مكية
إلا آية ١٤ فمدنية
وآياتها ٣٧ نزلت بعد الدخان
كلماتها : ٤٨٠ ؛ حروفها : ٣١٦١
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ حم( ١ ) ﴾شأنها شأن فواتح السور التي تكون حرفا أو حروفا من حروف المعجم، ننطق بأسمائها، فكل حرف منها حين نقرؤه ننطقه كاملا [ حاء ][ ميم ]، وهكذا، ويقال في معناها ما قيل في معنى مثيلاتها : يمكن أن تكون مما استأثر الله تعالى بعلمه، أو تكون اسما للسورة، أو تكون للتحدي، بمعنى أن القرآن الكريم مكون من الحاء والميم، وما شابههما، وهي حروف تتكلمون بها، ولكنكم عجزتم- وسيظل الخلق عاجزين- عن الإتيان بكلام مثل كلام الله الحكيم، وفي ذلك برهان على أنه ليس من كلام البشر، وإنما هو وحي رب القوى والقدر.
هذا القرآن الذي تنزل على عبدنا ورسولنا محمد، جاءكم من ربكم المنيع الذي يَغْلِبُ ولا يُغْلَب، الحكيم في فعله وتدبيره.
صنع السماوات ورفعها وحفظها، وإبداع الأرض وتذليلها واتساعها، برهان وحجة للمصدقين، وهداية إلى الخلاق العليم، فمن نظر في إتقانهما، وتفكر في تسخيرهما وتدبيرهما، زاده ذلك ركونا إلى من أنشأهما وطوّعهما.
فإذ تبصرنا العبرة في خلقنا، كيف كنا ؟ وإلى أين صرنا ؟ وبماذا فُضّلنا ؟ وحين يتذكر أولوا الألباب كم أوجد الله تعالى من الدواب- ما يدب على الأرض- يستيقنون بقدرة الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وينزهون العظيم الذي برأ وذرأ- أنشأ وفرق-﴿ .. ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.. ﴾ ١.
تعاقب الليل والنهار لا يسبق أحدهما الآخر، واختلافهما هذا نيّر وذاك مظلم، من نعم الله الكريم الوهاب :﴿ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ﴾١- أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالسعي على الرزق في النهار- ومع كونهما من آلاء المولى- تبارك اسمه- فهما برهانان على قوته- عز شأنه- واقتداره. والمطر الذي ينزله ربنا- الرزاق- من سحاب نراه جهة السماء يحيي به اللطيف الخبير ما كان هامدا من بقاع الأرض، فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، بل ويحيي به سبحانه أحياء الأرض.. ويغيث دوابها، فمن ثمراته متاع الإنسان والحيوان من طعام وسقيا، ويرسل العليم الحكيم رياحا لواقح، وأخرى بشرى بين يدي رحمته :﴿ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها.. ﴾٢، وثالثة يجري بها الفلك، ورابعة ينصر بها أنبياءه وأولياءه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا.. ﴾ ٣. وخامسة عقيما صرصرا، عاصفة عاتية، يُدمر بها أعداءه ﴿ .. بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم. تدمر كل شيء بأمر ربها ﴾٤ ﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ﴾٥ أليس في ذلك ما تهتدي به العقول ؟ !
٢ سورة فاطر. من الآية ٩..
٣ في المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)؛ والآية من سورة الأحزاب..
٤ سورة الأحقاف. من الآيتين: ٣٤، ٣٥..
٥ سورة الذاريات. الآية ٤٣..
الآيات المباركات الهاديات الشافيات للعقول والقلوب، هي من كلام علام الغيوب، يتلوها عليك عبدنا الملك جبريل أمين وحينا إلى من نشاء من عبادنا، وإنه لأمين على رسالاتنا، ما يتنزل إلا بالحق من عندنا.
﴿ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون( ٦ ) ﴾.
﴿ حديث ﴾ يقصد به –أحيانا- القرآن، كما جاء في قول المولى- تبارك اسمه- ﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم.. ﴾١ ؛ ﴿ وآياته ﴾ قد يراد بها المعجزات الحسية ؛ فكأن المعنى : فإذا لم يؤمنوا بالفرقان- كلام الله- ولم يؤمنوا بما نادى إلى التفكر فيه من بديع الصنع وأحسن الخلق، فبأي شيء بعد هذا يؤمنون ؟ !.
﴿ ويل ﴾ عذاب شديد.
﴿ أفاك ﴾ كذاب.
﴿ أثيم ﴾ مجرم.
وعيد من الله العزيز أن يُسكِن الكافرين بآياته واديا في جهنم أُعِدّ لكل كذاب خائض في الإثم.
وأي الخلق أولى بالوبال والنكال، وسكنى دار الخبال، ممن كذب بالحق إذ جاءه ؟ وليس من جرم أعظم من النأي عن القرآن والنهي عنه والصدّ عن هدايته !
إن شر الناس من يسمع كتاب الله تعالى لا يرعوي ولا يزدجر ولا يعتبر بشيء منه، بل يقيم على كفره وذنبه، ويستكبر على ربه، ويتعظم عن الانقياد والاستجابة لأمره ونهيه، مثل غير سامع ؛ فنبئه بالخبر الذي يظهر أثره على جلده وبشرته، وهو العذاب الموجع المهين.
والبشرى : الخبر المُغَير للبشرة خيرا كان أو شرا، وخصها العرف بالخبر السار، وجاء سوقها هنا باعتبار المعنى العام.
وحين تبلغه بعض الآيات يسارع إلى الاستهزاء بكل ما أوحينا ؛ هذا ومن على شاكلته يصيّرهم الله القهار إلى عذاب النار، وما أقبحه وأخزاه من عذاب :﴿ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته.. ﴾١ فاللهم أجرنا من الهوان ﴿ .. يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه.. ﴾ ٢.
٢ سورة التحريم. من الآية ٨..
من بعد حياتهم هذه يصيرون إلى عذاب جهنم، وهي موئلهم ومستقرهم.
﴿ ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ﴾.
ولا يحول بينهم وبينها، ولا يرد عنهم عذابها ما كانوا متعوا به في الدنيا من ثراء وأموال ﴿ أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾١ فلن يدفع عنهم ذلك أي دفع.
﴿ ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ﴾.
وأوثانهم ومعبوداتهم التي اتخذوها آلهة وأشركوها مع الله تعالى في الطاعة والتقديس لن تغني عنهم هي الأخرى أي غناء، بل يلقون الواحد القهار وما لهم من شافعين ولا صديق حميم :﴿ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ﴾٢.
﴿ ولهم عذاب عظيم( ١٠ ) ﴾.
أعد الله لهم دار المهانة والسعير عذابا لا يكادون يحيطون بهوله، وهو عذاب عظيم في دوامه وإيلامه.
٢ سورة الأنعام. الآية ٩٤..
هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبين الرشد من الغي، ويفصل عاقبة المؤمنين، ومصير الغاوين.
﴿ والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم( ١١ ) ﴾.
والذين عميت بصائرهم وأغلقوا قلوبهم عما جاءهم من الحق من ربهم من آيات تتلى، وآيات أخرى تُدرك وتُرَى، لهؤلاء صنوف من أشد أنواع العذاب الموجع المؤلم.
ذلل الله الخلاق لكم مياه البحار فجعلها ملساء، ومع ملاستها فإنها تحمل الجواري المنشآت كالجبال، تطفوا على سطحها، وتجري فوق متنها.
﴿ ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون( ١٢ ) ﴾.
تركبون السفن التي تسير على صفحة الماء لتحصلوا أرزاقكم، ولتنقلوا تجارتكم وأمتعتكم، ولتقهروا عدوكم، ولأجل أن تشكروا نعم الله -هذه- التي أسبغها عليكم.
لم تُسخّر لنا البحار دون غيرها، ولكن ذلّل المولى البرّ الرحيم ويسّر لمنافعنا المخلوقات السماوية والأرضية، فالشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والليل والنهار، والسحب والهواء، والرياح والأمطار، وكذا الجبال والأنهار، والنبات والأشجار، والجماد والحيوان كل ذلك مذلل لنا.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون( ١٣ ) ﴾.
في هذا التذليل عبرة تزيد من تفكر تعظيما لقوة الله، وحجة على سلطانه- تبارك اسمه- واقتداره، وبرهان على أنه وحده المتفرد بالقهر والتسخير، وتكريم- يدركه المتفكرون- للذين اعتزوا بربهم وعليه يتوكلون.
أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن يحلموا ويصفحوا عن الذين لا يستيقنون بوعد الله إذا هم أصابوهم بأذى أو مكروه.
﴿ ليجزي قوما بما كانوا يكسبون( ١٤ ) ﴾.
ليعظم الله أجر الصابرين بإعراضهم عن الجاهلين.
فإن أريد الصفح عن هفواتهم فهذا حكم باق لم ينسخ.
وإن كان المراد الكف عن قتالهم فهذه الآية مكية نُسِخ حكمها بما نزل بعد ذلك من آيات القتال بعد الهجرة.
من صلحت أعمال قلبه وجوارحه فآمن، وأدى ما أُمِرَ به، وانتهى عما نُهِي عنه، فلنفسه طلب الخير، والله عن عمل كل عامل غنيّ ؛ ومن قبَُُح عمله بباطنه أو ظاهره فعلى نفسه جنى، ولن يضر الله شيئا.
﴿ ثم إلى ربكم ترجعون( ١٥ ) ﴾.
وبعد حياتكم ومماتكم تبعثون وتحاسبون بين يدي ربكم. فمن لقيه- سبحانه- وقد كان برا تقيا جزاه ببره نعيما وملكا كبيرا، ومن يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا.
وتحقق وكن على يقين أنا أعطينا أبناء إسرائيل- ذرية يعقوب عليه السلام- أعطيناهم التوراة أنزلناها على موسى والإنجيل أوحيناه إلى عيسى، و﴿ الحكم ﴾ الفصل بين الناس ؛ لأنهم كان فيهم الكثير من الملوك، و﴿ النبوة ﴾ فلم يكثر الأنبياء-عليهم سلام الله- في أمة كما كثروا في بني إسرائيل.
﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾.
وأي رزق أطيب من طعام يأتي من السماء كالمنّ والسلوى والمائدة ؟ نزل المن- وهو سائل حلو كالعسل- والسلوى ؛ طائر شهي لحمه كالسمان- نزلا على اليهود، ونزلت المائدة على النصارى إذ أكثروا على عيسى عليه السلام في طلبها ﴿ إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين. قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ﴾١.
﴿ وفضلناهم على العالمين( ١٦ ) ﴾.
﴿ وفضلناهم على العالمين ﴾ جعلناهم أفضل العالمين في زمانهم من أمثال فرعون وقومه، فقد فلق الله لهم البحر فأنجاهم وأغرق أعداءهم أجمعين، وظلل عليهم الغمام.
وأعطاهم الله الحكيم دلائل في الدين، وعلامات تبين صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم من صفته والذين معه، وسيرته :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. ﴾١ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وجعلوا العلم بحقيقة الحال، وهو موجب لزوال الخلاف، موجبا لرسوخه.
﴿ بغيا بينهم ﴾
ظلما شاع فيهم وحسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
﴿ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون( ١٧ ) ﴾.
ربنا سيفصل بينهم يوم يعرضون عليه فيوفهم الله ما يستحقون، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويعلمون أنهم هم الكاذبون الجاحدون المفترون.
وبعد بني إسرائيل وما أنزل على رسل الله إليهم، ثبتّك وصيّرتك على منهاج واضح من الدين يشرع بسالكه إلى المقصد الحق، فاتبع هذه الملة ملة الإسلام.
﴿ ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون( ١٨ ) ﴾.
إذا كان الخطاب-هنا- للنبي فالمراد أمته- أو كل من يعقل.
نهى الله –تبارك اسمه- أن نستجيب لأهواء الجاهلين.
لا تستجب لأهواء الضالين ؛ لأنهم لن يدفعوا عن أنفسهم شيئا مما يحلّ الله بهم فضلا عن أن يدفعوا عن غيرهم.
﴿ وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ﴾.
ولا يوالي الظالم ولا يتابعه إلا أمثاله من الظالمين، [ شبيه الشيء منجذب إليه ].
﴿ والله ولي المتقين( ١٩ ) ﴾.
والله يحب من اتقى الشرك والفسق ؛ يؤيدهم ربنا ويحفظهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
هذا الطريق والمنهاج الذي أوحيناه إليك ينير البصائر وتنشرح به الصدور، ويُستنقذ به من الضلال، ويُتوصل به إلى خير الدنيا ونعيم الآخرة للذين استيقنوا بأنه عهد الله الذي لا يُنْقض، وسبيله التي لا عوج فيها. ﴿ .. إن ربي على صراط مستقيم ﴾١.
بل أحسب الذين اكتسبوا السيئات وعملوها أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا المؤمنين الصالحين ومماتهم ؟ كلا لا يستويان. لا في المحيا ولا في الممات ؛ يقول الله الحق :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾١ فحياة المؤمن والمؤمنة في الدنيا عزيزة كريمة، وفي الآخرة ينالون النعيم الأوفى في مقعد صدق عند مليك مقتدر ؛ وسحقا للفجار في العاجلة والآجلة ﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾٢.
﴿ ساء ما يحكمون( ٢١ ) ﴾.
بئس حكمهم الذي زعموا فيه التساوي بينهم وبين المؤمنين ؛ وهكذا حكى القرآن قيل بعضهم :﴿ .. ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.. ﴾٣.
٢ سورة طه. الآية ١٣٤..
٣ سورة حم السجدة. من الآية ٥٠..
بالحق قامت السماوات والأرض، وبالحق أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، ليقوم الناس بالقسط، والله يقضي بالحق ؛ فلا بد من انتصاف المظلوم من الظالم، والتفاوت بين البر والفاجر، والمصلح والمفسد.
﴿ وهم لا يظلمون( ٢٢ ) ﴾.
﴿ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شر يره ﴾١، وحيثما كان عمله في سهل أو جبل، أو علو أو سفل، فإنه ملاقيه يوم الحساب :﴿ .. إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ﴾٢.
٢ سورة لقمان. من الآية ١٦..
أتدرك بصيرتك أن من جعل هواه إلها هل يهتدي إلى الحق ؟
﴿ وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ﴾.
وخذله عن سبيل الرشاد لِمَا علم- سبحانه- بأنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية ﴿ .. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. ﴾١ وطبع على سمعه، أي يسمع كلام الله فلا يتدبر ولا يتفكر ولا يعتبر، وعلى قلبه، فصدره ضيق بالدين، حرج بالرشاد ؛ وعلى بصره، فلا ينظر في ملكوت السماوات والأرض ليرى برهان قدرة ربه ووحدانيته ﴿ .. لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾٢.
﴿ فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون( ٢٣ ) ﴾.
فمن غير الله يوفقه لانشراح الصدر بالإسلام، وانفتاح العين على بديع صنع الملك العلام، وسماع الموعظة التي تنزلت على خير الأنام ؟.
فمن يوفقه إلى الرشد بعد أن قضى الله أن يضله ؟ ﴿ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ﴾٣ أفلا تذكرتم أن من حق عليه القول لن يهتدي أبدا، ولن تجد له من دون ربه وليا مرشدا.
٢ سورة الأعراف. من الآية ١٧٩..
٣ سورة مريم. من الآية ٧٥..
قال الضالون الكافرون، المؤلهون لأهوائهم، العابدون لشهواتهم : ليس من حياة بعد هذه الدنيا التي نعيش فيها، تموت طائفة وتحيا طائفة- كالقائلين بالتناسخ- يموت الرجل فتجعل روحه في موات فيحيا بها، وما يهلكنا إلا مرّ السنين :
أشاب الصغير وأفنى الكبير | كر الغداة ومر العشي |
﴿ وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون( ٢٤ ) ﴾.
واعتقادهم الباطل ليس إلا شكا، لا يملكون له برهانا عقليا أو نقليا.
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها، وقرئت عليهم الآيات المقررة ليوم البعث لم تكن لهم حجة في الإنكار إلا ما ليس بحجة، فعدم حصول ما طلبوه حالا من إعادة آبائهم لا يلزمه امتناع الإعادة إذا قامت القيامة.
تقرير للإيمان المُرتضى : الله دون سواه هو الذي أنشأنا أول مرة، ثم يميتنا هو –وليس الدهر- حين انقضاء آجالنا التي أجلها الله لنا، ثم يجمعنا للفصل في يوم الحساب، لا شك في قدرته على ذلك، وفي تحقق وعده ولقائه وجزائه.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون( ٢٦ ) ﴾.
والكثير ممن جهلوا يرتابون، لقصورهم في النظر والتفكر.
والملك يتصرف في ملكه بما يريد من إحياء وإماتة وبعث وجمع للقضاء والجزاء.
﴿ ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون( ٢٧ ) ﴾.
والخسار والبوار والهلاك يوم الفصل للمبطلين ؛ وأبطل الباطل الكفر.
كل طائفة من المكلفين تجتمع يوم الحشر، ويَبْرُكون على رُكَبهم في انتظار ما يُقضى فيهم من ربهم ؛ ﴿ كل أمة تدعى إلى كتابها ﴾.
يُدعون إلى صحائف أعمالهم التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم إلا أحصتها.
﴿ اليوم تجزون ما كنتم تعملون( ٢٨ ) ﴾.
ويقال لهم : كنتم في دنياكم تعملون، وهنا جزاؤكم على ما قدمتم.
هذا الذي كتبته الملائكة يشهد عليكم بما كان منكم، دون بخس أو ظلم.
﴿ إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون( ٢٩ ) ﴾.
فقد كنا نأمر الملائكة بتدوين وتسطير وتحرير ما تقولون وما تفعلون مما تخفون أو تبدون :﴿ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾١.
فمن يأت ربه قد آمن وعمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا.
﴿ ذلك هو الفوز المبين( ٣٠ ) ﴾.
وأيّ فوز أبين وأظهر وأوفر من فوز أهل رضوان الله وكرامته ؟ !
لكن أهل الكفر يخسرون ولا يفلحون، بل يُقرّعون ويُذلّون، فيُنادون ألم تكونوا تسمعون كلامي وآياتي الدالة على طريق الفوز والفلاح ؟ !
﴿ فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين( ٣١ ) ﴾.
فتعاظمتم عن الإيمان بها، والسير على منهاجها، وأصبتم طريق الغواية وكسب الخطيئة، والعكوف على الجريمة.
وإذا ذُكرتم بأن ما وعد ربنا هو الصدق، وأنه واقع لا محالة، والقيامة لا شك آتية، قلتم معاندين جاحدين مستهزئين : أي شيء هي الساعة.. ؟ تستغربون ؛ ﴿ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين( ٣٢ ) ﴾ وقلتم ما نظن إلا ظنا ولسنا على يقين من صحة مجيء الآخرة، فهم مترددون بإمكانها الذاتي، جازمون بعدم وقوعها بالفعل.
وظهر لهم قبح ما فعلوه- وقد كانوا يرونه حسنا بتزيين الشيطان إياه-أو عقوبات الذي عملوه، فإن العقوبة تسوء صاحبها.
﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون( ٣٣ ) ﴾.
وحل بهم وأحاط الذي كانوا يسخرون منه، وينكرون تحققه ومجيئه من الآخرة وجزائها.
ويقال لهم : نُعرض عنكم ونترككم في العذاب ؛ لأن من نسي شيئا تركه، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى له.
﴿ كما نسيتم لقاء يومكم هذا ﴾ كما أعرضتم وتركتم في الدنيا أن تعملوا ما ينجيكم حين يلاقيكم هذا اليوم وتلاقونه، أو لم تبالوا بلقائه كالشيء المنسي.
﴿ ومأواكم النار وما لكم من ناصرين( ٣٤ ) ﴾.
والملجأ والمستقر في دار العذاب ؛ ولن يجد أحد منكم من ينصره من هذا المصير أو ينقذه.
والجزاء من جنس العمل ؛ فالله يسخر منهم ؛ لأنهم سخروا من كلماته، وأعرضوا عن قرآنه.
﴿ وغرتكم الحياة الدنيا ﴾.
لهو الحياة ولعبها، وتكاثرها وتفاخرها، وزينتها وأموالها، ألهاهم وغرهم فركنوا إليه، وحسبوا أنه مخلدهم، كالذي حكى عنه القرآن :﴿ .. قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا. وما أظن الساعة قائمة.. ﴾١.
﴿ فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون( ٣٥ ) ﴾.
هذا التفات- كانت الجمل السابقة خطابا﴿ ننساكم ﴾ ﴿ مأواكم ﴾﴿ وغرتكم ﴾ وهنا إخبار عنهم- فهم في النار خالدون، ما لهم منها من مخرج ولا متحوّل، ولا يُسترضون، أو لا يقبل منهم أن يسترضوا ربهم أو يعتذروا.
﴿ رب ﴾ بمعنى : مالك، وولي، ومصلح، ومطاع.
وقد عددت آيات السورة الكريمة نعم الله وأفضاله، وحجته والبرهان على جلاله وإبداعه ولقائه وجزائه، فله الحمد فهو وليّ السماوات ومنشئها ورافعها ومدبرها، وصانع ما فيها من أفلاك وكواكب ومسخرها، وهو مصلح الأرض وما فيها ومن فيها، وهو وليّ الخلائق جميعا ومطاعهم ومعبودهم بحق.
لله العزة والعظمة جميعا، وله الجلال كله.
﴿ وهو العزيز الحكيم( ٣٧ ) ﴾.
وهو القاهر الذي لا يُغْلَبُ، وكل ما يفعله – سبحانه- بتقدير حكيم، موافق للخير والحق والحكمة.