تفسير سورة ص

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة ص من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿عِزَّةٍ﴾ تكبر وامتناع عن قبول الحق، وأصلها الغلبة والقهرُ ومنه قولهم «من عَزَّ بزَّ» يعني من غلب سلب ﴿شِقَاقٍ﴾ مخالفة ومباينة ﴿مَنَاصٍ﴾ المناص: الملجأ والغوث والخلاص ﴿عُجَابٌ﴾ بالغ الغاية في العجب قال الخليل: العجيب: العجب، والعُجَاب الذي قد تجاوز حدَّ العجب ﴿اختلاق﴾ كذب وافتراء ﴿فَوَاقٍ﴾ الفَوَاق: الاستراحة، والإِفاقة قال الجوهري: الفواق والفواق: مابين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم ت ترك ساعة يرضعها الفصيل لتدرَّ ثم تُحلب وقوله تعالى ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة ﴿قِطَّنَا﴾ القِطُّ: الحظُّ والنصيب ﴿الأيد﴾ القوة في العبادة والطاعة ﴿تَسَوَّرُواْ﴾ تسور الحائط علا أعلاه وتسلقه، والسور: الحائط ﴿تُشْطِطْ﴾ قال علماء اللغة: الشَّطط: مجاوزة الحد وتخطي الحق، يقال: شطَّ في الحكم أي جار فيه ولم يعدل، والأصل فيه: البعدُ من شطَّت الدار بمعنى بعدت.
التفسِير: ﴿ص﴾ تقدم الكلام على الحروف الهجائية، وبينا أن فيها الإِشارة إلى إعجاز القرآن ﴿والقرآن ذِي الذكر﴾ قسمٌ أقسم به الباري جل وعلا أي والقرآن ذي الشرف الرفيع، وذي الشأن والمكانة، وجواب القسم محذوف تقديره إن هذا القرآن لمعجز وإن محمداً لصادق قال ابن
45
عباس: ﴿ذِي الذكر﴾ أي ذي الشرف ﴿بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ أي بل الكافرون في حميةٍ وتكبرٍ عن الإِيمان، وفي خلافٍ وعداوة للرسول عليه السلام قال البيضاوي: أي ما كفر من كفر بالقرآن لخلَلٍ وجده فيه بل الذين كفروا به ﴿عِزَّةٍ﴾ أي استكبار عن الحق ﴿وَشِقَاقٍ﴾ أي خلاف للهِ ولرسوله ولذلك كفروا به ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ أي كم أهلكنا قبل أهل مكة من أمم كثيرة من القرون الخالية، لكبرهم عن الحق ومعاداتهم لرسلهم، قال أبو السعود: والآية وعيد لأهل مكة على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين ﴿فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ أي فاستغاثوا واستجاروا عند نزول العذاب طلباً للنجاة، وليس الحينُ حينَ فرارٍ ومهرب ونجاة قال ابن جزي: المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك، إذ ليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص أي مفر ونجاة من ناص ينوص إذا فرَّ، ولات بمعنى ليس وأصلها لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث ﴿وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ﴾ أي وعجب المشركون من بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ﴿وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ أي وقال كفار مكة: إن محمداً ساحرٌ فيما يأتي به من المعجزات ﴿كَذَّابٌ﴾ أي مبالغ في الكذب في دعوى أنه رسول الله، وإنما وضع الاسم الظاهر ﴿الكافرون﴾ مكان الضمير «وقالوا» غضباً عليهم، وذماً لهم وتسجيلاً لجريمة الكفر عليهم، فإن هذا الاتهام لا يقوله إلا المتوغلون في الكفر والفسوق ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ ؟ أي أزعم أن الربَّ المعبود واحد لا إله إلا هو؟ ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ أي إنَّ هذا الذي يقوله محمد ان الإله واحد شيء بليغٌ في العجب قال ابن كثير: أنكر المشركون ذلك قبَّحهم الله وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقَّوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأُشربته قلوبهم، فلما دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى خلع الأوثان وإفراد الإِله بالوحدانية، أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ قال المفسرون:
«إن قريشاً اجتمعوا وقالوا لأبي طالب: كُفَّ ابنَ أخيك عنا، فإنه يعيب ديننا، ويذم آلهتنا، ويسفِّه أحلامنا، فدعاه أبو طالب وكلَّمه في ذلك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا عم: إنما أُريد منهم كلمةً واحدة، يملكون بها العجم، وتدين لهم بها العرب، فقال أبو جهل والمشركون: نعم نعطيكها وعشر كلماتٍ معها!! فقال قولوا:» لا إله إلا الله «فقاموا فزعين ينفصون ثيابهم ويقولون ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً... ﴾ ؟» فنزلت الآيات ﴿وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ﴾ أي وانطلق أشراف قريش ورؤساء الضلال فيهم، وخرجوا من عند الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، ولا تطيعوا محمداً فيما يدعوكم إليه من عبادة الله الواحد الأحد ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ أي هذا أمرٌ مدبَّر، يريد من ورائه محمد أن يصرفكم عن دين آبائكم لتكون له العزة والسيادة عليكم،
46
فاحذروا أن تطيعوه ﴿مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة﴾ أي ما سمعنا بمثل هذا القول في ملة النصرانية التي هي آخر الملل، فإنهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد، فيكف يزعم محمد أنَّ الله واحد؟ قال ابن عباس: يعنون بالملة الآخرة دينَ النصرانية وقال مجاهد وقتادة: يعنون دين قريش أي ليس هذا في الدين الذي أدركنا عليه آبائنا ﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾ أي ما هذا الذي يدعيه محمد إلا كذب وافتراء، ثم أنكروا اختصاصه عليه السلام بالوحي من بينهم فقالوا ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ ؟ الاستفهام للإِنكار أي هل تنزَّل القرآن على محمد دوننا، مع أن فينا من هو أكثر منه مالاً، وأعلى رياسةً؟
قال الزمخشري: أنكروا أن يختص صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وهذا الإنكار ترحمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم ﴿بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي﴾ إضرابٌ عن مقدر تقديره: إنكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه فلذلك كفروا ﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ اضراب انتقالي وغرضه التهديد والمعنى سبب شكهم أنهم لم يذوقوا العذاب إلى الآن، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن وآمنوا به ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ا ; لْعَزِيزِ الوهاب﴾ ؟ هذا ردٌّ على المشركين فيما أنكروا من اختصاص محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنبوة والمعنى هل عندهم خزائن رحمته تعالى حتى يعطوا النبوة من شاءوا، ويمنعوها من شاءوا؟ قال البيضاوي: يريد أن النبوة عطيةٌ من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده، فإنه ﴿العزيز﴾ أي الغالب الذي لا يغلب ﴿الوهاب﴾ أي الذي له أن يهب ما يشاء لمن يشاء ﴿أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ ؟ أي هل لهم شيء من ملك السموات والأرض؟ وهو إنكار وتوبيخ ﴿فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب﴾ أي ان كان لهم شيء من ذلك فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليدبروا شئون الكون؟ وهو تهكم بهم واستهزاء قال الزمخشري: تهكم بهم غاية التهكم فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق، والتصرف في قسمة الرحمة، وكان عندهم من الحكمة ما يميزون بها بين من هوحقيقٌ بالنبوة من غيره فليصعدوا في المعارج التي يتوصلون بها إلى العرش، حين يستووا عليه ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي على من يختارون، هو غاية التهكم بهم ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب﴾ التنكير للتقليل والتحقير، ﴿مَا﴾ لتأكيد القلة أي ما هم إلا جندٌ من الكفار، المتحزبين على رسل الله، هم عما قليلٍ يُهزمون ويُولون الأدبار، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث بما يهذون.
. ثم أخبر تعالى عما نالَ أسلافهم الكفار من العذاب والدمار فقال ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد﴾ أي كذب قبل كفار قريش أممٌ كثيرون منهم قوم نوح، وقوم هود وهم قبيلة «عاد» وفرعون الجبار ذو الملك الثابت بالأوتاد أو ذو الجموع الكثيرة، قال بعض المفسرين: سمي صاحب الإهرامات والمباني العظيمة الثابتة التي تقوم في الأرض كالأوتاد ﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ﴾ أي
47
وكذبت ثمود وهم قوم صالح وقوم لوط، وأصحاب الأيكة أي الشجر الملتف وهم قوم شعيب ﴿أولئك الأحزاب﴾ أي أولئك هم الكفار الذين تحزبوا على رسلهم فأهلكهم الله، فليحذر هؤلاء المكذبون لرسول الله أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾ أي ما كل من هؤلاء الأحزاب والأمم إلا كذَّب رسوله الذي أُرسل إليه ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ أي فثبت ووجب عليهم عقابي، وحذفت الياء مراعاة لرءوس الآيات ﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً﴾ أي وما ينتظر هؤلاء المشركون كفار مكة إلا نفخة واحدة ينفخ فيها إسرافيل شفي الصور فيصعقون ﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ أي ليس لها من توقف ولا تكرار، قال ابن عباس: أي ما لها من رجوع قال المفسرون: أي أن هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة وهي المسافة بين الحلبتين لأنها تجيء في موعدها المحدد، الذي لا يتقم ولا يتأخر قال الزمخشري: يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾ أي وقال كفار مكة على سبيل الاستهزاء والسخرية: عجّلْ لنا يا ربنا نصيبنا من العذاب الذي وعدته لنا، قبل أن يجيء يوم القايمة إن كان الأمر كما يقول محمد قال المفسرون: وإنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء كقوله تعالى
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ [الحج: ٤٧] ﴿اصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أي اصبر يا محمد على تكذيبهم فإن الله ناصرك عليهم قال الصاوي: وفيه تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديد للكفار ﴿واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد﴾ أي وتذكرْ عبدنا داود ذلك النبي الشاكر الصابر، ذا القوة في الدين، والقوة في البدن، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم نصف الليل ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي كثير الرجوع والإِنابة إلى الله، والاوَّابُ: الرجَّاع إلى الله قال أبو حيان: لما كانت مقالة المشركين تقتضي الاستخفاف بالدين، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم، وذكر قصصاً للأنبياء «داود، وسليمان، وأيوب» وغيرهم، وما عرض لهم فصبروا حتى فرج الله عنهم، وصارت عابتُهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت تصبر ويئول أمرك إلى أحسن مآل ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق﴾ أي سخرنا الجبال لداود تسبح معه في المساء والصباح، وتصبحُ الجبال حقيقةٌ وكان معجزةً لداود عليه السلام كما قال تعالى ﴿ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير﴾ [سبأ: ١٠] ﴿والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه تسبّح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرَّ به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف في الهواء ويسبّح معه، وكذلك الجبال الشامخات كانت تُرجّع معه وتسبّح تعباً له، قال قتادة: ﴿أَوَّابٌ﴾ أي مطيع ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ أي قوينا ملكه وثبتناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكمة﴾ أي أعطيناه النبوَّة والفهم والإِصابة في الأمور ﴿وَفَصْلَ الخطاب﴾ أي الكلام البيِّن الذي يفهمه من يُخاطب به قال مجاهد: يعني إصابة القضاء وفهمه وقال القرطبي: البيان الفاصل بين الحق والباطل قال المفسرون: كان مُلك داود قوياً
48
عزيزاً، وكان يسوسه بالحكمة والحزم معاً، ويقطع ويجزم برأيٍ لا تردد فيه مع الحكمة والقوة، وذلك غاية الكمال في الحكم والسلطان ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب﴾ هذا الاستفهام للتعجب وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه كما تقول لجليسك: هل تعلم ما وقع اليوم؟ تريد تشويقه لسماع كلامك والمعنى هل أتاك يا محمد خبر الجماعة المتنازعين الذين تسوَّروا على داود مسجده في وقت اشتغاله بالعبادة والطاعة؟ ﴿إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ أي حين دخلوا عليه من أعلى السور فخاف وارتعد منهم قال المفسرون: وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن، ودخلوا من غير الباب، في وقت كان قد خصصه للعبادة ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ﴾ أي لاتخف منا فنحن فوجان مختصمان تعدَّى بعضنا على بعض ﴿فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ﴾ أي فاحكم بيننا بالعدل، ولا تجر ولا تظلم في الحكم ﴿واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط﴾ أي وأرشدنا إلى وسط الطريق يعني إلى الطريق الحق الواضح ﴿إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ هذه بداية قصة الخصمين أي قال أحدهما: إن صاحبي هذا يملك تسعة وتسعين نعجة وهي أنثى الضأن وأملك أنا نعجة واحدة قال
49
المفسرون: وقد يكنى بها عن المرأة فيكون الغرض أن عنده تسعاً وتسعين امرأةً وعندي امرأة واحدة ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا﴾ أي ملكنها واجعلها تحت كفالتي ﴿وَعَزَّنِي فِي الخطاب﴾ أي غلبني في الخصومة، وشدَّد عليَّ في القول وأغلظ ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ﴾ أي قال له داود لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضُهم على بعض ﴿إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ﴾ إي إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنهم لا يبغون وهم قليل ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ أي علم وأيقن أنما اختبرناه بهذه الحادثة وتلك الحكومة ﴿فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ﴾ أي طلب المغفرة من الله وخرَّ ساجداً لله تعالى، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه قال أبو حيان: وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحاً، والذي يدل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإِنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظناً منه أنهم يغتالونه إذا كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قصَّ الله تعالى فاستغفر من ذلك الظن، وخرَّ ساجداً لله عَزَّ وَجَلَّ، ونحن نعلم قطعاً أن الأنبياء معصومون من الخطايا، إذ لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك لبطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون، فما حكى الله في كتابه يُمرُّ على ما أراده الله، وما حكى القُصَّاص مما فيه غضٌ من منصب النبوة طرحناه ثم قال تعالى ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾ أي فسامحناه وعفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين قال ابن كثير: أي غفرنا له ما كان منه مما يقال فيه: «حسناتُ الأبرار سيئات المقربين» ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى﴾ وإنَّ له لقربةً وكرامة بعد المغفرة ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ أي وحسن مرجع في الآخرة ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض﴾ أي استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم ﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ اي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي أنزلها عليك ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي لا تتَّبع هوى النفس في الحكومات وغيرها فيضلك اتباع الهوى عن دين الله القويم، وشرعه المستقيم ﴿إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ﴾ أي إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه لهم عذاب شديد يوم القيامة ﴿بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب﴾ أي بسبب نسياهم وتركهم سلوك سبيل الله، وعدم إيمانهم بيوم الحساب، لأنهم لو آمنوا به لأعدوا الزاد ليوم المعاد، قال أبو حيان: وجعلُه تعالى داود خليفةً في الأرض يدلُ على مكانته عليه السلام واصطفائه له، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز المرسل ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ﴾ القرن مائة عام والهلاك لأهله ففيه مجاز.
50
٢ - وضع الظاهر مكان الضمير ﴿وَقَالَ الكافرون﴾ بدل وقالوا لتسجيل جرؤمة الكفر عليهم.
٣ - صيغة المبالغة في كل من ﴿كَذَّابٌ، العزيز، الوهاب، أَوَّابٌ﴾.
٤ - التنوين للتقليل والتحقير وزيادة ﴿ما﴾ لتأكيد القلة ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ﴾.
٥ - تأكيد الجملة الخبرية بإن واللام لزيادة التعجب والإنكار ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾.
٦ - الاستعارة البليغة ﴿وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتا﴾ شبه المُلْك بخيمةٍ عظيمة شُدَّت أطنابها بالأوتاد لتثبيت وترسخ ولا تقتلعها الرياح ففيه استعارة مكنيَّة وذكرُ الأوتاد تخييل.
٧ - الطباق ﴿يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق﴾ لأن المراد المساء والصباح.
٨ - أسلوب التشويق ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم﴾ ورد الأسلوب بطريق التشويق.
٩ - أسلوب الإِطناب ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾ الخ.
١٠ - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.. فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب.. جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب﴾ مما يزيد في روعة الكلام وجماله.
لطيفَة: روى ابن كثير أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد أخبرني أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت القرآن وفقهت! فقال يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قال يا أمير المؤمنين: أنت أكرم على الله أو داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة ثم توعده في كتابه فقال ﴿ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله... ﴾ الآية، فكانت موعظة بليغة.
51
المناسبة: لما ذكر تعالى إنكار المشركين للقرآن والرسالة والحشر والنشر، وأعقبها بذكر قصة داود تسلية للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ذكر هنا بعض البراهين على البعث والنشور، ثم بيَّن الحكمة من نزول القرآن، ثم تابع الحديث عن قصة سليمان بن داود تتميماً وتكميلاً للهدف السامي من ذكر قصص القرآن.
اللغَة: ﴿الألباب﴾ العقول واحدها لبٌّ، ولبٌّ الشيء صفوته وخلاصته ولذلك سُمي العقل لُبّاً ﴿الصافنات﴾ الخيول الواقفة على ثلاثة قوائم وطرف حافر الرابعة جمع صافن قال الفراء: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها قال الشاعر:
تركنا الخيل عاكفةً عليه مُقلدة أعنَّتها صُفونا
﴿الجياد﴾ السِّراع السَّوابق في العدو قال المبرد: الجياد جمع جواد وهو الشديد الجري كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل ﴿تَوَارَتْ﴾ اختفت ﴿رُخَآءً﴾ لينة أو منقادة حيث أراد ﴿الأصفاد﴾ سلاسل الحديد والأغلال واحدها صفد وفي الحديث: «صُفدت الشياطين» أي ربطت بالسلاسل قال الشاعر:
فآبوا بالنِّهاب وبالسبايا وأُبنا بالمُلوك مصفَّدينا
﴿ضِغْثاً﴾ الضغث: حزمة من الحشيش أو غيره مختلطة الرطب باليابس، وأصله: الشيء المختلط ومنه «أضغاث أحلام» للرؤيا المختلطة.
التفسِير: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾ أي ما خلقنا هذا الكون البديع بما في من المخلوقات العجيبة عبثاً وسُدى ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي خلق ما ذكر لا لحكمة هو ظنُّ الكفار الفجار الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار﴾ أي فويلٌ للكفار من عذاب النار، ثم وبخهم تعالى على هذا الظنِّ السيء فقال ﴿أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض﴾ ؟ أي هل نجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين؟ ﴿أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار﴾ أي أم نجعل الأخيار الأبرار كالأشرار الفجار؟ والغرض: أنه لا يتساوى في حكمته تعالى المحسن مع المسيء، ولا البرُّ مع الفاجر، ففي الآية استدلال على الحشر والجزاء، وفيها أيضاً وعدٌ ووعيد قال ابن كثير: بيَّن تعالى أنه ليس من عدله وحكمته أن يساوي بين المؤمنين والكافرين، وإذا
52
كان الأمر كذلك فلا بدَّ من جزاء يُثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها الفاجر، وقد دلت العقول السليمة على أنه لا بدَّ من جزاء ومعاد، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد مالُه وولدُه ونعيمُه ويموت دون عقاب، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدَّ في حكمه الحكيم العليم إنصاف هذا من هذا، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعيَّن أن هناك داراً أُخرى لهذا الجزاء والمواساة وهي الدار الآخرة.. ثم بيَّن تعالى الغاية من نزول القرآن وهي العمل والتفكير فقال ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ أي هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك يا محمد كتابٌ عظيم جليل، كثير الخيرات والمنافع الدينية والدنيوية ﴿ليدبروا آيَاتِهِ﴾ أي أنزالناه ليتدبروا آياته ويتفكروا بما فيها من الأسرار العجيبة، والحكم الجليلة ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة قال الحسن البصري: واللهِ ما تدبُّره بحفظ حروفه وإِضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: واللهِ لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً، وقد أسقطه واللهِ كلَّه، ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خُلُق ولا عمل.
. اللهم اجعلنا ممن قرأه وتدبَّره وعمل بما فيه ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾ شروعٌ في بيان قصة سليمان بن داود عليهما السلام أي رزقنا عبدنا داود بالولد الصالح المسمَّى سليمان وأعطيناه النبوة قال المفسرون: المراد بالهبة هنا هبة النبوة كما قال تعالى ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦] أي في النبوة، وإلا فقد كان له أولاد كثيرون غيره ﴿نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي نعم العبدُ سليمان فإنه كان كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد﴾ أي اذكر حين عُرض على سليمان عشية يوم من الأيام أي بعد العصر الخيل الواقفة على طرف الحافر، السريعة الجري قال الرازي: وُصفت تلك الخيل بوصفين: الأول: الصفون وهو صفة دالة على فضيلة الفرس، والثاني: الجياد وهي الشديدة الجري، والمراد وصفها بالفضيلة والكمال في حالي الوقوف والحركة، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً في جريها ﴿فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ أي آثرت حبَّ الخيل حتى شغلتني عن ذكر الله قال المفسرون: عُرضت عليه آلاف من الخيل تركها له أبوه، فأُجريت بين يديه عيشاً فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكرٍ له حتى غابت الشمس ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ أي حتى غابت الشمس واختفت عن الأنظار ﴿رُدُّوهَا عَلَيَّ﴾ أي قال سليمان ردُّوا هذه الخيل عليَّ ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق﴾ أي فشرع يذبحها ويقطع أرجلها تقرباً إلى الله، لتكون طعاماً للفقراء لأنها شغلته عن ذكر الله قال الحسن: لما رُدَّت عليه قال: لا والله لا تشغليني عن طاعة ربي ثم أمر بها فعقرت وكذلك قال السدي، وأما قول من قال: إنها شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس فضعيف، لأنه لا يتصور من نبيٍ أن يترك صلاة العصر من أجل اشتغالهع بالدنيا، والنصُّ صريح ﴿عَن ذِكْرِ رَبِّي﴾ {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ
53
جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} هذه إشارة إلى ابتلاء آخر لسليمان ابتلي به، ثم تاب وأناب من تلك الهفوة والزلة، ولعلَّ هذه الفتنة ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كلُّ واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله فطاف عليهم فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده: لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون»
قال ابن كثير: «وقد ِأورد بعضُ المفسرين أثاراً كثيرة عن جماعةٍ من السلف، وأكثرها أوكلُّها متلقاة من الإِسرائيليات، وفي كثير منها كارة شديدة» واختار الإِمام الفخر أن الفتنة المذكورة في الآية الكريمة يقصد بها فتنته في جسده، حيث إن سليمان ابتلي بمرضٍ شديد نحل منه وضعف، حتى صار لشدة المرض كأنه جسد ملقى على كرسي، قال والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى حالة الصحة ﴿قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي﴾ أي اغفر لي ما صدر مني وأعطني ملكاً واسعاً لا يكون لأحدٍ غيري ليكون دلالة على نبوتي ﴿إِنَّكَ أَنتَ الوهاب﴾ أي واسع الفضل كثير العطاء ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح﴾ أي فذللنا الريح لطاعته إجابةً لدعوته ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ أي تسير بأمره لينةً طيبة حيث قصد وأراد ﴿والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ أي وسخرنا له الشياطين كذلك تعمل بأمره، منهم من يستخدمه لبناء الأبنية الهائلة العجيبة، ومنهم من يغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ﴿وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد﴾ أي وآخرين من الشياطين وهم المردة موثوقون في الأغلال، مربوطون بالقيود والسلاسل لكفرهم وتمردهم عن طاعة سليمان ﴿هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي وقلنا له: هذا عطاؤنا الواسع لك، فأعطٍ من شئت وامنعْ من شئت، لا حساب عليك في ذلك، لأنك مطلق اليد فيما وهب الله لك الواسع لك من سلطة ومن نعمة ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ أي وإنّ له عندنا لمكانة رفيعة في الدنيا، وحسن مرجع في الآخرة ﴿واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ﴾ هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، والإِضافة للتشريف أي اذكر يا محمد عبدنا الصالح أيوب عليه السلام، الذي ابتلي بأنواع البلاء فصبر. ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ أي حين نادى ربه متضرعاً إليه قائلاً إني مسني الشيطان بتعبٍ ومشقة، وألمٍ شديد في بدني قال المفسريون: وإِنما نسبَ ذلك إلى الشيطان تأدباً مع الله تعالى، وإنْ كانت الأشياء كلها خيرها وشرها
54
من الله تعالى، وكان أيوب قد أُصيب في ماله وأهله وبدنه، وبقي في البلاء ثمان عشرة سنة، وقد تقدمت قصته ﴿اركض بِرِجْلِكَ﴾ أي وقلنا له اضرب برجلك الأرض فضربها فنبعت له عين ماءٍ صافية ﴿هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ أي وقلنا له هذا ماءٌ تغتسل به، وشراب تشرب منه، فاغتسل منها فذهب ما كان بظاهر جسده، وشرب منها فذهب كل مرضٍ كان داخل جسده قال أبو حيان: ﴿هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ﴾ أي ما يُغتسل به ﴿وَشَرَابٌ﴾ أي ما يشرب منه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك، والجمهور على أن نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأُخرى فشفي ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ﴾ أي أحيا الله من مات من أولاده ورزقه مثله قال الرازي: الأقرب أن الله تعالى متعته بصحته وبماله وقوَّاه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك وعن الحسن أنه أحياهم بعد أن هلكوا وقال أبو حيان: الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم ﴿رَحْمَةً مِّنَّا﴾ أي رحمةً منَّا به لصبره وإِخلاصه ﴿وذكرى لأُوْلِي الألباب﴾ أي وعبرة لذوي العقول المستنيرة قال ابن كثير: أي وذكرى لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ أي وقلنا له خذْ بيدك حزمة من القضبان الرفيعة فاضرب بها زوجتك لتبرَّ بيمينك ولا تحنث قال المفسرون: كان أيوب قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوطٍ إذا برىء من مرضه، وسبب ذلك أنها كانت تخدمه في حالة مرضه، وفلما اشتد به البلاء وطالت به المدة وسوس إليها الشيطان: إلى متى تصبرين؟ فجاءت إلى أيوب وفي نفسها الضجر فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟ فغضب من هذا الكلام وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ حزمةً من قضبانٍ خفيفة فيها مئة عود ويضربها بها ضربة واحدةً ويبرَّ في يمينه، ورحمةً من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولهذا قال تعالى ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً﴾ أي ابتليناه فوجدناه صابراً على الضراء ﴿نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي نعم العبد أيوب إنه كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة والعبادة ﴿واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي والأبصار﴾ أي اذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الأخيار وتأسَّ بهم، الذين جمعوا بين القوة في العبادة، والبصائر في الدين قال الطبري: أي أهل القوة في عبادة الله، وأهل العقول المبصرة ﴿إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار﴾ أي خصصناهم بخصلةٍ خالصة عظيمة الشأن، هي عدم التفاتهم إلى الدنيا وتذكرهم للدار الباقية قال مجاهد: جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همٌّ غيرها ﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار﴾ أي وهم عندنا المختارون المجتبون على سائر الناس لأنهم أخيار أبرار ﴿واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار﴾ أي واذكر يا محمد هؤلاء الرسل أيضاً وكلٌّ من خيرة الله فاقتد بهم في
55
الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله ﴿هذا ذِكْرٌ﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من سيرة الرسل الكرام ذكرٌ جميلٌ لهم في الدنيا، وشرفٌ يذكرون به أبداً ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ أي وإِن لكل متقرٍ لله مطيع لرسله لحسن مرجع ومنقلب، ثم فسره بقوله ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ أي جنات إقامة في دار الخلد والنعيم قد فتحت لهم أبوابها انتظاراً لقدومهم قال الرازي: إن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا المؤمنين فتحوا لهم أبوابها، وحيوهم بالسلام، فيدخلون كذلك محفوفين بالملائكة على أعزَّ حال، وأجمل هيئة ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا﴾ أي متكئين في الجنة على الأرائك وهي السرر الوثيرة ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ أي وهم متكئون على الأسرَّة يطلبون أنواع الفواكة، وألوان الشراب كعادة الملوك في الدنيا قال ابن كثير: أي مهما طلبوا وجدوا، ومن أي أنواع شاءوا أتتهم به الخدام قال الصاوي: والاقتصار على دعاء الفاكهة للإِيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه لا جوع في الجنة ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ﴾ أي وعندهم الحور العين اللواتي لا ينظرن إلى غير أزواجهن أتراب أي في سنٍّ واحدة ﴿هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب﴾ أي هذا جزاؤكم الذي وعدتم به في الدنيا ﴿إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾ أي هذا النعيم عطاؤنا لأهل الجنة لا زوال له ولا انقطاع ولا انتهاء أبداً قال في الظلال: يبدأ هذا المشهد بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع والأجزاء، وفي السَّمات والهيئات: منظر المتقين لهم ﴿حُسْنَ مَآبٍ﴾ ومنظر الطاغين لهم ﴿شَرُّ مَآبٍ﴾ فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحةً لهم الأبواب، ولهم فيها راحة الاتكاء، ومتعمة الطعام والشراب، ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب، وهنَّ مع شبابهن ﴿قَاصِرَاتُ الطرف﴾ لا يتطلعن ولا يمددن بأبصارهن، وكلهن شواب أتراب، وهو متاع دائم، ورزق من عند الله ما له من نفاد.
56
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى مآل السعداء المتقين، ثنَّى بذكر حال الأشيقاء المجرمين، ثم ذكر الأدلة على صدق رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وختم السورة الكريمة بذكر قصة آدم وإِبليس وامتنعه عن السجود لآدم، تحذيراً للبشر من عدوهم الأكبر ومن وساوسه وإِغوائه.
اللغَة ﴿غَسَّاقٌ﴾ الغسَّاق: ما يخرج من لحوم الكفرة من الصديد والقيح والنتن ﴿زَاغَتْ﴾ مالت ﴿سِخْرِيّاً﴾ بكسر السين وهو الهزء والسخرية ﴿مُّقْتَحِمٌ﴾ الاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها ومنه اقتحام المخاطر ﴿سَوَّيْتُهُ﴾ أتممت خلقه على أكمل الوجوه ﴿العالين﴾ المتكبرين، وعلا في الأرض: تكبر وتجبر ﴿رَجِيمٌ﴾ مرجوم بالكواكب والشهب.
التفسِير: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ ﴿هذا﴾ خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره الأمرُ هذا وهي بمنزلة أما بعد، ثم قال ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ﴾ أي وإِنَّ للكافرين الذين كذبوا الرسل، لشرَّ منقلب يصيرون إليه في الآخرة ثم فسَّر هذا المصير بقوله ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد﴾ أي جهنم يذقونها ويصلون سعيرها، وبئست جهنم فراشاً ومهاداً لهم قال ابن الجزي: لما تمَّ ذكر أهل الجنة ختمه بقوله ﴿هذا﴾ ثم ابتدأ بذكر وصف أهل النار، وعنى بالطاغين الكفار ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ أي هذا هو العذاب الأليم فليذوقوه وهو الحميم أي الماء الحار المحرق، والغسَّاق وهو ما يسيل من صديد أهل النار قال الطبري: في الآية تقديم وتأخير أي هذا حميم وغساق فليذقوه، والحميمُ الذين أُغلي حتى انتهى حره، والغسَّاق ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم ﴿وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ أي وعذابٌ أخر من هذا العذاب المذكور كالزمهرير، والسموم، وأكل الزقوم له منه أنواع وأصناف.. ثم حكى ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار فقال ﴿هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ أي تقول لهم خزنة جهنم: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، ودخلوها بصحبتكم كما اقتحموا معكم في الجهل والضلال، لا أهلاً ولا مرحباً بهم ﴿إِنَّهُمْ صَالُواْ النار﴾ أي إِنهم ذائقو النار، وداخلوها كما دخلتموها أنتم قال الرازي: والاقحتامُ ركوبُ الشدة والدخولُ فيها، وهذا من كلام خزنة جهنم لرؤساء الكفرة عن أتباعهم، والعرب تقول لمن يدعون له: مرحباً أي أتيتَ رحباً في البلاد لا
57
ضيِّقاً، ثم يدخلون عليها كلمة «لا» في دعاء السوء ﴿قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ أي قال الأتباع للرؤساء الطغاة الذين أضلوهم بل أنتم لا أهلاً بكم ولا مرحباً قال المفسرون: عندما يدخل الأتباع جهنم تتلقاهم الرؤساء بقولهم ﴿لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ ألا تلقون هنا رحباً ولا خيراً وهذه تحية أهل النار كما قال تعالى ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ [الأعراف: ٣٨] فعند ذلك يقول لهم الداخلون ﴿بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ وهذا على حد قول القائل «تحيةُ بينهِم ضربٌ وجيع» فكذلك أهل النار يتلقون بعضهم باللعنات والشتائم بدل التحايا والسلام، ثم يعلِّل الأتباع ذلك بقولهم ﴿أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار﴾ أي أنتم قدمتم لنا هذا العذاب وكنتم السبب في ضلالنا، فبئس المنزل والمستقر لنا ولكم نار جهنم ﴿قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار﴾ هذا أيضاً من كلام الأتباع دعوا الله أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم
﴿رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار﴾ [الأعراف: ٣٨] والضعفُ زيادة المثل قال البيضاوي: وقال الأتباع أيضاً ﴿رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً﴾ أي مضاعفاً وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار﴾ ؟ أي وقال الطغاة من رؤساء الكفر وأئمة الضلال: ما لنا لا نرى في النار هؤلاء الذين كنا نعدُّهم في الدنيا من الأشرار؟ يعنون بهم المؤمنين قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول أبو جهل: أين بلال، أين صهيب، أين عمار؟ أولئك في الفردوس ﴿واعجباً لأبي جهل﴾ مسكين، أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أُمه، وأسلم أخوه وكفر هو قال ابن كثير: هذا إِخبار عن الكفار في النار، أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون، يقول أبو جهل: ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضربُ مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخلها الكفار افتقدوهم فلم يجدوهم، ثم قالوا ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار﴾ ؟ أي يؤنبون أنفسهم قائلين: أجعلنا هؤلاء المؤمنين في الدنيا هزءاً وسخرية؟ أم هم معنا في النار ولكن لا نراهم؟ قال البيضاوي: إنكار على أنفسهم وتأنيبُ لها في الاستسخار من المؤمنين، كأنهم قالوا: ليسوا ههنا في النار؟ أم مالت عنهم أبصارنا فلا نراهم؟ قال تعالى ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾ أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أقوال أهل النار وتخاصمهم، لهو الحقُّ الذي لا بدَّ وأن يتكلموا به، فنحن نخبرك عن قول الرؤساء ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ وقول الأتباع ﴿بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ﴾ من باب الخصومة ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ﴾ هذا شروع في بيان مهمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي إثبات الوحدانية، والمعاد، والجزاء أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أنا
58
رسولٌ من رب العالمين، أُنذركم وأخوفكم من عذابه إن لم تؤمنوا، ولستُ بساحرٍ ولا شاعر ولا كاهن ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار﴾ أي وليس لكم ربٌ ولا معبود إلا الواحد الأحد، الغالب على خلقه، القاهر لكل شيء ﴿رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي خالق جميع ما في الكون من الخلائق والعجائب، والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِعدام ﴿العزيز الغفار﴾ أي الغالب على أمره الذي لا يُغلب، المبالغ في المغفرة لمن شاء من العباد قال الرازي: لما ذكر أنه ﴿قهار﴾ وهذا مشعر بالترهيب والتخويف، أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب وذلكرثلاث صفات دالة على الرحمة، والفضل والكرم وهي: «الرب، العزيز، الغفار» فكونه رباً مشعر بالتربية والإِحسان، وكونه عزيزاً مشعرٌ بأنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، وكونه غفاراً مشعر بالترغيب وأنه يرجى فضله وثوابه، فلو بقي الإِنسان على الكفر سبعين سنة، ثم تاب فإن الله سبحانه يغفر له برحمته جميع ذنوبه، ويمحو اسمه من ديوان المذنبين، ويوصله إلى درجات الأبرار ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن الذي جئتكم به هو نبأ هام وأمر عظيم الشأن، أنتم عنه غافلون لا تلتفون إليه ولا تعلمون قدره ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أي من أين لي العلم باختلاف الملائكة في شأن خلق آدم لولا الوحي المنزل عليَّ؟ قال ابن جزي: والقصدُ الاحتجاج على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر بأمور لم يكون بعلمها قبل ذلك، والإشارة الى اختصام الملائكة هو ما جاء في قصة آدم حين قال تعالى لهم
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن ﴿إِن يوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ما يوحى إليَّ إلا لأني رسولٌ مرسل إليكم لأنذركم عذاب الله، ومعنى النذير المنذر المخوّف من عذاب الله، ثم شرع تعالى في ذكر قصة آدم فقال ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ﴾ أي اذكر حين أعلم ربك الملائكة أنه سيخلق إِنساناً من طين وهو آدم عليه السلام ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أي فإذا أتممتُ خلقه وفنخت فيه الروح فاسجدوا إكراماً له وإِعظاماً قال القرطبي: وهذا سجود تحية لا سجود عبادة ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ أي فسجد جميع الملائكة خضوعهاً له وتعظيماً لأمر الله بالسجود له ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين﴾ أي لكن إبليس استكبر عن طاعة الله وأبى السجود لآدم فصار من الكافرين قال ابن كثير: امتثل الملائكة كلهم سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه عَزَّ وَجَلَّ فيه، وادعى أنه خيرٌ من آدم، فكفر بذلك وطرده الله عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه ﴿قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ ؟ أي: قال له ربه: ما الذي صرفك وصدَّك عن السجود لمن خلقته بذاتي من نغير واسطة أب وأم؟ قال القرطبي: أضاف
59
خلقه إلى نفسه تكريماً لآدم وإن كان خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، المساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين﴾ ؟ أي استكبرتَ الآن عن السجود أم كنت قديماً من المتكبرين على ربك؟ وهذا على وجهة التوبيخ له لاستنكافه عن السجود ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ أي قال اللعينُ أنا خير من آدم وأشرف وأفضل ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ أي لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خيرٌ من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ ﴿قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ أي اخرج من الجنة فإِنك لعين مطرود من كل خيرٍ وكرامة ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين﴾ أي وأنت مبعدٌ عن رحمتي إلى يوم الجزاء والعقوبة ثم تلقى ما هو أفضع وأشنع من اللعنة ﴿قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي أخرني وأمهلني إلى اليوم الذي تبعث فيه الخلائق من القبور قال أبو السعود: أراد بذلك أن يجد فسحةً لإِغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موتَ بعد البعث فأجابه الله بأنه مؤخر إلى وقت النفخة الأولى لا إلى وقت العبث الذي طلبه ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ أي إِنك من الممهلين إلى وقت النفخة الأولى حيث يموت الناس وتنتهي مهمتك ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ أي قال اللعين: أُقسم بعزتك لأُضلنَّ بني آدم أجمعين، إلا الذين أخلصتهم لعبادتك وعصمتهم مني ﴿قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي قال تعالى أقسم بالحقِّ ولا أقول إلا الحقَّ لأملأن جنهم منك ومن أتباعك قال السُّدي: هو قسم أقسم الله به، وجمله «والحقَّ أقول» اعتراضية لتأكيد القسم ﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين﴾ أي قل لهم يا محمد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، ولست من الذين يتصنعون ويتحليون حتى انتحل النبوة وأتقوَّل القرآن ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ أي ما هاذ القرآن إلا عظة وذكرى للإٍِنس والجن والعقلاء ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ﴾ أي لتعملنَّ خبره وصدقة عن قريب، وهذا وعيدٌ وتهديد قال الحسن البصري: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار ﴿أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار﴾ [ص: ٢٨] وهذا من ألطف أنواع البديع.
٢ - الكناية ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق﴾ [ص: ٣٣] كنَّى عن العقر والذبح بالمسح وهي كناية بليغة.
٣ - الطباق بين
﴿فامنن أَوْ أَمْسِكْ﴾ [ص: ٣٩] لأنها بمعنى أعط من شئت، وامنع من شئت.
٤ - مراعاة الأدب ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان﴾ [ص: ٤١] أسند الضرر إلى الشيطان أدباً، والخير والشر بيد الله تعالى.
٥ - الاستعارة التصريحية ﴿أُوْلِي الأيدي والأبصار﴾ [ص: ٤٥] استعار الأيدي للقوة في العبادة والأبصار للبصيرة في الدين.
60
٦ - المقابلة الرائعة ﴿هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ [ص: ٤٩ ٥٠] ثم قابل ذلك بقوله ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد﴾ وياله من تصوير رائع!
٧ - التأكيد بمؤكدين ﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ فقد أكده أولاً بلفظ كل ثم بلفظ أجمعون.
٨ - مراعاة الفواصل وهي من خصائل القرآن ﴿وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار﴾ فمثل هذا البيان الرائع والجرس العذب، يسري في النفس سريان الروح في الجسد، وأقسم بالله أنني أشعر بهزة في نفسي كلما قرأتُ القرآن، لما له من وقع عذب على السمع، وأحياناً أجدني أتمايل طرباً بدون شعور، أكثر مما يتمايل المغرمون بالأنغام، وما ذلك إلا لروعة البيان شفي هذا القرآن، وصدق رسول الله حين قال «إن من البيان سحراً».
61
Icon