من كتاب ثواب الأعمال : أخبرنا إبراهيم قال : حدّثنا سلام في إسناده قال : ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخّره الله لداود عشرة حسنات، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير.
حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن الحسن قال : حدّثنا أبو الربيع قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثني العطاف بن خلد عن عبد الرّحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب : إنّ ابن المسيّب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص.
قال العطاف : فلقيت عمران بن محمّد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك.
قال : بلغني أنّه ما من عبد يقرأها كلّ ليلة إلاّ اهتز له العرش.
ﰡ
وهي ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وثمانية وثمانون آية.
من كتاب ثواب الأعمال: أخبرنا إبراهيم قال: حدّثنا سلام في إسناده قال: ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخّره الله لداود عشرة حسنات، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير «١».
حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن الحسن قال: حدّثنا أبو الربيع قال: حدّثنا ابن وهب قال:
حدّثني العطاف بن خلد عن عبد الرّحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب: إنّ ابن المسيّب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص.
قال العطاف: فلقيت عمران بن محمّد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك.
قال: بلغني أنّه ما من عبد يقرأها كلّ ليلة إلّا اهتز له العرش.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ٧]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
ص قرأ العامة بالجزم، واختلفوا في معناه.
فقال الكلبي: عن أبي صالح، سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن ص فقالا: لا ندري.
وقال عكرمة: سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن ص فقال: كان بحرا بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن، إذ لا ليل ولا نهار.
الضحّاك: صدق الله. مجاهد: فاتحة السّورة. قتادة: اسم من أسماء القرآن. السدّي:
قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به، وهو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله، صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد.
وقيل: هو اسم السّورة، وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: صادِ بخفض الدّال، من المصادّاة، أي عارض القرآن بعملك وقابله به، واعمل بأوامره، وانته عن نواهيه.
وقرأ عيسى بن عمر صادَ بفتح الدّال، ومثله قافَ ونونَ، لاجتماع السّاكنين، حرّكها إلى أخف الحركات.
وقيل: على الإغراء.
وقيل في ص: إنّ معناه صاد محمّد قلوب الخلق واستمالها حتّى آمنوا به.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس ومقاتل: ذي البيان.
الضحاك: ذي الشرف، دليله قوله عزّ وجل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ.
وقيل: ذي ذكر الله عزّ وجلّ.
واختلفوا في جواب القسم، فقال قتادة: موضع القسم قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا كما قال سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا. وقال الأخفش جوابه قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ كقوله عزّ وجل: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا... وقوله: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ... إِنْ كُلُّ نَفْسٍ. وقيل:
قوله: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ.
وقال الكسائي: قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ.
وقيل:
مقدم ومؤخر تقديره بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ | وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. |
وقال القتيبي من قال جواب القسم بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: «بل» إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم ب ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ويعني حمية جاهلية وتكبر.
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم.
وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وليس بوقت فرار ولا بر.
وقال وهب: وَلاتَ بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول: ولات.
وقال أئمة أهل اللغة: وَلاتَ حِينَ مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة، وإنّما هي «لا» زيدت فيها التاء كقولهم: ربّ وربّت، وثمّ وثمّت.
قال أبو زيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان... فأجبنا أن ليس حين بقاء «١»
[وقال] آخر:
تذكّرت حبّ ليلى لات حينا... وأمسى الشيب فقطع القرينا «٢»
وقال قوم: إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ:
العاطفون حين ما من عاطف... والمطعمون زمان ما من مطعم «٣»
وتقول العرب: تلان بمعنى الآن، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان رضي الله عنه فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن «٤».
وقال الشاعر:
تولى قبل يوم بين حمانا... وصلينا كما زعمت تلانا «٥»
فمن قال: إن التاء مع «لا» قالوا: قف عليه لأن بالتاء [... ] «٦».
وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف: ولاه، بالهاء، ومثله روي عن أهل مكة، ومن قال: إن التاء مع حين. قالوا: قف عليه ولا، ثم يبتدئ تحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال: لأني تعمّدت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت: «تحين» «٧».
(٢) لسان العرب: ١٥/ ٤٦٨.
(٣) تاج العروس: ٩/ ١٨٨، وتفسير القرطبي: ٥/ ١٤٨.
(٤) تفسير القرطبي: ١٥/ ١٤٧- ١٤٩.
(٥) لسان العرب: ١٣/ ٤٣.
(٦) كلمة غير مقروءة.
(٧) أنظر المصدر السابق.
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص | فتقصر عنها خطوة وتبوص «١» |
قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض:
مناص، أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله سبحانه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً.
وذلك
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلا، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّا، وأبو جميل ابن هشام، وأبي وأميّة ابنا خلف، وعمر بن وهب بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن أميّة والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، وعدي بن قيس، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وقرط بن عمرو، وعامر بن خالد، ومحرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، والأخنس بن سريق، وحويطب ابن عبد العزى، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والوليد بن عتبة، وهشام بن عمر بن ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وماذا يسألوني؟» فقال: يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك.
فقال النبي (عليه السلام) :«أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» «٢» [١٠٧]. فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا:
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
(٢) أسباب نزول الآيات: ٢٤٧.
قال مقاتل: بلغة أزد شنوه.
قال أهل اللغة: العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير وو كبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد.
أنشد الفراء:
كحلقة من أبي رماح... تسمعها لاهة الكبار
وقال آخر:
نحن أجدنا دونها الضرابا... إنّا وجدنا ماءها طيابا «١»
يريد طيبا.
وقال عباس بن مرداس: تعدوا به سلمية سراعه. أي سريعة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: عجّاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب.
فأنشد الفراء:
آثرت إدلاجي على ليل جرّة... هضيم الحشا حسانة المتجرد «٢»
وأنشد أبو حاتم:
جاءوا بصيد عجّب من العجب... أزيرق العينين طوال الذنب «٣»
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه وَاصْبِرُوا واثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ نظيرها في الفرقان لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها «٤».
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقول محمّد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.
قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل: يعنون النصرانية، لأن النصارى تجعل مع الله إلها.
(٢) لسان العرب: ٢/ ٢٧٢.
(٣) تاريخ دمشق: ٧/ ٤٢٢ ط. دار الفكر.
(٤) سورة الفرقان: ٤٢.
إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ القرآن مِنْ بَيْنِنا قال الله عزّ وجلّ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أيّ وحيي.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨ الى ٢١]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
بَلْ لَمَّا أي لم يَذُوقُوا عَذابِ ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ نعمة رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة، نظيرها في الزخرف أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «٢» أي نبوة ربك الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها.
جُنْدٌ أي هم جند ما هُنالِكَ أي هنالك و (ما) صلة مَهْزُومٌ مغلوب، ممنوع عن الصعود إلى السماء مِنَ الْأَحْزابِ أي من جملة الأجناد.
وقال أكثر المفسرين: يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور.
قال قتادة: وعده الله عزّ وجلّ بمكة أنّه سيهزمهم، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا، ثم قال معزّا لنبيه صلّى الله عليه وسلم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عبّاس: ذو البناء المحكم.
(٢) سورة الزخرف: ٣٢. [.....]
قال الأسود بن يعفر: في ظل ملك ثابت الأوتاد.
وقال الضحاك: ذو القوة والبطش.
وقال الحلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحمد مدّه مستلقيا بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتّى يموت.
وقال مقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشده بالأوتاد.
وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات.
وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ ما كل منهم إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ فوجب عليهم ونزل بهم عذابي
وَما يَنْظُرُ ينتظر هؤُلاءِ يعني كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي نفخة القيامة.
وقد روي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي (عليه السلام).
ما لَها مِنْ فَواقٍ.
قال ابن عبّاس وقتادة: من رجوع. الوالبي: يزداد. مجاهد: نظرة. الضحاك: مستوية.
وفيه لغتان: (فُواقٍ) بضم الفاء وهي لغة تميم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. و (فَواقٍ) بالفتح وهي لغة قريش، وقراءة سائر القرّاء واختيار أبي عبيد.
قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال حمام المكوك وحمامه، وقصاص الشعر وقصاصه. وفرّق الآخرون بينهما.
قال أبو عبيدة والمؤرخ: بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته، و (الفواق) بالضم ما بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتّى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق. فاستعير في موضع الانتظار مدة يسيرة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرّم الله جسده على النار» «١» [١٠٨].
قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: يعني كتابنا.
وعنه أيضا: القط الصحيفة التي أحصت كل شيء.
قال أبو العالية والكلبي: لمّا نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ «١»، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ «٢».
قالوا على جهة الاستهزاء: (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) يعنون كتابنا عجّله لنا في الدّنيا.
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: يعني عقوبتنا وما كتب لنا من العذاب.
قال عطاء: قاله النضر بن الحرث، وهو قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ»
وهو الذي قال الله سبحانه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «٤» قال عطاء: لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزّ وجلّ.
وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنّة التي تقول.
قال الفراء: القطّ في كلام العرب الحظ، ومنه قيل للصك قطّ «٥».
وقال أبو عبيدة والكسائي: القطّ الكتاب بالجوائة.
قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته | بغبطته يعطي القطوط ويأفق «٦» |
وقال مجاهد: قِطَّنا حسابنا، ويقال لكتاب الحساب: قطّ، وأصل الكلمة من الكتابة.
فقال الله سبحانه لنبيه (عليه السلام) : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ذا القوة في العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ مطيع.
(٢) سورة الحاقة: ٢٥.
(٣) سورة الأنفال: ٣٢.
(٤) سورة المعارج: ١.
(٥) تفسير القرطبي: ١٥/ ١٥٧، وفتح القدير: ٤/ ٤٢٤.
(٦) الصحاح للجوهري: ٣/ ١١٥٤.
عن الضحاك، سعيد بن جبير: هو المسبّح بلغة الحبش «١».
أخبرني الحسين بن محمّد الدينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو العبّاس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن [فارس] ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الزرقة يمن وكان داود النبي (عليه السلام) أزرق» «٢» [١٠٩].
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بتسبيحه.
قال ابن عبّاس: وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر.
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الحسين بن يحيويه قال: حدثنا أبو أميّة محمّد بن إبراهيم قال: حدثنا الحجاج بن نصير قال: حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: كنت أمرّ بهذه الآية لا أدري ما العشي والإشراق، حتّى حدثتني أم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله (عليه السلام) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى وقال: «يا أم هاني هذه صلاة الإشراق» [١١٠] «٣».
روى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: لم يزل في نفسي [من] صلاة الضحى شيء حتّى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.
قال عكرمة: وكان ابن عبّاس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلّى بعدها.
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عبّاس رضي الله عنهما: إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس.
فقال ابن عبّاس: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وليس الإشراق طلوع الشمس، إنّما هو صفاؤها وضوؤها.
وَالطَّيْرَ أيّ وسخّرنا له الطير مَحْشُورَةً مجموعة كُلٌّ لَهُ أيّ لداود أَوَّابٌ مطيع وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أيّ قوّيناه.
(٢) انظر: الجامع الصغير: ٢/ ٣٣، وتفسير القرطبي: ٦/ ١٧.
(٣) مسند الحميدي: ١/ ١٦٠، مسند ابن راهويه: ٥/ ١٩.
قال ابن عبّاس: كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله وَشَدَدْنا مُلْكَهُ بالحرس.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا محمّد بن الفضل قال: حدثنا داود بن أبي الفرات عن عليّ بن أحمد عن عكرمة عن ابن عبّاس: أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي: ان هذا غصبني بقرتي.
فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم يكن له بيّنة. فقال لهما داود:
قوما حتى أنظر في أمركما.
فقاما من عنده، فأوحى الله سبحانه إلى داود (عليه السلام) في منامه: أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه.
فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتّى أتثبت.
فأوحى الله سبحانه إليه مرة أخرى أن يقتله. فلم يفعل، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة: أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال له: إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك.
فقال له الرجل: تقتلني بغير بيّنة ولا ثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك.
فلمّا عرف الرجل أنّه قاتله قال: لا تعجل حتّى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أخذت.
فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ.
وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة والإصابة في الأمور. وقال أبو العالية: العلم الذي لا تردّه العقول.
وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عبّاس: بيان الكلام.
وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي: يعني علم الحكم والبصر بالقضاء، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس، وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس.
وقال علي بن أبي طالب: هو البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر.
أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن يحيى قال:
حدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا [شعبة] عن الحكم عن شريح في قوله وَفَصْلَ الْخِطابِ قال: الشهود والإيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا أحمد بن محمّد أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن [السبيعي] قال: سمعت زيادا يقول: فَصْلَ الْخِطابِ الذي أعطي داود، أما بعد وهو أوّل من قالها.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ الآية. اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة.
فقال قوم: كان سبب ذلك أنه تمنى يوما من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
وروى السدي والكلبي ومقاتل: عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلوا فيه لعبادة ربّه، ويوما يخلوا فيه لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال:
يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أنهم ابتلوا ببلاء ما لم تبتل بشيء من ذلك فصبروا عليها. ابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وابتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف. وأنك لم تبتل بشيء من ذلك.
فقال داود: ربّ فابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله سبحانه إليه: أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس.
فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له، فلما أهوى إليها
وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله، فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها. فقيل: هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.
فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدّمه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. فبعثه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأسا. فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوّجها داود فهي أم سليمان «١».
وقال آخرون: سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة.
وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال: إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة التوراة، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك بها إعجابا، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكانا، إذا سار إليه قتل ولم يرجع ففعل فأصيب، فخطبها داود فتزوجها «٢».
(٢) تفسير الطبري: ٢٣/ ١٧٦، تفسير القرآن للصنعاني: ٣/ ١٦١.
وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق: كان سبب ذلك أن داود (عليه السلام) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال: هل في الأرض أحد يعمل عملي؟
فأتاه جبرئيل فقال: ان الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعجب يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك.
قال: يا رب كلني إلى نفسي سنة.
قال إنها لكثيرة.
قال: فساعة.
قال: شأنك بها.
فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان.
قالوا: فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلّا يسيرا حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلّا وهو بهما بين يديه جالسين «٢»، فذلك قوله:
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا وإنّما جعلوا جمع الفعل، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث.
قال لبيد:
وخصم يعدون الدخول كأنهم | قروم غيارى كل أزهر مصعب «٣» |
وخصم عضاب ينفضون لحاهم | كنفض البراذين العراب المخاليا «٤» |
(٢) تفسير الطبري: ٢٣/ ١٧٥. [.....]
(٣) لسان العرب: ١٢/ ١٨٠.
(٤) فتح القدير: ٤/ ٤٢٥.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ قال الفراء: قد كرر إذ مرتين، ويكون معناهما كالواحد، كقولك:
ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، فالدخول هو الاجتراء، ويجوز أن يجعل إحداهما على مذهب لما.
فَفَزِعَ مِنْهُمْ حين همّا عليه محرابه بغير إذنه.
قالُوا لا تَخَفْ يا داود خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ولا تجز، عن ابن عبّاس والضحاك.
وقال السدي: لا تسرف. المؤرخ: لا تفرط.
وقرأ أبو رجاء العطاردي: وَلا تَشْطُطْ بفتح التاء وضم الطاء الأولى، والشطط والأشطاط مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من حدهم شطت الدار، وأشطت إذا بعدت.
وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أيّ وسط الطريق، فإن قيل: كيف قال: إِنَّ هذا أَخِي فأوجب الأخوة بين الملائكة ولا مناسبة بينهم، لأنهم لا ينسلون.
في الجواب: أن معنى الآية: نحن لخصمين كما يقال وجهه: القمر حسنا، أيّ كالقمر.
قال أحد الخصمين إِنَّ هذا أَخِي على التمثيل لا على التحقيق، على معنى كونهما على طريقة واحدة وجنس واحد، كقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وقد قيل: إن المتسورين كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، وإن أحدهما كان ملكا والآخر لم يكن ملكا، فنبها داود على ما فعل.
والعرب تفعل ذلك كثيرا توري عن النساء بالظباء والشاة والبقر وهو كثير وأبين في أشعارهم.
قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض التنبيه والتفهيم، لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي، وإنما هو كقول الناس ضرب زيد عمرا، وظلم عمرو زيدا، واشترى بكر دارا وما كان هناك ضرب ولا ظلم ولا شراء.
فَقالَ أَكْفِلْنِيها. قال ابن عبّاس: أعطنيها.
ابن جبير عنه: تحوّل لي عنها.
مجاهد: أنزل لي عنها.
أبو العالية: ضمها إليّ حتّى أكفلها.
ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
وَعَزَّنِي وغلبني فِي الْخِطابِ.
قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.
وقرأ عبيد بن عمير: وعازني في الخطاب بالألف من المعاز وهي المغالبة.
فقال داود: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر؟
قيل: معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه، فعند اعترافه فصل القضية بقوله: (لَقَدْ ظَلَمَكَ) فحذف الاعتراف، لأن ظاهر الآية دال عليه، كقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال.
وقال الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتني شاحبا | كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب «١» |
تتابع أحداث تخر من إخوتي | فشيّبن رأسي والخطوب تشيب «٢» |
(٢) زاد المسير: ٣/ ١٢٩.
قال: إذا لا ندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة.
فقال: يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلّا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قتل وتزوجت امرأته.
قال: فنظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه «١»، فذلك قوله سبحانه: وَظَنَّ وأيقن داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه.
قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر.
قلت: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه.
فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من حدّث بحديث داود على ما روته القصاص معتقدا صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين.
فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة: إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالا له وحدث نفسه بذنب، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله سبحانه على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
وقال بعضهم: كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا غما شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة.
وممّا يصدق ما ذكرنا [ما] قيل عن المفسرين المتقدمين، ما
أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه: أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر
فجاءه جبرئيل (عليه السلام) من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به.
فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: ربّ دمي الذي عند داود؟
فقال جبرئيل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن.
قال: نعم.
فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألت الله تعالى يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب [لي] دمك الذي عند داود. فيقول: هو لك يا رب. فيقول: فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضا» «١» [١١١].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشير قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: وأخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال: وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعا:
إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان:
قضى الرجل على نفسه. وعلم داود إنه عني به، فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلّا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجدا ثم لا يرفع رأسه إلّا لحاجة لا بدّ منها، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوما، لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتّى نبت [الزرع] حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة، وكان يقول في سجوده:
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل
اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي، سبحان خالق النور، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني، سبحان خالق النور، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لا تستجاب وصلاة لا تتقبّل وذنب لا يغفر وعذر لا يقبل، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطيئتي الزم بي من جلدي، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء: يا داود أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر؟
ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء، فصاح صيحة هاج ما حوله ثم نادى: يا رب الذنب الذنب الذي أصبته.
فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل (عليه السلام) فرفعه.
قال وهب: إن داود (عليه السلام) أتاه نداء: أني قد غفرت لك.
قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا.
قال: اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه.
قال: فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى: يا أوريا.
فقال: لبيك من هذا الذي قطع عليّ لذتي وايقظني؟
قال: أنا داود.
قال: ما جاء بك يا نبي الله؟
قال: أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك! قال: وما كان منك إليّ؟
قال: عرضتك للقتل.
قال: عرضتني للجنّة وأنت في حلّ.
فأوحى الله تعالى إليه: يا داود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته.
قال: فرجع إليه فناداه فأجابه.
فقال: من هذا الذي قطع عليّ لذتي؟
قال: أنا داود.
قال: يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟
قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها.
قال: فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك.
قال: يا داود أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له: رضى عبدي؟
فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي.
فأقول له: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي.
قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي «١».
فذلك قوله سبحانه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني ذلك الذنب وَإِنَّ لَهُ بعد المغفرة عِنْدَنا يوم القيامة لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ يعني حسن مرجع.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو الياس ومقاتل وأبو عبد الرحمن الجندي عن وهب بن منبه قال: إن داود لما تاب الله عزّ وجلّ عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا ترقأ له دمعة ليلا ونهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: فكان يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي وفي الجبال والساحل، ويوم يخلوا في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته، يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي وتبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتّى تسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحجارة والجبال والدواب والطير حتّى تسيل أودية من بكائهم، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع.
فإذا كان يوم نوحه على نفسه، نادى مناديه: أن اليوم يوم نوح داود على نفسه، فليحضر من يساعده.
قال: فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش من مسوح، حشوها ليف فيجلس عليها وتجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكي حتى يغرق الفراش من دموعه، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدّنيا لعدله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
حدثنا أبي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عثمان بن أبي العاتكة: أنه كان من دعاء داود:
سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت عليّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إليّ روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا إليّ خطيئتي، فكلهم عليك يدلني «١».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا محمّد ابن موسى الحلواني قال: حدثنا مهنى بن يحيى الرملي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خدّ الدموع في وجه داود (عليه السلام) خديد الماء في الأرض» «٢» [١١٢].
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ظفران بن الحسن بن جعفر بن هاشم قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن موسى بن سليمان قال: حدثنا أبو حفص عمر بن محمّد النسائي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله عن ابن بشر بن محمّد بن أبان قال: حدثنا الحسن بن عبد الله القرشي قال:
لما أصاب داود (عليه السلام) الخطيئة فزع إلى العباد، فأتى راهبا في قلة جبل فناداه بصوت عال فلم يجبه، فلما أكثر عليه الصوت قال الراهب: من هذا الذي يناديني؟
قال: أنا داود نبي الله.
قال: صاحب القصور الحصينة والخيل المسوّمة والنساء والشهوات، لئن نلت الجنّة بهذا لأنت أنت.
فقال داود: فمن أنت؟
قال: أنا راهب راغب مترقب.
قال: فمن أنيسك وجليسك؟
قال: اصعد تره إن كنت تريد ذلك.
قال: فتخلل داود الجبل حتّى صار إلى القلة فإذا هو بميت مسجى.
(٢) تفسير القرطبي: ١٥/ ١٨٦.
قال: نعم.
قال: من هذا؟
قال: تلك قصته مكتوب في لوح من نحاس عند رأسه.
قال: فقرأ الكتاب فإذا فيه: أنا فلان ابن فلان ملك الأملاك، عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وهزمت ألف عسكر وألف امرأة أحصنت وافتضضت ألف عذراء، فبينا أنا في ملكي أتاني ملك الموت وأخرجني ممّا أنا فيه، فهذا التراب فراشي والدود جيراني.
قال: فخرّ داود مغشيا عليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن علي الهمداني قال: حدثنا عثمان بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمّد بن عبد الرحمن بن غزوان قال: حدثنا الأشجعي عن الثوري عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان الناس يعودون داود يظنون أن به مرضا، وما به مرض وما به إلّا الحياء والخوف من الله سبحانه» «١» [١١٣].
وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود كان يبدأ إذا دعا [يستغفر] للخاطئين قبل نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا إسماعيل قال:
حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: كان داود ساجدا من بعد الخطيئة لا يجالس إلّا الخاطئين ثم يقول: تعالوا إلى داود الخاطئ.
ولا يشرب شرابا إلّا مزجه بدموع عينيه، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته، فلا يزال يبكي حتّى يبتل بدموع عينيه، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين.
قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم النصف من الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله.
وأخبرنا عن إسحاق قال: حدثنا مقاتل وأبو الياس قالا: حدثنا وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه قال: يا رب غفرت لي؟
قال: نعم.
قال: فوسم الله عزّ وجلّ خطيئته في يده اليمنى، فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلّا بكى إذا رآها، وما كان خطيبا في الناس إلّا بسط راحته فاستقبل الناس، ليروا وسم خطيئته.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال: ما رفع داود رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتّى مات.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال:
حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمّد بن سليمان قال: حدثنا ثابت قال: كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لا يسدها إلّا الأسر وإذا ذكر رحمته تراجعت.
قال: وروى المسعودي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم (عليه السلام) أكثر حيث أخرجه الله تعالى من الجنّة وأهبط إلى الأرض.
ويروى أن داود كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لا يقف له الماء ولا تصغي إليه البهائم والوحوش والطيور كما كان قبلها، ونقصت نعمته فقال: إلهي ما هذا؟
فأوحى الله سبحانه: يا داود إن الخطيئة هي التي غيّرت صوتك وحالك.
فقال: إلهي أو ليس قد غفرتها لي؟
فقال: نعم قد غفرتها لك، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودّ والقربة، فلن تدركها أبدا فذلك قوله: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ.
قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قوله سبحانه: وَخَرَّ راكِعاً هل يقال للراكع خرّ؟
قلت: لا.
قال: فما معنى الآية؟
قلت: معناها فخرّ بعد أن كان راكعا، أي سجد.
أخبرني الحسن بن محمّد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار قال:
حدثنا محمّد بن عبد العزي قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي سعيد الخدري قال: رأيتني أكتب سورة ص
، فلما أتيت على هذه الآية وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، رأيت فيما يرى النائم كأنّ القلم خرّ ساجدا، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تقول كما قال وتسجد كما سجد» [١١٤] فتلاها فسجدوا وأمرنا أن نسجد فيها.
وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا صمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو حفص بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمر بن علي الصيرفي قال: حدثنا اليمان بن نصر الكعبي قال: حدثنا عبد الله أبو سعد المدني قال: حدثني محمّد بن المنكدر عن محمّد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة، والشجرة تقرأ ص، فلما بلغت السجدة سجدت، فسمعتها تقول في سجودها:
اللهم أكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفسجدت أنت يا أبا سعيد؟».
قلت: لا يا رسول الله.
قال: «أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى بلغ السجدة فسجد ثم قال مثل ما قالت الشجرة «١».
وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن علي بن الحسن قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا محمّد بن يزيد بن خنيس قال: حدثنا الحسن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريح: حدثنا حسن قال: حدثني جدّك عبيد الله بن أبي يزيد قال: حدثني ابن عبّاس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فرأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت، فسمعتها وهي ساجدة تقول:
اللهم اكتب لي عندك بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود.
قال ابن عبّاس: فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم قرأ السجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل من كلام الشجرة، قال الله سبحانه وتعالى فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب قال: إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود.
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ تركوا الأيمان بيوم الحساب وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ليتدبروا آياتِهِ.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٩ الى ٤٤]
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
هذه قراءة العامة. وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى والترجمني: (ليدبّروا) بياء واحدة مفتوحة مخففة على الحذف.
قال الحسن: تدبر آياته، إتباعه.
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ.
قال الكلبي: غزا سليمان (عليه السلام) أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس.
وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس وكان أبوه أصابها من العمالقة.
وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة.
قالوا: فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيّه وهي تعرض عليه، فعرضت عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك بفتنته له، واغتم لذلك فقال: رُدُّوها عَلَيَّ.
قال الحسن: فلما عقر الخيل، أبدله الله سبحانه مكانها خيرا منها وأسرع [من] الريح التي تَجْرِي بِأَمْرِهِ كيف يشاء، وكان يغدوا من إيليا فيقيل بقرير الأرض باصطخر «١» ويروح من قرير [بكابل] «٢».
وقال ابن عبّاس: سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية فقال: ما بلغك في هذا يا ابن عبّاس؟
فقلت له: سمعت كعب الأحبار يقول: إن سليمان اشتغل ذات يوم بعرض الأفراس والنظر إليها حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ.
فقال لما فاتته الصلاة: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ يعني الأفراس وكانت أربعة وعشرون، وبقول: أربعة عشر، فردوها عليه فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنه ظلم الخيل بقتلها.
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كذب كعب الأحبار، لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس ذات يوم، لأنه أراد جهاد عدو حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ، فقال بأمر الله للملائكة الموطنين بالشمس: رُدُّوها عَلَيَّ. يعني الشمس، فردوها عليه حتّى صلّى العصر في وقتها.
فإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم ولا يرضون بالظلم، لأنهم معصومون مطهّرون، فذلك قوله سبحانه: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي الخيل القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل.
قال عمر بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا.
وقال القتيبي: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل وغيرها.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار»
«٣» [١١٥] أي وقوفا الْجِيادُ الخيار السراع واحدها جواد فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ يعني الخيل، والعرب تعاقب بين الراء واللام فيقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت الرجل وخترته أي خدعته.
(٢) تفسير الطبري: ٢٢/ ٨٥، وفي الدر المنثور: ٥/ ٢٢٧: كان سليمان يركب الريح من إصطخر فيتغدى ببيت المقدس ثم يعود فيتعشى باصطخر. [.....]
(٣) زاد المسير: ٦/ ٣٣٤.
كقول لبيد:
حتّى إذا ألقت يدا في كافر «٢»
يعني الشمس بِالْحِجابِ وهو جبل دون قاف بمسيرة سنة، تغرب الشمس من ورائها.
رُدُّوها كرّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي فأقبل يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، وينحرها تقربا بها إلى الله سبحانه وطلبا لرضاه، حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك قربانا منه ومباحا له، كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام.
وقال قوم: معناه حبسها في سبيل الله، وكوى سوقها وأعناقها بكيّ الصدقة.
ويقال للكيّة على الساق: علاظ، وللكيّة على العنق: دهاو.
وقال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها.
وهي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس.
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ هذه قصة محنة نبي الله سليمان وسبب زوال ملكه مدة، واختلفوا في سبب ذلك.
فروى محمّد بن إسحاق عن بعض العلماء قال: قال وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون، بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه [إذا ركب على] الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس، فقتل ملكها واستقام فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسنا وجمالا، واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده، لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ؟
قالت: إن أبي أذكره وأذكره ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك.
(٢) الصحاح للجوهري: ٢/ ٨٠٨، وعجز البيت:
وأجن عورات الثغور ظلامها.
قالت: إن ذلك لكذلك، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا، لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلّى عني بعض ما أجد في نفسي.
فأمر سليمان الشياطين فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتّى لا تنكر منه شيئا.
فمثّلوا لها حتّى نظرت إلى أبيها بعينه، إلّا أنّه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته، وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في ولائدها حتّى تسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صدّيقا وكان لا يرد عن باب سليمان أيّ ساعة أراد دخول شيء من بيوته، حاضرا كان [سليمان] أو غائبا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم.
فقال: افعل.
فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضّله الله به، حتّى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك، ثم انصرف.
فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتّى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال:
يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله، وأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري، وسكت عمّا سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟
قال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة.
فقال: في داري؟
فقال: في دارك.
قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، لقد علمت أنك ما قلت الذي قلت إلّا عن شيء بلغك.
ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب
رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك.
فلم يزل كذلك يومه ذلك حتى أمسى، ثم يرجع إلى داره، وكانت أم ولد له يقال لها:
الأمينة، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتّى يتطهر، وكان لا يلبس خاتمة إلّا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه: صخر، على صورة سليمان لا ينكر منه شيئا.
فقال: يا أمينة خاتمي.
فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتّى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والانس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حاله وهيبته عند كل من رأى فقال: يا أمينة خاتمي.
فقالت: ومن أنت؟
قال: أنا سليمان بن داود.
فقالت: كذبت لست بسليمان وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه.
فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود. فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان بن داود.
فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما كان عبد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم.
فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟
قالوا: نعم.
قال: أمهلوني حتّى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره، ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته؟
فقلن: أشدّه ما يدع امرأة منّا في دمها، ولا يغتسل من جنابة.
فقال:
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ | إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. |
فطلبته له الشياطين حتّى أخذ له فأتى به فجاءت له صخرة، فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى ثم أوثقها بالرصاص والحديد، ثم أمر به فقذف في البحر.
فهذا حديث وهب بن منبه «١».
قال السديّ في سبب ذلك: كان لسليمان (عليه السلام) مائة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها: جرادة، وهي أبرّ نسائه وآمنهن عنده، فكان إذا أحدث أو أتى حاجة، نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك.
فقال: نعم. ولم يفعل، فابتلي بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المخرج فخرج الشيطان في صورته، فقال لها: هات الخاتم.
فأعطته، فجاء حتّى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه.
فقالت: ألم تأخذه قبل؟
قال: لا. وخرج من مكانه تائها، ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما.
قال: فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلمائهم، فجاؤا حتّى دخلوا على نسائه، فقالوا: إنّا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه، فبكى النساء عند ذلك قال: فأقبلوا يمشون حتّى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوها، فلما قرءوا
قال: فأقبل سليمان في حاله التي كان فيها، حتّى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان.
فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه.
قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، وقالوا: بئس ما صنعت حين ضربته.
فقال: إنه زعم أنه سليمان. فأعطوه سمكتين ممّا قد مذر عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتّى قام إلى شط البحر فشق بطونهما وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه، فردّ الله عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير حتّى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقاموا يعتذرون مما صنعوا.
فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لا بدّ منه.
ثم جاء حتّى أتي ملكه وأمر حتّى أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمره فألقي في البحر، وهو كذلك حيّ حتّى الساعة «١».
وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن، سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط من يده، فلما رآه سليمان لا يثبت في يده أيقن بالفتنة، وأن آصف قال لسليمان: إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما.
ففرّ إلى الله تائبا من ذنبك، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيوتك بسيرتك، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك.
ففرّ سليمان هاربا إلى ربّه، وأخذ أصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وأن الجسد الذي قال الله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً كان هو أصف كاتبا لسليمان، وكان عنده علم من الكتاب، فأقام أصف في ملك سليمان وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله سبحانه وردّ الله عليه ملكه، فقام أصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيه، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها.
وأخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن الأزهر قال:
وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما رويناه «١».
وقال في آخره: قال علي: فذكرت ذلك للحسن فقال: ما كان الله عزّ وجلّ يسلطه على نسائه «٢».
وقال بعض المفسرين: كان سبب فتنة سليمان أنه أمر أن لا يتزوج امرأة [إلّا] من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم فعوقب على ذلك.
وقيل: ان سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت فخوّفها سليمان.
فقالت: إن أكرهتني على الإسلام قتلت نفسي.
فخاف سليمان أن تقتل نفسها، فتزوج بها وهي مشركة، وكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما».
وقال الشعبي في سبب ذلك: ولد لسليمان ابن، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض:
إن عاش له ولد لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسحرة، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نحيله.
فعلم سليمان بذلك فأمر السحاب حتّى حملته الريح وغدا ابنه في السحاب خوفا من معرة الشيطان، فعاقبه الله لخوفه من الشيطان، ومات الولد فألقى ميتا على كرسيّه، فهو الجسد الذي قال الله سبحانه: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ.
وقيل: هو ان سليمان قال يوما: لأطوفن الليلة على نسائي كلهن، حتّى يولد لي من كل واحدة منهن ابن فيجاهد في سبيل الله. ولم يستثن، فجامعهن كلهن في ليلة واحدة، فما خرج له منهن إلّا شق مولود، فجاءت به القابلة والقته على كرسي سليمان.
فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً وهو ما
أخبرنا عبد الله بن حامد عن آخرين قالوا: حدثنا ابن الشرقي، قال: حدثنا محمّد بن عقيل وأحمد بن حفص قالا: حدثنا حفص قال: حدثني إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة، قال: اخبرني أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة
(٢) الدر المنثور: ٥/ ٣١٢.
(٣) انظر تفسير القرطبي: ١٥/ ١٩٩.
فذلك قوله عزّ وجلّ:
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ.
قال مقاتل: فتن سليمان بعد ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة.
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أيّ شيطانا، عن أكثر المفسرين.
واختلفوا في اسمه، فقال مقاتل وقتادة: اسمه صخر بن عمر بن عمرو بن شرحبيل وهو الذي دل سليمان على الألماس حين أمر ببناء بين المقدس وقيل له: لا يسمعن فيه صوت حديد، فأخذوا الألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والجواهر ولا تصوت، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء والحمام لم يدخل بخاتمه، فدخل الحمام وذكر القصة في أخذ الشيطان الخاتم.
قال: وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال: أما والله لأجربنّه، فقال:
يا نبي الله- وهو لا يرى أنه نبي الله- أرأيت أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتّى تطلع الشمس، أترى عليه بأسا؟ قال: لا. فرخص له في ذلك، وذكر الحديث.
وروى أبو إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي الله عنه قال: بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يلعب بخاتمه، إذ سقط في البحر وكان ملكه في خاتمه.
وروى حماد بن سلمة عن عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» [١١٧] «٢».
رجع إلى حديث علي قال: فانطلق سليمان وخلّف شيطانا في أهله وأتى عجوزا فآوى إليها فقالت له العجوز: أن شئت ان تنطلق فاطلب فأكفيك عمل البيت وإن شئت أن تكفيني البيت وانطلق والتمس.
قال: فانطلق يلتمس، فأتى قوم يصيدون السمك فجلس إليهم فنبذوا إليه سمكات، فانطلق بهن حتّى أتى العجوزة، فأخذت تصلحه فشقت بطن سمكة، فإذا فيها الخاتم فأخذته وقالت لسليمان: ما هذا؟
فأخذه سليمان فلبسه، فأقبلت الشياطين والجنّ والإنس والطير والوحوش، وهرب الشيطان
(٢) كنز العمال: ١١/ ٤٩٨ ح ٣٢٣٣٧، وتذكرة الموضوعات: ١٠٨.
قال: فنزح ماءها وجعل فيها خمرا. قال: فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: والله إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين «١» الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.
ثم رجع حتّى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا.
قال: ثم شربها حتّى غلبته على عقله، ثم أروه الخاتم فقال: سمع وطاعة «٢».
قال: فأتى به سليمان فأوثقه ثم بعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان الذي يرون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل هو بوله.
وقال السدي: اسم ذلك الشيطان اسمذي وقيل خبفيق.
وقال مجاهد: اسمه آصف.
أخبرنا أبو صالح بن أبي الحسن البيهقي الفقيه قال: أخبرنا أبو حاتم التميمي قال: حدثنا أبو الأزهر العبدي قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطانا يقال له: آصف. قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟
قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيّه ومنعه الله سبحانه نساء سليمان فلم يقربهن، وأنكر الناس أمر سليمان، وكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفونني؟ أنا سليمان فيكذبونه حتّى أعطته امرأة يوما حوتا فبطّ بطنه، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفرّ آصف فدخل البحر. وقيل: إن الجسد هو آصف ابن برخيا الصدّيق، وقد مضت القصة.
وقيل: هو الولد الميت الذي غدا في السحاب.
وقيل: هو الولد الناقص الخلق.
وقيل: معنى قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أن سليمان ضرب بعلّة أشرف منها على الموت، حتّى صار جسدا في المثل بلا روح، وقد وصف المريض المضني بهذه الصفة، فيقال كالجسد الملقى ولم يبق منه إلّا جسده وتقدير الآية وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.
(٢) تفسير الطبري: ٢٢/ ١٨٧.
فروي ان سليمان لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر بأن يعمل بديعا مهولا، بحيث إن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب.
قال: فعمل له كرسي من أنياب الفيل، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر، وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب وعلى رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وقد جعلوا من جنبتي الكرسي أسدين من الذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر، وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي.
قال: وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان، ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاوسان والأسدان مائلات برءوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء، ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجيء عظماء الجنّ ويجلسون على كراسي من الفضة عن يساره وهي ألف كرسي حافين جميعا، به ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم إليه الناس للقضاء، فإذا دعى بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات، دار الكرسي بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما، فيفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد، فلا يشهدون إلّا بالحق «١».
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذنبي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ.
وقال ابن كيسان: أي لا يكون لأحد.
مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي.
قال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكا لا أسلبه في باقي عمري كما سلبته في ماضي عمري.
وقيل: إنما سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالا على رسالته ومعجزا لمن سواه.
وقيل: إنما سأل ذلك ليكون علما له على المغفرة وقبول التوبة، حيث أجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه.
وقال عمر بن عثمان الصدفي: أراد به ملك النفس وقهر الهوى.
يؤيده ما
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال:
أخبرنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي قال: حدثنا سلمان بن عامر الشيباني قال: بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم سليمان وما أعطاه الله من ملكه؟ فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعا لله عز وجل حتّى قبضه الله عزّ وجلّ» [١١٨] «١».
وأخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا هشام عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قد عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هرّكم هذا، فأخذته فأردت أن أحبسه حتّى أصبح، فذكرت دعوة أخي سليمان رب هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فتركته» [١١٩] «٢».
ومنه عن روح عن شعبة عن محمّد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا من الجن جعل يتقلب عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي وأن الله عزّ وجلّ أمكنني منه [فرعته] «٣» فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتنظرون إليه كلكم، فتذكرت قول سليمان: ربّ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فردّه الله عزّ وجلّ خاسئا» [١٢٠] «٤».
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً ليّنة رطبة حَيْثُ أَصابَ حيث أراد وشاء، بلغة حمير.
تقول العرب: أصاب الصواب وأخطأ الجواب، أي أراد الصواب.
قال الشاعر:
(٢) الدر المنثور: ٥/ ٣١٣.
(٣) كذا في المخطوط: وفي المصادر: (فأخذته) و (فذعته) و (فانتهرته).
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٢٩٨، وصحيح البخاري: ٤/ ١٣٦.
أصاب الكلام فلم يستطع | فأخطأ الجواب لدى المفصل «١» |
وتقول العرب: منّ عليّ برغيف، أي أعطانيه.
قال الحسن: إن الله عزّ وجلّ لم يعط أحدا عطية إلّا جعل فيها حسابا، إلّا سليمان فإن الله سبحانه أعطاه عطاء هنيئا فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ.
أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال: إن أعطى أجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعة.
قال مقاتل: هو في أمر الشياطين، خذ من شئت منهم في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قربة وَحُسْنَ مَآبٍ مصير.
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ.
قال مقاتل: كنيته أبو عبد الله.
إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ بتعب ومشقة وبلاء وضر.
قال مقاتل: بِنُصْبٍ في الجسد وَعَذابٍ في المال.
وفيه أربع لغات: (نُصُب) بضمتين وهي قراءة أبي جعفر، و (نَصَب) بفتح النون والصاد وهي قراءة يعقوب و (نَصْب) بفتح النون وجزم الصاد وهي رواية هبيرة عن حفص عن عاصم، و (نصب) بضم النون وجزم الصاد وهي قراءة الباقين.
واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب:
فقال وهب: استعان رجل أيوب على ظلم يدرأه عنه، فلم يعنه فابتلي.
وروى حيان عن الكلبي: أن أيوب كان يغزوا ملكا من الملوك كافرا، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك، فداهنه ولم يغزه فابتلي.
وقال غيرهما: كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلى.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ الأرض، أي ادفع وحرك هذا مُغْتَسَلٌ.
(٢) سورة المدّثّر: ٦.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٦٠]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
وَاذْكُرْ عِبادَنا.
قرأه العامة: بالألف.
وقرأ ابن كثير: (عبدنا) على الواحد، وهي قراءة ابن عبّاس.
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يوسف الفقيه قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن يحيى ابن بلال قال: حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر بن عطاء عن ابن عبّاس أنه كان يقرأ: واذكر عبدنا إبراهيم ويقول: إنما [ذكر] إبراهيم ثم ولده بعده وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي ذوي القوة في العبادة وَالْأَبْصارِ التبصر في العلم والدين إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.
قرأ أهل المدينة مضافا وهي رواية هشام عن الشام.
وقرأ الآخرون: بالتنوين على البدل وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا الذي ذكرت ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ لذات مستويات على ملاذ امرأة واحدة بنات ثلاث وثلاثين سنة، واحدها ترب هذا ما تُوعَدُونَ بالتاء.
ابن كثير وأبو عمر والباقون: بالياء.
لِيَوْمِ الْحِسابِ أي في يوم الحساب.
قال الأعشى:
المهينين ما لهم لزمان السوء | حتّى إذا أفاق أفاقوا «١» |
قال الفراء: رفعت الحميم والغساق ب (هذا) مقدما ومؤخرا، والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه، وإن شئت جعلته مستأنفا وجعلت الكلام فيه مكتفيا كاملا قلت: هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم وغساق.
كقول الشاعر:
حتّى إذا ما أضاء الصبح في غلس | وغودر البقل ملوي ومحصود «٢» |
قال الفراء: من شدد جعله اسما على فعّال نحو الخبّاز والطبّاخ. ومن خفف [جعله] اسما على فعال نحو العذاب.
واختلف المفسرون فيه:
فقال ابن عبّاس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار.
وقال مجاهد ومقاتل: هو [الثلج] البارد الذي قد انتهى برده، أي يريد هو المبين بلغة الطحارية وقد بلغه النزل.
محمّد بن كعب: هو عصارة أهل النار.
قتادة والأخفش: هو ما يغسق من قروح الكفرة والزناة بين لحومهم وجلودهم، أيّ تسيل.
قال الشاعر:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها | وإلي جرى دمع من العين غاسق «٣» |
وقرأ غيرهم: على الواحد وَآخَرُ.
(٢) جامع البيان للطبري: ٢٣/ ٢١٠.
(٣) تفسير القرطبي: ١٥/ ٢٢٢.
وأما قوله هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عبّاس: هو أن القتادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا يعني الاتباع فَوْجٌ جماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ النار، أيّ داخلوها كما دخلتم.
فقالت السادة: لا مَرْحَباً بِهِمْ يعني بالأتباع إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كما صليناها، فقال الاتباع للسادة: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أيّ شرعتم وسننتم الكفر لنا فَبِئْسَ الْقَرارُ أي قرارنا وقراركم، والمرحب والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد.
قال أبو عبيدة: يقول العرب للرجل: لا مرحبا بك، أي لا رحبت عليك الأرض، أيّ اتسعت.
وقال القتيبي: معنى قولهم: مرحبا وأهلا وسهلا، أي أتيت رحبا وسعة، وأتيت سهلا لا حزنا، وأتيت أهلا لا غرباء، فأنس ولا تستوحش، وهي في مذهب الدعاء كما تقول: لقيت خيرا، فلذلك نصب «١».
قال النابغة:
لا مرحبا بغد ولا أهلا به | إن كان تفريق الأحبة في غد «٢» |
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي شرّعه وسنّه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ على عذابنا.
وقال ابن مسعود: يعني حيات وأفاعي.
وَقالُوا يعني صناديد قريش وهم في النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ في دار الدّنيا، يعني فقراء المؤمنين أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا.
(٢) لسان العرب: ١٥/ ١١٧.
إحداهما: أنّ الاستفهام متقدم في قوله: (ما لَنا لا نَرى رِجالًا).
والأخرى: أنّ المشركين لم يكونوا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدّنيا سخريا، فكيف يستفهمون عمّا قد عملوه. ويكون على هذه القراءة بمعنى بل.
وقرأ الباقون: بفتح الألف وقطعها على الاستفهام وجعلوا (أم) جوابا لها مجازا:
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا في الدّنيا وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار.
أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم وهم في النار، ولكن احتجبوا عن أبصارنا.
وقال الفراء: هو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ، فهو يجوز باستفهام ويطرحه.
وقال ابن كيسان: يعني أم كانوا خيرا منّا ولا نعلم نحن بذلك، فكانت أبصارنا تزيغ منهم في الدّنيا فلا نعدهم شيئا.
أخبرنا أبو بكر الحمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم قال: حدثنا عصمة بن سليمان الجرار عن يزيد عن ليث عن مجاهد وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ.
قال: صهيب وسلمان وعمّار لا نراهم في النار أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا في الدّنيا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ في النار إِنَّ ذلِكَ الذي ذكرت لَحَقٌّ ثم بيّن فقال: تَخاصُمُ أي هو تخاصم أَهْلِ النَّارِ ومجاز الآية: أن تخاصم أهل النار في النار لحق قُلْ يا محمّد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مخّوف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني القرآن.
عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة، وروى معمر عنه يوم القيامة، نظيرها عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «١».
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم وهو قولهم حين قال الله سبحانه لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «٢» الآية هذا قول أكثر المفسرين.
وروى ابن عبّاس عن النبي (عليه السلام) قال: «قال ربّي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يعني الملائكة؟
(٢) سورة البقرة: ٣٠.
قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات: فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة: وأما الدرجات: فإفشاء السلام، واطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» [١٢١] «١».
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ.
قال الفراء: ان شئت جعلت (أَنَّما) في موضع رفع، كأنك قلت: ما يوحى إليّ إلّا الإنذار، وإن شئت جعلت المعنى ما يوحى إليّ إلّا لأني نذير مبين.
وقرأ أبو جعفر (إنما) بكسر الألف، لأن الوحي قول.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٨٨]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وفي تحقيق الله سبحانه وتعالى التنشئة في اليد، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، إنما هما وصفان من صفات ذاته.
قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد، والصلة مجاز لما خلقت، كقوله سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «٢» أي ربك، وهذا تأويل غير قوي، لأنه لو كان بمعنى الصلة فكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني. وكذلك في القدرة والنعمة، لا تكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وقد مضت هذه المسألة عند قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «٣».
(٢) سورة الرحمن: ٢٧. [.....]
(٣) سورة يس: ٧١.
أَسْتَكْبَرْتَ ألف الاستفهام تدخل على ألف الخبر أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ المتكبرين على السجود كقوله سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «٤». قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنّة.
وقيل: من السماوات.
وقال الحسن وأبو العالية: أيّ من الخلقة التي أنت فيها.
قال الحسين بن الفضل: وهذا تأويل صحيح، لأن إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة، فغيّر الله تعالى خلقه فاسودّ بعد ما كان أبيضا وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد أن كان نورانيا.
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود معذّب وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ.
قرأ مجاهد والأعمش وعاصم وحمزة وخلف: برفع الأول ونصب الثانية على معنى فأنا الحقّ أو فمنّي الحق، وأقول الحق.
وقال الباقون: بنصبهما.
واختلف النحاة في وجهيهما، قيل: نصب الأول على الإغراء والثاني بإيقاع القول عليه.
وقيل: هو الأول قسم، والثاني مفعول مجاز قال: فبالحق وهو الله عزّ وجلّ أقسم بنفسه وَالْحَقَّ أَقُولُ.
وقيل: إنه أتبع قسما بعد قسم.
وقال الفراء وأبو عبيد: معناهما حققا لم يدخل الألف واللام، كما يقال: الحمد لله وأحمد الله، هما بمعنى واحد.
وقرأ طلحة بن مصرف: فالحق والحقِّ بالكسر فهما على القسم.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدش يقول: هو مردود إلى ما قبله
(٢) سورة النور: ٢.
(٣) سورة التحريم: ٤.
(٤) سورة القصص: ٤.
وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق البستي قال:
حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال: حدثنا محمّد بن عوف قال: حدثنا محمّد بن المصفى قال: حدثنا حنوة بن سريج بن يزيد قال: حدثنا أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن مقبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول فيما لا يعلم» [١٢٢] «٢».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني السنّي قال: حدثني عبد الله بن محمّد بن جعفر قال:
حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم قال: حدثنا سيف بن عمر الضبي عن وائل بن داود عن يزيد البهي عن الزبير بن العوام قال: نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم أغفر للذين يدعون أموات امتي ولا يتكلفون إلّا أني بريء من التكلف وصالحوا أمتي» [١٢٣] «٣».
وأخبرني الحسين قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا عبد الله بن محمّد بن وهب قال:
حدثنا إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي ببيت المقدس قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن [........] «٤» علية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من أتاه الله عزّ وجلّ علما فليتق الله وليعلّمه الناس ولا يكتمه، فإنه من كتم علما يعلمه كان كمن كتم ما أنزل الله تعالى على نبيّه وأمره أن يعلمه الناس، ومن لم يعلم فليسكت وإياه أن يقول ما لا يعلم فيهلك ويصير من المتكلفين ويمرق من الدين، وأن الله عزّ وجلّ قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ من أفتى بغير السنّة فعليه الإثم.
وأخبرني الحسن قال: حدثنا السنيّ قال: أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمّد بن خبير
(٢) تفسير القرطبي: ١٥/ ٢٣١.
(٣) انظر: تذكرة الموضوعات: ٦٧.
(٤) كلام غير مقروء.
قال قتادة: يعني بعد الموت.
وابن عبّاس: يعني يوم القيامة.
مكية، إلا قوله سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية. وهي أربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف، وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة، وخمس وسبعون آية
أخبرنا ابن المقرئ قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدثنا ابن شريك قال: حدثنا ابن يونس قال: حدثنا أبو سليمان قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه، وأعطاه ثواب الخائفين» [١٢٤] «١».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن ماهان قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن يزيد عن مروان أبي لبابة مولى عبد الرحمن بن زياد عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ