تفسير سورة الزمر

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

قَوْلُهُ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، الْمُتَضَمِّنَةِ صِفَاتَهُ الْعُلْيَا.
فَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، لَمَّا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ كِتَابَهُ، بَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ تَنْزِيلِهِ كَائِنٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَكَرَ اسْمَهُ اللَّهَ، وَاسْمَهُ الْعَزِيزَ، وَالْحَكِيمَ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [٤٥ ١ - ٣]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [٤٦ ١ - ٣].
وَقَدْ تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ، ذِكْرُهُ بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَعْدَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [٤٠ ١ - ٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فُصَّلَتْ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [٤١ ١ - ٢]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هُودٍ: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [١١ ١] وَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [٤١ ٤١ - ٤٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ يس تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [٣٦ ٥ - ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [٢٦ ١٩٢ - ١٩٣]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [٦٩ ٤٣ - ٤٤].
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الْعَظِيمَةَ، بَعْدَ ذِكْرِهِ تَنْزِيلَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ، عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ وَأَهَمِّيَّةِ نُزُولِهِ،
وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ. أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يَعْبُدَهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَيْ مُخْلِصًا لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ صَغِيَرِهَا وَكَبِيرِهَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ.
وَالْإِخْلَاصُ، إِفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْقَصْدِ، فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ الْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا بُدَّ مِنْهُ، جَاءَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا، أَنَّهُ مَا أَمَرَ بِعِبَادَةٍ، إِلَّا عِبَادَةً يُخْلِصُ لَهُ الْعَابِدُ فِيهَا.
أَمَّا غَيْرُ الْمُخْلِصِ فَكُلُّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ، جَاءَ بِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لَا بِأَمْرِ رَبِّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [٩٨ ٥]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [٣٩ ١٤، ١٥].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ أَيِ: التَّوْحِيدُ الصَّافِي مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، أَيْ: هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ وَحْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.
وَقَوْلُ مِنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدِّينِ الْخَالِصِ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، بَيَّنَ شُبْهَةَ الْكُفَّارِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا لِلْإِشْرَاكِ بِهِ تَعَالَى، فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ، إِلَّا لِأَجْلِ أَنْ تُقَرِّبَهُمْ مِنَ اللَّهِ زُلْفَى، وَالزُّلْفَى: الْقَرَابَةُ.
فَقَوْلُهُ: زُلْفَى، مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ لِيُقَرِّبُونَا، أَيْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَيْهِ قَرَابَةً تَنْفَعُنَا بِشَفَاعَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ.
وَلِذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكْ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [٦ ٣٥] أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنِ ادِّعَاءِ الشُّفَعَاءِ، وَاتِّخَاذِ الْمَعْبُودَاتِ مَنْ دُونِ اللَّهِ وَسَائِطَ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكُفَّارِ.
وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [١٠ ١٨].
فَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ، مِنِ ادِّعَاءِ الشُّفَعَاءِ شِرْكٌ بِاللَّهِ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَا قَالَ عَنْهُمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [٣٩ ٣] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [٣٩ ٣].
وَقَوْلُهُ: كُفَّارٌ، صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى جَامِعُونَ بِذَلِكَ، بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْكُفْرِ بِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ النَّاسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ، بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هِيَ أَبُوهُمْ
آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ تِلْكَ النَّفْسِ، زَوْجَهَا يَعْنِي حَوَّاءَ. أَيْ: وَبَثَّ جَمِيعَ بَنِي آدَمَ مِنْهُمَا، وَأَوْضَحَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [٤ ١] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ [٧ ١٨٩]، وَتَأْنِيثُ الْوَصْفِ، بِقَوْلِهِ وَاحِدَةٍ، مَعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُذَكَّرٌ، وَهُوَ آدَمُ نَظَرًا إِلَى تَأْنِيثِ لَفْظِ النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مُذَكَّرًا، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ:
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى وَأَنْتَ خَلِيفَةُ ذَاكَ الْكَمَالِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذِهِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [٣ ١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَةَ [٢٢ ٥] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْمُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. قَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ الْغِنَى الْمُطْلِقَ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ كُفْرُهُمْ بِهِ، وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [١٤ ٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [٦٤ ٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْآيَةَ [١٠ ٦٨]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [٣٥ ١٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [٤٧ ٣٨]، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا بِالْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ مَعَ إِزَالَةِ الْإِشْكَالِ، وَالْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ، عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ ١٥]، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ، مَعَ إِزَالَةِ الْإِشْكَالِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ، فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [١٦ ٢٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا الْآيَةَ [١٠ ١٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَحْثِ أُصُولِهِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [١٥ ٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ. الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْهُ، فِي مَنَاكِبِ أَرْضِ اللَّهِ الْوَاسِعَةِ، حَتَّى يَجِدَ مَحَلًّا تُمَكِّنُهُ فِيهِ إِقَامَةَ دِينِهِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [٤ ٩٧]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [٢٩ ٥٦]، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، مِنْ أَوْجُهٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [١٠ ٤٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ الْآيَةَ [٢١ ٣٩]، وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [١٧ ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [١ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ، مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ وَحْيِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الْآيَةَ [٢٣ ٦٨]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [٨٦ ١٣ - ١٤]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [٣٩ ١٨] أَيْ: يُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ حُسْنًا، عَلَى الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُسْنِ، وَيُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ مُطْلَقًا عَلَى الْحَسَنِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْأَحْسَنَ الْمُتَّبَعَ. مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ، فَهُوَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [٣٩ ٥٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى يَأْمُرُهُ بِالْأَخْذِ بِأَحْسَنِ مَا فِي التَّوْرَاةِ: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [٧ ١٤٥].
وَأَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ فِيهِ الْأَحْسَنُ وَالْحَسَنُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِهِ.
وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ أَحْسَنُ مِنَ الْمَنْدُوبِ، وَأَنَّ الْمَنْدُوبَ أَحْسَنُ مِنْ
356
مُطْلَقِ الْحَسَنِ، فَإِذَا سَمِعُوا مَثَلًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [٢٢ ٧٧] قَدَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ الْوَاجِبَ، عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الْمَنْدُوبِ، وَقَدَّمُوا هَذَا الْأَخِيرَ، عَلَى مُطْلَقِ الْحَسَنِ الَّذِي هُوَ الْجَائِزُ، وَلِذَا كَانَ الْجَزَاءُ بِخُصُوصِ الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، لَا عَلَى مُطْلَقِ الْحَسَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ ٩٧] وَقَالَ تَعَالَى وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [٣٩ ٣٥] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ ٩٧]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي:
مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنُ وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ
وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْأَخْذِ بِالْأَحْسَنِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ مَعَ جَوَازِ الْأَخْذِ بِالْحَسَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [١٦ ١٢٦] فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ لِلْجَوَازِ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِحَسَنٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَامَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّبْرَ، خَيْرٌ مِنْهُ وَأَحْسَنُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِبَاحَةِ الِانْتِقَامِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [٤٢ ٤٣]، مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الصَّبْرَ وَالْغُفْرَانَ خَيْرٌ مِنْهُ، فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [٤٢ ٤٣]، وَكَقَوْلِهِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَامِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [٤ ١٤٨] مَعَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [٤ ١٤٩]. وَكَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا مُثْنِيًا عَلَى مَنْ تَصَدَّقَ، فَأَبْدَى صَدَقَتَهُ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [٢ ٢٧١] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِخْفَاءَهَا وَإِيتَاءَهَا الْفُقَرَاءَ، خَيْرٌ مِنْ إِبْدَائِهَا الَّذِي مَدَحَهُ بِالْفِعْلِ الْجَامِدِ، الَّذِي هُوَ لِإِنْشَاءِ الْمَدْحِ الَّذِي هُوَ نَعِمَّ، فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [٢ ٢٧١].
357
وَكَقَوْلِهِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ اللَّازِمِ، لِلزَّوْجَةِ بِالطَّلَاقِ، قَبْلَ الدُّخُولِ، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [٢ ٢٣٧] وَلَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ النِّصْفَ حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ مَعَ أَنَّهُ رَغَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَنْ يَعْفُوَ لِلْآخَرِ عَنْ نِصْفِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [٢ ٢٣٧].
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [٤٢ ٤٠] ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَحْسَنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [٤٢ ٤٠] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [٥ ٤٥] ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَحْسَنِ، فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [٥ ٤٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالًا غَيْرَ الَّذِي اخْتَرْنَا.
مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي مَعْنَى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ قَالَ: «هُوَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فَيَتَحَدَّثُ بِالْحَسَنِ، وَيَنْكَفُّ عَنِ الْقَبِيحِ، فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ».
وَقِيلَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ، فَيَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَحْسَنِ الْقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، فَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَكِنَّ فِيهَا حَذْفًا، وَحَذْفُ مَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، تُخَلِّصُهُ أَنْتَ مِنْهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا تُخَّلِصُ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَحَدًا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْمَحْذُوفُ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا قَوْلِي الْمُفَسِّرِينَ فِي أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَدَاةِ عَطْفٍ كَالْفَاءِ وَالْوَاوِ
وَثُمَّ كَقَوْلِهِ هُنَا: أَفَمَنْ حَقَّ وَقَوْلَهُ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ.
أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرْطِيَّةٌ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُ الْكَلَامِ: أَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، فَأَنْتِ تُنْقِذُهُ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، دَخَلَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ فَاءُ الْجَزَاءِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، تَقْدِيرُهُ: أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَمِنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى كُرِّرَتْ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَوَضْعِ مَنْ فِي النَّارِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ الْآيَةَ [٣٦ ٧]، وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى الْمُرَادِ بِكَلِمَةِ الْعَذَابِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ وَعْدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْغُرَفِ الْمَبْنِيَّةِ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [٣٤ ٣٧]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الْآيَةَ [٩ ٧٢]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٦١ ١٢]، لِأَنَّ الْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّوْبَةِ وَالصَّفِّ صَادِقَةٌ بِالْغُرَفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الزُّمَرِ وَسَبَأٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا الْآيَةَ [٢٥ ٧٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ. الْيَنَابِيعُ: جَمْعُ يَنْبُوعٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ.
وَقَوْلُهُ: فَسَلَكَهُ أَيْ أَدْخَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [١١ ٤٠].
359
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ، قَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْآيَةَ [٣٤ ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الرُّومِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [٣٠ ٢٢] وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا الْآيَةَ [٣٥ ٢٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ نَضَارَةِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَخُضْرَتِهِ يَيْبَسُ، وَيَتِمُّ جَفَافُهُ وَيَثُورُ مِنْ مَنَابِتِهِ فَتَرَاهُ أَيُّهَا النَّاظِرُ مُصْفَرًّا يَابِسًا، قَدْ زَالَتْ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا أَيْ فُتَاتًا، مُتَكَسِّرًا، هَشِيمًا، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ حَالَاتِ ذَلِكَ الزَّرْعِ، الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ، لَذِكْرَى أَيْ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً وَتَذْكِيرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، أَيْ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا مَصِيرَ هَذَا الزَّرْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ مَا وَعَظَ بِهِ خَلْقَهُ هُنَا مِنْ حَالَاتِ هَذَا الزَّرْعِ شَبِيهٌ أَيْضًا بِالدُّنْيَا. فَوَعَظَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ وَشَبَّهَ بِهِ حَالَةَ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [٢٥٧ ٢٠]. وَيُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ اصْفِرَارِهِ الْمَذْكُورِ إِرْسَالُ الرِّيحِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [٣٠ ٥١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [٦ ١٢٥].
360
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [١٦ ٣٧]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا الْآيَةَ [١٨ ١ - ٢]. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُرْآنًا انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَرَبِيًّا، وَقُرْآنًا تَوْطِئَةٌ لَهُ وَقِيلَ انْتُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَرَبِيًّا، أَيْ: لِأَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [١٦ ١٠٣]. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [٤٣ ٣]. وَقَالَ فِي أَوَّلِ الزُّخْرُفِ: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [٤٣ ٣]. وَقَالَ فِي طه وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [٢٠ ١١٣] وَقَالَ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [٤١ ٤٤] وَقَالَ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [٢٦ ١٩٢ - ١٩٥] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا الْآيَةَ [٤٢ ٧].
وَقَالَ تَعَالَى فِي الرَّعْدِ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ [١٣ ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَعِظَمِهَا، دَلَالَةً لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ. أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [٢٩ ٣٣ - ٣٤].
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ «الَّذِي» تَأْتِي بِمَعْنَى الَّذِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [٢ ١٧] أَيِ: الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [٢ ١٧] وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [٢ ٢٦٤] أَيْ: كَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [٩ ٦٩] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَشْهَبَ بْنِ رُمَيْلَةَ:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
وَقَوْلُ عُدَيْلِ بْنِ الْفَرْخِ الْعِجْلِيِّ:
فَبِتُّ أُسَاقِي الْقَوْمَ إِخْوَتِي الَّذِي غَوَايَتُهُمْ غَيٌّ وَرُشْدُهُمْ رُشْدُ
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ فِي قَائِمٍ مِنْهَا وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ
إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ الْآيَةَ [١٦ ٣١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [٣٩ ١٧ - ١٨] وَفِي سُورَةِ
362
النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ ٩٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [٨ ٦٤] وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِكَافٍ عَبْدَهُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، بِإِفْرَادِ الْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [٢ ١٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الْآيَةَ [٨ ٦٤].
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ عِبَادَهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتَحِ الْبَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْمَلُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، يُخَوِّفُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّهَا سَتَضُرُّهُ وَتَخْبِلُهُ، وَهَذِهِ عَادَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، يُخَوِّفُونَ الرُّسُلَ بِالْأَوْثَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا سَتَضُرُّهُمْ وَتَصِلُ إِلَيْهِمْ بِالسُّوءِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، لَا يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا سِيَّمَا الْأَوْثَانُ، الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَوَّفُوهُ بِهَا: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الْآيَةَ [٦ ٨١].
وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ وَمَا ذَكَرَهُ لَهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [١١ ٥٤ - ٥٦].
وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، مُخَاطِبًا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَخْوِيفَهُمْ لَهُ بِأَصْنَامِهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [٣٩ ٣٨].
363
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [٣ ١٧٥].
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ حُذِفَ فِيهِ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِهِ، لَا تَقْدِرُ أَنْ تَكْشِفَ ضُرًّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ أَحَدًا، أَوْ تُمْسِكَ رَحْمَةً أَرَادَ بِهَا أَحَدًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [١٩ ٤٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [٢٦ ٧٢ - ٧٤]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٣٥ ٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [١٠ ١٠٧]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [٣٤ ٣٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَهُمُ الْكُفَّارُ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ، لَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ الَّذِي عَايَنُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَصَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ لَا فِدَاءَ الْبَتَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [٣ ٩١]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [٥ ٣٦ - ٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [٥٧ ١٥]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [٦ ٧٠]. وَقَوْلِهِ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أَيْ: وَإِنْ تَفْتَدِ كُلَّ فِدَاءِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ الْآيَةَ [٢ ٤٨]. وَقَوْلِهِ: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ الْآيَةَ [٢ ١٢٣]، وَالْعَدْلُ الْفِدَاءُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [١٣ ١٨].
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ الْآيَةَ [٣ ٩١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا. قَوْلُهُ: وَبَدَا لَهُمْ أَيْ: ظَهَرَ لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا، أَيْ: جَزَاءُ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا فِي الدُّنْيَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَطْلَقَ السَّيِّئَاتِ هُنَا مُرَادًا بِهَا جَزَاؤُهَا.
وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [٤٢ ٤٠].
وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا إِطْلَاقُ الْعِقَابِ، عَلَى جَزَاءِ الْعِقَابِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الْآيَةَ [٢٢ ٦٠].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّهُمْ يَبْدُو لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَقِيقَةَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ [١٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [٧٥ ١٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [٨٢ ٥]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا الْآيَةَ [١٨ ٤٩]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ ١٣ - ١٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ الْآيَةَ [١٠ ١٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [٣٩ ١٧ - ١٨] وَقَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [١٦ ٩٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مِنْ جِهَاتٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [٧ ٥٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الْآيَةَ [٣ ١٠٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ.
تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، مَعَ بَيَانِ جُمْلَةً مِنْ آثَارِ الْكِبْرِ السَّيِّئَةِ، فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [٧ ١٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٦ ٨٨].
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ الْآيَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْقَيْدِ الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الْآيَةَ [٥ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ يس، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [٣٦ ٥١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [١٨ ٤٩] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [١٧ ١٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ. اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا يُحْصُونَ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [٥٠ ٢١].
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الشُّهَدَاءُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.
367
وَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ عِنْدِي، أَنَّ الشُّهَدَاءَ هُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْبَشَرِ، الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى الْأُمَمِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي بَيْنَ الْأُمَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُهَا، كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [١٠ ٤٧] فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ يَسْأَلُ الرُّسُلَ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [٥ ١٠٩] وَقَالَ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [٧ ٦] وَقَدْ يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [٤ ٤١] لِأَنَّ كَوْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الشَّهِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أُمَّتُهُ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ رَسُولُهَا.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الشَّهِيدَ عَلَى كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أَنْفُسِ الْأُمَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [١٦ ٨٩] وَالرُّسُلُ مِنْ أَنْفُسِ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [٩ ١٢٨]. وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ [٣ ١٦٤].
وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِيجَازِ بِحَذْفِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [٣٩ ٦٩] هُوَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ، أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَجِيءِ بِهِمْ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرُ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَجِيءَ بِكَسْرِ الْجِيمِ كَسْرَةٍ خَالِصَةٍ.
وَقَرَأَهُ الْكِسَائِيِّ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِإِشْمَامِ الْكَسْرَةِ الضَّمِّ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْإِشْمَامُ هُنَا جَائِزًا، وَالْكَسْرُ جَائِزًا، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الْآيَةِ الْبَتَّةَ، لَبْسٌ بَيْنَ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، وَالْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَجِيءَ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ بِوَجْهٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِيهِ الْكَسْرُ الْخَالِصُ وَإِشْمَامُ الْكَسْرَةِ الضَّمَّ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
368
أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى اللَّبْسِ، فَيُشْتَبَهُ الْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ، بِالْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ اجْتِنَابُ الشَّكْلِ الَّذِي يُوجِبُ اللَّبْسَ، وَالْإِتْيَانَ بِمَا يُزِيلُ اللَّبْسَ مِنْ شَكْلٍ أَوْ إِشْمَامٍ كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ بِشَكْلٍ خِيفَ لَبْسٌ يُجْتَنَبْ
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ:
وَاكْسِرْ أَوْ أَشْمِمْ فَا ثُلَاثِيٍّ أُعِلْ عَيْنًا وَضُمَّ حَاءَ كَبُوعَ فَاحْتُمِلْ
وَإِنِّي عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ قَلَّ نَفْعُهُ دُفُوعٌ إِذَا مَا ضُمْتُ غَيْرُ صَبُورِ
فَقَوْلُهُ: ضُمْتُ أَصْلُهُ ضِيمْتُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَيَجِبُ الْإِشْمَامُ أَوِ الضَّمُّ ; لِأَنَّ الْكَسْرَ الْخَالِصَ يَجْعَلُهُ مُحِتَمِلًا لِلْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ كَبِعْتُ وَسِرْتُ. وَقَوْلُ جَرِيرٍ يَرْثِي الْمَرَّارَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ:
وَأَقُولُ مِنْ جَزَعٍ وَقَدْ فُتْنَا بِهِ وَدُمُوعُ عَيْنِي فِي الرِّدَاءِ غِزَارُ
لِلدَّافِنِينَ أَخَا الْمَكَارِمِ وَالنَّدَا لِلَّهِ مَا ضُمِنَتْ بِكَ الْأَحْجَارُ
أَصْلُهُ فُوتْنَا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَيَجِبُ الْكَسْرُ أَوِ الْإِشْمَامُ ; لِأَنَّ الضَّمَّ الْخَالِصَ يَجْعَلُهُ مُحْتَمِلًا لِلْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، كَقُلْنَا وَقُمْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا. الزُّمَرُ: الْأَفْوَاجُ الْمُتَفَرِّقَةُ، وَاحِدُهُ زُمْرَةٌ، وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى عَنْهَا هُنَا بِالزُّمَرِ، وَعَبَّرَ عَنْهَا فِي الْمُلْكِ بِالْأَفْوَاجِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ الْآيَةَ [٦٧ ٨]، وَعَبَّرَ عَنْهَا فِي الْأَعْرَافِ بِالْأُمَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ الْآيَةَ [٧ ٣٨].
وَقَالَ فِي فُصِّلَتْ: وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [٤١ ٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ [٣٨ ٥٩].
وَمِنْ إِطْلَاقِ الزُّمَرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ:
وَتَرَى النَّاسَ إِلَى مَنْزِلِهِ زُمَرًا تَنْتَابُهُ بَعْدَ زُمَرْ
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
إِنَّ الْعُفَاةَ بِالسُّيُوبِ قَدْ غَمَرَ حَتَّى احْزَأَلَّتْ زُمَرًا بَعْدَ زَمَرْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. لَمْ يُبَيِّنْ جَلَّ وَعَلَا هُنَا عَدَدَ أَبْوَابِهَا الْمَذْكُورَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ، فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [١٦ ٤٣ - ٤٤].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: (فُتِّحَتْ) بِالتَّاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [١٧ ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [١٦ ٣٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا وَعَايَنُوا مَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ، حَمِدُوا رَبَّهُمْ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، وَنَوَّهُوا بِصِدْقِ وَعْدِهِ لَهُمْ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٧ ٤٣]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا الْآيَةَ [٧ ٤٤].
370
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [٣٥ ٣٣ - ٣٤].
371
Icon