تفسير سورة الشورى

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الشورى من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الشورى مكية وهي خمسون وثلاث آيات.

سورة الشورى
وهي ثلاث وخمسون آية مكية
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤)
قوله تبارك وتعالى: حم عسق روي عن ابن عباس أنه قال: الحاء حكم الله، والميم ملك الله، والعين علو الله، والسين سناء الله، والقاف قدرة الله. فكأنه يقول: فبحكمي، وملكي، وعلوي، وسنائي، وقدرتي، لا أعذب عبداً قال: لا إله إلا الله، مخلصاً، فلقيني بها. ومعنى قول ابن عباس: لا يعذب عبداً يعني: لا يعذبه عذاباً دائماً، خالداً. وروى المسيب عن رجل، عن أبي عبيدة، قال: العين عذاب الله، والسين سنون، والقاف فيها القحط العجب. قال: وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «افْتَحُوا صِبْيَانُكُمْ قَوْلَ لا إله إلا الله، وَلَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إله إلاَّ الله» الحِكْمَةُ فِي ذلك، لأن حال الصبيان حال حسن، لا غل، ولا غش في قلوبهم، وحال الموتى حال الاضطرار. فإذا قلتم ذلك في أول ما يجري عليكم القلم، وآخر يجف القلم فعسى الله أن يتجاوز ما بين ذلك. قال المسيب: وحدثنا محدث قال: قاف قذف وقال الضحاك: في قوله: حم عسق قال: قضى عذاب سيكون واقعاً، وأرجو أن يكون قد مضى يوم بدر، والسنون. وقال شهر بن حوشب: حم عسق حرب يذل فيه العزيز، ويعز فيه الذليل من قريش، ثم يفضي إلى العرب، ثم إلى العجم، ثم هي متصلة إلى خروج الدجال. وقال عطاء: الحاء حرب، وهو موت ذريع في الناس، وفي الحيوان، حتى يبيدهم، ويفنيهم، والميم تحويل ملك من قوم إلى قوم، والعين عدو لقريش يركبهم، ثم ترجع الدولة إليهم بحرمة البيت، والسين هو استئصال بالسنين كسني يوسف، والقاف قدر من الله نافذ في ملكوت الأرض، لا يخرجون من قدره، وهو نافذ فيهم. وقال السدي: الحاء حلمه، والميم ملكه، والعين عظمته، والسين سناؤه، والقاف قدرته. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله تعالى. ويقال اسم من أسماء القرآن.
ثم قال تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: أوحى الله إليك ب حم عسق كما أوحى الله بها إلى الذين كانوا من قبلك. وقال ابن عباس: ليس من نبي وإلا وقد أوحى الله تعالى إليه ب حم عسق كما أوحى الله بها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قرأ ابن كثير:
يُوحِي إِلَيْكَ بالألف، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون: يُوحِي بالكسر.
يعني: هكذا يوحي الله إليك. وقرئ في الشاذ (نوحي) بالنون.
ثم قال: اللَّهُ الْعَزِيزُ بالنقمة على من لم يجب الرسل، الْحَكِيمُ حكم بإنزال الوحي عليك. وقال مقاتل: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: في أمر العذاب.
قوله عز وجل: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني: من خلق، وَهُوَ الْعَلِيُّ يعني: لرفعي الْعَظِيمُ فلا شيء أعظم منه. يعني: عظيم قدرته.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥ الى ١٠]
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠)
قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ يعني: يتشققن، مِنْ فَوْقِهِنَّ يعني: تكاد أن يتشققن من قدرة الله، وهيبته. يعني: من هيبة الرحمن، وجلاله، وعظمته. قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، وعاصم، في رواية حفص: تكاد السماوات بالتاء، بلفظ التأنيث، يَتَفَطَّرْنَ بالتاء بلفظ التأنيث. وقرأ أبو عمرو، وعاصم، في رواية أبي بكر: تَكادُ بالتاء بلفظ التأنيث، ينفطرن بالنون. وقرأ الباقون: بالياء بلفظ التذكير يَتَفَطَّرْنَ بالياء.
ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني: يسبحونه، ويذكرونه، وَيَسْتَغْفِرُونَ
236
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ
يعني: للمؤمنين. وروى داود بن قيس قال: دخلت على وهب بن منبه، فَسُئِلَ عن قوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٧] قال: للمؤمنين منهم. وفي رواية أنه قال:
نسختها الآية التي في سورة المؤمن حيث قال: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٧]. وروى معمر عن قتادة قال: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ قال: للمؤمنين منهم. قال أبو الليث رحمه الله:
هذا الذي روي عن قتادة أصح، لأن النسخ في الأخبار لا يجوز، وإنما في الأمر، والنهي.
ثُمَّ قال: أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم، الرَّحِيمُ بهم في الرزق. ويقال:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: يسألون لهم الرزق.
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: عبدوا مِن دُونِ الله أَوْلِياءَ يعني: أصناماً. اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يعني: يحفظ أعمالهم، ويقال: شهيد عليهم، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني: بمسلط، لتجبرهم على الإيمان. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
قوله عز وجل: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا يعني: هكذا أنزلنا عليك جبريل بالقرآن، ليقرأ عليك القرآن بلغتهم، ليفهموه. لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني: لتخوف بالقرآن أهل مكة، وَمَنْ حَوْلَها من البلدان، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يعني: لتنذرهم بيوم القيامة. والباء محذوفة منه كما قال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً يعني: ببأس شديد. وإنما سمي يوم الجمع، لأنه يجتمع فيه أهل السماء، وأهل الأرض كلهم، من الأولين والآخرين. لاَ رَيْبَ فِيهِ يعني:
يوم القيامة لا شك فيه أنه كائن. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وهم المؤمنون، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وهم الكافرون.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً يعني: على ملة واحدة، وهو الإسلام.
وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ يعني: يكرم بدينه من يشاء، من كان أهلاً لذلك، ويدخله في الآخرة في رحمته. أي: في جنته وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يعني: الكافرين ليس لهم مانع يمنعهم من العذاب، ولا ناصر ينصرهم.
قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: عبدوا من دون الله أرباباً، فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ يعني: هو أولى أن يعبدوه. ويقال: الله هو الولى. يعني: هو الرب، وهو إله السموات، وإله الأرض. ويقال: هو الولي لمصالحهم، ينزل المطر بعد المطر، وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى يعني: يحيهم بعد الموت. ويقال: يحيي قلوبهم بالمعرفة، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني: قادر على ما يشاء.
قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يعني: إذا اختلفتم في أمر الدين، فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ يعني: علمه عند الله، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي يعني: الذي ذكر هو الله ربي، عَلَيْهِ
237
تَوَكَّلْتُ
يعني: فوضت أمري إليه سبحانه، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يعني: أقبل إلى الله تعالى بالطاعة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١١ الى ١٥]
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)
فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: هو خالق السموات والأرض، جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني: أصنافاً ذكراً، وأنثى، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يعني: أصنافاً، ذكراً، وأنثى. وقال القتبي: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني: من جنسكم إناثاً، وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يعني: إناثاً، يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني: يخلقكم فيه. أي: من الرحم. وقال الكلبي:
يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يعني: يكثرهم في التزويج. وقال مقاتل: يعيشكم فيما جعل لكم من الذكور والإناث من الأنعام.
ثم قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في القدرة. وقال أهل اللغة: هذا الكاف مؤكدة. أي:
ليس مثله شيء. ويقال: المثل صلة في الكلام. يعني: ليس هو كشيء، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يعني: هو السميع لمقالتهم، البصير بهم وبأعمالهم. ومعنى الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لأنه الخالق، العالم بكل شيء، والقادر على ما يشاء، الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: ٢٥٥] وهذه المعاني بعيدة من غيره.
238
ثم قال عز وجل: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض وهو المطر، وخزائن الأرض وهو النبات، يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يعني: يوسع الرزق على من كان صلاحه في ذلك، وَيَقْدِرُ يعني: يقتر على من كان صلاحه في ذلك، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من البسط، والتقتير.
قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ قال مقاتل: أي: بيّن لكم الدين، وهو الإسلام.
ومِنَ هاهنا صلةِ وقال الكلبي: اختار لكم من الدين. ومعناه: اختار لكم ديناً من الأديان، وأكرمكم به.
ثم قال: مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً يعني: الدين الذي أمر به نوحاً أن يدعو الخلق إليه، وأن يستقيم عليه، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني: الذي أوحينا إليك بأن تدعو الناس إليه: وَما وَصَّيْنا بِهِ يعني: والدين الذي أمرنا به إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ثم بيّن ما أمرهم به، فقال:
أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يعني: أقيموا التوحيد، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ يعني: لا تختلفوا في التوحيد، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يعني: على مشركي مكة مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وهو التوحيد. وقال أبو العالية: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ قال: الإخلاص لله في عبادته، لا شريك له، ولا تتفرقوا فيه.
قال: لا تتعالوا فيه، وكونوا عباد الله إخواناً كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ يعني:
الإخلاص لله تعالى. ويقال: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ يعني: ارفقوا في الدين. اتفقوا ولا تتفرقوا فيه. يعني: لا تختلفوا فيه، كما اختلف أهل الكتاب.
ثم قال: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي: يختار لدينه من يشاء، من كان أهلاً لذلك، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يعني: يرشد إلى دينه، مَنْ يقبل إليه. ويقال: يهدي من كان في علمه السابق أنه يتوب ويرجع. ويقال: مَنْ يُنِيبُ يعني: من يجتهد بقلبه. كما قال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قوله تعالى: وَما تَفَرَّقُوا يعني: مشركي مكة ما تفرقوا في الدين، إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ في كتابهم. يعني: جاءهم محمد بالبينات. ويقال:
وَما تَفَرَّقُوا يعني: أهل الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ ما جاءهم العلم في كتابهم. يعني: من نعت محمد صلّى الله عليه وسلم بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني: حسداً فيما بينهم، لأنه كان من العرب. وروى معمر عن قتادة أنه تلى: وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ قال: إياكم والفرقة فإنها مهلكة. وروي في الخبر: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ آفَة وآفَةُ الدِّينِ الهَوَى».
ثم قال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني: بتأخير العذاب إلى وقت معلوم. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني: لفرغ منهم بالهلاك. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ يعني: أُعْطُوا التَّوْرَاة، والإنجيل، مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: من بعد نوح، وإبراهيم. وقال مقاتل: يعني: من بعد الأنبياء لَفِي شَكٍّ مِنْهُ يعني: من القرآن مُرِيبٍ أي: ظاهر الشك.
239
وقوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ يعني: فإلى ذلك ادعهم يعني: إلى القرآن، ويقال: إلى التوحيد وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ يعني: استقم عليه كما أمر وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني: لا تعمل بهواهم، وذلك حين دعوه إلى ملة آبائه وَقُلْ آمَنْتُ يعني: صدقت بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ يعني: بجميع ما أنزل الله من الكتب عليَّ وعلى من كان قبلي وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ وهو الدعوة إلى التوحيد، وإلى قول: لا إله إلا الله اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ يعني: خالقنا وخالقكم لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني: لنا ديننا، ولكم دينكم لاَ حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ يعني: لا خصومة بيننا وبينكم، يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يعني: إليه المرجع في الآخرة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ يعني: يخاصمون في توحيد الله ودين الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ يعني: من بعد ما أجابوا إياه، أي: بعد ما أجاب المؤمنون بتوحيد الله لنبيه. وقال مجاهد: طمع رجال بأن يعودوا إلى الجاهلية فنزل وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ إلى قوله: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ وروى معمر عن قتادة قال: والذين يحاجون في الله، يعني: في دينه قال: هم اليهود، والنصارى. قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم.
فنزل وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي: في دين الله مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ يعني: من بعد ما دخل الناس في الإسلام حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ يعني: خصومتهم باطلة. ويقال: احتجاجهم زائل، ساقط. يقال دحض أي: زال، ومعناه: ليس لهم حجة. وسمى قولهم حجة على وجه المجاز، يعني: حجتهم كما قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ يعني: الآلهة بزعمهم، ولم يكونوا آلِهَة في الحقيقة عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ يعني: كما يكابرون عقولهم وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بما كانوا يفعلون.
قوله عز وجل: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أي: لبيان الحق، وأنزل
الميزان وهو العدل ويقال: وأنزل الميزان في زمان نوح. ويقال: هي الحدود والأحكام والأمر والنهي. قوله: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يعني: قيام الساعة قريب. وهذا كقوله:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وقال تعالى: لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ولم يقل قريبة، لأن تأنيثها ليس بحقيقي، ولأنه انصرف إلى المعنى، يعني: للبعث. قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِها يعني: أن المشركين كانوا يقولون: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ويقولون:
رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها يعني: خائفين من قيام الساعة، لأنهم يعلمون أنهم مبعوثون، محاسبون وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ يعني: يعلمون أن الساعة كائنة. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يعني: يشكون ويخاصمون فيها. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: في خطأ طويل، بعيد عن الحق.
قوله عز وجل: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يعني: عالم بعباده. ويقال: رحيم بعباده، ويقال اللطيف الذي يرزقهم في الدنيا، ولا يعاقبهم في الآخرة. ويقال: اللطيف بعباده، بالبر، والفاجر لا يهلكهم جوعاً يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حساب. ويقال يرزق من يشاء، مقدار ما يشاء، في الوقت الذي يشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ على هلاكهم. الْعَزِيزُ يعني: المنيع لا يغلبه أحد.
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ يعني: ثواب الآخرة بعمله. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يعني: ينال كليهما وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا يعني: ثواب الدنيا بعمله. نُؤْتِهِ مِنْها يعني: نعطه منها. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ لأنه عمل لغير الله تعالى. قال أبو الليث رحمه الله: حدّثنا الفقيه أبو جعفر، قال: حدثنا محمد بن عقيل قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدّثنا الحجاج قال: حدّثنا شعبة، عن عمر بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ كانَتْ نِيَّتُهُ الآخِرَةَ جَمَعَ الله شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ الله عَلَيْهِ أمْرَهُ، وَجَعلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَهُ».
وقال القتبي: الحرث في اللغة العمل. يعني: من كان يريد بحرثه، أي: بعمله الْآخِرَةِ نضاعف له الحسنات. ومن أراد بعمله الدنيا أعطيناه ولا نصيب له في الآخرة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)
241
قوله عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يعني: ألهم آلهة دوني. شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ أي:
بينوا لهم من الدين ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يعني: ما لم يأمر به. ويقال: معناه ألهم آلهة ابتدعوا لهم من الدين. أي: من الشريعة والطريقة. ويقال: سنوا لهم ما لم يأذن به الله، يعني: ما لم ينزل به الله من الكتاب والدين وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ يعني: القضاء الذي سبق، ألا يعذب هذه الأمة، ويؤخر عذابهم إلى الآخرة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني: أنزل بهم العذاب في الدنيا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعني: المشركين. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
قوله تعالى: تَرَى الظَّالِمِينَ يعني: ترى الكافرين يوم القيامة. مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا يعني: خائفين مما عملوا في الدنيا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ يعني: نازل بهم ما كانوا يحذرون.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الذين صدقوا بالتوحيد، وأدّوا الفرائض، والسنن فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ يعني: في بساتين الجنة. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ من الكرامة.
ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني: المن العظيم.
قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ يعني: ذلك الثواب الذى يُبَشِّرُ الله عِبادَهُ في الدنيا قرأ حمزة، والكسائي، وابن كثير، وأبو عمرو يُبَشِّرُ بنصب الياء، وجزم الباء، وضم الشين مع التخفيف. والباقون بالتشديد وقد ذكرناه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني:
يبشرهم بتلك الجنة، وبذلك الثواب ثم قال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني: قل يا محمد لأهل مكة، لا أسألكم عليه أجرا، أي على ما جئتكم به أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال مقاتل: يعني: إلا أن تصلوا قرابتي، وتكفوا عني الأذى.
ثم نسخ بقوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ويقال: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يعني:
إلا، ألاَّ تؤذونني بقرابتي منكم. قال ابن عباس: ليس حي من أحياء العرب إلا وللنبي عليه السلام فيه قرابة. وقال الحسن: إِلاَّ المودة فِى القربى، يعني: إلا أن تتوددوا إلى الله تعالى، بما يقربكم منه، وهكذا قال مجاهد، وقال سعيد بن جبير: إِلاَّ المودة فِى القربى، يعني: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
ثم قال: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يعني: يكتسب حَسَنَةً، نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً يعني: للواحد عشرة. ويقال: نزد له التوفيق في الدنيا، ونضاعف له الثواب في الآخرة. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ يعني: غفور لمن تاب، شكور يقبل اليسير، ويعطي الجزيل.
242

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني: تقوله من ذات نفسه، ولم يأمره الله تعالى. قال الله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يعني: يحفظ قلبك، حتى لا تدخل في قلبك المشقة والأذى من قولهم: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ يعني: يهلك الله تعالى الشرك وَيُحِقُّ الْحَقَّ يعني: يظهر دينه الإسلام بِكَلِماتِهِ يعني: بتحقيقه، وبنصرته، وبالقرآن إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: يعلم ما في قلب محمد صلّى الله عليه وسلم من الحزن، ويعلم ما في قلوب الكافرين من التكذيب.
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ حتى يتجاوز عما عملوا قبل التوبة. وروى عبد العزيز بن إسماعيل، عن محمد بن مطرف قال: «يقول الله تعالى: وَيْحَ ابْنَ آدَمَ، يُذْنِب الذَّنْبَ ثم يستغفر، فأغفر له، ثُمَّ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يستغفر، فأغفر له، ثم يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، فَأغْفِرَ لَهُ لاَ هُوَ يَتْرك ذُنُوبَهُ، وَلاَ هُوَ يَيْأس مِن رَّحْمَتِي. أشْهَدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ» وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ من خير أو شر.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص تَفْعَلُونَ بالتاء على معنى المخاطبة، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني:
يجيب دعاءهم، ويعطيهم أكثر ما سألوا من المغفرة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني: يزيدهم على أعمالهم من الثواب. ويقال: يعطيهم الثواب في الجنة، أكثر مما سألوا وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يعني: دائماً لا يقتر عنهم.
243
قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ يعني: لو وسع الله تعالى عليهم المال لَبَغَوْا أي: لطغوا فِي الْأَرْضِ وعصوا وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاءُ يعني: يوسع على كل إنسان، بمقدار صلاحه في ذلك، قال أبو الليث رحمه الله: حدّثنا أبو القاسم، حمزة بن محمد قال: حدّثنا أبو القاسم، أحمد بن حمزة، قال: حدّثنا نصر بن يحيى، قال: سمعت شقيق بن إبراهيم الزاهد يقول: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ قال: لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب، لتفرغوا وتفاسدوا في الأرض، ولكن شغلهم بالكسب، حتى لا يتفرغوا للفساد.
ثم قال: إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعني: بالبر، والفاجر، والمؤمن، والكافر. ويقال:
يعني: عالم بصلاح كل واحد منهم. قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني: المطر مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا أي: حبس عنهم وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يعني: المطر وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ يعني: الولي للمطر يرسله مرة بعد مرة الْحَمِيدُ يعني: أهل أن يحمد على صنعه.
قوله عز وجل: وَمِنْ آياتِهِ يعني: من علامات وحدانيته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خلقين عظيمين، لا يقدر عليهما بنو آدم، ولا غيرهم وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يعني:
ما خلق فِى السموات والأرض من خلق أو بشر فيهما وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ يعني: على إحيائهم للبعث إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يعني: قادر على ذلك. ويقال: وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ يعني: في الأرض خاصة كما قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) [الرحمن: ٢٢] يعني: من أحدهما ثم قال وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ يعني: ما تصابون من مصيبة في أنفسكم، وأموالكم فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ يعني: يصيبكم بأعمالكم، ومعاصيكم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني: ما عفى الله عنه، فهو أكثر.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله، أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم؟ قالوا بلى. فقرأ عليهم: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال: فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي، وما عفى الله تعالى عنه في الدنيا، ولم يعاقب، فهو أجود وأمجد، وأكرم من أن يعذب فيه يوم القيامة.
وعن الضحاك قال: ما تعلم رجل القرآن، ثم نسيه، إلا بذنب. ثم قرأ: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وأي: مصيبة أعظم من نسيان القرآن. قرأ نافع وابن عامر «بما كسبت أيديكم»
بحذف الفاء. ويكون ما بمعنى الذي، ومعناه الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم. وقرأ الباقون: فَبِما كَسَبَتْ بالفاء، وتكون الفاء جواب الشرط، ومعناه: ما يصيبكم مِّن مُّصِيبَةٍ، فَبِمَا كَسَبَتْ أيديكم ثم قال:
244

[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣١ الى ٣٥]

وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥)
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: بفائتين من عذاب الله، حتى يجزيكم به وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ يعني: من حافظ وَلا نَصِيرٍ يعني: مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى.
قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ قرأ ابن كثير (الجَوَارِي) بالياء في الوقف، والوصل.
وقرأ نافع، وأبو عمر بالياء في الوصل، وبغير الياء في الوقف، والباقون بغير ياء في الوقف، والوصل. فمن قرأ بالياء فهو الأصل في اللغة، وهي جماعة السفن تجرين في الماء، واحدتها جارية. كقوله: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١] يعني: السفينة. ومن قرأ بغير ياء، فلأن الكسر يدل عليه فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ يعني: تسير في البحر كالجبال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ يعني: يبقين سواكن على ظهر الماء إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ يعني: لعلامات لوحدانيتي لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ يعني: الذي يصبر على طاعة الله (شَكُورٍ) لنعم الله.
قوله تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا يعني: إن يشأ يهلك السفن، بما عملوا من الشرك وعبادة الأوثان وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ولا يجازيهم وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا قرأ ابن عامر ونافع بضم الميم، والباقون بالنصب. فمن قرأ بالضم، فلأنه عطف على قوله: (ويعف) وموضعه الرفع وأصله: (ويعفو) فاكتفى بضم الفاء، والذين كان معطوفاً عليه، رفع أيضاً. ومن قرأ بالنصب، صار نصباً للصرف، يعني: صرف الكلام عن الإعراب الأول، ومعناه: ولكي يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا يعني: في القرآن بالتكذيب مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ يعني: من مفر من الله.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢)
245
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: ما أعطيتم من الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: منفعة الحياة الدنيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أي: ما عِنْدَ الله في الآخرة من الثواب والكرامة، خير وأبقى. يعني: أدوم. ثم بين لمن يكون ذلك الثواب فقال: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي: يثقون به تعالى، ويفوضون الأمر إليه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وهذا نعت المؤمنين أيضاً، الذين يجتنبون كبائر الإثم، والفواحش. قرأ حمزة والكسائي (كَبِير الإثْمِ) بغير ألف، بلفظ الواحد، لأن الواحد يدل على الجمع، والباقون (كبائر) وهو جمع كبيرة، والكبيرة: ما أوجب الله تعالى الحد عليها في الدنيا، أو العذاب في الآخرة. ثم قال: وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يعني:
إذا غضبوا على أحد يتجاوزون، ويكظمون الغيظ.
ثم قال: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ يعني: أجابوا وأطاعوا ربهم فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به. وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني: أتموا الصلوات الخمس، في مواقيتها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ يعني: إذا أرادوا حاجة، تشاوروا فيما بينهم. وروي عن الحسن أنه قال: هم الذين إذا حزبهم أمر، استشاروا أولي الرأي منهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني: يتصدقون في طاعة الله. ثم قال: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ يعني: الظلم هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي: ينتقمون ويقتصون.
روى سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال: كانوا يكرهون أن يستذلوا، ويحبون العفو إذا قدروا. قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يعني: يعاقب مثل عقوبته لغيره فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ يعني: عفا عن مظلمته، وأصلح بالعفو فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ يعني: ثوابه على الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ يعني: لمن يبدأ بالظلم. روي عن زيد بن أسلم، أنه قال: كانوا ثلاث فرق، فرقة بالمدينة، وفرقتان بمكة، إحداهم تصبر على الأذى، والثانية تنتصر، والثالثة تكظم، فنزلت الآية: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ نزلت في الذين بالمدينة وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ نزلت في الذين ينتصرون وقوله: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ نزلت في الذين يصبرون.
فأثنى الله تعالى عليهم جميعا.
قوله عز وجل: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ثم نزل في
246
الظالمين إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه، كان عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم ورجل من المنافقين يسبه، وأبو بكر رضي الله عنه لم يجبه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ساكت يبتسم، فأجابه أبو بكر، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلم وذهب، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالساً، فلما أجبته قمت فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الملك كان يجيبه عنك، فلما أجبته ذهب الملك، وجاء الشيطان وأنا لا أجلس في مجلس يكون فيه الشيطان. فنزل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
وروى محمد بن المنكدر قال: ينادي المنادي يوم القيامة، من كان له عند الله حق، فليقم. قال: فيقوم من عفا وأصلح. قوله عز وجل: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ يعني: انتصف بعد ظلمه، واقتص منه فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يعني: من مأثم. وقال قتادة: هذا، فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما لو ظلمك، لا يحل لك أن تظلمه، يعني: فيما لا يحتمل القصاص. وقال الحسن: يعني: إذا قال: لعنك الله، أن تقول له: يلعنك الله، وإذا سبك، فلك أن تسبه ما لم يكن فيه حد، أو كلمة لا تصلح. ثم قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ يعني:
الإثم والحرج عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يعني: يبدؤون بالظلم وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني: ويظلمون في الأرض، ويعملون المعاصي أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني:
وجيع.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)
قوله عز وجل: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ يعني: صبر عن مظلمته، فلم يقتص من صاحبه وغفر يعني: تجاوز عنه إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يعني: الصبر والتجاوز من أفضل الأمور، وأصوب الأمور. قال بعضهم: هذه الآيات مدنيات. وقال بعضهم: مكيات. قوله تعالى:
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني: يخذله الله عن الهدى ويقال من يخذله ويتركه على ما هو فيه من ظلم الناس فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يعني: ليس له قريب يهديه، ويرشده إلى دينه من بعده، يعني: من بعد خذلان الله تعالى إياه.
قوله: وَتَرَى الظَّالِمِينَ يعني: المشركين والعاصين لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في الآخرة يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ يعني: هل من رجعة إلى الدنيا من حيلة، فنؤمن بك يتمنون الرجوع إلى الدنيا. قوله تعالى: وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها يعني: يساقون إلى النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ أي: خاضعين من الحزن، ويقال ساكتين ذليلين، مقهورين من الحياء يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ قال الكلبي: يعني: ينظرون بقلوبهم، ولا يرونها بأعينهم، لأنهم يسحبون على وجوههم. وقال مقاتل: يعني: يستخفون بالنظر إليها، يعني: إلى النار قال القتبي: يعني:
غضوا أبصارهم من الذل، وقال بعضهم: مرة ينظرون إلى العرش بأطراف أعينهم ماذا يأمر الله تعالى بهم، ومرة ينظرون إلى النار.
وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: المؤمنين المظلومين إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعني: يظلمون غيرهم، حتى تصير حسناتهم للمظلومين، فخسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال بعضهم: هذه حكاية كلام المؤمنين في الآخرة، بأنهم يقولون ذلك، حين رأوا الظالمين، الذين خسروا أنفسهم. وقال بعضهم: هذه حكاية قولهم في الدنيا، فحكى الله تعالى قولهم، وصدقهم على مقالتهم فقال: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ يعني: دائم وقال بعضهم هذا اللفظ، لفظ الخبر عنهم، والمراد به التعليم، أنه ينبغي لهم يقولوا هكذا يعني:
يصبروا على ظلمهم.
قوله تعالى: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يعني: لا يكون للظالمين يوم القيامة مانع يمنعهم من عذاب الله يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: يمنعونهم من عذاب الله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني: يضله الله عن الهدى فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى من حجة. ويقال: ما له من حيلة.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
قوله عز وجل: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ يعني: أجيبوا ربكم في الإيمان، وفيما أمركم به
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ يعني: لا رجعة له، إذا جاء لا يقدر أحد على دفعه مِنَ اللَّهِ ويقال: فيه تقديم. يعني: من قبل أن يأتي من عذاب الله، يوم لا مرد له. يعني: لا مدفع له مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ يعني: ما لكم من مفر، ولا حرز يحرزكم من عذابه وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ يعني: من مغير، يغير العذاب عنكم.
قوله عز وجل: فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان، وعن الإجابة، بعد ما دعوتهم فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم على الإيمان، وتجبرهم على ذلك إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ يعني: ليس عليك، إلا تبليغ الرسالة، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم قال: وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً يعني: أصبنا الإنسان منا رحمة فَرِحَ بِها أي بطر بالنعمة. قال بعضهم:
يعني: أبا جهل. وقال بعضهم: جميع الناس، والإنسان هو لفظ الجنس، وأراد به جميع الكافرين، بدليل أنه قال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ ذكر بلفظ الجماعة يعني: إن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني:
القحط والشدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني: بما عملوا من المعاصي فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ لنعم الله. يعني: يشكو ربه عند المصيبة، ولا يشكره عند النعمة.
قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: القدرة على أهل السموات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشاءُ على أي صورة شاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني: من يشاء الأولاد الإناث، فلا يجعل معهن ذكوراً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ يعني: يعطي من يشاء الأولاد الذكور، ولا يكون معهم إناث أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني: من يشاء الأولاد الذكور، والإناث وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فلا يعطيه شيئاً من الولد، ويقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً كما وهب للوط النبي وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ كما وهب لإبراهيم- عليه السلام- أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً كما جعل للنبي صلّى الله عليه وسلم، وكما وهب ليعقوب- عليه السلام- وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً كما جعل ليحيى، وعيسى عليهما السلام إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ يعني: عالم بما يصلح لكل واحد منهم. قادر على ذلك.
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)
249
قوله عز وجل: وَما كانَ لِبَشَرٍ يعني: لأحد من خلق الله أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً يعني: يرسل إليه جبريل، ليقرأ عليه. ويقال: إِلَّا وَحْياً يعني: إلهاماً ويقال: يسمع الصوت فيفهمه وذلك، أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم ألا يكلمك الله، أو ينظر إليك، إن كنت نبياً كما كلم موسى فنزل وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ يعني: ما جاز لأحد من الآدميين، أَن يُكَلِّمَهُ الله، إِلاَّ وحياً يعني: يسمع الصوت، أو يرى في المنام، ولا يجوز أن يكلمه مواجهة عياناً في الدنيا.
أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فيكلمه، كما كلم موسى أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا كما أرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ يعني: فيرسل بأمره. ويقال: بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ من أمره. قرأ نافع وابن عامر أَوْ يُرْسِلَ بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم، فمعناه أو هو يرسل رسولاً، ومن قرأ بالنصب، فعلى الإضمار أيضاً، ومعناه أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ قرأ نافع وابن عامر فيوحي بسكون الياء، ومعناه أو هو يرسل رسولاً فيوحي وقرأ الباقون بالنصب فَيُوحِيَ لإضمار أن إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ يعني: أعلى من أن يكلم أحداً في الدنيا مواجهة، ولا يراه فيها أحد عياناً حَكِيمٌ حكم ألا يكلم أحداً في المواجهة، ولا يراه أحد.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني: جبريل بأمرنا. ويقال:
أوحينا إليك روحاً، يعني: القرآن. وقال القتبي: الروح روح الأجسام، ويسمى كلام الله تعالى، روحاً لأن فيه حياة من الجهل، وموت الكفر كما قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: ١٥] ثم قال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني: ما كنت تدري قبل الوحي، أن تقرأ القرآن، ولا تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان.
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً يعني: أنزلنا جبريل بالقرآن. ضياءً من العمى، وبياناً من الضلالة.
فإن قيل سبق ذكر الكتاب والإيمان ثم قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً ولم يقل جعلناهما؟ قيل له:
لأن المعنى هو الكتاب، وهو دليل على الإيمان. ويقال لأن شأنهما واحد كقوله: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: ٥٠] ولم يقل آيتين ويقال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً يعني: الإيمان كناية عنه، ولأنه أقرب.
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يعني: نوفق من نشاء للهدى، من كان أهلاً لذلك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني: لتدعو الخلق إلى دين الإسلام. قوله عز وجل:
صِراطِ اللَّهِ يعني: دين الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من خلق أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي: ترجع إليه عواقب الأمور، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
250
Icon