّرت بمقدم محمد - ﷺ -، فاقبلوا حكمها في أنّه رسول حقًا من عند الله.
ثمّ أعقب هذا ببيان أنّ من آمنوا بالله، وعملوا صالحًا لا يخافون مكروهًا ولا يحزنون لفوات محبوب، وأولئك هم أهل الجنة، جزاء ما عملوا من عمل صالح، وما أخبتوا لربهم، وانقادو لأمره ونهيه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): ما أخرجه أحمد في "المسند" والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي - ﷺ - يومًا وأنا معه، حتى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلًا منكم يشهدون أنه لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله - ﷺ -، يحطُّ الله عن كل يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الذي غضب عليه" قال: فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم، فلم يجبه أحد، ثم
(١) المراغي.
(٢) أسباب النزول.
12
ثلّث، فلم يجبه أحد، فقال: "أبيتم، فوالله إني لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم" ثم انصرف وأنا معه، حتى إذا عندنا نخرج.. نادى رجل من خلفنا: كما أنت يا محمد، قال: فأقبل فقال ذلك الرجل: أيَّ رجلٍ تعلموني يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم أنه كان فينا رجل أعلم بكتاب الله منك، ولا أفقه منك، ولا مِنْ أبيك قبلك، ولا من جدّك قبل أبيك، قال: فإني أشهد له بأنه نبيُّ الله الذي تجدونه في التوراة، قالوا: كذبت، وردّوا عليه قوله، وقالوا فيه شرًا، قال رسول الله - ﷺ -: "كذبتم، لن يقبل قولكم، أما آنفًا فتثنون عليه من الخير ما أثنيتم، ولما آمن كذّبتموه وقلتم فيه ما قلتم، فلن يقبل فيه قولكم" قال: فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله - ﷺ -، وأنا، وعبد الله بن سلام، وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ فيه: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)﴾.
وأخرج (١) البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: في عبد الله بن سلام نزلت: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ﴾.
وأخرج ابن جرير والترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: فيّ نزلت، ونزل فيّ: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ ونحن ونحن، فلو كان خيرًا منا.. ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله، يقال لها: "زِنِّينٌ"، أو "زِنِّيْرة"، فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرًا ما سبقتنا إليه زِنِّين، فأنزل الله تعالى في شأنها: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا...﴾ الآية. وقال عروة بن الزبير: إنّ زِنِّيرة روميَّة كان أبو جهل يعذبها، أسلمت فأصيب بصرها،
(١) لباب النقول.
13
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يَا عَاتِبَ الدَّهْرِ إِذَا نَابَهُ لَا تَلُمِ الدَّهْرَ عَلَى غَدْرِهِ
الدَّهْرُ مَأْمُوْرٌ لَهُ آمِرُ وَيَنْتَهِي الدَّهْرُ إِلَى أَمْرِهِ
كَمْ كَافِرٍ أَمْوَالُهُ جَمَّةٌ تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ
وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ يَزْدَادُ إِيْمَانًا عَلَى فَقْرِهِ