تفسير سورة هود

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة هود من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
دروس من سورة هود
تمهيد عن الوحدة الموضوعية للسورة :
هو عليه السلام : هو أول رسول إلى قوم عاد، وعاد : أول أمة من نسل سام بن نوح١، وقد تحدث القرآن كثيرا عن هود فيمن تحدث عنهم من رسل الله الكرام، وقد ذكر باسمه خمس مرات في هذه السورة سميت به.
وسورة هود : من السور المكية، شأنها كسائر القرآن المكي : هو تقرير أصول الدين، وإقامة الأدلة عليها، ورد الشبه التي كان يثيرها المعارضون حول الدعوة وصاحبها، والحديث عن اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وهي نفس الموضوعات التي تحدثت عنها السورة السابقة على سورة يونس.
عناصر الدعوة الإلهية
والمتدبر لسورة هود ؛ يرى أنها قررت عناصر الدعوة الإلهية وهي : التوحيد، والرسالة، والبعث عن طريق الحجج العقلية، مع الموازنة بين النفوس المستعدة للإيمان، والنفوس النافرة منه. و قد عرضت لذلك في أربع وعشرين آية يختم بها الربع الأول منها، ثم أخذت سورة هود تتحدث عن جملة من الرسل السابقين ؛ بيانا لوحدة الدعوة الإلهية، وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وإنذارا للمكذبين.
ويستغرق قصص هؤلاء الرسل الكرام معظم سورة هود ؛ فتذكر : قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى. وطريقة العرض هنا تختلف عنها في سورة أخرى، والحلقات التي تعرض من كل قصة تختلف كذلك ؛ لاختلاف السياق ؛ فيمتنع التكرار فيما يخيل للقارئ العابر للقرآن الكريم أنه تكرار.
هذا القصص الذي يستغرق معظم سورة هود : مرتبط كل الارتباط بما قبله وما بعده من السورة، متناسق مع السياق حتى في التعبير اللفظي أحيانا، فالفقه، والمشهد، والعظة، والتعقيب، تتناسق كلها تناسقا عجيبا، وتكشف عن بعض وظيفة القصة في القرآن الكريم.
تبدأ سورة هود بقوله تعالى :
﴿ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ* أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾. ( هود : ١، ٢ ).
وهذا المطلع يقرر أن المهمة الأولى للنبي هي : الدعوة إلى توحيد الله، وينذر بالعذاب من يكذب بدعوة الله، و يبشر بالنعيم من آمن بها. و قصص السورة كله يساق : لتوكيد هذين المعنيين، فيرد في ألفاظ تكاد تكون واحدة يقولها كل رسول، وكأنما يقولها ويمضي، حتى يأتي أخوه فيقولها كذلك ويمضي، والمكذبون هم المكذبون.
تبدأ قصة نوح بقوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله وإني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ﴾. ( هود : ٢٥، ٢٦ ).
ثم يقول هود :﴿ يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ﴾. ( هود : ٥٠ ).
ويقول صالح :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾. ( هود : ٦١ ).
ويقول شعيب :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾. ( هود : ٨٤ ).
ونهايات القصص كلها هلاك المكذبين وعقوبة المعتدين، ووعيد لجميع المتكبرين عن الإيمان بالحق، والانقياد للعقيدة الصحيحة، قال تعالى :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾. ( هود : ١٠٢ ).
وتتضمن سورة هود إثبات الوحي، وتنزيل القرآن من عند الله وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية يقينه مع من آمن به من المؤمنين ؛ حتى لا يضيق صدرهم بالمكذبين والمستهزئين.
ثم يختم القصص في سورة هود بقوله تعالى :
﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌوَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾. ( هود : ١٢٠ ).
وهكذا نجد أن القصة في القرآن الكريم تؤدي دورا متناسقا مع موضوع السورة وسياقها، وتعرض بالطريقة وبالعبارة اللتين تحققان هذا التناسق الجميل الدقيق.
١ العقيدة والإيمان بالله
يتضمن الدرس الأول من السورة : دعوة المشركين إلى توحيد الله واستغفاره والتوبة مما هم فيه، ويبشروهم إن فاءوا إلى هذا بمتاع حسن وجزاء طيب، وينذر المعرضين عن الدعوة بعذاب كبير، ويقرر عقيدة الإيمان باليوم الآخر، والرجعة إلى الله لتحقيق البشرى والإنذار، ثم يعرض مشهدا لهم وهم يحاولون التخفي عن مواجهة الرسول وهو يجابههم بالبيان، يعقب عليه بعلم الله الشامل اللطيف الذي يتابعهم وهم أخفى ما يكونون عن العيون، ويتصل بهذا المعنى علم الله بكل دابة في الأرض حيث تكون.. كما يتصل به الحديث عن خلق السماوات والأرض.
ثم يعرض صورا من النفس البشرية القلقة المتعجلة في السراء والضراء. ومع ذلك فهم يستعجلون العذاب إذا ما أخر عنهم إلى حين.
ثم ينتقل إلى التحدي بالقرآن الذي يقولون : إنه مفترى من دون الله، وتهديد من لا يؤمنون بالآخرة، ومن يفترون على الله الكذب، ويعرض مشهدا من مشاهد القيامة يتجلى فيه مصداق هذا الوعيد ومصداق البشرى للمؤمنين.
ومن المعالم البارزة في هذا الدرس ما يأتي :
١ تقرير عقيدة التوحيد، وسوق الأدلة على قدرة الله الذي أبدع الكون على غير مثال سابق.
وقد تتساءل عن سر عناية القرآن بعقيدة التوحيد وتكرير الدعوة إليها في كثير من آياته :
والجواب : أنه ما كان لدين أن يقوم في الأرض ولأن يقيم نظاما للبشر قبل أن يقرر هذه الدعوة ؛ فالتوحيد هو مفترق الطريق بين الفوضى والنظام، وبين الخرافة والإيمان وبين الهوى واليقين.
والاعتراف بوجود الله ضروري في الفطرة السليمة ؛ لأن الله خلق الإنسان بيده، وأودعه نفخة مقدسة من روحه ؛ ولذلك تتجه الفطرة إلى الله خالقها وبارئها ؛ لتروي ظمأها إليه، ولتلبي نداء الشوق الكامن إليه في أعماقها.
٢ عناية الآيات بأن تلفت نظر الإنسان إلى ما في الكون من آيات القدرة، ودلائل الإعجاز، وعجائب الصنع، ومواطن الاعتبار فهذا الكون الفسيح الشاسع الأرجاء وما فيه من قوى منظورة لنا، وغير منظورة، وما يخضع له من نظام لا يحتمل الخلل، ودقة لا تسمح بالعبث ؛ دليل على أن هذا الكون لم يوجد عن طريق صدفة عمياء، بل إنه وجد ؛ لأن خالقا حكيما هو الذي أوجده.
٣ إثبات علم الله بكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون، وتقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا العالم الفسيح، وتيسير الأسباب للسعي والحركة، وعمارة الكون.
ومن الآيات المشهورة بين الناس قوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾. ( هود : ٦ ).
وهي تصور علم الله الشامل المحيط بكل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة وحشرة وطير ؛ فما من دابة من هذه الدواب إلا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن، ومن أين تجيء وأين تذهب، وكل فرد من أفراد ها مقيد في هذا العالم الدقيق. إنها صورة متصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصورها بخياله الإنساني فلا يطيق. فسبحان من أحاط بكل شيء علما ! !
٢ إعجاز القرآن
يلمح القارئ لهذه السورة قوة أسلوبها وترابط أفكارها، وتوالي حملاتها على الكفار حتى كأنها جيش كامل مشتمل على عديد من الكتائب والفصائل والجنود.
إنها دعت في الدرس السابق إلى التوحيد ولفت الأنظار إلى قدرة الله البالغة وعلمه المحيط بكل شيء.
وهي هنا تسوق دليلا آخر على صدق عقيدة التوحيد وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الدليل هو إعجاز هذا القرآن وروعته وقوته.
ويتجلى هذا الإعجاز فيما يلي :
١ إخباره عن الأمم الماضية التي لم يعاصرها محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف تاريخها، ولم يقرأ عنها.
٢ اشتماله على أصول التشريع، وسياسة الخلق، وقواعد الحكم، وآداب المعاملة، ونظام العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة.
٣ إخباره عن أنباء لاحقة تأكد صدقها، وتحقق وقوعها.
لقد ادعى كفار مكة : أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد اختلق القرآن من عنده، ولم ينزل عليه من السماء ؛ فتحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات. أي : ليخلقوا كما اختلق محمد صلى الله عليه وسلم فهم عرب مثله، وهم أرباب الفصاحة والبيان، والقرآن مؤلف من حروف وكلمات وجمل يعرفونها ويؤلفون من مثلها كلامهم، فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن دليل على أنه ليس من صنع بشر وليس من افتراء محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولكنه كلام الله العليم الخبير.
وقد سمح لهم القرآن أن يستعينوا بمن شاءوا من الشركاء والفصحاء والبلغاء والشعراء والإنس والجن ؛ ليشاركوهم في تأليف هذه السور، قال تعالى :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾. ( هود : ١٣ ).
وقد سبق أن تحداهم القرآن بسورة واحدة في سورة يونس، فلماذا تحداهم بعد ذلك بعشر سور.
قال المفسرون القدامى : إن التحدي كان على الترتيب : بالقرآن كله، ثم بعشر سور، ثم بسورة واحدة، ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل، بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة. وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور.
وحقيقة أن ترتيب الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور ؛ فقد كانت الآية تنزل فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبت هذا الترتيب، وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز.
وقد حاول صاحب تفسير المنار أن يجد لهذا العدد ( عشر سور ) علة، فأجهد نفسه طويلا ليقول :«إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ؛ وأنه بالاستقراء ؛ يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشرا فتحداهم بعشر سور ». ٢ وهو احتمال وجيه.
ويرى بعض المفسرين المحدثين : أن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول. فيقول مرة : ائتوا بمثل هذا القرآن، أو ائتوا بسورة، أو بعشر سور. دون ترتيب زمني ؛ لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن. كله، أو بعضه، أو سورة منه على السواء فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره، والعجز كان عن هذا النوع، لا عن المقدار ؛ وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة، ولا يلزم ترتيب ؛ إنما هو مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب أن يقول : سورة، أو عشر سور، أو هذا القرآن. ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن.
٣ القصص في سورة هود
القصص في هذه السورة هو قوامها ؛ إذ عدد آياتها ( ١٢٣ ) مائة وثلاثة وعشرون آية، يشتمل قصص الأنبياء منها على ( ٨٩ ) تسع وثمانين آية.
لكن القصص لم يجيء فيها مستقلا إنما جاء مصداقا للحقائق الكبرى التي جاءت السورة ؛ لتقريرها، وهي : التوحيد، والبعث، والجزاء.
وقد جال السياق جولات متعددة حول هذه الحقائق : جال في ملكوت السماوات والأرض، وفي جنبات النفس، وفي ساحة الحشر، ثم أخذ يجول في جنبات الأرض، وأطوار التاريخ مع قصص الماضين.
القصص هنا مفصل بعض الشيء ؛ لأنه يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت في مطلع السو

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ١ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ٢ ﴾.
المفردات :
أحكمت آياته : نظمت آياته نظما محكما لا خلل فيها ولا تناقض ولا اضطراب.

فصلت : ذكرت فيها الأمور التي يحتاج إليها العباد في عقائدهم وسلوكهم ومعادهم ومعاشهم مفصلة مبينة.


من لدن حكيم : من عند إله مبدع للأمور على خير وجه.
خبير : عليم بما كان ويكون، ظاهرا أو خفيا.
التفسير :
١ ﴿ الر... ﴾ الآية.
افتتح الله بعض السور القرآنية، ببعض حروف الهجاء، وهي للتحدي والإعجاز، وبيان أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن الكريم، مع أنه مؤلف من حروف عربية ينطقون بها، ويؤلفون منها كلامهم، فإذا عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ؛ دل ذلك على أنه ليس من صنع بشر، ولكن تنزيل من حكيم حميد.
وذكر بعضهم : أنها حروف للتنبيه كالجرس الذي يقرع ؛ فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة، كذلك هذه الأحرف تنبيه للبشر، كألا وغيرها من أدوات الاستفتاح.
﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾.
أي : هذا كتاب عظيم الشأن، جليل القدر، جعلت آياته محكمة النظم والتأليف، لا تقبل شكا ولا تأويلا ولا تبديلا، وجعلت فصولا متفرقة في سورة، تبين حقائق العقائد، والأحكام والمواعظ، وجميع ما أنزل له الكتاب من الحكم والفوائد، فكأنها العقد المفصل بالفرائد ؛ لأنها منزلة من ﴿ حكيم ﴾. يضع الأمور في موضعها. ﴿ خبير ﴾ بما كان وما هو كائن.
من تفسير الكشاف للزمخشري :
﴿ أحكمت آياته ﴾. أي : نظمت نظما رصينا محكما، بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف، وقيل : منعت من الفساد من قولهم : أحكمت الدابة ؛ إذا وضعت عليها الحكمة ؛ لتمنعها من الجماح قال جرير :
أبنى حنيفة، أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
﴿ ثم فصلت ﴾. كما تفصل القلائد بالفرائد، ومن دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصائص، أو جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة. ٣
المفردات :
نذير : محذر لعباد الله من سوء عاقبة الكفر والعصيان.
بشير : مخبر بما يسر الصالحين من ثواب الله.
التفسير :
٢ ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾.
أي : هذا الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت، أنزله الله لكي تخلصوا له العبادة والطاعة، وتتركوا عبادة غيره ؛ لأن من حق من أنزل هذا الكتاب المعجز ؛ أن يفرد بالخضوع والاستعانة.
وهذا كقوله تعالى :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت... ﴾. ( النحل : ٣٦ ).
وقوله سبحانه :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾. ( الأنبياء : ٢٥ ).
﴿ إنني لكم منه نذير وبشير ﴾.
أي : إنني رسول من عند الله ؛ أنذركم عذابه إن عصيتموه، وأبشركم برحمته وفضله إن أطعتموه.
كما جاء في الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فدعا بطون قريش فاجتمعوا، فقال :( يا معشر قريش، لو أخبرتكم أن خيلا تصبّحكم ألستم مصدقي ؟ ) فقالوا : ما جربنا عليك كذبا، قال :( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ).
﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ٣ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤ ﴾
المفردات :
تولوا : أصلها : تتولوا. أي : تعرضوا.
التفسير :
٣ ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى... ﴾ الآية.
هذه الآية مكملة للآية السابقة في المعنى.
والمعنى : لقد أنزل الكتاب من أجل أن تعبدوه سبحانه دون سواه، واسألوه : أن يغفر لكم ما كان منكم ؛ من أعمال الشرك والكفر والإجرام، ثم ارجعوا إليه بإخلاص العبادة له دون سواه، فإن فعلتم ذلك ؛ يمتعكم في دنياكم متاعا حسنا ؛ فيرزقكم من زينة الدنيا، وينسأ لكم في آجالكم، ويبدل خوفكم أمنا، وفقركم غنى، وشقاءكم سعادة.
وقريب من هذه الآية قوله في سورة نوح عليه السلام :﴿ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ﴾. ( نوح : ١٠١٢ ).
و أدنى المتاع الحسن في الدنيا : الأمن، والدعة، وراحة النفس، والرضا بما قسم الله تعالى، والصبر على المحن.
﴿ ويؤت كل ذي فضل فضله ﴾.
و يعطي كل صاحب عمل صالح جزاء عمله في الدنيا والآخرة قال تعالى :﴿ للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ﴾. ( النحل : ٣٠ ).
﴿ وإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِير ﴾.
أي : وإن تتولوا أيها الناس عن الحق الذي جئتكم به ؛ فإني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، الذي هو عذاب كبير هوله، عظيم، كما أخاف عليكم عذاب الدنيا.
المفردات :
مرجعكم : مصيركم.
التفسير :
٤ ﴿ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
إنكم لا مهرب لكم، ولا مفر من لقاء الله تعالى، فالموت حق، والبعث حق، والحساب والجزاء حق، والله وحده هو المالك ليوم الدين، وإليه سبحانه رجوعكم في الدار الآخرة، مهما طالت حياتكم ؛ ليحاسبكم على أعمالكم، ويجازيكم عليها بما تستحقون من جزاء ؛ فعليكم أن تتزودوا لهذا المصير بالتقوى والأعمال الصالحة، قال تعالى :﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ﴾. ( البقرة : ١٩٧ ).
﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
فهو سبحانه كامل القدرة، لا يعجزه أمر، ولا يحول بينه وبين نفاذ إرادته حائل، فهو سبحانه بدأ الخلق على غير مثال سابق، وهو سبحانه يعيد الحياة إلى الخلائق، ويبعثها للحياة مرة أخرى.
قال تعالى :﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾. ( الأنبياء : ١٠٤ ).
وقال سبحانه :﴿ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾. ( الروم : ٤٠ ).
وقال عز شأنه :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾. ( الروم : ٢٧ ).
﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ٥ ﴾.
المفردات :
يثنون صدورهم : يطوون قلوبهم على ما فيها من نوايا.
ليستخفوا منه : ليستروا أنفسهم عنه سبحانه.
يستغشون ثيابهم : يوارون أنفسهم بثيابهم.
التفسير :
٣ ﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ... ﴾ الآية.
أي : إن هؤلاء الكافرين الكارهين لدعوة التوحيد يحنون ظهورهم، وينكسون رءوسهم، كأنهم يحاولون طي صدورهم على بطونهم حين سماع القرآن ؛ ليستخفوا منه صلى الله عليه وسلم حين تلاوته، فلا يراهم حين نزول هذه القوارع على رءوسهم.
روى ابن جرير وغيره : أن ابن شداد قال : كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ ثنى صدره : كيلا يراه أحد.
جاء في تفسير الآلوسي ما يأتي :
قيل : نزلت في المنافقين، كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وتغشى بثوبه ؛ لئلا يراه.
وقيل : نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو المنطق، حسن السياق للحديث، يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة، ويضمر في قلبه ما يضادها، وقيل : كان الرجل من الكفار يدخل بيته، ويرخي ستره، ويحني ظهره، ويتغشى بثوبه، ثم يقول : هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت هذه الآية... ا ه.
ويمكن أن تشمل الآية الكريمة جميع هؤلاء، كما تشمل كل من يتستر ويستخفي بعمل الشر ظانا أنه لن ينكشف أمره، ولن يظهر للناس سوء فعله.
﴿ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
أي : إن ثنى صدورهم، وتنكيس رءوسهم ؛ ليستخفوا من الداعي إلى توحيد ربهم ؛ لا يغني عنهم شيئا ؛ فإنه سبحانه وتعالى يعلم السر والجهر، ويعلم ما يضمرونه وما يعلنونه.
﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ : إنه سبحانه وتعالى محيط بما تضمره النفوس من خفايا، وما يدور بها من أسرار، وهذه الجملة تعليلية ؛ لتأكيد ما قبلها من علمه سبحانه وتعالى بالسر والعلن.
والمراد بذات الصدور : أسرار الصدور وخواطر القلوب، وكل ما يدور في داخل الإنسان.
فالله سبحانه خالق الإنسان، مطلع على خطرات نفسه، محيط علمه بظاهره وباطنه.
قال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾. ( ق : ١٦ ).
﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ٦ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ٧ ﴾.
المفردات :
وما من دابة في الأرض : يعني : كل ما دب على الأرض، والناس منهم.
ويعلم مستقرها : الموضع الذي تستقر فيه وتأوي إليه.
ومستودعها : حيث يودعها بموت أو دفن.
كل في كتاب مبين : عند الله عز وجل مكتوب مثبت.
التفسير :
٦ ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
تصور الآية علم الله الشامل المحيط بكل ما يدب على الأرض، من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة وحشرة وطير، وهو سبحانه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها، وما من دابة من هذه الدواب إلا وعند الله علمها، وعلى الله رزقها، وهو يعلم أين تستقر وأين تكمن، ومن أين تجيء وأين تذهب، وكل فرد من أفرادها في هذا العلم الدقيق.
إنها صورة متصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصورها بخياله فلا يطيق، فسبحان من أحاط بكل شيء علما !
المفردات :
ليبلوكم : ليختبركم.
التفسير :
٧ ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... ﴾ الآية.
تشير الآية : إلى أن خلق الكون قد مر بفترات زمنية طويلة جدا، ولم يكن في ذلك الوقت شمس أو قمر، أو ليل أو نهار، ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية : في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا.
ونجد القرآن الكريم :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾. ( الحج : ٤٧ ).
ويقول سبحانه :﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾. ( المعارج : ٤ ).
ويقول عز شأنه :﴿ في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ﴾ ( السجدة : ٥ ).
وقد فسر بعضهم خلق السماوات والأرض في ستة أيام، على أنها تعني : مراحل، أو فترات طويلة، أو عصور.
وفي الآيات٩ ١٢ من سورة فصلت، يقول سبحانه :
﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِين *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾
ويقول عز شأنه :
﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾. ( النازعات : ٢٧ ٣٣ ).
ويقول بعض المفسرين : أن الدحو غير الخلقة، فيمكن أن تكون الأرض قد خلقت غير مدحوة ثم أتم الله خلق السماء، وبعد ذلك أتم خلق الأرض فدحاها، ويسر لها الماء والمرعى والجبال، والتأمل في الآيات العديدة، التي تحدثت عن خلق السماوات والأرض، وعن خلق الكون، يجعلنا نخلص إلى النقاط الآتية :
١ وجود مراحل ستة للخلق عموما.
٢ تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل الأرض.
٣ خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة، كانت تشكل كتلة متماسكة، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك.
٤ تعدد السماوات وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض.
٥ وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض.
٦ إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولى في العلم الحديث، والدخان على حسب القرآن للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى.
﴿ وكان عرشه على الماء ﴾. تفيد آيات أخرى : أن الماء أصل جميع الحياة والأحياء. قال تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾ ( الأنبياء : ٣٠ ).
وفي صحيح مسلم : عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ). ٤
قال مجاهد :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ قبل أن يخلق شيئا.
وقال ابن عباس : إنما سمّى العرش عرشا ؛ لارتفاعه.
وعن سعيد بن جبير : سئل ابن عباس عن قول الله :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ ؛ على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح. ٥
أصل الحياة :
شغلت هذه المسألة الإنسان في كل العصور سواء ما كان يخصه منها أو ما يخص الكائنات المحيطة به، وعندما يواجه القرآن أصل الحياة على مستوى عام تماما، فإنه يذكر ذلك بإيجاز بالغ مثل قوله :﴿ أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾. ( الأنبياء : ٣٠ ).
والرتق : ضد الفتق، ومعنى﴿ كانتا رتقا ﴾. أي : كانتا ملتصقتين، ففتق الله هذه من هذه، فرفع الله السماء ووضع الأرض وفصل بينهما بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض، قال تعالى :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا تؤمنون ﴾. والعبارة يمكن أن تعني : أن كل شيء مصدره الماء كمادة جوهرية، أو أن أصل كل شيء حي هو الماء ويتفق هذان المعنيان تماما مع العلم، فالثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي، وأن الماء هو العنصر الأول لكل خلية حية، فلا حياة ممكنة بلا ماء، وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما، فإن أول سؤال يطرح هو : أيحتوي هذا الكوكب على كمية كافية للحياة عليه ؟ وتسمح المعطيات الحديثة بالاعتقاد بأن أقدم الكائنات الحية كانت تنتمي إلى عالم النبات ؛ فقد اكتشفت طحالب ترجع إلى ما قبل العصر الكمبري، أي : في أقدم الأراضي المعروفة، ولابد أن عناصر عالم الحيوان قد ظهرت بعد ذلك بقليل، وقد أتت أيضا في المحيطات.
وتشير كلمة ماء إلى : ماء السماء، كما تعني : ماء المحيطات أو أي سائل آخر، وبالمعنى الأول ؛ فالماء هو العنصر اللازم لأي حياة نباتية.
قال تعالى :﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ﴾. ( طه : ٥٣ ).
إن كلمة ماء بمعناها الثاني، أي : ذلك الذي يعنى :( سائل ) دون أي تحديد، مستخدمة في شكلها غير المحدد للدلالة على ما هو أصل تشكل أي حيوان.
قال تعالى :﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾. ( النور : ٤٥ ).
وتنطبق كلمة ماء هنا أيضا على : السائل المنوي٦ وسواء كان المقصود هو أصل الحياة عموما أو العنصر الذي يجعل النباتات تولد في التربة، أو كان المقصود هو : بذرة الحيوان ؛ فإن كل عبارات القرآن تتفق تماما مع المعطيات العلمية الحديثة، ولا مكان مطلقا في نص القرآن لأي خرافة من الخرافات التي كانت منتشرة في عصر تنزيل القرآن الكريم. ٧
ويمكن أن تدل جملة :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾، على معنى : وكان ملكه قائم وثابت لأصل هذا الكون وأساس كل شيء في هذه الحياة، وهو مدلول : كان الله ولا شيء معه ؛ فهو سبحانه أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، وهو الذي أوجد الخلق من العدم، وهو يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويكون معنى ﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي ﴾. أي : أصل كل الأحياء.
أخرج الإمام أحمد : عن أبي هريرة قال : يا رسول الله، إني رأيتك، طابت نفسي، وقرت عيني ! فأنبئني عن كل شيء ؛ قال :( كل شيء خلق من ماء )، قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة ؟ قال :( أفش السلام وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام ؛ ثم ادخل الجنة بسلام )، ٨ وفي نهاية المطاف نجد أن المسلم مطالب بالإيمان بالمحكم، والتفويض إلى الله في المتشابه، والتسليم بصدق ما أخبر به القرآن، وإن عجز العقل المحدود عن تحديد المقصود.
قال تعالى :﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴾. ( آل عمران : ٧ ).
أقوال المفسرين :
جاء في تفسير المراغي لهذه الآية :
والخلاصة : أن الماء أصل جميع الأحياء وهو الذي ينزل إليه أمر التدبير والتكوين. ٩
خلاصة ما ورد في تفسير المنار للسيد رشيد رضا :
﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ﴾. من أيام الله تعالى في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا وما يؤيده من قوله :﴿ وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ﴾. ( الحج : ٤٧ ). وقوله :﴿ تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾. ( المعارج : ٤ ). وقد ثبت في علم الهيئة الفلكية أن أيام غير الأرض من الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها، بحسب اختلاف مقادير أجرامها وأبعادها، وسرعتها في دورانها، وأن أيام التكوين بخلقه من الدخان المعبر عنه : بالسديم شموسا مضيئة، تتبعها كواكب منيرة يقدر اليوم منها بآلاف الألوف من سنينا، بل من سني سرعة الضوء أيضا.
﴿ وكان عرشه على الماء ﴾. أي : وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء.
والمعنى : الكلي المفهوم من العرش : أنه مركز نظام الملك، ومصدر التدبير له، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه بمعنى : ملك أو استقام أمر الملك له، وثل عرشه : بمعنى : هلك وزال ملكه. ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا وهي من عالم الشهادة، وصنع أيدي البشر، كذلك يختلف النظام للتدبير الذي يصدر عنها فعرش ملكة سبإ العربية العظيم، كان أعظم من عرش سليمان ملك إسرائيل، ولكن تدبيرها وحكمها الشورى ( الديمقراطي ) كان دون حكمه الشرعي الديني، ورب عرش من الذهب، وعرش من الخشب، وأما عرش الرحمان عز وجل فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا، فأجدر بنا ألا نعلم كنه استوائه عليه، وصدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم عنه، وحسبنا أن نفهم الجملة ١٠ ونستفيد العبرة فما أجهل الذين تصدوا لتأويل هذه الحقائق الغيبية بأقيستهم وآرائهم البشرية، وما أحسن ما روى عن أم سلمة رضي الله عنها وربيعة ومالك، من قولهم : الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وأما قوله تعالى :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾. فنفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش، من مادة هذا الخلق قبل تكوين السماوات والأرض أو في أثنائه هو هذا الماء، الذي أخبرنا الله عز وجل أنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياء، إذ قال :﴿ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾. ( الأنبياء : ٣٠ ).
والمعنى : ألم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة، لا فتق ولا انفصال، وهو ما يسمى في عرف علماء الفلك : بالسديم، وبلغة القرآن : بالدخان، ﴿ ففتقاهما ﴾ بفصل بعضها عن بعض، فكان منها ما هو سماء : ومنها ما هو أرض ﴿ وجعلنا من الماء ﴾ في المقابلة لحياة الأحياء ﴿ كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾ بأن الرب الفاعل لهذا، هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شيء، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه ؛ فيفهم من هنا وذك : أن الذي كان تحت العرش فينزل إليه أمر التدبير والتكوين منه ؛ هو الماء الذي هو أصل لجميع الأحياء لا ما تخيله بعض المفسرين الفنيين في الماء والعرش، مما تأباه اللغة والعقل والشرع، والعبادة ليس نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء، كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل، فإن فائدة الإخبار بمثل هذا إن كان واقعا في ذلك العهد، هو دون فائدة ما ذكرنا من معنى العرش الذي بيناه، وهو الذي يزيدنا معرفة بربنا وبحكمه في خلقه، وهو الذي يتفق مع نظريات علم التكوين١١ وعلم الحياة، وعلم الهيئة الفلكية، وما ثبت من التجارب فيها، وهذا يعد من عجائب القرآن التي تظهر في كل زمان ومكان. ١٢
ثم قال السيد رشيد رضا :
فأصل السديم المشار إليه بقوله تعالى :﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ﴾ ( فصلت : ١١ ).
وأصل خلق الأحياء النباتية والحيوانية من الماء لا يزال ثابتا عند جميع العلماء.
﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ٨ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ٩ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ١٠ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ١١ ﴾.
المفردات :
أمة معدودة : أي : إلى جماعة من الأوقات مقدرة، وتطلق الأمة على : الجماعة من جنس واحد، وقد تطلق على الدين والملة. قال تعالى :﴿ إنا وجدنا آباءنا أمة ﴾. ( الزخرف : ٢٢ ) وقد تطلق على الزمن كما في قوله تعالى :﴿ وادّكر بعد أمة ﴾ ( يوسف : ٤٥ )، وهي في الآية التي معنا، بمعنى الحين والزمان والمدة.
ليقولن ما يحبسه : أي : ليقولن ؛ استهزاء : ما يمنعه ؟
ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم : أي : إنه لو وقع بهم فلن يدفع عنهم.
وحاق بهم : وأحاط بهم، وضع الماضي موضع المستقبل ؛ تحقيقا ومبالغة في التهديد، يقال : حاق به حيقا وحيوقا، وأحاق يحيق به.
التفسير :
٨ ﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ... ﴾ الآية.
كانت الرسل تبشر الناس برضوان الله تعالى إن أطاعوه، وتحذرهم من عذاب الاستئصال في الدنيا لكن هذا الإنسان من طبيعته الجحود والكنود !
والمعنى : ولئن أخرنا بفضلنا وكرمنا عن هؤلاء المشركين العذاب إلى حين من الزمان، على وفق سنتنا وحكمتنا. ﴿ لكل أجل كتاب ﴾. ( الرعد : ٣٨ ) ؛ ﴿ ليقولن ﴾ على سبيل التهكم والاستهزاء، واستعجال العذاب :﴿ ما يحسبه ﴾. أي : ما الذي جعل هذا العذاب الذي حذرنا منه محمد صلى الله عليه وسلم محبوسا عنا ؟ وغير نازل بنا ؛ فأجابهم الله سبحانه وتعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله تعالى لنزول ذلك العذاب ؛ لم يصرفه عنهم صارف.
﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴾.
أي : ألا إن ذلك العذاب، يوم ينزل بهم لن يدفعه عنهم دافع ؛ بل سيحيط بهم في كل جانب بسبب استهزائهم وإعراضهم عمن حذرهم، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع ﴾. ( الطور : ٧، ٨ ).
وقد افتتحت جملة :﴿ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ﴾ بأداة الاستفتاح ألا للاهتمام بمضمون الخبر، وللإشارة إلى تحقيقه، وإدخال الروع في قلوبهم.
المفردات :
ولئن أذقنا الإنسان : المراد بالإذاقة هنا : الإعطاء القليل، والمراد بالإنسان هنا : الكافر، أو مطلق الإنسان.
رحمة : غنى وصحة.
نزعناها منه : سلبنا منه.
ليؤوس : شديد اليأس من عودة النعمة، قنوط من رحمة الله.
كفور : شديد الكفر، مبالغ في كفران النعمة.
التفسير :
٩ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴾.
يذكر الحق سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان البشرية، وهي الأنس بالنعمة والسكون إليها، والجزع والضيق إذا سلبت عنه هذه النعمة، وهذه الآية قريبة من قوله تعالى :﴿ والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ﴾. ( العصر : ١ ٣ ).
وقد ذكر العلماء : أن المراد بالإنسان هنا : الإنسان الكافر، وقيل : أي إنسان، فيشمل المسلم والكافر، وقيل : المراد به : إنسان معين هو : الوليد بن المغيرة، وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي.
وجملة :﴿ منا رحمة ﴾. أي : نعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة في المحن، وسعة العيش والرخاء ﴿ ثم نزعنا منه ﴾. أي : سلبناه إياها، وأخذناها قهرا عليه.
﴿ إنه ليئوس ﴾. أي : آيس من الرحمة، شديد القنوط من عودها وأمثالها ؛ لقلة صبره وعدم ثقته بالله.
﴿ كفور ﴾. عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله، كأنه لم ير خيرا.
قال الشوكاني :
وفي التعبير بالذوق في أذقنا ما يدل على أنه يكون منه ذلك، عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه، لأن الإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم.
المفردات :
نعماء : هي النعمة ويراد بها : الخير، والمنفعة، والصحة، والغنى ويقابلها ( الضراء ) وهي الألم من فقر شديد.
السيئات : المصائب.
لفرح : يعتريه البطر والغرور بالنعمة.
فخور : متعاظم على الناس بسبب النعم.
التفسير :
١٠ ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾.
تصف الآية أيضا طبيعة الإنسان البشرية ؛ حيث قال سبحانه في سورة المعارج :﴿ إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا ﴾. ( المعارج : ١٩ ٢١ ).
والنعماء : إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء : ظهور أثر الأضرار على من أصيب به.
والمعنى : أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة والغنى، بعد أن كان في ضر من فقر أو خوف أو مرض، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر ٢٠لله سبحانه.
قال صديق خان في فتح القدير :
﴿ ليقولن ﴾. أي : بل يقول :﴿ ذهب السيئات عنى ﴾. أي : المصائب التي ساءته من الضر والفقر والخوف والمرض عنه، وزال أثرها، غير شاكر الله، ولا مثن عليه بنعمه.
﴿ إنه لفرح فخور ﴾. أي : كثير الفرح بطرا وأشرا، كثير الفخر على الناس بتعدد المناقب والتطاول عليهم ؛ بما يتفضل الله به عليه من النعم. والفرح لذة تحصل في القلب ؛ بنيل المراد والمشتهى. وفي التعبير عن ملابسة الضر له بالمس، مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة، فإن كليهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة. ٢١
لقد جاء الإسلام عقيدة وشريعة، ومن مبادئ الإسلام : الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره حلوه ومره، واليقين الجازم بأن ما نزل بالمؤمن من مصائب أو ألم ؛ هي في ميزان حسناته، تكفر خطاياه وترفع درجاته ؛ فلا ينبغي للإنسان أن ييأس إذا نزل به الفقر أو الضر.
ولا ينبغي له أن يفرح ويتعاظم إذا جاءت له النعمة ؛ بل عليه أن يصبر في البأساء، وأن يشكر الله على النعماء، وأن ينسب النعمة إلى صاحبها. قال تعالى :﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ﴾. ( النحل : ٥٣ ).
المفردات :
صبروا : على الضراء : إيمانا بالله تعالى، واستسلاما لقضائه.
التفسير :
١١ ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
أي : لكن المؤمنين الصابرين على الضراء ؛ إيمانا بالله، واستسلاما لقضائه، ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ في الرخاء والشدة ؛ شكرا لآلائه، سابقها ولاحقها ؛ ﴿ أولئك ﴾. أي : هؤلاء المتصفون بالصبر، وعمل الصالحات، لهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم ؛ جزاء صبرهم الجميل، وعملهم الصالح.
من تفسير القاسمي :
جاء في تفسير القاسمي ج ٩ ص ٩٩ ما يأتي :
تنبيه :
قال القاشاني قدّس سره : ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر والغنى، والشدة والرخاء، والمرض والصحة، واثقا بالله، متوكلا عليه، لا يحتجب عنه بوجود نعمه، ولا بسعيه وتصرفه في الكسب، ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر الأسباب والوسائط ؛ لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب، والكفران والبطر والأشر عند وجودها، فيبعد بها عن الله تعالى، وينساه ؛ فينساه الله ؛ بل يرى الإعطاء والمنع منه دون غيره، فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة، شكره أولا برؤية ذلك منه، وشهود المنعم في صورة النعمة، وذلك بالقلب، ثم بالجوارح ؛ باستعمالها في مراضيه وطاعته، والقيام بحقوقه تعالى فيها، ثم باللسان بالحمد والثناء متيقنا بأنه القادر على سلبها، محافظا عليها بشكرها، مستزيدا إياها، اعتمادا على قوله تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾. ( إبراهيم : ٧ ).
قال أمير المؤمنين عليه السلام : إذا وصلت إليكم أطراف النعم، فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه، فليصبر ولا يتأسف عليها، عالما بأنه هو الذي نزع دون غيره، لمصلحة تعود إليه، فإن الرب تعالى كالولد المشفق في تربيته إياه، بل أرأف وأرحم، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى، إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه وظاهرها، وهو العالم بالغيب والشهادة، فيعلم ما فيه صلاحه عاجلا وآجلا، راضيا بفعله، راجيا إعادة أحسن ما نزع منها إليه، إذ القانط من رحمته ؛ بعيد منه، لا يستوسع رحمته ؛ لضيق وعائه، محجوب عن ربوبيته لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه. ثم إذا أعادها لم يفرح بوجودها، كما لم يحزن بفقدانها، ولا يفخر بها على الناس ؛ فإن ذلك من الجهل، وظهور النفس. وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله، وبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له ومنه ؟ بل لله ومن الله.
وقوله تعالى :﴿ إلا الذين صبروا ﴾. استثناء من الإنسان أي : هذا النوع يئوس كفور، فرح فخور، في الحالين، إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه، في حالة الضراء والنعماء، والشدة والرخاء، كما قال عمر رضي الله عنه : الفقر والغنى مطيتان، لا أبالي أيهما أمتطى. انتهى.
﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وضائق بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ١٢ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٣ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٤ ﴾.
المفردات :
فلعلك : هنا للاستفهام الإنكاري الذي يراد به النفي أو النهي أي : لا تترك.
تارك بعض ما يوحى إليك : فلا تبلغهم إياه، وهو ما يخالف رأي المشركين ؛ مخافة ردهم واستهزائهم.
وضائق به صدرك : وعارض لك ضيق الصدر.
أن يقولوا : كراهة أن يقولوا.
لولا أنزل عليه كنز : أي : هلا صحبه كنز ينفقه ؛ لكسب الأتباع كالملوك، والكنز : المال الحاصل بغير كسب.
أو جاء معه ملك : يصدقه كما اقترحنا.
إنما أنت نذير : ليس عليك إلا الإنذار والتخويف من العاقبة لا الإتيان بما اقترحوه.
تمهيد :
كان كفار مكة يقترحون على النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحات متعددة، مثل : تفجير الأرض بالمياه، أو زحزحه الجبال بعيدا عن مكة ؛ ليكون هواؤها عليلا بليلا، أو أن ينزل عليه ملك من السماء، يصحبه ويدعو الناس إلى الإيمان به وتصديقه، أو أن ينزل عليه كنز من السماء ينفق منه على أتباعه ؛ وقد حكى عنهم القرآن ذلك فقال :﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرً* أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾. ( الفرقان : ٧، ٨ ).
جاء في تفسير الفخر الرازي : عن ابن عباس : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ؛ فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
التفسير :
١٢ ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وضائق بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ... ﴾ الآية.
أي : لعلك أيها الرسول تارك بعض ما يوحى إليك أحيانا أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم ؛ مخافة ردهم له وتهاونهم به، كسب آلهتهم، وأمرهم بالإيمان بالله وحده.
أي : لا يمكن منك ذلك، بل تبلغهم جميع ما أنزل إليك، أحبوا ذلك أم كرهوا، ولا يضق صدرك بأقوالهم الذميمة، بل واصل دعوتك، وبلغ رسالة الحق، وفي هذا المعنى قال تعالى :﴿ ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ﴾. ( الحجر : ٩٧ ).
﴿ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنز ﴾.
أي : لا تتضايق لأجل أن يقولوا : هلا أنزل عليه كنز من عند ربه يغنيه عن التجارة والكسب، ويدل على صدقه.
﴿ أو جاء معه ملك ﴾. أي : ينزل عليه ملك من السماء يؤيد دعوته.
وهذا التحذير من الله ؛ لا يستلزم وقوع مثله من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ثبت : أن الله عصم رسوله صلى الله عليه وسلم من الخيانة، أو الامتناع عن تبليغ وحي السماء.
جاء في تفسير أبي السعود :
فكأنه صلى الله عليه وسلم لما عاين اجتراءهم على اقتراح مثل هذه العظائم، غير قانعين بالبينات الباهرة، مثل حاله بحال من يتوقع منه أن يضيق صدره ؛ بتلاوة تلك الآيات الساطعة عليهم، وتبليغها إليهم، فحمل على الحذر بما في لعل من الإشفاق ا ه.
﴿ إنما أنت نذير ﴾.
أي : ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، غير مبال بما يقولون، ولا بما يقترحون ؛ ولك أسوة في الرسل من قبلك ؛ حيث كذبوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عز وجل.
﴿ والله على كل شيء وكيل ﴾. أي : والله هو الرقيب على عباده الحفيظ للأمور، وهو سبحانه سيجازيهم الجزاء الأوفى.
تمهيد :
كان كفار مكة يقترحون على النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحات متعددة، مثل : تفجير الأرض بالمياه، أو زحزحه الجبال بعيدا عن مكة ؛ ليكون هواؤها عليلا بليلا، أو أن ينزل عليه ملك من السماء، يصحبه ويدعو الناس إلى الإيمان به وتصديقه، أو أن ينزل عليه كنز من السماء ينفق منه على أتباعه ؛ وقد حكى عنهم القرآن ذلك فقال :﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرً* أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾. ( الفرقان : ٧، ٨ ).
جاء في تفسير الفخر الرازي : عن ابن عباس : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ؛ فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
المفردات :
افتراه : اختلقه من عند نفسه.
مفتريات : مختلقات من عند أنفسكم.
وادعوا من استطعتم : أي : نادوهم ليعاونوكم.
التفسير :
١٣ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
أي : بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة : إن محمدا قد افترى هذا القرآن، واخترعه من عند نفسه.
﴿ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ﴾.
أي : رد عليهم أيها الرسول بما يخرس ألسنتهم، وقل لهم على سبيل التحدي : إن كان هذا الأمر كما تزعمون : من أنّى افتريت هذا القرآن، فأنا واحد منكم، وبشر مثلكم، وأنتم أهل اللسن والبيان ؛ والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة، وفنون الشعر والخطابة، فهاتوا عشر سور مختلفات من عند أنفسكم ؛ تشبه ما جئت به، وتشتمل على مثل ما فيه من تشريع ديني ومدني وسياسي، وحكم ومواعظ، وآداب، وأنباء غيبية محكية عن الماضي، وأنباء غيبية على أنها ستأتي، بمثل هذا النظم البديع، والأساليب الراقية، والبلاغة الحاكمة على العقول والألباب، والفصاحة المستعذبة في الأذواق والأسماع، والسلطان المستعلي على الأنفس والأرواح. ٢٢
﴿ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
أي : استعينوا في بلوغ هذا الأمر بكل من تتوسمون فيه المعاونة غير الله تعالى لأنه هو سبحانه القادر على أن يأتي بمثله.
﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
أي : إن كنتم صادقين في زعمكم : أني افتريت هذا القرآن ؛ فهاتوا أنتم عشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم، وجواب الشرط هنا محذوف دل عليه ما تقدم من الآية.
التحدي في القرآن الكريم
جاء الإسلام رسالة للعرب خاصة، وللناس عامة ؛ بيد أن كفار مكة رفضوا دعوة الإسلام، وكذبوا رسول الله محمدا عليه الصلاة والسلام، ووقفوا في وجه الدعوة وحاربوها سنوات طوال، تعرضوا فيها للقتل والهزيمة والعار، وفي كل هذه السنوات يتحداهم القرآن، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة، وفي كل مرة يلزمهم العجز مع شدة الحاجة إلى الإتيان بمثل هذا القرآن، حتى يفحموا محمدا ويستريحوا منه، وهم أهل اللسن والفصاحة والبيان، وأهل الشعر والخطب والكلام البليغ، وقد تحداهم القرآن هنا أن يأتوا بعشر سور يختلقونها من عند أنفسهم، مستعينين بكل أعوانهم ؛ ليبرهنوا على أن القرآن من اختراع محمد، ولكن العجز لزمهم، وهم أهل البيان والفصاحة، فصار غيرهم أعجز ؛ قال تعالى :﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾. ( الإسراء : ٨٨ ).
وقال سبحانه :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾. ( الطور : ٣٤ ).
وهنا الآية ٣٤ من سورة هود تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وتارة تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة من مثله كما في سورة البقرة وسورة يونس حيث قال تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾. ( البقرة : ٢٣ ٢٤ ).
وقال تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾. ( يونس : ٣٨ ).
وجمهور المفسرين : على أن التحدي تدرج من جميع القرآن إلى عشر سور إلى سورة واحدة.
ولكن السيد رشيد رضا في تفسير المنار ساق موضوعا طويلا عن التحدي بالقرآن، وخرج من دراسته إلى رفض ما ذكره الجمهور، وذكر : أن القرآن الكريم كان يواجه المشركين في مواقف متعددة، وحالات مختلفة، فكان يطلب في كل حالة ما يناسب هذا الموقف.
جاء في تفسير المنار ما يأتي :
وإنني أجزم بعد التأمل في جميع آيات التحدي وتاريخ نزول سورها أنها لم يكن مراعى بها الترتيب التاريخي في مخاطبة المشركين كما زعم جمهور المفسرين، بل ذكر كل منها بمناسبة سياق سورته فسورة الطور التي فيها :﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾. ( الطور : ٢٣ ٢٤ ).
وهو تحد بجملته، قد نزلت بعد سورة يونس التي تحداهم فيها أن يأتوا بسورة واحدة، وسورة هود التي تحداهم أن يأتوا بعشر سور، وسورة الإسراء نزلت قبلهن وفيها ذكر عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله، وذلك في الآية ٨٨ من سورة الإسراء، وكان آخر ما نزل في التحدي الآية ٢٣ من سورة البقرة ؛ إذ كان نزولها في السنة الثانية للهجرة. ٢٣
من تفسير التحرير والتنوير :
﴿ ومن دون الله ﴾. وصف ل ﴿ من استطعتم ﴾، ونكتة ذكر هذا الوصف ؛ التذكير بأنهم أنكروا أن يكون من عند الله، فلما عمّم الاستعانة بما استطاعوا ؛ أكد أنهم ﴿ من دون الله ﴾. فإن عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله ؛ مع تمكنهم من الاستعانة بكل من عدا الله، تبين أن هذا القرآن من عند الله. ٢٤
ملحق بالآية
أورد تفسير المنار بيانا وافيا بما اشتمل عليه القرآن الكريم، وقد اقتبس منه تفسير المراغي للأستاذ : أحمد مصطفى المراغي ما يأتي ج ١٢ من ١٤، ١٥ :
ما حوته قصص القرآن
إن في قصص القرآن لأشعة من ضياء العلم والهدى، جاءت على لسان كهل أمي لم يكن منشئا ولا راوية ولا حافظا.
ويمكن أن نجمل أغراضها فيما يلي :
١ بيان أصول الدين المشتركة بين جميع الأنبياء من الإيمان بالله وتوحيده وعلمه وحكمته وعدله ورحمته والإيمان بالبعث والجزاء.
٢ بيان أن وظيفة الرسل تبليغ وحي الله لعباده فحسب، ولا يملكون وراء ذلك نفعا ولا ضرا.
٣ بيان سنن الله في استعداد الإنسان النفسي والعقلي لكل من الإيمان والكفر والخير والشر.
٤ بيان سنن الله في الاجتماع وطباع البشر، وما في خلقه للعالم من الحكمة.
٥ آيات الله وحججه على خلقه في تأييد رسله.
٦ نصائح الأنبياء ومواعظهم الخاصة بكل قوم بحسب حالهم، كقوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون وملئه في ثروتهم وعتوهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم لوط في فحشهم.
فإن أمكن أن يكون كل هذا حديثا مفترى، فإن مفتريه يكون أكمل منهم جميعا، علما وعملا وهداية وإصلاحا، فما أجدرهم أن يتبعوه، وما أحقهم أن يهتدوا بهديه، ولن يكشف حقيقة أمره إلا من يستطيع أن يأتي بحديث مثله، ولو مفترى في صورته وموضوعه، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين، ومن المعلوم أن الإحتداء والإتباع، أهون من الابتداء والابتداع.
ولكن افتراء الأمي لهذه العلوم الإلهية والنفسية والتشريعية محال، فقد عجز عن مثلها حكماء العلماء، أفهكذا يكون الافتراء، والحديث المفترى الذي ينهى عنه العقلاء. وفي التحدي بهذه السور العشر ؛ توسيع على المنكرين إن حدثتهم أنفسهم أن يتصدوا لمعارضته، لكنهم لم يستطيعوا فقامت عليهم وعلى غيرهم الحجة إلى يوم القيامة. ٢٥
تمهيد :
كان كفار مكة يقترحون على النبي صلى الله عليه وسلم اقتراحات متعددة، مثل : تفجير الأرض بالمياه، أو زحزحه الجبال بعيدا عن مكة ؛ ليكون هواؤها عليلا بليلا، أو أن ينزل عليه ملك من السماء، يصحبه ويدعو الناس إلى الإيمان به وتصديقه، أو أن ينزل عليه كنز من السماء ينفق منه على أتباعه ؛ وقد حكى عنهم القرآن ذلك فقال :﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرً* أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾. ( الفرقان : ٧، ٨ ).
جاء في تفسير الفخر الرازي : عن ابن عباس : أن رؤساء مكة قالوا : يا محمد، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ؛ فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
١٤ ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾.
لهذه الآية وجهان :
الوجه الأول :
ذهب إليه ابن جرير الطبري وكثير من المفسرين وأساسه : أن الخطاب فيها موجه إلى المشركين. والمعنى : إذا عجزتم عن الإتيان بعشر سور مثله مفتريات، وعجز من استعنتم بهم عن إجابتكم وتقديم هذه السور لكم ؛ فينبغي أن تعلموا علم اليقين أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله وحده، وبقدرته وحدها، ولا يقدر على إنزاله بتلك الصورة أحد سواه.
واعلموا أيضا أنه سبحانه هو الإله الحق وحده، لا شريك له، فليس معه إله آخر، فهل أنتم بعد كل هذه الأدلة داخلون في الإسلام، ومتبعون لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
والمراد بالعلم : الاعتقاد الجازم البالغ نهاية اليقين، بصحة الإسلام، وصدق القرآن، وأن أحدا لا يقدر على الإتيان بمثله إلا الله.
الوجه الثاني :
أن الخطاب فيها موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، والجمع فيها للتعظيم، أو أن الخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه، وقيل : الخطاب فيها للمؤمنين وحدهم.
قال مجاهد : الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية.
والمعنى : إن لم يستحب لك هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوة الحق بعد عجزهم عن الإتيان بعشر سور مثل القرآن فازدادوا علما ويقينا بصدق القرآن، وأنه من عند الله سبحانه، وازدادوا علما ويقينا بأنه لا إله إلا هو سبحانه المستحق للعبادة وحده.
﴿ فهل أنتم مسلمون ﴾، ثابتون على الإسلام، مؤمنون به، ملتزمون بكل أوامره ونواهيه٢٦ ؟.
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ١٥ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ١٦ ﴾.
المفردات :
نوف إليهم : نوصل إليهم، ونؤتهم ثمار أعمالهم وافية تامة ؛ جزاء ما عملوا من خير كصدقة وصلة رحم.
لا يبخسون : أي : لا ينقصون من حقهم، يقال : بخسه حقه، يبخسه بخسا، أي : نقصه حقه.
تمهيد :
بعد أن أقام الحجة على حقيقة دعوة الإسلام، وعلى أن القرآن من عند الله، وليس بالمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعيه المشركون، أعقب ذلك ببيان : أن الباعث على المعارضة والتكذيب، هو الهوى، والشهوة، ومحض الحسد، وحظوظ الدنيا.
التفسير :
١٥ ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾.
من أراد بأعماله الوجاهة والشرف، والرفعة بين الناس بدون إخلاص لله أو رغبة في ثواب الآخرة فإن الله تعالى يوصل إليه عمله في الدنيا بحسب سننه الكونية ؛ فيلقى النجاح، أو الصحة، أو الغنى، أو سعة الرزق، أو كثرة الأولاد، بحيث يلقى المكافأة على أعماله في الدنيا وحدها، بدون نقص أي شيء من جزاء عمله.
تمهيد :
بعد أن أقام الحجة على حقيقة دعوة الإسلام، وعلى أن القرآن من عند الله، وليس بالمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما يدعيه المشركون، أعقب ذلك ببيان : أن الباعث على المعارضة والتكذيب، هو الهوى، والشهوة، ومحض الحسد، وحظوظ الدنيا.
المفردات :
وحبط : أي : فسد وبطل ولم ينتفعوا به.
التفسير :
١٦ ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
جاء في تفسير أبي السعود :
" أي : أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها، الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس ".
﴿ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ ﴾ ؛ لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا، وأعمالهم مقصورة على تحصيلها، وقد اجتنبوا ثمراتها، ولم يكونوا يريدون بها شيئا آخر ؛ فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد٢٧.
﴿ وحبط ما صنعوا فيها ﴾ وفسد ما صنعوه في الدنيا من أعمال الخير ؛ لأنهم لم يقصدوا بها وجه الله تعالى، وإنما الرياء ورضى الناس.
﴿ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾. وبطل ثواب عملهم في الآخرة ؛ لأنهم لم يريدوا وجه الله تعالى، والعمدة في الثواب الأخروي هو الإخلاص لله عز وجل ونظير الآيتين في المعنى قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾. ( الشورى : ٢٠ )
وقوله عز شأنه :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ ( الإسراء : ١٨ ١٩ ).
وقريب من هذا المعنى قوله سبحانه :﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾. ( البقرة : ٢٠٠ ٢٠٢ )..
وقد ذهب بعض المفسرين : إلى أن المراد بالآيتين : الكفار والمنافقين ومن على شاكلتهم.
وذهب كثير من المفسرين : إلى أن هاتين الآيتين وأمثالهما، معانيها مطلقه تشمل الكافر والمؤمن ؛ وقد وردت أحاديث صحيحة تحذر من الرياء والنفاق، وتدعو إلى إخلاص العمل لوجه الله تعالى، فمن قصد بعمله وجه الله تعالى ؛ لقي الجزاء في الدنيا والآخرة، ومن قصد بعمله الرياء ؛ لقي الجزاء في الدنيا وحدها، ولم يجد جزاء في الآخرة.
من هدى السنة
روى البخاري ومسلم : عن عمر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ). ٢٨
وفي الحديث الشريف :( إن أول من يلقى في النار يوم القيامة عالم، ومتصدق، وشهيد، يقول العالم : يا رب، علّمت الناس آناء الليل وأطراف النهار ؛ فيقال له : إنما علمت ؛ ليقال عالم، أما وقد قيل ذلك، اذهبوا به إلى النار، ويقول المتصدق : يا رب، تصدقت بالمال آناء الليل وأطراف النهار ؛ فيقول له الله تعالى : أما إنك تصدقت ؛ ليقال كريم أما وقد قيل ذلك، اذهبوا به إلى النار، ويقول الشهيد : يا رب، قاتلت في سبيلك حتى قتلت ؛ فيقول له الله تعالى : أما إنك قاتلت ليقال شجاع، أما وقد قيل ذلك، اذهبوا به إلى النار. ثم يقول الله تعالى : أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملا يقصد به غيري ؛ فليلق جزاءه من ذلك الغير ).
وهذه الآيات والأحاديث تحث على إخلاص العمل خصوصا العبادات والقربات، والبعد عن الرياء ؛ فالمذموم هو التظاهر بالعمل للآخر، بينما هو في نيته العمل للدنيا وحدها.
( والإسلام يدعو إلى إيثار العمل للآخرة على عمل الدنيا في النية والقصد، فإن قصد الدنيا والآخرة معا، كان ذلك مقبولا شرعا ). ٢٩
وليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها ؛ فإن كان مسلما مخلصا ؛ وفّى ثوابها في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفّى ثوابها في الدنيا ). ٣٠
﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٧ ﴾.
المفردات :
بينة : حجة وبيان وبرهان.
ويتلوه : ويتبع ذلك بالبرهان.
شاهد منه : أي : شاهد من الله وهو القرآن.
ومن قبله : أي : ومن قبل القرآن.
كتاب موسى : التوراة شاهد له أيضا.
إماما : كتابا مؤتما به في الدين.
أولئك : أي : من كان على بينة من ربه.
يؤمنون به : أي : بالقرآن.
من الأحزاب : من أهل مكة ومن تحزب معهم.
فلا تك في مرية منه : أي : في شك من القرآن.
ولكن أكثر الناس : أهل مكة وأمثالهم.
لا يؤمنون : لقلة نظرهم، واختلال فكرهم.
التفسير :
١٧ ﴿ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآية ؛ لتقارن بين موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، في يقينهم وإيمانهم بالله وبالدار الآخرة، وبين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها.
والمعنى : أفمن كان على حجة من عند ربه ؟ تهديه إلى الحق والصواب في كل أقواله وأفعاله، وهو هذا الرسول الكريم وأتباعه، ويؤيده في دعوته شاهد من ربه ؛ هو هذا القرآن المعجز لسائر البشر أفمن كان هذا شأنه، كمن ليس كذلك ؟ ! أو أفمن كان هذا شأنه، كمن استحوذ عليه الشيطان فجعله لا يريد إلا الحياة الدنيا وزينتها ؟ ! كلا إنهما لا يستويان.
﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً ﴾.
وكذلك يؤيده كتاب موسى عليه السلام وهو التوراة الذي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم، أي : كتابا مؤتما به في الدين وقدوة يقتدون به، ورحمة لبني إسرائيل من العذاب إذا آمنوا به واتبعوا تعاليمه.
﴿ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾.
أي : أولئك الموصفون بأنهم على بينة من ربهم ؛ يؤمنون بأن الإسلام هو الدين الحق، وبأن رسوله صلى الله عليه وسلم رسول صدق، وبأن القرآن من عند الله تعالى وحده.
﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾.
ومن يكفر بالقرآن، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هدايات، من أهل مكة، ومن تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والوثنيين ؛ فإن نار جهنم هي المكان الذي ينتظره، وينتظر كل متحزب ضد دعوة الإسلام.
﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾.
أي : فلا تكن أيها المكلف السامع في شك من أمر هذا القرآن ؛ فإنه حق من الله لا ريب ولا شك فيه والخطاب بقوله :﴿ فلا تك ﴾. للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد : جميع المكلفين.
وفي بداية سورة السجدة يقول الله تعالى :﴿ الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. ( السجدة : ١، ٢ ).
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
ولكن أكثر أهل مكة وغيرهم لا يؤمنون بهذا الكتاب ؛ لأن المشركين مقلدون مستكبرون، وأهل الكتاب حرفوا دين أنبيائهم.
قال تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾. ( يوسف : ١٠٣ ).
والآية كما ترى ميزت بين من كان على الحق راغبا في الآخرة، ومن كان على الباطل راغبا في الدنيا، وساقت حشودا من الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وصحة ما عليه أتباعه، وأمرتهم بالثبات على الحق، وبينت أن القرآن حق ثابت من عند الله ؛ فلا يشكن أحد بذلك، وليبادر إلى الإيمان بما جاء به.
في أعقاب الآية
تعددت أقوال المفسرين في المراد بهذه الآية، وقد أخذت أقوى الآراء وهي : أن المراد بقوله تعالى :﴿ أفمن كان على بينة من ربه ﴾. هم المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل : المراد بالبينة : دليل العقل، وبالشاهد : القرآن.
وقيل : البينة : القرآن، والشاهد : جبريل والأول هو الأولى. ٣١
من هدى السنة
في صحيح مسلم : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة٣٢ يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بي ؛ إلا دخل النار ". ٣٣
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ١٨ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ و َيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ١٩ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ٢٠ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ٢١ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ٢٢ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٣ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ٢٤ ﴾.
المفردات :
ومن أظلم : لا أحد.
افترى على الله كذبا : بنسبة الشريك والولد إليه، أو زعم الأصنام تشفع لعابديها عند الله، أو زعم بأن الملائكة بنات الله، أو أنكر نبوة محمد، أو زعم أن القرآن ليس من عند الله.
يعرضون على ربهم : المراد : يحاسبهم ربهم.
الأشهاد : جمع شاهد وهو الملائكة أو الرسل يشهدون على قومهم.
لعنة الله : اللعنة واللعن : الطرد من رحمة الله.
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
التفسير :
١٨ ﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم... ﴾ الآية.
أي : لا أحد أشد ظلما ممن تعمد الكذب على الله تعالى، بأن زعم : أن الأصنام تشفع لعابديها عنده، أو زعم : بأن الملائكة بنات الله، أو أن هذا القرآن ليس من عنده سبحانه.
﴿ أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾. أي : عرضا خاصا، فالعرض على الله شامل للناس جميعا، لكن أولئك الموصفون بافتراء الكذب، يعرضون كما يعرض المجرم للقصاص منه، ولفضيحته أمام الناس.
﴿ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ﴾.
أي : تقول الرسل، أو الملائكة، أو العلماء : هؤلاء المجرمون هم الذين كذبوا على ربهم، ونسبوا إليه ما هو منزه عنه.
﴿ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾. هذا تعقيب من الرسل، أو الملائكة، أو أهل المشهد من الخلائق التي شهدت هذا العرض.
وفي مثل هذه الآية يقول الله تعالى :
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾. ( غافر : ٥١ ٥٢ ).
جاء في تفسير ابن كثير :
روى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة :( إن الله عز وجل يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ ! أتعرف ذنب كذا ؟ ! أتعرف ذنب كذا ؟ ! حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك ؛ قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد :﴿ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾. ٣٤
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
المفردات :
يصدون : يمنعون ويصرفون الناس عن الإسلام.
ويبغونها : أي : ويطلبونها، يقال : بغى الشيء يبغيه بغية طلبه.
عوجا : العوج : الالتواء.
هم : تأكيد الأولى.
التفسير :
١٩ ﴿ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا... ﴾ الآية.
أي : ألا لعنة الله وخزيه على الظالمين، الذين من صفاتهم أنهم لا يكتفون بانصرافهم عن الحق، بل يحاولون صرف غيرهم عن ملة الإسلام، ويطلبون لملة الإسلام العوج، ويصفونها بذلك ؛ تنفيرا للناس منها، وهم يريدون أن يكون طريق الناس عوجا غير معتدلة.
﴿ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾. و الحال أنهم كافرون بالآخرة، وما فيها من حساب وثواب وعقاب، وأعاد لفظ هم ؛ تأكيدا لكفرهم، وللإشارة إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا لم يبلغه أحد سواهم.
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
المفردات :
معجزين : أي : ما كانوا معجزين لله في الدنيا أن يعاقبهم، ولا يمكنهم أن يهربوا من عذاب الله تعالى.
من دون الله : أي : غيره.
أولياء : أنصارا ومعينين يمنعونهم من العذاب.
يضاعف لهم : بإضلالهم غيرهم.
ما كانوا يستطيعون السمع : للحق.
وما كانوا يبصرون : أي : يبصرونه ؛ لفرط كراهيتهم له، كأنهم لم يستطيعوا ذلك.
٢٠ ﴿ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ... ﴾ الآية.
أي : أولئك الذين افتروا على الله الكذب، وحاولوا صرف الناس عن الإسلام، وكفروا بالآخرة، لم يكن سبحانه وتعالى عاجزا عن إنزال العذاب بهم في الدنيا، بل هم تحت قهره وسلطانه، وهو قادر على الانتقام منهم في الدنيا قبل الآخرة، وليس لهم من أنصار ينصرونهم من دون الله تعالى ويحجبون عنهم العذاب فهم غير قادرين على الفرار من عذابه بأنفسهم، وليس لهم أنصار قادرين على تخليصهم، لكن حكمة الله سبقت في إمهال الظالمين إلى يوم القيامة.
﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾. سيلقون العذاب مضاعفا في الآخرة ؛ لأنهم صموا أسماعهم عن الاهتداء إلى الحق، وأغمضوا عيونهم عن النظر في أدلة الإيمان.
لقد كانت لهم أسماع وأبصار حسية، لكنهم لم يستخدموها استخدام الباحث عن الحقيقة ؛ فعطلوا منافذ الإيمان في أجسامهم، وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير ﴾. ( الملك : ١٠ ).
وفي معنى الآية يقول الله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ﴾. ( إبراهيم : ٤٢ ).
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ).
و علة مضاعفة العذاب، هي إهمال الاستماع إلى الحق، وإهمال النظر في أدلة الإيمان، الدالة على صدق الوحي كما قال الله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾. ( فصلت : ٢٦ ).
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
المفردات :
خسروا : ضيعوا، يقال : خسر يخسر خسرا وخسارا وخسارة، ضد ربح.
وضل عنهم : وتاه عنهم.
التفسير :
٢١ ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾.
أي : أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان، هم الذين خسروا أنفسهم حيث أوردوها المهالك ؛ بسبب تعمدهم الكذب على الله ؛ لقد كانوا أكثر الناس خسارة ؛ حيث باعوا أنفسهم للشيطان، واشتروا الضلالة بالهدى، وذلك هو الخسران المبين.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾. غاب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من اعتقادات باطلة، ولم تنفعهم عقائدهم الزائفة في الأصنام والأنداد ؛ فلم تجد عنهم شيئا ؛ بل ضرتهم كل الضرر.
قال تعالى :﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾. ( مريم : ٨١ ٨٢ ).
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
المفردات :
لا جرم : أي : حقا، وهي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لابد، ولا محالة، فتحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى حقا.
التفسير :
٢٢ ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ﴾.
حقا إنهم في الآخرة أخسر الناس صفقة، ولا شك أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وآثروا الدنيا على الآخرة، واستبدلوا بنعيم الجنان ودرجاتها، عذاب جهنم ودرجاتها، واعتادوا عن نعيم الجنان، بعذاب النيران، وعن رضوان الله، بغضبه وعقابه.
قال تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾. ( البقرة : ١٦ ).
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
المفردات :
وأخبتوا : أي : اطمأنوا إليه وخشعوا إليه ؛ مأخوذ من الخبث وهو الأرض المطمئنة.
التفسير :
٢٣ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
الإخبات : الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب.
تأتي هذه الآية في مقابل الظالمين لأنفسهم، فقد اشتروا الضلالة بالهدى فكانوا في الآخرة هم الأخسرون، أما المؤمنون الذين آمنوا إيمانا حقا، وعملوا الأعمال الصالحة، واطمأنوا إلى قضاء الله وقدره، وخشعوا لأمر الله بقلوبهم ونفوسهم ؛ فثابروا على الطاعات وتركوا المنكرات ؛ فلهم جنات النعيم، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم خالدون فيها، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون، ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ﴾. ( البينة : ٨ ).
تمهيد :
بعد أن تحدث القرآن عن فريقي الناس وهما : الذي يريد الدنيا وزينتها، والذي يريد الآخرة، أبان حال كل من الفريقين في الدنيا والآخرة.
ثم رد القرآن على من كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقدحون في معجزاته ؛ بقوله :﴿ أفمن كان على بينة من ربه... ﴾ ثم رد القرآن على المشركين الذين يزعمون : أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، بقوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا... ﴾ الآيات.
المفردات :
مثل الفريقين : أي : المؤمن والكافر.
كالأعمى والأصم : فالكافر أعمى عن رؤية الحق، أصم، أطرش لا يسمع الحق.
والبصير والسميع : هذا مثل المؤمن.
هل يستويان مثلا : هل يستويان تمثيلا وحالا.
أفلا تذكرون : أي : أفلا تتذكرون، حذف إحدى التاءين ؛ تخفيفا.
التفسير :
٢٤ ﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾.
أي : صفة الفريقين المذكورين اللذين وصفا سابقا، وهم الكفار بالشقاء، والمؤمنون بالسعادة، كمثل الأعمى الأصم، والسميع البصير، الكافر : مثل الأعمى ؛ لتعاميه عن وجه الحق في الدنيا والآخرة ؛ ومثل الأصم ؛ لعدم سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به ؛ لقد أغلق مفاتيح قلبه، وتركه مظلما لا يسمع الهدى، ولا يبصر نور الحق حتى فاجأه الموت فرأى الخسران المبين، ورأى جهنم تتلظى ؛ غيظا على من عصى الله تعالى.
أما المؤمن فهو الذي يبصر آيات الله في هذا الكون، ويتأمل دلائل قدرة الله، ويسمع صوت الحي، والقرآن في تدبر وتأمل ؛ فيخشع قلبه ويزداد حيا لخالقه ورضي عنه ؛ فإذا جاء في الآخرة وجد رضوان الله ونعيم الجنة، فلا يستوي هذا وذاك صفة وحالا ومالا.
﴿ أفلا تذكرون ﴾. وتعتبرون ؛ فيسارع الكافر إلى الإيمان قبل فوات الأوان.
من آيات القرآن
قال تعالى :﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾. ( الحشر : ٢٠ ).
وقال سبحانه :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ﴾. ( فاطر : ١٩ ٢٢ ).
وفي ختام هذا الحديث المتنوع عن أدلة الوحدانية، وعن إعجاز القرآن الكريم، وعن حسن عاقبة المؤمنين وعن سوء عاقبة المكذبين ؛ ساق القرآن قصصا عن أنبياء الله ورسله، استغرق معظم السورة، وفي هذا القصص نماذج عملية على جهاد المرسلين، وحسن عاقبة المؤمنين، وهلاك الظالمين ؛ ففيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيت للمؤمنين، نجد ذلك في قصة نوح، ثم قصة هود، وقصة صالح، وقصة إبراهيم، وقصة لوط، وقصة شعيب، وقصة موسى عليهم السلام.
قصة نوح عليه السلام
وردت قصة نوح في سور متعددة، منها : سورة الأعراف، وسورة المؤمنون، وسورة نوح، إلا أنها وردت هنا في سورة هود بصورة أكثر تفصيلا.
وسورة هود نزلت بعد سورة يونس، وسورة يونس نزلت بعد سورة الإسراء، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة وشهرين، وذلك يوضح الفترة التي نزلت فيها سورة هود، إنها الفترة التي مات فيها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وماتت فيها زوجته خديجة، وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم عام وفاتها : عام الحزن ؛ ذلك أن قريشا لم تستطع أن تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بعد أن مات عمه أبو طالب، وكان أبو طالب هو الوحيد في قومه الذي يحميه ويدافع عنه.
كانت سورة هود، رسالة تشد أزر الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ ففي مقدمتها عرض يسير للدعوة الإسلامية ؛ وأصناف الناس أمامها، وتثبيت لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قصص الأنبياء حسب التسلسل التاريخي، نوح ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، كما تحدثت عن جانب من قصة موسى عليه السلام.
وجميع هؤلاء الرسل كان لهم جهاد وجلاد ومناقشة مع أقوالهم ؛ وتحمل لألوان من العذاب والاضطهاد وفي الخاتمة ينصر الله المؤمنين ويهلك الكافرين.
نوح عليه السلام
أرسل الله نوحا إلى قومه فوجد أنهم يعبدون الأصنام، وكانت في الأصل صورا لقوم صالحين وتماثيل لهم ؛ أراد القوم أن يتذكروهم ويقتدوا بهم، فلما طال العهد عبدوهم، وتقربوا إليهم، وهم : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وفي قصة نوح بلاء نوح مع ابنه، ودعوته له إلى الإيمان، وإعراض الابن عن دعوة نوح، ومجيء الطوفان، وغرق الابن، ودعاء نوح لربه حتى ينجيه، ثم توضيح الله سبحانه بأن هذا الابن لا يستحق نجاة ؛ لأنه عمل عملا غير صالح، ويعود نوح إلى يقينه وطمأنينته، ويستعيذ بالله مما سبق، ويطلب من الله المغفرة والرحمة، ويستجيب الله دعائه، و يهيئ له سبل النجاة وسلامة الإقامة.
وفي هذا القصص وأمثاله عبرة وعظة، وتصديق لما ورد منه في التوراة والإنجيل، وتفصيل لتاريخ الرسل وكفاحهم، وتسجيل لجهادهم، وتسرية لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيت للمؤمنين، وتبصير للكافرين.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٢٥ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ٢٦ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ٢٧ ﴾.
المفردات :
نذير مبين : بين الإنذار، أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص، وجمع نذير : نذر.
التفسير :
٢٥ ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾.
تبدأ هذه القصة بواو القسم ؛ ذلك أن أهل مكة أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فأورد القرآن هذه القصة وأمثالها ؛ لتأكيد مبدإ الرسالة، وبيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل.
قال صاحب المنار :
" وعندي أن هذه القصة معطوفة على ما في أول هذه السورة ؛ من ذكر بعثة محمد رسول الله، وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ؛ بمثل ما بعث به من قبله من الدعوة إلى عبادة الله وحده ". ا ه. ٣٥
والمعنى : والله لقد أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه، فقال لهم :﴿ إني لكم نذير مبين ﴾. أنذركم عذاب الله، وأدعوكم إلى عبادته وتوحيده.
٢٦ ﴿ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾.
إني أحذركم من عبادة الأوثان، وأدعوكم إلى عبادة الله وحده ؛ فهو سبحانه المستحق للعبادة ؛ لأنه الإله الحق، ولا إله سواه، فلا تعبدوا أحدا غيره ؛ لأن هذه العبادة لغير الله، ستؤدي بكم إلى الوقوع في عذاب يوم أليم عليكم، وما حملني على هذا التحذير الواضح إلا خوفي عليكم، وشفقتي بكم، فأنا منكم وأنتم مني ؛ بمقتضى القرابة والنسب.
المفردات :
الملأ : الأشراف والزعماء ؛ يملؤون العيون مهابة.
إلا بشرا مثلنا : لا فضل لك علينا، ولا مزية لك علينا تخصك بالنبوة ووجوب الطاعة.
أراذلنا : أخساؤنا جمع أرذل، وهو بمعنى : الرذل والرذيل. أي : الرديء الدون، يقال : رذل يرذل ورذل رذالة، كان رذيلا.
بادي الرأي : أي : ابتداء من غير تفكير، من البدو وهو أول الرأي.
وما نرى لكم علينا من فضل : أي : زيادة تؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة.
التفسير :
٢٧ ﴿ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا… ﴾ الآية.
الملأ : أشراف الناس وأغنياؤهم، وهم عادة من طبقة متميزة ناعمة، قد اطمأنت إلى وضعها، ورضيت بما هي فيه من غنى ووجاهة ومنزلة، وكرهت أصحاب الدعوات والرسالات، فالرسل دعاة حق وإخلاص، تتضمن دعوتهم توحيد الله، وكرامة الإنسان، فالناس جميعا سواسية أفضلهم عند الله أتقاهم، فهم هنا يقولون لنوح : إنك بشر مثلنا، لست ملاكا، فكيف تتفضل علينا بالرسالة ؟ !
﴿ وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾.
نظر الأغنياء والأشراف إلى أتباع نوح ؛ فوجدوا أنهم من الفقراء والزراع والصناع والعمال ؛ فعيروا نوحا ؛ بأن أتباعه من الأراذل والضعفاء والفقراء، وليسوا من الأشراف والكبراء، وهؤلاء تقتحمهم العين وتزدريهم لأول وهلة.
﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾.
الفضل : الزيادة في الشرف والغنى، وغيرهما مما يتميز به الإنسان عن غيره، أي : وما نرى لك ولمن اتبعك علينا أي فضل تمتازون به في جماعتكم، كالقوة والكثرة والعلم والرأي ؛ يحملنا على إتباعكم، والنزول عن جاهنا وامتيازنا عليكم بالجاه والمال لمساواتكم.
﴿ بل نظنكم كاذبين ﴾. أي : نظنكم كاذبين في جملتكم : المتبوع في دعوى النبوة، والتابعون في تصديقه، وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ﴾. ( الشعراء : ١١١ ).
ونلاحظ أن الأغنياء والوجهاء قدموا أربع حجج ؛ لرفضهم دعوة نوح عليه السلام :
١ أنه بشر مثلهم غير متميز عليهم.
٢ انه لم يتبعه إلا الفقراء العمال والأراذل في ظاهر الأمر ولأول وهلة.
٣ ليس لهؤلاء فضل في الطبقة والمكانة الاجتماعية، أو قوة عصبية، أو كثرة غالبة، أو غير ذلك من المزايا التي ترفع الأراذل عن منزلتهم ؛ فيهون على الأشراف مساواتهم.
٤ هم يرجحون أن نوحا وأتباعه كاذبين.
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ٢٨ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ٢٩ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣٠ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ٣١ ﴾.
المفردات :
أرأيتم : أي : أخبروني.
على بينة : البينة : ما يتبين به الحق.
فعميت : أخفيت.
التفسير :
٢٨ ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ... ﴾ الآية.
تلطف نوح في مناقشة قومه ؛ ليعالج إعراضهم، ويقاوم صدودهم، فذكرهم بأنه واحد منهم اصطفاه الله بالرسالة، واختاره من بين قومه، فأنزل عليه الوحي.
والمعنى : يا أهلي ويا عشيرتي، أخبروني : ماذا ترون، وماذا تقولون إذا كنت على بصيرة، وهداية، وحجة واضحة من ربي ؟ بها يتبين الحق من الباطل.
﴿ وآتاني رحمة من عنده ﴾. وتفضل علي بالنبوة والرسالة بإحسانه وفضله ورحمته.
﴿ فعميت عليكم ﴾. فحجبت عنكم أنوار الرسالة، وخفيت عليكم هداية الوحي، وعميت عيونكم عن رؤية نور النبوة ؛ لجهلكم وغروركم بالمال والجاه، واستحباب العمى على الهدى.
﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾. أي : أنكرهكم على قبول الرسالة والإيمان والهدى، قسرا وإجبارا ؟ وأنتم معرضون عنها زاهدون فيها ؟
وهذه الآية دليل واضح على أنه لا إكراه في الدين، وأن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ﴾. ( البقرة : ٢٥٦ ).
ويقول سبحانه :﴿ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾. ( يونس : ٩٩ ).
ويقول تعالى :﴿ فذكر إنما مذكر * لست عليهم بمصيطر ﴾. ( الغاشية : ٢١، ٢٢ ).
وتجد أن كلمة :﴿ أنلزمكموها ﴾ قد دمجت فيها ضمائر بعض المخاطبين مع ضمير الغائب. وشد بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ويشدون إليه وهم نافرون. وكذا تصور الكلمة جو الإكراه ؛ بإدماج كل هذه الضمائر في النطق ؛ فترسم صورة كاملة للتناسق الفني بين الألفاظ.
المفردات :
وما أنا بطارد الذين آمنوا : طرده : أبعده ونحاه.
تجهلون : أي : تسفهون عليهم، وهو من الجهالة التي تضاد العقل والحلم.
التفسير :
٢٩ ﴿ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ... ﴾ الآية.
إني أقوم برسالتي ؛ احتسابا لوجه الله، ودعوتي خالصة من المطامع الدنيوية ؛ فأنا لا أطلب منكم مالا ولا أجرة على تبليغ الرسالة والهداية.
﴿ إن أجري إلا على الله ﴾. لا أنتظر الجزاء والثواب إلا من الله ؛ فهو صاحب الفضل والمنة، وله الحمد في الأولى والآخرة.
وشبيه بهذه الآية قوله تعالى في سورة الشعراء :﴿ وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ﴾. ( الشعراء : ١٠٩ ).
وقد روى عن ابن جريج : لأنهم قالوا لنوح : إن أحببت أن نتبعك ؛ فاطرد هؤلاء الأراذل ؛ لذلك قال لهم :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا ﴾. أي : لا أتخلى عنهم ولا أطردهم من مجلسي، فلا أتخلى عمن آمن بالله، سواء أكان من الفقراء أم من الأغنياء.
ويبدو أن الرسل قد تعرضوا لهذا العرض في تاريخهم الطويل، وهو تطلع الأغنياء إلى أن تكون لهم مجالس خاصة بهم لا يشترك فيها الفقراء، ومثل هذا العرض قدمه أهل مكة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب عنه القرآن في سورة الكهف، حيث قال تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾. ( الكهف : ٢٨ ).
﴿ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ﴾.
إن هؤلاء الفقراء الذين دخلوا في الإيمان، صائرون إلى ربهم، وهو سائلهم عن أعمالهم، ولن يسألهم عن أحسابهم ؛ فكيف يكون موقفي أمام الله يوم القيامة إذا طردت هؤلاء المؤمنين من مجالسي، عندما يقف المؤمنون أمام الله ؛ وهو المالك العادل الذي ينصف المظلوم من الظالم، ويقضي بين الناس بالعدل يوم القيامة ؟ ! !
﴿ ولكني أراكم قوما تجهلون ﴾. أي : تجهلون القيم الحقيقية للناس عند الله، وتجهلون أن مرد الناس جميعا إلى الله وحده للحساب. قال تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾. ( الأنبياء : ٤٧ ).
وفي الحديث الشريف : " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". ٣٦
المفردات :
تذكرون : أصله : تتذكرون.
التفسير :
٣٠ ﴿ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾.
وهنا يوجه نوح نداء ثالثا إلى قومه لعلهم يثوبون إلى رشدهم ؛ فيناجيهم بهذه الآية، أي : افترضوا يا قوم أني طردت هؤلاء المؤمنين الفقراء من مجلسي، فما ذا الذي يحميني ويجبرني من عذاب الله ؟ ! لأن ميزانه في تقييم الناس ليس كميزانكم ؛ إذ أكرم الناس عنده هو أتقاهم، وليس أغناهم، وهؤلاء المؤمنون الفقراء هم أكرم عند الله سبحانه منكم، فكيف أطردهم وهنالك إله عادل ينتقم بهم يوم القيامة ؟ !
﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾. أي : أفلا تتفكرون فيما تقولون، وهو ظاهر الخطأ، فتنتهوا عنه ؟ !
وفي معنى هذه الآية وجه الحق سبحانه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن طرد الدعاة من مجلسه، حيث قال سبحانه :﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ و َالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾. ( الأنعام : ٥٢ ).
المفردات :
تزدري أعينكم : يقال : زري على فلان زراية أي : عابه واستهزأ به.
التفسير :
٣١ ﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ... ﴾ الآية.
هنا تظهر طبيعة الرسالة، يوضحها ويبينها هذا الرسول المكافح المجاهد ؛ فهو من أولى العزم من الرسل، كان قوم نوح يرون أن الرسول ينبغي أن يتميز على قومه بالمال ينفق منه على أتباعه، أو بمعرفة الغيب ؛ ليؤكد صلته بالله، أو بكونه ملكا من جنس الملائكة ؛ لكن حكمة الله تعالى أرادت أن يكون الرسل بشرا، من جنس أقوامهم، يتمتعون بالصفاء والنقاء، وقوة اليقين وسلامة الباطن وحسن التلقي، وحسن التأني للأمور ؛ فهو إنسان متميز يصلح للاصطفاء والاختيار، وتبليغ الرسالة ومناقشة المعترضين.
إنه قائد بين قومه، ورسول في مسيرة التوجيه والتعليم والبناء، وقد كان الرسل هامات فارعة، وقيادات مرموقة في مسيرة الإصلاح والتوجيه، وهم منارات مضيئة تتلقى وحي السماء، وتترجم هذا التوجيه إلى سلوك عملي بين البشر.
من أجل هذا ؛ كان الرسل بشرا يوحى إليهم، فلا يتميزون بالقدرة على الخوارق، أو تملك كنوز المال، أو معرفة الغيب. وهنا يشرح نوح ذلك فيقول :
﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ ﴾. فلا أملك خزائن الرزق التي يحتاج إليها عباد الله للإنفاق منها، أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخرة لسائر الناس، فأنفق على نفسي، وعلى من تبعني ؛ بالتصرف فيها بخوارق العادات، بل أنا وغيري في الكسب سواء.
﴿ ولا أعلم الغيب ﴾. لا أعرف الغيوب التي اختص الله سبحانه وتعالى بمعرفتها.
وقريب من ذلك ما أمر الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، حيث قال :﴿ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. ( الأعراف : ١٨٨ ).
﴿ ولا أقول إني ملك ﴾. بل أنا بشر مثلكم آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأمرض كما تمرضون، وتعتريني عوارض البشر مثل : الحزن والمصائب، والنصر والخير والنجاح ؛ وبهذا أشكر الله على النعماء، وأصبر على البأساء. وأرضى بأسباب القضاء، وأكون قدوة عملية للناس.
فالبشرية من مقتضيات النبوة، وليست مانعا منها قال تعالى :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾. ( الأنعام : ٩ ).
﴿ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا... ﴾
لقد أخبرهم صادقا : بأنه لا يملك خزائن رزق الله، ولا يعلم الغيب، وليس ملاكا كاذبا بل هو بشر.
ويستمر فيصحح مفهومهم بالنسبة لمؤمني الفقراء ؛ فهم يرون أنهم أراذل الناس من العمال والصناع الذين تحتقرهم العين لأول وهلة، ونوح يرى أن هؤلاء الفقراء الضعفاء، قد طهروا أنفسهم بالإيمان ؛ فهم أهل لعناية الله وخيره ؛ قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾. ( الشمس : ٧ ١٠ ).
إن عدالة الله تأبى أن يظلم مؤمنا عمل صالحا ؛ بل يكافئ المؤمن بالجزاء العادل والثواب الأوفى ؛ قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ).
﴿ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾.
الله أعلم بما في أنفسهم من صدق أو كذب، ومن إيمان وإخلاص، أو كفر ورياء ؛ فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، وسيكافئهم بحسب ما في قلوبهم.
﴿ إني إذا لمن الظالمين ﴾. إذا قضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته لي ألسنتهم على غير علم مني بما في نفوسهم فأكون ظالما لهم بهضم حقوقهم.
﴿ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٣٢ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ٣٣ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٣٤ ﴾.
المفردات :
قد جادلتنا : أصل الجدال : هو الصراع وإسقاط المرء صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة، ثم استعمل في المخاصمة والمنازعة بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب.
التفسير :
٣٢ ﴿ قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا... ﴾ الآية.
من عادة الطغاة إذا أفحمتهم الحجة، وظهر الحق أمامهم تعللوا بعلل واهية، وهم هنا يصفون نوحا بكثرة الجدل الذي يغلبهم به، ويسد في وجوهم كل طريق ؛ حتى لا يهربوا من هداية السماء.
﴿ فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾.
وزيادة في التهكم بالوحي والرسول والرسالة ؛ قالوا لنوح : أنزل علينا العذاب إن كنت صادقا بأنك رسول، وفي سورة نوح يقول نوح :﴿ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا ﴾. ( نوح : ٥، ٦ ).
٣٣ ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾.
قال نوح لقومه : إن نزول العذاب عليكم مرتبط بأمر الله ومشيئته ؛ فأنا بشر مثلكم، أما قدرة الله وإرادة الله فلا راد لهما، وأنتم لا تستطيعون الهرب من قدرته، ولا تغالبون إرادته ؛ فهو سبحانه فعال لما يريد :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾. ( يس : ٨٢ ).
المفردات :
ولا ينفعكم نصحي : والنصح : تحري الخير والصلاح للمنصوح له، والإخلاص فيه قولا وعملا.
أن يغويكم : والإغواء : الإيقاع في الغي، وهو الفساد الحسي والمعنوي.
التفسير :
٣٤ ﴿ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.
لقد اجتهد نوح في نصح قومه ليلا ونهارا، ولم يزدهم دعاؤه إلا فرارا، وهنا يقول لهم : إذا حاولت تكرار النصح وزيادته، ثم أمعنتم في الإعراض عن دعوة الله ؛ فإن نصيحتي لن تفيدكم مهما أردت نصحكم، ما دامت إرادة الله قد سبقت لكم بالضلالة والعمى ؛ فإن من حكمة الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات، فمن أعرض عن دعوة الله وأصم أذنه عن الهدى ؛ سلب الله عنه البصيرة النافذة، والهداية النافعة ؛ فبقى يتخبط في الضلال.
جاء في تفسير المراغي :
والخلاصة : أن معنى إرادة الله إغواءهم : اقتضاء سننه فيهم أن يكونوا من الغاوين، لا خلقه للغواية فيهم ابتداء من غير عمل منكم، ولا كسب لأسبابها ؛ فإن الحوادث مرتبطة بأسبابها والنتائج متوقفة على مقدماتها.
﴿ هو ربكم وإليه ترجعون ﴾. أي : هو مالك أموركم ومدربها بحسب سننه المطردة في الدنيا، وإليه ترجعون في الآخرة ؛ ليجازيكم بما تستحقون من خير أو شر.
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ ٣٥ ﴾.
المفردات :
أم يَقُولُونَ افْترَاهُ : بل أيقول كفار مكة : اختلق محمد القرآن.
فَعَلَيَّ إِجْرَامِي : أي : عقوبة ذنبي و وباله.
وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ : أي : من إجرامكم في نسبة الافتراء إلي.
التفسير :
٣٥ ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآية في ثنايا قصة نوح، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها حكاية عما حدث لنوح من قومه، والأرجح أنها التفات من القرآن الكريم في أثناء قصة نوح إلى الحديث عن المشركين من أهل مكة، وقد توجه فيها الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الآية : بل أيقول بعض المشركين من كفار مكة : إن محمدا قد افترى هذا القرآن، واختلقه من عند نفسه.
فرد الله معلما نبيه أن يقول لهم :﴿ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ ﴾.
أي : إن اختلقت هذا القرآن من عند نفسي ؛ فذلك إجرام عظيم، وعلي وحدي تقع عقوبة إجرامي، وافترائي الكذب، وأنا بريء من إجرامكم وآثامكم، وستقولون جزاءه عند ربكم ؛ فكل إنسان مسئول عن ذنبه، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾. ( يونس : ٤١ ).
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ٣٦ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا و َوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ٣٧ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ٣٨ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ٣٩ ﴾
المفردات :
ابتأس : اشتد بأسه وحزنه، فلا تبتئس : أي : فلا تحزن، مشتق من البأس وهو الشدة، يقال : بئس يبأس بؤسا : اشتدت حاجته فهو بائس، وانظر المصحف المفسر للأستاذ، محمد فريد وجدي ص ٢٨٩.
التفسير :
٣٦ ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ... ﴾ الآية.
بعد أن لج قوم نوح في طغيانهم، وصموا آذانهم عن سماع دعوته، واستعجلوا عذاب السماء ؛ سلب الله عنهم هدايته وتوفيقه، و أخبر الله نوحا : لأنه لن يؤمن أحد من قومك بدعوتك، إلا من قد آمن سابقا. وهو هنا يهيئه لذلك الأمر، فليكف دعوته عنهم، ولا يحزن بإعراضهم وسخريتهم.
﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾. فلا تحزن عليهم، ولا يهمنّك أمرهم وكان نوح عليه السلام قد دعا على قومه فقال :﴿ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾. ( نوح : ٢٦، ٢٧ ).
فاستجاب الله دعاء نوح، وأغرق الكافرين من قومه بالطوفان :﴿ وقيل بعدا للقوم الظالمين ﴾. ( هود : ٤٤ ).
المفردات :
الفلك : السفينة ويطلق على الواحد والجمع.
بأعيننا : أي : تحت رعايتنا وحفظنا وحراستنا.
ووحينا : وبإرشاد وحينا إليك كيف تصنعها.
التفسير :
٣٧ ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا و َوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴾.
أمره الله سبحانه وتعالى أن يصنع سفينة عظيمة، تكفي لحمله وحمل من معه من المؤمنين، وحمل وسائل إعمار الحياة بعد ذلك :﴿ قلنا احمل فيها من كل من كل زوجين اثنين ﴾. ( هود : ٤٠ }.
وأخبره الله : أنه محروس ومراقب بعين الله وحفظه ؛ فلا يصل إليه سوء من أذى قومه، وسيعلمه الوحي كيف يصنع السفينة فلا يعرض له خطأ في صنعته.
وقد استعمل القرآن تعبير الأعين ؛ لكمال الرعاية والعناية في قوله تعالى لموسى :﴿ ولتصنع على عيني ﴾( طه : ٣٩ ).
وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم :﴿ واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ﴾( الطور : ٤٨ ).
﴿ ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ﴾.
ولا تراجعني في صرف العذاب عنهم وطلب الرحمة لهم، فقد صدر قضائي بإغراقهم، ولا راد لقضائي.
والخلاصة : لا تأخذك بهم رأفة ولا شفقة.
المفردات :
سخروا منه : استهزؤوا به ؛ لعلمه السفينة.
التفسير :
٣٨ ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنه... ﴾ الآية.
امتثل نوح أمر ربه وشرع يصنع السفينة ؛ فكان الكافرون من قومه كلما مروا به وهو يصنعها ؛ استهزءوا به، وتعجبوا من حاله، وقالوا له : كيف تصنع في وسط الصحراء، وهي لا تسير على اليابسة، وليس بجوارنا بحر لهذه السفينة ؟ ! وربما مر عليه آخرون فقالوا : يا نوح، صرت نجارا بعد أن كنت نبيا !.
﴿ قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ﴾.
قال نوح لهم : إن تسخروا منا اليوم ؛ لجهلكم بفائدة ما نصنعه، فإنا سنسخر منكم إذا ؛ إذا جاء الطوفان وعمكم الغرق، أو إن حكمتم علينا بالجهل، فإنا نحكم عليكم بالجهل، فيما أنتم فيه من الكفر، والتعرض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالسخرية منا.
المفردات :
يخزيه : يذله ويفضحه.
مقيم : دائم، وهو عذاب النار.
التفسير :
٣٩ ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾.
أي : إن كنتم لا تعلمون فائدة ما أعمله اليوم ؛ فسوف تعلمون غدا من الذي سينزل به عذاب يهينه في الدنيا وهو عذاب الغرق.
﴿ ويحل عليه عذاب مقيم ﴾. أي : مستمر دائم أبدا، وهو عذاب الآخرة.
وهكذا تستمر حلقات قصة نوح عليه السلام، وتبين جهاد هذا النبي الكريم خلال ٩٥٠ عاما ؛ لقي فيها من قومه الجحود والسخرية والعناد ؛ حتى أنزل الله العقوبة بقومه الكافرين، ونجى الله نوحا ومن معه من المؤمنين.
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ٤٠ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ٤١ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَ نَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ٤٢ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ٤٣ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٤٤ ﴾.
المفردات :
جاء أمرنا : بإهلاكهم.
وفار التنور : أي : نبع الماء وتدفق، من التنور الذي يخبز فيه الخبز، اتفقت فيه لغة العرب والعجم، ويعبر عنه اليوم بالفرن. وقيل : وجه الأرض.
وأهلك : أهل بيت الرجل : نساؤه، وأولاده، وأزواجهم.
إلا من سبق عليه القول : أي : منهم بالإهلاك، والإغراق، وهو ولده كنعان، وزوجة نوح عليه السلام، وأخذ معه سام، وحام، ويافث، وزوجاتهم الثلاثة.
إلا قليل : قيل : كانوا ثمانين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء.
التفسير :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ... ﴾ الآية.
أي : حتى إذا حان وقت أمرنا بالهلاك للكافرين ؛ تتابع المطر من السماء، ونبع من وجه الأرض، أو من موقد الخبر، وكان ذلك علامة للمؤمنين على بدء الطوفان.
وقال تعالى في سورة القمر :﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴾. ( القمر : ١٠ ١٤ ).
كان بدء الطوفان بقدرة الله، مظهرا من مظاهر عظمته وقدرته ؛ فقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى.
جاء في المصحف المفسر للأستاذ محمد فريد وجدي :
نقول :﴿ فار التنور ﴾. معناه الحرفي : نبع التنور، قال المفسرون : ومعناه : أنه نبع الماء من التنور ؛ إعجاز. وأنا أرى أن ﴿ فار التنور ﴾. من الكنايات الكثير أمثالها في لغتنا، مثل : طفح الكيل، وطفّ الصوع، وحمى الوطيس، وفاض الإناء ؛ وكلها تدل على بلوغ الأمر غاية شدته وقرب انفجاره. ٣٧ ا ه.
وعن ابن عباس : التنور وجه الأرض. أي : صارت الأرض عيونا ؛ حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء.
﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ﴾.
أي : قلنا لنوح : احمل في السفينة من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين اثنين، ذكرا وأنثى ؛ للحفاظ على أصل النوع الحيواني.
﴿ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ ﴾. أي : واحمل فيها أهل بيتك ذكرانا وإناثا.
﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾. بأنهم من المغرقين بسبب ظلمهم، وهم : زوجة نوح، و ابنها منه : يام، أو كنعان ؛ وخذ معك كل من آمن من الرجال والنساء.
﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾. ولم يؤمن بنوح إلا عدد قليل من الرجال والنساء، رغم طول المدة التي مكثها فيهم، فقد مكث يدعوهم إلى الإيمان تسعمائة وخمسين عاما ؛ وشاء الله ألا تتفتح قلوب أكثرهم لدعوة الإيمان ؛ فآمن به عدد قليل، قيل : كانوا ستة أو ثمانية رجال ونساؤهم.
وقال ابن عباس : كانوا ثمانين نفسا، منهم نساؤهم. ولم ير الحق سبحانه وتعالى حاجة لبيان العدد، لقلتهم التي لا تستحق الذكر، ولم يبين أنواع الحيوانات المحمولة، ولا كيفية حملها فذلك متروك للبشر.
المفردات :
مجريها ومرساها : أي : باسم الله وقت جريها، ووقت إرسائها، أو باسم الله مكان جريها وإرسائها.
التفسير :
٤١ ﴿ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام : أنه قال لمن آمن به، ولمن أمر بحملهم معه في السفينة :
﴿ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾. أي : باسم الله وإرساؤها، فهو الذي يتولى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، لا بحولنا و لا بقوتنا، وقال سبحانه في موضع آخر :﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾. ( المؤمنون : ٢٨، ٢٩ ).
ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور، عند ركوب الدابة أو عند ركوب السفينة، أو عند ركوب القطار، أو السيارة، أو الطائرة، ثم يقول المسلم :﴿ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾. ( الزخرف : ١٣، ١٤ )، وبهذا يظل المسلم على ذكر لله و معرفة بفضل الله.
﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
إن ربي واسع المغفرة، حيث نجانا من الهلاك ومن مواطن الزلل، وهو سبحانه واسع الرحمة. قال تعالى :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾. ( الأعراف : ١٥٦ ).
أخرج الطبراني وغيره : عن الحسين بن على أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمان لأمتي من الغرق، إذا ركبوا الفلك أن يقولوا :{ بسم الله الملك الرحمان الرحيم. بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ". ٣٨
جاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :
" قيل : كان نوح عليه السلام إذا أراد أن يجريها يقول :﴿ بسم الله ﴾، فتجري، وإذا أراد أن يرسيها يقول :﴿ بسم الله ﴾ ؛ فترسو ". ٣٩
المفردات :
معزل : مكان عزلة وانفراد.
٤٢ ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ... ﴾ الآية.
أي : فركبوا قائلين :﴿ بسم الله مجراها و مرساها ﴾. وهي تجري بهم، وهم فيها في موج شديد الارتفاع ؛ يشبه الجبل في ارتفاعه وتراكمه.
﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ﴾.
تصور هذه الآية هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة التي أبصر فيها نوح ابنه الكافر، وهو منعزل عنه وعن جماعة المؤمنين، وقيل : في معزل عن الكفار، قد انفرد عنهم، وظن نوح أنه يريد مفارقتهم ؛ ولذلك دعاه إلى السفينة، وحملته شفقة الأبوة فقال :
﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا ﴾. مع المؤمنين الناجين.
﴿ وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ﴾. الهالكين بالغرق.
فرد الابن العاصي، وهو الابن الرابع واسمه : يام أو كنعان.
المفردات :
آوى : ألجأ.
يعصمني : يحمني ويحفظني.
التفسير :
٤٣ ﴿ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء... ﴾ الآية.
ظن الابن العاق أنه ما عادي، يكفي في النجاة منه أن يتسلق جبلا عاليا ؛ يحميه من الغرق في الماء.
﴿ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ﴾.
قال نوح لابنه : إنه ليس ماء عاديا، لكنه طوفان يغلب كل شيء، إنه عقاب من الله للكافرين، ولا نجاة منه إلا لمن رحمه الله بالإيمان، فسلك طريق المؤمنين، وركب سفينة النجاة.
﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾.
تمثل هذه الفقرة سرعة فيضان الماء، ونزول القضاء ؛ فالسماء تمطر، والأرض تفور منها المياه، ويتلاقى ماء السماء وماء الأرض ؛ ليعم الطوفان، ويرتفع الموج كالجبال، ويحول الموج بين أن يتم الابن العاق كلامه مع أبيه، فيغرق مع الهالكين.
وفي معنى هذه الفقرة وردت الآيات الكريمة في سورة القمر :﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر ﴾. ( القمر : ١١، ١٢ ).
المفردات :
ابلعي : البلع : ازداد الطعام والشراب بسرعة.
وغيض الماء : غاض الماء يغيض : نقص وتسرب تحت الأرض.
واستوت على الجودى : استوت على جبل الجودي بالموصل.
التفسير :
٤٤ ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
تمثل هذه الآية ألوانا من البلاغة والبيان وبيانا لعظمة القدرة الإلهية، ونفوذ أمر الله ؛ " فإذا جربت نفسك عن استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك ". ٤٠
ومعنى الآية : أراد الحق سبحانه أن يتم فضله، بعد أن عم الطوفان، وتم غرق الكافرين، فأمر الأرض أن تمتص الماء الذي خرج منها، وأمر السماء أن تكف عن المطر، وغاض الماء وجف، وذهب من على وجه الأرض، وقضى الأمر، حيث تمت إرادة الله في هلاك الكافرين المكذبين ونجاة المؤمنين.
﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾. واستقرت السفينة بمن فيها على جبل الجودي، بالجزيرة شمال العراق في الموصل.
﴿ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾. أي : هلاكا وسحقا وطردا من رحمة الله، للقوم الذين ظلموا أنفسهم ؛ باختيار الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى.
وتفيد الآية : بأن باب الله لا يغلق في وجه داعية أخلص لله، وأن الدعاة إلى الله تعالى يعتمدون على باب واسع، وقدرة نافذة، فلا يقيسوا قوتهم المادية بقوة أعدائهم، بل عليهم أن يعلموا ما عليهم، ثم يتركوا لله أن ينصر دينه، وصدق الله العظيم :﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾. ( محمد : ٧ ).
﴿ و َنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ٤٥قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين ٤٦ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ٤٧ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤٨ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ٤٩ ﴾.
المفردات :
إن ابني من أهلي : إن كنعان من أهلي، وقد وعدتني بنجاتهم.
وإن وعدك الحق : الذي لا خلف فيه.
وأنت أحكم الحاكمين : أعلمهم وأعدلهم.
التفسير :
٤٥ ﴿ و َنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾.
أي : استبدت العاطفة البشرية بنوح عليه السلام ؛ فسأل ربه سؤال تسليم وكشف عن حال ولده ؛ فقال في استعطاف ورجاء : رب، إن ابني كنعان من أهلي، وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدك الحق الذي لا يتخلف، وأنت أحكم الحاكمين، وأعدلهم بالحق.
جاء في تفسير القاسمي :
وإنما قال نوح ذلك أي :﴿ رب، إن ابني من أهلي... ﴾ الخ ؛ لفهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل لفرط التأسف على ابنه، عن قوله سبحانه :﴿ إلا من سبق عليه القول ﴾. ولم يتحقق أن ابنه ممن سبق عليه القول. ٤١
المفردات :
إنه ليس من أهلك : الناجين، أو ليس من أهل دينك.
التفسير :
٤٦ ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... ﴾ الآية.
أي : قال الله تعالى : إنه ليس من أهلك الناجين، الذين وعدتك بنجاتهم ؛ لأنه عمل عملا غير صالح ؛ فالكلام على حذف مضاف.
وقد قرأ الجمهور أنه : عمل بفتح الميم وتنوين اللام ؛ على أنه مصدر ؛ مبالغة في ذمه، حتى لكأنه هو نفس العمل غير الصالح، وأصل الكلام : أنه ذو عمل غير صالح، فحذف المضاف ؛ للمبالغة بجعله عين عمله الفاسد ؛ لمداومته عليه.
وقرأ الكسائي ويعقوب : عمل بوزن فرح، بصيغة الفعل الماضي، أي : أنه عمل عملا غير صالح، وهو الكفر والعصيان.
قال الفخر الرازي :
وفي هذه الآية دليل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب، ولا علاقة للصلاح والتقوى بالوراثة والأنساب ؛ لذا نجى الله المؤمنين من قوم نوح، وأهلك ابنه وزوجته مع الكافرين، والصحيح : أنه كان ابنه من صلبه، ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين.
﴿ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾.
أي : فلا تسألني في شيء ليسلك به علم صحيح، وقد تضمن دعاؤه معنى السؤال، أو سمي نداؤه : سؤالا، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه : جهلا وغباوة، ووعظه ألا يعود إليه، وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين.
﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين ﴾.
إني أنهاك أن تكون من زمرة الجاهلين ؛ فيسألونه تعالى أن يبطل حكمته وتقديره في خلقه ؛ إجابة لشهواتهم وأهوائهم في أنفسهم، أو أهليهم أو محبيهم، ويحمل كل ما صدر من نوح وغيره من خطأ الاجتهاد ؛ على ترك الأفضل والأكمل، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وبناء عليه ؛ حصل العتاب والأمر بالاستغفار. ٤٢
المفردات :
أن أسألك : في المستقبل.
ما ليس لي به علم : ما لا علم لي بصحته.
التفسير :
٤٧ ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.
أي : قال نوح عليه السلام ملتمسا الصفح من ربه رب، إني ألتجئ إليك وأستعيذ بك، وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح، وإن لم تغفر لي ذنب سؤالي هذا، وترحمني بقبول توبتي برحمتك التي وسعت كل شيء ؛ أكن من الخاسرين أعمالا.
المفردات :
اهبط بسلام : انزل من السفينة بسلامة أو بتحية، أو مسلما عليك منا.
وبركات : أي : زيادات في رزقك ونسلك... الخ.
التفسير :
٤٨ ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
أي : قال الله تعالى، أو قالت الملائكة لنوح بعد انتهاء الطوفان، ورسوّ السفينة على الجودي، وخوف الجميع من المستقبل، وكيفية الحصول على المعايش بعد هذا الغرف فطمأنه الله بقوله :﴿ اهبط بسلام منا ﴾. أي : أمان لك ولذريتك من المؤمنين.
قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وإذا نسب السلام إلى الله ؛ فهو الأمن والأمان والتحية، وهو سلام وتكريم من إله كريم عليم.
﴿ وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ﴾. أي : وبركات عليك في الأرزاق والمعايش، تفيض عليك وعلى أمم ممن معك نسلا وتوليدا. أي : هم ومن يتناسل منهم في ذرية.
﴿ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. أراد الحق سبحانه أن يعم السلام والبركات نوحا وذريته، ومن يتناسل من المؤمنين والمؤمنات، يتمتعون بهداية الله وبركاته وأرزاقه، وتوفيقه في الدنيا، ثم الجنة ونعيمها في الآخرة.
وهناك مجموعات من نسل هؤلاء المؤمنين، يغلب عليهم الهوى والكفر والعناد ؛ وهؤلاء يتمتعون في الدنيا بالأرزاق، ولهم عذاب أليم في الآخرة ؛ بسبب جحودهم نعم الله، ومعصيتهم رسل الله، فعلى كل عاقل أن يظل راغبا في السير على الصراط المستقيم، مبتعدا عن معصية الله، متجنبا إتباع الهوى والكفر والعناد.
المفردات :
تلك : إشارة إلى قصة نوح.
من أنباء الغيب : من بعض أخبار ما غاب عنك.
التفسير :
٤٩ ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
أي : هذه قصة نوح وقومه من أخبار الغيب التي لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا ؛ أعلمناك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين ؛ ما كنت تعلمها أنت ولا قومك بهذه الصور الصادقة، الحكيمة، الخالية من الأساطير والأكاذيب.
﴿ من قبل هذا ﴾. أي : من قبل هذا الوقت الذي أوحيناها إليك فيه.
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾. أي : فاصبر على تبليغ الرسالة إلى قومك، كما صبر نوح عليه السلام ؛ فالعاقبة الحسنة بالنصر والتأييد للمتقين الذين راقبوا الله، والتزموا بأوامره، واجتنبوا نواهيه، وهذه الآية تعقيب كريم على قصة نوح، وامتنان على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان أنه علم بها عن طريق الوحي، وإرشاد وبشرى بالنصر وحسن العاقبة.
ما يؤخذ من القصة
١ جهاد نوح الطويل الذي استمر ٩٥٠ عاما.
٢ هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين.
٣ قوانين الله عادلة فلا محاباة ولا استثناء، وهو سبحانه يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، لا بأنسابهم.
٤ وجوب صبر الآباء الصالحين، وتفويض أمرهم لله عند انحراف أبنائهم.
فقد روي : أن ابنا لمالك بن أنس ارتكب أمرا لا يليق بمسلم، فعلم بذلك مالك ؛ فقال : " الأدب أدب الله ؛ لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله ؛ لا خير الآباء والأمهات ". ٤٣
٥ أن من يغتر بنسبه ولا يعمل ما يرضي ربه، ويزعم : أنه أفضل من العلماء العاملين، والأولياء الصالحين ؛ فهو جاهل بكتاب ربه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هل كان الطوفان عاما
جاء في تفسير المراغي :
ما يؤخذ من القصة أن الأستاذ الإمام محمد عبده سئل في ذلك ؛ فأجاب جوابا طويلا خلاصته ما يأتي :
ليس في القرآن نص قاطع على عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عد اعتقادها من عقائد الدين.
وأما المؤرخ، ومريد الإطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني ؛ من أجل هذا كانت هذه المسألة موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم.
فأهل الكتاب، علماء الأمة الإسلامية : على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ؛ لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر، فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض.
ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين : أن الطوفان لم يكن عاما، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر قضية : أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز، بل على كل من يعتقد بالدين ألا يتقي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد، وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية، ومن هذى برأيه بدون علم يقيني ؛ فهو مجازف لا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله ورسوله أعلم. ا ه بتصرف.
وخلاصة هذا : أن ظواهر القرآن والأحاديث تدل على أن الطوفان كان عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم فيجب اعتقاده، ولكنه لا يقتضي أن يكون عاما للأرض ؛ إذ دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض، وكذلك وجود الأصفاد والحيوانات البحرية في قنن الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان، بل الأقرب أنه كان من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء، فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها.
ولما كانت هذه المسألة التاريخية ليست من مقاصد الدين لم يبينها بنص قطعي، ومن ثم نقول : إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية، فإن أثبت علم طبقات الأرض " الجيولوجيا " خلافه ؛ فلا يضيرنا ؛ لأنه ينقض نصا قطعيا عندنا. ٤٤
﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ٥٠ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ٥١ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ٥٢ ﴾.
المفردات :
مفترون : كاذبون.
تمهيد :
ذكرت قصة عاد مع نبيهم هود في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر، وتلك هي طريقة القرآن في عرض هذا القصص، يتناول منه ما يناسب السياق العام للسورة، ويذكر في كل مكان ما يناسب ذلك المكان.
وقد ذكرت هذه القصة هنا بعد قصة نوح، ويوجد شبه بينهما في نصيحة الرسول، ورد قومه وعنادهم، وهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين.
وكانت قبيلة عاد قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف، شمال حضرموت، وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأهلها أصحاب زرع وضرع، وقد كشفت آثار في سلطنة عمان، قرب مدينة صلالة عبارة عن مدينة بائدة تحت الأرض يرجح الباحثون أنها مبان وآثار بائدة لقبيلة عادة، وبعض الباحثين والمستشرقين يخلط بين الحضارمة سكان حضرموت وسكان سلطنة عمان.
التفسير :
٥٠ ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ﴾.
أي : وكما أرسلنا نوحا إلى قومه، أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا ؛ فهو أخوهم في الوطن والنسب فقال لهم : يا قوم، اعبدوا الله وحده فلا تعبدوا صنما ولا وثنا، فليس هناك إله سوى الله وحده ؛ فما أنتم بعبادتكم غير الله من الأوثان والشركاء، ﴿ إلا مفترون ﴾. الكذب عليه بتسميتكم إياهم شفعاء تتقربون بهم أو بقبورهم أو بصورهم وتماثيلهم، وترجون النفع وكشف الضر عنكم بجاههم عنده.
تمهيد :
ذكرت قصة عاد مع نبيهم هود في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر، وتلك هي طريقة القرآن في عرض هذا القصص، يتناول منه ما يناسب السياق العام للسورة، ويذكر في كل مكان ما يناسب ذلك المكان.
وقد ذكرت هذه القصة هنا بعد قصة نوح، ويوجد شبه بينهما في نصيحة الرسول، ورد قومه وعنادهم، وهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين.
وكانت قبيلة عاد قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف، شمال حضرموت، وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأهلها أصحاب زرع وضرع، وقد كشفت آثار في سلطنة عمان، قرب مدينة صلالة عبارة عن مدينة بائدة تحت الأرض يرجح الباحثون أنها مبان وآثار بائدة لقبيلة عادة، وبعض الباحثين والمستشرقين يخلط بين الحضارمة سكان حضرموت وسكان سلطنة عمان.
المفردات :
فطرني : خلقني على الفطرة السليمة فطرة التوحيد يقال : فطره، يفطره فطراز أي : خلقه، ومنه الفطرة للخلقة.
التفسير :
٥١ ﴿ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
إن رسالة الأنبياء والرسل هي البلاغ، إبلاغ عباد الله ما يريد الله أن يصلهم ؛ من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، وإصلاح أحوال الناس في المعاش والمعاد، ورسول الله هود يقول لقومه : إنه يدعوهم بهذه الدعوة خالصة لوجه الله تعالى ؛ لا يطلب منهم أجرا ولا مالا ولا وجاهة، ولا أي عرض من أعراض الدنيا ؛ ذلك أن أجره على الله الذي خلقه وأوجده وهداه إلى فطرة التوحيد.
﴿ أفلا تعقلون ﴾. أفلا تستخدمون عقولكم وتتأملون بأفكاركم ؛ فيما أقدم لكم من نصح قائم على الإخلاص، وتعلمون أني مصيب في دعوتكم إلى عبادة الله ونبذ عبادة الأصنام.
تمهيد :
ذكرت قصة عاد مع نبيهم هود في سورة الأعراف بأسلوب ونظم آخر، وتلك هي طريقة القرآن في عرض هذا القصص، يتناول منه ما يناسب السياق العام للسورة، ويذكر في كل مكان ما يناسب ذلك المكان.
وقد ذكرت هذه القصة هنا بعد قصة نوح، ويوجد شبه بينهما في نصيحة الرسول، ورد قومه وعنادهم، وهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين.
وكانت قبيلة عاد قبيلة عربية تسكن بناحية اليمن في الأحقاف، شمال حضرموت، وكانت قبيلة ذات قوة وشدة، وأهلها أصحاب زرع وضرع، وقد كشفت آثار في سلطنة عمان، قرب مدينة صلالة عبارة عن مدينة بائدة تحت الأرض يرجح الباحثون أنها مبان وآثار بائدة لقبيلة عادة، وبعض الباحثين والمستشرقين يخلط بين الحضارمة سكان حضرموت وسكان سلطنة عمان.
المفردات :
مدرارا : كثيرة الدر، يقال : درت السماء تدر درا. أي : أمطرت.
مجرمين : مشركين
التفسير :
٥٢ ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴾.
كانت عاد أصحاب زروع وماشية وقوة، وكانوا في أمس الحاجة إلى المطر ؛ لتشرب ماشيتهم وزراعتهم وقبيلتهم، وذكر المفسرون : ٤٥ أن الله تعالى عاقبهم بحبس المطر فاشتكوا ؛ فأرشدهم هود إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى، والرجوع إليه مع الإيمان الكامل والإخلاص في التوحيد.
والمعنى : عبدوا الله تائبين إليه، نادمين على ما فرط منكم طالبين للمغفرة، فإذا فعلتم ذلك ؛ أرسل الله عليكم المطر متتابعا، وزادكم قوة إلى قوتكم بالأموال والأولاد، وعزا إلى عزكم.
﴿ ولا تتولوا مجرمين ﴾ : ولا تعرضوا عن دعوتي مصرين على آثامكم وإجرامكم.
في أعقاب الآية
نلمح في هذه الآية : ما كانت تتمتع به عاد من قوة وبأس، وبسطة في الجسم والرزق، وتفيد آيات أخرى هذا المعنى، قال تعالى :﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾. ( فصلت : ١٥ ).
وقال سبحانه :﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ و َأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾. ( الشعراء : ١٢٧ ١٣٥ ).
﴿ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ٥٣ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ٥٤ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ٥٥ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ٥٦ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ٥٧ ﴾.
المفردات :
بينة : برهان وحجة.
تمهيد :
في الآيات السابقة حكى القرآن دعوة هود لقومه وضمن دعوته ثلاثة أمور هي :
١ ـ الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ونبذ عبادة الأوثان.
٢ ـ دعوة هود خالصة لوجه الله تعالى لا يبتغي أجرا منهم عليها.
٣ ـ دعاهم إلى الاستغفار والتوبة والإيمان ؛ فإن ذلك باب زيادة الرزق القوة، ثم بدأ يذكر جواب قبيلته عاد.
التفسير :
٥٣ ﴿ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾.
قابلت عاد دعوة نبي الله هود بالرفض والعناد ؛ وتدرجت في الرد عليه من سيء إلى أسوأ ؛ وردت عليه هنا بثلاث ردود :
الأول : أنه لم يأت لهم بحجة ظاهرة أو برهان مقنع، يدل على صحة دعواه.
الثاني : أنهم لن يتركوا عبادة الآلهة والآلهة والأصنام ؛ لمجرد قوله : اتركوا عبادة آلهتكم، واعبدوا الله و حده.
الثالث : ما نحن بمصدقين ولا مستجيبين لك.
تمهيد :
في الآيات السابقة حكى القرآن دعوة هود لقومه وضمن دعوته ثلاثة أمور هي :
١ ـ الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ونبذ عبادة الأوثان.
٢ ـ دعوة هود خالصة لوجه الله تعالى لا يبتغي أجرا منهم عليها.
٣ ـ دعاهم إلى الاستغفار والتوبة والإيمان ؛ فإن ذلك باب زيادة الرزق القوة، ثم بدأ يذكر جواب قبيلته عاد.
اعتراك : أصابك، وهي ثلاثية، عراه، يعروه عروا : أصابه.
سوء : جنون أو لغو أو أذى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:٥٤، ٥٥ ـ ﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾.
أي : لا نجد من قول نقوله فيك ؛ إلا أن بعض آلهتنا أصابك بمس من الجنون أو الخبل ؛ لإنكارك لها، وصدك إيانا عن عبادتها ؛ وكلمة : اعتراك معناها : أصابك وغشيك، ومنه قول الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر.

قال الزمخشري :

وقد دلت ردود قبيلة عاد : على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الرد الأخير دال على جهل مفرط، وبله متناه ؛ حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. ٤٦
ردود نبي الله هود

ضمن هود جوابه لقومه عدة أمور هي :

١ ـ البراءة من الشرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم.
٢ ـ التحدي لهم بأن يجمعوا كيدهم وتدبيرهم، ويضموا إليهم كل من يستطيعون ضمه ؛ للكيد له والإيقاع به بلا إمهال ولا تأخير إن استطاعوا، وفي هذا دليل واضح على أنه لا يخاف منهم ولا من آلهتهم.
٣ ـ أخبرهم : أنه يعتمد على قوة عليا ؛ بيدها الخلق والأمر وهو رب العالمين جميعا، وهو المتصرف في كل ما دب على الأرض، وهو سبحانه حصن لمن اعتصم به، فمن وجد الله ؛ وجد كل شيء، ومن فقد الله ؛ فقد كل شيء، وهو سبحانه حاكم عادل ؛ لا ينصر أهل الباطل على أهل الحق، انظر إلى قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾.

تمهيد :
في الآيات السابقة حكى القرآن دعوة هود لقومه وضمن دعوته ثلاثة أمور هي :
١ ـ الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ونبذ عبادة الأوثان.
٢ ـ دعوة هود خالصة لوجه الله تعالى لا يبتغي أجرا منهم عليها.
٣ ـ دعاهم إلى الاستغفار والتوبة والإيمان ؛ فإن ذلك باب زيادة الرزق القوة، ثم بدأ يذكر جواب قبيلته عاد.
فكيدوني جميعا : اجتمعوا على الكيد في إهلاكي. أي : تدبير الأمر والمكائد لإهلاكي إن استطعتم.
لا تنظرون : أي : ثم لا تمهلوني، يقال : أنظره ينظره أنظارا : أمهله ومنه :﴿ فنظرة إلى ميسرة ﴾. ( البقرة : ٢٨٠ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:٥٤، ٥٥ ـ ﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾.
أي : لا نجد من قول نقوله فيك ؛ إلا أن بعض آلهتنا أصابك بمس من الجنون أو الخبل ؛ لإنكارك لها، وصدك إيانا عن عبادتها ؛ وكلمة : اعتراك معناها : أصابك وغشيك، ومنه قول الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر.

قال الزمخشري :

وقد دلت ردود قبيلة عاد : على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الرد الأخير دال على جهل مفرط، وبله متناه ؛ حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. ٤٦
ردود نبي الله هود

ضمن هود جوابه لقومه عدة أمور هي :

١ ـ البراءة من الشرك، وإشهاد الله على ذلك، وإشهادهم على براءته من شركهم.
٢ ـ التحدي لهم بأن يجمعوا كيدهم وتدبيرهم، ويضموا إليهم كل من يستطيعون ضمه ؛ للكيد له والإيقاع به بلا إمهال ولا تأخير إن استطاعوا، وفي هذا دليل واضح على أنه لا يخاف منهم ولا من آلهتهم.
٣ ـ أخبرهم : أنه يعتمد على قوة عليا ؛ بيدها الخلق والأمر وهو رب العالمين جميعا، وهو المتصرف في كل ما دب على الأرض، وهو سبحانه حصن لمن اعتصم به، فمن وجد الله ؛ وجد كل شيء، ومن فقد الله ؛ فقد كل شيء، وهو سبحانه حاكم عادل ؛ لا ينصر أهل الباطل على أهل الحق، انظر إلى قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ﴾.

تمهيد :
في الآيات السابقة حكى القرآن دعوة هود لقومه وضمن دعوته ثلاثة أمور هي :
١ ـ الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ونبذ عبادة الأوثان.
٢ ـ دعوة هود خالصة لوجه الله تعالى لا يبتغي أجرا منهم عليها.
٣ ـ دعاهم إلى الاستغفار والتوبة والإيمان ؛ فإن ذلك باب زيادة الرزق القوة، ثم بدأ يذكر جواب قبيلته عاد.
دابة : كل ما يدب على وجه الأرض.
آخذ بناصيتها : مالك لها، يصرفها على ما يريد بها، فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه.
صراط : طريق، جمعه : صراط، وأصله : سراط.
مستقيم : على الحق والعدل.
٥٦ ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
أي : إني اعتمدت على الله خالقي وخالقكم، وهو المتصرف في كل شيء في هذا الكون، وما من دابة تدب على وجه الأرض، إلا والله تعالى مالكها وقاهر لها، أي : وما أنتم جميعا إلا دواب من هذا الدواب ؛ التي يأخذ ربي بناصيتها، ويقهرها قهرا كليا إذا شاء ؛ فكيف أخافكم ؟ ! أو أخاف أصنامكم ؟ ! ومعي قوة الإله القادر العادل، الذي لا يسلط أهل البغي على أهل الحق.
أخوة الرسل
تتواصل دعوات الرسل، وتتفق في دعوة الناس إلى الحق والإخلاص لله، وعدم طلب أجر على تبليغ الرسالة، وعدم الخوف من كثرة الأعداء أو إيذاء الأصنام ؛ لأن الإله الحق هو الله وحده، انظر إلى قول نوح عليه السلام :﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴾. ( يونس : ٧١ ).
وانظر إلى توجيه الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾. ( الأعراف : ١٩٥ ).
تمهيد :
في الآيات السابقة حكى القرآن دعوة هود لقومه وضمن دعوته ثلاثة أمور هي :
١ ـ الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ونبذ عبادة الأوثان.
٢ ـ دعوة هود خالصة لوجه الله تعالى لا يبتغي أجرا منهم عليها.
٣ ـ دعاهم إلى الاستغفار والتوبة والإيمان ؛ فإن ذلك باب زيادة الرزق القوة، ثم بدأ يذكر جواب قبيلته عاد.
فإن تولوا : أي : فإن تتولوا وتعرضوا، حذفت إحدى التاءين.
ويستخلف ربي
قوما غيركم : أي : يجعل غيركم خلفاء لكم بعد إبادتكم.
٥٧ ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾.
يختم هود عليه السلام الحوار هنا بتهديد ووعيد.
والمعنى : إن تعرضوا عن رسالتي، وتتولوا وتتركوا ما جئتكم به من عبادة ربكم وحده لا شريك له ؛ فقد أبلغتكم رسالة ربكم، ولم أقصر في البلاغ. أما أنتم إذا أصررتم على الجحود والكفر ؛ فإن الله سينتقم منكم ويهلككم، ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم، ويكونون أطوع لله منكم.
﴿ ولا تضرونه شيئا ﴾. بتوليكم وكفركم ؛ فالله غني عنكم وأنتم الفقراء إليه. وفي الحديث القدسي : " ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا ) )، ٤٧ فأنتم بمعصيتكم وكفركم لا تعجزون الله، ولا تضرون إلا أنفسكم.
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾. فهو المهيمن على كل شيء، وهو الحسيب الرقيب ؛ فلا تخفى عليه أعمالكم ؛ ولا يغفل عن مؤاخذتكم.
﴿ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ٥٨ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ٥٩ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ٦٠ ﴾.
المفردات :
أمرنا : العذاب، أو أمرنا بالعذاب.
غليظ : شديد.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في نهاية القصة كنتيجة لتكذيب عاد لرسولها.
التفسير :
٥٨ ﴿ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾.
أي : ولما حان وقت هلاكهم بالعذاب ؛ نجينا رسولنا هودا والذين آمنوا معه وكانوا أربعة آلاف.
﴿ برحمة منا ﴾.
بهداية ونعمة ووقاية ولطف ورعاية، ونجيناهم من عذاب شديد قاس ؛ كان يقتلع النخلة ويدمر كل شيء.
قال تعالى :﴿ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾. ( الذاريات : ٤٢٤١ ).
و قال سبحانه و تعالى في سورة الحاقة :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ *سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾. ( الحاقة : ٨، ٦ ).
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في نهاية القصة كنتيجة لتكذيب عاد لرسولها.
المفردات :
وتلك عاد : أي : وتلك قبيلة عاد.
عنيد : معاند للحق.
التفسير :
٥٩ ﴿ وتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾.
وتلك هي قصة عاد مع نبيها، كفروا بآيات الله الدالة على صدق أنبيائه، وعصوا رسله الذين جاءوا لهدايتهم، وهم كذبوا رسولا واحدا ؛ هو نبي الله هود، لكن لما كانت رسالة الرسل جميعا واحدة ؛ صار تكذيب رسول منهم يعد تكذيبا للرسل أجمعين.
﴿ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ﴾. و قد سار سوادهم وزعماؤهم وراء كل رئيس متجبر متكبر معاند منهم، بدون تكفير أو تدبر.
لقد وصفتهم الآية بثلاث صفات :
١ كفرهم بآيات الله.
٢ معصيتهم للرسول.
٣ طاعتهم للجبارين المعاندين.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في نهاية القصة كنتيجة لتكذيب عاد لرسولها.
المفردات :
واتبعوا في هذه الدنيا لعنة : أي : جعلت اللعنة تابعة لهم في الدنيا والآخرة.
ألا بعدا لعاد : أي : من رحمة الله وهو دعاء عليهم بالهلاك.
قوم هود : عطف بيان لعاد : لتمييزهم عن عاد الثانية : عاد إرم.
التفسير :
٦٠ ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾.
و قد لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا ؛ فكل من علم بحالهم، أو بلغه خبرهم على ألسنة الرسل يلعنونهم في الدنيا، وتلحقهم لعنة أيضا يوم القيامة.
قال قتادة : تتابعت عليهم لعنتان من الله : لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة، ثم أكد القرآن كفرهم بشهادته عليهم فقال :
﴿ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ ﴾. أي : كفروا بنعمه، وجحدوا ألوهيته حين كذبوا رسله، واتبعوا الجبارين المعاندين.
﴿ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾. ألا سحقا لهم. وبعدا لهم عن رحمة الله.
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ٦١ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ٦٢ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ٦٣ ﴾.
المفردات :
واستعمركم فيها : جعلكم تعمرونها، يقال : أعمرته الأرض، واستعمرته إياها ؛ إذا فوضت إليه عمارتها.
تمهيد :
هذه القصة الثالثة في هذه السورة، وهي قصة صالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود : الحجر، وهي بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى، وموقعه الآن تقريبا المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن، ومازال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى : بمدائن صالح حتى اليوم.
وقد سبق أن ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف، وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء، والنمل، والقمر، والحجر، وغيرها.
ومضمون القصة : تبليغ صالح دعوته وأدلته على وجود الله تعالى، ثم مناقشة قومه له، وتوضيحه الأمور أمامهم، ثم تأييد صدقه بمعجزة الناقة وقتلهم لها، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.
التفسير :
٦١ ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ﴾ الآية.
أي : ولقد أرسلنا إلى بني ثمود، الذين يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد أرسلنا لهم رجلا من قبيلتهم ؛ فأمرهم ؛ بعبادة الله وحده ؛ فهو الإله الخالق الرازق، بيده الخلق والأمر، وليس هناك من إله سواه يفعل ذلك.
﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واستعمركم فيها ﴾. هو الذي ابتدأ خلقكم من هذه الأرض، وأبوكم آدم ما خلق إلا منها، وهو أبو البشر، ثم خلق الناس من نطفة، ثم من علقة ثم مضغة تكسى بعدئذ بهيكل عظمي ولحم، وتستكمل مواصفات الحياة بقدر الله أحسن الخالقين، وأصل النطفة من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء إما من نبات الأرض، أو من اللحم الذي يرجع إلى النبات.
﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾. أي : جعلكم عمارا لها ؛ فقد كانوا زرعا وصناعا وبنائين ؛ قال تعالى :﴿ أتتركون في ما هاهنا آمنين * في جنات وعيون * وزروع ونخل طلعها هضيم * وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين * فاتقوا الله وأطيعون ﴾. ( الشعراء : ١٤٦ ١٥٠ ).
﴿ فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ﴾. أي : اسألوه المغفرة لما سلف من ذنوبكم وشرككم ومعصيتكم، ثم توبوا إليه بالإقلاع عن الذنوب والندم على المعاصي، والعزم على الاستقامة في المستقبل.
﴿ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ﴾ ؛ فهو سبحانه قريب من عباده، يسمع دعاءهم، ويغفر ذنوبهم، ويجيب طلبهم، قال تعالى :﴿ َإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾. ( البقرة : ١٨٦ )
تمهيد :
هذه القصة الثالثة في هذه السورة، وهي قصة صالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود : الحجر، وهي بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى، وموقعه الآن تقريبا المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن، ومازال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى : بمدائن صالح حتى اليوم.
وقد سبق أن ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف، وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء، والنمل، والقمر، والحجر، وغيرها.
ومضمون القصة : تبليغ صالح دعوته وأدلته على وجود الله تعالى، ثم مناقشة قومه له، وتوضيحه الأمور أمامهم، ثم تأييد صدقه بمعجزة الناقة وقتلهم لها، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.
المفردات :
مرجوا قبل هذا : مأمولا أن تكون لنا سيدا، أو مستشارا في الأمور.
مريب : موقع من الريبة أو الريب. أي : الظن والشك.
التفسير :
٦٢ ﴿ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا.. ﴾
أي : كنت الرجاء والأمل بأن تكون سيدا من ساداتنا ؛ نستشيرك في الأمور العظام، ونلجأ إليك في المهمات.
قال كعب : كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم ؛ لأنه ذا حسب وثروة، وعن ابن عباس : كان فاضلا خيرا، وجمهور المفسرين : على أن رجاءهم فيه، هو الاستشارة في مهام الأمور، وأن يكون سيدا سادا مسد الأكابر. أي : إن رجاءنا قد انقطع منك ؛ بسبب دعوتك.
﴿ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾. أي : أتنهانا عن عبادة ما كان يعبده أسلافنا ؛ وقد تتابعوا على هذه العبادة كابرا عن كابر.
﴿ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾. وإننا نشك كثيرا في صحة ما تدعونا إليه : من عبادة الله وحده، وترك التوسل إليه بالشفعاء المقربين عنده، وهو شك موقع من التهمة وسوء الظن. والمقصود من هذا الكلام : التمسك بطريق التقليد، ووجوب متابعة الآباء، والشك العظيم في صحة ما يدعوهم إليه صالح، وهذا نظير ما حكاه القرآن عن كفار مكة حين قالوا :﴿ أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ﴾. ( ص : ٥ ).
تمهيد :
هذه القصة الثالثة في هذه السورة، وهي قصة صالح هو الرسول الثاني من العرب، ومساكن قبيلته ثمود : الحجر، وهي بين الحجاز والشام، إلى وادي القرى، وموقعه الآن تقريبا المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن، ومازال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى : بمدائن صالح حتى اليوم.
وقد سبق أن ذكرت قصة صالح في سورة الأعراف، وسيأتي ذكر هذه القصة أيضا في سورة الشعراء، والنمل، والقمر، والحجر، وغيرها.
ومضمون القصة : تبليغ صالح دعوته وأدلته على وجود الله تعالى، ثم مناقشة قومه له، وتوضيحه الأمور أمامهم، ثم تأييد صدقه بمعجزة الناقة وقتلهم لها، وإهلاكهم بالصيحة أو الصاعقة.
المفردات :
بينة : بيان وبصيرة.
وآتاني منه رحمة : يراد بالرحمة هنا : النبوة.
التفسير :
٦٣ ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾.
نجد نبي الله صالح يناقش قومه في هدوء ؛ فيقول لهم : أخبروني : إذا كنت على يقين جازم بأن الله اختارني للرسالة، وأعطاني النبوة والرحمة ؛ تفضلا منه ؛ فهل يليق بي أن أعصي ربي، وأكف عن دعوتكم إلى التوحيد لله، وعبادته وحده ؛ فمن ذا الذي ينصرني من الله إن عصيته، وخالفت أمره، وقصرت في تبليغ الرسالة ؛ احتفاظا برجائكم فيّ، ومسايرتي لكم في باطلكم ؟ ! ! ! أي : لا أحد يدفع عني عذاب الله ؛ فلا أبالي إذا بقطع رجائكم فيّ، ولا بما أنتم فيه من شك وريب.
﴿ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾. أي : فما تزيدونني إذا أنا عصيت ربي، وأطعتكم غير الوقوع في الخسران، والتعرض لعذاب الله وسخطه ؛ وحاشاي أن أخالف أمر ربي إرضاء لكم.
﴿ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ٦٤فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ٦٥ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ٦٦ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٦٧ ﴾.
المفردات :
ناقة الله : هي ناقة امتحن الله بها طاعتهم ؛ إذ أمرهم ألا يمسوها بسوء، وأن يدعوها تأكل من حيث أرادت، فلم يأبهوا بهذا الأمر وعقروها ؛ فأنزل الله بهم العذاب.
آية : معجزة دالة على صدق نبوة صالح.
ذروها : اتركوها.
عذاب قريب : عاجل.
تمهيد :
في هذه الآيات نجد أن الله تعالى أعطى الناقة ؛ آية ومعجزة تدل على صدق نبي الله صالح، بيد أن قومه ضربوا الناقة بالسيف ؛ فاستحقوا العذاب، وفي سورة :﴿ والشمس وضحاها ﴾ يقول الله تعالى :﴿ كذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾. ( الشمس ١١ ـ ١٥ ).
التفسير :
٦٤ ﴿ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾.
أعطى الله نبيه صالحا آية ومعجزة تدل على صدقة، وهي معجزة مدهشة عجيبة ؛ فقد خلقها الله من صخرة في جوف الجبل، وخلقها حاملا من غير ذكر، وخلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة، وكان لها يوم تشرب فيه الماء وحدها، ولكل القوم يوم ثان يشربون فيه الماء وحدهم، وكانت تدر لبنا كثيرا يكفي الخلق العظيم، فهذه الأمور جعلت الناقة آية متميزة تدل على أنها معجزة، " والمعجزة : أمر خارق للعادة، يظهرها الله على يد مدعي الرسالة ؛ تصديقا له في دعواه ".
وتوجه صالح إلى قومه يقول : هذه ناقة الله. أي : معجزة الله لكم، إضافتها إلى الله ؛ إضافة تشريف وتعظيم، وتلطف صالح مع قومه حين ناداهم بقوله :
﴿ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾. أي : يا عشيرتي وأقاربي، هذه الناقة أنزلها الله من بين جبلين، وهي آية ومعجزة ظاهرة لكم ؛ لتعتبروا وتصدقوا بأني رسول من قبل الله.
﴿ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ ﴾. أي : اتركوها ترعى من النبات والكلأ المباح، ولا تتحملوا مؤنتها ؛ فالناقة ناقة الله، والأرض أرض الله، أنبت بها الكلأ والمرعى.
﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾. أي : ولا يمسها أحد منكم بأذى ؛ فيأخذكم عذاب عاجل، لا يتأخر عنكم إلا يسيرا.
تمهيد :
في هذه الآيات نجد أن الله تعالى أعطى الناقة ؛ آية ومعجزة تدل على صدق نبي الله صالح، بيد أن قومه ضربوا الناقة بالسيف ؛ فاستحقوا العذاب، وفي سورة :﴿ والشمس وضحاها ﴾ يقول الله تعالى :﴿ كذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾. ( الشمس ١١ ـ ١٥ ).
المفردات :
فعقروها : قطعوا قوائمها بالسيف أو نحروها.
تمتعوا : عيشوا، أو تلذذوا بالمنافع.
في داركم : منازلكم أو بلدكم.
ذلك وعد غير مكذوب : ذلك خبر غير مكذوب فيه.
التفسير :
٦٥ ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾.
تدل الآية على كنود الإنسان وعصيانه وتجبره، فهذه ناقة من عند الله، ترعى في أرض الله، وتحلب لهم لبنا يكفيهم عن آخرهم، ولا تكلفهم أي شيء سوى أن يتأملوا في قدرة الله على الخلق، والإبداع على غير مثال سابق.
ومعنى الآية أن قوم صالح تآمروا مع بعض الأشقياء ؛ رغبة في إيذاء صالح، واستعجال المجهول، وتحدي هذا النبي بأن ينزل بهم العذاب.
فذهب قدار بن سالف يعاونه بعض الأشقياء، وهجموا على الناقة فقطعوا أرجلها بالسيف، أو ضربوها في لبتها ؛ فعقروها ؛ فماتت ؛ فقال لهم ربهم نبي الله صالح : أمامكم مهلة ثلاثة أيام، ثم ينزل بكم العذاب، فاستمتعوا بما تريدون من الطعام والمتع والسكنى ؛ فإن العذاب نازل لا محالة.
والأيام الثلاثة إنذار مناسب ؛ لأنه لو زادت المدة لطالت المهلة، ولم يتحقق المراد من الإرجاف والخوف، ولو قصرت عن ذلك لم تكن كافية للتأمل والتدبر، وبين لهم : أن هذا وعيد صادق واقع.
﴿ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾. هذا وعيد مؤكد، غير مكذوب فيه.
تمهيد :
في هذه الآيات نجد أن الله تعالى أعطى الناقة ؛ آية ومعجزة تدل على صدق نبي الله صالح، بيد أن قومه ضربوا الناقة بالسيف ؛ فاستحقوا العذاب، وفي سورة :﴿ والشمس وضحاها ﴾ يقول الله تعالى :﴿ كذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾. ( الشمس ١١ ـ ١٥ ).
التفسير :
٦٦ ﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾.
أي : فلما حان وقت نزول العذاب والهلاك بهم ؛ عزلنا صالحا عنهم، ونجيناه والمؤمنين معه بفضل منا وتلطف، ورحمة بهم، لقد نجيناهم من العذاب، ومن الذل والمهانة والخزي والفضيحة التي أصابت الكفار الهالكين يومئذ. في ذلك اليوم الهائل الشديد.
إن يد القدرة الإلهية هي يد القوة القادرة على كل شيء التي تعز المؤمنين بعزة الله ؛ فإنهم في رعاية القدرة القادرة.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾.
إن الله تعالى هو القادر المعز المذل ؛ بيده الخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير. قال تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾. ( آل عمران : ٌ ٢٦ ).
تمهيد :
في هذه الآيات نجد أن الله تعالى أعطى الناقة ؛ آية ومعجزة تدل على صدق نبي الله صالح، بيد أن قومه ضربوا الناقة بالسيف ؛ فاستحقوا العذاب، وفي سورة :﴿ والشمس وضحاها ﴾ يقول الله تعالى :﴿ كذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾. ( الشمس ١١ ـ ١٥ ).
المفردات :
الصيحة : الصوت الشديد، والمراد به هنا : صوت العذاب.
جاثمين : أي : باركين على ركبهم ميتين، يقال : جثم، يجثم جثوما، أي : برك على ركبتيه.
التفسير :
٦٧ ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾.
والصيحة هنا هي : صيحة جبريل، أو صيحة الحق، وهو صوت العذاب الذي نزل بهم، فأخذهم الرعب والخوف والهلع ؛ فجثوا على ركبهم من الخوف، وجمد الدم في عروقهم، وأصابتهم صيحة تحمل في كيانها صاعقة، أقرب مثل إليها : الرعد المحمل بالصواعق المهلكة، وهكذا صاروا جثثا هامدة، وتحولت ديارهم إلى صمت مطبق، لا حس بها ولا نفس.
تمهيد :
في هذه الآيات نجد أن الله تعالى أعطى الناقة ؛ آية ومعجزة تدل على صدق نبي الله صالح، بيد أن قومه ضربوا الناقة بالسيف ؛ فاستحقوا العذاب، وفي سورة :﴿ والشمس وضحاها ﴾ يقول الله تعالى :﴿ كذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا* فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾. ( الشمس ١١ ـ ١٥ ).
المفردات :
كان لم يغنوا فيها : كأن لم يسكنوا فيها، أو كأن لم يقيموا فيها.
التفسير :
٦٨ ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾.
أي : كأنهم لسرعة هلاكهم، وعدم بقاء أحد منهم، لم يقيموا في ديارهم ألبتة.
﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾.
﴿ يغنوا فيها ﴾. أي : يقيموا فيها، يقال : غنى فلان بالمكان، يغنى ؛ إذا أقام به وعاش فيه في نعمة ورغد. والمعنى : كأن هؤلاء القوم الظالمين، لم يقيموا في ديارهم عمرا طويلا، وهم في رخاء من عيشهم.
﴿ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾. تتكرر هنا ألا. وهي حرف تنبيه ؛ لتلفت الأنظار إلى ملخص القصة ومغزاها : أن سبب الهلاك هو الكفر بالله وبنعمة الله.
﴿ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ ﴾. ألا سحقا وهلاكا لثمود الذين كفروا بربهم، وبعدا وطردا لهم عن رحمة الله ؛ بسبب جحودهم وكفرهم.
لقد طويت صفحة قوم ظالمين، وعقب القرآن على القصة بهذه الآية، وهي تشبه الصدى المردود الذي شّيع به قوم هود من قبل، قال تعالى :﴿ ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود ﴾. ( هود : ٦٠ ) ؛ كأنما يسجل الجبار سبحانه وتعالى في نهاية كل قصة نطق المحكمة الإلهية التي تحكم على المجرمين، وتضمن حكمها حيثيات الحكم في إيجاز بليغ، يعقبه صمت رهيب، لقد كفروا بالله ؛ فاستحقوا عقاب الله ولعنته، والطرد من رحمته، وذلك جزاء الظالمين.
وقد ورد في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ديار ثمود وهو في طريقه إلى غزوة تبوك ؛ فاستحث راحلته، وأسرع السير، وحث قومه على الاعتبار بهم.
﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ٦٩ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ٧٠ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا ٧١ لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ٧٢ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ٧٣ ﴾.
المفردات :
فما لبث : فما أبطأ.
حنيذ : أي : مشوي فوق الحجارة المحماة.
تمهيد في بشارة إبراهيم بإسحاق
ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكرت قصته مع قومه في سورة الأنعام، وذكر نقاشه مع أبيه في سورة مريم، وذكرت قصة إبراهيم مع الذبيح إسماعيل في سورة الصافات، وذكرت بشارته بإسحاق ويعقوب في سورة الذاريات، وتكررت قصة إبراهيم في القرآن الكريم، وهنا في سورة هود، تبشر الملائكة إبراهيم بهذه البشرى، وكان طاعنا في السن، وزوجته عجوز عقيم، وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان إبراهيم أبا للأضياف ؛ يكرمهم ويقدم لهم أحسن الطعام وأجوده.
التفسير :
٦٩ ﴿ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾.
أي : ولقد جاءت رسلنا من الملائكة إلى إبراهيم ؛ للبشارة بالولد، واختلفت الروايات في عددهم ؛ فعن عطاء : أنهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل عليهم السلام، وقيل : مع جبريل سبعة ملائكة آخرون.
﴿ قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ ﴾. أي : قالوا : نسلم عليك سلاما، فقال : عليكم سلام.
﴿ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾. الحنيذ : هو المشوي بحر الحجارة ؛ من غير أن تمسه النار، أو بالشمس.
وتفيد الآيات : سرعة إبراهيم في تقديم أكل جيد مشوي بطريقة متميزة، بدون إبطاء، وجاء في سورة الذاريات :﴿ فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين * فقربه إليهم قال ألا تأكلون ﴾. ( الذاريات : ٢٦، ٢٧ )، والعجل : فتي البقر.
تمهيد في بشارة إبراهيم بإسحاق
ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكرت قصته مع قومه في سورة الأنعام، وذكر نقاشه مع أبيه في سورة مريم، وذكرت قصة إبراهيم مع الذبيح إسماعيل في سورة الصافات، وذكرت بشارته بإسحاق ويعقوب في سورة الذاريات، وتكررت قصة إبراهيم في القرآن الكريم، وهنا في سورة هود، تبشر الملائكة إبراهيم بهذه البشرى، وكان طاعنا في السن، وزوجته عجوز عقيم، وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان إبراهيم أبا للأضياف ؛ يكرمهم ويقدم لهم أحسن الطعام وأجوده.
المفردات :
لا تصل إليه : لا تمتد للتناول.
نكرهم : أي : أنكرهم، يقال : نكره، ينكره نكرا، وأنكره واستنكره بمعنى واحد.
وأوجس منهم خيفة : أحس منهم خوفا في نفسه.
لوط : نبي كريم، وهو ابن أخي إبراهيم، وأول من آمن به.
التفسير :
٧٠ ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾.
أي : لما رأى إبراهيم أن أيديهم لا تمتد إلى العجل كما يمد من يريد الأكل ؛ أنكر منهم ذلك، ووجد في نفسه خوفا وفزعا منهم، وظن أنهم قد جاءوه بشرّ ؛ فإن من لم يأكل طعامك ؛ لم يحفظ زمامك، وقد صارحهم بالخوف على نحو ما ورد في سورة الحجر قال تعالى :﴿ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إبراهيم* إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ﴾. ( الحجر : ٥١ ٥٣ ).
﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾.
أي : قالوا له : يا إبراهيم، لا تخف منا ؛ فلسنا بشرا نأكل الطعام ؛ بل نحن ملائكة الله أرسلنا إلى قوم لوط لإهلاكهم، وكانت ديارهم قريبة من دياره.
تمهيد في بشارة إبراهيم بإسحاق
ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكرت قصته مع قومه في سورة الأنعام، وذكر نقاشه مع أبيه في سورة مريم، وذكرت قصة إبراهيم مع الذبيح إسماعيل في سورة الصافات، وذكرت بشارته بإسحاق ويعقوب في سورة الذاريات، وتكررت قصة إبراهيم في القرآن الكريم، وهنا في سورة هود، تبشر الملائكة إبراهيم بهذه البشرى، وكان طاعنا في السن، وزوجته عجوز عقيم، وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان إبراهيم أبا للأضياف ؛ يكرمهم ويقدم لهم أحسن الطعام وأجوده.
المفردات :
فضحكت : سرورا بزوال الخوف، وقيل : بمعنى : حاضت.
التفسير :
٧١ ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ﴾.
كانت امرأة إبراهيم قائمة وراء ستار بحيث ترى الملائكة، أو كانت واقفة تخدم الملائكة، فضحكت ؛ سرورا بزوال الخوف، وتحقيق الأمن، أو استبشارا بهلاك قوم لوط ؛ لكراهتها لأفعالهم المنكرة.
﴿ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ﴾.
بشرتها الملائكة بأنها تحمل وتلد ولدا، وبشرتها بولد الولد، أي : سيكون لإسحاق ابنها ولدا يسمى ؛ يعقوب، وهو الملقب ب " إسرائيل "، ومن ذريته الأسباط، وأنبياء بني إسرائيل.
تمهيد في بشارة إبراهيم بإسحاق
ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكرت قصته مع قومه في سورة الأنعام، وذكر نقاشه مع أبيه في سورة مريم، وذكرت قصة إبراهيم مع الذبيح إسماعيل في سورة الصافات، وذكرت بشارته بإسحاق ويعقوب في سورة الذاريات، وتكررت قصة إبراهيم في القرآن الكريم، وهنا في سورة هود، تبشر الملائكة إبراهيم بهذه البشرى، وكان طاعنا في السن، وزوجته عجوز عقيم، وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان إبراهيم أبا للأضياف ؛ يكرمهم ويقدم لهم أحسن الطعام وأجوده.
المفردات :
يا ويلتا : أصله : يا ويلي وهلاكي ! أي : يا عجبا ! وهي كلمة تقال عند التعجب من بلية أو فجيعة أو فضيحة.
التفسير :
٧٢ ﴿ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴾.
لا شك أنها فوجئت بهذه البشرى، واهتزت لها أركانها، واندهشت وقالت : يا عجبا كيف ألد وأنا عجوز كبيرة شيخة عقيم ؛ لا تلد في صباها، فكيف تلد في شيخوختها، وهذا زوجي في سن الشيخوخة لا يولد لمثله، إن الخبر لشيء عجيب غريب عادة ! ! !
وقد جاء في سفر التكوين : " إن إبراهيم كان عمره يومئذ مائة سنة، وأن زوجته سارة كانت ابنة تسعين سنة " ا ه.
والغالب أن حيض المرأة ينقطع في سن الخمسين ؛ فيبطل استعدادها للحمل والولادة، على أنها كانت عقيما، قال تعالى :﴿ فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم * قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم ﴾. ( الذاريات : ٢٩، ٣٠ ).
تمهيد في بشارة إبراهيم بإسحاق
ذكرت قصة إبراهيم في سورة البقرة، وذكرت قصته مع قومه في سورة الأنعام، وذكر نقاشه مع أبيه في سورة مريم، وذكرت قصة إبراهيم مع الذبيح إسماعيل في سورة الصافات، وذكرت بشارته بإسحاق ويعقوب في سورة الذاريات، وتكررت قصة إبراهيم في القرآن الكريم، وهنا في سورة هود، تبشر الملائكة إبراهيم بهذه البشرى، وكان طاعنا في السن، وزوجته عجوز عقيم، وكانت قرى قوم لوط بنواحي الشام، وإبراهيم ببلاد فلسطين، فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط، مروا بإبراهيم ونزلوا عنده، وكان إبراهيم أبا للأضياف ؛ يكرمهم ويقدم لهم أحسن الطعام وأجوده.
المفردات :
حميد : فاعل ما يستوجب عليه الحمد.
مجيد : كثير الخير والإحسان.
التفسير :
٧٣ ﴿ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴾.
أي : قالت الملائكة لسارة زوجة إبراهيم : كيف تتعجبين من قضاء الله وقدره ؟ أي : لا عجب من أمن يرزقكما الله الولد وهو إسحاق، وأنتما شيخان كبيران يائسان من إنجاب ولد في هذه السن، فالله تعالى قادر على كل شيء، وهو يتفضل على عباده، ويختص من يشاء برحمته ؛ حتى يظل الأمل عند الناس، ويظل الرجاء في رحمة الله وفضله قائما في نفوس المؤمنين.
﴿ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾. رحمة الله الواسعة وفضله ونعمه عليكم.
﴿ وَبَرَكَاتُهُ ﴾. هي النمو والزيادة فيكم وفي نسلكم ؛ فقد رزق إسحاق يعقوب ولقب يعقوب ب " إسرائيل " ومن نسله كان الأسباط اثني عشر نبيا، ومن نسل الأسباط كان آلاف الأنبياء من بني إسرائيل، وعرف إبراهيم بأنه : أبو الأنبياء وأبو الملة، وخليل الله، وقد نجاه الله من نار الظالمين، وآواه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
﴿ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴾. إنه سبحانه فعال ما يستوجب الحمد والشكر، وهو محمود في جميع أفعاله وأقواله، مجيد. ذو المجد والرفعة، ممجد في صفاته وذاته، كثير الخير والإحسان إلى عباده.
ويمكن تقريب شجرة الأنبياء التي تنسب إلى إبراهيم عليه السلام بهذا الرسم :
﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ٧٤ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ٧٥ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ٧٦ ﴾.
المفردات :
الروع : بالفتح : الخوف والفزع، يقال : راعه الأمر، يروعه روعا أي : أخافه.
وجاءته البشرى : بدل الروع.
يجادلنا في قوم لوط : يجادل رسلنا في شأنهم قائلا : إن فيها لوطا.
التفسير :
٧٤ ﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾.
أي : فلما سرى عن إبراهيم، وانكشف له ما أوجس منه خيفة، إذ علم أن هؤلاء الرسل ملائكة من السماء، وجاءته البشرى بالولد واتصال النسل، أخذ يجادل الملائكة، راغبا في تأجيل العذاب عن قوم لوط أو تخفيفه.
وكانت حجة إبراهيم : أن قرية لوط فيها العصاة وفيها المؤمنون، وهلاك القرية سيشمل الجميع، وقد بينت له الملائكة : أن علم الله شامل لكل فرد، وأنه سينجي لوطا ومن آمن معه، وسيهلك الكافرون.
وقد فصل القرآن الكريم هذه المجادلة بين إبراهيم والملائكة في سورة العنكبوت فجاء فيها :﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾. ( العنكبوت : ٣١، ٣٢ ).
كما جاءت هذه المجادلة في الفصل الثامن من سفر التكوين من التوراة ففيه : " إن الرب ظهر لإبراهيم وهو جالس في باب الخيمة، فظهر له ثلاثة رجال فاستضافهم، وأتى لهم بعجل وخبز ملة ؛ فأكلوا وبشروه بالولد، فسمعت امرأته سارة ؛ فضحكت، وتعجبت لكبرها، وانقطاع عادة النساء عنها، فقال الرب لإبراهيم : لماذا ضحكت سارة، هل يستحيل على الرب شيء ؟ !... وانصرف الرجال ( أي : الملائكة ) من هناك، وذهبوا نحو سدوم ( قرية قوم لوط )، وإبراهيم لم يزل قائما أمام الرب ؛ فتقدم إبراهيم وقال : أفتهلك البار مع الأثيم ؟ عسى أن يكون هناك خمسون بارا في المدينة، أفتهلك المكان ؟ ! ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه ؟ ! فقال الرب : إن وجدت في سدوم خمسين بارا ؛ فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم، ثم كلمه إبراهيم مثل هذا في خمسة وأربعين، ثم في أربعين، ثم في ثلاثين، ثم في عشرين، ثم في عشرة، والرب يعده في كل من هذه الأعداد، بأنه من أجلهم لا يهلك القوم، وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم إلى مكانه " ا ه. ٤٨
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما يؤخذ من الآيات
١ ـ تبادل السلام بين الملائكة والأنبياء.
٢ ـ من السنة : إكرام الضيف، وتعجيل قراه. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين.
٣ ـ المخاطب بإكرام الضيف : أهل المدن وأهل البادية. في رأي الشافعي، وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة.
٤ ـ من أدب الطعام : تعجيل تقديمه، وتعجيل أكل الضيف.
٥ ـ مشاركة الزوجة لزوجها في أفراحه وأتراحه ومشاركتها في خدمة ضيوف زوجها عند أمن الفتنة.
٦ ـ جواز مراجعة المرأة للأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة، وأن امرأة الرجل من أهل بيته.
٧ ـ أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق ؛ لأن الله بشر إبراهيم وسارة بإسحاق، وبشرهما بأن إسحاق سيلد ولدا يسمى : يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلف فيه، فتعين أن يكون الذبيح إسماعيل. ٤٩

المفردات :
لحليم : غير عجول على الانتقام.
أواه : كثير التأوه من الذنوب، والتأسف على الناس.
منيب : يرجع إلى الله في أمره، يقال : أناب، ينب إنابة، أي : رجع وتاب.
التفسير :
٧٥ ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴾.
تصف هذه الآية خليل الرحمان بثلاث صفات :
﴿ لحليم ﴾. غير متعجل بالانتقام من المسيء إليه.
﴿ أواه ﴾ : كثير التأوه والخشوع والتضرع والدعاء، وهذا كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما يؤخذ من الآيات
١ ـ تبادل السلام بين الملائكة والأنبياء.
٢ ـ من السنة : إكرام الضيف، وتعجيل قراه. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين.
٣ ـ المخاطب بإكرام الضيف : أهل المدن وأهل البادية. في رأي الشافعي، وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة.
٤ ـ من أدب الطعام : تعجيل تقديمه، وتعجيل أكل الضيف.
٥ ـ مشاركة الزوجة لزوجها في أفراحه وأتراحه ومشاركتها في خدمة ضيوف زوجها عند أمن الفتنة.
٦ ـ جواز مراجعة المرأة للأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة، وأن امرأة الرجل من أهل بيته.
٧ ـ أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق ؛ لأن الله بشر إبراهيم وسارة بإسحاق، وبشرهما بأن إسحاق سيلد ولدا يسمى : يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلف فيه، فتعين أن يكون الذبيح إسماعيل. ٤٩

المفردات :
أعرض عن هذا : أعرض عن هذا الجدال.
إنه قد جاء أمر ربك : قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم، وهو أعلم بحالهم.
غير مردود : غير مدفوع لا بجدال ولا بشفاعة.
التفسير :
٧٦ ﴿ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴾.
أي : قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام : يا إبراهيم، أترك الجدال في أمر قوم لوط ولاسترحام لهم ؛ فقد صدر أمر الله تعالى بنزول العذاب بهم، ولا يرد بأس الله عن القوم المجرمين، وإنهم آتيهم عذاب غير مصروف ولا مدفوع عنهم أبدا، لا بجدال ولا بدعاء ولا بشفاعة ونحوها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:ما يؤخذ من الآيات
١ ـ تبادل السلام بين الملائكة والأنبياء.
٢ ـ من السنة : إكرام الضيف، وتعجيل قراه. والضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، ومن خلق النبيين والصالحين.
٣ ـ المخاطب بإكرام الضيف : أهل المدن وأهل البادية. في رأي الشافعي، وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة.
٤ ـ من أدب الطعام : تعجيل تقديمه، وتعجيل أكل الضيف.
٥ ـ مشاركة الزوجة لزوجها في أفراحه وأتراحه ومشاركتها في خدمة ضيوف زوجها عند أمن الفتنة.
٦ ـ جواز مراجعة المرأة للأجانب في القول، وأن صوتها ليس بعورة، وأن امرأة الرجل من أهل بيته.
٧ ـ أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق ؛ لأن الله بشر إبراهيم وسارة بإسحاق، وبشرهما بأن إسحاق سيلد ولدا يسمى : يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلف فيه، فتعين أن يكون الذبيح إسماعيل. ٤٩

﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ٧٧ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ٧٨ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ٧٩ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ٨٠ ﴾
المفردات :
سيء بهم : وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم ؛ لأنهم جاءوا في صورة غلمان ؛ فظن أنهم أناس ؛ فخاف أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم.
ضاق بهم ذرعا : ضاق صدره بمجيئهم، والذرع والذراع : منتهى الطاقة، يقال : مالي به ذرع ولا ذراع. أي : مالي به طاقة، ويقال : ضقت بالأمر ذرعا ؛ إذا صعب عليك احتماله.
عصيب : شديد الأذى.
قوم لوط
هذه القصة الخامسة من القصص المذكور في هذه السورة، وهي قصة لوط عليه السلام، وقوم لوط : أهل سدوم في الأردن قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط ( ابن أخي إبراهيم ) ؛ فبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة.
وجاء قوم لوط يسرعون إليه، ويتخطون أبواب الدار ؛ رغبة في إتيان الرجال الضيوف في دبرهم، وحاول لوط تذكيرهم وإرشادهم إلى زواج بنتيه، أو إتيان النساء من أفراد قريته ؛ فالنبي أب لأتباعه وسائر النساء بنات له، فهو يرشدهم إلى أن الفطرة السليمة تبحث عن قضاء الوطر مع الطرف الآخر ؛ فقد خلق الله الذكر والأنثى ليستمتع كل واحد بالآخر في حلال ونظافة ونظام، لكن قوم لوط أصموا آذانهم عن سماع نصيحته، وصمموا على فعل الفاحشة اللواط مع ضيوفه، وهنا تمنى لوط لو كانت معه قوة من الرجال تحميه وتنصره، أو أن له ركن شديد يعتمد عليه من أصحاب العصبيات الذين ينصرون الحق.
لقد كان مجيء الملائكة للوط استدراجا لقومه ؛ ليظهروا على حقيقتهم، ويفتضحوا أمام الملائكة، ويضبطوا متلبسين برغبتهم الشاذة، في إتيان الرجال دون النساء، وهذه المثلية الجنسية ظاهرة خطيرة ؛ تستحق عقاب السماء، كما حدث لقوم لوط، حيث أرسل عليهم الخسف، وأمطرتهم السماء بحجارة معلمة ترجمهم وتهلكهم، وهكذا يكون عقاب كل ظالم لم يتنكب الجادة، ويتبع هواه ويتنكر لوحي السماء.
وفي سفر التكوين : إن لوطا عليه السلام ابن هارون أخى إبراهيم عليه السلام، وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما " أور الكلدانيين " في العراق، إلى أرض الكنعانيين، وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في سدوم بالأردن، ويظن بعض الباحثين : أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف، ويقال : إن الباحثين في العصر الحاضر عثروا على آثارها.
التفسير :
٧٧ ﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾.
انتقلت الملائكة من عند إبراهيم عليه السلام إلى لوط، وكانوا في أجمل صورة بهيئة شباب حسان الوجوه، ابتلاء من الله، فساء لوط وصولهم ومجيئهم، وضاقت نفسه بسببهم ؛ لأنه ظن أنهم من الإنس ؛ فخاف عليهم من خبث قومه، ورغبتهم الجامحة في إتيان الذكور، وخاف لوط من العجز عن حماية ضيوفه، وقال : هذا يوم عصيب شديد شره، عظيم بلاؤه.
قوم لوط
هذه القصة الخامسة من القصص المذكور في هذه السورة، وهي قصة لوط عليه السلام، وقوم لوط : أهل سدوم في الأردن قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط ( ابن أخي إبراهيم ) ؛ فبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة.
وجاء قوم لوط يسرعون إليه، ويتخطون أبواب الدار ؛ رغبة في إتيان الرجال الضيوف في دبرهم، وحاول لوط تذكيرهم وإرشادهم إلى زواج بنتيه، أو إتيان النساء من أفراد قريته ؛ فالنبي أب لأتباعه وسائر النساء بنات له، فهو يرشدهم إلى أن الفطرة السليمة تبحث عن قضاء الوطر مع الطرف الآخر ؛ فقد خلق الله الذكر والأنثى ليستمتع كل واحد بالآخر في حلال ونظافة ونظام، لكن قوم لوط أصموا آذانهم عن سماع نصيحته، وصمموا على فعل الفاحشة اللواط مع ضيوفه، وهنا تمنى لوط لو كانت معه قوة من الرجال تحميه وتنصره، أو أن له ركن شديد يعتمد عليه من أصحاب العصبيات الذين ينصرون الحق.
لقد كان مجيء الملائكة للوط استدراجا لقومه ؛ ليظهروا على حقيقتهم، ويفتضحوا أمام الملائكة، ويضبطوا متلبسين برغبتهم الشاذة، في إتيان الرجال دون النساء، وهذه المثلية الجنسية ظاهرة خطيرة ؛ تستحق عقاب السماء، كما حدث لقوم لوط، حيث أرسل عليهم الخسف، وأمطرتهم السماء بحجارة معلمة ترجمهم وتهلكهم، وهكذا يكون عقاب كل ظالم لم يتنكب الجادة، ويتبع هواه ويتنكر لوحي السماء.
وفي سفر التكوين : إن لوطا عليه السلام ابن هارون أخى إبراهيم عليه السلام، وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما " أور الكلدانيين " في العراق، إلى أرض الكنعانيين، وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في سدوم بالأردن، ويظن بعض الباحثين : أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف، ويقال : إن الباحثين في العصر الحاضر عثروا على آثارها.
المفردات :
يهرعون إليه : يسرعون إليه.
ولا تخزون : لا تفضحوني من الخزي، أولا تخجلوني.
رجل رشيد : ذو رشد وعقل يهتدي إلى الحق ويرعوى عن القبيح.
التفسير :
٧٨ ﴿ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ... ﴾ الآية.
علم قوم لوط بوجود أضياف في بيته، وربما كانت زوجته هي التي أخبرتهم، فأسرعوا يتدافعون جميعا، كأنما يسوقهم سائق، وهم في شدة الفرح والتعطش ؛ لقضاء الشهوة مع هؤلاء الرجال.
﴿ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ﴾.
أي : كان شأنهم ارتكاب الفاحشة مع الرجال علنا، وقطع الطريق، والاستيلاء على أموال عابر السبيل ؛ بدون رحمة أو رأفة، كما حكى الله عنهم :﴿ أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ﴾. ( العنكبوت : ٢٩ ).
فهم قوم تعودوا على إتيان هذا الشذوذ في جماعتهم وناديهم، وكان لوط عليه السلام ينصحهم، ويحذرهم من هذا الشذوذ، كما قال لهم في آية أخرى :﴿ أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ﴾. ( الشعراء : ١٦٥، ١٦٦ ).
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾.
تقرب لوط إلى قومه، وقال لهم : يا قوم، النساء أطهر لكم من الرجال، وأنا أنصحكم بقضاء هذه الشهوة مع بنات أمتي من الزوجات، والصالحات للزواج، فكل نبي في أمته بمنزلة الولد.
وكان مما يتلى في القرآن :﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ﴾. ( الأحزاب : ٦ ).
وقيل : المراد : تزوجوا بناتي هن أطهر لكم من الرجال ؛ أي : عرض عليهم الزواج ببناته من صلبه، ليصرفهم عن اللواط بضيوفه.
وعلماء التفسير يرجحون أن المراد : تزوجوا بنات أمتي، أي : النساء جملة ؛ لأن نبي القوم أب لهم ؛ قال مجاهد : لم يكن بناته ولكن كن من أمته، وكل نبي أبو أمته، وقال سعيد بن جبير : يعني : نساؤهم هن بناته ؛ وهو أب لهم، وقد رجح الإمام فخر الدين الرازي رأي الجمهور واستدل على ذلك بما يأتي :
١ أنه قال :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾. وبناته اللائي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ؛ أما نساء أمته ففيهن كفاية الكل.
٢ أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان، وهما : زنتا وزعورا. وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز ؛ لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة.
﴿ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾. أي : راقبوا الله في ترك هذه الفاحشة السيئة التي لم يسبقكم إليها أحد من العالمين ؛ بل أنتم اخترعتموها واستمررتم عليها.
﴿ ولا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ﴾. لا تفضحوني في ضيوفي وتذلوني لعدم قدرتي على الدفاع عن ضيوفي، وإن إهانتهم إهانة لي، ويطلق لفظ الضيف على المفرد والمثنى والجمع، وقد يثني فيقال : ضيفان ويجمع فيقال : أضياف وضيوف.
﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾. فيه رشد وحكمة وعقل وخير، يقبل ما آمر به، وينهاكم عن المنكر ويهديكم إلى الطريق الأقوم.
قوم لوط
هذه القصة الخامسة من القصص المذكور في هذه السورة، وهي قصة لوط عليه السلام، وقوم لوط : أهل سدوم في الأردن قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط ( ابن أخي إبراهيم ) ؛ فبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة.
وجاء قوم لوط يسرعون إليه، ويتخطون أبواب الدار ؛ رغبة في إتيان الرجال الضيوف في دبرهم، وحاول لوط تذكيرهم وإرشادهم إلى زواج بنتيه، أو إتيان النساء من أفراد قريته ؛ فالنبي أب لأتباعه وسائر النساء بنات له، فهو يرشدهم إلى أن الفطرة السليمة تبحث عن قضاء الوطر مع الطرف الآخر ؛ فقد خلق الله الذكر والأنثى ليستمتع كل واحد بالآخر في حلال ونظافة ونظام، لكن قوم لوط أصموا آذانهم عن سماع نصيحته، وصمموا على فعل الفاحشة اللواط مع ضيوفه، وهنا تمنى لوط لو كانت معه قوة من الرجال تحميه وتنصره، أو أن له ركن شديد يعتمد عليه من أصحاب العصبيات الذين ينصرون الحق.
لقد كان مجيء الملائكة للوط استدراجا لقومه ؛ ليظهروا على حقيقتهم، ويفتضحوا أمام الملائكة، ويضبطوا متلبسين برغبتهم الشاذة، في إتيان الرجال دون النساء، وهذه المثلية الجنسية ظاهرة خطيرة ؛ تستحق عقاب السماء، كما حدث لقوم لوط، حيث أرسل عليهم الخسف، وأمطرتهم السماء بحجارة معلمة ترجمهم وتهلكهم، وهكذا يكون عقاب كل ظالم لم يتنكب الجادة، ويتبع هواه ويتنكر لوحي السماء.
وفي سفر التكوين : إن لوطا عليه السلام ابن هارون أخى إبراهيم عليه السلام، وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما " أور الكلدانيين " في العراق، إلى أرض الكنعانيين، وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في سدوم بالأردن، ويظن بعض الباحثين : أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف، ويقال : إن الباحثين في العصر الحاضر عثروا على آثارها.
المفردات :
من حق : من حاجة.
وإنك لتعلم ما نريد : من إتيان الرجال.
التفسير :
٧٩ ﴿ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴾.
أي : لقد علمت سابقا ألا حاجة لنا في النساء ولا نشتهيهن، فلا فائدة فيما تقول، وليس لنا غرض إلا في الذكور، وأنت تعلم ذلك منا، فأي فائدة من تكرار القول علينا والخلاصة : أنهم صمموا على ما يريدون.
جاء في تفسير فتح القدير، تأليف محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة ١٢٥٠ ه، ٢/٥١٤ :
﴿ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ﴾.
" أي : مالنا من شهوة ولا حاجة ؛ لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق، ومعنى ما نسبوه إليه من العلم : أنه قد علم منهم المطالبة على إتيان الذكور، وشدة الشهوة إليهم، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء " ا ه.
قوم لوط
هذه القصة الخامسة من القصص المذكور في هذه السورة، وهي قصة لوط عليه السلام، وقوم لوط : أهل سدوم في الأردن قال ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط ( ابن أخي إبراهيم ) ؛ فبين القريتين أربع فراسخ، ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم، وكانوا في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة.
وجاء قوم لوط يسرعون إليه، ويتخطون أبواب الدار ؛ رغبة في إتيان الرجال الضيوف في دبرهم، وحاول لوط تذكيرهم وإرشادهم إلى زواج بنتيه، أو إتيان النساء من أفراد قريته ؛ فالنبي أب لأتباعه وسائر النساء بنات له، فهو يرشدهم إلى أن الفطرة السليمة تبحث عن قضاء الوطر مع الطرف الآخر ؛ فقد خلق الله الذكر والأنثى ليستمتع كل واحد بالآخر في حلال ونظافة ونظام، لكن قوم لوط أصموا آذانهم عن سماع نصيحته، وصمموا على فعل الفاحشة اللواط مع ضيوفه، وهنا تمنى لوط لو كانت معه قوة من الرجال تحميه وتنصره، أو أن له ركن شديد يعتمد عليه من أصحاب العصبيات الذين ينصرون الحق.
لقد كان مجيء الملائكة للوط استدراجا لقومه ؛ ليظهروا على حقيقتهم، ويفتضحوا أمام الملائكة، ويضبطوا متلبسين برغبتهم الشاذة، في إتيان الرجال دون النساء، وهذه المثلية الجنسية ظاهرة خطيرة ؛ تستحق عقاب السماء، كما حدث لقوم لوط، حيث أرسل عليهم الخسف، وأمطرتهم السماء بحجارة معلمة ترجمهم وتهلكهم، وهكذا يكون عقاب كل ظالم لم يتنكب الجادة، ويتبع هواه ويتنكر لوحي السماء.
وفي سفر التكوين : إن لوطا عليه السلام ابن هارون أخى إبراهيم عليه السلام، وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما " أور الكلدانيين " في العراق، إلى أرض الكنعانيين، وسكن إبراهيم في أرض كنعان، ولوط في سدوم بالأردن، ويظن بعض الباحثين : أن بحيرة لوط غمر موضعها بعد الخسف، ويقال : إن الباحثين في العصر الحاضر عثروا على آثارها.
المفردات :
لو أن لي بكم قوة : أي : على الدفع بنفسي.
أو آوى إلى ركن شديد : من أرباب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين.
التفسير :
٨٠ ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾.
أي : لو كانت لدي قوة تقاتل معي، أو عشيرة تؤازرني وتنصرني عليكم، وتدفع الشر عني ؛ لكنت قاتلتكم وحلت بينكم وبين ما تريدون.
وفي صحيح البخاري : عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ". ٥٠ يعني : حماية الله تعالى.
﴿ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ٨١ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ٨٢ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ َمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ٨٣ ﴾.
المفردات :
فأسر بأهلك : أي : فسر بأهلك ليلا، يقال : أسرى ليلا، يسري إسراء، وسري ليلا، والسّرى : السير ليلا ؛ ويقال : سار نهارا، يسير سيرا.
بقطع : طائفة أو بقية من الليل.
ولا يلتفت منكم أحد : لا ينظر وراءه ؛ حتى لا يرى عظيم ما ينزل بهم.
إلا امرأتك : فلا تسر بها.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في أعقاب قصة لوط، وفيها تخبر الملائكة لوطا : بأنهم ملائكة من السماء، وأن قومه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأن الله مهلكهم، ومنجيه مع أهله من العذاب.
التفسير :
٨١ ﴿ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ... ﴾ الآية.
أي : قالت الملائكة للوط عليه السلام، عندما رأته مهتما مكروبا، خائفا على أضيافه من عدوان قومه :﴿ إنا رسل ربك ﴾. أي : ملائكة الله أرسلنا من السماء.
﴿ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ﴾. أي : لن يصلوا إليك بسوء ولا إلى ضيوفك، وحينئذ طمس الله عيونهم ؛ فلم يعودوا يبصرون لوطا ومن معه ؛ كما قال تعالى :﴿ ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ﴾. ( القمر : ٣٧ )، فخرج قوم لوط من بيته يتخبطون، لا يعرفون الطريق وصاروا يقولون : النجاء النجاء، إن في بيت لوط قوما سحرة !
﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ ﴾. أي : فاخرج أنت وأهلك في جزء من الليل يكفي لتجاوز حدودها.
قال تعالى :﴿ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيه غير بيت من المسلمين ﴾. ( الذاريات : ٣٥، ٣٦ ).
﴿ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ﴾. ولا ينظر أحد منكم إلى ما وراءه أبدا، أو لا يشتغل بما خلفه من مال أو غيره، قيل : أمروا بذلك ؛ حتى يجدوا في السير قبل نزول العذاب بالظالمين، وقيل : أمروا بالإسراع ؛ اتقاء لرؤية العذاب.
وقد أسرع النبي صلى الله عليه وسلم عندما مر على قرى هالكة، وقال :( لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم ؛ إلا وأنتم مشفقون ؛ خشية أن يصيبكم ما أصابهم )، وجاء في سورة الحجر :﴿ وامضوا حيث تؤمرون ﴾.
﴿ إلا امرأتك ﴾. أي : امض بأهلك إلا امرأتك فلا تأخذها معك ؛ إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب ؛ لأنها كانت كافرة خائنة.
﴿ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ﴾. أي : سينزل بها العذاب الذي سينزل بهؤلاء المجرمين فيهلكها معهم.
﴿ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ﴾. أي : موعد هلاكهم في الصبح، ابتداء من طلوع الفجر، إلى شروق الشمس ؛ كما جاء في سورة الحجر :﴿ فأخذتهم الصيحة مشرقين ﴾. ( الحجر : ٧٣ ).
﴿ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴾. أي : أليس موعد الصبح بموعد قريب ؛ لم يبق له إلا ليلة واحدة ؛ فانج فيها بأهلك.
وقد جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم ؛ لكون النفوس فيه أسكن، والناس فيه مجتمعون لم يتفرقوا إلى أعمالهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في أعقاب قصة لوط
تفيد هذه القصة لهذا النبي الكريم ما يأتي :
١ ـ أن الكريم الشهم الأبي، هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه ؛ لذا قال لوط :﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ﴾ أي : لا تهينوني وتذلوني.
٢ ـ من ألف الفساد والفحش ؛ بعد عن الصلاح والطهر ؛ لذا قال قوم لوط :﴿ ما لنا في بناتك من حق ﴾. أي : حاجة ولا شهوة، وإنما رغبتنا في إتيان الذكور.
٣ ـ لا بأس على المسلم أن يستعين بغيره ؛ لنصره الحق الذي يدعو إليه، ولخذلان الباطل الذي ينهى عنه ؛ فلوط عليه السلام، عندما رأى من قومه الإصرار على الشذوذ، والرغبة في إتيان ضيوفه ؛ تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم، أو يأوي إلى عشيرة أو أتباع مؤمنين، ولا جناح على لوط في ذلك فقد قال تعالى :﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾. ( البقرة : ٢٥١ )، وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه، وفي الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد )، ٥٢ ومعناه : أن معه ملائكة الله، وعون الله الفعال لما يريد، وحين قال لوط : أو ﴿ آوي إلى ركن شديد ﴾. لم يكن لوط قد علم بأن ضيوفه من الملائكة، أو هي خاطرة خطرت ببال لوط ؛ حين رأى نفسه عاجزا عن الدفاع عن ضيوفه، ثم أنقذه الله تعالى ببشارة الملائكة. ٥٣
٤ ـ كان كلام الملائكة متضمنا أنواعا خمسة من البشارات هي :
( أ )أنهم رسل الله.
( ب )أن الكفار لن يصلوا إلى ما هموا به.
( ج )أنه تعالى يهلكهم.
( د )أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب.
( هـ )أن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى.
٥ ـ كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وتضمن العذاب وصفان :
الأول : الخسف وجعل عاليها سافلها.
والآخر : ضربها بحجارة مسومة كالصاروخ الموجه لا يصيب غير الظالمين ؛ بحيث نجى الله المؤمنين، كما نجى القرى المجاورة، وانحصر العذاب في أقوام بأعيانهم، هم أصحاب الشذوذ المنتكسين بفطرتهم في استغناء الرجال بالرجال.
٦ ـ هذا العقاب يصيب الله به كل ظالم، وكل من سلك الشذوذ الجنسي، وفي الحديث الشريف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال، ونساؤهم بالنساء، فإذا كان ذلك ؛ فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ). ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾. ٥٤

تمهيد :
تأتي هذه الآيات في أعقاب قصة لوط، وفيها تخبر الملائكة لوطا : بأنهم ملائكة من السماء، وأن قومه لن يصلوا إلى ما هموا به، وأن الله مهلكهم، ومنجيه مع أهله من العذاب.
المفردات :
أمرنا : عذابنا.
جعلنا عاليها سافلها : أي : قراهم رفعها جبريل في السماء، وأسقطها مقلوبة إلى الأرض.
سجيل : الطين المتحجر.
منضود : وضع بعضه على بعض وأعد لعذابه.
٨٢ ﴿ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا... ﴾ الآية.
أي : فلما جاء أمرنا بالعذاب، وقضاؤنا فيهم بالهلاك ؛ قلبنا قراها كلها وخسفنا بها الأرض، وجعلنا أعلى بيوتهم أسفلها، وهي عقوبة مناسبة لجريمتهم، حيث قلبوا فطرتهم.
وهذا يذكرنا بما تفعله الزلازل، وما حدث في القاهرة من زلزال عام ١٩٩٣ م، حيث تحول أعلى العمارة إلى أسفلها وهلك من كان بداخلها.
﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴾. وأمطرنا عليهم حجارة من طين متحجر، منضود. متتابع في النزول بدون انقطاع، موضوع بعضه على بعض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في أعقاب قصة لوط
تفيد هذه القصة لهذا النبي الكريم ما يأتي :
١ ـ أن الكريم الشهم الأبي، هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه ؛ لذا قال لوط :﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ﴾ أي : لا تهينوني وتذلوني.
٢ ـ من ألف الفساد والفحش ؛ بعد عن الصلاح والطهر ؛ لذا قال قوم لوط :﴿ ما لنا في بناتك من حق ﴾. أي : حاجة ولا شهوة، وإنما رغبتنا في إتيان الذكور.
٣ ـ لا بأس على المسلم أن يستعين بغيره ؛ لنصره الحق الذي يدعو إليه، ولخذلان الباطل الذي ينهى عنه ؛ فلوط عليه السلام، عندما رأى من قومه الإصرار على الشذوذ، والرغبة في إتيان ضيوفه ؛ تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم، أو يأوي إلى عشيرة أو أتباع مؤمنين، ولا جناح على لوط في ذلك فقد قال تعالى :﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾. ( البقرة : ٢٥١ )، وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه، وفي الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد )، ٥٢ ومعناه : أن معه ملائكة الله، وعون الله الفعال لما يريد، وحين قال لوط : أو ﴿ آوي إلى ركن شديد ﴾. لم يكن لوط قد علم بأن ضيوفه من الملائكة، أو هي خاطرة خطرت ببال لوط ؛ حين رأى نفسه عاجزا عن الدفاع عن ضيوفه، ثم أنقذه الله تعالى ببشارة الملائكة. ٥٣
٤ ـ كان كلام الملائكة متضمنا أنواعا خمسة من البشارات هي :
( أ )أنهم رسل الله.
( ب )أن الكفار لن يصلوا إلى ما هموا به.
( ج )أنه تعالى يهلكهم.
( د )أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب.
( هـ )أن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى.
٥ ـ كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وتضمن العذاب وصفان :
الأول : الخسف وجعل عاليها سافلها.
والآخر : ضربها بحجارة مسومة كالصاروخ الموجه لا يصيب غير الظالمين ؛ بحيث نجى الله المؤمنين، كما نجى القرى المجاورة، وانحصر العذاب في أقوام بأعيانهم، هم أصحاب الشذوذ المنتكسين بفطرتهم في استغناء الرجال بالرجال.
٦ ـ هذا العقاب يصيب الله به كل ظالم، وكل من سلك الشذوذ الجنسي، وفي الحديث الشريف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال، ونساؤهم بالنساء، فإذا كان ذلك ؛ فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ). ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾. ٥٤

المفردات :
مسومة : أي : لها " سومة " أو علامة خاصة في علم ربك أو في خزائنه.
التفسير :
٨٣ ﴿ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ َمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾.
أي : معلمة بعلامات من عند ربك، ومعدة إعدادا خاصا ؛ لإهلاك هؤلاء القوم، بحيث لا تصيب غير أهلها، فمن لم يمت بالخسف أو الزلازل، أمطر الله عليه وهو تحت الأرض هذه الحجارة المعينة التي سخرها الله عليهم، وحكمها في إهلاكهم بحيث لا يمنعها شيء ؛ فهذه الحجارة قدر الله الذي لا يرد.
﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾. أي : هذا العذاب وذلك الخسف قريب من كل ظالم، حيث يصيبه الله تعالى على نحو ما، وفي الحديث الشريف : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ". ٥١
وبعض المفسرين يرى أن معنى الآية على النحو الآتي : " وما هذه القرى التي حل بها العذاب بمكان بعيد عنكم، أيها المشركون من أهل مكة، الظالمون لأنفسهم بالكفر والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ بل هي قريبة منكم، على طريقتكم في رحلة الصيف إلى الشام، وإنكم لتمرون عليها في أسفاركم نهارا أو ليلا أفلا تعقلون، وتتدبرون ما نزل بهم ؟ ! ". قال تعالى :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون ﴾. ( الصافات : ١٣٧، ١٣٨ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في أعقاب قصة لوط
تفيد هذه القصة لهذا النبي الكريم ما يأتي :
١ ـ أن الكريم الشهم الأبي، هو الذي يحافظ على كرامة ضيوفه ؛ لذا قال لوط :﴿ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ﴾ أي : لا تهينوني وتذلوني.
٢ ـ من ألف الفساد والفحش ؛ بعد عن الصلاح والطهر ؛ لذا قال قوم لوط :﴿ ما لنا في بناتك من حق ﴾. أي : حاجة ولا شهوة، وإنما رغبتنا في إتيان الذكور.
٣ ـ لا بأس على المسلم أن يستعين بغيره ؛ لنصره الحق الذي يدعو إليه، ولخذلان الباطل الذي ينهى عنه ؛ فلوط عليه السلام، عندما رأى من قومه الإصرار على الشذوذ، والرغبة في إتيان ضيوفه ؛ تمنى لو كانت معه قوة تزجرهم، أو يأوي إلى عشيرة أو أتباع مؤمنين، ولا جناح على لوط في ذلك فقد قال تعالى :﴿ ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾. ( البقرة : ٢٥١ )، وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار نصرته حتى يبلغ كلام ربه، وفي الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( رحم الله لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد )، ٥٢ ومعناه : أن معه ملائكة الله، وعون الله الفعال لما يريد، وحين قال لوط : أو ﴿ آوي إلى ركن شديد ﴾. لم يكن لوط قد علم بأن ضيوفه من الملائكة، أو هي خاطرة خطرت ببال لوط ؛ حين رأى نفسه عاجزا عن الدفاع عن ضيوفه، ثم أنقذه الله تعالى ببشارة الملائكة. ٥٣
٤ ـ كان كلام الملائكة متضمنا أنواعا خمسة من البشارات هي :
( أ )أنهم رسل الله.
( ب )أن الكفار لن يصلوا إلى ما هموا به.
( ج )أنه تعالى يهلكهم.
( د )أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب.
( هـ )أن ركنه شديد، وأن ناصره هو الله تعالى.
٥ ـ كان إهلاك قوم لوط ما بين طلوع الفجر إلى شروق الشمس، وتضمن العذاب وصفان :
الأول : الخسف وجعل عاليها سافلها.
والآخر : ضربها بحجارة مسومة كالصاروخ الموجه لا يصيب غير الظالمين ؛ بحيث نجى الله المؤمنين، كما نجى القرى المجاورة، وانحصر العذاب في أقوام بأعيانهم، هم أصحاب الشذوذ المنتكسين بفطرتهم في استغناء الرجال بالرجال.
٦ ـ هذا العقاب يصيب الله به كل ظالم، وكل من سلك الشذوذ الجنسي، وفي الحديث الشريف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( سيكون في آخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال، ونساؤهم بالنساء، فإذا كان ذلك ؛ فارتقبوا عذاب قوم لوط، أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ). ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما هي من الظالمين ببعيد ﴾. ٥٤

﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ٨٤ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٥ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ٨٦ ﴾.
المفردات :
وإلى مدين : أراد : أولاد مدين بن إبراهيم.
عذاب يوم محيط : أي : لا يشذ منه أحد.
شعيب
قصة شعيب مع أهل مدين هي القصة السادسة في سورة هود ؛ تقدمت عليها قصة نوح مع قومه، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة إبراهيم، وقصة لوط.
وقصة شعيب تسير كما سارت قصص الرسل من قبله ؛ دعوة إلى الإيمان بالله، تحذير من تطفيف الكيل والميزان، معارضة من قومه ؛ فهم يعبدون الأشجار الكثيفة، ويثمرون أموالهم بالحق والباطل، ويسيرون حسب أهوائهم، وشعيب رسول قوي الحجة، واضح البيان، له في قومه سند، وعشيرة، ورهط قوي يدافع عنه ؛ لكنه يعتز بأنه رسول الله، مبلغ عن دعوة الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا ؛ قال :( ذلك خطيب الأنبياء ) ؛ لحسن مراجعته لقومه وقوة حجته.
ومدين : اسم القبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم عليه السلام، وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى :" معان " وتقع بين حدود الحجاز والشام، والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية " معان " وكان يسكنها بعض الناس ؛ فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.
وقد أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده، ونهاهم عن تطفيف الكيل وعن الخيانة وسوء الأخلاق، وناقشه قومه ؛ فوضح لهم دعوته، وأسبابها وأهدافها ؛ فتعنت قومه وكفروا وجحدوا ؛ فأنذرهم شعيب بالعذاب ؛ فأخذتهم الرجفة، والصيحة، وعذاب يوم الظلة ـ أي : السحابة ـ وكل عذاب كان كالمقدمة للآخر.
التفسير :
٨٤ ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ﴾ الآية.
أي : وما أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم في النسب والقبيلة، وهو شعيب عليه السلام، وكانوا أهل كفر وجشع وطمع، لا يوفون الحقوق، ولا يحفظون الأمانات ؛ فدعاهم أولا إلى الإيمان بالله تعالى، فهو الإله وحده ولا يستحق العبادة سواه.
وقد جرت عادة الأنبياء أن يبدءوا قومهم بالدعوة توحيد الله تعالى ؛ لأن الإيمان بالله أصل الفضائل ؛ فهو الذي يمنح الإنسان مراقبة الله، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه، ثم نهاهم شعيب عن تطفيف الكيل والميزان ؛ فقال :
﴿ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾. أي : لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم، وهذا النقص يكون من جهتين.
الأولى : عند البيع بأن يجعلوا المكيال ناقصا، ويسمى : تطفيف الكيل ؛ لأنه لا يكاد يسرق من البائع له إلا الشيء الطفيف.
الثانية : عند الشراء، بأن يأخذوا من غيرهم أكثر من حقهم فتجد عند التاجر مكيالان يبيع بأحدهما، وهو الناقص، ويشترى بالآخر وهو الزائد، وفي هؤلاء قال تعالى :﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ*أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾. ( المطففين : ١ ٥ ).
﴿ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ ﴾. إنكم من نعمة الله وعافية، وأرزاق كثيرة، وأرض طيبة، وأشجار وارفة، وثروة كبيرة، ورفاه في المعيشة ؛ تغنيكم عن الطمع والدناءة ؛ في بخس الناس حقوقهم.
﴿ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴾. وإني أخشى عليكم عذاب يوم يحيط بكم جميعا ؛ فلا يترك أحدا منكم، وهو إما عذاب الاستئصال في الدنيا، وإما عذاب الآخرة في جهنم، قال تعالى :﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾. ( التوبة : ٤٩ ).
شعيب
قصة شعيب مع أهل مدين هي القصة السادسة في سورة هود ؛ تقدمت عليها قصة نوح مع قومه، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة إبراهيم، وقصة لوط.
وقصة شعيب تسير كما سارت قصص الرسل من قبله ؛ دعوة إلى الإيمان بالله، تحذير من تطفيف الكيل والميزان، معارضة من قومه ؛ فهم يعبدون الأشجار الكثيفة، ويثمرون أموالهم بالحق والباطل، ويسيرون حسب أهوائهم، وشعيب رسول قوي الحجة، واضح البيان، له في قومه سند، وعشيرة، ورهط قوي يدافع عنه ؛ لكنه يعتز بأنه رسول الله، مبلغ عن دعوة الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا ؛ قال :( ذلك خطيب الأنبياء ) ؛ لحسن مراجعته لقومه وقوة حجته.
ومدين : اسم القبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم عليه السلام، وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى :" معان " وتقع بين حدود الحجاز والشام، والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية " معان " وكان يسكنها بعض الناس ؛ فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.
وقد أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده، ونهاهم عن تطفيف الكيل وعن الخيانة وسوء الأخلاق، وناقشه قومه ؛ فوضح لهم دعوته، وأسبابها وأهدافها ؛ فتعنت قومه وكفروا وجحدوا ؛ فأنذرهم شعيب بالعذاب ؛ فأخذتهم الرجفة، والصيحة، وعذاب يوم الظلة ـ أي : السحابة ـ وكل عذاب كان كالمقدمة للآخر.
المفردات :
ولا تبخسوا : ولا تنقصوا.
ولا تعثوا : ولا تفسدوا.
التفسير :
٨٥ ﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ... ﴾ الآية.
كرر نصيحتهم ودعوتهم إلى وفاء المكيال والميزان بالعدل، بلا زيادة أو نقصان.
﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ﴾. البخس : النقص والظلم والجور أي : إياكم والظلم والجور في حقوق الناس.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾. العثو : الفساد التام ؛ وقد كانوا يقطعون الطريق، ويمنعون الناس من الإيمان بشعيب، ويحاولون تضليل المؤمنين، وصدهم عن الإيمان.
والعثو في الأرض بالفساد، يشمل جميع أنواع الإفساد والعدوان، كقطع الطريق، وتهديد الأمن، وقطع الشجر، وقتل الحيوان، وسائر ألوان العدوان.
وقد ذكرت سورة الأعراف جانبا من ذلك في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾. ( الأعراف : ٨٦ ).
شعيب
قصة شعيب مع أهل مدين هي القصة السادسة في سورة هود ؛ تقدمت عليها قصة نوح مع قومه، وقصة هود، وقصة صالح، وقصة إبراهيم، وقصة لوط.
وقصة شعيب تسير كما سارت قصص الرسل من قبله ؛ دعوة إلى الإيمان بالله، تحذير من تطفيف الكيل والميزان، معارضة من قومه ؛ فهم يعبدون الأشجار الكثيفة، ويثمرون أموالهم بالحق والباطل، ويسيرون حسب أهوائهم، وشعيب رسول قوي الحجة، واضح البيان، له في قومه سند، وعشيرة، ورهط قوي يدافع عنه ؛ لكنه يعتز بأنه رسول الله، مبلغ عن دعوة الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا ؛ قال :( ذلك خطيب الأنبياء ) ؛ لحسن مراجعته لقومه وقوة حجته.
ومدين : اسم القبيلة التي تنسب إلى مدين بن إبراهيم عليه السلام، وكانوا يسكنون في المنطقة التي تسمى :" معان " وتقع بين حدود الحجاز والشام، والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية " معان " وكان يسكنها بعض الناس ؛ فأرسل الله شعيبا إليهم جميعا.
وقد أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده، ونهاهم عن تطفيف الكيل وعن الخيانة وسوء الأخلاق، وناقشه قومه ؛ فوضح لهم دعوته، وأسبابها وأهدافها ؛ فتعنت قومه وكفروا وجحدوا ؛ فأنذرهم شعيب بالعذاب ؛ فأخذتهم الرجفة، والصيحة، وعذاب يوم الظلة ـ أي : السحابة ـ وكل عذاب كان كالمقدمة للآخر.
المفردات :
بقية الله : ما أبقاه الله لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم.
بحفيظ : أحفظكم من القبائح، أو رقيب أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها ؛ وإنما أنا نذير ناصح مبلغ، وقد أعذرت حين أنذرت
التفسير :
٨٦ ﴿ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ... ﴾ الآية.
أي : ما يبقى لكم من الربح الحلال، بعد إيفاء المكيال والميزان، خير لكم من الحرام، وأكثر بركة وأرجى عاقبة، مما تأخذونه بطريق الحرام ؛ بشرط أن تكونوا مؤمنين بالله حق الإيمان ؛ فالإيمان بالله يطهر النفس من الطمع والجشع، ويحفزها على العدل في المكيال والميزان والتزام الحق، والبعد عن الباطل.
﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾. لست رقيبا عليكم، ولا محاسبا لكم على أعمالكم، ولا أملك حفظكم من تطفيف الكيل، وإنما أنا ناصح أمين، وقبول النصيحة يتوقف على إرادتكم ورغبتكم ؛ فالرسل عليها تبليغ النصيحة، وإبراء الذمة والتبعة، وعلى كل إنسان مسئولية الاختيار، قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾. ( الشمس : ٧١٠ ).
﴿ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ٨٧ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم٨٨ بِبَعِيدٍ ٨٩ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ٩٠ ﴾.
المفردات :
أصلاتك : جمع صلاة، وكان شعيب كثير الصلاة، وقصدوا : الاستهزاء بصلاته.
الحليم : ذو الأناة والتروي الذي لا يتعجل بأمر قبل الثقة من فائدته.
الرشيد : الذي لا يأمر إلا بما استبان له من الخير والرشد.
تمهيد :
تقدمت دعوة شعيب لقومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ثم نهاهم عن تطفيف الكيل والميزان، وهنا يذكر رد قومه عليه، فردوا على دعوته إلى التوحيد : بأنهم على دين آبائهم، وردوا على نهيه عن تطفيف الكيل : بأنهم حريصون على تثمير أموالهم وزيادتها بالطرق التي تعودوا عليها، لا بأهواء شعيب.
ثم أعاد شعيب النصح لهم ؛ بتذكيرهم بما أصاب الأمم السابقة من العذاب، وبدعوته لهم إلى التوبة والإنابة إلى الله ؛ فإنه واسع الرحمة والعطاء لمن أناب إليه.
التفسير :
٨٧ ﴿ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا... ﴾ الآية.
أي : قالوا مستهزئين به ؛ لكثرة صلاته وعبادته : هل صلاتك تأمرك بترك عبادة الآباء والأجداد، كما يقال لعالم الدين المصلح، هل علمك أو مشيختك دافع لك إلى ترك ما نحن عليه ؟ !
﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء ﴾. من إتمام الكيل والميزان، وإخراج الزكاة، وترك الأرباح التي كنا نحصل عليها ؟
أي : أن ما أمرتنا به مناف لسياسة تنمية المال وتكثيره ؛ وذلك حجر على حريتنا الاقتصادية.
والخلاصة : أن ردهم على شعيب في الأمرين تضمن رفضهم للتوحيد، وإصرارهم على تثمير الأموال بالطرق العديدة المحرمة.
﴿ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾. أي : أنت صاحب الحلم والتروي والتعقل ؛ فكيف تأمرنا بما أمرتنا به ؟ !
وقيل : المعنى : التهكم به، والمراد : أنت ذو الجهالة والسفاهة في الرأي، والغواية في الفعل، بهوس الصلاة، لكنهم عكسوا القضية ؛ تهكما واستهزاء ؛ كما يقال للبخيل :( لو رآك حاتم لاقتدى بك في سخائك ).
تمهيد :
تقدمت دعوة شعيب لقومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ثم نهاهم عن تطفيف الكيل والميزان، وهنا يذكر رد قومه عليه، فردوا على دعوته إلى التوحيد : بأنهم على دين آبائهم، وردوا على نهيه عن تطفيف الكيل : بأنهم حريصون على تثمير أموالهم وزيادتها بالطرق التي تعودوا عليها، لا بأهواء شعيب.
ثم أعاد شعيب النصح لهم ؛ بتذكيرهم بما أصاب الأمم السابقة من العذاب، وبدعوته لهم إلى التوبة والإنابة إلى الله ؛ فإنه واسع الرحمة والعطاء لمن أناب إليه.
المفردات :
أرئيتم : أخبروني.
بينة : حجة واضحة.
ورزقني منه رزقا حسنا : ومنحني من لدنه النبوة والحكمة، وغمرني بنعمه الكثيرة.
أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه : أن أخالفكم إلى فعل ما أنهاكم عنه.
وإليه أنيب : وإلى الله أرجع.
التفسير :
٨٨ ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي... ﴾
أي : أخبروني : إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العلم والنبوة، وكنت على حجة واضحة، وبصيرة مستنيرة ؛ منحنى إياها ربي.
﴿ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾. أي : مالا حلالا مكتسبا بلا بخس وتطفيف أو الرزق الحسن : الحكمة، والنبوة والاستقامة على التوحيد، والهداية إلى الصراط المستقيم.
وحذف جواب ﴿ أرئيتم ﴾. لما دل عليه في مثله وتقديره : هل يصح لي أن أخون الوحي، وأترك النهى عن الشرك والظلم، والإصلاح بالتزكية و التحلية.
﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾.
أي : وما أريد أن آتى ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم، فلو كان صوابا لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلا عن أن أنهى عنه. ٥٥
وقال قتادة : لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه.
وقال الثوري : أي : لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم. ٥٦
﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾. أي : ما أريد في تبليغ الرسالة، ومحاربة المنكر : إلا إصلاح نفوسكم بالتزكية، والتهيئة لقبول الحكمة، ما دمت مستطيعا متمكنا منه.
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ ﴾. وما توفيقي لإصابة ذلك فيما أستطيعه منه إلا بحول الله، وقوته، وفضله، ومعونته، وأعلاها ما خصني الله به دونكم من نبوته ورسالته. ٥٧
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾. في أداء ما كلفني من تبليغكم ما أرسلت به، لا على حولي وقوتي.
﴿ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾. أي : وإليه وحده أرجع في كل ما نابني من الأمور في الدنيا، وإلى الجزاء على أعمالي في الآخرة، فأنا لا أرجو منكم أجرا، ولا أخاف منكم ضرا.
وجاء في تفسير ابن كثير عند تفسير هذه الآية ما يأتي :
روى الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا سمعتم الحديث عنى تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب ؛ فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه بعيد. فأنا أبعدكم منه ).
تمهيد :
تقدمت دعوة شعيب لقومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ثم نهاهم عن تطفيف الكيل والميزان، وهنا يذكر رد قومه عليه، فردوا على دعوته إلى التوحيد : بأنهم على دين آبائهم، وردوا على نهيه عن تطفيف الكيل : بأنهم حريصون على تثمير أموالهم وزيادتها بالطرق التي تعودوا عليها، لا بأهواء شعيب.
ثم أعاد شعيب النصح لهم ؛ بتذكيرهم بما أصاب الأمم السابقة من العذاب، وبدعوته لهم إلى التوبة والإنابة إلى الله ؛ فإنه واسع الرحمة والعطاء لمن أناب إليه.
المفردات :
لا يجرمنكم : جرم الذنب أو المال : كسبه، أي لا يكسبنكم خلافي الشديد معكم ومعاداتي.
ما أصاب قوم نوح : من الغرق.
أو قوم هود : من الريح.
أو قوم صالح : من الرجفة.
وما قوم لوط منكم ببعيد : أي : أنتم حديثو عهد بما نزل بهم.
التفسير :
٨٩ ﴿ وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾.
أي : لا تحملنكم عداوتي وبغضي، على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد ؛ فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح من النقمة، والعذاب. ٥٨
﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾.
أي : إذا كنتم لم تتعظوا بما أصاب قوم نوح من غرق، وبما أصاب قوم هود من ريح دمرتهم، وبما أصاب قوم صالح من صيحة أهلكتهم، فاتعظوا بما أصاب قوم لوط من الهلاك ؛ وهم ليسوا بعيدين عنكم لا في الزمان ولا في المكان.
فزمن لوط عليه السلام غير بعيد من زمن شعيب عليه السلام، وديار قوم لوط قريبة من ديار قوم شعيب ؛ إذ منازل مدين عند آيلة بجوار معان مما يلي الحجاز، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت. ٥٩
تمهيد :
تقدمت دعوة شعيب لقومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، ثم نهاهم عن تطفيف الكيل والميزان، وهنا يذكر رد قومه عليه، فردوا على دعوته إلى التوحيد : بأنهم على دين آبائهم، وردوا على نهيه عن تطفيف الكيل : بأنهم حريصون على تثمير أموالهم وزيادتها بالطرق التي تعودوا عليها، لا بأهواء شعيب.
ثم أعاد شعيب النصح لهم ؛ بتذكيرهم بما أصاب الأمم السابقة من العذاب، وبدعوته لهم إلى التوبة والإنابة إلى الله ؛ فإنه واسع الرحمة والعطاء لمن أناب إليه.
المفردات :
إن ربي رحيم : عظيم الرحمة للمستغفرين.
ودود : كثير اللطف والإحسان إليهم.
التفسير :
٩٠ ﴿ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ... ﴾
أي : اطلبوا منه المغفرة لما أنتم عليه من الشرك والمعاصي، ﴿ وتوبوا إليه ﴾. بالتوحيد أو الرجوع عن تطفيف الكيل والميزان.
﴿ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾. فهو سبحانه واسع الرحمة والمغفرة، عظيم المودة والقبول للتائبين والراجعين إليه، فما أعظم فضله، وما أوسع باب رحمته ! وصدق الله العظيم :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾. ( الزمر : ٥٢ ).
﴿ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ٩١ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ٩٢ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ٩٣ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٩٤ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ٩٥ ﴾.
المفردات :
ما نفقه كثيرا مما تقول : ما نفهم مرادك، والفقه : الفهم الدقيق المؤثر في النفس.
رهطك : رهط الرجل : قومه وقبيلته، والرهط : الجماعة من الرجال خاصة، من ثلاثة إلى تسعة.
لرجمناك : لقتلناك بالرمي بالحجارة.
بعزيز : بذي عزة ومنعة.
التفسير :
٩١ ﴿ قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ... ﴾ الآية.
حاول شعيب بيان دعوته وإصلاح قبيلته ؛ وبين لهم بالحجة، والموعظة الحسنة : الدعوة إلى عبادة الله، وعدم تطفيف الكيل والميزان ؛ لكن قومه رفضوا دعوته، وادعوا : أنها غريبة عليهم ثقيلة على مسامعهم، خافية في فهمها على عقولهم، ومرادهم بذلك : الاستهانة بها، والإعراض عنها، ولما عجزوا عن محاجته هددوه باستعمال القوة حين قالوا : أي :﴿ وإنا لنراك فينا ضعيفا ﴾. أي : لا قوة لك ولا قدرة على شيء من النفع والضر، ولا تستطيع أن تمتنع منا ؛ إن أردنا أن نبطش بك.
﴿ وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾. أي : ولولا عشيرتك الأقربون ؛ لقتلناك رجما بالحجارة، ولكن مجاملتنا لعشيرتك هي التي منعتنا من ذلك.
﴿ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز ﴾. وما أنت بذي عزة ومنعة، تحول بيننا وبين رجمك بالحجارة.
المفردات :
واتخذتموه وراءكم ظهريا : تركتموه وراء ظهوركم، والمراد : أعرضتم عنه ونسيتموه.
محيط : أحاط علمه بكل شيء وأحصاه ؛ فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
التفسير :
٩٢ ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ... ﴾
أي : أتتركوني من أجل قومي، ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى، الذي خلقكم ورزقكم، وأرسل إليكم رسولا منكم ؟ ! وإهانة هذا النبي أو رجمه يؤدي إلى هلاككم.
﴿ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا ﴾. أي : واستخففتم بربكم فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تطيعون أمره، ولا تخافون عقابه، ولا تعظمونه حق التعظيم.
﴿ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾. إن ربي مطلع على أعمالكم، ولا يخفى عليه شيء من أفعالكم، وسيجازيكم عليها، وأما رهطي فلا يستطيعون لكم ضرا ونفعا.
المفردات :
اعملوا على مكانتكم : على غاية تمكنكم من أمركم ؛ وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، يقال : مكن مكانة ؛ إذا تمكن أبلغ تمكن.
وارتقبوا : وانتظروا عاقبة ما أقول.
التفسير :
٩٣ ﴿ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ... ﴾ الآية.
أي : اعملوا ما شئتم بقدر استطاعتكم وتمكنكم، وابذلوا جهدا في عداوتي ؛ فإن ذلك لن يثنيني عن دعوتي ويقيني بربي وخالقي.
﴿ إِنِّي عَامِلٌ ﴾. على مكانتي، على قدر ما يؤيدني به ربي، من وسائل التأييد والتوفيق.
﴿ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ﴾. أي : سوف تشاهدون وتعلمون علم اليقين : من الذي سيأتيه عذاب يذله ويخزيه بالهوان والمذلة، وأنا أم أنتم، ومن هو كاذب في قوله، ومن هو صادق مني ومنكم.
﴿ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾. أي : انتظروا عاقبة تكذيبكم وسوء أفعالكم ؛ إني منتظر عاقبة أمركم ومراقب لها، وفيه ألوان من التهديد والوعيد من رسول الله واثق بنصر الله، وهلاك المكذبين.
المفردات :
الصيحة : صيحة العذاب.
جاثمين : باركين على الركب، من الجثوم، وهو للناس بمنزلة البروك للإبل.
التفسير :
٩٤ ﴿ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا... ﴾
أي : ولما جاء أمرنا بعذابهم، نجينا رسولنا شعيبا والذين معه، فصدقوه وفازوا بالإيمان الصادق والطاعة الخالصة، وفازوا بالنجاة من الهلاك ؛ برحمة خاصة بهم.
﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾. أي : صاح بهم جبريل صيحة نزلت بهم فأهلكهم ؛ فأصبحوا من شدة الرعب جاثمين على ركبهم، هالكين لا حراك بهم.
قال ابن كثير :
ذكر هاهنا : أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف : رجفة، وفي الشعراء : عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة ؛ اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ؛ ففي الأعراف لما قالوا :﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا... ﴾ ناسب أن يذكر هناك الرجفة، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأردوا : إخراج نبيهم منها، وهاهنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ؛ ذكر الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا :﴿ فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ﴾. قال :﴿ فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ﴾.
وهذا من الأسرار الدقيقة، ولله الحمد كثيرا دائما. ٦٠
المفردات :
كأن لم يغنوا فيها : كأن لم يقيموا فيها، يقال : غنى بالمكان يغني، أي : أقام به وعاش في نعمة ورغد.
ألا بعدا : ألا هلاكا.
التفسير
٩٥ ﴿ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ﴾. كأنهم لم يقيموا فيها متصرفين في أطرافها، متقلبين في خيراتها.
﴿ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾. أي : هلاكا لهم، وبعدا من رحمة الله، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته، " وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار، وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا عربا مثلهم ". ٦١
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ٩٦ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ٩٧ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ٩٨ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ٩٩ ﴾.
المفردات :
بآياتنا : هي الآيات التسع التي أعطاها الله لموسى عليه السلام معجزة دالة على صدقه، والمذكورة في سورة الأعراف/١٣٣، الإسراء/١٠١، النمل /١٢.
وسلطان مبين : حجة بالغة ودليل قاطع بصدق رسالته.
تمهيد :
ساقت السورة في طياتها جانبا كبيرا من القصص حسب التسلسل التاريخي ـ فذكرت قصة نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، وأخيرا هنا نجد قصة موسى مع فرعون.
وموسى عليه السلام هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب، ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالي القرن ١٣ ق. م ؛ وأن بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس.
التفسير :
٩٦ ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾.
أي : تالله لقد أرسلنا موسى بالآيات والمعجزات التسع الباهرة، الدالة على توحيد الله، وفيها السلطان الواضح الجلي، أي : الدلالة القاطعة المؤيدة بالحس المشاهد، على صدق رسالته.
الآيات التسع
الآيات التسع هي :
١ العصا تبتلع حبال السحرة.
٢ اليد يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء بياضا يغلب ضوء الشمس.
٣ الطوفان. ٤ الجراد. ٥ القمل. ٦ الضفادع. ٧ الدم.
قال تعالى :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ﴾. ( الأعراف : ١٣٣ ).
٨ ٩ الأخذ بالسنين، والنقص في الثمرات، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ ( الأعراف : ١٣٠ ).
ومن المفسرين من أبدل بنقص الثمرات والأنفس : إظلال الجبل، وفلق البحر.
﴿ وسلطان مبين ﴾. كما أيدناه بالحجج البالغة، والبيان الساطع أثناء دعوته إلى الإيمان، حين قال فرعون :
﴿ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ﴾. ( طه : ٤٩ ٥٤ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي ختام هذه القصة نجد عبرة وعظة تتمثل في الآتي :
١ ـ وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ؛ فكل نبي قال لقومه :﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾.
٢ ـ الناس في كل زمان فيهم الأخيار الذين يتبعون الرسل، وفيهم الأشرار الذين يحاربون الحق.
٣ ـ العاقبة للمتقين والنجاة للمؤمنين والهلاك للكافرين.

تمهيد :
ساقت السورة في طياتها جانبا كبيرا من القصص حسب التسلسل التاريخي ـ فذكرت قصة نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، وأخيرا هنا نجد قصة موسى مع فرعون.
وموسى عليه السلام هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب، ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالي القرن ١٣ ق. م ؛ وأن بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس.
المفردات :
و ملئه : وأشراف قومه الذين يملئون العين مهابة.
التفسير :
٩٧ ﴿ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ... ﴾ الآية.
أي : أرسلنا موسى إلى فرعون وسادات قومه، وخصهم بالذكر ؛ لأن الأمر بيدهم، ولأنهم كونوا مع فرعون قوة قادرة مهيمنة جبارة ؛ ترفض الإيمان، وتغرى الأتباع أن يكفروا بموسى ورسالته، ويتبعون فرعون مع جهله وبطشه، وسوء سلوكه، حيث جعل من نفسه إلها، وظلم وتجبر، ثم شايعه قومه واتبعوا أمره.
﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾. أي : ما شأنه وتصرفه بذي رشد وهدى ؛ بل محض الغي والضلال، والظلم والفساد، في غروره بنفسه كفره بربه، وطغيانه في حكمه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي ختام هذه القصة نجد عبرة وعظة تتمثل في الآتي :
١ ـ وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ؛ فكل نبي قال لقومه :﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾.
٢ ـ الناس في كل زمان فيهم الأخيار الذين يتبعون الرسل، وفيهم الأشرار الذين يحاربون الحق.
٣ ـ العاقبة للمتقين والنجاة للمؤمنين والهلاك للكافرين.

تمهيد :
ساقت السورة في طياتها جانبا كبيرا من القصص حسب التسلسل التاريخي ـ فذكرت قصة نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، وأخيرا هنا نجد قصة موسى مع فرعون.
وموسى عليه السلام هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب، ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالي القرن ١٣ ق. م ؛ وأن بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس.
المفردات :
يقدم قومه : يتقدمهم ويسير أمامهم إلى النار.
فأوردهم النار : تسبب في دخولهم إلى النار.
وبئس الورد المورود : وبئس المكان الذي يردونه النار
التفسير :
٩٨ ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾.
لقد كان يقودهم في الدنيا، ويتبعونه مع ظلمه وبطشه وكفره، وكأن الله تعالى يقول لهم، خلقت لكم عقولا وإرادة وكسبا واختيارا، فألغيتم عقولكم، وسرتم وراء فرعون الظالم في الدنيا، وجعلتموه متقدما عليكم، وأنتم تابعون له، فإذا كان يوم القيامة، فإنه يتقدم عليكم ؛ ليصل إلى النار فيدخلها، وتدخلون وراءه إلى النار.
جاء في ظلال القرآن :
﴿ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ﴾. أوردهم كما يورد الراعي الغنم، ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير ؟ ! ألم يتنازلوا عن أخص خصائص الآدمية وهي حرية الإرادة والاختيار ؟ !
﴿ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾. أي : بئس الورد الذي يردونه : النار ؛ لأن الورد وهو النصيب من الماء إنما يراد ؛ لتسكين الظمأ، وتبريد الكبد، والنار على الضد من ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي ختام هذه القصة نجد عبرة وعظة تتمثل في الآتي :
١ ـ وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ؛ فكل نبي قال لقومه :﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾.
٢ ـ الناس في كل زمان فيهم الأخيار الذين يتبعون الرسل، وفيهم الأشرار الذين يحاربون الحق.
٣ ـ العاقبة للمتقين والنجاة للمؤمنين والهلاك للكافرين.

تمهيد :
ساقت السورة في طياتها جانبا كبيرا من القصص حسب التسلسل التاريخي ـ فذكرت قصة نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، وأخيرا هنا نجد قصة موسى مع فرعون.
وموسى عليه السلام هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب، ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت في حوالي القرن ١٣ ق. م ؛ وأن بعثته كانت في عهد منفتاح بن رمسيس.
المفردات :
واتبعوا في هذه الدنيا لعنة : أي : وجعلت اللعنة تتبعهم.
بئس الرفد المرفود : بئس العون المعان أو العطاء المعطى، والمخصوص بالذم محذوف، أي : رفدهم، وهو اللعنة في الدّارين.
التفسير :
٩٩ ﴿ وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ﴾.
أي : واستحق آل فرعون اللعنة في الدنيا ؛ بسبب كفرهم وإيثارهم العاجل على الآجل ؛ وأما يوم القيامة فإن الله يطردهم من رحمته، ويحرمهم من جنته ورفده وعطائه ؛ فبئس العطاء عطاؤهم، وبئس الجزاء جزاؤهم ؛ حيث يقول سبحانه :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾. ( محمد : ١٥ ).
وسمى ذلك : رفدا وعطاء ؛ تهكما بهم، فالإنسان ينتظر العطاء ؛ لينعم به، ولكن هؤلاء يعطون الحميم والغسلين، وتنزل عليهم اللعنة في الدنيا والآخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي ختام هذه القصة نجد عبرة وعظة تتمثل في الآتي :
١ ـ وحدة العقيدة في دعوة الأنبياء جميعا ؛ فكل نبي قال لقومه :﴿ اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾.
٢ ـ الناس في كل زمان فيهم الأخيار الذين يتبعون الرسل، وفيهم الأشرار الذين يحاربون الحق.
٣ ـ العاقبة للمتقين والنجاة للمؤمنين والهلاك للكافرين.

﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ١٠٠ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ١٠١ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ١٠٢ ﴾.
المفردات :
ذلك : النبأ المذكور سابقا.
من أنباء القرى : المهلكة.
قائم : منها باق : كالزرع القائم، وهلك أهله دونه.
وحصيد : أي : ومن القرى ما زال أثره وهلك بأهله ؛ فلا أثر له كالزرع المحصود بالمناجل.
تمهيد :
ذكر الله تعالى في هذه السورة قصص الأنبياء مع الأمم السابقة في ترتيب بديع، وتنسيق للحوار والمواقف، وبيان لجهاد الرسل وتكذيب أقوامهم وقد مر بنا ذكر سبع منه هذه القصص : قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليهم السلام.
ثم تأتي هذه الآيات لبيان عاقبة الظالمين وسنن الله في نصر المؤمنين، وإهلاك المكذبين.
التفسير :
١٠٠ ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾.
هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة من أخبار الأمم السابقة، وأنباء القرى المهلكة.
منها. من هذه القرى المهلكة ما هو قائم على عروشه ومبانيه ؛ فلا زالت آثارها قائمة يراها الناظر إليها كآثار قوم ثمود، ومن هذه القرى ما انطمرت معالمه، وعقت آثاره، وصارت كالزرع المحصود الذي استؤصل بقطعه، فلم تبق منه باقية، كقرى قوم نوح وقوم لوط.
تمهيد :
ذكر الله تعالى في هذه السورة قصص الأنبياء مع الأمم السابقة في ترتيب بديع، وتنسيق للحوار والمواقف، وبيان لجهاد الرسل وتكذيب أقوامهم وقد مر بنا ذكر سبع منه هذه القصص : قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليهم السلام.
ثم تأتي هذه الآيات لبيان عاقبة الظالمين وسنن الله في نصر المؤمنين، وإهلاك المكذبين.
المفردات :
تتبيب : إهلاك وتخسير، يقال : تب، يتب، تبا : هلك، وتببه تتبيبا : أهلكه.
التفسير :
١٠١ ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ... ﴾ الآية.
أي : أن الله لم يظلم هذه القرى المهلكة، ولم يهلكهم بدون وجه حق، بل هم الذين ظلموا أنفسهم ؛ فساروا وراء شهواتهم، وكذبوا رسل الله وأنبياءه، وتجاوزوا الحق والعدل ؛ في شركهم وعبادتهم للأصنام والأوثان، فاستحقوا الهلاك والعقاب.
﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ ﴾. فما دفعت عنهم آلهتهم العذاب، ولم تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله شيئا من النفع، بل هي لم تنفع نفسها ؛ فقد اندثرت معهم كما اندثروا.
﴿ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ ﴾. لما جاء عذابه وهلاكه، وأصبحوا في مسيس الحاجة إلى نفع هذه الأصنام وشفاعتها ؛ لم يجدوا منها جلب منفعة ولا دفع مضرة.
﴿ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾. أي : وما زادتهم الأصنام التي كانوا يعبدونها ؛ إلا هلاكا وخسرانا، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع.
تمهيد :
ذكر الله تعالى في هذه السورة قصص الأنبياء مع الأمم السابقة في ترتيب بديع، وتنسيق للحوار والمواقف، وبيان لجهاد الرسل وتكذيب أقوامهم وقد مر بنا ذكر سبع منه هذه القصص : قصة نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى عليهم السلام.
ثم تأتي هذه الآيات لبيان عاقبة الظالمين وسنن الله في نصر المؤمنين، وإهلاك المكذبين.
المفردات :
أخذ ربك : إهلاك ربك إياهم.
أليم شديد : شديد الإيلام، غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التحذير والتهديد.
التفسير :
١٠٢ ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾.
أي : ومثل ذلك الأخذ بالعذاب الذي مر بيانه، وكما أهلكنا القرى الظالمة الذين ظلموا رسل الله وأنبياءه، كذلك نفعل بأشباههم فنهلك الظالمين ؛ تطهيرا للأرض من الظلم والعدوان.
﴿ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾. إن عقاب الله وجيع مؤلم لا يرجى منه الخلاص، وهو إنذار وتحذير من سوء عاقبة الظلم.
جاء في تفسير ابن كثير ما يأتي :
روى الشيخان : عن أبي موسى الأشعري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم٦٢ حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ١٠٣ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ١٠٤ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ١٠٥ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ١٠٦ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ١٠٧ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ١٠٨ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ١٠٩ ﴾.
المفردات :
لآية : لعبرة وعظة.
خاف عذاب الآخرة : أي : يعتبر بتلك القصص من خاف عذاب الآخرة.
مجموع له الناس : يجمع له الناس للحساب والجزاء.
مشهود : كثير شاهده من الملائكة والرسل وسائر البشر.
التفسير :
١٠٣ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ... ﴾ الآية.
إن في هذا الذي من قصص الأمم السابقة، وما أصاب المكذبين من الهلاك، لعظة وعبرة للذين يخافون عذاب الآخرة ؛ فيحملهم ذلك الخوف على سلامة النظر، وحسن الاعتبار، وسرعة الاستجابة إلى دعوة الحق.
﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾.
ذلك اليوم يوم الحساب والجزاء في الآخرة، يوم يجمع فيه الناس جميعا، أولهم وآخرهم ؛ ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يجازوا عليها، كقوله تعالى :﴿ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحد ﴾ ( الكهف : ٤٧ ).
﴿ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾. أي : تحضره الملائكة، ويجتمع فيه الرسل، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها.
المفردات :
لأجل معدود : لانقضاء مدة معدودة متناهية.
التفسير :
١٠٤ ﴿ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ﴾.
أي : وما نؤخر إقامة القيامة ؛ إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا، لا يزاد عليها ولا ينقص منها، وهي عمر الدنيا ؛ لإعطاء الفرصة الكافية للناس لإصلاح أعمالهم، وتصحيح عقيدتهم، قال تعالى :﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾. ( الكهف : ٥٨ ).
المفردات :
فمنهم : من الخلق أهل الموقف.
التفسير :
١٠٥ ﴿ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... ﴾
أي : يوم يأتي هذا اليوم، ويعرض فيه الناس على ربهم ؛ لا تملك نفس من أمرها شيئا، فلا تنطق بكلمة حتى يؤذن لها من الله سبحانه ؛ وذلك لهول الموقف. قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمان وَقَالَ صَوَابًا ﴾. ( النبأ : ٣٨ ).
لقد خشع الجميع لعدل الجبار، وسكنت كل نفس، قال تعالى :﴿ وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا ﴾. ( طه : ١٠٨ ).
وينقسم الناس إلى قسمين : طائع لله في الدنيا ؛ فهذا هو السعيد، وعاص كافر ؛ فهذا هو الشقي.
﴿ فمنهم شقي وسعيد ﴾. أي : فمن أهل هذا الجمع في ذلك اليوم : شقي، معذب ؛ لكفره وعصيانه، ومنهم : سعيد، منعم في الجنان ؛ لطاعته واستقامته قال تعالى :﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾. ( الشورى : ٧ ).
المفردات :
شقوا : كانوا أشقياء بكفرهم ومعاصيهم.
زفير وشهيق : الزفير إخراج النفس من الصدر، والشهيق : إدخاله فيه، والمراد : تلاحق أنفاسهم في النار من شدة العذاب.
التفسير :
١٠٦ ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ﴾.
هؤلاء الأشقياء تنقطع أنفاسهم من هول ما يعانون من عذاب النار، فالزفير : خروج الهواء بشدة وكرب، والشهيق : استنشاق الهواء بشدة وكرب فمن نزل به مكروه. أو ركض ركضا متتابعا، أو صعد في طبقات الجو العليا ؛ صار صدره ضيقا حرجا ؛ يحتاج إلى شهيق متتابع، وزفير متتابع ؛ ليعوض نقص الأكسجين. والمقصود : تلاحق أنفاس الأشقياء بالزفير والشهيق ؛ من حرج صدورهم، وشدة كربهم، ويأسهم من النجاة.
قال الآلوسي :
" والمراد بهما : الدلالة على شدة كربهم وغمهم، وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة، واستبد به الضيق ؛ حتى صار في كرب شديد ". ا ه.
المفردات :
إلا ما شاء ربك : استثناء من الخلود في النار ؛ لأن بعضهم كفسّاق الموحدين يخرجون منها.
التفسير :
١٠٧ ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾.
أي : ماكثون في النار على الدوام مدة بقاء السماوات والأرض، والمراد : التأبيد ونفي الانقطاع، على سبيل التمثيل، كقول العرب : لا أفعل هذا ما لاح كوكب، وما تغنت حمامة، وما أضاء الفجر، وما اختلف الليل والنهار.. إلى غير ذلك من كلمات التأييد عندهم.
والمعروف أنه إذا جاء يوم القيامة ؛ اضمحل نظام الكون ؛ فانشقت السماء على غلظها، وامتدت الأرض وألقت ما بداخلها، قال تعالى :﴿ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ﴾. ( إبراهيم : ٤٨ ).
ويجوز أن يكون المراد : إن أهل الجنة خالدون فيها في إقامة دائمة خالدة ؛ ما دامت سماوات الآخرة وأرض الآخرة قال تعالى :﴿ وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ﴾. ( الزمر : ٧٤ ).
ولأنه لابد لأهل الآخرة مما يقلّهم ويظلّهم، وكل ما أظلك فهو سماء، قال ابن عباس : لكل جنة أرض وسماء.
﴿ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾.
تعددت آراء المفسرين في تفسير هذا المقطع من الآية ومن هذه الآراء ما يأتي :
أولا : إن هذا الخلود في النار للأشقياء ليس أمرا واجبا بذاته ؛ بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى، فكل شيء في الكون بإرادته سبحانه ومشيئته. قال ابن الطبري : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف شيئا بالدوام أبدا ؛ قالت : هذا دائم دوام السماوات والأرض، ويقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار.
ثانيا : المراد بالذين شقوا : الكفار، وأهل التوحيد من أهل الكبائر ؛ فيخلدون في النار ويمكثون فيها مكثا طويلا إلا ما شاء تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة. أي : العصاة من
المؤمنين. ٦٣
قال ابن كثير في تفسير الآية :
إن الاستثناء ﴿ إلا ما شاء ربك ﴾. عائد على العصاة من أهل التوحيد، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ؛ حيث يشفعون في أصحاب الكبائر، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط. وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى عليه وسلم، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها، ولا محيد له عنها، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا، في تفسير هذه الآية الكريمة. ٦٤
وجاء في زبدة التفسير من فتح القدير للشوكاني ما يأتي :
﴿ إلا ما شاء ربك ﴾. من تأخير قوم عن ذلك، وقيل : إلا العصاة من المؤمنين فيخرجون منها، ويبقى فيها الكفار.
وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا يفيد العلم الضروري : بأنه يخرج من النار أهل التوحيد، فكان ذلك مخصصا لكل عموم.
ثالثا : ذكر القرطبي أحد عشر وجها في تفسير الآية، ونقل القرطبي في الوجه الرابع في تفسيره لها : عن ابن مسعود أنه قال :﴿ خالدين فيها مادامت السموات والأرض ﴾. لا يموتون فيها ولا يخرجون منها :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾. وهو أن يأمر بالنار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم ؛ ليتجدد تعذيبهم. ا ه.
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾. ( النساء : ٥٦ ).
﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾.
يصنع في الدنيا والآخرة ما يشاء ؛ فلا يمنعه أحد من العفو عن عصاة المؤمنين، بعدما عذبوا على ذنوبهم.
وجاء في زبدة التفسير من فتح القدير للشوكاني ما يأتي : عن عمر قال : لو لبث أهل النار في النار قدر رمل عالج ؛ لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. والله أعلم.
المفردات :
غير مجذوذ : غير مقطوع. يقال : جذه جذا، أي : قطعه.
التفسير :
١٠٨ ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾.
ذكر سبحانه جزاء الأشقياء فيما سبق، وفي مقابل ذلك ذكر جزاء من أسعده الله بالإيمان والعمل الصالح وإتباع ما جاءت به الرسل هؤلاء السعداء في الجنة خالدين فيها خلودا أبديا سرمديا مدة بقاء السماوات والأرض.
﴿ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ﴾. إلا الوقت الذي يشاء سبحانه فيه ؛ أن يكون لهم موعدا عند ربهم ؛ حيث يحل عليهم رضوانه، ويشملهم بفضله. قال تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾. ( يونس : ٢٦ ).
أي : للذين آمنوا الجنة، ثم الزيادة هي رضوان الله عليهم، أو رؤية الله تعالى في الآخرة رؤية منزهة عن الكم والكيف، فنحن نؤمن بها ونفوض المراد منها إلى الله وبعض المفسرين أنكر هذه الرؤية ؛ تنزيها لله تعالى عن مشابهة الحوادث، وبين الفريقين نقاش طويل يلتمس في مواطنه.
ومعنى الاستثناء :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾. إلا الوقت الذي ينقلون فيه من نعيم الجنة، إلى ما هو أعلى منه من الفوز برضوان الله الذي هو أكبر من الجنة قال تعالى :﴿ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾. ( التوبة : ٧٢ )، ولهؤلاء السعداء أيضا ما يتفضل الله به عليهم ؛ سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه، ﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ﴾. ( الزخرف : ٧١ ).
﴿ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾. عطاء غير منقطع ولا ممنوع، ولكنه ممتد إلى غير نهاية، كقوله تعالى :﴿ لهم أجر غير ممنون ﴾. ( الانشقاق : ٢٥ ).
قال ابن كثير :
" الاستثناء هنا في قوله تعالى :﴿ إلا ما شاء ربك ﴾. معناه : أن دوامهم فيها هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائما، ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس ". ٦٥ ا ه.
ويمكن أن نستنبط من التعبير بالمشيئة هنا ما يفيد : أن نعيم الجنة تفضل من الله على عباده، وجزاء زائد، ومنة من الخالق الفعال لما يريد.
روى البخاري ومسلم والنسائي : عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله "، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ". ٦٦
وجاء في الصحيحين : " يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت ". ٦٧
وفي الصحيح أيضا : " فيقال يا أهل الجنة، إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبأسوا أبدا ). ٦٨
المفردات :
في مرية : في شك.
نصيبهم غير منقوص : جزاءهم كاملا.
التفسير :
١٠٩ ﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾.
الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم : والمراد من يتأتى منه الخطاب.
والمعنى : لا يتطرق إليك أيها الرسول، شك في ضلال هؤلاء المشركين، وأن عبادتهم للأصنام لا تقوم على حجة أو منطق، بل يعبدون الأصنام ؛ تقليدا للآباء بدون تعقل أو روية.
وإن زعموا : بأنهم يعبدونها ؛ لأنها تقربهم إلى الله زلفى فهو زعم باطل : لأن الأصنام لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ؛ فكيف تملكهما لغيرها ؟ !
﴿ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ﴾.
أي : وإننا لمجازوهم على عقائدهم الباطلة، وأعمالهم الفاسدة جزاء كاملا غير منقوص، كما جازينا الأمم السابقة.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهذه الفقرة : بيان عدالة الله تعالى في حق الكفار، فيوفيهم ثواب أعمالهم الحسنة في الدنيا ؛ فيكون معنى :﴿ وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ﴾. أي : إنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق، فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية. ا ه.
والأرجح : وإنا لموفوهم نصيبهم من العذاب كاملا، وربما كان الكل مرادا، والله أعلم.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ١١٠ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١١ ﴾.
المفردات :
الكتاب : التوراة.
فاختلف فيه : بالتصديق والتكذيب فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف مشركو مكة في القرآن.
ولولا كلمة سبقت من ربك : لولا وعد سبق من ربك : بتأجيل العذاب حتى حين يعلمه.
شك منه مريب : شك مزعج محير مقلق.
تمهيد :
كان قصص الأنبياء السابقين عبرة وعظة، فقد سخر قوم نوح من نبيهم، وكفروا بدعوته فأغرقوا، وتوالت الرسل من بعدهم، ومع كل رسول حجة وبينة وبيان، ويقابله قومه بالجحود والنكران، ثم يستمر الرسل في جهادهم وبيانهم، وتحدي أقوامهم ؛ وفي النتيجة هلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين. وهنا يذكر القرآن أهل مكة أيضا بقوم موسى الذين اختلفوا في التوراة بين مؤمن وكافر ؛ فعاقبهم الله وجازاهم ؛ بسوء أعمالهم.
التفسير :
١١٠ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ... ﴾ الآية.
تأتي هذه الآية ؛ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن خلاف قومه عليه لم ينفرد به ؛ بل هو الشأن في جميع أمم المرسلين، وضرب له مثلا بقوم موسى حين اختلفوا عليه.
ومعنى الآية :
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ... ﴾
أي : كما اختلف قومك يا محمد بشأن القرآن ؛ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه، كذلك اختلف بنو إسرائيل بشأن التوراة ظلما وبغيا، وتنازعا على الزعامة والمصالح المادية ؛ فآمن بالتوراة قوم وكفر بها آخرون.
﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾.
أي : لولا سبق القضاء بتأخير العذاب إلى أجل مسمى ؛ لقضي بينهم في الدنيا ؛ بإهلاك العصاة وإنجاء المؤمنين، كما حدث لأمم آخرين.
وتلك كلمة الله العليا في إمهال العصاة والكافرين ؛ رجاء توبتهم ورجوعهم إلى باب الله تعالى : قال تعالى :﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾. ( الكهف : ٥٨ )، وقال تعالى :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾. ( فاطر : ٤٥ ).
﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴾.
وإن قومك يا محمد لفي شك من القرآن، موقع في حيرة لهم، ولو أنصفوا ؛ لبادروا إلى الإيمان به ؛ فإن مبعث ريبهم هو استمساكهم بدين الآباء، وتعصبهم له، وعدم إصغائهم إلى الرسول الناصح الأمين.
وبعض المفسرين أعاد الضمير في هذه الفقرة إلى قوم موسى ؛ إذ هم المختلفون في الكتاب الشاكون في التوراة كما قال تعالى :﴿ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ﴾. ( الشورى : ١٤ ). والذين أورثوا الكتاب هم : اليهود والنصارى.
وقيل : يعود الضمير على المختلفين في الرسول من معاصريه والمختلفين في التوراة من بني إسرائيل.
قال ابن عطية : " وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي وهذه الجملة من جملة تسليته صلى الله عليه وسلم ".
من تفسير فتح القدير للشوكاني :
قال الشوكاني : قوله سبحانه :﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾. أي : لولا أن الله تعالى قد حكم بتأخير عذابهم، إلى يوم القيامة ؛ لما علم في ذلك من الصلاح ؛ ﴿ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾. أي : بين قومك، أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين، فأثيب المحق، وعذب المبطل، أو الكلمة هي : أن رحمته سبحانه سبقت غضبه ؛ فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك.
وقيل : إن الكلمة هي : أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال، وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم.
تمهيد :
كان قصص الأنبياء السابقين عبرة وعظة، فقد سخر قوم نوح من نبيهم، وكفروا بدعوته فأغرقوا، وتوالت الرسل من بعدهم، ومع كل رسول حجة وبينة وبيان، ويقابله قومه بالجحود والنكران، ثم يستمر الرسل في جهادهم وبيانهم، وتحدي أقوامهم ؛ وفي النتيجة هلاك المكذبين، ونجاة المؤمنين. وهنا يذكر القرآن أهل مكة أيضا بقوم موسى الذين اختلفوا في التوراة بين مؤمن وكافر ؛ فعاقبهم الله وجازاهم ؛ بسوء أعمالهم.
١١١ ﴿ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾.
وإن كلا من المؤمنين والكافرين، المختلفين في كتاب الله، ليوفينهم الله جزاء أعمالهم، وما وعدوا به من خير أو شر، فهو سبحانه عليم بما يعمله المحسنون والمسيئون خبير بشك الشاكّين وريب المترددين، مطلع على خفايا النفوس، فهو قاض عادل، محيط بالحيثيات والضمائر، بصير بالخفايا، مطلع على السرائر، فهو أهل للحكم العادل، قال تعالى :﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾. ( النساء : ٤٠ ).
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١٢وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ١١٣ ﴾.
المفردات :
فاستقم كما أمرت : نفذ ما أمرناك به دون ميل عنه بزيادة أو نقص.
ولا تطغوا : لا تتجاوزوا الحد الذي أمرتم به، وذلك بالإفراط أو التفريط.
التفسير :
١١٢ ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
ألزم أيها الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الاستقامة على أمر الله، والالتزام بأوامره، واجتناب نواهيه، أنت ومن آمن بك، وصدق دعوتك، ولا تحيدوا عن الحق، ولا تميلوا عن أوامر الشرع ؛ إن الله تعالى مطلع عليكم، بصير بأعمالكم، خبير بنوازع نفوسكم، وسيجازيكم أعدل الجزاء.
وليس معنى الآية أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مستقيما ؛ بل معناه : دم على الاستقامة ؛ أنت ومن معك من المؤمنين، واستمر عليها، فمن أطاع الله ؛ يسر الله له أسباب النصر، ولما نزلت هذه الآية ؛ لزم النبي صلى الله عليه وسلم الطاعة، وشمر عن ساعد الجد، بل وعجل عليه الشيب، وقيل : أوانه.
أخرج الترمذي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " شيبتني هود والواقعة وأخواتهما ". ٦٩
أراد قوله تعالى :﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
وأخرج ابن حاتم وأبو الشيخ : عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم :( شمّروا شمّروا ) وما رؤى بعدها ضاحكا، وعن ابن عباس : قال : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أشق من هذه الآية.
الاستقامة
هي السير المستقيم، وهي التزام الجانب المعتدل في الدين، والسير على هدى القرآن وسنة الرسول الأمين، وفي صحيح مسلم : عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال : " قل آمنت بالله ثم استقم ". ٧٠
والدعوة إلى الاستقامة وتجنب الطغيان هدف تربوي ودليل علمي، وصّى به القرآن والسنة ؛ قال تعالى :﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ﴾. ( الشورى : ١٥ )، وقال عز شأنه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾. ( فصلت : ٣٠ ٣٢ ).
والاستقامة تتسع لتكون منهج حياة إسلامية متكاملة ؛ فتقضي توحيد الله في ذاته، وصفاته، والإيمان بالغيب من جنة ونار وبعث وحساب وجزاء، وملائكة وعرش، والتزام ما أمر به القرآن في نطاق العبادات والمعاملات، وهي درجة عليا وعسيرة، إلا على من جاهد نفسه، وترتفع عن أهوائه وشهواته، وقد أمر بها موسى وهارون بقوله تعالى :﴿ قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذي لا يعلمون ﴾. ( يونس : ٨٩ ).
الاستقامة واليسر
مما ييسر الاستقامة : الالتزام بتوجيه الله تعالى من فعل الواجبات، وترك المحرمات، قال تعالى :﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ﴾. ( المائدة : ٦ ).
وقال صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا ". ٧١
وروى البخاري عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والراحة، وشيء من الدلجة ). ٧٢
وكانت عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم وسطا لا إفراط ولا تفريط، مراعاة للطاقة البشرية لأمته، أخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال :( كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا ). ٧٣
المفردات :
ولا تركنوا : أي : لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والركون : الميل اليسير.
إلى الذين ظلموا : لا تميلوا إلى الظالمين بمودة، أو مداهنة، أو رضي بأعمالهم.
التفسير :
١١٣ ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ... ﴾ الآية.
ولا تميلوا أدنى ميل إلى الظالمين ؛ بمشاركتهم أو معونتهم أو الميل إليهم بقلوبكم ؛ بل يجب بغض الظالم، والبعد عنه. فإذا خالط الإنسان الظالم للضرورة. أو لتوجيهه وتحذيره ؛ فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " وقد تضمنت الآية صراحة : بيان عاقبة الركون إلى الظلمة، وهي الإحراق بالنار ؛ بسبب مخالطتهم أو مصاحبتهم، وممالأتهم على ما هم عليه، وموافقتهم في أمورهم والظلمة هم أعداء المؤمنين من المشركين، أو كل ظالم، سواء أكان كافرا أو مسلما ؛ والرأي الثاني أصح ؛ لأن الأخذ بعموم الكلام أولى ". ٧٤
قال الشوكاني :
﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾.
والركون المنهي عنه هو : الرضا بما عليه الظلمة، أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم ضرر، واجتلاب منفعة عاجلة ؛ فغير داخلة في الركون. ٧٥
وقد حذر القرآن الكريم من الظلم، والركون إلى الظلمة، كما حذرت السنة المطهرة من عاقبة الظلم، وفي الحديث الشريف :( اتقوا الظلم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )، ٧٦ وفي الحديث القدسي الذي رواه الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله تعالى : يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا... ). ٧٧
وفي الحديث القدسي أيضا يقول الله تعالى : " ثلاث لا أراد لهم دعوة، دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم ترفع فوق السماء، ويفتح لها الحجاب، ويقول الله تعالى : وعزتي وجلالي، لأنصرنّك ولو بعد حين ) ! ٧٨
ويقول الشاعر :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا الظلم شيمته يدعو إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وجاء في تفسير القاسمي :
" الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم، والتهديد عليه ؛ لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى الذين ظلموا ؛ فكيف يكون حال من ينغمس في حمأته ؟ !.
ثم قال : وقد وسع العلماء في ذلك وشددوا، والحق أن الحالات تختلف، والأعمال بالنيات، والتفصيل أولى، فإن كانت المخالطة لدفع منكر، أو للاستعانة على إحقاق الحق، أو جلب الخير، فلا حرج في ذلك، وإن كانت لإيناسهم، وإقرارهم على ظلمهم فلا... ".
﴿ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾.
وليس لكم غير الله أنصار أبدا ينفعونكم، ويمنعون العذاب عنكم حتى هؤلاء الذين ركنتم إليهم.
﴿ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾. ثم لا ينصركم الله، ولا تجدون من ينصركم ؛ لأن الله لا ينصر الظالمين، قال تعالى :﴿ وما للظالمين من أنصار ﴾. ( البقرة : ٢٧٠ ).
وقال سبحانه :﴿ وما للظالمين من نصير ﴾. ( الحج : ٧١، فاطر : ٣٧ ). فعلى المسلمين أن يعتمدوا على ربهم، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وأن يحذروا هؤلاء الظالمين، وأن يحولوا بينهم وبين الظلم، قال صلى الله عليه وسلم :( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه ؛ يوشك أن يعمهم الله بعقابه ). رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ١١٤ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ١١٥ ﴾.
المفردات :
طرفي النهار : صباحا ومساء.
وزلفا من الليل : وساعات منه قريبة من النهار.
وزلفا : جمع زلفة، وهو مشتق من أزلفة أي : قربة.
التفسير :
١١٤ ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ... ﴾ الآية.
الصلاة عماد الدين، من أقامها أقام الدين، وهي صلة بين العبد وربه، فيها يفتح الباب، ويقف المؤمن أمام الله مناجيا، داعيا متضرعا، فيغسل روحه وقلبه، ويملأ نفسه بالدعاء والتضرع والإنابة إلى الله، وينال وجبة روحية تغذي عواطفه ووجدانه، وتريح أعصابه وتمده بزاد روحي نافع.
ومعنى الآية :
وأد الصلاة بأركانها وشروطها في طرفي النهار : الغداة والعشي، فأما صلاة الغداة فهي صلاة الصبح، وأما صلاة العشي فهي الظهر والعصر.
﴿ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ﴾. أي : وأقم الصلاة أيضا في ساعات من أول الليل، وهي المغرب والعشاء ؛ وبهذا التأويل تضمنت الآية الكريمة الصلوات الخمس.
قال القرطبي :
لم يختلف أحد من أهل الإيمان في أن الصلاة في هذه الآية يراد بها : الصلوات المفروضة.
وقد جاء في آيات أخرى في القرآن الكريم إشارات إلى جميع أوقات الصلاة :
١ ﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾. ( الإسراء : ٧٨ ).
٢ ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾. ( طه : ١٢٨ ).
٣ ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾. ( الروم : ١٨، ١٧ ).
﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ﴾.
حثت الآية هنا على عمل الحسنات، والتنبيه إلى التوبة إلى الله بالندم على المعاصي، والإقلاع عن الذنب في الحال، والعزم على البعد عن المعاصي في المستقبل، ويضاف إلى ذلك عمل الصالحات والقربات ؛ فإن العمل الصالح يذهب أثر المعصية، والصلاة وسائر العبادات والقربات تكفر السيئات وتذهب الآثام. فإذا أخطأ المؤمن، وارتكب معصية أو ذنبا أو إثما ؛ فعليه أن يتطهر، وأن يصلي، وأن يستغفر الله ويتوب إليه.
روى الإمام أحمد وأهل السنن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من مسلم يذنب ذنبا، فيتوضأ، ويصلي ركعتين ؛ إلا غفر له ). ٧٩
وفي معنى الآية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ). ٨٠ رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي.
سبب النزول :
روى الشيخان، وابن جرير : عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ؛ فأنزل الله ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ؛ فقال الرجل : ألي هذه ؟ قال :( لجميع أمتي كلهم ). ٨١
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في ختام الآيتين
نجد في الآيتين منهاجا تربويا يأخذ بيد المسلم، ويحث على التوبة وإقام الصلاة والمحافظة عليها، ويبين : أن الحسنات والأعمال الصالحة، ومنها : الصلوات الخمس وذكر الله تعالى، وإخراج صدقة ؛ يكفر الذنوب ويمحق السيئات، وأن في القرآن الكريم موعظة وذكرى للذاكرين، وأن الصبر على الصلاة، والصبر على الطاعات، والصبر على البعد عن المعاصي ؛ مما يقرب المؤمن من ربه، ويجعله سالكا في طريق الصالحين.
قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾. ( البقرة : ٤٥ ).
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ﴾. ( طه : ١٣٢ ).

١١٥ ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
ذكر الصبر في كتاب الله تعالى في سبعين موضعا فالصبر نصف الإيمان، والصبر من المؤمن بمنزلة الرأس من الجسد. من لا صبر له لا إيمان له، ومن لا رأس له لا حياة له.
والمعنى : واصبر أيها الرسول الكريم ومن معك من المؤمنين، على مشاق التكاليف التي كلفكم الله بها، واصبر على المصائب والشدائد، واصبر على البعد عن المعصية ومغرياتها ؛ فإن الله لا يهدر ثواب المحسنين أعمالا، الصابرين على مراد الله وقدره، وهذا دليل على أن الصبر إحسان وفضيلة.
قال تعالى :﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾. ( الزمر : ١٠ ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:في ختام الآيتين
نجد في الآيتين منهاجا تربويا يأخذ بيد المسلم، ويحث على التوبة وإقام الصلاة والمحافظة عليها، ويبين : أن الحسنات والأعمال الصالحة، ومنها : الصلوات الخمس وذكر الله تعالى، وإخراج صدقة ؛ يكفر الذنوب ويمحق السيئات، وأن في القرآن الكريم موعظة وذكرى للذاكرين، وأن الصبر على الصلاة، والصبر على الطاعات، والصبر على البعد عن المعاصي ؛ مما يقرب المؤمن من ربه، ويجعله سالكا في طريق الصالحين.
قال تعالى :﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ﴾. ( البقرة : ٤٥ ).
وقال سبحانه وتعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ﴾. ( طه : ١٣٢ ).

﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ١١٦ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ١١٧ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ١١٩ ﴾.
المفردات :
فلولا : فهلا.
القرون : جمع قرن وهو مائة سنة، والمراد هنا : أهلها من الأمم السابقة.
أولوا بقية : أصحاب بقية من العقل والرأي والتفكير، وأطلق عليهم ذلك ؛ لأنهم لا يعجلون بإبداء الرأي، بل يبقونه حتى يمحّصوه ويدركوا صوابه فيجهروا به.
ما أترفوا فيه : ما تنعموا به من الشهوات، والمترف : المتنعم.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في أعقاب قصص الأمم السابقة ؛ لتبين أن سبب العذاب أمران :
الأول : أنه ما كان فيهم قوم أصحاب روية وعقل ينهونهم عن الفساد في الأرض.
الثاني : أن الظالمين اتبعوا الترف والشهوات والإجرام ؛ فاستحقوا العذاب.
التفسير :
١١٦ ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ... ﴾ الآية.
أي : هلا وجد من هذه الأمم المهلكة، أصحاب عقل وروية وفكر، يؤيدون الرسل وينصحون قومهم بإتباعهم، وينهون المفسدين عن الإساءة، وعن فعل المنكر.
إن هؤلاء في كل أمة دليل حيويتها، وسبيل بقائها، وهم دعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ من أمثال مؤمن آل فرعون الذي حض قومه على الإيمان بموسى وعدم إيذائه.
بيد أن هؤلاء الدعاة لم يتواجدوا بكثرة، بل وجد قليل منهم نصحوا وآمنوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ؛ فنجاهم الله مع المرسلين، والآية تلقى اللوم على المكذبين، وتحذر المسلمين أن يتهاونوا في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾.
إن القلة من العقلاء لم تستطع القضاء على الفساد، ولكن الكثرة الظالمة انغمست في الترف والنعيم، وأمعنت في الفساد والضلال، وتابعت حلقات الشهوات والإجرام ؛ فاستحقت الهلاك والدمار.
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في أعقاب قصص الأمم السابقة ؛ لتبين أن سبب العذاب أمران :
الأول : أنه ما كان فيهم قوم أصحاب روية وعقل ينهونهم عن الفساد في الأرض.
الثاني : أن الظالمين اتبعوا الترف والشهوات والإجرام ؛ فاستحقوا العذاب.
١١٧ ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾.
إن الله تعالى عادل في حكمه وأفعاله، ولا يظلم ربك أحدا، ولو أن أهل القرى السابقة استقامت وآمنت ؛ لفتح الله عليها بركات السماوات والأرض.
ومعنى الآية : ما صح ولا استقام عقلا أن يهلك أهل القرى ظالما لها، وأهلها قوم مصلحون ؛ تنزيها لذاته عن الظلم، وإيذانا بأن هلاك الظالمين كان قصاصا عادلا.
قال تعالى :﴿ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ﴾. ( هود : ١٠١ ).
وقال سبحانه :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾. ( يونس : ٤٤ ).
وقال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾. ( الأعراف : ٩٦ ).
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في أعقاب قصص الأمم السابقة ؛ لتبين أن سبب العذاب أمران :
الأول : أنه ما كان فيهم قوم أصحاب روية وعقل ينهونهم عن الفساد في الأرض.
الثاني : أن الظالمين اتبعوا الترف والشهوات والإجرام ؛ فاستحقوا العذاب.
١١٨ ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً... ﴾
أي : ولو شاء ربك أيها الرسول الكريم، الحريص على إيمان قومه أن يجعل الناس جميعا أمة واحدة، مجتمعة على الدين الحق ؛ لجعلهم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك ولم يرده، بل خلقهم وأودع فيهم العقل، وأعطاهم الاختيار، ووضح لهم الطريق، وأقام الحجة بإرسال الرسل ؛ حتى تكون عقيدتهم وعملهم بكسبهم واختيارهم وبذلك تكون هناك عدالة ؛ حيث يكون الجزاء من جنس العمل، فمن اختار الهدى وآثر الباقية على الفانية ؛ فله حسن الجزاء، ومن آثر الهوى والضلال ؛ جوزي من جنس عمله.
﴿ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾.
أي : ولا يزال الناس مختلفين، بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل.
قال تعالى :﴿ ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾. ( الشمس : ٧ ١٠ ).
وفي معنى الآية يقول الله تعالى :
﴿ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ﴾. ( يونس : ٩٩ ).
تمهيد :
تأتي هذه الآيات في أعقاب قصص الأمم السابقة ؛ لتبين أن سبب العذاب أمران :
الأول : أنه ما كان فيهم قوم أصحاب روية وعقل ينهونهم عن الفساد في الأرض.
الثاني : أن الظالمين اتبعوا الترف والشهوات والإجرام ؛ فاستحقوا العذاب.
١١٩ ﴿ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ... ﴾
إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين آمنوا بهم وصدقوهم، واتبعوا ما أمروا به، وتركوا ما نهوا عنه، وقد مدح الله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ... ﴾. ( الأعراف : ١٥٧ ).
﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾.
لقد خلقهم الله ومنحهم العقل والاختيار والإرادة، وأرسل وأنزل الكتب ؛ ليختار الإنسان بكسبه، واختياره الطريق الذي يريده، ويتحمل مسئولية اختياره، ولهذا الاختلاف خلقهم الله ؛ ليتمايزوا ويظهر الخبيث من الطيب.
وقال تعالى :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾. ( الأعراف : ٣٠ ).
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾.
أي : نفذ قضاء ربك، وثبت حكمه، الذي أكده وأقسم عليه بقوله : لأملأن جهنم من عصاة الجن ومن عصاة الإنس أجمعين.
حكمة إلهية
شاء الله تعالى أن يختلف الناس في منازعهم ومشاربهم ؛ حتى يعمر الكون، ولو أحب الناس اسما واحدا أو بلدا وسطا واحدا، أو مدينة معتدلة واحدة ؛ لضاق المكان بأهله.
ومن حكمة الله أن حبب كل إنسان في عمله ومسلكه حتى يعمر الكون ولو هجر الناس جميعا الحياكة ؛ لتعرى الناس، ولو هجروا الفلاحة ؛ لجاع الناس، ولو هجروا البناء ؛ لجلس في العراء، وتلك حكمة إلهية أرادها الله حتى يتم إعمار الكون، فيكون هناك الملوك والأمراء ورجال السياسة، ورجال القانون والاجتماع والأدب، ورجال الحرف من زراعة وصناعة وتجارة، وأقوام متفوقون ممتازون وآخرون دون ذلك. ٨٢
وشاء الله أن يختار أناس الهدى ويعملون الصالحات، ويتسابقون في عمل الخير وإتباع هدى المرسلين ؛ حتى يكونوا أهلا للجنة والرضوان، وشاء الله أن يختار أقوام الضلال والانحراف، وأن يؤثروا العاجلة على الآجلة، وأن يكونوا تابعين للشيطان في اقتراف المحرمات والبعد عن الطاعات ؛ وهؤلاء أهل للنار وغضب الجبار.
قال تعالى :﴿ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾. ( ص : ٨٥ ). وتكرر هذا المعنى في سورة الأعراف الآية ١٨ وسورة هود الآية ١١٩ وهو يشير إلى عدالة الله تعالى فما أدخلهم النار ظلما ؛ ولكن ظلموا أنفسهم واتبعوا أهواءهم، وساروا وراء الشياطين ؛ فجمع الله في جهنم أتباع إبليس من الجن والإنس، قال تعالى :﴿ من الجنة والناس وهم أتباع إبليس من الجن والإنس ﴾.
من هدى السنة
وفي الصحيحين : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، ٨٣ وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، فقال الله عز وجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار : أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد، حتى يضع لها رب العزة قدمه، فتقول : قط قط، ٨٤ وعزتك ! ).
﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ١٢٠ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ١٢١ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ١٢٢ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٢٣ ﴾.
المفردات :
نقص : نخبرك به، والقص : تتبع أثر الشيء للإحاطة والعلم، ومنه قوله تعالى :﴿ وقالت لأخته قصيه ﴾. ( القصص : ١١ )، ثم أطلق على الإخبار ؛ لما فيه من تتبع الأحداث رواية.
أنباء : إخبار جمع : نبإ.
نثبت به فؤادك : نقوي ونطمئن.
في هذه : السورة، أو في الأنباء المقصوصة عليك.
التفسير :
١٢٠ ﴿ وَكُلاًّ٨٥ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ... ﴾ الآية.
حلفت سورة هود بذكر عدد وافر من أعلام الرسل السابقين، وفي ختام السورة يذكر الحق سبحانه فؤاد ذكر قصص المرسلين، فيجمله في أمرين :
الأول : تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، حين يشاهد أن هؤلاء الرسل الكرام في تاريخ البشرية، تعرضوا للأذى، وجاهدوا قومهم طويلا، وصبروا وصابروا ؛ فيتأسى بهم، ويتسلى بتاريخهم وجهادهم، ويشاهد أنه لم يكن بدعا من الرسل، وأن طبيعة الكافرين واحدة، كأنهم تواصوا بتكذيب المرسلين، ومقاومة المصلحين، وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم :﴿ فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ﴾. ( الأحقاف : ٣٥ ).
الهدف الثاني :﴿ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
الهدف الثاني : تسجيل كفاح الرسل، ودعوتهم إلى : التوحيد، والعدل، والحق، والخير، وإحياء ذكراهم، وإرشاد الناس إلى مواعظهم، وهلاك المكذبين لهم، ونجاة المؤمنين بهم، فيتذكر المؤمنون بما ينفعهم والذكرى من شأنها أن تفيد جميع الناس ؛ لكن لما لم يستفد بهذه الذكرى سوى المؤمنين ؛ أضافها إليهم ؛ فالمؤمنون هم الذين يتعظون بما حل بالأمم السابقة من هلاك ودمار ؛ فيبتعدون عن أسبابه وموجباته. وقريب من هذا المعنى قوله تعالى :
﴿ وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ﴾. ( يوسف : ١٠٥ ).
المفردات :
اعملوا على مكانتكم : أي : على غاية تمكنكم، وأقصى استطاعتكم، والأمر للتهديد.
التفسير :
١٢١ ﴿ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾.
اتجه القرآن هنا بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإنذار والتحدي. أي : قل لهؤلاء المشركين الذين كفروا بالإسلام وأعرضوا عن الإيمان برسالتك : اعملوا بقدر استطاعتكم وتمكنكم، وبكل ما أوتيتم من قوة على مقاومة الدعوة والصد عنها.
﴿ إنا عاملون ﴾. في تبليغ الحق، ثابتون عليه، أو عاملون بما أنزله ربنا لا يصرفنا عنه صارف أو كافر أثيم.
وقريب من هذه الآية تهديد شعيب لقومه حين قال :﴿ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ﴾. ( هود : ٩٣ ).
وقوله سبحانه :﴿ فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ﴾. ( الأنعام : ١٣٥ ).
١٢٢- ﴿ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴾.
وترقبوا ما تتمنون لنا من هلاك ؛ إنا مترقبون أن يحل بكم مثل ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسل ربها وصدت عن سبيله.
١٢٣ ﴿ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾.
أي : ولله وحده علم ما غاب في السماوات والأرض ؛ فلا يخفى عليه شيء في سركم وجهركم.
بهذه الآية، نختم هذه السورة، الحافلة بقصص الأنبياء، والتعليق المناسب على هذا القصص، وهذا القصص غيب لم يكن عند الرسول صلى الله عليه وسلم علم به، وكان أهل الكتاب عندهم علم ببعضه، لكنه خليط من الصدق والكذب، أو الواقع والخيال.
ثم إن هذا القصص كان غيبا بالنسبة للعرب، والذي كان عندهم منه أوهام وظنون، فقدم القرآن قصصا حقيقيا متكاملا عن رسل الله العظام : نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب عليهم السلام.
وفي الآية ٤٩ من سورة هود يقول الحق سبحانه :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾.
إن جميع أنواع الغيب في السماوات والأرض يملكه الله ؛ فهو سبحانه ﴿ له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما و ما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ﴾. ( طه : ٦٨ ).
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ﴾.
مصائر الأمور كلها راجعة إليه، من إحياء وإماتة، وهداية وضلال، وصحة ومرض، ونصر وهزيمة، فخيوط الأمر كلها ترجع إليه، يدبرها بحكمته، ويحركها بمشيئته، ويرسها بإرادته، وهو اللطيف الخبير.
﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾.
فأخلص العبادة له ؛ فالعبادة حق له وحده، والعبادة زاد روحي وسعادة نفسية، وصفاء ومحبة ومودة بين المخلوق والخالق، وبعد العبادة يأتي صدق التوكل على الله ؛ فبيده الخلق والأمر. قال تعالى :﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ﴾. ( الطلاق : ٣ ).
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
بل هو سبحانه عالم بجميع أحوال عباده صغيرها وكبيرها، وسيجازيهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال تعالى :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾. ( الأنعام : ٥٩ ).
ويقول عز شأنه :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. ( المجادلة : ٧ ).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وفق الله تعالى لإتمام تفسير سورة هود عشية يوم الثلاثاء ٦ محرم ١٤١٥ ه الموافق ١٤ يونيو ١٩٩٤ بجامعة السلطان قابوس، بمدينة مسقط سلطنة عمان.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم الفراغ من تفسير الجزء الحادي عشر من القرآن الكريم في ضحى يوم الاثنين ١٩ شعبان ١٤١٤ ه /الموافق ٣١ يناير سنة ١٩٩٤م. بجامعة السلطان قابوس( كلية التربية والعلوم الإسلامية ). بسلطنة عمان والله ولي التوفيق.
تخريج أحاديث وهوامش
تفسير القرآن الكريم
( الجزء الحادي عشر )
خرج أحاديثه
الأستاذ
كمال سعيد فهمي
١ محمود شلتوت، إلى القرآن الكريم ص ٧٧.
٢ تفسير المنارج ١٢، ص ٢٣٤١.
٣ تفسير الكشاف للزمخشري.
تمت الهوامش وتخريج الأحاديث
بحمد الله وبها تم الجزء( الحادي عشر )
٤كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات :
رواه مسلم في القدر( ٢٦٥٣ )، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ؛ قال : وعرشه على الماء ).
٥مختصر تفسير ابن كثير : اختصار وتحقيق : محمد على الصابوني ٢٢١٢ ؛ وهو كلام يحمل مسئولية قائله، أو هو تفسير خاص بصاحبه.
٦سائل مفروز بواسطة الغدد الخاصة بالتناسل، وهو يحتوي على الحيوانات المنوية.
٧ دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، للمستشرق موريس بوكاي، الترجمة العربية، نشر دار المعارف بالقاهرة ص٢١٢.
٨ أفش السلام، وأطعم الطعام :
رواه أحمد في مسنده ( ٧٨٧٣ ) من حديث أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله، إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء ( فقال : كل شيء خلق من ماء ) قال : قلت يا رسول الله، أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة قال :( أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام ). وأخرجه الحاكم، وصححه البيهقي في الأسماء والصفات، وابن نصر في الصلاة، وابن حبان كذا في الدر المنثور.
٩ تفسير المراغي ١٢/٦.
١٠ عبارة المنار ؛ أن تفهم الكتابة، وهي تصحيف عن الكناية.
١١ إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولي في العلم الحديث، والدخان على حسب دلالة القرآن للدلالة على الحالة الغازية الغالبة للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى، فلعل كناية القرآن بقوله :﴿ وكان عرشه على الماء ﴾ للإشارة إلى الحالة الغازية الغالبة للمادة التي كونت الكون، أو لعلها كناية عن ملك الله تعالى لأصل الحياة والأحياء.
١٢ تفسير المنار جزء ١٢ ص ١٦، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب.
١٣تفسير المنار جزء ص ١٨، ١٩، بتصرف واختصار.
١٤في ظلال القرآن، بقلم الأستاذ : سيد قطب، المجلد ٤، جزء ١٢، ص ١٨٥٨.
١٥تفسير النسفي ٢ ١٨٠.
١٦لا تصدقوا أهل الكتاب :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( ٤٤٨٥ )، وفي الاعتصام ( ٧٣٦٢ )، وفي التوحيد ( ٧٥٤٢ )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا :﴿ آمنا بالله وما أنزل إلينا... الآية ﴾.
١٧ باب التفسير ٨- ٢٩٧ من فتح الباري.
١٨ القرآن والتفسير، للدكتور : عبد الله شحاتة، ص ٢٥١.
١٩عمدة التفسير، عن الحافظ ابن كثير ص ١٤.
٢٠ فتح البيان في مقاصد القرآن صديق خان ٤/٢٣٠، دار الفكر العربي.
٢١ فتح البيان ؛ صديق خان ٤/٣٢ دار الفكر العربي.
٢٢ تفسير المنار ١٢/٣٢.
٢٣ تفسير القرآن الشهير بتفسير المنار ١٢/٤٤، طبعت بالأوفست ( الطبعة الثانية ) دار المعرفة لبنان.
٢٤ تفسير التحرير والتنوير تأليف محمد الطاهر بن عاشور ١٢/٢٠، ٢١ الدار التونسية للنشر.
٢٥ تفسير المراغي ١٢/ ١٤، ١٥.
٢٦ قارن بتفسير المنار ١٢/ ٢٣٣، وتفسير التحرير والتنوير ١٢/٢٢.
٢٧ تفسير أبي السعود ٤/ ١٩٣، ١٩٤، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
٢٨ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ :
رواه البخاري ( ١، ٦٦٨٩، ٦٩٥٣ )، ومسلم في كتاب الإمارة حديث رقم ( ٣٥٣٠ )، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد حديث رقم ( ١٥٧١ )، والنسائي في كتاب الطهارة حديث رقم ( ٧٤ )، وفي الطلاق حديث رقم ( ٣٣٨٣ )، وفي الأيمان والنذور حديث رقم ( ٣٧٣٤ )، وأبو داود في كتاب الطلاق حديث رقم ( ١٨٨٢ )، وابن ماجة في كتاب الزهد حديث رقم ( ٤٢١٧ )، وأحمد في مسنده رقم ( ١٦٣، ٢٨٣ )، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها ؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه. )
٢٩ التفسير المنير د. وهبة الزحيلي ١٢/٣٩.
٣٠ التفسير الوسيط د. محمد سيد طنطاوي المجلد السابع سورة هود ص ٤٣.
٣١ تفسير أبي السعود ٤/١٩٥، والمراد بالأول : المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
٣٢ والذي نفسي بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة :
رواه مسلم في الإيمان ( ٢١٨ )، وأحمد في مسنده ( ٧٨٥٦ )، من حديث أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( والذي نفس محمد بيده ! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ؛ إلا كان من أصحاب النار ).
٣٣ التفسير المنير : ١٢/٤٢.
٣٤ يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه :
البخاري في التوحيد ( ٧٥١٤ )، ومسلم في التوبة ( ٢٧٦٨ )، وابن ماجة في المقدمة ( ١٨٣ )، كلهم عن ابن عمر رضي الله عنه.
٣٥ تفسير المنار ١٢/ ٥٩ دار المعرفة، بيروت، لبنان.
٣٦إن الله لا نظر إلى صوركم :
رواه مسلم في البر ( ٢٥٦٤ )، وابن ماجة في الزهد ( ٤١٤٣ )، وأحمد في مسنده ( ٧٧٦٨ )، من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ).
٣٧ المصحف المفسر، للأستاذ : محمد فريد وجدي، ص ٢٩٠.
٣٨ أمان لأمتي من الغرق :
رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة ( ٥٠١ )، من حديث الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمان لأمتي من الغرق ؛ إذا ركبوا في السفن أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمان ﴿ بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ﴾. ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾. إلى آخر الآية، وذكره السيوطي في الجامع الصغير ( ١٦١٣ )، ونسبه لأبي يعلى في مسنده، وابن السني، ورمز لضعفه. قال المناوي في فيض القدير : قال بن حجر : وجنادة ضعيف، وشيخه أضعف منه، وشيخ شيخه كذلك، بالاتفاق فيهما، وطلحة مجهول. انتهى. وفي الميزان يحيى بن العلاء قال أحمد : كذاب يضع الحديث، ثم ساق له أخبارا هذا منها. وقال الهيثمي في المجمع : رواه أبو يعلى عن شيخه جبارة بن مغلس وهو ضعيف. وقال الهيثمي في المجمع : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أمان أمتي من الغرق ؛ إذا ركبوا السفن أو البحر أن يقولوا : بسم الله الملك ﴿ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾، ﴿ بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ﴾. وقال : رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه نهشل بن سعيد، وهو متروك.
٣٩ تفسير أبي السعود ٤/٢٠٩.
٤٠ تفسير القاسمي نقلا عن الإمام السكاكي في كتابه : المفتاح، بحث البلاغة والفصاحة، وانظر تفسير سورة هود للدكتور : محمد سيد طنطاوي، ص ٨٤.
٤١ تفسير القاسمي.
٤٢ التفسير المنير ١٢/ ٨٧.
٤٣ تفسير القرطبي.
٤٤ تفسير المراغي للأستاذ : أحمد مصطفى المراغي، المجلد الرابع، جزء ١٢ ص ٤٥، وهو كلام حسن.
٤٥ انظر الآلوسي، وتفسير أبي السعود، والتفسير المنير، والتفسير الوسيط للدكتور : محمد سيد طنطاوي.
٤٦ تفسير الكشاف للزمخشري.
٤٧ لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني :
رواه الترمذي في صفة القيامة ( ٢٦١٣ )، من حديث أبي ذر :( يقول الله عز وجل : يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أ
Icon