ﰡ
وقال ابن عباس ﴿ ذِي الذكر ﴾ ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة. ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف، مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار، واختلفوا في جواب هذا القسم : فقال قتادة : جوابه ﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ واختاره ابن جرير، وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ أي إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم ﴿ فِي عِزَّةٍ ﴾ أي استكبار عنه وحمية، ﴿ وَشِقَاقٍ ﴾ أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة، ثم خوفهم ما أهلك به الأمم الكاذبة قبلهم فقال تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ ﴾ أي من أمة مكذبة، ﴿ فَنَادَواْ ﴾ أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى، وليس ذلك بمُجْدٍ عنهم شيئاً، كما قال عزّ وجلّ :﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٢ ] أي يهربون، قال التميمي : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ! قال : لليس بحين نداء ولا نزاعٍ ولا فرار، وعن ابن عباس : ليس بحين مغاث، نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تذكَّرَ ليلى لات حين تذكر... وقال محمد بن كعب : نادوا بالتوحيد حيث تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم، وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء، وقال مجاهد :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ليس بحين فرار ولا إجابة، وعن زيد بن أسلم :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ولا نداء في غير حين النداء، وهذه الكلمة، وهي ( لات ) هي ( لا ) التي للنفي زيدت معها التاء، كما تزايد في ثم، فيقولون : ثمت، ورب، فيقولون : ربت. وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر، والبوص : التقدم، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ أي ليس حين فرار، ولا ذهاب، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
( ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات )
روى ابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم ( أبو جهل ) فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي ﷺ، فدخل البيت، وبينهم وبين أبو طالب قدر مجلس رجُل، قال : فخشي أبو جهل، لعنه الله، إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله ﷺ مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب : أي أين أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال : وأكثر عليه من القول، وتكلم رسول الله ﷺ فقال :» يا عم إني إريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية «، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم : كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً، فقالوا : وما هي؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال ﷺ :» لا إله إلا الله «، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون :﴿ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ ونزلت من هذا الموضع إلى قوله :﴿ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ﴾ ».
وقولهم :﴿ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة ﴾ أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد بن التوحيد في الملة الآخرة، قال مجاهد و قتادة : يعنون دين قريش، وقال السدي : يعنون النصرانية، وقال ابن عباس :﴿ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة ﴾ يعني دين النصرانية، قالوا : لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرتنا به النصارى ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق ﴾ قال مجاهد : كذب، وقال ابن عباس : تخرص، وقولهم :﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا ﴾ يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كما قال في الآية الأخرى :
ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه، الفعال لما يشاء، الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده، وأنَّ العباد لا يملكون شيئاً من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة، ولهذا قال تعالى منكراً عليهم :﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب ﴾ أي العزيز الذي لا يرام جنابه، الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ٥٣-٥٤ ] الآية، كما أخبر عزّ وجلّ عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا :﴿ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر ﴾ [ القمر : ٢٥-٢٦ ] وقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب ﴾ أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب، قال ابن عباس : يعني طرق السماء، وقال الضحاك : فليصعدوا إلى السماء السابعة، ثم قال عزّ وجلّ :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب ﴾ أي هؤلاء الجند المكذبون سيهزمون ويغلبون، ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين، وهذه الآية كقوله جلَّت عظمته :﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر ﴾ [ القمر : ٤٤-٤٥ ] كان ذلك يوم بدر ﴿ بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ ﴾ [ القمر : ٤٦ ].
ولهذا قال عزَّ وجلَّ :﴿ والطير مَحْشُورَةً ﴾ أي محبوسة في الهواء ﴿ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي مطيع يسبح تبعاً له، قال سعيد بن جبير وقتادة ﴿ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ﴾ أي مطيع، وقوله تعالى :﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ أي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك، قال مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطاناً، وقال السدي : كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف، وقوله عزّ وعلا :﴿ وَآتَيْنَاهُ الحكمة ﴾ قال مجاهد : يعني الفهم والعقل والفطنة، وعنه :﴿ الحكمة ﴾ العدل، وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه وقال : السدي :﴿ الحكمة ﴾ النبوة، وقوله جلّ جلاله :﴿ وَفَصْلَ الخطاب ﴾ قال شريح القاضي والشعبي : فصل الخطاب : والشهود والأيمان، وقال قتادة : شاهدان على المدعي أو يمين المدعي عليه، وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهم ذلك، وقال مجاهد أيضاً : هو الفصل في الكلام وفي الحكم، وهذا يشمل كل ذلك، وهو المراد اختباره ابن جرير، وعن أبي موسى رضي الله عنه، أول من قال :( أما بعد ) داود عليه السلام، وهو فصل الخطاب، وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب : أما بعد.
وقد اختلف الأئمة في سجدة ( ص ) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين : الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود، قل هي سجدة شكر؛ والدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : السجدة في ( ص ) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله ﷺ يسجد فيها، وروى البخاري عند تفسيرها عن العوام قال : سألت مجاهداً عن سجدة ( ص ) فقال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت؟ فقال : أو ما تقرأ :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ]، و ﴿ أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] فكان داود ﷺ ممن أمر نبيكم صى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة السلام، فسجدها رسول الله ﷺ. وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عزّ وجلّ بها، وحسن مرجع، وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه، كما جاء في الصحيح :« المقسطون على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في أهليهم، وما ولوا » وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ :« إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأقربهم منه مجلساً إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر ».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن رسول الله ﷺ قام يصلي الصبح، وأنا خلفه فقرأ، فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال :» لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل « ».
وقوله تبارك وتعالى :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ قال الحسن البصري : لما عقر سليمان ﷺ الخيل غضباً لله عزّ وجلّ، عوّضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وقوله جل علا :﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ أي حيث أراد من البلاد، وقوله جل جلاله :﴿ والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ ﴾ أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما بها من اللآلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها، ﴿ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ﴾ أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن تمرد وعصى، وامتنع من العمل وأبى، أو قد أساء في صنيعه واعتدى، وقوله عزّ وجلّ :﴿ هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا، فأعظ من شئت، واحرم من شئت، لا حساب عليك، أي مهما فعلت فهو جائز لك، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ لما خيِّر بين أن يكون ( عبداً رسولاً )، وبين أن يكون ( نبياً ملكاً ) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، بلا حساب ولا جناح، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل عليه السلام، فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى، لأنها أرفع قدراً عند الله عزّ وجلّ وأعلى منزلة من المعاد، ون كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والآخرة، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان ﷺ في الدنيا نبه تعالى أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضاً، فقال تعالى :﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ أي في الدار الآخرة.