تفسير سورة الحجرات

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والتأدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
الإعراب:
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ الكاف: في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، تقديره: جهرا كجهر بعضكم. وأَنْ تَحْبَطَ: في موضع نصب: بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لأن تحبط، ويجوز أن يكون في موضع جر، بإعمال حرف الجر مع الحذف.
أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ.. أُولئِكَ: إما خبر إِنَّ، أو مبتدأ، وخبره لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والجملة منهما خبر إِنَّ. ويجوز أن يكون أُولئِكَ صفة الَّذِينَ ويكون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ.. خبر إِنَّ. ومَغْفِرَةٌ: إما مرفوع بالظرف، أو مبتدأ، والظرف خبر مقدم عليه، وهذا أوجه.
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أَكْثَرُهُمْ: مبتدأ، ولا يَعْقِلُونَ: خبره، والجملة منهما خبر إِنَّ.
البلاغة:
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ استعارة تمثيلية، شبّه حال الذين يبدون آراءهم أمام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بحال من تقدم للسير أمام ملك أو حاكم عظيم، وكان عليه أدبا أن يسير خلفه.
214
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ تشبيه مرسل مجمل، لوجود أداة التشبيه.
المفردات اللغوية:
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تقدّموا أمرا أو حكما أو رأيا دونهما، أو لا تتقدموا، مأخوذ من مقدّمة الجيش: من تقدم منهم، والمراد: لا تقولوا بخلاف القرآن والسنة، والمراد ب بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: أمامهما وَاتَّقُوا اللَّهَ خافوه واحذروا مخالفة أمره ونهيه في التقديم أو مخالفة الحكم وغيرهما سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم.
لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي إذا كلمتموه، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أي إذا ناجيتموه، فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا إجلالا له، وخاطبوا ب «يا أيها النبي» أو «يا رسول اللَّه». وتكرير النداء بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لمزيد الاستبصار وضبط النفس، وزيادة الاهتمام به والتعظيم له أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي لئلا «١» أو كراهة وخشية أن تحبط، أي يبطل ثواب أعمالكم، لأن في رفع الصوت والجهر استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط إذا ضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة.
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها ويلينونها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب أو مخافة مخالفة النهي امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ اختبرها، والمراد: طهرها ونقّاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة لِلتَّقْوى أي مرّنها على التقوى، وأعدها لها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب عظيم لغضهم الصوت وسائر طاعاتهم، وتنكير أَجْرٌ للتعظيم.
مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أي من خلف وخارج غرف نسائه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جمع حجرة: وهي قطعة من الأرض تحجّر بحائط ونحوه مثل الغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة أمام منصب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي لو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال، لما فيه من الأدب وتعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(١) قال الزجاج: التقدير: لأن تحبط، فاللام المقدّرة لام الصيرورة.
215
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا..: أخرج البخاري والترمذي وغيرهما عن ابن أبي مليكة أن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنه أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر:
بل أمرّ الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وقال عمر:
ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي أن الآيات نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن البصري: أن أناسا ذبحوا قبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحا، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا...
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة: أن أناسا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
نزول الآية (٢) :
لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل اللَّه: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية.
وروي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس كان في أذنه وقر، وكان
216
جهوري الصوت، وكان إذا كلّم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيتأذّى بصوته، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
نزول الآية (٣) :
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ:
أخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عدي بن العجلان، فقال:
ما يبكيك؟ قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدعا به، فقال: أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة؟ قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية.
والقصة مروية أيضا في الصحيحين عن أنس بن مالك.
وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا كأخي السّرار «١»، فأنزل اللَّه تعالى في أبي بكر: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
نزول الآية (٤) :
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ..: أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجعلوا ينادون:
يا محمد، يا محمد، فأنزل اللَّه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية.
(١) السرار: المسارّة، أي كصاحب السرار، أو كمثل المساررة لخفض صوته، والكاف صفة لمصدر محذوف.
217
وأخرج عبد الرزاق عن قتادة: أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، إن مدحي زين، وإن شتمي شين، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ذاك هو اللَّه، فنزلت:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ الآية. وهو خبر مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء وغيره عند الترمذي، بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن.
وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات، فلم يجبه، فقال: يا محمد، إن حمدي، لزين، وإن ذمي لشين، فقال «ذلكم اللَّه».
وقال محمد بن إسحاق وغيره: نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا المسجد، فنادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين، وإن ذمنا شين، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج إليهم، فقالوا: إنا جئناك يا محمد نفاخرك، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والزّبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم.
التفسير والبيان:
هذه باقة من الآداب الخاصة في معاملة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل المؤمنين على أساس من التوقير والاحترام والتعظيم.
١- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يا أيها المؤمنون إيمانا صحيحا، لا تتقدموا ولا تتعجلوا بقول أو حكم أو قضاء في أمر ما أو فعل قبل قضاء اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لكم فيه، فربما تقضون بغير حق، واتقوا اللَّه في كل أموركم، وراقبوه في عدم تخطي ما لم
218
يأذن به اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن اللَّه سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم، لا يخفى عليه شيء منكم.
وهذا نهي واضح عن مخالفة كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وذكر الرسول، لأنه مبلّغ عن اللَّه تعالى شرعه ودينه. قال ابن عباس في الآية:
لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرا دون اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم من شرائع دينكم.
والآية شاملة أيضا ترتيب مصادر الاجتهاد،
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه، حيث قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟ قال: بكتاب اللَّه تعالى، قال فإن لم تجد؟
قال: بسنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما يرضي رسول اللَّه»

وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي اللَّه ورسوله. والخلاصة: هذا أدب شامل القول والفعل والاجتهاد، ثم ذكر اللَّه تعالى أدبا في القول فقال:
٢- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله إذا تكلمتم مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن رفع الصوت يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، وخفض الصوت وعدم رفعه من التعظيم والتوقير. وهذا أدب ثان أدّب اللَّه تعالى به المؤمنين، وهو أدب محمود مع كل الناس أيضا.
٣- وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي وإذا كلمتموه فخاطبوه بالسكينة والوقار، خلافا لما تعتادونه من الجهر بالقول الدائر بينكم، ولا تقولوا: يا محمد ويا أحمد، ولكن يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له،
219
وتقديرا لمهمته ورسالته التي يبلغكم بها في سكون وهدوء وعدم انزعاج وتبرم نفسي. وهذا أدب ثالث.
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي نهاكم اللَّه عن الجهر غير المعتاد وعن رفع الصوت خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو أن يؤدي الاستخفاف به إلى الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك، كما
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن بلال بن الحارث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى لا يلقي لها بالا، يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض».
وبعد أن حذر من خطر المخالفة، رغّب اللَّه تعالى في خفض الصوت وحث عليه قائلا:
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يخفضون أصواتهم في أثناء كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفي مجالسه، أخلص اللَّه قلوبهم للتقوى، ومحّصها، وجعلها أهلا ومحلا، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه، فكذلك هؤلاء المتأدبون عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، طهر اللَّه قلوبهم من كل قبيح، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. ونحو الآية: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح ٤٨/ ٩].
روى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي اللَّه عنه: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
220
ثم ذم اللَّه تبارك وتعالى الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلف أو قدام الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال تعالى مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي إن الذين ينادونك من بعيد، من وراء حجرات (بيوت) نسائك، وهم جفاة بني تميم أكثرهم جهال لا يعقلون الأصول والآداب والأشياء، ولا يدركون ما يجب لك من التعظيم والاحترام. وقوله: أَكْثَرُهُمْ إما أن يراد به الكل، لأن العرب تذكر الأكثر وتريد الكل، احترازا عن الكذب واحتياطا في الكلام، أو يكون المراد أنهم في أكثر أحوالهم لا يعقلون.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورعاية جانبه الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والإجلال، واللَّه غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب. وهذا حث على التوبة والإنابة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتقديم حكم القرآن والسنة على ما سواهما.
٢- تعليم العرب وغيرهم مكارم الأخلاق وفضائل الآداب، إذ كان في العرب جفاء وسوء أدب في خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتلقيب الناس.
٣- قال القرطبي وابن العربي: قوله تعالى: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإيجاب اتباعه والاقتداء
221
به. وربما احتج نفاة القياس بهذه الآية، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشريعة، فليس فيه تقديم بين يديه «١».
٤- الأمر بالتقوى وإيجابها عام في كل الأوامر والنواهي الشرعية، ومنها التقدم بين يدي اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم المنهي عنه، واللَّه يراقب الناس، فهو سميع لأقوالهم، عليم بأفعالهم.
٥- يجب خفض الصوت أثناء مخاطبة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والامتناع من الجهر بالأصوات أعلى من صوته، وإلا لم يتحقق من المؤمنين الاحترام الواجب للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم. وليس المراد النهي عن الجهر مطلقا بحيث يلزم الهمس، وإنما النهي عن جهر مخصوص مقيد بصفة، وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب عنها.
٦- ويجب أيضا على المؤمنين ألا يخاطبوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بقولهم: يا محمد، ويا أحمد، ولكن: يا نبي اللَّه، ويا رسول اللَّه، توقيرا له.
والهدف من هذين الواجبين تعظيم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته.
٧- قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كلّ حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه اللَّه تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٠٢ وما بعدها، أحكام القرآن: ٤/ ١٧٠١ وما بعدها.
222
[الأعراف ٧/ ٢٠٤] وكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الوحي وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة، بيانها في كتب الفقه «١».
٨- إن النهي المذكور عن رفع الصوت هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ويوقّر الكبراء. أما الصوت المرفوع الذي يقصد به الاستخفاف والاستهانة، فلا شك أنه كفر. وأما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو ونحو ذلك، فليس منهيا عنه، لأنه لمصلحة، ففي الحديث أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس» وكان العباس أجهر الناس صوتا، يروى أن غارة أتتهم يوما، فصاح العباس:
يا صباحاه! فأسقطت الحوامل لشدة صوته.
٩- إن مخالفة النهي في الآية برفع الصوت أكثر من الحالة المتوسطة المعتادة يؤدي إلى إحباط الأعمال وإبطال الثواب. وليس قوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم. ويكون قوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إشارة إلى أن ارتكاب المآثم يجر الأعمال إلى الحبوط من حيث لا يشعر المرء به.
١٠- إن الذي يخفضون أصواتهم عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا تكلموا إجلالا له، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له، أولئك الذين اختص اللَّه قلوبهم للتقوى، وطهرهم من كل قبيح، وجعل في قلوبهم الخوف من اللَّه والتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم وهو الجنة.
١١- إن أعراب بني تميم الذين وفدوا على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فدخلوا مسجد المدينة، ونادوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء حجرته أن اخرج إلينا، فإن مدحنا زين،
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٧٠٣. [.....]
223
وذمّنا شين، هم قوم جهلة ذوو طباع جافة قاسية. وكانوا سبعين رجلا، وكان المنادي منهم الأقرع بن حابس، في رواية الترمذي عن البراء بن عازب، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نام للقائلة، جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر، فأعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفهم، وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء.
وقال مقاتل: كانوا تسعة عشر: منهم قيس بن عاصم، والزّبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن، وهو الأحمق المطاع.
١٢- لو انتظروا خروجه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.
١٣- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حث على التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى.
الآداب العامة
- ١- وجوب التثبت من الأخبار
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
224
الإعراب:
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أَنْ تُصِيبُوا: في تقديره وجهان: إما كراهية أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا. وبِجَهالَةٍ: حال من فاعل تبينوا، أي جاهلين.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أن وما بعدها سادّ مسدّ مفعولي اعْلَمُوا.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ إما مفعول لأجله، أو مصدر مؤكد لما قبله.
البلاغة:
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ التفات عن الخطاب للغيبة بعد قوله: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.
بين حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وبين وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ما يسمى بالمقابلة.
المفردات اللغوية:
فاسِقٌ خارج عن حدود الدين أو الشرع، مأخوذ من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج من قشره، والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه بِنَبَإٍ خبر فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا بيان الحقيقة ومعرفة الصدق من الكذب، وقرئ: فتثبتوا من الثبات أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً أي خشية ذلك أو كراهة إصابتكم فَتُصْبِحُوا تصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ من الخطأ بالقوم نادِمِينَ مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي فلا تقولوا الباطل، فإن اللَّه يخبره بالحال لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ الذي تخبرون به على خلاف الواقع لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك والإثم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.. استدراك ببيان عذرهم، وهو أنهم من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم الكفر، حملهم على ذلك لما سمعوا قول الفاسق وَزَيَّنَهُ حسّنه الْكُفْرَ تغطية نعم اللَّه تعالى بجحودها الْفُسُوقَ الخروج عن الحد الْعِصْيانَ المخالفة أُولئِكَ البعض المتبينون هُمُ الرَّاشِدُونَ الثابتون على دينهم، وهذه جملة معترضة، والخطاب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مأخوذ من الرشاد: وهو إصابة الحق واتباع طريق الاستقامة.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل لقوله: حَبَّبَ وَكَرَّهَ فإن التحبيب والرشد فضل من اللَّه وإنعام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ في إنعامه عليهم بالتوفيق.
225
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة.
أخرج ابن جرير وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن أبي الدنيا وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس: أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني المصطلق مصدّقا «١»، وكان بينهما إحنة «٢»، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال: إن القوم همّوا بقتلي، ومنعوا صدقاتهم، فهمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغزوهم، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم، وقالوا: يا رسول اللَّه، سمعنا برسولك، فخرجنا نكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاتهمهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف علي رضي اللَّه عنه، فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد، فوجدهم منادين بالصلاة، متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع.
ولا خلاف في أن الشخص الذي جاء بالنبإ هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، قال الحسن البصري: فو اللَّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
وأكد الرازي ذلك بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع: المراد به
(١) المصدّق: الذي يأخذ صدقات (زكوات) الغنم.
(٢) الإحنة: الحقد، جمع إحن.
226
من خرج عن ربقة الإيمان، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [المنافقون ٦٣/ ٦] وقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف ١٨/ ٥٠] وقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة ٣٢/ ٢٠] «١».
لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمي فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة.
المناسبة:
بعد أن أمر اللَّه تعالى المؤمنين بأمرين: وهما طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخفض الصوت عند الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لبيان وجوب احترامه، أردفه بأمر ثالث وهو وجوب التثبت من الأخبار، والتحذير من الاعتماد على مجرد الأقوال، منعا من إلقاء الفتنة بين أفراد المؤمنين وجماعتهم. وهذا أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينها.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أي يا أيها الذين صدقوا باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، إن أتاكم فاجر لا يبالي بالكذب بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في الأمر والخبر لتتضح الحقيقة وتظهر، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك، مغتمين له، متمنين عدم وقوعه.
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١١٩
227
وفي تنكير فاسِقٌ وبِنَبَإٍ دلالة على العموم في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ، فتوقفوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه «١».
والآية دالة على أن خبر الواحد العدل حجة، وشهادة الفاسق لا تقبل.
ثم ذكّرهم بوجود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينهم ليعظموه ويسألوه، فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي اعلموا أن معكم رسول اللَّه، فعظموه ووقروه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبين حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار، وتشيرون عليه من الآراء غير الصائبة، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت، وهو التعب والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل اتضاح الأمور، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر والتأمل فيه.
وإنما قال: يُطِيعُكُمْ بلفظ الاستقبال دون: أطاعكم، للدلالة على استمراره في التثبت والتحقق مما ينقل إليه من الأخبار، بدليل قوله: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء، فلو أرادوا منه الاستمرار في طاعته لهم، لوقعوا في الإثم والهلاك.
وفي قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب، وإشارة إلى تصويب رأي بعضهم، ولهذا استدرك مشيرا إلى رأي بعضهم في ضرورة التريث إلى أن يتبين أمر بني المصطلق، فقال:
(١) الكشاف: ٣/ ١٤٩
228
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي ولكن اللَّه حبّب أي قرّب الإيمان إلى بعضكم، وإلا لم يحسن الاستدراك ب لكِنَّ فلم يقع في ورطة التسرع في الأخبار، وعدم التثبت فيها، وكانوا أبرياء من اتهام الآخرين، لأن اللَّه جعل الإيمان أحب الأشياء إليكم، وحسّنه بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبكم، وجعل كلا من الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) مكروها عندكم.
وهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين استقاموا على طريق الحق، ومقتضى الشرع، وأدب الدين، فلم ينزلقوا في اتهام غيرهم دون تثبت.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي إن اللَّه حبّب إليكم الإيمان، وكرّه إليكم الأمور الثلاثة المتقدمة تفضلا منه عليكم، وإنعاما من لدنه، واللَّه عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- وجوب التثبت من الأخبار المنقولة والروايات المروية، أخذا بالحيطة والحذر، ومنعا من إيذاء الآخرين بخطإ فادح، فيصبح المتسرع في الحكم والتصديق نادما على العجلة وترك التأمل والتأني. لذا
كان نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان» «١».
٢- في هذه الآية: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ دليل على قبول خبر الواحد إذا
(١) رواه البيهقي في شعب الإيمان عن انس بن مالك، وهو ضعيف.
229
كان عدلا، لأنه إنما أمر المسلم في الآية بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه، بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، فالفسق علة التبين، فإن لم يوجد لم يكن علة. واستثنى الإجماع والدعاوي والإنكار والإقرار لغيره بحق على نفسه وإثبات حق مقصود على الغير أي أمور المعاملات، كأن يقال: أرسل فلان إليك كذا أو هذا مالي، ولو كان المخبر كافرا. أما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون الكافر وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها، فيلي تزويجها، وإذا ولي المال فالنكاح أولى، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفّرة، وبها يحمي الحريم. ويرى الحنفية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. والخلاصة: أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق وإثبات أحكام الدين في غير الاعتقاد.
٣- استدل بعضهم بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، كما قال الألوسي. ومذهب الحنفية: أن الفاسق لا تقبل شهادته، وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه «١».
٤- استدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأن الآية دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول.
٥- في الآية أيضا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم (أي اليقين) بدليل وجوب التثبت فيه، إذ لو كان يوجب العلم بحال، لما احتيج فيه إلى التثبت «٢».
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٣٩٨
(٢) المرجع السابق: ص ٣٩٩
230
٦- قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوّز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبّة مال، كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين؟! ومن صلّى خلف الفاسق تجب عليه الإعادة سرا في نفسه، ولكن لا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة خلف من لا يرضى من الأئمة «١».
٧- إذا كان الفاسق واليا ينفذ من أحكامه ما وافق الحق، ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال.
٨- لا خلاف في قبول قول الفاسق إذا كان رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله أو إذن يعلمه، وهذا جائز للضرورة الداعية إليه. لكن لا يقبل قوله فيما إذا تعلق بقول الفاسق حق للغير.
٩- استدل بعضهم بالآية على أن من الصحابة من ليس بعدل، لأن اللَّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنها نزلت فيه، ولا يمكن إخراج سبب النزول من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق. وقال أكثر العلماء:
الصحابة كلهم عدول.
١٠- الفاسق نوعان: فاسق غير متأول، وهذا لا خلاف في أنه لا يقبل خبره. وفاسق متأول كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وفي هذا خلاف، فمن الأصوليين كالشافعي: من ردّ شهادته وروايته معا، ومنهم من قبلهما وهم جمهور الفقهاء والمحدثين، لأن رد شهادته لتهمة الكذب، والفسق اعتقاد لا يمنع الصدق، وأما الرواية فمن احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهو على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد تحرزا.
١١- إن قضى الفاسق بما يغلب على الظن، كالقضاء بالشاهدين العدلين، لم
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٧٠٣ وما بعدها.
231
يكن ذلك عملا بجهالة، وإنما العمل بجهالة: قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقوله.
١٢- إن وجود الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن، فيمنع التسرع في إصدار الأحكام، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه، لكان خطأ، ووقع في العنت (الإثم والمشقة والهلاك) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ويكون المراد من قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ألا تكذبوا، فإن اللَّه تعالى يعلم رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أنباءكم، فتفتضحون.
١٣- ذكر اللَّه الإيمان وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم وهي الكفر والفسوق والعصيان، والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح (الأعضاء). والكفر: هو الإنكار وهو يقابل الإذعان بالجنان، والفسوق يقابل الإقرار باللسان، والعصيان يقابل العمل البدني، فهو ترك العمل بالطاعات والأحكام الشرعية ويشمل جميع المعاصي وهذا يعني أن المؤمن المتثبت لا يكذب.
١٤- استدلت الأشاعرة بقوله حَبَّبَ وَكَرَّهَ على مسألة خلق الأفعال، أي أن اللَّه تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم، لا شريك له، لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات ٣٧/ ٩٦].
وهذا رد على القدرية «١» والإمامية والمعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق
(١) الجبرية والقدرية: فرقتان شاذتان في العقيدة خرجا عما عليه جمهور العلماء، تقول الأولى:
إن اللَّه تعالى مجبر للعبد على فعله، وليس لإرادة الإنسان واختياره دخل حقيقي فيها وتقول الثانية: إن العبد خالق لأفعاله، دون أن يكون لله عليه سلطان فيها (الشافي شرح أصول الكافي للشيخ عبد اللَّه المظفر: ٢/ ٢٣٦، والكافي تأليف العلامة محمد بن يعقوب الكليني الرازي).
232
أفعال نفسه. ويؤولون آية حَبَّبَ وَكَرَّهَ على اللطف والتوفيق.
١٥- إن الذين وفقهم اللَّه، فحبّب إليهم الإيمان، وكرّه إليهم الكفر، أي قبّحه عندهم هم الراشدون، واللَّه فعل ذلك بهم فضلا منه ونعمة من لدنه، والفضل: ما في خزائن اللَّه من الخير، وهو مستغن عنه، والنعمة: ما يصل من الفضل إلى العبد، وهو ما يحتاج إليه.
وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتزموا إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد، وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
١٦- إن اللَّه تعالى عليم بكل شيء، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، ويأمره بما تقضي به الحكمة، فيجب الوقوف عند أمره، واجتناب الاقتراح عليه.
١٧- كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه يدعو دائما بمضمون الآية [٧] أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
233
اللهم أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا.
اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك. اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق».
- ٢- وسائل فض المنازعات الداخلية حكم البغاة
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
الإعراب:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا طائِفَتانِ: مرفوع بفعل مقدر، تقديره: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، ولا يجوز أن يحذف الفعل مع كلمات الشرط العاملة إلا مع «إن» لأنها الأصل في حروف الشرط، ويثبت للأصل ما لا يثبت للفرع.
234
والقياس: اقتتلتا، كما قرأ ابن أبي عيلة، أو اقتتلا كما قرأ عبيد بن عمير، على تأويل الرهطين أو النفرين، وإنما قال: اقتتلوا في قراءة حفص حملا على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس، فكل طائفة جماعة، والطائفة أقل من الفرقة.
البلاغة:
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بينهما طباق.
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ بينهما جناس الاشتقاق.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ تشبيه بليغ، حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، وأصله المؤمنون كالإخوة في التراحم.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتحضيض.
المفردات اللغوية:
طائِفَتانِ تثنية طائفة: الجماعة من الناس اقْتَتَلُوا جمع الفعل، لأن الطائفتين في معنى القوم أو الناس، أو لأن أقل الجمع اثنان. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعوة إلى حكم اللَّه، وامنعوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب بَغَتْ تعدت وتجاوزت الحد وجارت، من البغي: الظلم تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أزيلوا آثار النزاع بضمان المتلفات بالإنصاف وَأَقْسِطُوا اعدلوا في كل الأمور من الإقساط: إزالة القسط وهو الجور، والقاسط: الجائر، كما في آية: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن ٧٢/ ١٥] يقال: أقسط: عدل، وقسط: أخذ حق غيره، والمقسط: العادل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، أي يحمد فعلهم بحسن الجزاء.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين والعقيدة والإيمان الموجب للحياة الأبدية، فالأخوة في الدين أقوى وأدوم من أخوة النسب والصداقة، وهو تعليل للأمر بالإصلاح، لذا كرر الإشارة إلى الإخاء مرتبا عليه الأمر بالإصلاح، فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا تنازعا، وخص الاثنين بالذكر، لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق، وقرئ: إخوتكم وإخوانكم وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة حكمه والإهمال فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم.
235
سبب النزول: نزول الآية (٩) :
وَإِنْ طائِفَتانِ..: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: «أنه قيل لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا نبي اللَّه، لو أتيت عبد اللَّه بن أبيّ، فانطلق إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فبال الحمار فقال: إليك عني، فو اللَّه لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد اللَّه بن رواحة: واللَّه، إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد اللَّه رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فوقع بينهم حرب بالجريد والأيدي والنّعال، فأنزل اللَّه فيهم: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..».
وقيل: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد اللَّه بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد اللَّه بن رواحة، فتعصب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلّى اللَّه عليه وسلّم، فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبيّ أوسيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها، وجعلها في علّية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، وأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاءوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر اللَّه تعالى.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعون إلى الحكم، فيأبوا أن يجيبوا، فأنزل اللَّه: وَإِنْ طائِفَتانِ...
236
وأخرج ابن جرير أيضا عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مدارأة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر:
لآخذنه عنوة، لكثرة عشيرته، وإن الآخر دعا ليحاكمه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأبى، فلم يزل الأمر، حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
والخلاصة: يمكن أن تتعدد أسباب النزول، والوقائع المذكورة متشابهة.
المناسبة:
بعد أن حذر اللَّه تعالى المؤمنين من نبأ الفاسق، أبان هنا ما يترتب على خبره من الفتنة والنزاع، وربما الاقتتال، فطلب تعالى الإصلاح بالوسائل السلمية بين المتنازعين كالنصيحة والوعظ والإرشاد والتحكيم، فإن بغت إحدى الفئتين على الأخرى، فتقاتل الباغية الظالمة. ثم علل الأمر بالصلح بوجود رباط الأخوة بين الفريقين، ثم أمر الوسطاء والأطراف المتنازعة بتقوى اللَّه وطاعة أوامره.
التفسير والبيان:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم اللَّه والإرشاد وإزالة الشبه وأسباب الخلاف.
والتعبير بإن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع، فإنما هو نادر قليل. والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب.
وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تخرج من
237
الإيمان، خلافا للمعتزلة والخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار.
وثبت في صحيح البخاري عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيّد، ولعل اللَّه تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
فكان كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم أصلح اللَّه تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تذعن لحكم اللَّه وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم اللَّه وما أمر به من عدم البغي. والقتال يكون بالسلاح وبغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة.
فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي رجعت الفئة الباغية عن بغيها، بعد القتال، ورضيت بأمر اللَّه وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم اللَّه، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى.
واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن اللَّه يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور.
أخرج ابن أبي حاتم والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال: إن
238
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا» «١».
وأخرج مسلم والنسائي عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المقسطون عند اللَّه تعالى يوم القيامة على منابر من نور، على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولّوا».
ثم أمر اللَّه تعالى بالإصلاح في غير حال القتال ولو في أدنى اختلاف، فقال:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي تتميما للإرشاد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر اللَّه بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى اللَّه وخشيته والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي.
ويلاحظ أنه قال: اتقوا اللَّه عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل.
وكلمة إِنَّمَا للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام، لا بين الكفار. فإن كان
(١) إسناده جيد قوي، ورجاله على شرط الصحيح.
239
الكافر ذميا أو مستأمنا وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقا إن كان خصمه حربيا.
وجاءت أحاديث كثيرة تؤيد أخوة الدين،
جاء في الصحيح: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه»
وفي الصحيح أيضا: «واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»
وفي الصحيح كذلك: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضا، وشبّك بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلّم».
وأخرج أحمد عن سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن المؤمن من أهل الأديان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- يجب على ولاة الأمور وحكام الدول الإسلامية الإصلاح بين فئتين متقاتلتين مسلمتين، بالدعوة إلى كتاب اللَّه لهما أو عليهما، وبالنصح والإرشاد، والجمع والتوفيق بين وجهات النظر.
٢- فإن تعدّت إحدى الفئتين ولم تستجب إلى حكم اللَّه وكتابه، وتطاولت وأفسدت في الأرض، فيجب قتالها باستعمال الأخف فالأخف حتى الفيئة إلى أمر اللَّه، أي الرجوع إلى كتابه، فإن رجعت وجب حمل الفئتين على الإنصاف والعدل، فإن اللَّه يحب العادلين المحقين، ويجازيهم أحسن الجزاء.
والفئة الباغية في اصطلاح الفقهاء: فرقة خالفت الإمام بتأويل سائغ في
240
الظاهر، باطل بطلانا مطلقا بحسب الظن لا القطع. أما المرتد فتأويله باطل قطعا، فليس باغيا، وكذا الخوارج في الاعتقاد دون قتال المسلمين وهم صنف من المبتدعة يكفّرون من أتى بمعصية كبيرة، ويسبّون بعض الأئمة، ليسوا بغاة، وكذلك مانع حق الشرع للَّه أو للعباد ليس باغيا، لأنه لا تأويل له.
ولا بد أن يكون للبغاة شوكة وعدد وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي.
وأكثر العلماء على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة، لقوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا. وقال علي رضي اللَّه عنه: إخواننا بغوا علينا، ولكنهم يخطئون فيما يفعلون، ويذهبون إليه من التأويل، مثل الخوارج الذين خرجوا على عليّ رضي اللَّه عنه، ومثل معاوية وأتباعه كانوا بغاة للحديث المشهور أن عمارا تقتله الفئة الباغية، ومثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر.
٣- في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دليل على أن المؤمن بارتكاب المعصية الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين وأكل الربا وأكل مال اليتيم لا يخرج عن كونه مؤمنا، لأن الباغي جعل من إحدى الطائفتين، وسماهما تعالى مؤمنين.
٤- إن قتال الفئة الباغية لدفع الصائل. وفصل العلماء الحكم في البغاة فقالوا: إن اقتتلت فئتان على البغي منهما جميعا، أصلح بينهما، فإن لم يصطلحا وأقامتا على البغي، قوتلتا.
وإن كانت إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن ترضى بالصلح، فإن تم الصلح بينها وبين المبغي عليها، وجب عقده بالقسط والعدل. فإن أثيرت شبهة أزيلت بالحجة النيّرة والبرهان القاطع الدال على الحق. وفي الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم
241
يقاتلوا، لأنه تعالى قال: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا.. «١».
٥- في الآية دليل واضح على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى إبطال قول من منع من قتال المؤمنين، محتجا بحديث أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود:
«سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر». ونص الآية صريح في الرد على هذا، ٦- قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإياها عنى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
بقوله: «تقتل عمّارا الفئة الباغية» «٢»
أي عمار بن ياسر.
٧- لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة.
٨- الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلّف قوم من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن هذا الأمر، كسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمرو، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، وصوّب ذلك علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عملهم، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.
٩- قوله تعالى: فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ يدل على أن من العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستمرار في البغي.
١٠- ما يبدأ به البغاة: إذا خرجت على الإمام العدل فئة خارجة باغية
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣١٧، أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٤٠١
(٢) أحكام القرآن: ٤/ ١٧٠٥
242
ولا حجة لها، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، وهو الحق الذي دعا اللَّه إليه قبل القتال، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم، ولا يذفّف «١» على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم «٢» ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليّه لم يتوارثا، ولا يرث قاتل عمدا على حال. وأما الذين لهم تأويل بلا شوكة فيلزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال كقطاع الطرق إذا قاتلوا.
١١- ما استهلكه البغاة: إن ما استهلك أثناء تجمع البغاة والخوارج للقتال والتفرق عند انتهاء الحرب من دم أو مال، لا ضمان فيه بالإجماع.
١٢- أموال البغاة وأسراهم وجرحاهم: اختلف الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فقال محمد بن الحسن: لا تكون أموالهم غنيمة، وإنما يستعان بسلاحهم وكراعهم (خيولهم) على حربهم، فإذا انتهت الحرب رد المال إليهم.
وروي عن أبي يوسف أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح، فهو فيء يقسم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.
وقال مالك والأوزاعي والشافعي: ما استهلكه الخوارج من دم أو مال، ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ إليهم.
وقال أبو حنيفة: يضمنون.
وأما أسراهم وجرحاهم فلا يقتلون.
(١) تذفيف الجريح: الإجهاز عليه.
(٢) الذراري: النساء والأطفال. [.....]
243
والقول الأصح: ما فعله الصحابة في حروبهم، لم يتبعوا مدبرا، ولا ذفّفوا على جريح، ولا قتلوا أسيرا، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا، وهم القدوة في ذلك،
قال ابن عمر قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا عبد اللَّه أتدري كيف حكم اللَّه فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: اللَّه ورسوله أعلم، فقال: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها» وأخرج الحاكم مثل ذلك عن ابن مسعود، وروي مثله عن ابن عباس.
أما ما كان قائما رد بعينه.
١٣- أقضية البغاة وأحكامهم: لو تغلب البغاة على بلد، فأخذوا الصدقات، وأقاموا الحدود، وحكموا فيهم بالأحكام، لم تثنّ عليهم الصدقات ولا الحدود، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة.
وأما أقضيتهم في الخصومات، فقال أبو يوسف ومحمد: لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه، إلا أن يوافق رأيه، فيستأنف القضاء فيه «١».
١٤- لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذا كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوا وأرادوا اللَّه عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة، وقد أمرنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بخير، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن سبّهم، وأن اللَّه غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة ٢/ ١٣٤]. وسئل بعضهم عنها أيضا فقال: «تلك دماء قد طهّر اللَّه منها يدي، فلا أخضّب بها لساني» أي
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٤٠٣
244
تحرزا من الوقوع في خطأ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. وقال ابن فورك: إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات، كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف.
١٥- إنما المؤمنون إخوة في الدين والحرمة، لا في النسب، ذكر القرطبي:
أخوّة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوّة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب «١».
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا «٢»، وكونوا عباد اللَّه إخوانا».
وقد سبق إيراد أحاديث كثيرة في تآخي المسلمين، فالمسلمون إخوة، وكأن الإسلام أب لهم، ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
١٦- في آية إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ والتي قبلها دليل كما تقدم على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن اللَّه تعالى سماهم إخوة مؤمنين، مع كونهم باغين، قال الحارث الأعور: سئل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه- وهو القدوة- عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفّين: أمشركون هم؟
قال: لا، من الشرك فرّوا، فقيل: أمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون اللَّه إلا قليلا، قيل له: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
وفي هذه الآية دليل على جواز إطلاق لفظ الإخوة بين المؤمنين من جهة
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٢٢
(٢) التحسس: الاستماع لحديث القوم، والتجسس: تتبع العورات والمعايب، والتناجش: أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها.
245
الدين. وقوله: فَأَصْلِحُوا دليل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما «١».
- ٣- آداب المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١١ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
الإعراب:
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ الْفُسُوقُ: بدل من الِاسْمُ، لإفادته أنه فسق.
وَلا تَجَسَّسُوا أصله: تتجسسوا، فحذف منه إحدى التاءين.
لِتَعارَفُوا أصله لتتعارفوا، حذف منه إحدى التاءين.
البلاغة:
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ تشبيه تمثيلي، مثّل المغتاب بمن يأكل لحم الإنسان الميت، وفيه تقبيح التشبيه بأقبح الصور.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٤٠٤.
246
المفردات اللغوية:
لا يَسْخَرْ لا يهزأ ولا يحتقر ولا يعيب، والسّخرية والسخرى: الازدراء والاحتقار، ويقال: سخر به وسخر منه. وقد تكون السخرية: بمحاكاة القول أو الفعل أو الإشارة. قَوْمٌ هم الرجال دون النساء، فالقوم مختص بالرجال، لأنهم قوّامون على النساء. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا، ولا تعيبوا، فتعابوا، واللمز: الطعن والتنبيه إلى المعايب بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا، ومنه: يا فاسق، ويا كافر. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الاسم والصيت، وهو المذكور من السخرية واللمز والتنابز، بأن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به، والمراد تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق أي ذكره وشهرته. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ من ذلك المنهي عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فهم لا غيرهم ظلمة، بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
اجْتَنِبُوا تباعدوا وكونوا بمنأى عنه أو على جانب منه. كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ الظَّنِّ حد وسط بين العلم (اليقين) والشك أو الوهم، وهو ما يطرأ للنفس بسبب شبهة أو أمارة قوية أو ضعيفة. وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل من أي نوع، فبعض الظن واجب الاتباع كالاجتهاد في الأحكام العملية وحسن الظن بالله، وبعضه حرام كالظن في الإلهيات والنبوات، أو عند مصادمة الدليل القاطع، وظن السوء بالمؤمنين، وبعضه مباح كالظن في الأمور المعاشية.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب مؤثم موجب العقوبة عليه، وهو كثير كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين، وهو تعليل مستأنف للأمر بالاجتناب. وَلا تَجَسَّسُوا التجسس: البحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس. وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره في غيبته، وإن كان العيب فيه. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ أي لا يحسن به، وهو تمثيل لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفحش وجه، مع مبالغات الاستفهام المقرّر، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم، وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا وميتا، وتعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ أي تقريرا وتحقيقا لذلك، أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته، وقد عرض عليكم أكل لحوم البشر فكرهتموه، فاكرهوا الغيبة التي هي مثل الأكل المذكور. وَاتَّقُوا اللَّهَ عقاب اللَّه في الاغتياب، بأن تتوبوا منه. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ قابل توبة التائبين بكثرة، رحيم بهم، فيجعل صاحب التوبة كمن لم يذنب.
247
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام، أو من أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب ما دام أصلهم واحدا شُعُوباً جمع شعب: وهم الجماعة من الناس التي لها وطن خاص، أو من أصل واحد كربيعة ومضر، وهو يجمع القبائل وأعم منها. وَقَبائِلَ جمع قبيلة: وهي ما دون الشعب. وطبقات النسل عند العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، مثاله: خزيمة: شعب، وكنانة: قبيلة، وقريش:
عمارة، وقصي: بطن، وعبد مناف: فخذ، وهاشم: فصيلة، والعباس: عشيرة.
لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضا، لا للتفاخر بالآباء والقبائل، فلا تتفاخروا بعلو النسب، وإنما الفخر بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ بالتقوى تكمل النفوس وتتفاضل الأشخاص، والتقوى: التزام المأمورات واجتناب المنهيات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي عليم بكم وبكل شيء، خبير ببواطنكم وأسراركم كجهركم.
سبب النزول:
نزول الآية (١١) :
لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللَّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللَّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية، فنكس الرجل استحياء، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت.
248
والخلاصة: لا مانع من تعدد وقائع النزول، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
نزول الآية (١١) أيضا:
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ:
قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي:
يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللَّه هذه الآية.
وقيل: نزلت في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيّرن أم سلمة بالقصر.
نزول الآية (١١) كذلك:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال الترمذي: حسن.
وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول اللَّه، إنه يكرهه، فأنزل اللَّه: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ولفظ أحمد عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يغضب من هذا، فنزلت «١».
نزول الآية (١٢) :
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا
(١) ورواه أيضا البخاري في الأدب وأهل السنن.
249
أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.
نزول الآية (١٣) :
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح، رقي بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه هذا يغيّره أو إن يرد اللَّه شيئا يغيره، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية، فدعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
وقال ابن عساكر في مبهماته: وجدت بخط ابن بشكوال أن أبا بكر بن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللَّه: نزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة.
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، وإساءة الظن وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتمييز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد
250
على أنباء الفاسقين، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع، ثم أعلن وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة اللَّه في كل مكان.
التفسير والبيان:
هذه أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين وهي:
١- النهي عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المسخور بهم عند اللَّه خيرا من الساخرين بهم، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، فهذا حرام قطعا، ذكر فيه علة التحريم أو النهي، كما قال بعضهم:
لا تهين الفقير علّك أن تركع يوما، والدهر قد رفعه
فقوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة- «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين «١» تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على اللَّه لأبرّه»
ورواه أحمد ومسلم بلفظ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه».
وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن، وأكد معنى النهي للنساء أيضا، وذلك بالأسلوب نفسه، فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء،
(١) الطّمر: الثوب الخلق البالي.
251
بصيغة الجمع، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس، فقال: ولا يسخر نساء من نساء، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات.
ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء، وإنما يشمل الأفراد، لأن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة.
أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير، ونقاء القلب، وإخلاص الأعمال لله عز وجل، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس.
٢- النهي عن الهمز واللمز، أي التعييب بقول أو إشارة خفية:
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل اللَّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه، وهذا مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء ٤/ ٢٩] أي لا يقتل بعضكم بعضا.
أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله».
والهماز اللماز مذموم ملعون، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة ١٠٤/ ١]. والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب اللَّه من اتصف بذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم ٦٨/ ١١] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال «١».
(١) انظر الفروق للقرافي: الفرق بين قاعدة الغيبة وقاعدة النميمة والهمز واللمز: ٤/ ٢٠٩
252
والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معايبه، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
٣- التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي أو يا نصراني، أو يقول لأي إنسان: يا كلب، يا حمار، يا خنزير، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به.
ويستثني من ذلك: أن يشتهر بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي:
أبو تراب «١»، ولخالد: سيف اللَّه، ولعمرو بن العاص: داهية الإسلام.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق: هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد: ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز
(١) لما عليه من التراب عند ما أيقظه صلّى اللَّه عليه وسلّم من نومه تحت نخيل في أرض بني مدلج.
253
بالألقاب مع الإيمان، وذلك تغليظ وتنفير شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وهو تعليل للنهي السابق.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يتب عما نهى اللَّه عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
وسبب وصف العصاة بالظلم: أن الإصرار على المنهي كفر، إذ جعل المنهي كالمأمور، فوضع الشيء في غير موضعه.
٤- النهي عن سوء الظن وتحريمه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فيشمل بعض الظن، وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، وهذا هو الظن القبيح، وهو متعلق بمن ظاهره الصلاح والخير والأمانة.
أما أهل السوء والفسوق المجاهرون بالفجور، كمن يسكر علانية أو يصاحب الفاجرات، فيجوز ظن السوء به لتجنبه والتحذير من سلوكه، دون تكلم عليه، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم.
ثم علل اللَّه تعالى النهي بأن بعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم أي موقع في الإثم، لنهي اللَّه عنه، كما قال تعالى:
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح ٤٨/ ١٢] أي هلكى.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم سوء الظن بالمؤمن، منها
ما رواه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يطوف بالكعبة
254
ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند اللَّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا».
قال ابن عباس في الآية: نهى اللَّه المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيرا.
ومنها
ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا».
وفي رواية أخرى لمسلم والترمذي: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»
والتدابر: الهجر والقطيعة.
٥- تحريم التجسس:
وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم، فالتجسس: البحث عما هو مكتوم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم. أما التجسس: فهو البحث عن الأخبار، والاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم.
أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، فضحه اللَّه في قعر بيته».
وأخرج الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي اللَّه عنه قال: قال
255
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة «١» والحسد وسوء الظن، فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول اللَّه ممن هن فيه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا حسدت فاستغفر اللَّه، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيّرت فامض».
وأخرج أبو داود أيضا عن أبي أمامة وآخرين من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم».
قال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك اللَّه عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
٦- تحريم الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، سواء أكان الذكر
(١) الطيرة: ما يتشاءم به من الفأل الرديء، والأدق أن يقال: التطير: هو الظن السيء الكائن في القلب، والطيرة: هو الفعل المرتب على هذا الظن من فرار أو غيره، وكلاهما حرام، لأنه «كان صلّى اللَّه عليه وسلّم يحب الفأل الحسن، ويكره الطيرة» ولأنها من باب سوء الظن بالله تعالى.
والفأل: هو ما يظن عنده الخير، عكس الطيرة والتطير، والفأل الحسن: كالكلمة الحسنة والتسمية بالاسم الحسن، والفأل الحرام: كأخذ الفأل من المصحف وضرب الرمل والقرعة والضرب بالشعير، وجميع هذا النوع حرام، لأنه من باب الاستقسام بالأزلام. والأزلام:
أعواد كانت في الجاهلية: مكتوب على أحدهما: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، وعلى الآخر:
غفل، فيخرج أحدها، فإن وجد عليه: افعل، أقدم على حاجته، أو لا تفعل، أعرض عنها واعتقد أنها ذميمة، أو خرج المكتوب عليه: غفل، أعاد الضرب، فهو طلب قسمة الغيب بتلك الأعواد، ويسمى استقساما، أي طلب القسم الجيد من الرديء (انظر الفروق للقرافي، الفرق بين قاعدة التطير وقاعدة الطيرة وما يحرم منهما وما يحرم منهما وما لا يحرم، والفرق بين قاعدة الطيرة وقاعدة الفأل الحلال والفأل الحرام: ٤/ ٢٣٨، ٢٤٠).
256
صراحة أم إشارة أم نحو ذلك، لما فيه من الأذى بالمغتاب. وهو يتناول كل ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، في خلقه أو خلقه، في ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو لباسه ونحو ذلك.
وقد فسر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الغيبة فيما رواه أبو داود والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه»
أي فإن كان الوصف موجودا فيه فهو الغيبة، وإن كان مفترى والمغتاب خال من ذلك، فذلك هو البهتان.
وروى أبو داود أيضا عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
حسبك من صفية كذا وكذا- أي قصيرة- فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»
قال معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت: هذا أقطع كان غيبة.
ثم شبّه اللَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو أيحب أحدكم أن يتناول لحم أخيه بعد موته؟ فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا، فإنه تعالى مثّل الغيبة بأكل جثة الإنسان الميت، وهذا من التنفير، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، فضلا عن كونه محرّما شرعا، وفي الآية أنواع من المبالغات: منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، وإسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ للإشعار بأن لا أحد يحب ذلك، وتقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، وتقييد الإنسان بالأخ، وجعل الأخ أو اللحم ميتا، فيه مزيد تنفير للطبع.
وهذا دليل على تحريم الغيبة وعلى قبحها شرعا، لذا كانت الغيبة محرّمة بالإجماع وعلى المغتاب التوبة إلى اللَّه والاستحلال ممن اغتابه، ولا يستثني من
257
ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر فيما رواه البخاري عن عائشة: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة».
وكقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له» «١».
وتحريم الغيبة مرتبط بحماية الكرامة الإنسانية، ثبت في الأحاديث الصحيحة من غير وجه
أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».
وروى أبو داود أيضا عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع اللَّه عورته، ومن يتبع اللَّه عورته، يفضحه في بيته».
وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي واتقوا اللَّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، وأكرهوا الغيبة وتباعدوا عنها، إن اللَّه تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه واعتمد عليه.
قال جمهور العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، وأن يعزم على ألا يعود، ويندم على ما فعل، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك، ربما تأذى أشد مما إذا لم
(١) سبل السلام: ٣/ ١٢٩ ط البابي الحلبي.
258
يعلم بما كان منه، فطريقه إذن أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس الجهني رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث اللَّه تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه، حبسه اللَّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال».
٧- المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ، والتفاضل بالتقوى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ كان النداء السابق لأهل الإيمان لتأديبهم بالأخلاق الفاضلة، ونادى هنا بصفة الناس الذي هو اسم الجنس الإنساني، ليناسب بيان المطلوب، ويؤكد ما نهى عنه سابقا، وليعمم الخطاب للناس جميعا منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية.
والمعنى: أيها البشر، إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، من نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة، فلا موضع للتفاخر بالأنساب، فالكل سواء، ولا يصح أن يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا، وأنتم إخوة في النسب.
وقد جعلناكم شعوبا (أمة كبيرة تجمع قبائل) وقبائل دونها لتتعارفوا لا لتتناكروا وتتحالفوا، والمقصود أن اللَّه سبحانه خلقكم لأجل التعارف، لا للتفاخر بالأنساب.
وإن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن اتصف بها كان هو الأكرم والأشرف والأفضل، فدعوا التفاخر، إن اللَّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير ببواطنكم وأحوالكم وأموركم.
259
والآية دليل للمالكية الذين لم يشترطوا الكفاءة في الزواج، سوى الدين، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على اللَّه تعالى من الجعلان».
وروى ابن أبي حاتم والترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخا في المسجد، حتى نزل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل، فأنيخت، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبهم على راحلته، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
«يا أيها الناس، إن اللَّه تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقي كريم على اللَّه تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على اللَّه تعالى، إن اللَّه عز وجل يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم» «١».
وروى الطبري في آداب النفوس قال: «خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال:
يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلّغ الشاهد الغائب»
.
(١) فيه راو ضعيف، وهو عبد اللَّه بن جعفر، والد علي بن المديني.
260
وقد تقدم ذكر حديث مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
وعند الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللَّه عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- حرّم اللَّه تعالى بدلالة النهي في الآية الأولى ثلاثة أشياء: هي السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ومن فعل ما نهى اللَّه عنه منها فذلك فسوق، وهو لا يجوز، وهو من الظالمين أنفسهم بتعريضها بسبب ظلمه غيره إلى العذاب والعقاب إن لم يتب. والعلة واضحة وهي احتمال أن يكون المسخور منه والملموز والملقّب خيرا ممن عابه.
واستثني من التنابز بالألقاب المكروهة من غلب عليه اللقب في الاستعمال والشهرة، فلم يعد يعرف إلا بها، كالأعرج والأحدب والأعمش.
أما الألقاب الحسنة كالصدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذي النورين لعثمان، وتلقيب خزيمة بذي الشهادتين، وأبي هريرة بذي الشمالين، والخرباق بن عمرو بذي اليدين، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، فذلك جائز مقبول مألوف بين العرب والعجم. لهذا كانت التسمية بالأسماء الحسنة مطلوبة.
ذكر الزمخشري: روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه. وكانت التكنية من السنة والأدب الحسن»
قال عمر رضي اللَّه عنه: «أشيعوا الكنى فإنها منبّهة، وقد لقّب أبو بكر بالعتيق
261
والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير».
٢- كذلك حرّم اللَّه سبحانه بدلالة النهي أيضا في الآية الثانية ثلاثة أشياء:
هي سوء الظن بأهل الخير والصلاح والإيمان، والتجسس، والغيبة.
والظن أنواع «١» :
الأول- ظن واجب أو مأمور به: كحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين، كما
جاء في الحديث القدسي فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا عند ظن عبدي بي»
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»
وقال أيضا فيما رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «حسن الظن من حسن العبادة»
ومثل قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات غير المقدرة شرعا.
الثاني- ظن محظور أو حرام: كسوء الظن بالله، وبأهل الصلاح، وبالمسلمين مستوري الحال، ظاهري العدالة،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السوء» ذكره القرطبي والألوسي
وقال أيضا عن عائشة مرفوعا: «من أساء بأخيه الظن فقد أساء الظن بربه، إن اللَّه تعالى يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن».
روى أبو داود عن صفية قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معتكفا. فأتيته أزوره ليلا، فحدثته وقمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني «٢»، وكان مسكنها في دار
(١) انظر وقارن وراجع عمدة القاري شرح البخاري للعيني: ٢٢/ ١٣٧، الطباعة المنيرية، ١٨/ ١٧٩ ط البابي الحلبي.
(٢) أي فانصرفت فقام معي ليصرفني.
262
أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، قالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو سوءا» «١».
أما من يجاهر بالخبائث أو يتعاطى الريب، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر اللَّه أن يتجنب الإنسان مواضع الريبة ومواقف التهم.
الثالث- ظن مندوب إليه: كإحسان الظن بالأخ المسلم، وإساءة الظن إذا كان المظنون به ظاهر الفسق،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من الحزم سوء الظن»
وقال أيضا فيما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس، وهو ضعيف: «احترسوا من الناس بسوء الظن».
فإذا كان الظن لاتقاء الشر ولا يتعدى إلى الغير، فهو من هذا النوع، محمود غير مذموم، وعليه يحمل هذان الحديثان، وما جاء في الحكم:
«حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة».
وحرمة سوء الظن بالناس: إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير.
الرابع- ظن مباح: كالظن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية العملية بالاجتهاد، والعمل بغالب الظن في الشك في الصلاة، كم صلّى ثلاثا أو أربعا.
وأما التجسس فهو من الكبائر وهو البحث عن الأمور المكتومة أو السرية، ومنه الجاسوس، وكذلك التحسس وهو الاستماع لحديث القوم وهم له كارهون حرام أيضا، لكنه قد يستعمل في البحث عن الخير، كما قال تعالى: فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف ١٢/ ٨٧].
والغيبة أيضا حرام، وهي من الكبائر بالإجماع كما ذكر القرطبي، وأن من
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٤٠٦ [.....]
263
اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى اللَّه عز وجل، مع استحلال المغتاب في رأي جماعة، ودون استحلاله في رأي آخرين كما تقدم.
والفرق بين الغيبة والإفك والبهتان: أن الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، والإفك: أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه. واللَّه تعالى نفرّ من الغيبة أشد تنفير، مشبها الاغتياب بأكل لحم الإنسان ميتا.
وقد ذكر العلماء أشياء ليس لها حكم الغيبة، فالغيبة لا تحرم إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا به وهي ستة أمور «١» :
الأول- التظلم: فلمن ظلم تقديم شكوى للحاكم لإزالة ظلمه،
لحديث أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا»
وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «مطل الغني ظلم» أو «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الشريد.
الثاني- الاستعانة على تغيير المنكر: بأن يذكره لمن يظن قدرته على تغييره، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨].
الثالث- الاستفتاء: كأن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟
لقول هند للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن عائشة:
«إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم فخذي».
الرابع- التحذير من الفسّاق: فلا غيبة لفاسق فاجر كمدمن خمر وارتياد أماكن الفجور،
للحديث الذي رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي عن بهز بن حكيم: «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
وفي رواية للبيهقي
(١) انظر الإحياء للغزالي: ٣/ ١٣٢
264
عن أنس، وهو ضعيف: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له، واتقوا اللَّه فيما نهاكم، وتوبوا فيما وجد منكم» «١».
الخامس- التحذير من سر عام: كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، ونصح الخاطب والشريك ونحو ذلك.
السادس- التعريف بلقب مشهور إذا لم تمكن المعرفة بغيره، كالأعور والأعمش والأعرج. وصنف القرافي ما استثناه العلماء من الغيبة المحرمة وهي ست صور كما يلي: النصيحة، والتجريح والتعديل في الشهود، والمعلن بالفسوق، وأرباب البدع والتصانيف المضلة، ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها، والعلم السابق بالمغتاب به بين المغتاب والمغتاب عنده، والدعوى عند ولاة الأمور «٢».
٣- ذكرت الآية الثالثة ثلاثة أشياء: المساواة، وتعارف المجتمع الإنساني، وحصر التفاضل بالتقوى والعمل الصالح.
أما المساواة: فالناس سواسية كأسنان المشط في الأصل والمنشأ الإنساني، فهم من أب وأم واحدة، وفي الحقوق والواجبات التشريعية، وهذه أصول الديمقراطية الحقة.
وقد أبان اللَّه أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، ولو شاء لخلقه من غيرهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء، أو دون أب كخلقه عيسى عليه السلام.
وأما التعارف: فإن اللَّه خلق الخلق أنسابا وأصهارا، وقبائل وشعوبا من أجل التعارف والتواصل والتعاون، لا للتناكر والتقاطع، والمعاداة واللمز والسخرية والغيبة المؤدية إلى التنازع والعداوة، ولا للتفاخر بالأنساب والأعراق
(١) أما حديث «لا غيبة لفاسق» فلم يصح.
(٢) الفروق: الفرق بين الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم: ٤/ ٢٠٥- ٢٠٨
265
والأصول، فكل ذلك اعتبارات وهمية مصطنعة تتعارض مع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني.
وأما التقوى: فهي ميزان التفاضل بين الناس، فالأكرم عند اللَّه، الأرفع منزلة لديه تعالى في الدنيا والآخرة هو الأتقى الأصلح لنفسه وللجماعة، فإن حدث تفاخر فليكن بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات.
أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الحسب المال، والكرم التقوى»
وفي حديث آخر: «من أحب أن يكون أكرم الناس، فليتق اللَّه».
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع وأنسابكم، أين المتقون، أين المتقون؟!».
وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نسب أقرب من نسب، يأتي الناس بالأعمال، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، فأقول: هكذا وهكذا»
وأعرض في كل عطفيه.
٤- احتج مالك بآية إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج إلا الدين، فيجوز زواج الموالي بالعربية، وقد تزوج سالم مولى امرأة من الأنصار هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، فالكفاءة إنما تراعى في الدّين فقط.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الذي رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) :«تنكح المرأة لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدّين، تربت يداك».
وقال الجمهور: يراعى الحسب والمال، عملا بالأعراف، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.
266
أصول الإيمان الصحيح
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٨]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
الإعراب:
لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يَلِتْكُمْ: من لات يليت، مثل باع يبيع، وقرئ:
لا يألتكم، من ألت يألت، والقراءتان بمعنى واحد، يقال: لات يليت، وألت يألت: إذا نقصه.
لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ منصوب بنزع الخافض أي بإسلامكم، أو يضمن الفعل معنى الاعتداد.
البلاغة:
آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا بينهما طباق السلب.
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ استفهام إنكاري للتوبيخ.
267
المفردات اللغوية:
الْأَعْرابُ سكان البادية. آمَنَّا صدّقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا الأوامر، والإيمان: التصديق بالقلب مع الثقة والطمأنينة. أَسْلَمْنا انقدنا ظاهرا، والإسلام: الاستسلام والانقياد الظاهري وإظهار الشهادتين وترك المحاربة. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ لم يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن، لكنه يتوقع منكم. وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق.
لا يَلِتْكُمْ لا ينقصكم. مِنْ أَعْمالِكُمْ من ثواب أعمالكم. وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المؤمنين. رَحِيمٌ بالتفضل عليهم.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الصادقو الإيمان، بدليل ما بعده. لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا في شيء من الإيمان. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعة اللَّه ورضوانه. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ هم الذين صدقوا في إيمانهم، لا من قالوا: آمنا ولم تؤمن قلوبهم، ولم يوجد منهم غير الإسلام الظاهري.
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ أتخبرونه بقولكم: آمنا؟. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ..
لا يخفى عليه خافية، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. يَمُنُّونَ يمتنون ويعدون إسلامهم عليك منّة ونعمة مسداة لك. لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تمتنوا علي بإسلامكم. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي بحسب زعمكم، علما بأن الهداية لا تستلزم الاهتداء. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي فلله المنة والفضل عليكم.
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما غاب فيهما. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سركم وعلانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟.
سبب النزول: نزول الآية (١٤) :
قالَتِ الْأَعْرابُ: نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية «١».
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٢٥
268
وقال السّدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح: أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع، قالوا: آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا «١».
المناسبة:
بعد أن حث اللَّه تعالى على التقوى، قالت الأعراب: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم اللَّه تعالى، وأبان ضعف إيمانهم، وحدد أصول الإيمان الصحيح: وهي التصديق بالله ورسوله، والإخلاص في القلب، والجهاد بالنفس والمال في سبيل اللَّه وطاعته وإعلاء دينه، وأخبر بأن اللَّه يعلم ما في السرائر والعلانية، فيعلم ما هم عليه من ضعف الإيمان وقوته، وأفاد بأنه لا ينبغي لمؤمن أن يمتن على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بإيمانه، بل اللَّه يمن عليه بتوفيقه للهداية على يد رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
التفسير والبيان:
قالَتِ الْأَعْرابُ: آمَنَّا، قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي قالت جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام مدعين لأنفسهم مقام الإيمان: صدقنا بالله ورسوله وتمكن الإيمان في قلوبنا، فرد اللَّه تعالى عليهم مبينا لهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل، ولم يصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة وثقة تامة بالله عز وجل، وأمرهم بأن يقولوا: انقدنا لك يا رسول اللَّه واستسلمنا، وسالمناك فلا نحاربك. وأعلمهم بأنه لن يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد، بل كان مجرد قول باللسان، دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة، لذا جاء النفي ب لَمَّا حرف الجزم الدال على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار. وقوله: لَمْ تُؤْمِنُوا لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا.
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٤٨
269
وقد دلت الآية الكريمة على أن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب، فهو تصديق القلب مع الطمأنينة والثقة باللَّه، والإسلام أعم، فهو مجرد نطق باللسان بالشهادتين وإظهار الانقياد والخضوع لما جاء به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وهذا لا يمنع أن المؤمن والمسلم واحد عند بعض أهل السنة «١»، بدليل قوله تعالى عن لوط عليه السلام ومن آمن معه: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات ٥١/ ٣٥- ٣٦].
ثم حرضهم اللَّه تعالى على الإيمان الصادق بقوله:
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي وإن تطيعوا اللَّه ورسوله إطاعة تامة، وتخلصوا العمل وتصدقوا تصديقا صحيحا، لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، واللَّه تعالى غفور ستار لمن تاب إليه وأناب وأخلص العمل، رحيم به فلا يعذبه بعد التوبة. وفيه حث على التوبة من الأعمال السالفة، وتسلية لقلوب من تأخر إيمانه، فالله تعالى يغفر لكم في كل وقت ما قد سلف، ويرحمكم بما أتيتم به.
ونظير الآية: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور ٥٢/ ٢١].
ثم أبان اللَّه تعالى صفات المؤمنين وحقيقة الإيمان بقوله:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي إنما المؤمنون إيمانا صحيحا خالصا وهم المؤمنون الكمّل هم الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم تصديقا
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٤١
270
تاما بالقلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكّوا ولم يتزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة اللَّه وابتغاء مرضاته، قاصدين بجهادهم إعلاء كلمة اللَّه ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون بالاتصاف بصفة الإيمان، والدخول في عداد المؤمنين، لا كبعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام، ولم يطمئن الإيمان في قلوبهم.
روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللَّه، والذي يأمنه الناس على أموالهم بأنفسهم، والذي إذا أشرف على طمع تركه اللَّه عز وجل».
ثم عرفهم اللَّه تعالى بأنه عالم بحقيقة أمرهم قائلا:
قُلْ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قل لهم أيها الرسول: أتخبرون اللَّه بما في ضمائركم من الدين، ليعلم بذلك حيث قلتم: آمنا؟ واللَّه عالم لا يخفى عليه شيء، يعلم كل ما في السموات وما في الأرض من جمادات ونباتات وحيوانات وإنس وجن، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟ واللَّه لا تخفى عليه خافية من ذلك، يعلم بكل شيء، فاحذروا أن تدّعوا شيئا خلاف ما في قلوبكم.
وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون للَّه، وأنتم أظهرتموه لنا، لا لله، فلا يقبل ذلك منكم.
ثم أوضح اللَّه تعالى أن إسلامهم لم يكن لله، فقال:
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها
271
النبي، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فرد اللَّه تعالى عليهم قائلا:
قُلْ: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي قل أيها الرسول: لا تعدوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، ولله المنة عليكم فيه، فهو سبحانه الذي يمن عليكم، إذ أرشدكم إلى الإيمان وأراكم طريقه، ووفقكم لقبول الدين، إن كنتم صادقين فيما تدعونه. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.
وذلك كما
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم للأنصار يوم حنين: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم اللَّه بي؟ وكنتم متفرقين فألّفكم اللَّه بي؟ وكنتم عالة فأغناكم اللَّه بي؟ قالوا: بلى، اللَّه ورسوله أمنّ وأفضل».
ثم أكد اللَّه تعالى علمه بكل شيء، فقال:
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي إن اللَّه عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السموات والأرض، ومن جملة ذلك:
ما يسّره كل إنسان في نفسه، واللَّه مطّلع على كل شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم بالخير خيرا، وبالشر شرا. والآية تكرار وتأكيد الإخبار بعلم اللَّه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، ليترسخ ذلك في الأذهان، ويستقر في أعماق القلوب، ويتمثل دائما في النفوس.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- موضوع الآيات توبيخ من في إيمانه ضعف بعد الآيات السابقة التي فيها حث عموم الناس على تقوى اللَّه تعالى.
272
فلا يكفي الإسلام الظاهري، وإنما لا بد من الإيمان والإذعان القلبي، ولا يكفي الإسلام اللغوي، وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل، ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم.
٢- إن أخلص الناس الإيمان لله تعالى وفّر لهم ثوابا عظيما لأعمالهم، ولم ينقصهم شيئا من أجورهم.
٣- لا حرج على من تأخر إيمانه، فالله سبحانه غفار لذنوب عباده كلها بمشيئته، رحيم بهم فلا يعذبهم بعد التوبة.
٤- إن عناصر الإيمان الجوهرية في الآية: هي الإيمان بالله وحده لا شريك له، والإيمان بأن محمدا رسول اللَّه وخاتم الأنبياء والرسل، وعدم الارتياب في شيء، بل لا بد من عقيدة ثابتة ويقين كامل لا يتزعزع أبدا، والجهاد في سبيل اللَّه بالأموال والأنفس محكّ الإيمان ودليله، والمؤمنون هم الذين صدّقوا ولم يشكّوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة، وهم الذين صدقوا في إيمانهم، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب.
ويجب أن يكون الجهاد من أجل نصرة دين اللَّه والدعوة إلى سبيله، أو لاسترداد الحقوق المغتصبة والبلاد المحتلة، لذا
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري: «من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه» وقال تعالى في الدفاع عن البلاد: وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا [آل عمران ٣/ ١٦٧].
٥- لا حاجة لإعلام اللَّه تعالى بأن الإنسان مؤمن، فهو سبحانه يعلم بالدين الذي يكون الناس عليه، ويعلم كل شيء في الكون، والآية تجهيل لهم في قوله:
أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟.
٦- إن نفع الإيمان يعود للمؤمن نفسه، فلا يصح لأحد أن يمتن بإسلامه على
273
أحد، بل المنة والفضل والنعمة لله عز وجل الذي وفق عباده للإيمان، وأرشدهم إليه ودلّهم عليه.
والصادقون هم الذين يعترفون بهداية اللَّه لهم، والهداية هنا بمعنى الدلالة.
وقوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريض بأن الأعراب سبب النزول كاذبون، ولهذا قال تعالى: قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وذلك تأديب لهم.
٧- ظاهر الآية يدل على أن أولئك الأعراب لم يكونوا مؤمنين إيمانا صحيحا، بل كانوا مسلمين إسلاما ظاهريا، والإيمان أخص، والإسلام أعم، كما تقدم، ولم يكونوا منافقين، فلو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما فعل اللَّه تعالى في سورة براءة.
٨- إن اللَّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك ما في الضمائر والقلوب، فهو تعالى يعلم الإيمان الحقيقي من الإيمان الكاذب، ويعلم المقاصد والغايات، والمخاوف والأطماع، والبواعث التي تدفع إلى الدخول في الإسلام.
274

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق
مكيّة، وهي خمس وأربعون آية.
تسميتها:
سميت سورة ق تسمية لها بما افتتحت به من أحرف الهجاء، كقوله تعالى: ص، ن، الم، حم، طس قال الشعبي:
ق: فاتحة السورة.
مناسبتها لما قبلها:
أخبر اللَّه تعالى في آخر سورة الحجرات المتقدمة أن أولئك الأعراب الذين قالوا: آمنا، لم يكن إيمانهم حقا، وذلك دليل على إنكار النبوة وإنكار البعث، فافتتح هذه السورة بوصف إنكار المشركين نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وإنكار البعث، ثم رد عليهم بالدليل القاطع.
ما اشتملت عليه السورة:
بما أن هذه السورة مكية بالإجماع، فموضوعها مثل موضوعات سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد، والبعث، والنبوة والرسالة، ولكنها عنيت بالأصل الثاني وهو البعث وإثباته والرد على منكريه.
لذا ابتدأت بالكلام عن إنكار مشركي العرب وقريش أمر البعث والنشور، وأمر النبوة ورسالة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعجبهم من إرسال رسول منذر منهم، ومن
275
إعادة الحياة بعد الممات، فأقسم اللَّه بالقرآن المجيد قائلا: ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ...
ومن أجل الاستدلال على قدرة اللَّه الباهرة على البعث وغيره، حثّت الآيات بعدئذ على التأمل في صفحة الكون، والنظر في السماء وبنائها وزينتها، وفي الأرض وجبالها وزروعها ونباتاتها وأمطارها: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ..
الآيات.
ثم أثارت دواعي التفكر وأقامت العبر والعظات في إهلاك الأمم السابقة المكذبة بالرسل، كقوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود وعاد وفرعون ولوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب وقوم تبّع، تحذيرا لكفار مكة أن يصيبهم مثلما أصاب غيرهم: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ.. الآيات.
وانتقلت الآيات للحديث عن الإنسان ومسئوليته وملازمة الملكين له لرصد أعماله وأقواله ومراقبة أحواله، وطيّ صحيفته بسكرة الموت، وتعرضه لأهوال الحشر وأهوال الحساب: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ الآيات، وأعقبت كل ذلك بضرورة العبرة والتذكر بتلك الأحداث الكبرى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى...
وختمت السورة الكريمة بمشاهد عظيمة، من خلق السموات والأرض وما بينهما، وسماع صيحة الحق للخروج من القبور، وتشقق الأرض عن الأموات سراعا، وتخلل ذلك أمر الرسول وأتباعه بالصبر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار، وعدم المبالاة بإنكار المشركين البعث وتهديدهم عليه، والتذكير بالقرآن من وعيد اللَّه وعقابه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ.. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ.. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. الآيات.
276
فضل السورة:
تقرأ هذه السورة في الأحداث الكبرى والمجامع العامة، كالجمع والعيدين، لتذكير الناس ببدء الخلق، ومظاهر الحياة، وعقوبات الدنيا، والبعث والنشور، والجنة والنار، والثواب والعقاب.
وأدلة سنّية قراءتها في تلك المناسبات أحاديث، منها حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقرأ في الفجر ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وكانت صلاته بعد تخفيفا.
وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، قالت: ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلا عن لسان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر، إذا خطب الناس.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الأضحى والفطر؟
فقال: كان يقرأ فيهما ب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
والسبب أن العيد يوم الزينة والفرح، فينبغي ألا ينسى الإنسان خروجه إلى ساحات الحساب، فلا يكون فرحا فخورا، ولا فاسقا فاجرا، فيتذكر بالقرآن كما في بداية السورة: ق وَالْقُرْآنِ ونهايتها: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ويتأمل في قوله تعالى: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وقوله تعالى:
كَذلِكَ الْخُرُوجُ وقوله سبحانه: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ.
أوجه الشبه بين سورة ق وسورة ص:
لاحظ العلماء وجهي شبه بين سورتي ص وق وهما «١» :
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٤٥ بتصرف.
277
Icon