تفسير سورة الأنبياء

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
بسم الله اسم عزيز من توسل إليه بطاعته تفضل عليه بجميل نعمته ؛ إن أطاع فضله، وإن أضاع أمهله، ثم إن آب وأقر. . ذكره، وإن عصى وعاب ستره، فإن تنصل رحمه، وإن تكبر قصمه.
اسم عزيز ما استنارت الظواهر إلا بآثار توفيقه، وما استضاءت السرائر إلا بأنوار تحقيقه ؛ بتوفيقه وصل العابدون إلى مجاهدتهم، وبتحقيقه وجد العارفون كمال مشاهدتهم، وبتمام مجاهدتهم وجدوا آجل مثوبتهم، وبدوام مشاهدتهم نالوا عاجل قربتهم.
فالمطيعون منهم عَظُمَ لدينا ثوابُهم، والعاصون منهم حَقَّ مِنَّا عقابُهم.

﴿ فِى غَفْلَةٍ ﴾ [ الأنبياء : ١ ] يقال الغفلة على قسمين : غافلٍ عن حسابه باستغراقه في دنياه وهواه، وغافلٍ عن حسابه لاستهلاكه في مولاه ؛ فالغفلة الأولى سِمَةُ الهجر والغفلة الثانية صِفَةُ الوَصْل ؛ فالأَولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا من سكرة الموت، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبدِ لفنائهم في وجود الحق تعالى.
لم يجدد إليهم رسولاً إذا ازدادوا نفوراً، ولم يُنِّزلْ عليهم خِطاباًَ إلا ردُّوه جحداً وتكذيباً، وما زدناهم فصلاً إلا عدُّوه هَزْلاً، وما جددنا لهم نعمةً إلا فعلوا ما استوجبوا نقمة، فكان الذي أكرمناهم به محنةً بها بلوناهم. . . وهذه صفة مَنْ أساء مع الله خُلُقَه، وخَسِرَ عند الله حقَّه.
عَمِيَتْ بصائرُهم وعامت أفهامهم، فهم في غباوة لا يستبصرون، وفي أكنة عمَّا أقيم لهم من البرهان فهم لا يعلمون.
قوله :﴿ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى. . . ﴾ لَمَّا عجزوا عن معارضته، وسقطوا عن التحدي، وظهرت عليهم حُجَّتُهُ رَجَّمُوا فيه الفِكْرَ، وقَسَّمُوا فيه الظن، فمرةً نسبوه إلى السحر، ومرةً وصفوه بقول الشعر، ومرة رَمَوْه بالجنونِ وفنونٍ من العيوب. وقبل ذلك كانوا يقولون عنه : هو محمدٌ الأمين، كما قيل :
أشاعوا لنا في الحيِّ أشنعَ قصةٍ وكانوا لنا سِلْماً فصاروا لنا حَرْباً.
الأقاويل التي يسمعها الحقُّ - سبحانه - مختلفة ؛ فَمِنْ خطابِ بعضهم مع بعض، ومن بعضهم مع الحق. والذين يخاطِبون الحقَّ : فَمِنْ سائلٍ يسأل الدنيا، ومِِنْ داعٍ يطلب كرائمَ العُقْبَى، ومِنْ مُثْنٍ يثني على الله لا يقصد شيئاً من الدنيا والعقبى.
ويقال يسمع أنينَ المُذْنبين سِراً عن الخَلْق حَذَراً أن يفتضحوا، ويسمع مناجاةَ العابدين التسبيح إذا تهجدوا، ويسمع شكوى المحبين إذا مَسَّتْهم البُرَحاء فَضَجُّوا من شدة الاشتياق.
ويقال يسمع خطابَ مَنْ يناجيه سِرَّا بسرِّ، وكذلك تسبيح مَنْ يمدحه ويثني عليه بلسان سِرِّه.
نَوَّعُوا ما نسبوا إليه - بعدما نزَّلنا إليه الأمر - من حيث كانوا، ولم يشاهدوا هِمَمَه على الوصف الذي كانوا يصفونه به من صدق في الحال والمقال، وكما قيل :
رمتني بداءها وانسلت ***  
أخبر أن الله تعالى أجرى سُنَّتَه أن يُعَذِّبَ من كان المعلوم من شأنه أنه لا يؤمن لا في الحال ولا في المآل. وإنَّ هؤلاء الذين كفروا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثالُهم في الكفران، وقد حَكَم الحقُّ لهم بالحرمان والخذلان.
لمَّا قالوا لولا أَنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يُرْسِلْ إلى الناس رسولاً فيما سَبَقَ من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بَشراً، وذَكَرَ أنَّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم.
ثم قال :﴿ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ : الخطاب للكلِّ والمراد منه الأمة، وأهلُ الذكر العلماءُ من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين في محل الإعلام من الحقِّ - سبحانه - أو من يُحْسِنُ الإفهامَ عن الحق.
ويقال العالم يرجع إلى الله في المعاملات والعبادات، وإذا اشتكلت الواقعةُ فيخبر عن اجتهاده، وشرطه ألا يكون مقلداً، ويكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يخالف النصَّ وأدى اجتهاده إلى شيء ولم يخالف أصلاً مقطوعاً بصحته وجب قبول فتواه، وأمَّا الحكيم فإذا تكلم في المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يُفْتَى به فإن لم تتقدم له من قِبَله المنازلة ففتواه في هذا الطريق كفتوى المقلِّد في مسائل الشرع.
فأمَّا العارف فيجب أن يتكلم في هذا الطريق عن وَجْدِه - إنْ كان - وإلا فلا تُقْبَلُ فتواه ولا تُشْمَع.
لمَّا عَيَّروا الرسولَ - عليه السلام - بقولهم : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ؟. . أخبر أن أَكْلَ الطعام ليس بقادح في المعنى الذي يختص به الأكابر، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تُكِنُّه القلَوبُ والسرائر من وجوه التعريف.
ويقال : النفوس لا خبر لها مما به القلوب، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرُّ.
قوله :﴿ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴾ : أي إنهم على ممرٍ ومعْبرٍ، ولا سبيلَ اليومَ لمخلوقٍ إلى الخُلْد.
الحقُّ - سبحانه - يُحَقِّق وعْدَه وإنْ تباطأ بتحقيقه الوقتُ فيما أخبر أنه يكون. والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدِّين، وإرغام مَنْ نَابَذَ الحقَّ مِنَ الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ الشبهة.
يريد بالكتاب القرآن، وقوله :﴿ فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ : أي شرفُكم ومحلُّكم، فَمَنْ استبصَر بما فيه من النور سَعِدَ في دنياه وأخراه.
إنَّ اللَّهَ يُمْهِل الظالمَ حيناً لكنه يأخذه أَخْذَ قهر وانتقام، وقد حَكَمَ اللَّهُ بخرابِ مساكنِ الظالمين، وقد جاء الخبر :" لو كان الظلم بيتاً في الجنة لَسُلِّطَ عليه الخراب " فإذا ظلم العبدُ نَفْسَه حَرَّمَ اللَّهُ أَنْ يقطنها التوفيقُ وجعلها موطنَ الخذلان، فإذا ظَلَمَ قلبَه بالغفلة سَلَّط عليه الخواطرَ الردية التي هي وساوس الشيطان ودواعي الفجور. وعلى هذا القياس في القلة والكثرة ؛ إنَّ الروح إذا خربت زايلتها الحقائقُ والمحابُّ واستولت عليها العلائقُ والمساكنات.
لمَّا ذاقوا وبالَ أفعالهم اضطربوا في أحوالهم فلم ينفعهم نَدَمُهم، ولم تَعْدُ إلى محالِّها أقدامُهم، وبعد ظهور الخيانة لا تُقْبَلُ الأمانة.
وللخيانة سراية، فإذا حصلت الخيانة لم تقف السراية، وإذا غرقت السفينةُ فليس بيد المَلاَّحِ إلا إظهار الأسف، وهيهات أن يُجْدِي ذلك !
للإقرار زمانٌ ؛ فإِذا فات وقتُه فكما في المَثَل : يسبق الفريض الحريصُ. ووَضْعُ القوسِ بعد إرسال السهم لا قيمة له.
إنّ مِنَ البلاءِ أَنْ يشكوَ المرءُ فلا يُسْمَع، ويبكي فلا يَنْفَع، ويدنو فَيُقْصَى، ويمرض فلا يُعادَ، ويعتذر فلا يُقْبَل. . . وغايةُ البلاءِ التَّلَفُ.
اللَّعِبُ نعتُ من زَالَ عن حَدِّ الصواب، واستجلب بفعله الالتذاذ، وانجرَّ في حَبْلِ السَّفَهِ. وحَقُّ الحقِّ مُتَقَدِّسٌ عن هذه الجملة.
يخاطبهم على حسب أَفهامهم ؛ وإلا. . فالذي لا يعتريه سهوٌ لا يستفِزُّه لَهْوٌ، والحقُّ لا يعتريه ولا يضاهيه كُفْؤٌ.
نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأَوهام فينقشع سحابُ الغيبة، وينجلي ضبابُ الأوهام، وتنير شمسُ اليقين، وتصحو سماءُ الحقائق عن كلِّ غُبار التٌّهَم.
الحادثات له سبحانه مِلْكاً والكائنات له حُكماً، وتعالى اللَّهُ عن أنْ يَتَجَمَّلَ بوِفاقٍ أو ينقض بخلاف، وبالقَدَرِ ظهورُ الجميع، وعلى حسب الاختيار تنصرف الكلمة.
المطيعُ بالمختارُ يُسِّبحه بالقول الصدق، والكلُّ من المخلوقات تسبيحها بدلالة الخِلْقَة، وبرهان البَيِّنة.
تفرَّد الحقُّ بالإبداع والإيجاد، وتقدَّس عن الأمثال والأنداد، فالذين يُعْبَدُون مِنْ دونه أمواتٌ غيرُ أحياءٍ. وهم بالضرورة يعرفون. . . أفلا يَعْتَبِرُون وألا يَزْدَجِرُون ؟
أخبر أَنَّ كلَّ أمر يُنَاطُ بجماعةٍ لا يجري على النظامِ ؛ إذ ينشأ بينهم النزاعُ والخلافُ. ولمَّا كانت أمورُ العالَم في الترتيب مُنَسَّقَة فقد دلَّ ذلك على أنها حاصلةٌ بتقديرِ مُدَبِّرٍ حكيم ؛ فالسماءُ في علوِّها تدور على النظام أفلاكُها، وليس لها عُمُدٌ لإمساكها، والأرضُ مستقرةٌ بأقطارها على ترتيب تعاقب ليلها ونهارها. والشمسُ لتقديرِ العزيزِ العليمِ علامةٌ، وعلى وحدانيته دلالةٌ.
لِكَوْنِ الخلْق له، وهم يُسأَلون للزوم حقه عليهم ؟
دلت الآيةُ على فسادِ القولِ بالتقليد، ووجوبِ إقامة الحجة والدليل.
ودلَّت الآية على توحيد المعبود، ودلَّت الآية على إثبات الكسب للعبيد ؛ إذ لولاه لم يتوجه عليهم اللومُ والعَتْبُ. وكلُّ مَنْ علَّقَ قلبه بمخلوقٍ، أو تَوَهَّمَ من غير الله حصولَ شيءٍ فَقَد دَخَلَ في غمار هؤلاء لأنَّ الإله مَنْ يصحُّ منه الإيجاد.
قوله :﴿ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى ﴾ : الإشارة منه أن الدِّينَ توحيدُ الحق، وإفرادُ الربِّ على وصف التفرد ونعت الوحدانية.
ثم قال :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ إنما عدموا العلم لإعراضهم عن النظر، ولو وضعوا النظر موضعه لوَجَبَ لهم العلم لا محالة، والأمر يدل على وجوب النظر، وأنَّ العلومَ الدينية كُلَّها كسبية.
التوحيدُ في كل شريعة واحدٌ، والتعبد ُ - على من أرسل إليه الرسول - واجبٌ، ولكنَّ الأفعالَ للنسخِ والتبديلِ مُعَرَّضةٌ، أما التوحيدُ وطريقُ الوصول إليه فلا يجوز في ذلك النسخُ والتبديل.
في الآية رخصةٌُ في ذِكْر أقاويل أهل الضلال والبدع على وجه الردِّ عليهم، وكَشْفِ عوراتهم، والتنبيه على مواضع خطاياهم، وأنَّه إنْ وَسْوَسَ الشيطان إلى أحدٍ بشيء منه كان في ذلك حجةٌ للانفصال عنه.
أخبر أن الملائكة معصومون عن مخالفة أمره - سبحانه، وأنهم لا يُقَصِّرون في واجبٍ عليهم.
عِلْمُه القديمُ - سبحانه - لا يختصُّ بمعلوم دون معلوم، وإنما هو شامل لجميع المعلومات، فلا يعزب عن علم الله معلوم.
قوله :﴿ لا يشفعون إلا لمن ارتضى ﴾ دلَّ على أنهم يشفعون لقومٍ، وأنَّ الله يتقبل شفاعتهم.
قوله :﴿ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ : ليس لهم ذنب ثم هم خائفون ؛ ففي الآية دليل على أنه سبحانه يعذبهم وأن ذلك جائز، فإذا لم يَجُزْ أن يُعذِّب البريء لكانوا لا يخافونه لعلمهم أنهم لم يرتكبوا زلةً.
أخبر، أنهم مُعْرِضُون عن الزَّلَّةِ بكلِّ وجهٍ. ثم قال :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إلهٌ مِنْ دُونِهِ ﴾ وقد علم أنهم لا يقولون ذلك، ولكن علم لو كان ذلك كيف كان يكون حكمه، فالحقُّ - سبحانه - يعلم ما لا يكون كيف كان يكون.
داخَلَتْهُم الشبهةُ في إعادة الخلْقِ والقيامةِ والنَّشْرِ، فأقام الله الحجةَ عليهم بأن قال : أليسوا قد عَلِمُوا أنه خلق السماوات والأرض ؛ سَمَكَ السماء وبَسَط الأرض. . فإذا قدر على ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة بعد الإبادة ؟
قوله جل ذكره :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ كٌلُّ شيءٍ مخلوقٍ حيِّ فَمِنَ الماء خَلْقُه، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي حَصَلَ بالتناسل النطفةُ، وهي من جملة الماء.
وحياة النفوس بماء السماء من حيث الغذاء، وحياة القلوب بماء الرحمة، وحياة الأسرار بماء التعظيم. وأقوام حياتُهم بماءِ الحياء. . وعزيزٌ هُمْ.
الأولياء هم الرواسي في الأرض وبهم يُرْزَقُون، وبهم يُدْفع عنهم البلاء، وبهم يُوَفَى عليهم العطاءُ. وكما أنه لولا الجبالُ الرواسي لم تكن للأرض أوتادٌ. . فكذلك الشيوخ الذين هم أوتادُ الأرضِ ( فلولاهم ) لنَزَلَتْ بهم الشدة.
قوله جل ذكره :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾.
كما أن في الأرض سُبُلاً يسلكونها ليَصِلُوا إلى مقاصدهم كذلك جعل السُبُلَ إليه مسلوكة بما بيَّن على ألسنتهم من هداية المريدين، وقيادة السالكين، كما يَسَّر بهداهم الإقتداء بهم في سيرهم إلى الله.
في ظاهر الكون السماء منيرة، والأرض مسكونة. . كذلك للنفوس أراضٍ هي مساكن الطاعات، وفي سماء القلوب نجومُ العقل وأقمارُ العلم وشموسُ التوحيد والعرفان. وكما جُعِلَتْ النجومُ رجوماً للشياطين جَعَلَ من المعارفِ رجوماً للشياطين وكما أن الناس عن آياتها معرضون لا يتفكرون فالعوام عن آياتِ القلوب مما فيها من الأنوار غافلون، لا يكاد يعرفها إلا الخواص.
كما أن الحق - سبحانه - في الظاهر يكوِّر الليل على النهار، ويكون النهار على الليل فكذلك يُدْخِلُ في نهارِ البسط ليلَ القبض. . والبسط في الزيادة والنقصان. فكما أنَّ الشمس أبداً في برجها لا تزيد ولا تنقص، والقمرَ مرةً في المحاق، ومرةً في الإشراق. . فصاحبُ التوحيدِ بنعت التمكين - يرتقي عن حَدِّ تأمُّلِ البرهان إلى رَوْحِ البيان، ثم هو متحققٌ بما هو كالعيان. وصاحبُ العِلْم مرةً يُرَدُّ إلى تجديد نَظَرِه وتَذَكُّرِه، ومرةً يغشاه غَيْرٌ في حال غفلته فهو صاحب تلوين.
إنك في هذه الدنيا عابرُ سبيلٍ، لكننا لم نتركك فرداً في الدنيا، ولذلك قال عليه السلام لصاحبه في الغار :" ما ظنك باثنين الله ثالثهما ! ".
الموتُ به آفةُ قومٍ، وفيه راحة قوم ؛ لقوم انتهاءُ مدة الاشتياق، والآخرين افتتاح باب الفراق، لقوم وقوع فتنتهم ولآخرين خلاصٌ من محنتهم، لقوم بلاء وقيامة ولآخرين شفاء وسلامة.
لو شهدوا بما هو به نم أوصاف التخصيص وما رقَّاه إليه من المنزلة لظلوا له خاضعين، ولكنهم حُجِبُوا عن معانية وسريرته، وعاينوا منه جسمه وصورته.
العَجلَةُ مذمومةٌ والمُسَارَعَةُ محمودةٌ ؛ فالمسارعة البِدارُ إلى الشيء في أول وقته، والعَجَلَةُ استقباله قبل وقته، والعجلةُ نتيجةُ وسوسة الشيطان، والمسارعةُ قضية التوفيق.
اعتادوا تكذيب الأنبياء عليهم السلام فيما وعدوهم، فاستعجلوا حصولَ ما توعدوهم به. ولو علموا ما ينالهم لكان السكونُ منهم، فالفَزَعُ يَدُلُّ على استعجالهم.
لأمسكوا اليوم عن الانخراط في عذاب الظنون، والاغترار بمواعيد الشيطان.
العقوبة إذا أتت فجأةً كانت أنكى وأشد وسُنَّةُ الله في الانتقام أن يُثِيرَ ريحَ البغتةِ في حال الانغماس في النِّعْمة والمِنَّةِ.
تسليةٌ له، وتعريفٌ بوشك الانتصار على الذين كانوا يؤذونه من أعداء الدين ؛ أي عن قريب ستجدون وَبالَ ما استوجبوه من العقوبة.
تقرير عليهم بأن ليس بتداخل المخلوقين نجاتهم، وقد جرَّبوا ذلك في أحوال محنتهم، فكيف لا يتبرءون ممن ليس لهم شيء، ومما ليس منه نَفْعٌ ولا ضرٌّ ؟ وفي ذلك تنبيه للمؤمنين بأن مآربهم إلى الخيرات من نوعي النفع والدفع من الله عز وجل، فالواجبُ دوامُ اعتكافِهم بقلوبهم بقوة كَرمِه وجُوده.
بسط القول وكرره في تعريفهم استحالة حصول الضر والنفع من الجمادات ؛ وأصنامُهم التي عبدوها من تلك الجملة، ولم يَرِدْ منهم - على تكرار هذه الألفاظ - إلاًّ عجزٌ وانقطاعُ قولٍ.
طولُ الإمتاع إذا لم يكن مقروناً بالتوفيق، مشفوعاً بالعصمة كان مكراً واستدراجاً، وزيادةً في العقوبة. والحقُّ كما يعاقِبُ بالآلام والأهوال يعاقِب بالإملاء والإمهال.
وقال :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ﴾ تتوالى القسوة حتى لا يَبْقَى أثرٌ، للصفوة ؛ فيتعاقبُ الخذلانُ حتى يتواتر العصيان، ويتأدى ذلك إلى الحرمان الذي فيه ذهاب الإيمان.
ويقال تنقص بذهاب الأكابر ويبقى الأراذل ويتعرض الأفاضل. . وفي هذا أيضاً إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين وتطاول العمر، فإن آخر الأمر كما قيل :
آخِرُ الأمر ما ترَى القبرُ واللَّحدُ والثرى
وكما قيل :
طوى العصران ما نَشْرَاه مني وأبلى جدتي نَشْرٌ وطيُّ
أراني كلَّ يومٍ في انتقاص ولا يبقى - مع النقصان - شيُّ
أي بأمر الله أُعْلِمكم بموضع المخافة، ويُوحى إليَّ في بابكم أنْ أُخَوِّفَكُم بأليم عقابه، ولكنَّ الذي عَدِمَ سمْعَ التوفيقِ. . . أنى ينفعه تكرارُ الأمر بالقبول عليه ؟ !
أي إنهم لا يصبرون على أقلِّ شيءٍ من العقوبة ؛ وإن الحمقَّ إذا شاء أن يؤلِمَ أحداً فلا يحتاج إلى مددٍ وعون.
توزن الأعمالُ بميزان الإخلاص فما ليس فيه إخلاصٌ لا يُقْبَل، وتوزن الأحوالُ بميزان الصدق فما يكون فيه الإعجابُ لا يُقْبَل، وتوزن الأنفاسُ بميزان (. . . ) فما فيه حظوظ ومساكنات لا يُقْبَل.
ويقال ينتصِفُ المظلومُ من الظالم، وينتقم الضعيفُ من القوي.
ويقال ما كان لغير الله يَصْلُح للقبول
ويقال يكافئ كلاً بما يليق بعمله فَمَنْ لم يرحم عبادَه في دنياه لا يَرْحَمهُ الله، ومن لم يُحسِن إلى عباده تقاصر عنه إحسانه، ومَنْ ظلم غيره كوفيء بما يليق بسوء فعله.
قوله :﴿ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ : أي يُجازي المظلومين وينتقم من الظالمين، ويُنْصِفُ المظلومَ من مثقال الذرة ومقياس الحَبَّة، وإن عَمِلَ خيراً بذلك المقدار فسيلقى جزاءه، ويجد عِوَضَه.
ما آتاه الحق سبحانه للأنبياء عليهم السلام من الضياء والنُّور، والحُجَّةِ والبرهان يشاركهم المستجيبون من أُمَمِهم في الاستبصار به. .
فكذلك الأكابر من هذه الأمة يشاركون نبينا في الاستبصار بنور اليقين. و " المُتَّقِي " هو المُجَانِبُ لما يشغله ويحجبه عن الله، فيتقي أسبابَ الحجاب وموجِباتها.
صار لهم في استحقاق هذه البصائرِ والخشية بالغيب إطراقُ السريرة، وفي أوان الحضور استشعارُ الوَجَلِ من جريان سوء الأدب، الحذَرُ من أن يبدو من الغيبِ من خفايا التقدير ما يوجبُ حجبة العبد.
والإشفاق من الساعة على ضربين : خوف قيام الساعة الموعودة للعامة، وخوفُ قيام الساعة التي هي قيامة هؤلاء القوم ؛ فإنَّ ما يستأهل الكافة في الحشر مُعَجَّلٌ لهم في الوقت من تقريبٍ ومن تبعيد، ومن مَحْو ومن إثبات.
وَصَفَ القرآن بأنه ﴿ مبارك ﴾، وهو إخبارٌ عن دَوَامه، من قولهم : بَرَكَ الطائرُ على الماءِ أي دَامَ.
وإنَّ هذا الكتاب لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلْفَهِ وما لا ابتداء له - هو كلامه القديم - فلا انتهاء للكتاب الدالِّ عليه.
أراد به ما تعرَّف إليه من الهداية حتى لم يقل بما يجوز عليه الزوال والأفول، لولا أنَّه خصَّه في الابتداء بالتعريف. . وإلاَّ متى اهتدى إلى التمييز بينه وبين خَلْقِه لولا ما أضاء عليه من أنوار التوحيد قبلما حصل منه من النظر في المخلوق ؟
ويقال هو ما كاشَفَ به رُوحَهُ قبل إبداعها من تجلِّي الحقيقة.
خاطبَ قومه وأباه ببيان التنبيه طمعاً في استفاقتهم من سَكْرَةِ الغفلة، ورجوعهم من ظلمة الغلظة، وخروجهم من ضيقِ الشُّبْهَة.
ثم سأل الله إعانَتُهم بطلب الهداية لهم. فلمَّا تَبَيَّن له أنهم لا يؤمنون، وعلى كفرهم يُصِرُّون تَبرَّأ منهم أجمعين.
ما استروحوا في الجواب إلا إلى التقليد
فكان من جوابه الحُكْمُ بالتسوية بينهم وبين آبائهم في الضلال، والحجة المتوجهة على سلفهم لزموها وتوجهت عليهم
فلم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا :﴿ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ ﴾ فطالبوه بالبرهان إلى ما دعاهم إليه من الإيمان فقال :﴿ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴾
فأحالَهم على النظر والاستدلال والتعرُّف من حيث أدلة القول لأنَّ إثباتَ الصانع لا يُعْرَفُ بالمعجزاتُ، وإنما المعجزاتُ علم بصدق الأنبياء عليهم السلام، وذلك فرع لمعرفة الصانع.
ثم بيَّن لهم أنَّ ما عبدوه من دون الله لا يستحق العبادة، ثم إنه لم يَحْفِلْ بما يُصيبه من البلاء ثقةً منه بأنَّ الله هو المتفرِّدُ بالإبداع، فلا أحد يملك له ضراً من دون الله، فتساءلوا فيا بينهم وقالوا :﴿ قالوا من فعل هذا بئالهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾.
﴿ قالوا من فعل هذا بئالهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾ أي يذكرهم بالسوء. ويحتمل أن يكون مَنْ فعله. . فاسألوه، فسألوه فقال : بل فَعَلَه كبيرُهم.
فقالوا : كيف ندرك الذنب عليه ؟ وكيف تحيلنا في السؤال عليه - وهو جماد ؟
فقال : وكيف تستجيزون عبادة ما هو جمادٌ لا يدفع عن نَفْسِه السوء ؟ !
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:﴿ قالوا من فعل هذا بئالهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾ أي يذكرهم بالسوء. ويحتمل أن يكون مَنْ فعله.. فاسألوه، فسألوه فقال : بل فَعَلَه كبيرُهم.
فقالوا : كيف ندرك الذنب عليه ؟ وكيف تحيلنا في السؤال عليه - وهو جماد ؟
فقال : وكيف تستجيزون عبادة ما هو جمادٌ لا يدفع عن نَفْسِه السوء ؟ !

فقال : شرٌّ وأمَرُّ. . كيف تستحق أمثالُ هذه. . . العبادة ؟ !
فلمَّا توجَّهَتْ الحجةُ عليهم ولم يكن لهم جواب دَاخَلَتْهم الأنْفَةُ والحمية فقالوا : سبيلنا أن نقتلَه شَرَّ قتله، وأن نعامِلَه بما يخوفنا به من النار. فقالوا :﴿ ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ٩٧ ]، فلما رموه في النار. . .
لو عَصَمَه من نار نمرود ولم يمكنه مِنْ رَمْيه في النار من المنجنيق لكان - في الظاهر - أقرب من النصر، ولكنَّ حِفْظَه في النار من غير أَنَّ يَمَسَّه أَلَمٌ أتمُّ في باب النصرة والمعجزة والكرامة.
ويقال إن إبراهيم - عليه السلام - كان كثيراً ما يقول : أواه من النار !
قال تعالى :﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ].
فلمَّا رُمِيَ في النار، وجعل اللَّهُ عليه النارَ بَرْدَاً قيل له : لا تقُلْ بعد هذا. أواه من النار ! فالاستعاذةُ بالله مِنَ الله. . . لا من غيره.
قوله :﴿ وسلاماً ﴾ : أي وسلامةً عليه وله، فإنه إذا كان للعبد السلامة فالنارُ والبَرْدُ عنده سِيّان.
ويقال إن الذي يحرق في النار مَنْ في النار يقدر على حِفْظِه في النار.
ولمَّا سَلِمَ قلبُه من غير الله بكل وجهٍ في الاستنصار والاستعانة وسَلِمَ من طَلَبِ شيءٍ بكلِّ وجهٍ. . . تعرَّض له جبريلُ - عليه السلام - في الهواء وقد رمي من المنجنيق وقال له :
هل مِنْ حاجة ؟
فقال : أمَّا إليكَ. . فَلاَ !
فجعل اللَّهُ النار عليه برداً وسلاماً ؛ إذ لمَّا كان سليمَ القلبِ من الأغيار وَجَد سلامة النَّفْسِ من البلايا والأعلال.
مَنْ حَفَرَ لأوليائه وقع فيما حَفَر، ومَنْ كان مشغولاً بالله لم يَتَوَلَّ الانتقام منه سوى الله.
مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ في أنبيائه - عليهم السلام - أنه إذا نَجَّى منهم واحداً أشرك معه مَنْ كان مُسَاهِماً له في ضُرِّه ومُقَاساةِ مشقته.
مَنَّ عليه بأن أخرج مِنْ صلبه مَنْ كان عابِداً لله، ذاكراً له، فإنَّ مفاخِرَ الأبناءِ مناقِبُ للآباء، كما أنَّ مناقبَ الآباء شرفٌ للأبناء.
الإمامُ مُقَدَّمُ القوم، واستحقاقُ رتبةِ الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي في الأمة فيه، فَمَنْ لم تتجَمعْ فيه مُتَفَرِّقاتُ الخِصالِ المحمودةِ لم يستحق منزلةَ الإمامة.
أكمل له الأنعام بعصمته مِنْ مِثلِ ما امْتُحِنَ به قومُه، ثم بخلاصِه منهم بإخراجه إيَّاه مِنْ بينهم، فميزه عنهم ظاهراً وباطناً.
بيَّن أنه أدخله في رحمته ثم قال :﴿ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ؛ فلا محالة مَنْ أدخله في رحمته كان صالحاً.
وقوله :﴿ وَأَدْخَلْنَاهُ في رحمتنا ﴾ إخبارٌ عن عين الجمع، وقوله :﴿ إٍنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ : إخبار عن عين الفرق.
كان نوح - عليه السلام- أطولَهم عمراً، وأكثرهم بلاءً. ففي القصة أنه كان يُضْرَبُ سبعين مرةً، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قولَ هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح – عليه السلام - يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمَّا أيِسَ من إيمانهم، وأُوحِيَ إليه :﴿ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ ﴾ [ هود : ٣٦ ] دعا عليهم فقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾
[ نوح : ٢٦ ] فقال تعالى :﴿ ونوحاً إذ نادى من قبل ﴾ فأُزْهِقَ الشِّرْكُ وأغْرِقُ أَهلُه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٦:كان نوح - عليه السلام- أطولَهم عمراً، وأكثرهم بلاءً. ففي القصة أنه كان يُضْرَبُ سبعين مرةً، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قولَ هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح – عليه السلام - يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمَّا أيِسَ من إيمانهم، وأُوحِيَ إليه :﴿ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ ﴾ [ هود : ٣٦ ] دعا عليهم فقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾
[ نوح : ٢٦ ] فقال تعالى :﴿ ونوحاً إذ نادى من قبل ﴾ فأُزْهِقَ الشِّرْكُ وأغْرِقُ أَهلُه.

أشركهم في حكم النبوة وإن كان بين درجتيهما تفاوت. .
ففي مسألة واحدة اثبت لسليمان - عليه السلام - بها خصوصية ؛ إذ مَنَّ عليه بقوله :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ ولم يَمُنْ عليه بشيءٍ من المُلْكِ الذي أعطاه بمثل ما منَّ عليه بذلك، وفي هذه المسألة دلالة على تصويب المجتهدين - وإن اختلفوا - إذا كان اختلافُهم في فروع الدِّين، حيث قال :﴿ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ ولمن قال بتصويب أحدهما وتخطئه الآخر فله تعلُّقٌ بقوله :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾.
أمَرَ الجبالَ وسخَّرها لتساعدَ داودَ - عليه السلام - في التسبيح، ففي الأثر، كان داود - عليه السلام - يمرُّ وصُفَاحُ الجبالِ تجاوبه، وكذلك الطيور كانت تساعده عند تأويبه.
سخَّر الله - سبحانه - لداود الحديد وألانه في يده، فكان ينسج الدروع، قال تعالى :
﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ ﴾ [ سبأ : ١٠ ] ليتحصن من السهام في الحروب، قال تعالى :﴿ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ ﴾ [ سبأ : ١١ ] وأحْكِمْ الصنعة وأوثِقْ المسامير. . . ولكن لما قصدته سِهامُ التقدير ما أصابت إلا حدقَتَه حين نظر إلى امرأة أوريا - من غير قصدٍ - فكان ما كان.
ولقد خلا ذلك اليوم، وأغلق على نَفْسه بابَ البيت، وأخذ يصلي ساعةً، ويقرأ التوراة مرةً، والزبور أخرى، حتى يمضي وينتهي ذلك اليوم بالسلامة. وكان قد أُوحِيَ إليه أنَّه يومُ فتنةٍ، فأَمَرَ الحُجَّابَ والبواب ألا يُؤْذَنَ عليه أَحَدٌ، فَوَقَعَ مِنْ كَوَّةِ البيتِ طيرٌ لم يَرَ مِثْلَه في الحُسْنِ، فهَمَّ أَنْ يأخذه، فتَبَاعَدَ ولم يَطِرْ كالمُطْمِعِ له في أخذه، فلم يَزَلْ يستأخر قليلاً قليلاً حتى طار من كوَّةِ البيت، فتبعه داودُ ينظر إليه من الكوة من ورائه، فوقع بصرهُ على امرأة أوريا، وكانت قد تجرَّدَتْ من ثيابها تغتسلُ في بستانٍ خَلْفَ البيتِ الذي به داود، فحَصَلَ في قلبه ما حصل، وأصاب سَهْمُ التقدير حَدَقَتَه، ولم تَنْفَعْهُ صَنْعَةُ اللَّبوسِ التي كان تعلَّمها لِتُحَصِّنَه من بأسه.
سخَّرَ اللَّهُ له الريحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورواحُها شَهْرٌ، ولو أراد أن يزيد في قَدْر مسافتها شِبْراً لما استطاع، تعريفاً بأنه موقوفٌ على حكم التقدير، فشهود التقدير كان يمنعه عن الإعجاب بما أُكْرِمَ به من التسخير، ولقد نبَّه - سبحانه - من حيث الإشارة أن الذي مَلَكَه سليمان كالريح إذا مرَّ وفات، أو أنه لا يَبْقَى باليدِ منه شيء.
وفي القصة أنه لاحَظَ ذلك يوماً فمالت الريح بِبسَاطِه قليلاً، فقال سليمانُ لريحِ : استو.
فقالت له الريح : استو أنت. أي إنما مَيْلِي بِبِسَاطِكَ لميلك بقلبك بملاحظتك فإذا استويتَ أنتَ استويتُ أنا.
إنما كان ذلك أياماً قلائل في الحقيقة. ثم إنه أراد يوماً أن يعودَ إلى مكانه فجاءه مَلَكُ الموتِ فطَالَبَه بروحه، فقال : إليَّ حين أرجع إلى مكاني.
فقال له : لا وجه للتأخير، وقَبضه وهو قائم يتكيء على عصاه وبقي بحالته، ولم تعلم الجِنُّ إلى أنْ أكَلَتْ دابة الأرض - كما في القصة - عصاه، فلما خَرّ سليمان عَلِمَتْ الشياطينُ بموته، وتحققوا أنَّ الذي بالعصا قِيامُه فَقَهْرُ الموت يلحقه.
أي واذكر أيوبَ حين نادى ربَّه. وسمِّي أيوب لكثرة إيابه إلى الله في جميع أحواله في السرَّاء والضرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاءِ.
ولم يَقُلْ : ارحمني، بل حَفِظَ أدب الخطايا فقال :﴿ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
ومن علامات الولاية أن يكونَ العبدُ محفوظاً عليه وقتُه في أوانِ البلاء.
ويقال إخبارُه عنه أنه قال :﴿ مسني الضر ﴾ لم يَسْلُبْه اسمَ الصبرِ حيث أخبر عنه سبحانه بقوله :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾ [ ص : ٤٤ ] لأنَّ الغالبَ كان من أحواله الصبر، فنادِرُ قالتِه لم يَسْلبْ عنه الغالِبَ من حالته. والإشارة من هذا إلى أنَّ الغالبَ من حال المؤمن المعرفةُ، أو الإيمانُ بالله فهو الذي يستغرقُ جميعَ أوقاته، ولا يخلو منه لحظةً ؛ ونادِرُ زلاَّتِهِ- مع دائمِ إيمانِه - لا يُزَاحِمُ الوصفَ الغالب.
ويقال ؛ لمَّا لم يكن قوله :﴿ مَسَّنِىَ الضُّرُّ ﴾ على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز - فلم يكن ذلك مُنافياً لصفة الصبر.
ويقال : استخرج منه هذا القولَ ليكونَ فيه مُتنفسٌ للضعفاء في هذه الأمة حتى إذا ضَجَّوا في حالِ البلاء لم يكن ذلك منافياً لصفة الصبر.
ويقال لم يكن هذا القولُ منه على جهة الشكوى، وإنما كان من حيث الشكر ﴿ أنِّى مسني الضُّرُّ ﴾ الذي تخصُّ به أولياءك، ولولا أنك أرحم الراحمين لَمَا خصصتني بهذا، ولكن برحمتك أهَّلْتني لهذا.
ويقال لم يكن هذا القولُ من أيوب ولكنه استغاثةُ البلاء منه، فلم يُطِقْ البلاءُ صُحْبَتَه فضجَّ منه البلاءُ لا أيوبُ ضَجَّ من البلاء. . . وفي معناه أنشدوا.
صابَرَ الصبرَ فاستغاثَ به الصبرُ فصاح المحبُّ بالصبر صبرا
ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة، ومعناه : أيمسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين ؟ كما قال :﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ ﴾ [ الشعراء : ٢٢ ] أي أتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل ؟
ويقال إن جبريلَ - عليه السلام - أتى أيوبَ فقال : لِمَ تسكت ؟ فقال : ماذا أصنع ؟ فقال : إن الله سيان عنده بلاؤك وشفاؤك. . . فاسأل الله العافيةَ فقال أيوب :﴿ أني مسني الضر ﴾ فقال تعالى :﴿ فكشفنا ما به من ضر ﴾ [ الأنبياء : ٨٤ ] والفاء تقتضي التعقيب، فكأنه قال : فعافيناه في الوقت. وكأنه قال : يا أيوب، لو طلبتَ العافيةَ قبل هذا لاستَجْبْنَا لك.
ويقال سقطت دودةٌ كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوبُ ووضعها على موضعها، فعقرته عقرةً عِيلَ صَبْرُه فقال : مسني الضر، فقيل له : يا أيوب : أتصبر معنا ؟ لولا أني ضربتُ تحت كل شَعْرَةٍ من شعراتك كذا خيمة من الصبر. . . ما صَبَرْتَ ساعةً !
ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما عَلاَ بَدَنَه، فلم يَبْقَ منه إلا لسانهُ وقلبه، فصعدت دودة إلى لسانه، وأخرى إلى قلبه فقال :﴿ مَسَّنِى الضُّرُّ ﴾. . . فلم يبق لي إلا لسانٌ به اذكرك، أو قلبٌ به أعرفك، وإذا لم يَبْقَ أو لي ذلك فلا يمكنني أن أعيش وأصبر !
ويقال استعجمت عليه جهةُ البلاء فلم يعلم أن يصيبه بذلك تطهيراً أو تأديباً أو تعذيباً أو تقريباً أو تخصيصاً أو تمحيصاً.
. . . وكذلك كانت صحبته.
ويقال قيل لأيوب عليه السلام سَلْ العافية فقال : عِشْتُ في النِّعم سبعين سنة فحتى يأتي عليَّ سبعون سنة في البلاء. . . وعندئذٍ أسأل الله العافية !
وقيل لمَّا كَشَفَ الله عنه البلاء قيل له : ما أشدُّ ما لقيتَ في أيام البلاء ؟ فقال شماتة الأعداء.
وفي القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم، وحرَّقوا ما كتبوه عنه وقالوا : لو كان لك عند الله منزلةٌ لمَا ابْتلاكَ بكل هذا البلاء !
وقيل لم يبقَ معه إلا زوجُه، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه السلام، فهي التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده.
ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب- عليه السلام.
وقيل إنما قال : مسني الضرُّ لمَّا قال لها الشيطان : إنْ أردتِ أنْ يَشْفَى مريضُكِ فاسجدي لي، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظَهَرَ لها في صورة إنسان، فأخبرت أيوبَ بذلك فقال عندئذٍ :﴿ مَسَّنْىَ الضُّرُّ ﴾.
ويقال لمَّا ظهر به البلاءُ اجتمع قومُه وقالوا لها : أخْرِجي هذا المريضَ من قريتنا، فإننا نخاف العَدْوَى وأنْ يَمَسَّنَا بلاؤه، وأنْ تُعْدَى إلينا عِلَّتُه، فأخْرَجَتْه إلى باب القرية فقالو : إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارُنا عليه، فنتشاءم به، فأبْعِديه عن أبصارنا، فحملَتْه إلى أرضٍ قَفْرٍ، وكانت تدخل البلد، وتُسْتَأْجَر للخَبْزِ والعمل في الدور، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه، فلما عَلِموا أنَّها امرأتُه استقذروها ولم يستعلموها.
ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه، فباعت ذوائبها برغيفٍ أخذته لتحمله إليه، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء، وأن شعرها جُزَّ في ذلك فَحَلَفَ أيوبُ أنْ يَجْلِدَها إذا صحَّ حَدْسًه، وكانت المحنةُ على قلبِ تلك المرأة أشَدَّ مما على بَدَنِ أيوب من كل المحن.
وقيل إن امرأته غَابَتْ ودخلَتْ البلدَ، فعافى اللَّهُ أيوبَ عليه السلام، وعاد شاباً طرياً كما قال في قصته قوله :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ ص : ٤٢ ] فلما رجعت امرأته ولم تَرَه حسبت أنه أكله سَبْعٌ أو أصابته آفةٌ، فأخذت تبكي وتولول، فقال لها أيوب - وهي لم تعرفه لأنه عاد صحيحاً - مالَكِ يا امرأة ؟
قالت : كان لي ها هنا مريض فَفَقَدْته. فقال لها أيوب : أنا ذاك الذي تطلبينه !
وفي بعض الأخبار المروية أنه بقي في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
وقيل تعرَّضَ له إبليسُ فقال : إنْ أردتَ العافيةَ فاسجُدْ لي سجدةً، فقال :﴿ مسني الضُّرُّ ﴾.
ويقال إن أيوب - عليه السلام - كان مُكَاشَفاً بالحقيقة، مأخوذاً عنه، فكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَرَ عليه مرةً، ورَدَّه إليه، فقال :﴿ مسني الضُّرُّ ﴾.
ويقال أَدْخَلَ على أيوب تلك الحالة، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية.
ويقال أوحى الله إلى أيوب - عليه السلام - أنَّ هذا البلاء اختاره سبعون نبياً قَبْلَكَ فما اخْتَرْتُه إلا لَكَ، فلمَّا أراد كَشْفَه عنه قال :﴿ مسني الضُّرُّ ﴾.
وقيل كوشف بمعنىً من المعاني فلم يَجِدْ أَلَمَ البلاء فقال :﴿ مَسَّنِىَ الضُّرُّ ﴾ لِفَقْدِي ألَمْ الضُّرِّ.
وقال جعفر الصادق : حَبَسَ عنه الوحيَ أربعين يوماً فقال :﴿ مَسَّنِىَ الضُّرُّ ﴾ لما لِحَقَه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأنْ ردَّ عليه قُوَّتَه ليقوم بحقِّ الطاعة.
ويقال طلب الزيادةَ في الرضا فاستُجِيبَ له بكَشْفِ ما كان به من ضعف الرضا.
ويقال إن الضرَّ الذي شكا منه أنه بقيت عليه بقية، وبليته كانت ببقيته، فلمَّا أُخِذَ عنه بالكلية زال البلاء، ولهذا قال :﴿ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ﴾ [ الأنبياء : ٨٤ ] وكانت نَفْسُه ضُرَّه، ورَدَّ عليه السلامةَ والعافية والأمل - في الظاهر- لمَّا صار مأخوذاً بالكلية عنه، مُنْقَّىً عن كل بقية، وعند ذلك يستوي البلاء والعافية، والوجود والفقد.
أي واذكر هؤلاء الأنبياء ثم قال :﴿ كُلٌ منَ الصَّابِرِينَ ﴾.
بيَّنَ الحُكْمَ والمعنى ؛ الحكمُ صبرُهم وصلاحُهم، والمعنى إدخالُه إياهم في الرحمة.
﴿ مُغَاضِباً ﴾ : على مَلِكِ وقته حيث اختاره للنبوة، وسأله : لِمَ اخترتَني ؟ فقال : لقد أوْحَى اللَّهُ إلى نَبِي : أنْ قُلْ لفلانِ المَلِك حتى يختار واحداً لِيُرْسَلَ إلى نينوى بالرسالة. فَثَقُلَ على ذي النون لما اختارَه المَلِكُ، لأن علم أن النبوةَ مقرونةٌ بالبلاء، فكان غضبُه عليه لذلك.
ويقال مغاضباً على قومه لمَّا امتنعوا عن الإيمان وخرج من بينهم.
ويقال مغاضباً على نفسه أي شديد المخالفة لهواه، وشديداً على أعداء الدين من مُخَالِفيه.
﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ أي أنْ لن نُضَيِّقَ عليه بطن الحوت، ومن قوله :﴿ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ﴾ [ الفجر : ١٦ ] أي ضيَّق.
ويقال فظنَّ أن لن نقدر عليه من حَبْسِه في بَطْنِ الحوت.
وخرج من بين قومه لَمَّا أُخْبِرَ بأنَّ الله يُعَذِّب قومَه، وخرج بأهله.
ويقال إن السبعَ افترس أهله في الطريق، وأخذ النَّمِرُ ابناً صغيراً له كان معه، وجاء موج البحر فأغرق ابنَه الآخر، وركب السفينة، واضطرب البحر، وتلاطمت أمواجُه، وأشرفَتْ السفينةُ على الغرق، وأخذ الناسُ في إلقاء الأمتعة في البحر تخفيفاً عن السفينة، وطلباً لسلامتها من الغَرَقِ، فقال لهم يونس : لا تُلْقُوا أمْتِعَتَكم في البحر بل أطرحوني فيه فأنا المجرم فيما بينكم لتخلصوا. فنظروا إليه وقالوا : نرى عليكَ سيماء الصلاح، وليست تسمح نفوسُنا بإلقائك في البحر، فقال تعالى مخبراً عنه :
﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ ﴾ [ الصافات : ١٤١ ] أي فقارعهم، فاستهموا، فوقعت القُرْعَةُ عليه.
وفي القصة أنه أتى حَرْفَ السفينة، وكان الحوتُ فاغراً فاه، فجاء إلى الجانب الآخر فجاء الحوت إليه كذلك، حتى جاز كل جانب. ثم لمَّا عَلِمَ أنه مُرَادٌ بالبلاء ألقى نَفْسَه في الماء فابتلعه الحوت :" وهو مليم " : أي أتى بما يُلام عليه، قال تعالى :﴿ فَالَتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [ الصافات : ١٤٢ ].
وأوحى الله إلى السمك : لا تَخْدِشْ منه لَحْماً ولا تَكْسِرْ منه عَظْماً، فهو وديعةٌ عندك وليس بِطُعْمَةٍ لك. فَبَقِي في بطنه - كما في القصة - أربعين يوماً.
وقيل إن السمك الذي ابتلعه أُمِرَ بأن يطوف في البحر، وخلق الله له إدراك ما في البحر، وكان ينظر إلى ذلك.
ويقال إن يونس عليه السلام صَحِبَ الحوتَ أياماً قلائل فإلى القيامة يقال له : ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة. . فما ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَه - سبحانه - سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طولَ عمره. . . ترى أيبطل هذا ؟ لا يُظَنُّ بِكَرَمِهِ ذلك !
﴿ فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ ﴾ يقال ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت - هذا بيان التفسير، ويحتمل أن تكون الظلمات ما التبس عليه من وقته واستبهم عليه من حاله.
استجبنا له ولم يَجْرِ منه دعاءٌ ؛ لأنه لم يصدر عنه أكثر من قوله :﴿ لاَّ إِلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إني كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾، ولم يقر بالظلم إلا وهو يستغفر منه.
ثم قال :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ ﴾ : يعني : كُلُّ مَنْ قال من المؤمنين - إذا أصابه غمٌّ، أو استقبله مُهِمٌّ - مثلما قال ذو النون نجيناه كما نجينا ذا النون.
سأل الوَلَدَ، وإنما سأله ليكون له مُعِيناً على عبادةِ ربَّه وليقوم في النبوة مقامَه، ولئلا تنقطعَ بركةُ الرسالة من بيته، ولقد قاسى زكريا من البلاء ما قاسى حتى حاولوا قطْعَه بالمنشار، ولما التجأ إلى الشجرة انشقت له وتَوَسَّطَها، والتأمت الشجرة، وفطنوا إلى ذلك فقطعوا الشجرة بالمنشار، وصبر لله، وسبحان الله !
كان انشقاق الشجرة له معجزة، وفي الظاهر كان حفظاً له منهم، ثم لو لم يطلعهم عليه لكان في ذلك سلامته، ولعلَّهم - لو قتلوه - لم يُصِبْه من الألم القدْرُ الذي لحقه من القطع بالمنشار طول إقامته وإنما المعنى فيه أن انشقاق الشجرة كان له معجزة فَقَوي بذلك يقينُه لمَّا رأى عجيبَ الأمر فيه من نَقْضِ العادة، ثم البلاء له بالقتل ليس ببلاء في التحقيق، ولقد قال قائلهم :" إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى ".
سمي يحيى لأنه حَييَ به عقر أمه.
وقوله :﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ : لتكون الكرامةُ لهم جميعاً بالولد، ولئلا يستبدَّ زكريا بفرح الولد دونها مراعاةً لحقِّ صحبتها. . . وهذه سُنَّةُ الله في باب إكرام أوليائه، وفي معناه أنشدوا :
إنَّ الكرامَ إذا ما أيسروا ذكروا مَنْ كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم قال :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا ﴾ وفي هذه بشارة لجميع المؤمنين، لأن المؤمن لا يخلو من حالة من أحوال الرغبة أو الرهبة ؛ إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطاً والقنوط كفر، ولو لم تكن رهبة لكان أمناً والأمن كفر.
قوله :﴿ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ الخشوع قشعريرة القلب عند إطلاع الربِّ، وكان لهم ذلك على الدوام.
يعني مريم، وقد نَفَى عنها سِمَةَ الفحشاء وهجنة الذم.
ويقال فنفخنا فيها من روحنا، وكان النفخُ من جبريل عليه السلام، ولكن لمَّا كان بأمره - سبحانه - صحَّتْ الإضافةُ إليه، وفي هذا دليل على تأويل خبر النزول، فإنه يكون بإنزال مَلَكٍ فتَصِحُّ الإضافة إلى الله إذ كان بأمره. . . وإضافة الروح إلى نفسه على جهة التخصيص، كقوله ( ناقة الله، وبيتي ). . . ونحو ذلك :﴿ وجعلنا وابنها آيةً للعالمين ﴾ : ولم يقل آيتين لأن أمرهما كان معجزة ودلالة، ويصح أن يراد أنَّ كلَّ واحدٍ منهما آيةٌ - على طريقة العرب في أمثال هذا.
وفيه نفي لتهمة مَنْ قال إنها حبلت من الله. . . . تعالى الله عن قولهم !
قوله :﴿ آية للعالمين ﴾ : وإن لم يهتد بهما جميعُ الناس. . . لكنهما كانا آيةً. ومَنْ نَظَرَ في أمرهما، ووضَعَ النظرَ مَوضِعَه لاهتدى، وإذا أعرض ولم ينظر فالآية لا تخرج عن كونها حُجَّةً ودلالةً بتقصير المُقَصِّر في بابها.
أي كلكم خِلْقَتُه، وكلكم اتفقتم في الفقر، وفي الضعف، وفي الحاجة. ﴿ وَأَنَا رَبُّكُمْ ﴾ : وخالقكم على وصفِ التَّفَرُّد.
اختلفوا وتنازعوا، واضطربت أمورهم، وتفرَّقَتْ أحوالُهم، فاستأصلتهم البلايا. قوله :﴿ كل إلينا راجعون ﴾ : وكيف لا. . . . . . . وهم ما يتقلبون إلاَّ في قبضة التقدير ؟
مَنْ تَعنَّى لله لم يخسر على الله، ومَنْ تَحَمَّلَ لله مشقةً وَجَبَ حقُّه على الله : قوله :﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ بعد قوله :﴿ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ﴾ دليل على أن من لا يكون مؤمناً لا يكون علمه صالحاً ففائدة قوله ها هنا :﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ في المآل والعاقبة، فقد يعمل الأعمال الصالحة من لا يُخْتَمُ له بالسعادة، فيكون في الحال مؤمناً وعملُه يكون على الوجه الذي آمن ثم لا ثواب له، فإذا كانت عاقبته على الإسلام والتوحيد فحينئذٍ لا يضيع سَعْيُه.
أي لا نهلك قوماً وإن تمادوا في العصيان إلا إذا علمنا أنهم لا يؤمنون، وأنه بالشقاوة تُخْتَمُ أمورُهم.
أي يحق القولُ عليهم، ويتم الأجلُ المضروبُ لهم، فعند ذلك تظهر أيامهم، وإلى القَدْرِ المعلومِ في التقدير لا تحصلُ نجاةُ الناسِ من شرِّهم.
تأخذهم القيامةُ بغتةً، وتظهر أشراطُ الساعة فجأة، ويُقِرُّ الكاذبون بأنَّ الذنبَ عليهم، ولكن في وقتٍ لا تُقْبَلُ فيه مَعْذِرَتُهم، وأوانٍ لا ينفعهم فيه إيمانهم.
﴿ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ : أي الأصنام التي عبدوها، ولم تدخل في الخطاب الملائكة التي عبدها قومٌ، ولا عيسى وإن عبَدَه قومٌ لأنه قال :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ﴾ ولم يقلُ إنكم ومن تعبدون. فيُحْشَرُ الكافرون في النار، وتُحْشَرُ أصنامُهم معهم. والأصنامُ جماداتٌ فلا جُرْمَ لها، ولا احتراقها عقوبة لها، ولكنه على جهة براءة ساحتها، فالذنبُ للكفار وما الأصنامُ إلا جماداتٌ.
القوم قالوا :﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقْرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [ الزمر : ٣ ] فعَلِمُوا أن الأصنامَ جماداتُ، ولكن توهموا أن لها عند الله خطراً، وأنَّ مَنْ عبدها يَقْرُبُ بعبادتها من الله، فَيُبَيِّن اللَّهُ لهم - غداً - بأنَّها لو كانت تستحق العبادة، ولو كان لها عند الله خطرٌ لَمَا أُلْقِيَتْ في النار، ولَمَا أُحْرِقَتْ.
﴿ لَهُمْ ﴾ : أي لِعَبَدَةِ الأصنام، ﴿ فِيهَا ﴾ أي في النار، ﴿ زَفِيرٌ ﴾ حسرتهم على ما فاتهم، ﴿ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ مِنْ نداءٍ يبشرهم بانقضاءِ عقوبتهم.
وبعكس أحوالهم عُصاة المسلمين في النار فَهَمْ - وإنْ عُِّذبوا حيناً - فإنهم يسمعون قَوْلَ مَنْ يُبَشِّرهم يوماً بانقضاء عذابهم - وإن كان بعد مدة مديدة.
﴿ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى ﴾ : أي الكلمة بالحسنى، والمشيئة والإرادة بالحسنى، لأن الحسنى فعله، وقوله :﴿ سَبَقَتْ ﴾ إخبار عن قِدَمِه، والذي كان لهم في القِدَمِ هو الكلمة التي هي صفة تعلَّقَتْ بهم في معنى الإخبار بالسعادة.
ثم قال :﴿ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴾ أي عن النار، ولم يقل متباعدون لِيَعْلَمَ العالِمُون أن المدارَ على التقدير، وسَابقِ الحُكْم من الله، لا على تَبَاعُدِ العبد أو بتقرُّبه.
يدل على ذلك أنهم لا يُعَذَّبون فيها بكل وجهٍ. والمراد منه العِبَادُ من المؤمنين الذين لا جُرْمَ لهم.
﴿ وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾ : مقيمين لا يبرحون.
قيل الفزَعُ الأكبرُ قول المَلَكِ :﴿ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٢٢ ].
ويقال إذا قيل :﴿ وَامْتَازُوا اليَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ ﴾ [ يس : ٥٩ ].
ويقال إذا قيل : يا أهلَ الجنةِ. . . خلوداً لا موتَ فيه، ويا أهل النار. خلوداً لا موت فيه !
وقيل إذا :﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٨ ].
وقيل الفزع الأكبر هو الفراق. وقيل هو اليأس من رحمة الله، وتعريفهم ذلك.
قوله :﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ﴾ يقال لهم هذا يومكم الذي كنتم وُعِدْتُم فيه بالثواب ؛ فمنهم مَنْ يتلقَّاه المَلَكُ، ومنهم مَنْ يَرِدُ عليه الخطاب والتعريف من المَلِك.
إنما كانت السماءُ سقفاً مرفوعاً حين كان الأولياءُ تحتها، والأرضُ كانت فِرَاشاً إذ كانوا عليها، فإذا ارتحل الأحبابُ عنها تخرب ديارهم. على العادة بين الخَلْقِ من خراب الديار بعد مفارقة الأحباب.
ويقال نطوي السماء التي إليها عَرَجَت دواوينُ العصاة من المسلمين لئلا تشهدَ عليهم بالإجرام، وتُبَدَّلُ الأرضُ التي عصوا عليها غير تلك الأرض حتى لا تشهد عليهم بالإجرام.
أو نطوي السماء لنُقَرِّبَ قَطْعَ المسافات على الأحباب.
﴿ الذِّكْرِ ﴾ هنا هو التوراة، و " كَتَبَ " : أي أخبر وحَكَمَ، و ﴿ الصَّالِحُونَ ﴾ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ﴿ الأَرْضَ ﴾ هم الذين يرثونها.
أمَّا مَنْ أسلم فَبِكَ ينجون، وأمَّا مَنْ كَفَرَ فلا نعذبهم ما دُمْتَ فيهم ؛ فأنت رحمة مِنَّا على الخلائق أجمعين.
واحدٌ في ذاته، واحدٌ في صفاته، واحدٌ في أفعاله، واحد بلا قسيم، واحد بلا شبيه، واحدٌ بلا شريك.
﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ مخلصون في عقد التوحيد بالتبرِّي عن كلِّ غيرِ في حسبان صَلاَحِيَّتِهِ للألوهية ؟
إن أعرضوا ولم يؤمنوا فَقُلْ : إني بالالتزام أعلمتُكم، ولكن للإكرام ما ألهمتكم، فَتَوَجَّهَتْ عليكم الحجة واستبهمَتْ عليكم المحجة.
قوله :﴿ وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ ﴾ إنَّ علمي متقاصِرٌ عن تفصيل أحوالكم في مآلكم، ووقت ما توعدون به في القيامة من تحصيل أهوالكم، ولكنَّ حُكُمَ الله غيرُ مستأخرٍ إذا أراد شيئاً من تغيير أحوالكم.
لا يخفى عليه سرُّكم ونجواكم، وحالكم ومآلكم، وظاهركم وباطنكم. . . فعلى قَدْرِ استحقاقكم يُجازيكم، وبموجِب أفعالكم يحاسبكم ويكافيكم.
ليس يحيط عِلْمي إلا بما يُعْلِمُني، وإعْلامُه إياي ليس باختياري، ولا هو مقصودٌ على حسب مرادي وإيثاري.
الرحمن كثير الرحمة عامةً لكل أحد، ومنه يوجد العون والنصر حين يوجد وكيف يوجد.
Icon