تفسير سورة ص

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة ص من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ ؛ اختلَفُوا في قولهِ (ص) قَالَ :(صَدَقَ اللهُ) وهو قول الضحَّاكُ، وقال عطاءُ :(صَدَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم)، وقال محمَّدُ بن كعبٍ القرظي : هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِ اللهِ صَمَدٌ وَصَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ وَصَادِقُ الْوَعْدِ). وَقِيْلَ : هو من فَواتِحِ السُّوَر. قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ قَسَمٌ أقْسَمَ اللهُ بهِ)، وقال سعيدُ بن جُبير :(هُوَ بَحْرٌ يُحْيي اللهُ بهِ الْمَوْتَى بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ). وَقِيْلَ : هو إشارةٌ إلى صُدودِ الكفَّار عنِ القُرْآنِ والْهُدَى.
قال الكلبيُّ :(مَعْنَاهُ : أعْرَضَ عَنِ الْهُدَى) كَأَنَّهُ ذهَبَ إلَى أنَّهُ كَانَ فِي الأصْلِ صَدٌّ ؛ أي صَدَّ أبُو جَهْلٍ أوْ صَدَّ أهْلُ مَكَّةَ عَنِ الْحَقِّ، فَأُبدِلَتِ إحْدَى الدَّالَينِ ألِفاً).
وقرأ عِيسَى بن عُمر :(صَادَ) بفتحِ الدَّال، ومثلُ قاف ونون، لاجتماعِ السَّاكِنَين وحرَّكَها بأخَفِّ الحركَاتِ. ومعناهُ : صَادَ مُحَمَّدٌ قلوبَ الرِّجالِ واستَمالَها حتى آمَنُوا به. وقرأ الحسنُ :(صَادِ) بكسرِ الدَّال من الْمُضَادَّاتِ التي هي مِن المقابلَةِ والمعارضةِ ؛ أي عارضْ عمَلَكَ بالقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ أي ذِي البيَانِ الْهَادِي إلى الحقِّ. وَقِيْلَ : معناهُ : ذِي الشَّرَفِ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾[الزخرف : ٤٤] والمعنَى : أقْسَمَ اللهُ تعالى بالقُرْآنِ أنَّ مُحَمَّداً صادقٌ، وجوابُ قَسَمٍ محذوف تقديرهُ : والقُرْآنِ ذِي الذِّكرِ ما الأمرُ كما يقولُ الكفَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ ؛ يعني : كفَّارَ مكَّة في مَنَعَةٍ وحَمِيَّةٍ وتكبُّرٍ عن الحقِّ، ﴿ وَشِقَاقٍ ﴾ أي خِلاَفٍ وعدَاوةٍ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ ﴾ ؛ أي مِن أُمَمٍ بتكذِيبهم الرُّسُلَ، ﴿ فَنَادَواْ ﴾ ؛ عند وُقوعِ الهلاكِ بهم بالاستعاثةِ، ﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ؛ أي وليسَ الحينُ حينَ نَزْوٍ ولاَ قَرارٍ، قال وهبُ :(لاَتَ باللُّغَةِ السِّرْيَانِيَّةِ : وَلَيْسَ، وذلك أنَّ السِّريانِيَّ إذا أرَادَ أن يَقُولَ وَلَيْسَ يَقُولُ : وَلاَتَ) وقال أئِمَّةُ اللُّغَةِ :(أصْلُهَا (لاَ) زيْدَتْ فِيْهَا التَّاءُ، كَمَا زِيْدَتْ فِي ثَمَّتَ وَرُبَّتَ). وقال قومٌ : إنَّ التاءَ زيدَتْ في (حِينَ) كما زيدَتْ في قولِ الشَّاعرِ : الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ أيْنَ الْمُطْعِمُ؟والمرادُ بتَحِينَ : حِينَ. فمَن قالَ : إنَّ التاء مع لاَ، فالوقفُ عليه بالتاءِ. ورُوي عن الكسائيِّ (وَلاَه) بالهاءِ في الوقفِ، ومثلهُ روى قنبلُ عن ابنِ كثير. ومَن قالَ : إن التاءَ مع حينَ لاَ، فالوقفُ عليهِ، (ولا) ثُم تبتدئ : تحين مناص.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ إذا قَاتَلُواْ فَاضْطَرَبُواْ فِي الْحَرْب، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَنَاصٍ ؛ أيْ اهْرُبُواْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بهِمُ الْعَذابُ ببَدْرٍ قَالُواْ : مَنَاصٍ، عَلَى عَادَتِهِمْ، فَأَجَابَتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ : وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصٍ ؛ أيْ لَيْسَ هَذا حِيْنَ مَنْجَى).
وَقِيْلَ : معناهُ :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ أي ليسَ هذا حينُ نُزْوٍ ولا حينَ فِرَار، والمناصُ مصدرِ من النَّوْصِ، يقالُ : نَاصَهُ يَنُوصُهُ إذا فَاتَهُ، ويكون النَّوْصُ بمعنى التأخُّرِ ؛ أي ليس هذا حينَ التأَخُّرِ، والنَّوْصُ هو الْفَوْتُ والتأخُّر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ ؛ أي وعَجِبَ المشركونَ أنْ جاءَهم نَبيٌّ منهم يخوِّفُهم من عذاب الله، ﴿ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ ؛ يعنونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـاهاً وَاحِداً ﴾ ؛ أي قالُوا لفَرْطِ جَهلِهم على وجهِ الإنكار : أجعَلَ مُحَمَّدٌ الآلِهَةَ إلَهاً واحداً ؟ ﴿ إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ ؛ أمَّّا هذا الذي يقولُ مُحَمَّدٌ ﷺ من ردِّ الحوائجِ إلى إلَهٍ واحدٍ، إلاَّ شيء مُفْرِطٌ في العَجَب.
والعُجَابُ : ما يكون في غايَةِ العَجَب، يقالُ : رجلٌ طُوَالٌ، وأمْرٌ كُبَارٌ، وسيفٌ قُطَاعٌ، وسَيلٌ جُحَافٌ، ويرادُ بذلك كلَّ مبالغةٍ.
" وذلك أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّاب لَمَّا أسلمَ شَقَّ على قُريشٍ، فقال الوليدُ بن المغيرةِ للمَلأ مِن قريشٍ وهم الرُّؤساءُ والصَّناديدُ والأشرافُ، وكانوا خَمسةً وعشرين رَجُلاً، منهم الوليدُ بن المغيرة وهو أكبَرُهم سِنّاً، وأبو جهلٍ، وأُبَيُّ بن خلَفٍ، وأبو البحتري بن هِشَام، وعُتبة وشيبَةُ ابنَا ربيعةَ، والعاصُ بن وائلٍ، والنضِرُ بن الحارثِ، ومَخرَمَةُ بن نوفلٍ، وزمعَةُ بن الأسودِ، والأحنَفُ بن شُريقٍ، وغيرُهم.
قال لَهم الوليدُ بن المغيرة : امْشُوا إلَى أبي طَالِبٍ وَقُولُواْ لَهُ : أنْتَ شَيْخُنَا وَكَبيرُنَا، وَإنَّا أتَيْنَاكَ لِتَقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أخِيْكَ. فَمَشُواْ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ، فَشَكُواْ إلَيْهِ النَّبيَّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ : يَا ابْنَ أخِي مَا تُرِيْدُ مِنْ قَوْمِكَ ؟ قَالَ :" أُريدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً إذا قَالُوهَا مَلَكُواْ الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَهُمْ الْعَجَمُ " فَقَالُواْ : وَمَا هِيَ؟! قَالَ :" قُولُواْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " فَنَفَرُواْ مِنْ ذلِكَ ؛ وَقَالُواْ : أنَجْعَلُ آلِهَةً إلَهاً وَاحِداً؟! "
وَقِيْلَ :" إنَّ أبا طالبٍ لَمَّا دعَا النبيَّ ﷺ قالَ : با ابنَ أخِي ؛ هؤلاءِ قومُكَ يسألونكَ السَّواءَ، فلا تَمِلْ كلَّ الميلِ عليهم، فقال :" وَمَاذا يَسْأَلُونَنِي ؟ " قال : ترفضُ ذكرَ آلهِتهم ويدَعُونَكَ وإلَهَكَ، فقال النبيُّ ﷺ :" إنِّي أدْعُوهُمْ إلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ " قَالُوا : وما هي ؟ قَالَ :" لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " ".
فنَفَرُوا من ذلكَ، وقال :﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـاهاً وَاحِداً ﴾، فاغتاظوا مِن ذلكَ وخرَجُوا من عندِ أبي طالبٍ يقولُ بعضهم لبعضٍ : أمشُوا واصبروا على آلهتِكُم. فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ ﴾ ؛ أي انطلقَ مِن مجلسهم وهم يقولون الذي كانوا فيه عندَ أبي طالب، وهم يقولون : اثبتُوا على عبادةِ آلهتِكُم واصبروا، ﴿ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾ ؛ على دِينكم، ﴿ إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ ؛ أي هذا الشيءُ يريده مُحَمَّدٌ ﷺ ولا يتمُّ له ذلك.
قولهُ تعالى :﴿ مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ﴾ ؛ أي قالُوا : ما سَمِعْنَا بهذا الذي يقولهُ مُحَمَّدٌ ﷺ من التَّوحيدِ في الملَّة الآخرةِ، يعنونَ النَّصرانية ؛ لأنَّها آخِرُ الْمِلَلِ، والنصارَى لاَ تُوَحِّدُ بأنَّهم يقولون : ثالثُ ثلاثةٍ. ﴿ إِنْ هَـاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ﴾ ؛ أي قَالُوا : ما هذا الذي يقولهُ مُحَمَّدٌ ﷺ إلاَّ كذبٌ اختَلَقَهُ من تلقَاءِ نفسهِ، يعنونَ الذي جاءَ به من التوحيدِ والقُرآن.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ ؛ أي قالَ المشركون : اخْتُصَّ مُحَمَّدٌ ﷺ بالنُّبوة والكتاب من بيننا، ونحن أكبرُ منه سنّاً وأعظمُ شرَفاً! والمعنى بالذِّكْرِ القرآنُ.
يقول اللهُ تعالى :﴿ بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي ﴾ ؛ أي يقولون ما يعتقدونَهُ إلاّ شاكِّين، ﴿ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ﴾ ؛ الاستئصالِ، وهذا تَهديدٌ لهم، أي أنَّهم سيذُوقوا العذابَ ثم لا ينتَفِعون بزوالِ الشَّكِّ في ذلكَ الوقتِِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ﴾ ؛ معناهُ : عندَهم خزائنُ رحْمَة ربكَ ؛ أي بأيدِيهم مفاتيحُ النُّبوة والرِّسالة فيضعونَها حيث شاؤُا. وَقِيْلَ : معناهُ : عندَهم خزائنُ رحمة ربكَ فيمنعونَكَ ما مَنَّ الله به عليكَ من الكرامةِ وفضَّلَكَ به من الرِّسالةِ. ومعنى الآيةِ : ليس ذلكَ بأيدِيهم ولكنه بيَدِ العزيزِ في مُلكهِ، الوَّهاب الذي وَهَبَ النبوَّة لكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ ﴾ ؛ وذلكَ أنَّهم كانوا يَحْسِدُونَ النبيَّ ﷺ على ما خُصَّ به من النبوَّةِ والوَحْيِ، فقالَ اللهُ تعالى :﴿ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ فيُنازعُوا خالِقَهم، وينَزِّلُ الوحيَ على من يختارُ، فقال لَهم :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ ﴾ أي فَلْيَصْعَدْ في طَوْقِ السَّموات مِن سماءٍ إلى سماء، فليَمْنَعِ الوحيَ عنكَ إنْ كان لهم مَقْدِرَةٌ على ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ ﴾ ؛ أخبرََ اللهُ تعالى نَبيَّهُ أنه سيُهزَمُ جندُ المشركين ببَدْرٍ، و(جُنْدٌ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ ؛ أي هُمْ جُنْدٌ، و(مَا) زائدةٌ، و(هُنَالِكَ) إشارةٌ إلى بدلِ ومَصَارعُهم بها و(الأَحْزَاب) سائرُ مَن تقدَّمَهم من الكفَّار الذين تجرَّؤوا على الأنبياءِ عليهم السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾، أي كذبَتْ قبلَ قومِكَ قومُ نوحٍ، ﴿ وَعَادٌ ﴾، هوداً، وَكذب، ﴿ وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ﴾، وموسى عليه السلام، ﴿ وَثَمُودُ ﴾ ؛ صالحاً، ﴿ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴾، لوطاً، ﴿ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ ﴾ ؛ شعَيباً، كَذبَ هؤلاءِ أنبياءَهم فحلَّ بهم عذابُ الاستئصالِ، وكذلكَ ﴿ أُوْلَئِكَ ﴾ ؛ أي أُؤْلَئِكَ، ﴿ الأَحْزَابُ ﴾، والأحزابُ الجماعةُ الكثيرة القويَّة، ﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ﴾، كلُّهم كذبُوا الرُّسُلَ رسلهم، ﴿ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾، فحَقَّ عليهِم عقابي وعذابي، وكذلك يحقُّ على قومِكَ.
وسُمِّيَ فرعونُ ذُو الأوتادِ ؛ لأنه كان يَمُدُّ بين الأوتادِ فيُرسِلُ عليهم الحيَّات والعقارب. وَقِيْلَ : إنه كان إذا غَضِبَ على الإنسانِ وَاتَدَ يَدَيْهِ ورجْلَيْهِ ورأسَهُ على الأرضِ، قال عطيَّة :(ذُو الأوتادِ ؛ أي ذُو الجنودِ والْجُمُوعِ الكثيرةِ) يعني أنَّهم كانوا يُقَوُّنَ أمرَهُ ويشددون مُلكَهُ كما يُقَوِّي الوتدُ الشيءَ. وَقِيْلَ : الأوتادُ الأَبْنِيَةُ الْمَشِيدَةُ، سُمِّيت بذلك لارتفاعِها كما سُميت الجبالُ أوتَاداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا يَنظُرُ هَـاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ﴾ ؛ أي ما ينظر أهلُ مكَّة لوقوعِ العذاب بهم إلاَّ صيحةً واحدةً وهي نفخةُ البعثِ، وذلك أنَّ العقوبةَ في قومِ النبيِّ ﷺ مُؤَخَّرَةٌ إلى يومِ البعثِ، وعقوبةُ الأممِ الماضية كانت مُعَجَّلَةً في الدُّنيا ومُؤجَّلةً في الآخرةِ، ألاَ ترَى أنَّ الله تعالى ذكَرَ عقوبةَ الاستئصالِ في الدُّنيا من الأُمم الماضيةِ، وقالَ في هذهِ الأُمَّة﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ﴾[القمر : ٤٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴾ ؛ أي ما لِتِلْكَ الصَّيحةِ مِن رجعةٍ إلى الدُّنيا، والفَـُوَاقُ بضَمِّ الفاءِ وفتحِها بمعنىً واحدٍ وهو رجوعٌ، ومن ذلكَ قولُهم : أفَاقَ فلانٌ من الْجُنُونِ ومِن المرضِ ؛ إذا رَجَعَ إلى الصِّحة. والفُوَاقُ بضَمِّ الفاءِ ما بين حَلْبَتَي النَّاقَةِ ؛ لأن اللَّبن رجوعهُ إلى الضَّرعِ بينَ الحلبَتين. والمعنى : ما ينظرُ هؤلاء إلاّ صيحةً واحدة ما لَها من رُجوعٍ. وَقِيْلَ : يرَدَّدُ لكَ الصوتُ فيكون له رجوعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ ؛ أي قالَهُ المشركون عَجِّلْ لنا صَحِيفَتَنا قبلَ الحساب حتى نَعلمَ ما فيها، قال الكلبيُّ :(لَمَّا نَزَلَ فِي الْحَاقَّةِ :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾[الحاقة : ١٩] و﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ﴾[الحاقة : ٢٥] قالُوا على جهةِ الاستِهْزاء : رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا فِي الدُّنْيَا، فقيل : يومُ الحساب أعجِلْ لنا كتابَنا، قالُوا ذلك تَكذِيباً واستهزاءً).
والقِطُّ : الصَّحِيفَةُ التي أحْصَتْ كلَّ شيءٍ. وَقِيْلَ : القِطُّ : النَّصيبُ، وسُميت كتبُ الجوائزِ قُطُوطاً لأنَّهم كانوا يكتُبون الأنصِبَاءَ من العطَايَا في الصَّحائفِ، يقالُ : أخَذ فلانٌ قِطَّهُ ؛ إذا أخذ كتابَهُ الذي كُتِبَ له بجائزتهِ وصِلَتهِ.
وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلُهُ ﴿ قِطَّنَا ﴾ أيْ حَظَّنَا مِنَ الْعَذاب وَالْعُقُوبَةِ). قال قتادةُ :(نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذاب). قال مجاهدُ :(عُقُوبَتَنَا). وقال عطاءُ :(هُوَ يَقُولُهُ النَّضِرُ بْنُ الْحَارثِ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أو اءْتِنَا بعَذابٍ ألِيمٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ ﴾ ؛ اصْبرْ يَا مُحَمَّدُ على ما يقولون مِن تكذِيبكَ وعلى قولِهم إنَّكَ ساحرٌ وشاعر ومجنونٌ وكاهن، وانتظِرْ ما وعَدَكَ اللهُ من النصرِ عليهم والانتقامِ منهم، ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ ﴾ ؛ أي ذِي القوَّة في العبادةِ وذا النِّعَمِ الكثيرةِ، كيف صَبَرَ على أذى قومهِ، ﴿ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ؛ أي مُطِيعٌ للهِ، مُقبلٌ على طاعتهِ. والأَوَّابُ : كثيرُ الأَوْب الى اللهِ تعالى. قال الزجَّاجُ :(كَانَتْ قُوَّةُ دَاوُدَ عَلَى الْعِبَادَةِ أتَمَّ قُوَّةٍ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً، وَذلِكَ أشَدُّ الصَّوْمِ، وَكَانَ يُصَلِّي نِصْفَ اللَّيْلِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ الجبالَ كَانَتْ تُسَبحُ معَهُ غُدوةً وعشِيَّة. والإشراقُ طُلُوعُ الشَّمسِ وإضاءَتُها، يقالُ : شَرَقَتْ إذا طلَعَتْ، وأشْرَقَتْ في الآية بصلاة الضُّحى، وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه :" كُنْتُ أقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ لاَ أدْري مَا هِيَ، حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِيءٍ فِي بَيْتِ أبي طَالِبٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بوُضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى، وَقَالَ :" يَا أُمَّ هَانِيءٍ هَذِهِ صَلاَةُ الإشْرَاقِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ؛ أي وسخَّرنا له الطَّيرَ مجموعةً إليه تُسبحُ اللهَ معه غُدوةً وعشياً، ﴿ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي كلٌّ للهِ تعالى مُسَبحٌ ومطيعٌ يرجع التسبيحَ مع داودَ كلما سبَّحَ. وَقِيْلَ : معناهُ : كلٌّ له رجَّاعٌ إلى طاعتهِ وأمره.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ ؛ أي قوَّينا مُلكَهُ وثبَّتناهُ بالهيبَةِ، ويقالُ بالحرَسِ، كان يحرسُ محرابَهُ كلَّ ليلةٍ ثلاثةٌ وثلاثون ألفَ رجُلٍ، كان فيهم أبناءُ الأنبياءِ لم يطمَعْ في مُلكهٍ أحدٌ. قرأ الحسنُ :(وَشَدَّدْنَا) بالتشديد. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه :(الْحِكْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ وَالْمَعُونَةُ بكُلِّ مَا حَكَمَ). فقال مقاتلُ :(الْحِكْمَةُ الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ). وَقِيْلَ : الحكمةُ كلُّ كلامٍ حسَنٍ يدعُو إلى الهدى وينهَى عن الرَّدَى.
وأما ﴿ فَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ فهو فصلُ القضَاءِ بين الحقِّ والباطلِ فيما بين الخصُومِ، لا يُتَعْتِعُ في قضائهِ. وَقِيْلَ : فصلُ الخطاب وهو الحكمُ بالبيِّنة واليمينِ. وَقِيْلَ : هو قولهُ : أمَّا بعدُ، وهو أوَّل مَن قال : أمَّا بعدُ، ومعناهُ أما بعدَ حمدِ الله فقد بلغتُ كذا وسمعتُ كذا.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ﴾ ؛ اختلَفُوا في خَطِيئَةِ داودَ عليه السلام والذي هو مستفيضٌ بين العوَامِّ ما ذكرَهُ الكلبيُّ :(أن داودَ عليه السلام كان يُصَلِّي ذاتَ يومٍ في محرابه، والزَّبُورُ منشورٌ بين يدَيهِ، إذ جاءَهُ إبليسُ في صُورةِ حَمامةٍ من ذهَبٍ فيها كلُّ لونٍ حَسَنٍ، فوقفت بين يديهِ فمَدَّ يدَهُ ليأخُذها، فطارَتْ غيرَ بعيدٍ من غيرِ أن توَسِّد من نفسِها، فامتدَّ إلَيها ليأخُذها فطارت حتى وقعَتْ في الكُوَّة، فذهبَ ليأخُذها فطارَتْ من الكوَّة، فجعلَ داودُ عليه السلام ينظر أين تقعُ، فأبصرَ امرأةً في بُستان تغتسلُ، وإذا هي من أعجَب النِّساء وأحسَنِهنَّ، وأعجبتهُ، فلما حانَتْ منها التفاتةٌ أبصرَتْهُ فأسبَلَتْ شعرَها على جسمِها فغطَّى بدنَها، فزادَهُ ذلك إعجاباً بها. فسألَ دواد عنها وعن زوجِها، فقالوا اسمها تشايعُ بنت شائعٍ وزوجُها أوريَّا بن حنانا وهو غائبٌ في غُزَاةٍ بالبلقاء مع أيُّوب بن صوريا ابنِ أُخت داود، فكتبَ داودُ إلى ابنِ أُخته : اذا أتاكَ كِتَابي هذا فابعَثْ أوريا إلى موضعِ كذا وإلى القلعةِ الفلانيَّة، ولا يرجِعُوا حتى يفتَحوها أو يُقتلوا. فلما جاءَ الكتابُ نَدَبَهُ وندبَ الناسَ معه، فأتَوا القلعةَ فلما أتَوْها رمَوهُم بالحجارةِ حتى قَتلُوهم وقُتِلَ أوريا معهم. فلما انقضت عدَّتُها تزوَّجَها داودُ عليه السلام، فهي أمُّ سليمان.
فلما دخلَ داودُ عليه السلام بها، فلم يلبَثْ إلاَّ يسِيراً حتى بعثَ عليه مَلَكين في صُورةِ آدَميَّين، فطلبَا أن يدخُلا عليهِ فوجداهُ في يومِ عبادتهِ، وكان مِن عادتهِ أنَّهُ جَزَّأ الدهرَ يوماً لعبادتهِ ؛ ويَوماً لنسائهِ ؛ ويوماً للقضاءِ بين النَّاسِ.
فلما جاءَ الملَكان في يومِ عبادته منَعَهُما الحرسُ من الدخولِ عليه، فتَسوَّرُوا المحرابَ ؛ أي دخَلُوا عليه مِن فوق المحراب، ﴿ إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ ﴾، فلم يشعُرْ وهو يصلِّي إلاّ وهُما بين يدَيه جالِسَين، ﴿ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾، ففَزِعَ منهما، فقالا : لا تَخَفْْ يا داودُ نحنُ، ﴿ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ ﴾ ؛ أي ولا تَجُرْ، قال السدِّيُّ :(وَلاَ تُسْرِفْ)، وقال المؤرِّج :(وَلاَ تُفْرِّطْ).
وقرأ أبو رجَاء (تَشْطُطْ) بفتح التاءِ وضمِّ الطاء الأُولى من الشَّطَطِ، والإشْطَاطُ مجاوزةُ الحدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ ﴾ ؛ أي وَأرْشِدْنَا إلى الطريقِ المستقيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ﴾ ؛ قال أحدُ الملَكين : إن هذا أخِي، أي على دِيني لهُ تِسْعٌ وتِسعون امرأةً. والنعجةُ : البقرَةُ الوحشيَّة، والعربُ تكَنِّي عنِ المرأةِ بها، وتشَبهُ النساءَ بالنِّعَاجِ من البقرِ، وإنما يعني بهذا داود ؛ لأنه كان له تسعٌ وتسعون امرأةً، وهذا من أحسنِ التَّعريضِ، ويُسمَّى تعريضُ التفهيمِ والتنبيهِ ؛ لأنه لم يكن هناك نعاجٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ ؛ أي امرأةٌ واحدة، ﴿ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا ﴾ ؛ أي ضُمَّها إلَيَّ واجعلني أعُولُها. والمعنى : طلِّقْها حتى أتزوَّجَها، وقال ابنُ جبير :(مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ أَكْفِلْنِيهَا ﴾ أيْ تَحَوَّلْ عَنْهَا)، ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ ؛ أي غلبَني، وقال الضحَّاك :(أيْ تَكَلَّمْ وَكَانَ أفْصَحَ مِنِّي، وَإنْ عَادَانِي كَانَ أبْطَشَ مِنِّي)، وقال عطاءُ :(مَعْنَاهُ أعَزُّ مِنِّي وَأقْوَى عَلَى مُخَاطَبَتِي لأَنَّهُ كَانَ الْمَلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ ؛ أي إنْ كان الأمرُ كما تقولُ فقد ظلمَكَ بما كفَلَكَ من قولهِ عن امرأتِكَ ليتزَوَّجَها هو. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ ؛ معناهُ : وإنَّ كثيراً من الشُّركاء لَيظلِمُ بعضُهم بعضاً، ظنَّ داودُ أنَّهما شَريكان. وقولهُ تعالى :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ ؛ معناهُ : إلاّ الذين آمَنُوا ﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ ؛ فإنَّهم لا يَظلمُونَ أحَداً، ﴿ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ﴾ ؛ أي هم قليلٌ، يعني الذين لاَ يظلِمُون.
قال السديُّ :(لما قال أحدُهما : إنَّ هذا أخِي له تسعٌ وتسعون نعجةً، قال داودُ عليه السلام للآخر : ما تقولُ ؟ قالَ : نَعَمْ لي تسعٌ وتسعون نعجةً وله نعجةٌ، وأنا أُريد أنْ آخُذها وأكَمِّل نعاجِي مائةً، قال داودُ عليه السلام : وهو كارهٌ ؟ قال نعَمْ وهو كارهٌ، قال : إذاً لا ندعُكَ وإنْ رُمْتَ ذلك ضرَبْنا منكَ هذا، وهذا يعني طرفَ الأنفِ، وأصلهُ : الجبهة.
قال : يا داودُ أنتَ أحقُّ أن يُضرب مثلَ هذا، وهذا يعني طرفَ الأنفِ وأصلهُ، حيث كان له تسعٌ وتسعون امرأةً ولم يكن لأوريَّا إلاّ امرأةً واحدة، فلم تزَلْ تُعَرِّضُهُ للقتلِ حتى قُتل وتزوَّجتَ امرأتَهُ. ثم صعدَا إلى السَّماء، فعَلِمَ داودُ عليه السلام أنَّ الله قد ابتلاهُ وامتحنَهُ، فخَرَّ راكعاً أي ساجِداً وأنابَ. ورجعَ إلى طاعةِ الله تعالى بالتَّوبةِ والنَّدامَةِ.
ومعنى قولهِ تعالى :﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ ؛ أي وعَلِمَ داودُ أنَّا امتحنَّاهُ بما قدَّرنا عليه من نظرهِ إلى المرأةِ وافتتانه بها، وهذا قولُ بعضِ المفسِّرين، إلاّ أنَّ هذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ، لاَ يُظَنُّ بدَاوُدَ عليه السلام ضَلاَلَةٌ، فهو أجَلُّ قدرةً وأعظمُ منْزلَةً، وكيف يُظنُّ بالأنبياءِ عليهم السَّلام أن يعرِّضَ المسلمينَ للقتلِ لتحصيل نسائهم لأنفُسِهم، ومَنْ نَسَبَ الأَنْبيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إلَى هَذا وَصَدَّقَ بهِ فَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَصْلُحُ لإيْمَانِهِ بهِمْ، وَلَئِنْ يُخْطِئَ الإنْسَانُ فِي نَفْيِ الْفَوَاحِشِ عَنْهُمْ خَيْرٌ مِمَّنْ يُخْطِئُ فِي إضَافَتِهَا إلَيْهِمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الشَّرِيعَةِ بحَمْلِ أُمُور الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أمْكَنَ.
وعن عبدِالله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ :(مَا زَادَ دَاوُدُ عليه السلام عَلَى أنْ قَالَ لِزَوْجِهَا : تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا). وعن عليٍّ رضي الله عنه قال :(لَئِنْ سَمِعْتُ أحَداً يَقُولُ إنَّ دَاوُدَ عليه السلام قَارَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرَأةِ سُواءً أوْ حَدَّثَ بحَدِيثِ دَاوُدَ عليه السلام عَلَى مَا يَرْويهِ الْقُصَّاصُ مُعْتَقِداً صِحَّتَهُ جَلَدْتُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ جَلْدَةً) يعني مثلَ حدِّ قذفِ سائرِ الناس.
وَقِيْلَ : إنَّ ذنبَ داودَ عليه السلام أنه تَمَنَّى أن تكون له امرأةُ أوريا حَلاَلاً، وحدَّثَ نفسَهُ بذلك، فاتفقَ غزوُ أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكهُ، فلما بلغَهُ قتلهُ لم يَجْزَعْ ولم يتوجَّع عليه كما يجزعُ على غيرهِ من جُندهِ إذا هلكَ، ثم تزوَّجَ امرأتَهُ فعاتبَهُ اللهُ على ذلكَ ؛ لأن ذنوبَ الأنبياءِ وإن صغُرت فهي عظيمةٌ عند اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي قال اللهُ له بعدَ المغفرةِ، ﴿ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ﴾ أي نَبيّاً مَلِكاً على بني إسرائيلَ، والخليفةُ هو المدبرُ للأمرِ والمقيم. يا داودُ إنَّا صيَّرناكَ خليفةً في الأرضِ تدبرُ أمورَ العبادِ مِن قِبَلِنَا، ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ أي العدلِ الذي هو حكمُ الله بين خلقهِ، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى&# ﴾، في الحكمِ بين النَّاس، ﴿ ١٦٤٨; فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، أي فيصرِفُكَ الهوَى عن طاعةِ الله، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، أي عن دين الله، ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ ﴾، في الآخرة، ﴿ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ أي ترَكُوا العملَ ليومِ الحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾ ؛ أي ما خلقنَاهُما وما بينَهما من الخلقِ عبَثاً إلاَّ للأمرِ والنَّهي، وإنَّما خلقنَاهُما للتعبُّدِ ولنجزي الْمُحسِنَ على إحسانهِ، والمسِيءَ على إساءَتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ ؛ يعني أهلَ مكَّة الذين ظَنُّوا أنَّهما خُلِقا لغيرِ شيء، وأنَّهُ لا قيامةَ ولا حسابَ، ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾.
قال مقاتلُ : قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ : إنَّا نُعْطَى فِي الآخِرَةِ مَا تُعْطَوْنَ فأنزلُ اللهُ تَعَالَى :﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ معناهُ : أنَجْعَلُ المؤمنين المطيعِينَ كالْمُفسِدِينَ في الأرضِ ؟ ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ؟ أي أم نجعلُ الذين يتَّقون الكفرَ والكبائرَ كالفجَّار الذين يرتكبون تلكَ الكبائر، لا نُسَوِّي بين الفريقينِ ولا نُنْزِلُهما منْزِلةً واحدةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ أي هذا كتابٌ أنزلناهُ إليك مباركٌ فيه بركةٌ لكم، كثيرٌ خيرهُ ونفعه يعني القرآنَ، وقولهُ تعالى :﴿ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ ﴾ ؛ أي ليتدبَّرِ الناسُ آياتهِ يعني آياتِ الله، ﴿ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴾ ؛ أي ليتَّعِظْ ذوي العقولِ من الناس.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ﴾ ؛ أي أعطَينا لداودَ وَلداً وهو سليمانُ، ثم أثْنَى علَى سليمان فقالَ :﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ؛ أي رجَّاعٌ إلى اللهِ، مُقبلٌ على طاعتهِ.
وقولهُ تعالى :﴿ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ﴾ ؛ معناهُ : إذ عُرض على سليمان بعدَ العصرِ الخيلُ السَّوابقُ وهي الخيول التي غَنِمَها سليمانُ من أهلِ دمشق وأهل نَصِيبينَ، كانوا جَمعوا جُموعاً ليقاتلوهُ فهزمَهم وأصابَ منهم ألفَ فَرَسٍ غُرابٍ فعُرضَتْ، فجعلَ ينظرُ إليها ويتعجَّبُ من حُسنها حتى شغلَتْهُ عن صلاةِ العصرِ وغربَتِ الشمسُ.
فذكرَ الصلاةَ فغَضِبَ وقالَ : رُدُّوا الخيلَ عَلَيَّ، فرُدَّت فجعلَ يضربُ سُوقَها وأعناقَها بالسَّيف حتى عَقَرَ منها تِسعمائة فرَسٍ، وهي التي كانت عُرضت عليه وبقيت مائةٌ لم تُعرض عليه، فكُلُّ ما في أيدِي الناسِ من الخيلِ العِراب فهي من نَسْلِ تلك المائةِ. هذا ذكرَهُ الكلبيُّ.
وقد اعتُرِضَ على هذا القولِ فقالُوا : كيف يجوزُ على النبيِّ ﷺ مِن الأنبياءِ أنْ يَغْفَلَ عن الصَّلاةِ المفروضةِ ثم يعمدَ إلى خيلٍ لا ذنبَ لها يعقِرُها؟! ويجابُ عنه : أنْ لم يكن ضربُ سُوقِها وأعناقِها إلاَّ وقد أباحَ اللهُ ذلك وأجزَى بهِ، وليس في الآيةِ ما يقتضِي أنَّ الصلاةَ كانت مفروضةً عليهِ في ذلك الوقتِ. وقد يذكرُ المسحُ ويراد الضربُ، يقول العربُ : مسحَ علاوته اذا ضرَبها بالسَّيف.
والصَّافِنَاتُ هي الخيلُ التي تقومُ وتكون القائمةُ الرابعة تَصِلُ إلى طرفِ حافرِها بالأرضِ. صَفَنَ الفرَسُ إذا يَصْفِنَّ صُفُوناً إذا قامَ على ثلاثٍ، وقَلَبَ أحدَ حوافرهِ. والجيادُ جمعُ جَوَادٍ، يقال فَرَسٌ جوادٌ اذا " كان سابقاً " بالرَّكضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي ﴾ ؛ يعني إنِّي آثرْتُ الخيرَ، ينالُ بهذا الخيلَ فشُغِلْتُ به عنِ الذِّكْرِ، وقد يذكرُ الخيرُ ويراد به الخيلُ، لأن الخيلَ معقودٌ بنواصِيها الخيرُ. قال الفرَّاء :(يَعْنِي آثرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ). وقال قطربُ :(أرَادَ حُبّاً عَلَى الْمَصْدَر، ثُمَّ أضَافَ الْحُبَّ إلَى الْخَيْرِ).
وقولهُ تعالى :﴿ عَن ذِكْرِ رَبِّي ﴾ يعني صَلاَةَ العصرِ. وقولهُ تعالى :﴿ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ﴾ ؛ كنايةٌ عن الشمسِ ؛ والمعنى حتى استَوت الشمسُ بما يحجِبُها عن الأبصارِ، ولأنَّ قولَهُ تعالى (بالْعَشِيِّ) كنايةٌ عن الشمسِ ؛ أي فيه ما يجرِي مجرَى الشمسِ، وجازَ الإضمارُ إذ في الكلامِ ما يدلُّ عليه، قال لَبيدُ : حَتَّى إذا ألْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ وَأجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُور ظَلاَمُهَا
وقولهُ تعالى :﴿ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ ﴾ ؛ قال أبو عُبيد :(مَعْنَى الطَّفْقِ يَقُولُ مِثْلَ مَا زالَ يَفْعَلُ، وَهُوَ مِثْلُ : ظَلَّ وَبَاتَ، وَالْمَعْنَى طَفِقَ يَمْسَحُ مَسْحاً ؛ أيْ يَضْرِبُ ضَرْباً). وقال الفرَّاء :(الْمَسْحُ هَهُنَا الْقَطْعُ). والمعنى : أنه ضرَبَ سُوقَها وأعناقَها ؛ لأنَّها كانت سببَ فَوْتِ صلاتهِ، وقال عندَ ذلك : حتى لا تشغَلَني عن عبادةِ ربي مرَّةً أُخرى. والسُّوقُ جَمْعُ سَاقٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾ ؛ اختلَفُوا في سبب فتنةِ سُليمان، قال بعضُهم : سمعَ سليمانُ بمدينةٍ في جزيرةٍ من جزائرِ البحر يقالُ لها صَدُوقُ، بها مَلِكٌ عظيمُ الشَّأنِ، فخرجَ سليمانُ إلى تلك المدينةِ تحملهُ الرِّيح حتى نزلَ بها بجنودهِ من الجنِّ والانسِ، فقَتَلَ ملِكَها وسَبَا ما فيها، وأصابَ فيما أصابَ بنتاً لذلك الملكِ يقالُ " لها " جَرَادَةٌ، لَمْ يُرَ مثلها حُسناً وجمالاً.
فدعَاها سليمانُ إلى الاسلامِ فأسلَمَت على قلَّة نيَّة منها، ولم يعلَمْ سليمانُ ما في قلبها، فتزوَّجَها وأحبَّها محبةً شديدة لم يُحِبَّ أحداً من نسائهِ، فكانت عندَهُ لا يذهبُ حزنُها ولا يرقَى دمعُها، فشُقَّ ذلك على سليمان، وقال لَها : ويحَكِ! ما هذا الحزنُ الذي لا يذهبُ ؟ قالت : إنِّي أذكرُ أبي أذكرُ مُلكَهُ وما كان فيه وما أصابَهُ، فيُحزِنُني ذلك. قال سليمانُ : قد أبدَلَكِ اللهُ به مَلِكاً هو أعظمُ من مُلكه، وسُلطاناً خَيراً من سُلطانهِ، وهَداكِ للإسلامِ، وهو خيرٌ مِن ذلك كلِّه. قالت : هو كذلكَ ؛ ولكن إذا ذكرتُ أبي أصابَني ما ترَى من الحزن، فلو أمرتَ الشَّياطين فصوَّرُوا صورتَهُ في داري التي أنَا فيها آرَاها بُكرةً وعشِيّاً لرجوتُ أنْ يُذْهِبَ ذلك حُزني، ويسَلِّي عني بعضَ ما أجدُ. فأمرَ سُليمان الجنَّ فمَثَّلوا لها صورةَ أبيها في دارها كأنَّه هو، إلاَّ أنه لا روحَ فيه، فعمَدَت إليه حين صَنَعُوهُ فآزَرَتْهُ وقمَّصَتْهُ وعَمَّمَتْهُ وردَته بمثل ثيابهِ التي كان يلبسُها.
وكان إذا خرجَ سُليمان من دارها تغدُو عليه في ولائدِها حتى تسجدَ له ويسجُدنَ هُنَّ له، وكذلكَ كانت تعملُ بالعَشِيِّ وسليمانُ عليه السلام لا يعلمُ شيئاً من ذلك، فكانت على ذلك أربعينَ صباحاً، وبلغَ ذلك آصِفَ بن برخيا وكان صدِّيقاً، فقال لسُليمان عليه السلام : إنَّ غيرَ اللهِ يُعبد في دارك منذُ أربعين صَباحاً في هوَى امرأةٍ، قال : فِي داري؟! قال : في داركَ، قال : إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثم رجعَ سُليمان إلى دارهِ فكَسَرَ ذلك الصنمَ وعاقَبَ تلك المرأةِ وولائدَها، ثم خرجَ إلى فَلاَةٍ من الأرضِ وحدَهُ، فأمَرَ برمادٍ ثد رُشَّ، ثم أقبلَ تائباً إلى اللهِ حتى جلسَ على ذلك الرمادِ وتَمَعَّكَ فيه بثيابهِ تذلُّلاً لله عَزَّ وَجَلَّ وتضرُّعاً إليه، يدعُو ويبكي ويستغفرُ مما كان في دارهِ، فلم يزل يومَهُ كذلك حتى أمسَى ثم رجعَ.
وكانت أُمُّ ولَدٍ يقالُ لها الأَمِينَةُ، كان إذا دخلَ لقضاءِ حاجته وضعَ خََاتَمَهُ عندَها حتى يتطهَّرَ، وكان لا يَمَسُّ خاتَمهُ وإلاَّ وهو طاهرٌ، وكان مُلكه في خاتَمهِ، فوضعَ يوماً من الأيامِ خاتَمه عندها كما كان يضعهُ، ثم دخلَ موضعَ الحاجةِ فأتاها الشيطانُ صاحبُ البحرِ وكان اسمهُ صَخْراً على صورةِ سُليمان لا تُنكِرُ منه شيئاً، فقال : يا أمِينَةُ هاتِ خاتَمي، فناولَتْهُ إياهُ، فجعلَهُ في يدهِ ثم خرجَ حتى جلسَ على سريرِ سُليمان، وعكفَتْ عليه الطيرُ والجن والإنسُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ﴾ ؛ معناهُ : لَمَّا رجعَ مُلك سليمان إليه قال : رَب اغْفِرْ لِي ذنْبي وَهَبْ لِي مُلكاً لا أُسْلَبُ فيه كما سُلِبْتُ في المرَّة الأُولى، ﴿ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾، ولا يجوزُ أن يكون سؤالهُ الْمُلْكَ برغبتهِ له في الدُّنيا ولا بُخلاً بمثلهِ على مَن بعده، ولكن طلبَ آيةً تدلُّ جميعَ الخلقِ على أنَّ الله تعالى غَفَرَ له ذنبَهُ وردَّهُ إلى منْزِلَةِ الأنبياءِ عليهمُ السَّلام.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ :" أنَّهُ صَلَّى صَلاَةً فَقَالَ :" إنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي لِيُفْسِدَ عَلَيَّ صَلاَتِي، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ فَخَنَقْتُهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أُوثِقَهُ إلَى سَاريَةٍ حَتَّى تُصْبحُواْ وَتَنْظُروْا إلَيْهِ جَمِيعاً، فَذلِكَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ عليه السلام (وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي) " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ ؛ فاستجَبنا له دعاءَهُ وسخَّرنا له الريحَ تسيرُ بأمرهِ لَيِّنَةً كيف أرادَ، وذلك أنه كان إذا أرادَ تَسْييرَ الريحِ عاصفةً كانت تجرِي عاصفةً حالةَ حملِ السَّريرِ لكثرةِ مَن عليه من النُّجوم والحشَمِ والأواني والفُرَشِ والأطعمةِ والأشربةِ، وكانت في حالةِ ما تجرِي بالسَّرير وذلكَ أرفقُ بمَنْ يكون على السَّريرِ، وأبعدُ من الضَّرر.
ومعنى الآية : فسخَّرنا له الريحَ تجري بأمرهِ لَيِّنَةَ الْهُبُوب ليست بالعاصفِ ﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ أي حيث أرادَ من النواحِي، وحيث قَصَدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ ؛ أي وسخَّرنا له الشياطينَ يَبْنُونَ له الأبنيةَ الرفيعةَ التي تعجزُ عنها الإنسُ، ويَبْنُونَ له أيضاً ما يشاءُ من محاريب وتماثيلٍ، وقولهُ تعالى :﴿ وَغَوَّاصٍ ﴾ أي ويغُُوصُونَ له في البحرِ فيستخرجون لهُ اللآَّلِئَ والجواهرَ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ ؛ أي وسخَّرنا آخرين مِن الشياطين وهم الْمَرَدَةُ، سُخِّروا له حتى قَرَنَهم في الأصْفَادِ وهي السَّلاسِلُ من الحديدِ، فكان سليمانُ يجعل الشياطين مقرَّنين في القيودِ والأغلال، ويعرفُ مَن شاء منهم في الأعمالِ، فمعنى قوله ﴿ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ أي مشدُودون في القيُودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ ؛ معناهُ : قلنا لهُ هذا عطاؤُنا لكَ من المالِ والْمُلكِ والجنودِ المسخَّرة لم نُعطهِ أحداً قبلَكَ، ولا نعطيهِ أحداً بعدكَ.
وقوله ﴿ فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ﴾ أي إعطاء ما أعطيناكَ مَن شِئْتَ وكيف شئتَ وما شئتَ ولمن شئت، واحبسْ عمَّن شئتَ بغَيرِ تقديرٍ، ولم يؤخَذْْ عليك حدٌّ محدودٌ في المنعِ ولا في الإعطاءِ، ولا حرجَ عليك فيما فعلْتَ من ذلك، وقال في معنى ﴿ فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ﴾ أي أطلِقْ من الشَّياطين الذين أوثَقْتَهم أو امسِكْ في الوَثَاقِ مَن شئتَ منهم، وليس عليك في ذلك تَبعَةٌ ولا جزاءٌ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ﴾ ؛ أي وإنَّ مع ما خُصَّ به في الدُّنيا في الْمُلكِ والبَسْطَةِ والنبوَّة والرسالةِ لِقُربهِ عندنا، ﴿ وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾، في الآخرةِ ونَصيباً وافراً من ثَوَابنَا في الجنَّة، فجُمِعَ له ملكُ الدُّنيا وملكُ الآخرةِ.
وروي أن مدةَ مُلكِ سُليمان قبلَ الفتنةِ عشرين سنةً، ومَلَكَ بعد الفتنةِ عشرين سنةً، ومَلَكَ يوم مَلََكَ وهو ابنُ ثلاثَ عشر سنةً، وماتَ وله ثلاثٌ وخمسون سنةً، ومدَّة مُلكه أربعون سنةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ ؛ معناهُ : واذكُرْ يا مُحَمَّد عبْدَنا أيُّوب إذ نادَى رَبَّهُ في البلاءِ فقالَ : يا رَب إنِّي أصابَني الشيطانُ بنُصْبٍ ؛ أي بتَعَبٍ في بدَنِي وعذابٍ في أهلي ومالِي. والنُّصْبُ والنَّصْبُ بمعنى واحدٍ، مثل الرَّشَدِ والرُّشْدِ والْحَزَنِ وَالْحُزْنِ.
قرأ أبو جعفرٍ (بنُصُبٍ) بضمَّتين، وقرأ يعقوبُ (بنَصَبٍ) بفتحِ النون والصاد، وقرأ هُبَيْرَةُ عن حفصٍ وعاصم (بنَصْبٍ) بفتح النونِ وجزم الصاد، وقرأ الباقون بـ (النُّصْب) بضمِّ النون وسُكون الصاد، وكلُّ ذلك لغاتٌ فيه.
قال قتادة :(مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ النُّصْبُ الضُّّرُّ فِي الْجَسَدِ، وَالْعَذابُ فِي الْمَالِ). قال السديُّ :(النُّصْبُ أنْصَبَ الْجَسَدَ، وَالْعَذابُ أهْلَكَ الْمَالَ).
ثُم فرَّجَ اللهُ عنه، واختلفوا في سبب بَلاء أيُّوب، قال الحسنُ رضي الله عنه :(إنَّ ابليسَ قالَ : يا رب هل مِن عبيدك مَن إنْ سلَّطَتنِي عليه يمتنعُ عليَّ ؟ قال : نَعَمْ ؛ عبدِي أيُّوبُ، فجعلَ يأتيهِ الشيطانُ بوِسَاوسِهِ وحبائلهِ فلا يقدرُ منه على شيءٍ. قال : يا رب إنه قدِ امتنعَ عليَّ فسَلِّطْنِي على مالهِ، فجعلَ يأتيهِ فيقولُ : يا أيوبُ هَلَكَ مِن مالِكَ كذا وكذا، فيقولُ أيوب : اللَّهُمَّ أنتَ قد أعْطَيْتَنِيَهُ وأنتَ قد أخذتَهُ، اللَّهُمَّ لكَ الحمدُ على ما منَعْتَ، ولكَ الحمدُ على ما أبقيتَ، فمكثَ كذلك حتى هَلَكَ مالهُ كلُّه.
فقال إبليسُ : يا رب إنَّهُ لا يُبالِي بمالهِ فسَلِّطْنِي على جسدهِ، فأنَّكَ لو سلَّطَتَني على جسدهِ لم تجدْهُ شَاكراً، فسَلَّطَهُ عليه فنفخَ في أنفهِ فانتفخَ وجههُ وسَرَى ذلك إلى جسدهِ، فوقعَ فيه الديدانُ.
إلاَّ أنَّ هَذا الْقَوْلَ لاَ يَصِحُّ وَلاَ وَجْهَ لقَبُولِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ يُسَلِّطَ اللهُ إبْلِيسَ عَلَى نَبيٍّ مِنْ أنْبِيَائِهِ فَيَفْعَلُ بهِ مَا أحَبَّ.
ويقالُ : سببُ ابتلائهِ أنَّ إنسَاناً استغاثَ بهِ في ظُلمٍ يدرَؤهُ عنه، فصبرَ لوردهِ حتى فاتَهُ فابتُلِيَ. فلَمَّا مكثَ أيوبُ في البلاءِ ما مكثَ، قاربَتِ امرأتهُ الشيطانَ في بعضِ الأُمور، قِيْلَ : إنَّ الشيطانَ قال لها : لئِنْ أكلَ أيُّوبُ طَعاماً لم يذْكُرِ اسمَ الله عليه عُوفِيَ. ويقالُ : إنَّها قالت لأَيُّوبَ : لو تَقرَّبْتَ إلى الشيطانِ فذبحتَ له عِنَاقاً، فقالَ : لا واللهِ، ولاَ كَفّاً من تُرابٍ. وحلفَ ليَجْلِدَنَّهَا إنْ عُوفِيَ مائةَ جلدةٍ. وَقِيْلَ : إن إبليسَ قالَ لها : إنْ شَفَيْتُهُ تقولِين لِي شفيتَهُ، فأخبرَتْ بذلك أيوبَ فحلفَ.
فلما طالَ البلاءُ على أيُّوب، وبلغَ به غايةَ الجدِّ سألَ الله تعالى أنْ يكشِفَ ضُرَّهُ، فقيلَ له :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ ؛ أي اضرِبْ بها الأرضَ، فرَكَضَ برجلهِ الأرضَ فنَبَعَتْ عَينُ ماءٍ فاغتسلَ منها فذهبَ الداءُ من ظاهرهِ، فضربَ برجلهِ الأرض مرَّةً أُخرى فنبعَ ماءٌ وشرِبَ منه، فذهبَ الداءُ من باطنِ جسده. والرَّكْضُ : هو الدفعُ بالرِّجلِ على جهة الإسراعِ، ومنه ركضُ الفرس لاسراعهِ، والْمُغْتَسَلُ موضعُ الاغتسالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ ﴾ ؛ أي أحْيَيْنَا له أهلَهُ وأولادَهُ الذين كانوا بأَعيانِهم، ﴿ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ ﴾، ورزقناهُ مثلَهُم في المستقبلِ، ﴿ رَحْمَةً مِّنَّا ﴾، أي نعمةً مِنَّا عليه، ﴿ وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾، وعظمةً لأُولِي العقولِ من النَّاس، وذلكَ ليعلَمَ العاقلُ أنَّ ما يصيبهُ في الدُّنيا من الْمِحَنِ والْمَكَارهِ والمصائب في النَّفسِ والأهلِ والمال، لا يكونُ لِهَوانِ العبدِ على اللهِ كما يظنُّه الْجُهَّالُ، وإنَّما هو امتحانٌ من اللهِ لأوليائه كي يُعوِّضَهُمْ بذلك جَزِيلَ ثوابهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ ؛ وذلك أنَّ أيوبَ كان حلفَ في مرضهِ أن يجلدَ امرأتَهُ مائةَ جلدةٍ، وكان ذلك لشيءٍ كَرِهَهُ منها على ما تقدَّم، فجعلَ الله تَحِلَّةَ يَمِينِهِ أن يأخذ حُزمةً واحدةً فيها مائةُ قضيبٍ فيضرِبُها بهِ. والضِّغْثُ : هو مِلْءُ الكَفِّ من الشجرةِ والحشيشِ والشَّمَاريخِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ أي لا تَدَعِ الضَّربَ فتَحْنَثُ، وفي هذا دليلٌ على جواز الاحتيالِ بمثل هذه الحِيلَةِ في اليمينِ على الضَّرب، فأما في الحدُودِ فلا يجوزُ الاحتيالُ بمثلِ هذا ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾[النور : ٢] وهذا نَهْيٌ عن التخفيفِ عن مَن وجبَ عليه الحدُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ؛ أي إنَّهُ صَبَرَ على البلاءِ الذي ابتُلي به. فإنْ قِيْلَ : كيف صَبَرَ وهو يقولُ مسَّنِيَ الضُّرُّ ؟ قِيْلَ : إنه لم يَشْكُ إلى مخلوقٍ وإنما شَكَا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حين ألَحَّ عليه الشيطانُ بالوسوسةِ، وخافَ على نفسهِ أن لا يقومَ بطاعةِ الله تعالى، فدعَا اللهَ بعد أن أُذِنَ له في الدُّعاء. والأَوَّابُ : هو الْمُقْبلُ على طاعةِ الله تعالى الرَّاجِعُ إليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ معناهُ : اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لقَومِكَ وأُمَّتِكَ حديثَ هؤلاء الأنبياءِ ؛ ليقتَدُوا بهم في حُسْنِ إقبالِهم ؛ فيستَحِقُّوا بذلك جميلَ الثَّناءِ وجزيلَ الثَّواب. وقال مقاتلُ :(مَعْنَاهُ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ صَبْرَ عِبَادِنَا إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّار، وَصَبْرَ اسْحَقَ عَلَى الذبْحِ، وَصَبْرَ يَعْقُوبَ حِينَ ذهَبَ بَصَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَاعِيلَ لأَنَّهُ لَمْ يُقْبلْ بشَيءٍ).
قَوْلُهُ :﴿ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ﴾ ؛ معناهُ : أُولِي القوَّةِ في طاعةِ الله والأبصار في معرفةِ الله. قال قتادةُ :(أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَبَصَرٍ فِي الدِّينِ). ويقالُ : إنَّ الأيدِي جمعُ اليَدِ وهي الصَّنيعةُ ؛ أي وهم ذُوو الصَّنائِعِ الجميلةِ في طاعةِ الله تعالى.
وقرأ الحسنُ :(الأَيْدِ) بغيرِ الياء وهو عبارةٌ عن القوَّة. ويجوزُ أن يكون المرادُ به، فحذفَ الياءِ كما نحذفُ الدَّاعِي والهادِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار ﴾ ؛ معناهُ : إنا آثرنَاهُم بخِصلَةٍ خَالِصَةٍ وهي ذكرَى الدار الآخرة. وقال مجاهدُ :(إنَّهُمْ كَانُواْ يُكْثِرُونَ ذِكْرَ الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ غَيْرُهَا). وقال السديُّ :(أخْلَصُواْ بذِكْرِ الآخِرَةِ ؛ أيْ بخَوْفِ الآخِرَةِ) ﴿ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ ﴾ ؛ الأصْفِيَاءُ هو إخرَاجُ الصَّفوَةِ مِن كلِّ شيءٍ، فهُم صَفْوَةٌ وغيرُهم كَدَرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ﴾ ؛ أي اذكُرْهُم بصبرِهم وفضلِهم لتسلُكَ طريقَهم، ﴿ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ ﴾. والْيَسَعُ نبيٌّ من الأنبياءِ، قال الكلبيُّ :(هُوَ ابْنُ عَمِّ الْيَاسَ). وَأمَّا ذِي الكِفْلِ وهو نبيٌّ أيضاً كَفَلَ مائةَ نَبيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ يُطعِمُهم ويَسْقِيهِمْ. وَقِيْلَ : إنه كان يعملُ في العبادة عَمَلَ رجُلَين فسُمِّي ذا الكفلِ، والكفلُ الضِّعْفُ كما في قوله تعالى :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾[الحديد : ٢٨].
وقولهُ تعالى :﴿ هَـاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ ؛ أي هذا القرآنُ عِظَةٌ وشَرَفٌ للناسِ، وَقِيْلَ : هو ذِكْرٌ في الدُّنيا لهؤلاء الأنبياءِ يُذكَرُونَ بهِ أبدأ، وإنَّ لهم مع ذلك لَحُسْنَ مرجعٍ في الآخرة، فَسَّرَ حُسنَ المرجعِ فقال :﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾ ؛ أي بسَاتِين إقامةٍ، ﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ ﴾ ؛ وانتصبَ على الحالِ، وذلك أنَّهم اذا انْتَهَوا إليها وجدُوها مُفَتَّحَةَ الأبواب لا يُحبَسُونَ على الباب ليُفتَحَ لهم عند الوُرُودِ. ويقال : إنَّ أبوابَها تُفتَحُ من غيرِ فَتْحٍ ولا مفتاحٍ، والْمُفَتَّحَةُ أبلغَ من اللفظِ من الْمَفْتُوحَةِ، والألِفُ واللامُ في قولهِ ﴿ الأَبْوَابُ ﴾ عِوَضٌ عن الإضافةِ ؛ تقديرهُ : مُفَتَّحَةٌ لَهُمْ أبْوَابُهَا كما في قولهِ تعالى﴿ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾[النازعات : ٤١].
وقولهُ تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا ﴾ ؛ أي في الجنَّات، ﴿ يَدْعُونَ فِيهَا ﴾ ؛ في الجناتِ، ﴿ بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴾ ؛ أي يَدْعُون في الجناتِ بألوانِ الفاكهة وألوان الشَّراب. والاتِّكَاءُ : هو الاسْتِمْسَاكُ بالسِّنَادِ على هيئةِ جُلوسِ الْمُلُوكِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ ﴾ ؛ أي وعندَهم حُورٌ في الجنَّةِ قََاصِرَاتُ الطَّرْفِ على أزواجِهنَّ لا يُرِدْنَ غيرَهم بقُلوبهم ولا يَنْظُرْنَ إلى غيرِ أزواجهنَّ. وقوله ﴿ أَتْرَابٌ ﴾ أي مُستَوِياتٌ على ميلادٍ امرأة واحدة، مستويات في السِّنِّ والشباب والْحُسنِ، كلُّهن بناتُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ ؛ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو بالياءِ ؛ ومعناه : قُل للمتَّقين : هذا ما يُوعَدون به ليومِ الحساب. وقرأ الباقون (يُوعَدُونَ) بالياء ؛ أي هذا الذي تقدَّم ذِكرهُ ما يوعَدُ به المتَّقون على لسانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية : هذا الذي ذكرناهُ ما توعدونَ به يومَ الحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا ﴾ ؛ أي هذا الذي ذكرناهُ رزقنا لهم، ﴿ مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ ؛ أي ما لَهُ مِن انقطاعٍ ولا فَناءٍ. قال ابنُ عبَّاس :(لَيْسَ بشَيْءٍ فِي الْجَنَّةِ نَفَادٌ، مَا أُكِلَ مِنْ ثِمَارهَا خُلِّفَ مَكَانَهُ مِثْلَهُ، وَمَا أُكِلَ مِنْ حَيْوَانِهَا وَطَيْرِهَا عَادَ حَيّاً مَكَانَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ ؛ أي هذا الثوابُ الذي تقدَّم ذِكرهُ للمتَّقين، ثم ابتدأ الخبرَ عمَّا للطَّاغِينَ فَقَالَ :﴿ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ﴾ أي الذين طَغَوا على اللهِ وكذبُوا الرُّسلَ وجاوزوا الحدَّ في الكفرِ والمعصية ﴿ لَشَرَّ مَآبٍ ﴾ أي لشَرِّ مرجعٍ ومصير، ثم أخبرَ بذلك فقال :﴿ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ﴾ ؛ أي يلزَمُونَها يومَ القيامةِ، ﴿ فَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ ؛ يُمهِّدُنَّها لأنفسهم، ﴿ هَـاذَا ﴾ العذابُ ﴿ فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ﴾ ؛ أي يقالُ لهم في ذلك اليومِ : هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ.
والْحَمِيمُ : الماءُ الحارُّ الذي قد انتَهى حَرُّهُ من طِينَةِ الْخَبَالِ وهي عُصَارَةُ أهْلِ النَّار. والغَسَّاقُ : ما سَالَ من جُلودِ أهلِ النَّار من القَيْحِ والصَّديدِ، مِن قولهم : غَسَقَتْ عينهُ إذا تَصَبَّتْ، والغَسَقَانُ الانْصِبَابُ.
قرأ حمزةُ والكسائي وخلف :(وَغَسَّاقٌ) بالتشديد على معنى أنه يُسَالُ من صَديدِ أهلِ النار. وقرأ الباقون بالتخفيف مصدرُ غَسَقَ يَغْسِقُ إذا سَالَ.
قال الكلبيُّ :(الْغَسَّاقُ هُوَ الزَّمْهَرِيرُ الْبَارِدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى بَرْدُهُ، يُحْرِقُهُمْ ببَرْدِهِ كَمَا تُحْرِقُهُمُ النَّارُ). وقال ابنُ زيد :(هُوَ الْمُنْتَنُّ بلُغَةِ التُّرْكِ وَالطَّخَاريَّةِ وَالْعَمَالِيقِ). وقال الحسنُ :(لاَ أدْري مَا الْغَسَّاقُ وَمَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئاً مِنَ الصَّحَابَةِ إلاَّ أنَّهُ بَعْضُ مَا أُعِدَّ لأَهْلِ النَّار، قَوْمٌ أخْفَواْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ أعْمَالاً فَأَخْفَى اللهُ لَهُمْ عِقَاباً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ ؛ قرأ الأكثرون (وَآخَرُ) على الوِحْدَانِ ؛ أي وعذابٌ آخَرُ من شكلِ العذاب الأوَّل، والشَّكْلُ الْمِثْلُ ؛ يعني ضَرْباً من العذاب على مثلِ الحميم والغَسَّاق في الكَرَاهَةِ. وقرأ أهلُ البصرة (وَأُخَرُ) على الجمعِ على معنى : وأنواعٌ أُخَرُ مِنْ شَكْلِهِ ؛ أي وأصنافٌ من العذاب، وقولهُ ﴿ أَزْوَاجٌ ﴾ أي ألوانٌ وأنواع وأشباهٌ.
وقولهُ تعالى :﴿ هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ ﴾ ؛ معناهُ : أنَّ القادةَ والرؤساءَ مِن المشركين إذا دخَلُوا النارَ ثم دخلَ بعدَهم الاتباعُ، قال الملائكةُ من الْخَزَنَةِ للقادةِ : هذا فوجٌ ؛ أي قطيعٌ من الناسِ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ النارَ، أي داخلون معكم النار، فتقولُ القادة :﴿ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ ﴾ ؛ كما صَلَيْنَاهَا، فيقول الاتباعُ للقادةِ :﴿ قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ﴾ ؛ أي أنتم بَدَأتُمْ بالكفرِ قبلَنا، ﴿ فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ ؛ جهنَّم للمشركين.
ثم يقولُ الأتباعُ :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ﴾ ؛ أي يقولون ربَّنَا مَنْ شَرَّعَ لنا هذا الكُفرَ وسَنَّهُ لنا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً في النار. والاقتحامُ : هو الدخولُ في الشَّيء بشدَّةٍ وصُعوبَةٍ. وذلك أنَّ أهلَ النار يُسَاقُونَ إليها فَوْجاً فَوْجاً، فيقالُ للرُّؤساء : هؤلاءِ الاتباعُ داخلون معكم، فيقولونَ لاَ مَرْحَباً بهِمْ، كيف يدخلُون معنا ونحنُ في هذا الضِّيق؟! فيقولُ لهم الْخَزَنَةُ : إنَّهُمْ صَالُوا النَّار ؛ أي دَاخِلُونَها كما دخلتُم.
والرَّحْبُ في اللغة هو السِّعَةُ، وكذلك الْمَرْحَبُ، ومعنَى لا مَرْحَباً بهم يعني لا اتَّسعت بهم مساكنُهم ولا كرامةَ لهم، وهذا إخبارٌ أن مَوَدَّتَهُمْ تنقطعُ وتصير عداواةً، فيقول لهم الأتباعُُ :﴿ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ ﴾ أي لا وَسَّعَ الله عليكم، أنتم شَرَعتُم لنا بهذا العذاب، فيقولُ الله تعالى :﴿ فَبِئْسَ الْقَرَارُ ﴾ أي بئْسَ المكانُ الذي أنتم فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ﴾ أي قالت الأتباعُ والقادةُ جميعاً : ربَّنا مَنْ سَنَّ لنا هذا الكفرَ قبلَنا فَزِدْهُ عذاباً ضِعْفاً مما علينا من العذاب، يعني حيَّاتٍ وعقاربَ وأفاعي. قال الحسنُ :(مَا مِنْ أحَدٍ مِنْ أهْلِ النَّار إلاَّ وَهُوَ يَعْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْطَانَهُ الَّذِي يُضِلُّهُ وَيُوَسْوِسُ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ ﴾ ؛ قال الكلبيُّ :(وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ يَنْظُرُونَ فِي النَّار، فَلاَ يَرَوْنَ مَنْ كَانَ يُخَالِفُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَار الدُّنْيَا يَعْنِي فُقَرَاءَ الْْمُؤْمِنِينَ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقُولُونَ : رَبَنَّا مَا لَنَا لاَ نَرَى رجَالاً كُنَّا نَعُدَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الأَشْرَار ؛ أي كُنَّا نَعُدُّهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّفَلَةِ، وَنَقُولُ لَهُمْ : أنْتُمْ تَتْرُكُونَ شَهَوَاتِكُمْ تَطْلُبُونَ بذلِكَ النِّعَمَ بَعْدَ الْفَنَاءِ، فَهَذا مَعْنَى ﴿ كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ ﴾ وَهُمْ عَمَّارُ وَخَبَّابُ وَصُهَيْبُ وَبلاَلُ وسَلْمَانُ وَسَالِمُ وَأشْبَاهُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ).
قَولُهُ تَعَالَى :﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَار ﴾ ؛ أي يقولُون قد اتَّخذناهُم سِخْرِيّاً ؛ أي مَالَتْ أبصارُنا عنهم فلم نكن نعدُّهم شيئاً، فال الحسنُ :(كُلُّ ذلِكَ قَدْ فَعَلُوهُ، اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيّاً وَزَاغَتْ عَنْهُمُ أبْصَارُهُمْ مُحَقِّرَةً لَهُمْ).
ومن قرأ (اتَّخَذْنَاهُمْ) بقطع الألف وفتحِها معناهُ الاستفهامُ ؛ كأنَّهم يُنكرون ذلك على أنفُسِهم، وهم يقولون في الآخرةِ سخَّرنَاهُم وَزَاغَتْ أبصارُهم عنهم لضَعفِهم، فيقولون : ما لنَا لا نراهُم، ولم يدخلُوا معنا في النار، أمْ دخَلُوا معنا ولكن لا نراهُم.
وفي قولهِ ﴿ سِخْرِيّاً ﴾ قِراءَتان : ضَمُّ السِّين وكسرُها، فمَن ضمَّها فهو من السُّخرِيَةِ ؛ أي استذلُّوهم، ومَن قرأها بالكسرِ فهو من الْهُزْؤ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ ﴾ ؛ أي إنَّ الذي وُصف عنهم لصِدْقٌ كائن واقعٌ، ثم بَيَّنَ ما هو فقالَ :﴿ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ﴾ ؛ أي تخاصُم القادةِ والأتباعِ على ما أخبر به عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ ﴾ ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : إنَّمَا أنَا مُنْذِرٌ لكم أُحذِّرُكم عقوبةَ اللهِ، ﴿ وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ ؛ أي وقُل لهم أيضاً : مَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ لا شريكَ لهُ، القَهَّارُ لِخَلقهِ الغالبُ عليهم، ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ ؛ أي المنتقمُ ممَّن لا يؤمنُ به، المتجاوزُ عمَّن تابَ وآمنَ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لهم هذا القرآنِ الذي أتيتُكم به عظيمُ الشَّأن والشرفِ، أنتُم عن تدبُّرهِ والعملِ بهِ مُعرضون. وَقِيْلَ : معناهُ أمرُ القيامةِ عظيمٌ ؛ ﴿ أَنتُمْ عَنْهُ ﴾ ؛ عن الاستعدادِ له، ﴿ مُعْرِضُونَ ﴾.
وقَوْلُهُ :﴿ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ ؛ معناهُ : إن النبأَ الذي أتيتُكم به من قصَّة آدمَ وإبليس دليلٌ واضح على نُبُوَّتِي ؛ لأن ذلك لا يُعلمِ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى أو بقراءةِ الكُتب، ثم بَيَّنَهُ من بعدُ بقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾[البقرة : ٣٠] الآيةُ أي إنِّي ما علمتُ ذلك إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ؛ معناهُ : ما يُوحَى إلَيَّ هذا القرآنُ، ﴿ إِلاَّ أَنَّمَآ ﴾ ؛ لأَنَّي ؛ ﴿ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي ما يُوحى إلَيَّ إلاَّ لأَنِّي نبيٌّ ونذيرٌ مُبين، أُبَيِّنُ لكم ما تَأْتُونَ من الفرائضِ والسُّنن، وما تترُكون من الحرامِ والمعصية.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ هذا.
وقوله :﴿ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ ؛ أي ما مَنَعَكَ عن السُّجودِ لِمَنْ تولَّيتُ خَلْقَهُ من غيرِ واسطةٍ وسبب، وقوله :﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾، أي رفعتَ نفسَكَ فوق قدركَ، ﴿ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ الذين عَلَو فِي مَنْزِلَةٍ من السُّجود لمثلهِ.
قال ابليسُ :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ ؛ والنارُ شيء مضيءٌ، والطِّينُ شيء مظلمٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ ؛ أي قيلَ : مِن السَّماء، وَقِيْلَ : من الجنَّة، وَقِيْلَ : من الأرضِ إلى جزائرِ البحار. والرَّجِيمُ : هو الْمَرْجُومُ بالْخِزْيِ والفضيحةِ والشُّهُب إذا رجعَ إلى السَّماء. ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ ؛ المؤجَّلِين إلى وقتِ النَّفخة الأُولى، فلم يُجِبْهُ إلى ما سألَ، ولم يُعَرِّفْهُ ذلك الوقت.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ ؛ أي لأَدعُونَّهم إلى الغِوَايَةِ ولأُضِلَّنَّهُمْ، ﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾، إلاَّ عبادك الذين أخلَصْتَهم وعَصَمْتَهم فلا سبيلَ لي عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ ؛ قول مجاهدِ والأعمش وحمزة وخلف : برَفْعِ الأوَّل ونصب الثاني ؛ أي بمعنى فأنَا الْحَقُّ أو فَمِنِّي الحقُّ وأقولُ، وقرأ الباقون بنصبهما.
واختلفَ النُّحاة في وجهِ ذلك، فقيل : نُصِبَ الأولُ على الإغراءِ، والثاني بإيقاعِ القولِ عليه. وَقِيْلَ : الأولُ قَسَمٌ، والثاني مفعولٌ، تقديرهُ : قالَ فبالْحَقِّ وهو اللهُ، أقسَمَ بنفسهِ ثم حذفَ الخافضَ فنُصِبَ كما يقولُ الله : لأَفْعَلَنَّ، أقْسَمَ اللهُ تعالى ليمْلأَنَّ جهنَّمَ من إبليس وأتباعهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لكفَّار مكَّة : ما أسأَلُكم على تبليغِ الوحي والقرآنِ من مالٍ تُعْطُونِيَهُ جُعلاً، ﴿ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ ؛ أي لم أتَكَلَّفْ دُعاءَكم اليه من تلقاءِ نفسي بل أُمرت بذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ؛ أي ما القرآنُ إلاَّ مَوعِظَةٌ للحقِّ أجمعين، ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ ﴾ ؛ أنتُم يا كفارَ مكَّة، ﴿ نَبَأَهُ ﴾ ؛ أي خَبَرَ صدقهِ، ﴿ بَعْدَ حِينِ ﴾ ؛ أي بعدَ الموتِ، وَقِيْلَ : يومَ القيامةِ. وقال الحسنُ :(يَا ابْنَ آدَمَ ؛ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ).
Icon