تفسير سورة الأعراف

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿حَرَجٌ﴾ ضيق يقال: حَرج المكانُ أو الصدرُ إِذا ضاق ﴿بَيَاتاً﴾ قال الراغب: البَيَاتُ والتبيتُ: قصدُ العدو ليلاً ﴿قَآئِلُونَ﴾ من القيلولة وهي النوم وسط النهار، والقائلة: الظهيرة ﴿مَذْءُوماً﴾ مذموماً يقال ذأمه أي ذمه وحقَّره ﴿مَّدْحُوراً﴾ مطروداً يقال دحره أي طرده وأبعده ﴿سَوْءَاتِهِمَآ﴾ السوأة: العورة سميت بذلك لأن الإِنسان يسوءه ظهورها ﴿طَفِقَا﴾ شرعاً وأخذا يقال: طفِق يطفق إِذا ابتدأ وأخذ ﴿يَخْصِفَانِ﴾ يرقعان ويلزقان ﴿رِيشاً﴾ لباساً تتجملون به وأصل الريش: المالُ والجمال ومنه ريش الطير لأنه زينةٌ له وجمال ﴿قَبِيلُهُ﴾ جنوده وأصل القبيل: الجماعةُ سواءً
404
كانوا من أصلٍ أو أصول شتى ﴿فَاحِشَةً﴾ الفاحشة هي الشيء الذي تناهى قبحه والمراد بها هنا الطوافُ حول البيت عراةً وكل أمرٍ قبيح يسمى فاحشة، والفحشاء ما اشتد قبحه من الذنوب كالفاحشة.
التفِسير: ﴿المص﴾ تقدم في أول سورة البقرة الكلام عن الحروف المقطّعة وأن الحكمة في ذكرها بيان «إِعجاز القرآن» بالإِشارة إِلى أنه مركب من أمثال هذه الحروف ومع ذلك فقد عجز بلغاؤهم وفصحاؤهم وعباقرتهم عن الإِتيان بمثله وروي عن ابن عباس معناه: أنا الله أعلم وأَفْصِل، وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صادق ﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي هذا كتاب أنزله الله إِليك يا محمد وهو القرآن ﴿فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ أي لا يضقْ صدرك من تبليغه خوفاً من تكذيب قومك ﴿لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي لتنذر بالقرآن من يخاف الرحمن، ولتذكر وتعظ به المؤمنين لأنهم المنتفعون به ﴿اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي اتبعوا أيها الناس القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان المنزّل إِليكم من ربكم ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي ولا تتخذوا أولياء من دون الله كالأوثان والرهبان والكُهّان تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعون لكم ﴿قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ أي تتذكّرون تذكراً قليلاً قال الخازن: أي ما تتعظون إِلا قليلاً ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ أي وكثير من القرى أهلكناها والمراد بالقرية أهلُها ﴿فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً﴾ أي جاءها عذابنا ليلاً ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾ أي جاءهم العذاب في وقت القيلولة وهي النوم في وسط النهار قال أبو حيان: وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع لأنه يكون على غفلةٍ من المهلكين ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ﴾ أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين شاهدوا العذاب ورأوا أماراته ﴿إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ أي إِلا اعترافهم بظلمهم تحسراً وندامة، وهيهات أن ينفع الندم ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي لنسألن الأمم قاطبة هل بلّغكم الرسل وماذا أجبتم؟ والمقصودُ من هذا السؤال التقريع والتوبيخ للكفار ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين﴾ أي لنسألنَّ الرسل أيضاً هل بلّغوا الرسالة وأدوا الأمانة؟ قال في البحر: وسؤال الأمم تقريرٌ وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة نكالاً وعذاباً، وسؤال الرسل تأنيسٌ يعقب الأنبياء كرامة وثواباً ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ﴾ أي فلنخبرنهم بما فعلوا عن علمٍ منا قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون ﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ أي ما كنا غائبين عنهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم قال ابن كثير: يخبر تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير: وجليل وحقير، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ﴿والوزن يَوْمَئِذٍ الحق﴾ أي والوزن للأعمال يوم القيامة كائن بالعدل ولا يظلم ربك أحداً ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان وكثرة الحسنات ﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي الناجون غداً من العذاب الفائزون
405
بجزيل الثواب ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي ومن خفت موازين أعماله بسبب الكفر واجتراح السيئات ﴿فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم﴾ أي خسروا أنفسهم وسعادتهم ﴿بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾ أي بسبب كفرهم وجحودهم بآيات الله، قال ابن كثير: والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإِن كانت أعراضاً إِلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً يروى هذا عن ابن عباس، وقيل: يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة، وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث
«يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» والكل صحيح فتارةً توزن الأعمال، وتارةً محالها، وتارة يوزن فاعلها والله أعلم أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإِذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد، واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر؟ ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض﴾ أي جعلنا لكم أيها الناس في الأرض مكاناً وقراراً قال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب وسائر ما تكون به الحياة ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي ومع هذا الفضل والإِنعام قليل منكم من يشكر ربه كقوله ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور﴾ [سبأ: ١٣] ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوَّر ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم، وإِنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له لأنه أبو البشر ﴿ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ﴾ أي ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريماً له ولذريته ﴿فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين﴾ أي سجد الملائكة كلهم أجمعون إِلا إِبليس امتنع من السجود تكبراص وعناداً، والاستثناء منطقع لأنه استثناء من غير الجنس وقد تقدم قول الحسن البصري: لم يكن إِبليسُ من الملائكة طرفة عين ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ أي قال تعالى لإِبليس أيُّ شيء منعك أن تدع السجود لآدم؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ أي قال إِبليس اللعين أنا أفضل من آدم وأشرف منه فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ ثم ذكر العلة في الامتناع فقال ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ أي أنا أشرف منه لشرف عنصري على عنصره، لأنني مخلوق من نار والنار أشرف من الطين، ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى قال ابن كثير: نظر اللعين إِلى أصل العنصر ولم ينظر إِلى التشريف والتعظيم وهو أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً فأخطأ قبّحه الله في قياسه في دعواه أن النار أشرف من الطين، فإِن الطين من شأنه الرزانة والحلم، والنار من شأنها الإِحراق والطيش، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإِصلاح والنار محل العذاب ولهذا خان إِبليس عنصره فأورثه الهلاك والشقاء والدمار قال ابن سيرين: أول من قاس إِبليس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إِبليس ﴿قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ أي اهبط من الجنة فما يصح ولا يستقيم ولا ينبغي أن تستكبر عن طاعتي وأمري وتسكن
406
دار قدسي ﴿فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين﴾ أي الذليلين الحقيرين قال الزمخشري: وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبسه الله الذل والصغار فمن تواضع لله رفعه ومن تكبّر على الله وضعه ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ استدرك اللعين فطلب من الله الإِمهال إِلى يوم البعث لينجو من الموت لأن يوم البعث لا موت بعده فأجابه تعالى بقوله ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾ قال ابن عباس: أنظره إِلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم وكان طلب الإِنظار إِلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه ويؤيده الآية الأخرى
﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾ [الحجر: ٣٧ - ٣٨] ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ أي فبسبب إِغوائك وإِضلالك لي لأقعدنَّ لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة الموصل للجنة كما يقعد القُطّاع للسابلة ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾ أي آتي عبادك من كل جهة من الجهات الأربع لأصدّهم عن دينك قال الطبري: معناه لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدهم عن الحق وأحسّن لهم الباطل قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى ﴿وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ أي مؤمنين مطيعين شاكرين لنعمك ﴿قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً﴾ أي اخرج من الجنة مذموماً معيباً مطروداً من رحمتي ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ اللام موطئة للقسم أي لمن أطاعك من الإِنس والجن لأملأنَّ جهنم من الأتباع الغاوين أجمعين، وهو وعيد بالعذاب لكل من انقاد للشيطان وترك أمر الرحمن ﴿وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ أي وقلنا يا آدم اسكن مع زوجك حواء الجنة بعد أن أُهبط منها إبليس وأخرج وطرد ﴿فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾ أي كلا من ثمارها من أي مكان شئتما ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين﴾ أباح لهما الأكل من جميع ثمارها إِلا شجرة عيّنها لهما ونهاهما عن الأكل منها ابتلاءً وامتحاناً فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في الوسوسة والمكر والخديعة ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان﴾ أي ألقى لهما بصوتٍ خفي لإِغرائهما بالأكل من الشجرة ﴿لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾ أي ليظهر لهما ما كان مستوراص من العورات التي يقبح كشفها ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين﴾ وهذا توضيح لوسوسة اللعين أي قال في وسوسته لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من الشجرة إِلا كراهية أن تكونا مَلكَين أو تصبحا من المخلّدين في الجنة ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين﴾ أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يُخْدع المؤمن بالله قال الألوسي: وإِنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحداً في فعلٍ يجدُّ فيه ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ﴾ أي خدعهما بما غرهما به من القسم بالله قال ابن عباس: غرهما باليمين وكان آدم يظن أنه لا يحلف أحدٌ بالله كاذباً فغرهما بوسوسته وقسمه لهما ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ أي فلما أكلا من الشجرة ظهرت عوراتهما قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كلٌ منهما عورة صاحبه فاستحيا {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن
407
وَرَقِ الجنة} أي أخذا وشرعا يلصقان ورقة على ورقة ليستترا به بعد أن كانت كسوتهما من حلل الجنة قال القرطبي: أي جعلا يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به ومنه خصف النعل وعن وهب ابن منبه قال: كان لباس آدم وحواء نوراً على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا فلما أصاب الخطيئة بدت لهما سوآتهما ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ﴾ أي ناداهما الله بطريق العتاب والتوبيخ قائلاً: أَلم أحذركما من الأكل من هذه الشجرة وأخبركما بعداوة الشيطان اللعين؟ روى أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك ولكنْ ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً قال: فوعزتي لأهبطنَّك إِلى الأرض ثم لا تنال العيش إِلا كدّاً ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ اعترفا بالخطيئة وتابا من الذنب وطلبا من الله المغفرة والرحمة قال الطبري: وهذه الآية هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه ﴿قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ الخطاب لآدم وحواء وإِبليس ولهذا جاء بصيغة الجمع أي اهبطوا من سماء القدس إِلى الأرض حال كون بعضكم عدواً لبعض، فالشيطان عدوٌ للإِنسان، والإِنسان عدوٌ للشيطان كقوله
﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ [فاطر: ٦] ﴿وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ﴾ أي لكم في الأرض موضع استقرار وتمتع وانتفاع إلى حين انقضاء آجالكم ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ أي في الأرض تعيشون وفيها تُقبرون ومنها تُخرجون للجزاء كقوله ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾ [طه: ٥٥] ثم ذكر تعالى ما امتنَّ به على ذرية آدم من اللباس والرياش والمتاع فقال ﴿يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً﴾ أي أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يستر عوراتكم، ولباساً يزينكم وتتجملون به قال الزمخشري: الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته ﴿وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ﴾ أي ولباس الورع والخشية من الله تعالى خير ما يتزين به المرء فإِن طهارة الباطن أهم من جمال الظاهر قال الشاعر:
وخيرُ لباس المرء طاعةُ ربه ولا خير فيمن كان الله عاصياً
﴿ذلك مِنْ آيَاتِ الله﴾ أي إِنزال اللباس من الآيات العظيمة الدالة على فضل الله ورحمته على عباده ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها ﴿يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان﴾ أي لا يغوينكم الشيطان بإضلاله وفتنته ﴿كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة﴾ أي كما أغوى أبويكم بالأكل من الشجرة حتى أخرجهما من الجنة ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ﴾ أي ينزع عنهما اللباس لتظهر العورات، ونسب النزع إِليه لأنه المتسبب، وهذا هدف اللعين أن يهتك الستر عن الإِنسان ويعريه من جميع الفضائل الحسيّة والمعنوية ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾ أي
408
إن الشيطان يبصركم هو وجنوده من الجهة التي لا تبصرونه منها، فهو لكم بالمرصاد فاحذروا كيده ومكره لأن العدو إِذا أتى من حيث لا يُرى كان أشدَّ وأخوف ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي جعلنا الشياطين أعواناً وقرناء للكافرين ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ أي وإذا فعل المشركون فاحشة وهي الفعلة المتناهية في القبح كالطواف حول البيت عراة ﴿قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا﴾ أي اعتذروا عن ذلك الفعل القبيح بتقليد الآباء ﴿والله أَمَرَنَا بِهَا﴾ أي أمرنا بالتجرد من الثياب إِذ كيف نطوف في ثيابٍ عصينا فيها الله! وهذا افتراء على ذي الجلال قال البيضاوي: احتجوا بأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله سبحانه، فأعرض عن الأول لظهور فساده، وردَّ الثاني بقوله ﴿قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء﴾ أي قل لهم يا محمد: الله منزّه عن النقص لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئ الخصال ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتكذبون على الله وتنسبون إِليه القبيح دون علمٍ ونظرٍ صحيح؟ ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط﴾ أي بالعدل والاستقامة ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ أي توجهوا بكليتكم إِليه عند كل سجود ﴿وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي واعبدوه مخلصين له العبادة والطاعة قال ابن كثير: أي أمركم بالاستقامة في عبادته وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات وبالإِخلاص لله في العبادة فإِن الله تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ أي كما بدأكم من الأرض تعودون إِليها ﴿فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة﴾ أي هدى فريقاً منكم وأضلَّ فريقاً منكم وهو الفعال لما يريد لا يُسأل عما يفعل ﴿إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله﴾ هذا تعليل للفريق الذين حقت عليهم الضلالة أي اتخذوا الشياطين نصراء من دون الله ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ أي يظنون أنهم على بصيرة وهداية.
البَلاَغَة: ١ - ﴿حَرَجٌ مِّنْهُ﴾ أي ضيق من تبليغه فهو على حذف مضاف مثل ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
٢ - ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ التعرض لوصف الربوبية مع الإِضافة لضمير المخاطبين لمزيد اللطف بهم وترغيبهم في امتثال الأوامر.
٣ - ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ بين ﴿ثَقُلَتْ﴾ و ﴿خَفَّتْ﴾ طباقٌ وكذلك بين ﴿بَيَاتاً﴾ و ﴿قَآئِلُونَ﴾ لأن البيات معناه ليلاً و ﴿قَآئِلُونَ﴾ معناه نهاراً وقت الظهيرة.
٤ - ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ هو على حذف مضاف أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم.
٥ - ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم﴾ استعار الصراط المستقيم لطريق الهداية الموصلإلى جنان النعيم.
٦ - ﴿وَيَآءَادَمُ﴾ فيه إيجاز بالحذف أي وقلنا يا آدم.
٧ - ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة﴾ عبَّر عن الأكل بالقرب مبالغة في النهي عن الأكل منها.
409
٨ - ﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا﴾ أكد الخبر بالقسم وبإِنَّ واللام لدفع شبهة الكذب وهو من الضرب الذي يسمى «إنكارياً» لأن السامع متردّد.
٩ - ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ﴾ بين الجملتين طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: سميت العورة سوأة لأن كشفها يسوء صاحبها قال العلماء: في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور وأنه مستهجنٌ في الطباع ولذلك سميت سوأة أقول: إن الآية قد أوضحت هدف إبليس اللعين ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ﴾ فمن دعا إلى تعري المرأة وشجَّع على ذلك كما هو حال من يزعم التقدمية ويدعو المرأة إلى نزع الحجاب بدعوة الحرية والمساواة فإنما هو عدوٌ للمرأة ومن أنصار وأعوان إبليس لأن الهدف واحد، وهي دعوة مكشوفة غايتها التفسخُ والانحلال الخلقي، وليست التقدمية بالتكشف والتعري وإنما هي بصيانة الشرف والعفاف ولله در القائل:
410
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة آدم عليه السلام، وذكر ما امتن به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يستر العورات، أمر هنا بأخذ الزينة والتجمل في المناسبات وعند إرادة الصلاة، ثم ذكر أحوال الآخرة وانقسام الناس إلى طوائف: «أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف» ومآل كل فريق من سعادة أو شقاء في دار العدل والجزاء.
اللغَة: ﴿زِينَتَكُمْ﴾ الزينة: ما يتزين به المرء ويتجمل من ثياب وغيرها ﴿الفواحش﴾ جمع فاحشة وهي ما تناهي قبحه من المعاصي ﴿البغي﴾ الظلم والاستطالة على الناس ﴿سُلْطَاناً﴾ حجة وبرهاناً ﴿سَمِّ الخياط﴾ ثقب الإِبرة ﴿مِهَادٌ﴾ فراش يمتهده الإِنسان ﴿غَوَاشٍ﴾ أعطي جمع غاشية قال ابن عباس: هي اللحف ﴿الأعراف﴾ السور المضروب بين الجنة والنار جمع عرف مستعار من عرف الديك ﴿بِسِيمَاهُمْ﴾ بعلامتهم.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة وتقول: من يعيرني تَطْوافاً تجعله على فرجها وتقول:
يا ابنتي إن أردتِ آيةَ حسنٍ وجمالاً يزينُ جسماً وعقلاً
فانبذي عادة التبرج نبذاً فجمالُ النفوسِ أسمى وأَعْلى
يصنع الصَّانعون ورداً ولكنْ رودةُ الروضِ لا تُضارع شكلاً
اليوم يبدو بعضُه أو كلّه فما بدا منه فلا أُحلّه
فنزلت هذه الآية ﴿يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وأذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألاّ يطوف بالبيت عُريان.
التفِسير: ﴿يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها عند كل
411
صلاة أو طواف ﴿وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ أي لا تسرفوا في الزينة والأكل والشرب بما يضر بالنفس وامال ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين﴾ أي المعتدين حدود الله فيما أحلَّ وحرّم ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراةً ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من الطيبات، من حرّم عليكم التجمل بالثياب التي خلقها الله لنفعكم من النبات، والمستلذات من المآكل والمشارب! والاستفهام للإِنكار والتوبيخ ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة﴾ أي هذه الزينة والطيبات في الدنيا مخلوقة للمؤمنين وإن شاركهم فيها الكفار، وستكون خالصة لهم يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد لأن الله حرم الجنة على الكافرين ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي نبيّن ونوضح الآيات التشريعية لقوم يتدبرون حكمة الله ويفقهون تشريعه ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ أي قل لهم يا محمد ما حرّم الله إلا القبائح من الأشياء التي تفاحش قبحها وتناهى ضررها، سواء ما كان منها في السر أو في العلن ﴿والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق﴾ أي وحرّم المعاصي كلها والعدوان على الناس ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ أي تجعلوا له شركاء في عبادته بدون حجة أو برهان ﴿وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي تفتروا على الله الكذب في التحليل والتحريم ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ أي لكل أمة كذبت رسلها مدة مضروبة لهلاكها قال في البحر: هذا وعيد للمشركين بالعذاب إذا خالفوا أمر ربهم ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ أي فإِذا جاء وقت هلاكهم المقدر لهم لا يتأخر عنهم برهة من الزمن ولا يتقدم كقوله
﴿وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً﴾ [الكهف: ٥٩] والساعة مثلٌ في غاية القلة من الزمان ﴿يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾ المراد ببني آدم جميع الأمم والمعنى إن يجئْكمُ رسلي الذين أرسلتهم إليكم يبينون لكم الأحكام والشرائع ﴿فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي فمن اتقى منكم ربه بفعل الطاعات وترك المحرمات فلا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي وأما من كذب واستكبر عن الإِيمان بما جاء به الرسل فأولئك في نار جهنم ماكثون لا يخرجون منها أبداً ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ الاستفهام للإِنكار أي من أقبح وأشنع ممن تعمّد الكذب على الله أو كذّب بآياته المنزلة؟ ﴿أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب﴾ أي يصيبهم حظهم في الدنيا مما كُتب لهم وقُدر من الأرزاق والآجال قال مجاهد: ما وُعدوا به من خير أو شر ﴿حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ أي جاءت ملائكة الموت تقبض أرواحهم ﴿قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله أدعوهم ليخلصوكم من العذاب، والسؤال للتبكيت والتوبيخ ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾ أي قال الأشقياء المكذبون لقد غابوا عنا فلا نرجوا نفعهم ولا
412
خيرهم ﴿وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ أي أقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال، وإِنما قالوا ذلك على سبيل التحسر والاعتراف بما هم عليه من الخبيبة والخسران ﴿قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الجن والإنس فِي النار﴾ أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء المكذبين بآياته: ادخلوا مع أمم أمثالكم من الفجرة في نار جهنم من كفار الأمم الماضية من الإِنس والجن ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ أي كلما دخلت طائفة النار لعنت التي قبلها لضلالها بها قال الألوسي: يلعن الأتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى، والمراد أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً كقوله تعالى ﴿يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [العنكبوت: ٢٥] ﴿حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً﴾ أي تلاحقوا واجتمعوا في النار كلهم ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا﴾ أي قال الأتباع للقادة والرؤساء الذين أضلوهم يا ربنا هؤلاء هم الذين أضلونا عن سبيلك وزينوا لنا طاعة الشيطان ﴿فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار﴾ أي أذقهم العذاب مضاعفاً لأنهم تسببوا في كفرنا ونظير هذه الآية
﴿رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب: ٦٧ - ٦٨] ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾ أي لكلٍ من القادة والأتباع عذاب مضاعف أما القادة فلضلالهم وإضلالهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم ﴿ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ أي لا تعلمون هوله ولهذا تسألون لهم مضاعفة العذاب ﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ أي قال القادة للأتباع: لا فضل لكم علينا في تخفيف العذاب فنحن متساوون في الضلال وفي استحقاق العذاب الأليم ﴿فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي فذوقوا عذاب جهنم بسبب إجرامكم، قالوه لهم على سبيل التشفي لأنهم دعوا عليهم بمضاعفة العذاب ﴿إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا﴾ أي كذبوا بإياتنا مع وضوحها واستكبروا عن الإِيمان بها والعلم بمقتضاها ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء﴾ أي لا يصعد لهم عمل صالح كقوله تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: ١٠] قال ابن عباس: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، وقيل: لا تُفتَّح لأرواحهم أبواب السماء إذا قبضت أرواحهم ويؤيده حديث «إن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا يجيئه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة فلا يمر على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له..» الحديث ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾ أي لا يدخلون يوم القيامة الجنة حتى يدخل الجمل في ثقب الإِبرة، وهذا تمثيل لاستحالة دخول الكفار الجنة كاستحالة دخول الجمل على ضخامته في ثقب الإِبرة على دقته مبالغة في التصوير ﴿وكذلك نَجْزِي المجرمين﴾ أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي أهل العصيان والإِجرام ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾ أي لهم فراش من النار من تحتهم ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ أي ومن فوقهم أغطية من النار ﴿وكذلك نَجْزِي الظالمين﴾ أي ومثل ذلك
413
الجزاء الشديد نجزي كل من ظلم وتعدّى حدود الله، ولما ذكر تعالى وعيد الكافرين وما أعده لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعدّ لهم فقال ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي والذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي لا نكلف أحداً بما هو فوق طاقته أو بما يعجز عنه بل بما هو في وسعه والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر قال في البحر: وفائدته التنبيه على أن ذلك العمل في وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم ما فيها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة ﴿أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هذا هو الخبر أي هؤلاء المؤمنون السعداء هم المستحقون للخلود الأبدي في جنات النعيم لا يُخرجون منها أبداً ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ أي طهرنا قلوبهم من الحسد والبغضاء حتى لا يكون بينهم إلا المحبة والتعاطف كما ورد في الحديث
«يدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلٌ» وصيغة الماضي تفيد التحقق والتثبت ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ أي تجري أنهار الجنة من تحت قصورهم زيادة في نعيمهم ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله﴾ أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم العظيم ولولا هداية الله تعالى وتوفيقه لما وصلنا إلى هذه السعادة ﴿لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق﴾ أي والله لقد صدقنا الرسل فيما أخبرونا به عن الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي وتناديهم الملائكة أن هذه هي الجنة التي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا قال القرطبي: ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إِياها برحمة الله وفضله وفي الحديث «لن يُدخل أحداً منكم عملهُ الجنة..» ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ﴾ هذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وعبَّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه أي ينادي أهلُ الجنة أهلَ النار يقولون: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والهوان والعذاب حقاً؟ قال أهل النار مجيبين: نعم وجدناه حقاً قال الزمخشري: وإِنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتةً بأهل النار، وزيادة في غمهم لمجرد الإِخبار والاستخبار ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ أي أعلن معلنٌ ونادى منادٍ بين الفريقين بأن لعنة الله على كل ظالم بالله ثم وصفه بقوله ﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي الذين كانوا في الدنيا يمنعون الناس عن اتباع دين الله ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد ﴿وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ﴾ أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة مكذبون جاحدون ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي بين الفريقين حجاب وهو السور الذي ذكره بقوله ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ [الحديد: ١٣] يمنع من وصول أهل النار للجنة، وعلى هذا السور رجال يعرفون كلاً من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم أي بعلامتهم التي ميّزهم الله بها قال قتادة: يعرفون أهل النار بسواد وجوههم وأهل الجنة ببياض وجوههم ﴿وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة حين
414
رأوهم أن سلامٌ عليكم أي قالوا لهم: سلام ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة وهم يطمعون في دخولها ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين﴾ قال المفسرون: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار، يحبسون هناك على السور حتى يقضي الله فيهم فإذا نظروا إلى أهل الجنة سلّموا عليهم، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، سألوا الله ألاّ يجعلهم معهم قال أبو حيان: وفي التعبير بقوله ﴿صُرِفَتْ﴾ دليل على أن أكثر أحوالهم النظر إلى أهل الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار ليس ن قِبَلهم بل هم محمولون عليه والمعنى أنهم إذا حُملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما عليه أهل النار من العذاب استغاثوا بربهم من أن يجعلهم معهم ﴿ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ أي من أهل النار وهم رؤساء الكفرة ﴿قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي أيُّ شيء نفعكم جمعكم للمال واستكباركم عن الإِيمان؟ والاستفهام للتوبيخ ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ﴾ أي هؤلاء المؤمنون الضعفاء الذين كنتم في الدنيا تسخرون منهم وتحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، والاستفهام استفهام تقرير وتوبيخ وشماتة يوبخونهم بذلك ﴿ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ أي يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة رغم أنوف الكافرين قال الألوسي: هذا من كلام أصحاب الأعراف يقولون لأهل الجنة المشار إليهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة ﴿ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ يخبر تعالى عن المحاورة بين أهل النار وأهل الجنة بعد استقر بكلٍ من الفريقين القرار واطمأنت به الدار، وعن استغاثتهم بهم عند نزول عظيم البلاء من شدة العطش والجوع والمعنى ينادونهم يوم القيامة أغيثونا بشيء من الماء لنكن به حرارة النار والعطش أو مما رزقكم الله من غيره من الأشربة فقد قتلنا العطش ﴿قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين﴾ أي منع الكافرين شراب الجنة وطعامها قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: قد احترقت فأفض عليَّ من الماء! فيقال لهم أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين، ثم وصف تعالى الكافرين بقوله ﴿الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً﴾ أي هزءوا من دين الله وجعلوا الدين سخرية ولعباً ﴿وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا﴾ أي خدعتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها القاتلة وهذا شأنها مع أهلها تغرُّ وتضر، وتخدع ثم تصرع ﴿فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا﴾ أي ففي هذا اليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به قال الألوسي: الكلام خارجٌ مخرج التمثيل أي نتركهم في النار وننساهم مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي ينبغي ألا يُنسى وقال ابن كثير: أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذّ عن علمه شيءٌ ولا ينساه ﴿وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ أي وكما كانوا منكرين لآيات الله في الدنيا، يكذبون بها ويستهزءون، ننساهم في العذاب.
415
البَلاَغَة: ١ - ﴿عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ مجاز مرسل علاقته المحلية لأن المراد بالمسجد هنا الصلاة والطواف، ولما كان المسجد مكان الصلاة أطلق ذلك عليه.
٢ - ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء﴾ كناةي عن عدم قبول العمل، فلا يقبل لهم دعاء أو عمل.
٣ - ﴿حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾ فيه تشبيه ضمني أي لا يدخلون الجنة بحالٍ من الأحوال إلا إِذا أمكن دخول الجمل في ثقب الإِبرة، وهو تمثيلٌ للاستحالة.
٤ - ﴿لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾ قال صاحب البحر: هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كقوله ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ [الزمر: ١٦].
٥ - ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ بين «ظهر» و «بطن» طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: يروى أن الرشيد كان له طبيبٌ نصراني حاذق فقال ذلك الطبيبُ لأحد العلماء: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلمُ علمان: علم الأبدان وعلم الأديان فقال له العالم: قد جمع الله تعالى الطبَّ كله في نصف آية من كتابه قال وما هي؟ قال قوله تعالى ﴿وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا﴾ فقال النصراني: ولا يُؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال العالم: قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة قال وما هي؟ قال قوله «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه» الحديث فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
416
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال الكفار الأشقياء وخسارتهم الفادحة في الآخرة، ذكر هنا أنه لا حجة لأحد فقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لهداية البشرية، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء فبدأ بنوح عليه السلام شيخ الأنبياء ثم أعقبه بذكر هودٍ عليه السلام وموقف المشركين من دعوة الرسل الكرام.
اللغة: ﴿تَأْوِيلَهُ﴾ عاقبة أمره وما يئول إليه من آل يئول إذا صار إليه ﴿استوى﴾ الاستواء: العلوّ والاستقرار قال الجوهري: استوى على ظهر الدابة استقرّ: واستوى إلى السماء قصد، واستوى الشيءُ إذا اعتدل ﴿يُغْشِي﴾ يغطيّ ﴿حَثِيثاً﴾ سريعاً والحثُّ: الإِعجال والسرعة ﴿تَبَارَكَ﴾ تفاعل من البركة وهي الكثرة والاتساع قال الأزهري: تبارك أي تعالى وتعاظم وارتفع ﴿تَضَرُّعاً﴾ تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل الذي في النفس مع الخشوع ﴿وَخُفْيَةً﴾ سراً ﴿بُشْراً﴾ مبشرة بالمطر ﴿أَقَلَّتْ﴾ حملت ﴿نَكِداً﴾ العِسر القليل ﴿آلاء﴾ [النجم: ٥٥] الآلاء النِّعَم واحدها «لَى» كمِعَى.
التفِسير: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ﴾ أي ولقد جئنا أهل مكة بكتاب هو القرآن العظيم ﴿فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ﴾ أي هداية معانيه ووضحنا أحكامه على علم منا حتى جاء قيّماً غير ذي عوج ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي هداية ورحمة وسعادة لمن آمن به ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ﴾ أي ما ينتظر أهل مكة إلا عاقبة ما وُعدوا به من العذاب والنكال قال قتادة: تأويله عاقبتُه ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ هو يوم القيامة ﴿يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ﴾ أي يقول الذين ضيّعوا وتركوا العمل به في الدنيا ﴿قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق﴾ أي جاءتنا الرسل بالأخبار الصادقة وتحقق لنا صدقهم فلم نؤمن بهم ولم نتبعهم قال الطبري: أقسم المساكين حين حل بهم العقاب أن رسل الله قد بلّغتهم الرسالة ونصحتْ لهم
417
وصدَقَتْهم حين لا ينفعهم ولا ينجيهم من سخط الله كثرةُ القيل والقال ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ﴾ أي هل لنا اليوم شفيع يخلصنا من هذا العذاب؟ استفهام فيه معنى التمني ﴿أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ أو هل لنا من عودة إلى الدنيا لنعمل صالحاً غير ما كنا نعمله من المعاصي وقبيح الأعمال؟ قال تعالى ردّاً عليهم ﴿قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي خسروا أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة والأصنام، ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية فقال ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ أي إن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه هو المنفرد بقدرة الإِيجاد الذي خلق السماوات والأرض في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال القرطبي: لو أراد لخلقها في لحظة ولكنه أراد أن يعلِّم العبادَ التثبت في الأمور ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ أي استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيلٍ ولا تحريف كما هو مذهب السلف وكما قال الإِمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقال الإِمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ: أخبارُ الصفات تُمرُّ كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل فلا يقال: كيف؟ ولِمَ؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء بلا حدٍّ ولا صفةٍ يبلغها واصف أو يحدها حادُّ، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونكِلُ الكيفية في الصفات إلى علم الله عَزَّ وَجَلَّ وقال القرطبي: لم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقةً وإِنما جهلوا كيفية الساتواء فإِنه لا تُعلم حقيقته ﴿يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً﴾ أي يغطي الليل على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعاً حتى يدركه ﴿والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ﴾ أي الجميع تحت قهره ومشيئته وتسخيره ﴿بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾ أي له الملك والتصرف التام في الكائنات ﴿تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين﴾ أي تعظّم وتمجّد الخالق المبدع رب العالمين ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ أي أدعوا الله تذللاً وسراً بخشوع وخضوع ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي لا يحب المعتدين في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي الحديث
«إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً» ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ أي لا تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثة المرسلين ﴿وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ أي خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته ﴿إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين﴾ أي رحمته تعالى قريبة من المطيعين الذين يمتثلون أوامره ويتركون زواجره ﴿وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾ أي يرسل الرياح مبشرة بالمطر قال في البحر: ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً على الإِنسان ﴿حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً﴾ أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً مثقلاً بالماء ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ أي سقنا السحاب إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات﴾ أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء فأخرجنا بذلك الماء من كل أنواع الثمرات ﴿كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي مثل هذا الإِخراج نُخرج الموتى من
418
قبورهم لعلكم تعتبرون وتؤمنون قال ابن كثير: وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله المثل ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولها قال لعلكم تذكّرون ﴿والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي الأرضُ الكريمةُ التربة يخْرج النبات فيها وافياً حسناً غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره، وهذا مثل للمؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها ﴿والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً﴾ أي والأرض إذا كانت خبيثة التربة كالحرّة أو السبخة لا يخرج النبات فيها إلا بعسر ومشقة وقليلاً لا خير فيه، وهذا مثلٌُ للكافر الذي لا ينتفع بالموعظة قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر، فالمؤمن طيّب وعمله طيب كالأرض الطيبة ثمرها طيب، والكافر خبيثٌ وعملهُ خبيث كالأرض السبخة المالحة لا ينتفع بها ﴿كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ أي كما ضربنا هذا المثل كذلك نبيّن وجوه الحجج ونكررها آية بعد آية، وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله على نعمه، وإنما خصّ الشاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بسماع القرآن قال الآلوسي: أي مِثلَ هذا التصريف البديع نردِّد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها لقومٍ يشكرون نعم الله تعالى، وشكرُها بالتفكر والاعتبار بها ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ﴾ اللام جواب قسمٍ محذوف أي والله أرسلنا نوحاً، ونوحٌ شيخ الأنبياء لأنه أطولهم عمراً وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس، ولم يلق نبيٌّ من الأذى مثل نوح ﴿فَقَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي وحدّوا الله ولا تشركوا به فما لكم إلهٌ مستحقٌ للعبادة غيره ﴿إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي إن أشركتم به ولم تؤمنوا فأنا أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم هو يوم القيامة ﴿قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي قال الأشراف والسادة من قومه إنا لنراك يا نوح في ذهابٍ عن طريق الحق والصواب واضح جلي قال أبو حيان: ولم يجبه من قومه إلا أشرافُهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغماس عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة، وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة ﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ أي ما أنا بضال ولكنْ أنا مرسل إليكم من عند ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي أنا أبلغكم ما أرسلني الله به إليكم وأقصد صلاحكم وخيركم وأعلم من الأمور الغيبية أشياء لا علم لكم بها قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي لا تعجبوا من هذا فإِن هذا
419
ليس بعجيب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإِحساناً إليكم ﴿لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي ليخوفكم هذا الرسول من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا ربكم وتنالكم الرحمة بتقواه ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك﴾ أي كذبوا نوحاً مع طول مدة إقامته فيهم فأنجاه الله والمؤمنين معه في السفينة ﴿وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ﴾ أي أهلكنا المكذبين منهم بالغرق ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ﴾ أي عميت قلوبهم عن الحق فهم لا يبصرونه ولا يهتدون له قال ابن عباس: عميتْ قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد ﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾ أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن ﴿قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي قال لهم رسولهم وحّدوا الله فليس لكم إله غيره ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي أفلا تخافون عذابه؟ ﴿قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾ أي قال السادة والقادة منهم ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين﴾ أي نراك في خفة حلم وسخافة عقل وإننا لنظنك من الكاذبين في ادعائك الرسالة ﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ أي ليس بي كما تزعمون نقص في العقل ولكني مرسل إليكم بالهداية من رب العالمين ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ أي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول لا أكذب فيه قال الزمخشري: وفي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول ولا أكذب فيه قال الزمخشري: وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام مِمَّنْ نسبَهم إلى السفاهة والضلالة - بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم وترك المقابلة - أدبٌ حسنٌ وخُلُق عظيم، وتعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء ويسبلون أذياهم على ما يكون منهم ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم لقاء الله ويخوفكم عذابه ﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ أي اذكروا نعمة الله حين استخلفكم في الأرض بعد إهلاك قوم نوح ﴿وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً﴾ أي زاد في أجسامكم قوةً وضخامة ﴿فاذكروا آلآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي اذكروا نعم الله عليكم كي تفلحوا وتفوزوا بالسعادة ﴿قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ أي أجئتنا يا هود تتوعدنا بالعذاب كي نعبد الله وحده ونهجر عبادة الآلهة والأصنام ونتبرأ منها؟ ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي فأتنا بما تعدنا به من العذاب فلن نؤمن لك إن كنت من الصادقين في قولك ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ أي قد حلّ بكم عذاب وغضب من الله ﴿أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾ أي أتخاصمونني في أصنام لا تضر ولا تنفع ما أنزل الله بعبادتها من حجة أو برهان ﴿فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾ أي فانتظروا نزول العذاب إني من المنتظرين لما يحل بكم وهذا غاية الوعيد والتهديد ﴿فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا﴾ أي أنجينا هوداً والذين معه من المؤمنين رحمة منا لهم ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم ﴿وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي كذبوا ولم يؤمنوا فاستحقوا العذاب قال أبو السعود: أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبداًَ فأهلكهم الله بالريح العقيم.
420
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾ الآية على قلة ألفاظها جمعت معاني كثيرة استوعبت جميع الأشياء والشئون على وجه الاستقصاء حتى قال ابن عمر: من بقي له شيء فليطلبه وهذا الأسلوب البليغ يسمى «إيجاز قِصَر» ومداره على جمع الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة.
٢ - ﴿سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ وصفُ البلد بالموت استعارةٌ لجدبه وعدم نباته كأنه كالجسد الذي لا روح فيه من حيث عدم الانتفاع به.
٣ - ﴿كذلك نُخْرِجُ الموتى﴾ أي مثل إخراج النبات من الأرض نخرج من الموتى من قبورهم فهو تشبيه «مرسل مجمل» ذكرت الأداة ولم يذكر وجه الشبه.
٤ - ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ﴾ قطع الدابر كنايةٌ لطيفةٌ عن استئصالهم جميعاً بالهلاك.
تنبيه: ذكر العلامة الألوسي عند قوله تعالى ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ عن الحسن البصري أنه قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول ﴿ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ وأنه سبحانه ذكر عبداً صالحاً فقال ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً﴾ [مريم: ٣] ثم قال: وذكروا للدعاء آداباً كثيرة منها: أن يكون على طهارة، وأن يستقبل القبلة، وتخلية القلب من الشواغل، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفع اليدين نحو السماء، وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإِجابة كثلث الليل الأخير، ووقت إفطار الصائم، ويوم الجمعة وغير ذلك.
421
المنَاسََبة: لما ذكر تعالى في أول السورة قصة آدم، وما اتصل بها من آثار قدرته، وغرائب صنعته، الدالة على توحيده وربويته، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، فذكر نوحاً وهوداً وأعقبه هنا بذكر قصة صالح وشعيب، وموقف المعاندين للرسل الكرام.
اللغَة: ﴿نَاقَةُ﴾ الناقة: الأنثى من الجمال، وعقر الناقة ضرب قوائمها بالسيف ﴿عَتَوْاْ﴾ استكبروا عتا عتواً أي استكبر والليلُ العاتي: الشديد الظلمة ﴿جَاثِمِينَ﴾ لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر ﴿الرجفة﴾ الطامة التي يرجف لها الإِنسان أي يتزعزع ويضطرب وأصل الرجف الاضطراب رجفت الأرض اضطربت ﴿الغابرين﴾ الباقين في عذاب الله، والغابر بمعنى الباقي ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول الأعشى: في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح ﴿يَغْنَوْاْ﴾ يقيموا يقال غَنَى بالمكان إذا أقام به دهراً طويلاً ﴿عِفُواْ﴾ كثروا ونموا من عفا النبات إذا كثر.
التِفسير: ﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي وحّدوا الله ولا تشركوا به ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي معجزة ظاهرة جلية تدل على صحة نبوتي ﴿هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً﴾ هذا بيانٌ للمعجزة أي هذه الناقة معجزتي إليكم وإضافتها إلى الله للتشريف
422
والتعظيم لأنها خلقت بغير واسطة قال القرطبي: أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد ﴿فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله﴾ أي اتركوها تأكل من رزق ربها ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي لا تتعرضوا لها بشيءٍ من السو أصلاً إكراماً لها لأنها آية الله، والعذاب الأليم هو ما حلَّ بهم حين عقروها ﴿واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ﴾ أي خلفاء في الأرض قال الشهاب: لم يقل خلفاء عاد إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً﴾ أي أسكنكم في أرض الحِجرْ تبنون ف سهولها قصوراً رفيعة ﴿وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً﴾ أي تنحتون الجبال لسكناكم قال القرطبي: اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن الأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم ﴿فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي اذكروا نعم الله علكم واشكروه على ما تفضل به ولا تعيثوا في الأرض فساداً ﴿قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾ أي قال الأشراف المستكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين من أتباع صالح عليه السلام ﴿أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي أن الله أرسله إلينا وإِليكم، وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء ﴿قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ أي أجابوهم بالأسلوب الحكيم بالإِيمان برسالته قال أبو حيان: وعدولهم عن قولهم هو مرل إلى قولهم ﴿إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ في غاية الحسن إذْ أمر رسالته معلوم واضح مسلَّم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته ﴿قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ أي قال المستكبرون نحن كافرون بما صدَّقتم به من نبوة صالح وإنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم ﴿فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ أي نحروا الناقة واستكبروا عن امتثال أمر الله ﴿وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين﴾ أي جئنا يا صالح بما تعدنا من العذاب الذي تخوفنا به إن كنت يا صالح حقاً رسولاً، قالوا ذلك استهزاء به وتعجيزاً ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أخذتهم الزلزلة الشديدة فصاروا في منازلهم هامدين موتى لا حِراك بهم قال في البحر: أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوتُ كل شيء له صوتٌ في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا ﴿فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين﴾ أي أدبر عنهم صالح بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم وقال على سبيل التفجع والتحسر عليهم: لقد بلّغنكم الرسالة وحذرتكم عذاب الله وبذلت وسعي في نصيحتكم ولكن شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم قال الزمخشري ﴿وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين﴾ حكاية حال ماضية قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت - وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة -: يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني؟ ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين﴾ أي واذكر وقت أن قال لوط لقومه أهل سدوم على سبيل الإِنكار والتوبيخ: أتفعلون تلك الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح التي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان! والفاحشة هي إتيان الذكور في الأدبار، أنكر عليهم أولاً فعلها
423
ثم وبخهم بأنهم أول من فعلها قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه، ومركوزاً في العقول فحشه أتى به معرفاً بالألف واللام ﴿الفاحشة﴾ بخلاف الزنى فإنه قال فيه
﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ [النساء: ٢٢] فأتى به منكراً، والجملة المنفية ﴿مَا سَبَقَكُمْ﴾ تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها، والمبالغة في ﴿مِنْ أَحَدٍ﴾ حيث زيدت مِنْ لتأكيد نفي الجنس، وفي الإِتيان بعموم ﴿العالمين﴾ جمعاً قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكرٌ على ما ذكر قبل قوم لوط ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء﴾ هذا بيانٌ للفاحشة وهو توبيخٌ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بإنَّ وباللام أي إنكم أيها القوم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة منكم لذلك الفعل الخبيث المكروه دون ما أحله الله لكم من النساء ثم أضرب عن الإِنكار إلى الإِخبار عنهم بالجال التي توجب ارتكاب القبائح واتباع الشهوات فقال ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾ أي لا عذر لكم بل أنتم عادتكم الإِسراف وتجاوز الحدود في كل شيء قال أبو السعود: وفي التقييد بقوله ﴿شَهْوَةً﴾ وصفٌ لهم بالبهيمية الصِّرفة وتنبيهٌ على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النسال لاقضاء الشهوة ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي ما كان جوابهم للوطٍ إذ وبخهم على فعلهم القبيح إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وأتباعه المؤمنين من بلدتكم لأنهم أناس يتنزهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في الأدبار، قال ابن عباس ومجاهد: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ أي يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، قالوا ذلك سخرية واستهزاءً بلوط وقومه وعابوهم بما يمدح به الإِنسان ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين﴾ أي أنجيناه من العذاب الذي حلّ بقومه وأهله المؤمنين إلا امرأته فلم تنج وكانت من الباقين وبالله كافرة فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً﴾ أي أرسلنا عليه نوعاً من المطر عجيباً هو حجارة من سجيل كما في الآية الأخرى
﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤] وشبه العذاب بالمطر المدرار لكثرته حيث أرسل إرسال المطر ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين﴾ أي انظر أيها السامع إلى عاقبة هؤلاء المجرمين كيف كانت؟ وإلى أي شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟! ﴿وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ﴾ أي وأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً داعياً لهم إلى توحيد الله وعبادته قال ابن كثير: ومدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب «معان» من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره ﴿قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي معجزة تدل على صدقي ﴿فَأَوْفُواْ الكيل والميزان﴾ أي أتموا للناس حقوقهم بالكليل الذي تكيلون به والوزن الذي تزنون به ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ﴾ أي لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تُنْقصوهم إياها ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ أي لا تعملوا بالمعاصي بعد إصلاحها ببعثة الرسل ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي ما أمرتكم به من إخلاص العبادة لله
424
وإيفاء الناس حقوقهم وترك الفساد في الأرض خير لكم إن كنتم مصدقين لي في قولي ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ أي لا تجلسوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل قال ابن عباس: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً﴾ أي تريدون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة بمعنى تصويرهم أن دين الله غير مستقيم كما يقول الضالون في هذا الزمان «هذا الدين لا ينطبق مع العقل» لأنه لا يتمشى مع أهوائهم الفاجرة ﴿واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ﴾ أي كنتم قلة مستضعفين فأصبحتم كثرة أعزة فاشكروا الله على نعمته ﴿وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾ هذا تهديد لهم أي انظروا ما حلّ بالأمم السابقة حين عصوا الرسل كيف انتقم الله منهم واعتبروا بهم ﴿وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾ أي إذا كان فريق صدقوني فيما جئتهم به وفريق لم يصدقوني فاصبروا حتى يفصل الله بحكمه العادل بيننا وهو خير الفاصلين قال أبو حيان: هذا الكلام من أحسن ما تلطّف به في المحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك وهو من بارع التقسيم فيكون وعدا للمؤمنين بالنصر ووعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار ﴿قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ﴾ أي قال أشراف قومه المستكبرين عن الإِيمان بالله ورسله ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ أقسموا على أحد الأمرين: إما إخراج شعيب وأتباعه وإما العودة إلى ملتهم أي إلى الكفر والمعنى لنخرجنك يا شعيب ومن آمن بك من بين أظهرنا أو لترجعن أنت وهم إلى ديننا قال شعيب مجيباً لهم ﴿قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ أي أتجبروننا على الخروج من الوطن أو العودة في ملتكم ولو كنّا كارهين لذلك؟ والاستفهام للإِنكار ﴿قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا﴾ أي إن عدنا إلى دينكم بعد أن أنقذنا الله منه بالإِيمان وبصّرنا بالهدى نكون مختلقين على الله أعظم أنواع الكذب، وهذا تيئيسٌ للكفار من العودة إلى دينهم ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا﴾ أي لا ينبغي ولا يصح لنا أن نعود إلى ملتكم ودينكم إلا إذا شاء الله لنا الانتكاس والخذلان فيمضي فينا قضاؤه ﴿وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ أي وسع علمه كل الأشياء ﴿عَلَى الله تَوَكَّلْنَا﴾ أي اعتمادنا على الله وهو الكافي لمن توكل عليه ﴿رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين﴾ أي احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا ظلم وأنت خيرالحاكمين ﴿وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ﴾ أي قال الأشراف من قومه الفجرة الكفرة: إذا اتبعتم شعيباً وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه إنكم إذاً لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى قال تعالى ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ أي فأخذتهم الزلزلة العظيمة فأصبحوا ميّتين جاثمين على الركب ﴿الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا﴾ أي أهلك الله المكذبين كأنهم لم يقيموا في ديارهم منعَّمين ﴿الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين﴾ إخبارٌ عنهم بالخسار بعد الهلاك والدمار {
425
فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قاله تأسفاً لشدة حزنه عليهم لأنهم لم يتبعوا نصحه ﴿فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ أي كيف أحزن على من لا يستحق أن يُحزن عليه قال الطبري: أي كيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿نَاقَةُ الله﴾ الإضافة للتشريف والتكريم.
٢ - ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء﴾ التنكير للتقليل والتحقير أي لا تمسوها بأدنى سوء.
٣ - ﴿أَتَأْتُونَ الفاحشة﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتشنيع.
٤ - ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ يسمى هذا النوع في علم البديع التعريض بما يوهم الذم ولذلك قال ابن عباس: عابوهم بما يُمدح به.
٥ - ﴿عَلَى الله تَوَكَّلْنَا﴾ إظهار الاسم الجليل للمبالغة في التضرع وتقديم الجار والمجرور لإِفادة الحصر.
٦ - بين لفظ ﴿مُؤْمِنُونَ﴾ و ﴿كَافِرُونَ﴾ طباقٌ.
فَائِدَة: الذي عقر الناقة هو «قُدار بن سالف» وإنما نسب الفعل إليهم جميعاً في قوله تعالى ﴿فَعَقَرُواْ الناقة﴾ لأنه كان برضاهم وأمرهم، والراضي بالعمل القبيح شريك في الجريمة.
426
ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂ ﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﱿ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ
المنَاسََبََة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء (نوح، هود، صالح، لوط، شعيب) وما حلَ بأقوامهم من العذاب والنكال حين لم تُُجْد فيهم الموعظة"، ذكر تعالى هنا سنته الإِلهية في الانتقام ممن كذّب أنبياءه وذلك بالتدرج معهم بالبأساء والضراء، ثم بالنعمة والرخاء، ثم بالبطش بهم إن لم يؤمنوا ثم أعقب ذلك بقصة موسى مع الطاغية فرعون وفيها كثير من العبر والعظات.
اللغَة: ﴿البأسآء﴾ شدة الفقر ﴿الضرآء﴾ الضرُّ والمرض ﴿عَفَوْاْ﴾ كثروا ونموا ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿َمَلَئِهِ﴾ أشراف قومه ﴿أَرْجِهْ﴾ أخّرْ ﴿صَاغِرِينَ﴾ أذلاء ﴿تَلْقَفُ﴾ تبتلع وتلتقم ﴿يَأْفِكُونَ﴾ الإِفك: الكذب ﴿أَفْرِغْ﴾ الإِفراغ: الصبُّ أي اصببه علينا.
التفِسير: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ﴾ في الكلام حذف أي وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها ﴿إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء﴾ أي عاقبتاهم بالبؤس والفقر، والمرض وسوء الحال ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة﴾ أي ثم أبدلناهم بالفقر والمرض، الغنى والصحة ﴿حتى عَفَوْاْ﴾ أي حتى كثروا ونموا ﴿وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء﴾ أي أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا كفراناً لها: هذه عادة الدهر وقد مسّ آباءنا مثل ذلك من المصائب ومن الرخاء وليست بعقوبة من الله فلنبق على ديننا، والغرضُ أن الله ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه فما فعلوا، ثم بالحسنة ليشكروا فما فعلوا، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ولهذا
427
قال تعالى ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي أخذناهم بالهلاك والعذاب فجأةً من حيث لا يدرون ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا﴾ أي ولو أن أهل تلك القرى الذين كَذَّبوا وأُهلكوا آمنوا بالله ورسله واتقوا الكفر والمعاصي ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء﴾ أي لوسّعنا عليهم الخير من كل جانب وقيل: بركاتُ السماء المطرُ، وبركات الأرض الثمارُ، قال السدي: فتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق ﴿والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ أي ولكنْ كذّبوا الرسل فعاقبناهم بالهلاك بسوء كسبهم ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ الهمزة للإِنكار أي هل أمن هؤلاء المكذبون أن يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون غافلون عنه؟ ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ ؟ أم هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا ونكالنا نهاهراً جهاراً وهم يلهون ويشتغلون بما لا يُجدي كأنهم يلعبون؟ ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون﴾ أي أفأمنوا استدارجه إياهم بالنعمة حتى يهلكوا في غفلتهم؟ فإنه لا يأمن ذلك إلا القوم الذين خسروا عقولهم وإنسانيتهم فصاروا أخسَّ من البهائم قال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفقٌ خائفٌ وجلٌ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو مطمئن آمن ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ﴾ أي أولم يتضح ويتبيّن للذين يخلفون الأرض بعد هلاك أهلها الذين كانوا يعمرونها قبلهم، والمراد بها كفار مكة ومن حولهم ﴿أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي لو أردنا لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من قبلهم قال في البحر: أي قد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حلّ بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا ﴿وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ أي ونختم على قلوبهم فلا يقبلون موعظةً ولا تذكيراً سماع منتفع بهما ﴿تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ أي تلك القرى المذكورة نقصُّ عليك يا محمد بعض أخبارها وما حصل لأهلها من الخسف والرجفة والرجم بالحجارة ليعتبر بذلك من يسمع وما حدث أهولُ وأفظع ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ أي جاءتهم بالمعجزات والحجج القاطعات ﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾ أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل لتكذيبهم إياهم قبل مجيئهم بالمعجزات وبعد مجيئهم بها فحالهم واحد في العتو والضلال قال الزمخشري: أي استمروا على التكذيب من لدنْ مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين لا يرعوون مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين﴾ أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم نطبع على قلوب الكافرين فلا يكاد يؤثر فيهم النُّذر والآيات، وفيه تحذير للسامعين ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ أي ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء للعهد بل وجدناهم خارجين عن الطاعة والامتثال قال ابن كثير: والعهد الذي أخذه هو ما فطرهم عليه وأخذه عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم فخالفوه وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ﴾ أي ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذكرهم موسى بن عمران بالمعجزات الباهرات والحجج الساطعات {إلى فِرْعَوْنَ
428
وَمَلَئِهِ} أي أرسلناه إلى فرعون - ملك مصر في زمن موسى - وقومه ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أي كفروا وجحدوا بها ظلماً وعناداً ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين﴾ أي انظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين كيف أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغُ في النكال لأعداء الله، وأشفى لقلوب أولياء الله ﴿وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ أي إني رسولٌ إليك من الخالق العظيم رب كل شيء وخالقه ومليكه ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ أي جديرٌ بي وحقٌ عليَّ أن لا أخبر عن الله إلا بما هو حقٌ وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي جئتكم بحجة قاطعة من الله تشهد على صدقي فخلِّ واترك سبيل بني إسرائيل حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطنُ آبائهم قال أبو حيان: ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى بقوله ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطلٌ لا محقٌ، ولما كان قوله ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ولما قرّر رسالته فرَّع عليها تبليغ الحكم وهو قوله ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ أي قال فرعون لموسى: إن كنت جئت بآية من ربك كما تدّعي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، قال ذلك على سبيل التعجيز لموسى ﴿فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ أي فإِذا بها حية ضخمة طويلة قال ابن عباس: تحولت إلى حية عظية فاغرة فاها مسرعةً نحو فرعون ﴿مُّبِينٌ﴾ أي ظاهر لا متخيَّل ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ أي أخرجها من جيبة فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً عجيباً يغلب نورها نور الشمس قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض ﴿قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي قال الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته إن هذا عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه، وقولهم ﴿عَلِيمٌ﴾ أي بالغٌ الغاية في علم السحر وخدعه وفنونه ﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾ أي يخرجكم من أرض مصر بسحره ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ أي بأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره؟ وبأي شيء تشيرون فيه؟ قال القرطبي: قال فرعون: فماذا تأمرون وقيل: هو من قول الملأ أي قالوا لفرعون وحده ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ كما يُخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا ﴿قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ﴾ أي أخَّر أمرهما حتى ترى رأيك فيهما وأرسلْ في أنحاء البلاد من يجمع لك السحرة ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ أي يأتوك بكل ساحرٍ مثله ماهر في السحر، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر ﴿وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين﴾ في الكلام محذوفٌ يدل عليه السياق وهو أنه بعث إلى السحرة وطلب أن يُجمعوا له فلما جاءوا فرعون قالوا: إنَّ لنا لأجراً عظيماً إن نحن غلبنا موسى وهزمناه وأبطلنا سحره؟ ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين﴾ أي قال فرعون: نعم لكم الأجر
429
وأزيدكم على ذلك بأن أجعلكم من المقربين أي من أعزّ خاصتي وأهل مشورتي قال القرطبي: زادهم على ما طلبوا ﴿قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين﴾ أي قال السحرة لموسى: اختر إمّا أن تُلقي عصاك أو نلقي نحن عصيّنا قال الزمخشري: تخييرهم إيّاه أدبٌ حسن كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يخوضوا في الجدال هذا ما قاله الزمخشري، والأظهر أنهم قالوا ذلك من باب الاعتزاز بالنفس وتوهم الغلبة وعدم الاكتراث بأمر موسى كما يقول المعتد بنفسه: أبدأ أو تبدأ ﴿قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس﴾ أي قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا العصيّ والحبال سحروا أعين الناس أي خيلوا إليهم ما لا حقيقة له كما قال تعالى
﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾ [طه: ٦٦] ﴿واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ أي أفزعوهم وأرهبوهم إرهاباً شديداً حيث خيلوها حياتٍ تسعى وجاءوا بسحر عظيم يهابه من رآه قال ابن اسحاق: صُفَّ خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحرٍ حبالُه وعصيُّه وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تبتلع بسرعة ما يزوّرونه من الكذب قال ابن عباس ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ لا تمر بشيء من حبالهم وخشبهم التي ألقوها إلا التقمته ﴿فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ثبت وظهر الحق لمن شهده وحضره، وبطل إفك السحر وكذبه ومخايله ﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ﴾ أي غُلب فرعونُ وقومهُ في ذلك المجمع العظيم وصاروا ذليلين ﴿وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ﴾ أي خرّوا ساجدين معلنين إيمانهم بربّ العالمين لأن الحق بهرهم قال قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾ أي قال فرعون الجبار للسحرة آمنتم بموسى قبل أن تستأذنوني؟ والمقصود بالجملة التوبيخ ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا﴾ أي صنيعكم هذا حيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لتخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل، قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإِيمان ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أي فسوف تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيد وتهديد ساقه بطريق الإِجمال للتهويل ثم عقّبه بالتفصيل فقال ﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ أي لأقطعنَّ من كل واحد منكم يده ورجله من خلاف قال الطبري: ومعنى ﴿مِّنْ خِلاَفٍ﴾ هو أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى فيخالف بين العضوين في القطع ﴿ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي ثم أصلبكم جميعاً تنكيلاً لكم ولأمثالكم، والصلب التعليق على الخشب حتى الموت ﴿قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ إنّا راجعون إلى الله بالموت لا محالة فلا نخاف مما تتوعدنا به ولا نبالي بالموت وحبذا الموت في سبيل الله ﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا﴾ أي ما تكره منا ولا تعيب علينا إلا إيماننا بالله وآياته!!
430
كقوله
﴿وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد﴾ [البروج: ٨] قال الزمخشري: أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإِيمان ﴿رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ أي أفضْ علينا صبراً يغمرنا عند تعذيب فرعون إيانا وتوفنا على ملة الإِسلام غير مفتونين ﴿وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾ أي قال الأشراف لفرعون: أتترك موسى وجماعته ليفسدوا في الأرض بالخروج عن دينك وترك عبادة آلهتك!! وفي هذا إغراءٌ لفرعون بموسى وقومه وتحريضٌ له على قتلهم وتعذيبهم ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ أي قال فرعون مجيباً لهم: سنقتل أبناءهم الذكور ونستبقي نساءهم للاستخدام كما كنا نفعل بهم ذلك وإنّا عالون فوقهم بالقهر والسلطان ﴿قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا﴾ أي قال موسى لقومه تسليةً لهم حين تضجروا مما سمعوا: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما ينالكم من أذاهم واصبروا على حكم الله ﴿إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي الأرض كلها الله يعطيها من أراد من عباده، أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر ﴿والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي النتيجة المحمودة لمن اتقى الله ﴿قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ أي أوذينا من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعدما جئتنا بها يعنون أن المحنة لم تفارقهم فهم في العذاب والبلاء قبل بعثة موسى وبعد بعثته ﴿قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أي لعل ربكم أن يهلك فرعون وقومه ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم وينظر كيف تعملون بعد استخلافكم من الإِصلاح والإِفساد، والغرضُ تحريضهم على طاعة الله، وقد حقق الله رجاء موسى فأغرق فرعون وملّك بن إسرائيل أرض مصر قال في البحر: سلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء.
البَلاَغَة: ١ - ﴿بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة﴾ بين لفظ الحسنة والسيئة طباقٌ وكذلك بين لفظ ﴿الضرآء والسرآء﴾.
٢ - ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء﴾ شبّه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول فهو من باب الاستعارة أي وسعنا عليهم الخير من جميع الأطراف.
٣ - ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ تكررت الجملة والغرض منها الإِنذار ويسمى هذا في علم البلاغة الإطناب ومثلها ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله﴾ قال أبو السعود: تكريرٌ للنكير لزيادة التقرير، ومكرُ الله استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب.
٤ - ﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين﴾ أكد الجملة بإن واللام لإِزالة الشك من نفوس السحرة ويسمى هذا النوع من أضرب الخبر إنكارياً.
٥ - ﴿فَوَقَعَ الحق﴾ فيه استعارة استعير الوقع للثبوت والحصول والله أعلم.
431
تنبيه: لما عجز فرعون عن دفع الحجة بالبرهان عدل إلى البطش والفتك بالسنان، وهكذا حال كل ضال مبتدع إذا أعيته الحجة مال إلى التهديد والوعيد.
432
المنَاَسَبَة: لما كان قصة الكليم مع الطاغية فرعون مملوءة بالعبر والعظات لذلك استطردت الآيات في الحديث عنهم فتحدثت عمّا حلَّ بقوم فرعون ن البلايا والنكبات، وما ابتلاهم الله به من القحط والجدب، والطوفان والجراد وغير ذلك من المصائب نتيجة إِصرارهم على الكفر وتكذيبهم بآيات الله، ثم ذكرت أنواع النعم التي أنعم الله بها على بني إِسرائيل ومن أعظمها إِهلاك عدوهم وقطعهم البحر مع السلامة والأمان.
اللغَة: ﴿السنين﴾ جمع سَنَة وهي الجدبُ والقحطُ ﴿يَطَّيَّرُواْ﴾ يتشاءموا والأصل يتطيّروا مأخوذٌ من الطِّيرة وهي زجر الطير ثم استعمل في التشاؤم ﴿الطوفان﴾ السيل المتلف المدمِّر ﴿القمل﴾ السوس وهي حشرات صغيرة تكون في الحنطة وغيرها تفسد الحبوب ﴿الرجز﴾ العذاب، والرجس بالسين: النجس وقد يستعمل بمعنى العذاب ﴿اليم﴾ البحر ﴿يَعْكُفُونَ﴾ عكف على الشيء أقام عليه ولزمه ﴿مُتَبَّرٌ﴾ مهلكٌ والتبار: الهلاك ﴿صَعِقاً﴾ مغشياً عليه يقال: صَعِق الرجل إِذا أُغمي عليه.
التفِسير: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين﴾ اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد ابتلينا واختبرنا فرعون وأتباعه بالجدب والقحط ﴿وَنَقْصٍ مِّن الثمرات﴾ أي وابتليناهم بإِذهاب الثمار من كثرة الآفات قال المفسرون: كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي لعلهم يتعظون وترقُّ قلوبهم فإن الشدة تجلب الإِنابة والخشية ورقة القلب، ثم بيّن تعالى أنهم مع تلك المحن والشدائد لم يزدادوا إِلا تمرداً وكفراً فقال ﴿فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه﴾ أي إذا جاءهم الخِصْب والرّخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون لذلك ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ﴾ أي وإِذا جاءهم الجدب والشدة تشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين أي قالوا: هذا بشؤمهم قال تعالى رداً عليهم ﴿ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله﴾ أي إِن ما يصيبهم من خير أو شر بتقدير الله وليس بشؤم موسى قال ابن عباس: الأمر من قِيَل الله ليس شؤمهم إلاّ من قِيَله وحكمه ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط والشدائد من عند الله بسبب معاصيهم لا من عند موسى ﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي قال قوم فرعون لموسى: أي شيء تأتينا به يا موسى من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك قال الزمخشري: فإن قلت كيف سموها آية ثم قالوا ﴿لِّتَسْحَرَنَا بِهَا﴾ قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية وإِنما قصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي قال تعالى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان﴾ أي أرسلنا عليهم المطر الشديد حتى عاموا فيه وكادوا يهلكون قال ابن عباس: الطوفان كثرة الأمطار المغرقة المتلفة
433
للزروع والثمار ﴿والجراد﴾ أي وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم ﴿والقمل﴾ وهو السوس حتى نخر حبوبهم وتتّبع ما تركه الجراد وقيل: هو القمل المشهور كان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه ﴿والضفادع﴾ جمع ضفدع حتى ملأت بيوتهم وطعامهم وإِذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه ﴿والدم﴾ أي صارت مياههم دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دماً ﴿آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ﴾ أي علامات ظاهرات فيها عبرٌ وعظاتٌ ومع ذلك استكبروا عن الإِيمان ﴿فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ أي استكبروا عن الإِيمان بها لغلوهم في الإِجرام ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز﴾ أي وحين نزل بهم العذاب المذكور ﴿قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ أي ادع لنا ربك ليكشف عنا البلاء بحق ما أكرمك به من النبوة قال الزمخشري: أي أسعفنا إلى ما تطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة ﴿لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾ اللام لام القسم أي والله لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه يا موسى لنصدقنَّ بما جئت به ولنطلقنَّ سراح بني إِسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أرذل الأعمال ﴿فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ﴾ أي فلما كشفنا بدعاء موسى عنهم العذاب إلى حدٍّ من الزمان هم واصلون إِليه ولا بدَّ قال ابن عباس: هو وقت الغَرق ﴿إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ أي إذا هم ينقضون عهودهم ويصرّون على الكفر ﴿فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم﴾ أي فانتقمنا منهم بالإِغراق في البحر ﴿بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي بسبب تكذيبهم بآيات الله وإِعراضهم عنها وعدم مبالاتهم بها ﴿وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا﴾ أي وأورثنا بني إِسرائيل الذين كانوا يُستذلون بالخدمة أرض الشام وملّكناهم جميع جهاتها ونواحيها: مشارقها ومغاربها ﴿التي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ بالخيرات وكثرة الثمرات ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ﴾ أي تمَّ وعد الله الصادق بالتمكين لبني إِسرائيل في الأرض ونصره إياهم على عدوهم قال الطبري: وكلمتُه الحسنى هي قوله جل ثناؤه
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ [القصص: ٥] الآية ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي بسبب صبرهم على الأذى ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ أي خرّبنا ودمّرنا القصور والعمارات التي كان يشيدها فرعون وجماعته وما كانوا يعرشون من الجنّات والمزارع، وإلى هنا تنتهي قصة فرعون وقومه ويبتدئ الحديث عن بني إِسرائيل وما أغدق الله عليهم من النعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مما رآه منهم قال تعالى ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر﴾ أي عبرنا ببني إِسرائيل البحر وهو بحر القُلْزم عند خليج السويس الآن ﴿فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾ أي مروا على قوم يلازمون على عبادة أصنام لهم ﴿قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ أي اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم أصنام يعبدونها قال ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يُتقرب به إلى الله وإلا فبعيدٌ أن يقولوا لموسى اجعل لنا إلهاً نُفرده بالعبادة ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أي إِنكم قوم تجهلون عظمة الله وما يجب أن ينزّه عنه من
434
الشريك والنظير قال الزمخشري: تعجَّبَ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى، والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكّده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع ﴿إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أي هالك مدمَّر ما هم فيه من الدين الباطل وهو عبادة الأصنام ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي باطل عملهم مضمحلٌ بالكلية لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة ﴿قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾ أي أأطلب لكم معبوداً غير الله المستحق للعبادة والحال أنَّ الله فضَّلكم على غيركم بالنعم الجليلة! ﴿قال الطبري: فضلَّكم على عالمي دهركم وزمانكم {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب﴾ أي واذكروا يا بني إِسرائيل النعم التي سلفت مني إِليكم حين أنجيتكم من قوم فرعون يذيقونكم أفظع أنواع العذاب وأسوأه ثم فسره بقوله ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ﴾ أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث لامتهانهن في الخدمة ﴿وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ أي وفي هذا العذاب اختبار وابتلاء من الله لكم عظيم فنجاكم منه أفلا تشكرونه؟ ﴿وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ أي وعدنا موسى لمناجاتنا بعد مضي ثلاثين ليلة وأكملناها بعشر ليالٍ فتمت المناجاة بعد أربعين ليلة قال الزمخشري: روي أن موسى وعد بني إِسرائيل وهو بمصر إِن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمَّ الثلاثين أنكر خلوف فمه «تغير رائحته» فتسوّك فأوحى الله تعالى إِليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك} فأمره تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة ﴿وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي﴾ أي كن خليفتي فيهم إِلى أن أرجع ﴿وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين﴾ أي وأصلحّ أمرهم ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم لله ﴿وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ أي ولما جاء موسى للوقت الذي وعدناه فيه وناجاه ربه وكلمة من غير واسطة ﴿قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ أي أرني ذاتك المقدسة أنظر إِليها قال القرطبي: اشتاق إِلى رؤية ربه لما أسمعه كلامه فسأل النظر إِليه ﴿قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ أي أجابه ربه لن تستطيع رؤيتي في الدنيا فإن هذه البنية البشرية لا طاقة لها بذلك ولكنْ سأتجلّى لما هو أقوى منك وهو الجبل فإن ثبت الجبل مكانه ولم يتزلزل فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي وإِلاّ فلا طاقة لك ﴿فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً﴾ أي فلما ظهر من نور الله قدر نصف أنملة الخنصر أندك الجبل وتفتّت وسقط موسى مغشياً عليه من هول ما رأى قال ابن عباس: ما تجلّى منه سبحانه للجبل إِلا قدر الخنصر فصار تراباً وخرَّ موسى مغشياً عليه وفي الحديث: فساخ الجبل ﴿فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين﴾ أي فلما صحا من غشيته قال تنزيهاً لك يا رب وتبرئة أن يراك أحدٌ في الدنيا تبتُ إِليك من سؤالي رؤيتك في الدنيا وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك {قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى
435
الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} أي اخترتك على أهل زمانك بالرسالة الإِلهية وبتكليمي إِياك بدون واسطة ﴿فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ﴾ أي خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة ﴿وَكُنْ مِّنَ الشاكرين﴾ واشكر ربك على ما أعطاك من جلائل النعم قال أبو السعود: والآية مسوقة لتسليته عليه السلام من عدم الإِجابة إِلى سؤال الرؤية كأنه قيل: إِن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم أعط أحداً من العالمين فاغتنمها وثابرْ على شكرها ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي كتبنا له كل شيء كان أبو إِسرائيل محتاجين إِليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مبيّنة للحلال والحرام كلُّ ذلك في ألواح التوراة ﴿مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ أي ليتعظوا بها ويزد جروا وتفصيلاً لكل التكاليف الشرعية ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ أي خذ التوراة بجدٍّ واجتهادٍ شأن أولي العزم ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾ أي وأمر بني إِسرائيل بالحث على اختيار الأفضل كالأخذ بالعزائم دون الرخص فالعفو أفضل من القصاص، والصبر أفضل من الانتصار كما قال تعالى
﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] قال ابن عباس: أُمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أُمر به قومه ﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين﴾ أي سترون منازل الفاسقين - فرعون وقومه - كيف أقفرت منهم ودُمِّر لفسقهم لتعتبروا فلا تكونوا مثلهم، فإِن رؤيتها وهي خالية عن أهلها موجبة للاعتبار والانزجار ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي سأمنع المتكبرين عن فهم آياتي فلا يتفكرون) ولا يتدبرون بما فيها، وأطمس على قلوبهم عقوبةً لهم على تكبرهم قال الزمخشري: وفيه إِنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يُصرفون عن آيات الله لتكبرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا﴾ أي وإِن يشاهدوا كل آية قرآنية من الآيات المنزلة عليهم أو يرَوْا كل معجزة ربانية لا يصدقوا بها ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ أي وإِن يروا طريق الهدى والفلاح لا يسلكوه ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ أي وإِن يروا طريق الضلال والفساد سلكوه كقوله
﴿فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى﴾ [فصلت: ١٧] ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي ذلك الانحراف عن هَدْي الله وشرعه بسبب تكذيبهم بآيات الله ﴿وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ أي وغفلتهم عن الآيات التي بها سعادتهم حيث لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي جحدوا بما أنزل الله ﴿وَلِقَآءِ الآخرة﴾ أي وكذبوا بلقاء الله في الآخرة أي لم يؤمنوا بالبعث بعد الموت ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ أي بطلت أعمالهم الخيرية التي عملوها في الدنيا من إِحسانٍ وصلة رحم وصدقة وأمثالها وذهب ثوابها لعدم الإِيمان ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي هل يُثابون أو يعاقبون إِلما بما عملوا في الدنيا؟ ﴿واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ﴾ قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن ضلال من ضلَّ من بني إِسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامريُّ من الحليّ، فشكّل لهم منه عجلاً جداً لا روح فيه وقد احتال بإِدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خُوار أي صوتٌ كصوت البقر ومعنى ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد ذهاب موسى إِلى الطور لمناجاة ربه ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾ الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً مع أنه ليس فيه شيء
436
من صفات الخالق الرازق، فإنه لا يملك قدرة الكلام ولا قدرة هدايتهم إِلى سبيل السعادة فكيف يتخذ إِلهاً؟ ﴿اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ أي عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً فكانوا ظالمين لأنفسهم حيث وضعوا الأشياء في غير موضعها، وتكرير لفظ ﴿اتخذوه﴾ لمزيد التشنيع عليهم ﴿وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ﴾ أي ندموا على جنايتهم واشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل ﴿وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ﴾ أي تبينوا ضلالهم تبيناً جلياً كأنهم أبصروه بعيونهم ﴿قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا﴾ أي لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ أي لتكوننَّ من الهالكين قال ابن كثير: وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم والتجاءٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة﴾ بين لفظ الحسنة والسيئة طباقً كما أن بين لفظ ﴿طَائِرُهُمْ﴾ و ﴿يَطَّيَّرُواْ﴾ جناس الاشتقاق وكلاهما من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ﴾ عدل عن الماضي إِلى المضارع لاستحضار الصورة في ذهن المخاطب ومثله ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ﴾ والأصل ما صنعوا وما عرشوا.
٣ - ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ أتى بلفظ تجهلون ولم يقل: جهلتم إِشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماضٍ ولا مستقبل.
٤ - ﴿سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين﴾ فيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب للمبالغة في الحض على نهج سبيل الصالحين، والأصل أن يقال: سأريهم.
٥ - ﴿وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ﴾ هذا من باب الكناية فهو كناية عن شدة الندم لأن النادم يعض على يده غماً.
٦ - بين لفظ ﴿مَشَارِقَ﴾ و ﴿مَغَارِبَ﴾ طباقٌ.
تنبيه: مذهب أهل السنة قاطبة على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة وأنكرت المعتزلة ذلك واستدلوا بالآية الكريمة ﴿لَن تَرَانِي﴾ وليس لهم في هذه الآية متمسك بل هي دليلٌ لأهل السنة والجماعة على إمكان الرؤية، لأنها لو كانت مُحالاً لم يسألها موسى فإِن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل، ولو كانت الرؤية مستحيلة لكان في الجواب زجرٌ وإِغلاظ كما قال تعالى لنوح ﴿فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾ [هود: ٤٦] فهذا المنع من رؤية الله إِنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك قال مجاهد: إِن الله قال لموسى: لن تراني، لأنك لا تطيق ذلك ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد، فإِن استقرو أطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإِن لم يُطق الجبل فأحرى ألاّ تطيق أنت فعلى هذا جعل الله الجبل مثالاً لموسى ولم يجعل الرؤية مستحيلة على الإِطلاق، وقد صرح بوقوع الرؤية في الآخرة كتابُ الله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] فلا ينكرها إلا مبتدع.
َفَائِدَة: لما سمع الكليم موسى كلام الله اشتاق إِلى رؤيته، لأن التلذذ بسماع كلام الحبيب يزيد
437
في الشوق إِليه والحنين وقد أحسن من قال:
وأفرحُ ما يكونُ الشوقُ يوماً إِذا دنتِ الدّيارُ من الديار
لطيفَة: السعادة والشقاوة بيد الله فموسى بن عمران ربّاه فرعون فكان مؤمناً، وموسى السامري ربّاه جبريل وكان كافراً، فلم تنفع تربية الأمين لموسى السامري، ولم تضر تربية اللعين لموسى الكليم عليه السلام، وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى:
438
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى عليه السلام مع بني إِسرائيل - وما أغدق الله عليهم من النعم، وما قابلوها به من الجحود والعصيان، وقد ذكرت الآيات قصة ﴿أَصْحَابَ القرية﴾ [يس: ١٣] واعتداءهم يوم السبت بالاصطياد فيه وكيف أن الله تعالى مسخهم قردة، وفي ذكل عبرة للمعتبرين.
اللغَة: ﴿أَسِفاً﴾ الأسف: شهدة الحزن أو الغضب يقال هو أسِفٌ وأسيف ﴿ابن أُمَّ﴾ أصلها ابن أمي وهي استعطاف ولين ﴿تُشْمِتْ﴾ الشماتة: السرور بما يصيب الإنسان من مكروه وفي الحديث «وأعوذ بك ن شماتة الأعدء» ; لرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة ﴿هُدْنَآ﴾ تبنا يقال: هاد يهودُ إِذا تاب ورجع فهو هائد قال الشاعر: إني امرؤٌ مما جنيتُ هائد ﴿إِصْرَهُمْ﴾ التكاليف الشاقة وأصل الإِصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحِرَاك ﴿الأغلال﴾ جمع غُل وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد ﴿عَزَّرُوهُ﴾ وقّروه ونصروه ﴿أَسْبَاطاً﴾ جمع سبط وهو ولد الولد أو ولد البنت ثم أطلق على كل قبيلة من بني إِسرائيل ﴿تَأَذَّنَ﴾ آذن من الإِيذانُ بمعنى الإِعلام ﴿يَسُومُهُمْ﴾ يذيقهم ﴿خَلَفَ﴾ بسكون اللام من يخلف غيره بالسوء والشر وأمّا بفتح اللام فهو يخلف غيره بالخير ومنه قولهم: «جعلك الله خير خلف لخير سلف»
التفِسير: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾ أي ولما رجع وسى من المناجاة ﴿غَضْبَانَ﴾ مما فعلوه من عبادة العجل ﴿أَسِفاً﴾ أي شديد الحزن ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي﴾
439
أي بئس ما فعلتموه بعد غيبتي حيث عبدتم العجل ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ أي أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور؟ والاستفهام للإِنكار ﴿وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾ أي طرح الألواح لما عراه من شدة الغضب، وفرط الضجر غضباً لله من عبادة العجل، وأخذ بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه ظناً منه أنه قصَّر في كفهم عن ذلك وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه قال ابن عباس: لّما عاين قومه وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها غضباً لله وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴿قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي﴾ أي قال هارون يا ابن أمي - وهو نداء استعطاف وترفق - إن القوم استذلوني وقهروني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك فأنا لم أقصر في نصحهم ﴿فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين﴾ أي لا تُسئْ إليَّ حتى يُسرَّ الأعداء بي ويشمتوا بإهانتك إليَّ ولا تجعلني في عداد الظالمين بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير قال مجاهد: ﴿الظالمين﴾ أي الذين عبدوا العجل ﴿قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين﴾ لما تحقق لموسى براءة ساحة هارون عليه السلام من التقصير طلب عند ذلك المغفرة له ولأخيه فقال ﴿اغفر لِي وَلأَخِي﴾ الآية قال الزمخشري: استغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه مما عسى أن يكون فرط منه في حين الخلافة، وطلب ألاّ يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا﴾ أي إن الذين عبدوا العجل - ذكر البقر - واتخذوه إلهاً سيصيبهم غضب شديد من الرحمن، وينالهم في الدنيا الذل والهوان قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتلَ بعضُهم بعضاً، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصَغَاراً في الحياة الدنيا ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين﴾ أي كما جازينا هؤلاء بإِحلال الغضب والإِذلال كذلك نجزي كل من افترى الكذب على الله قال سفيان بن عُيينة: كلُّ صاحب بدعة ذليل ﴿والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا﴾ أي عملوا القبائح والمعاصي ثم تابوا ورجعوا إلى الله من بعد اقترافها وداموا على إيمانهم وأخلصوا فيه ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي إنَّ ربك يا محمد من بعد تلك التوبة لغفور لذنوبهم رحيم بهم قال الألوسي: وفي الآية إعلامٌ بأنَّ الذنوب وإن جلّتْ وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجلُّ، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:
إِذا المرءُ لم يُخْلَقْ سعيداً من الأزَل فقدْ خابَ من ربَّى وخابَ المُؤمَّلُ
فموسى الّذي ربّاهُ جبريلُ كافرٌ وموسًى الذي ربّاه فِرْعونُ مُرْسَل
يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كانَ لا يَرْجوكَ إلا محسنٌ فبمنْ يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ
﴿وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب﴾ أي سكن غضب موسى على أخيه وقومه ﴿أَخَذَ الألواح﴾ أي ألواح التوراة التي كان ألقاها ﴿وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ أي وفيما نُسخ فيها وكُتب هداية للحق
440
ورحمة للخلق بإرشادهم إلى ما فيه سعادة الدارين ﴿لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ أي هذه الرحمة للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه ﴿واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾ أي اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل للوقت الذي وعده ربه الإِتيان للاعتذار عن عبادة العجل ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة﴾ أي فلما رجف بهم الجبل وصعقوا ﴿قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ أي قال موسى على وجه التضرع والإِستسلام لأمر الله: لو شئت يا ربِّ أن تهلكنا قبل ذلك لفعلتَ فإِنَّ عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ﴾ ؟ أي أتهلكنا وسائر بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء السبعون في قولهم: ﴿أَرِنَا الله جَهْرَةً﴾ [النساء: ١٥٣] ؟ والاستفهام استفهام استعطاف وتذلل فكأنه يقول: لا تعذبنا يا ألله بذنوب غيرنا قال الطبري في رواية السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإِنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم لو شيئت أهلكتَهم من قبل وإياي «أقول: إذا كان هذا قول الأخيار من بني إسرائيل فكيف حال الأشرار منهم؟ نعوذ بالله من خبق اليهود ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ أي ما هذه الفتنة التي حدثت لهم إلا محنتك وابتلاؤك تمتحن بها عبادك ﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ﴾ أي تضل بهذه المحمة من تشاء إضلاله وتهدي من تشاء هدايته ﴿أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا﴾ أي أنت يا رب متولي أمورنا وناصرنا وحافظنا فاغفر لنا ما قارفناه من المعاصي وارحمنا برحمتك الواسعة الشاملة ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ أي أنت خير من صفح وستر، تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة ﴿واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة﴾ هذا من جملة دعاء موسى عليه السلام أي حقّقْ وأثبتْ لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ أي تبنا ورجعنا إليك من جميع ذنوبنا ﴿قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي قال تعالى أما عذابي فأصيب به من أشاء من عبادي وأما رحمتي فقد عمَّتْ خلقي كهلم قال أبو السعود: وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصبغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمة مقتضى الذات، وأما العذاب فبمقتضى معاصي العباد ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي سأجعل هذه الرحمة خاصة في الآخرة بالذين يتقون الكفر والمعاصي ويعطون زكاة أموالهم ويصدّقون بجميع الكتب والأنبياء ﴿الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي﴾ أي هؤلاء الذين تنالهم الرحمة هم الذين يتبعون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ النبيَّ العربي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب قال البيضاوي: وإنما سمّاه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى، ونبياً بالإضافة إلى العباد ﴿الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل﴾ أي الذي يجدون نعته وصفته في التوراة والإِنجيل قال ابن كثير: هذه صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتب الأنبياء، بشروا أممهم
441
ببعثته وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ﴿يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر﴾ أي لا يأمر إلا بكل شيء مستحسن ولا ينهي إلا عن كل شيء قبيح ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ أي يحل لهم ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة بشؤم ظلمهم ويُحرّم عليهم ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب والقصاص من القاتل عمداً كان القتل أو خطأً وشبه ذلك ﴿فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾ أي فالذين صدقوا بمحمد وعظّموه ووقّره ونصروا دينه ﴿واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ﴾ أي واتبعوا قرآنه المنير وشرعه المجيد ﴿أولئك هُمُ المفلحون﴾ أي هم الفائزون بالسعادة السرمدية ﴿قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ هذا بيان لعموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجميع الخلق أي قل يا محمد للناس إني رسولٌ من عند الله إلى جميع أهل الأرض ﴿الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي المالك لجميع الكائنات ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي لا ربَّ ولا معبود سواه فهو الإِله القادر على الإِحياء والإِفناء ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي صدّقوا بآيات الله وصدقوا برسوله المبعوث إلى جميع خلقه ﴿النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ﴾ أي آمنوا بالنبي الأمي صاحب المعجزات الذي لا يقرأ ولا يكتب المصدق بالكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء ﴿واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ أي اسلكوا طريقة واقتفوا أثره رجاء اهتدائهم إلى المطلوب ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ أي ومن بنى إسرائيل جماعة مستقيمون على شريعة الله يهدون الناس بكلمة الحق لا يجورون قال الزمخشري: لما ذكر تعالى الذين تزلزلوا منهم من الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل، وطلب رؤية الله، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم ويرشدونهم على الاستقامة ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً﴾ أي وفرقنا بني إسرائيل فجعلناهم قبائل شتّى اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من أولاد يعقوب قال أبو حيان: أي فرقناهم وميّزناهم أسباطاً ليرجع أمر كل سبط أي» قبيلة «إلى رئيسة ليخفَّ أمرهم على موسى لئلا يتحاسدوا فيقع الهرج، ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء، وجعل لكل سبطٍ نقيباً ليرجعوا في أمورهم إليه ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ﴾ أي حين استولى عليهم العطش في التيه ﴿أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر﴾ أي أوحينا إليه أن يضرب الحجر بعصاه فضربه ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ أي انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد الأسباط ﴿فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ أي قد عرف كل سبطٍ وجماعة منهم عينهم الخاصة بهم قال الطبري: لا يدخل سبطٌ على غيره في شربه ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام﴾ أي جعلنا الغمام يكنّهم من حر الشمس ويقيهم من أذاها قال الألوسي: وكان الظلُّ يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى﴾ أي وأكرمناهم بطعام شهي هو ﴿المن﴾ وهي شيء حلوٌ ينزل على الشجر
442
يجمعونه ويأكلونه و ﴿والسلوى﴾ وهو طائر لذيذ اللحم يسمى السُمَّاني كلُّ ذلك من إفضال الله وإنعامه عليهم دون جهدٍ منهم ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي وقلنا لهم كلوا من هذا الشيء الطيب اللذيذ الذي رزقناكم إياه ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ في الكلام محذوف تقديره: فكفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك ولكنْ ظلموا أنفسهم حيث عرّضوها بالكفر لعذاب الله ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ أي واذكر لهم حين قلنا لأسلافهم اسكنوا بيت المقدس وكلوا من مطاعمها وثمارها من أي جهة ومن أي مكان شتئم منها ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ أي وقولوا حين دخولكم: يا ألله حُطَّ عنا ذنوبنا ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم﴾ أي نمح عنكم جميع الذنوب التي سلفت منكم ﴿سَنَزِيدُ المحسنين﴾ أي وسنزيد من أحسن عمله بامتثال أمر الله وطاعته فوقَ الغفران دخولَ الجنان ﴿فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ﴾ أي غيَّر الظالمون منهم أمر الله بقولهم كلاماً لا يليق حيث قالوا بدل ﴿حِطَّةٌ﴾ حنظة في شعيرة وبدل أن يدخلوا ساجدين خشوعاً لله دخلوا يزحفون على أستاهم،» أدبارهم «سخرية واستهزاء بأوامر الله ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ أي فأرسلنا عليهم عذاباً من السماء بسبب ظلمهم وعدوانهم المستمر سابقاً ولاحقاً قال أبو السعود: والمراد بالعذاب» الطاعون «روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر﴾ أي واسأل يا محمد اليهود عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه ماذا حلَّ بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت؟ ألم يمسخهم الله قردة وخنازير؟ قال ابن كثير: وهذه القرية هي (أيلة) وهي على شاطئ بحر القلزم ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت﴾ أي يتجاوزون حدّ الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً﴾ أي حين كانت الحيتان» الأسماك «تأتيهم يوم السبت - وقد حُرّم عليهم الصيدُ فيه - كثيرةً ظاهرةً على وجه الماء ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ أي وفي غير يوم السبت وهي سائر الأيام لا تأتيهم بل تغيب عنهم وتختفي ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ أي مثل ذلك البلاء العجيب نختبرهم ونمتحنهم بإظهار السمك لهم على وجه الماء في اليوم المحرَّم عليهم صيده وإخفائها عنهم في اليوم الحلال بسبب فسقهم وانتهاكهم حرمات الله قال القرطبي: روي أنها كانت في زمن داود عليه السلام وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نُهيتُم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض فكانوا يسوقوا الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد ويحتالون في صيدها ﴿وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ قال ابن كثير: يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحظور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة ﴿تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾ أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة
443
من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ ﴿قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ أي قال الناهون: إنما نعظهم لنعذر عند الله بقيامنا بواجب النصح والتذكير ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي ينزعون عمَّاهم فيه من الإِجرام قال الطبري: أي لعلهم أن يتقوا الله فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إيّاه وتعدّيهم الاعتداء في السبت ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي فلما تركوا ما ذكّرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عن قبول النصيحة إعراضاً كلياً ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء﴾ أي نجينا الناهين عن الفساد في الأرض ﴿وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ أي وأخذنا الظالمين العصاة بعذابٍ شديد وهم الذين ارتكبوا المنكر ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ أي بسبب فسقهم وعصيانهم لأمر الله ﴿فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ﴾ أي فلما استعصوا وتكبروا عن ترك ما نهو عنه ﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ أي مسخناهم إلى قردة الخنازير، والمعنى أنهم عُذبوا أولاً بعذاب شديد فلما لم يرتدعوا وتمادوا في الطغيان مسخوا قردة وخنازير، والحاصل أن أصحاب القرية انقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ عصتْ فحلَّ بها العذاب، وفرقة نهت ووعظت فنجاها الله من العذاب، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تُقارف المعصية وقد سكت عنها القرآن قال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة أنجوا أم هلكوا؟ قال عكرمة: فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا لأنهم كرهوا ما فعله أولئك، فكساني حلة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب﴾ أي واذكر يا محمد حين أعلم ربك ليسلطنَّ على اليهود إلى قيام الساعة من يذيقهم أسوأ العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله واحتيالهم على المحارم، وقد سلّط الله عليهم بختنصّر فقتلهم وسباهم، وسلّط عليهم النصارى فأذلوهم وضربوا عليهم الجزية، وسلَّط عليهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فطهَّر الأرض من رجسهم وأجلاهم عن الجزيرة العربية، وسلّط عليهم أخيراً» هتلر «فاستباح حماهم وكاد أن يبيدهم ويفنيهم بالقتل والتشريد في الأرض، ولا يزال وعد الله بتسليط العذاب عليهم سارياً إلى أن يقتلهم المسلمون في المعركة الفاصلة إن شاء الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي سريع العقاب لمن عصاه وغفورٌ رحيم لمن أطاعه ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً﴾ أي فرّقناهم في البلاد طوائف وفرقاً ففي كل بلدة فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه حتى لا تكون لهم شركة، وما اجتمعوا في الأرض المقدسة في هذه الأيام إلا ليذبحوا بأيدي المؤمنين إن شاء الله كما وعد بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال:
«لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود..»
الحديث أخرجه مسلم ثم بيّن تعالى أنهم ليسوا جميعاً فجاراً بل فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال ﴿مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك﴾ أي منهم من آمن وهم قلة قليلة ومنهم من انحطّ عن درجة الصلاح بالكفر والفسوق وهم الكثرة الغالبة ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي اختبرناهم بالنعم والنقم والشدة والرخاء لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب﴾ قال ابن كثير: أي خلف من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح خلْفٌ آخر لا خير فيهم ورثوا الكتاب
444
وهو التوراة عن آبائهم ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ أي يأخذون ذلك الشيء الدنيء من حطام الدنيا من حلال وحرامٍ ويقولون متجحين: سيغفر الله لنا ما فعلناه، وهذا اغترار منهم وكذب على الله ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ أي يرجون المغفرة وهم مصرّون على الذنب كلما لاح لهم شيء من حطام الدنيا أخذوه لا يُبالون من حلالٍ كان أو حرام ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يؤخذ عليهم العهد المؤكد في التوراة أن يقولوا الحق ولا يكذبوا على الله؟ فكيف يزعمون أنه سيغفر لهم مع إصرارهم على المعاصي وأكل الحرام؟ ﴿وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ﴾ في هذا أعظم التوبيخ لهم أي والحال أنهم درسوا ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله ﴿والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أي والآخرة خير للذين يتقون الله بترك الحرام ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ الاستفهام للإِنكار أي فلا ينزجرون ويعقلون؟ والمراد أنهم لو كانوا عقلاء لما آثروا الفانية على الباقية ﴿والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي يتمسكون في أمور دينهم بما أنزله الله ويحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين﴾ أي لا نضيع أجرهم بل نجزيهم على تمسكهم وصلاحهم أفضل وأكرم الجزاء.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب﴾ شبّه الغضب بإِنسان يرعد ويزبد ويزمجر بصوته آمراً بالانتقام ثم اختفى هذا الصوت وسكت، ففي الكلام «استعارة مكنية» ويا له من تصوير لطيف يستشعر جماله كل ذي طبع سليم وذوقٍ صحيح.
٢ - بين لفظ «تضل» و «تهدي» طباقٌ وكذلك بين لفظ «يحيي» و «يميت».
٣ - ﴿يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة، وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب.
٤ - ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال﴾ استعار الإِصر والأغلال للأحكام والتكاليف الشاقة.
٥ - ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ التفات من الغيبة إلى الخطاب زيادة في التوبيخ والتأنيب.
فَائِدَة: الخَلَف بفتح اللام من يخلف غيره بالخير، والخَلْف بسكون اللام من يخلف غيره في الشر ومنه قوله تعالى ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً﴾ [مريم: ٥٩] وهذه الآية ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب﴾ والله أعلم.
445
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن بني إسرائيل عصيانهم وتمردهم على أوامر الله، حكى هنا ما عاقبهم به من اقتلاع جبل الطور وسحقهم به إن لم يعملوا بأحكام التوراة، ثم ذكر تعالى مثلاً لعلماء السَّوْء في قصة الذي انسلخ عن آيات الله طمعاً في حطام الدنيا وضرب له مثلاً بالكلب اللاهث في حالتَيْ التعب والراحة، وكفى به تصويراً لنفسية اليهود في تكلالبهم على الدنيا وعبادتهم للمال.
اللغَة: ﴿نَتَقْنَا﴾ النتق: الجذب بقوة قال أبو عبيدة: أصل النتق قلعُ الشيء من موضعه والرمي به ﴿ظُلَّةٌ﴾ الظلةُ: كل ما أظلّك من سقفٍ أو سحابةٍ أو جناح حائط والجمع ظُلُلً وظِلاَل ﴿وظنوا﴾ علموا أو أيقنوا ﴿انسلخ﴾ الانسلاخُ: الخروجُ يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه وانسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه ﴿أَخْلَدَ﴾ مال إلى الشيء وركن إليه وأصله اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإِقامة به ومنه الخلود في الجنة ﴿يَلْهَث﴾ قال الجوهري: لهثَ الكلبُ يَلْهَثُ إذا أخرج لسانه من التعب أو العطشِ ﴿ذَرَأْنَا﴾ خلقنا ﴿يُلْحِدُونَ﴾ الإِلحاد: الميلُ عن القصد والاستقامة يقال ألحد في الدين ولحد فهو ملحد لانحرافه عن تعاليم الدين.
التفسِير ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ﴾ أي اذكر حين اقتلعنا جبل الطور ورفعناه فوق رءوس بني إسرائيل ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ أي كأنه سقيفة أو ظلة غمام ﴿وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ﴾ أي أيقنوا أنه ساقط عليهم إن
446
لم يمثتلوا الأمر قال المفسرون: روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رءوسهم وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعنَّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرَّ كل واحد منهم ساجداً خوفاً من سقوطه ثم قال تعالى ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ أي وقلنا لهم خذوا التوراة بجد وعزيمة ﴿واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي اذكروا ما فيه بالعمل واعملوا به لتكونوا في سلك المتقين ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ قال الطبري: أي واذكر يا محمد إذْ استخرج ربك أولاد آدم من أصلاب آبائهم فقرّرهم بتوحيده وأشهد بعضَهم على بعض بذلك قال ابن عباس: مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. ﴿وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ﴾ أي وقرّرهم على ربوبيته ووحدانيته فأقروا بذلك والتزموا ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ﴾ أي لئلا تقولوا يوم الحساب إنا كنا عن هذا الميثاق والإِقرار بالربوبية غافلين لم ننبه عليه ﴿أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾ أي ولكيلا تقولوا يوم القيامة أيضاً نحن ما أشركنا وإنما قلدنا آباءنا واتبعنا منهاجهم فنحن معذورون ﴿أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون﴾ أي أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا المضلّين بعد اتباعنا منهاجهم على جهلٍ منا بالحق؟ ﴿وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي وكما بينا الميثاق نبيّن الآيات ليتدبرها الناس وليرجعوا عما هم عليه من الإِصرار على الباطل وتقليد الآباء ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ﴾ أي واتقل يا محمد على اليهود خبر وقصة ذلك العالم الذي علمناه علم بعض كتب الله فانسلخ من الآيات كما تنسلخ الحية من جلدها بأن كفر بها وأعرض عنها ﴿مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين﴾ أي فلحقه الشيطان واستحوذ عليه حتى جعله في زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين قال ابن عباس: هو «بلعم بن باعوراء» كان عنده اسم الله الأعظم وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك «مَدْيَنَ» داعياً إلى الله فرشاه الملك وأعطاه المُلْك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ﴾ أي لو شئنا لرفعناه إلى منزل العلماء الأبرار ولكنه مال إلى الدنيا وسكن إليها وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة واتبع ما تهواه نفسه فانحط أسفل سافلين ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ أي فمثله في الخسة والدناءة كمثل الكلب إن طردته وزجرته فسعى لَهَث، وإن تركته على حاله لَهَث، وهو تمثيل بادي الروعة ظاهر البلاغة ﴿ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي هذا المثل السيء هو مثلٌ لكل من كذّب بآيات الله، وفيه
447
تعريضٌ باليهود فقد أوتوا التوراة وعرفوا صفة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة ﴿فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي اقصص على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون ﴿سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ أي بئس مثلاً مثلُ القوم المكذبين بآيات الله ﴿وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾ أي وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتعداها ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي من هداه الله فهو السعيد الموفق، ومن أضله فهو الخائب الخاسر لا محالة، والغرضُ من الآية بيان أن الهداية والإضلال بيد الله ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس﴾ أي خلقنا لجهنم ليكونوا حطباً لها خلقاً كثيراً كائناً من الجن والإِنس، والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ أي لهم قلوب لا يفهمون بها الحق ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾ أي لا يبصرون بها دلائل قدرة الله بصر اعتبار ﴿وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ﴾ أي لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاذ، وليس المراد نفي السمع والبصر بالكلية وإنما المراد نفيها عما ينفعها في الدين ﴿أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ أي هم كالحيوانات في عدم الفقه والبصر والاستماع هم أسوأ حالاً من الحيوانات فإنها تدرك منافعها ومضارها وهؤلاء لا يميزون بين المنافع والمضار ولهذا يُقْدمون على النار ﴿أولئك هُمُ الغافلون﴾ أي الغارقون في الغفلة ﴿وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا﴾ أي لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لإِنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فسمّوه بتلك الأسماء ﴿وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ﴾ أي اتركوا الذين يميلون في أسمائه تعالى عن الحق كما فعل المشركون حيث اشتقوا لآلهتهم أسماء منها كاللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنّان ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي سينالون جزاء ما عملوا في الآخرة ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ أي ومن بعض الأمم التي خلقنا أمة مستمسكة بشرع الله قولاً وعملاً يدعون الناس إلى الحق وبه يعملون ويقضون قال ابن كثير: والمراد في الآية هذه الأمة المحمدية لحديث
«لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خَالفَهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وهذه الطائفة لا تختص بزمان دون زمان بل هم في كل زمان وفي كل مكان، فالإِسلام دائماً يعلو ولا يُعلى عليه وإن كثر الفُسَّاق وأهل الشر فلا عبرة فيهم ولا صَوْلة لهم، وفي الحديث بشارة عظيمة لهذه الأمة المحمدية بأن الإِسلام في علوّ شرف وأهله كذلك إلى قرب الساعة ﴿والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي والذين كذبوا بالقرآن من أهل مكة وغيرهم سنأخذهم قليلاً وندنيهم من الهلاك نم حيث لا يشعرون قال البيضاوي: وذلك بأن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغيِّ حتى تحق عليهم كلمة العذاب ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾ أي وأمهلهم ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر كما في الحديث الشريف «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ أي أخذي وعقابي قوي شديد وإنما سمّاه كيداً لأن ظاهره إحسانٌ وباطنه خذلان ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ﴾ أي أولم يتفكر هؤلاء المكذبون
448
بآيات الله فيعلموا أنه ليس بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جنون بل هو رسول الله حقاً أرسله الله لهدايتهم، وهذا نفيٌ لما نسبه له المشركون من الجنون في قولهم ﴿ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦] ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ليس محمد إلا رسول منذر أمره بيّن واضح لمن كان له لبُّ أو قلبٌ يعقل به ويعي ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض﴾ أي أولم ينظروا نظر استدلال في ملك الله الواسع مما يدل على عظم الملك وكمال القدرة، والاستفهام للإِنكار والتعجب والتوبيخ ﴿وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ﴾ أي وفي جميع مخلوقات الله الجليل فيها والدقيق فيستدلوا بذلك على كمال قدررة صانعها وعظم شأن مالكها ووحدة خالقها ومبدعها؟ ﴿وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ﴾ أي وأن يتفكروا لعلهم يموتون عن قريب فينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر والتدبر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أي فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في الظهور والبيان ﴿مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾ أي من كتب الله عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ﴿وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ويتركهم في كفرهم وتمردهم يترددون ويتحيرون.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ فيه التفات من المتكلم إلى المخاطب والأصلُ وإذْ أخذنا والنكتة في ذلك تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب له، ولا يخفى أيضاً ما في الإِضافة إلى ضميره عليه السلام ﴿رَبُّكَ﴾ من التكريم والتشريف، وفي الآية البيانُ بعد الإِبهام والتفصيل بعد الإِجمال ﴿فانسلخ مِنْهَا﴾ أي خرج منها بالكلية انسلاخ الجلد من الشاة قال أبو السعود: التعبير عن الخروج منها بالانسلاخ للإيذان بكمال مباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمال الاتصال ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾ فيه تشبيه تمثيلي أي حاله التي هي مثلٌ في السوء كحال أخسّ الحيوانات وأسفلها وهي حالة الكلب في دوام لهثه في حالتي التعب والراحة فالصورة منتزعة من متعدد ولهذا يسمى التشبيه التمثيلي ﴿أولئك كالأنعام﴾ التشبيه هنا مرسل مجمل.
فَائِدَة: روي عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى﴾ أنه قال: لو قالوا نعم لكفروا، ووجهه أن «نَعَمْ» تصديقٌ للمخبر بنفيٍ أو إيجاب فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب وتختص بالنفي وتفيد إبطاله بلى أنت ربنا ولو قالوا نعم لصار المعنى نعم لستَ ربنا فهذا وجه قول ابن عباس فتنبه له فإنه دقيق.
تنبيه: في الحديث الشريف «إنّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» رواه الترمذي قال العلماء: معناه من حفظها وتفكر في مدلولها دخل الجنة وليس المراد حصر أسمائه تعالى في هذه التسعة والتسعين بدليل ما جاء في الحديث الآخر «اسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر ابن العربي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم.
449
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى موقف المستهزئين من دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر هنا طرفاً من عنادهم واستهزائهم بسؤالهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن وقت قيام الساعة، ثم ذكر الحجج والبراهين على بطلان عقيدة المشركين في عبادة الأوثان والأصنام، وختم السورة الكريمة ببيان عظمة شأن القرآن ووجوب الاستماع والإِنصات عند تلاوته.
اللغَة: ﴿مُرْسَاهَا﴾ استقرارها وحصولها من أرساه إذا أثبته وأقره ومنه رست السفينة إذا ثبتت ووقفت ﴿يُجَلِّيهَا﴾ يظهرها: والتجلية: الكشفُ والإِظهار ﴿حَفِيٌّ﴾ الحفيُّ: المستقصي للشيء المعتني بأمره قال الأعشى:
450
فإن تسألي عنّي فيا ربَّ سائلٍ حفيٍّ عن الأعشى به حيث أصْعَدا
والإِحفاء الاستقصاء ومنه إحفاء الشوارب وحفي عن الشيء إذا بحث للتعرف عن حاله ﴿العرف﴾ المعروف وهو كل خصلة حميدة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس ﴿الآصال﴾ جمع أصيل قال الجوهري: والأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب.
سَبَبُ النّزول: روي أن المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن كنتَ نبياً فأخبرنا عن الساعة متى تقوم؟ فأنزل الله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾.
التفسِير: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة﴾ أي يسألونك يا محمد عن القيامة ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أي متى وقوعها وحدوثها؟ وسميت القيامة ساعة لسرعة ما فيها من الحساب كقوله ﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ [النحل: ٧٧] ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ أي قل لهم يا محمد لا يعلم الوقت الذي يحصل قيام القيامة فيه إلا الله سبحانه ثم أكَّد ذلك بقوله ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا يكشف أمرها ولا يظهرها للناس إلا الرب سبحانه بالذات هو العالم بوقتها ﴿ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض﴾ أي عظًمت على أهل السماوات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها وأهوالها ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ أي يسألونك يا محمد عن وقتها كأنك كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله﴾ أي لا يعلم وقتها إلا الله لأنها من الأمور الغيبية التي استأثر بها علاّم الغيوب ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أُخفْيتْ قال الإِمام الفخر: والحكمة في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذرٍ منها فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيراً ولا أدفع عنها شراً إلا بمشيئته تعالى فكيف أملك علم الساعة؟ ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير﴾ أي لو كنت أعرف أمور الغيب لحصّلت كثيراً من منافع الدنيا وخيراتها ودفعت عني آفاتها ومضراتها ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السواء﴾ أي لو كنت أعلم الغيب لاحترست من السوء ولكنْ لا أعلمه فلهذا يصيبني ما قُدَّر لي من الخير والشر ﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ أي ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة ﴿لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لقوم يصدقون بما جئتهم به من عند الله ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعاً وحده من غير معين من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي وخلق منها حواء ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ أي ليطمئن إليها ويستأنس بها ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً﴾ أي فلما جامعها حملت بالجنين حملاً خفيفاً دون إزعاج لكونه نطفةً في بادئ الأمر قال أبو السعود: فإنه عند كونه نطفة أو علقة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب، والتعرضُ لذكر خفته للإِشارة إلى
451
نعمته تعالى عليهم في إنشائه إياهم متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾ أي استمرت به إلى حين ميلاده ﴿فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ﴾ أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبر الحمل في بطنها ﴿دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا﴾ أي دعوا الله مربيهما ومالك أمرهما ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ أي لئن رزقتنا ولداً صالحاً سويَّ الخِلْقة لنشكرنَّك على نعمائك ﴿فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً﴾ أي فلما وهبهما الولد الصالح السويّ ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا﴾ أي جعل هؤلاء الأولاد والذرية شركاء مع الله فعبدوا الأوثان والأصنام ﴿فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزّه وتقدّس الله عما ينسبه إليه المشركون ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً﴾ الاستفهام للتوبيخ أي أيشركون مع الله ما لا يقدر على خلق شيء أصلاً ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ أي والحال أن تلك الأوثان والآلهة مخلوقة فكيف يعبدونها مع الله؟ قال القرطبي: وجمع الضمير بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع فأجريت مجرى الناس ﴿وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً﴾ أي لا يستطيع هذه الأصنام نصر عابديها ﴿وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ﴾ أي ولا ينصرون أنفسهم ممن أرادهم بسوء، فهم في غاية العجز والذلة فكيف يكونون آلهة؟ ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾ أي أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى خير أو رشاد لأنها جمادات ﴿سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون﴾ أي يتساوى في عدم الإِفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم قال ابن كثير: يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها كما قال إبراهيم
﴿ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً﴾ [مريم: ٤٢] ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مخلوقون مثلكم بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش وتلك لا تفعل شيئاص من ذلك فلهذا قال ﴿فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أمرٌ على جهة التعجيز والتبكيت أي أدعوهم في جلب نفع أو دفع ضرٍّ إن كنتم صادقين في دعوى أنها آلهة {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
452
يَمْشُونَ بِهَآ} توبيخ إثر توبيخ وكذلك ما عبده من الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هل لهذه الأصنام ﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ﴾ أي أم هل لهم أيدٍ تفتك وتبطش بمن أرادها بسوء؟ ﴿أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ﴾ أي أم هل لهم أعينٌ تبصر بها الأشياء؟ ﴿أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ أي أم هل لهم أذان تسمع بها الأصوات؟ والغرض بيان جهلهم وتسفيه عقولهم في عبادة جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابدها شيئاً لأنها فقدت الحواس وفاقد الشيء لا يعطيه، والإِنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام لوجود العقل والحواس فيه فكيف يليق بالأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخسّ الأدون الذي لا يحسُّ منه فائدة أبداً لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرّة؟! ﴿قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد أدعوا أصنامكم واستنصروا واستعينوا بها عليَّ ﴿ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ﴾ أي ابذلوا جهدكم أنتم وهم في الكيد لي وإلحاق الأذى والمضرة بي ولا تمهلون طرفة عين، فإني لا أبالي بكم لاعتمادي على الله قال الحسن: خوفوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بآلهتهم فأمره تعالى أن يجابههم بذلك ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب﴾ أي إنَّ الذي يتولى نصري وحفظي هو الله الذي نزَّل عليَّ القرآن ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين﴾ أي هو جل وعلا يتولى عباده الصالحين بالحفظ والتأييد، وهو وليهم في الدنيا والآخرة ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ كرّره ليبيّن أن ما يعبدونه لا نفع ولا يضر ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ﴾ أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى الهداية والرشاد لا يسمعوا دعاءكم فضلاً عن المساعدة والإِمداد ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ أي وتراهم يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد لا تبصر لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئاً ﴿خُذِ العفو﴾ أمرٌ له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بمكارم الأخلاق أي خذ بالسهل اليسير في معاملة الناس ومعاشرتهم قال ابن كثير: وهذا أشهر الأقوال ويشهد له قول جبريل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«إن الله يأمركَ أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» ﴿وَأْمُرْ بالعرف﴾ أي بالمعروف والجميل المستحسن من الأقوال والأفعال ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين﴾ أي لا تقابل السفهاء بمثل سفههم بل احلم عليهم قال القرطبي: وهذا وإن كان خطاباً لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فهو تأديبٌ لجميع خلقه ﴿وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ﴾ أي وإِمّا يصيبنَّك يا محمد طائف من الشيطان بالوسوسة والتشكيك في الحق ﴿فاستعذ بالله﴾ أي فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميعٌ لما تقول عليهمٌ بما تفعل ﴿إِنَّ الذين اتقوا﴾ أي الذين اتصفوا بتقوى الله ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان﴾ أي إذا أصابهم الشيطان بوسوسته وحام حولهم بهواجسه ﴿تَذَكَّرُواْ﴾ أي تذكروا عقاب الله وثوابه ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ أي يبصرون الحق بنور البصيرة ويتخلصون من وساوس الشيطان ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي﴾ أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا الله وهم الكفرة الفجرة فإن
453
الشياطين تغويهم وتزين لهم سبل الضلال ﴿ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ أي لا يُمْسكون ولا يكفّون عن إغوائهم ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ﴾ أي وإذا لم تأتهم بمعجزةٍ كما اقترحوا ﴿قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها﴾ أي هلاّ اختلقتها يا محمد واخترعته من عند نفسك؟! وهو تهكمٌ منهم لعنهم الله ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي﴾ أي قل لهم يا محمد ليس الأمر إليَّ حتى آتي بشيءٍ من عند نفسي وإنما أنا عبدٌ امتثل ما يوحيه الله إليَّ ﴿هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ أي هذا القرآن الجليل حججٌ بيّنة، وبراهين نيّرة يغني عن غيره من المعجزات فهو بمنزلة البصائر للقلوب به يُبْصر الحق ويُدرك ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي وهداية ورحمة للمؤمنين لأنهم المقتبسون من أنواره والمنتفعون من أحكامه ﴿وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾ أي وإذا تليت آيات القرآن فاستمعوها بتدبر واسكتوا عند تلاوته إعظاماً للقرآن وإجلالاً ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي لكي تفوزوا بالرحمة ﴿واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾ أي واذكر ربك سراً مستحضراً لعظمته وجلاله ﴿تَضَرُّعاً وَخِيفَةً﴾ أي متضرعاً إليه وخائفاً منه ﴿وَدُونَ الجهر مِنَ القول﴾ أي وسطاً بين الجهر والسرّ ﴿بالغدو والآصال﴾ أي في الصباح والعشيّ ﴿وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين﴾ أي ولا تغفلُ عن ذكر الله ﴿إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ﴾ أي الملائكة الأطهار ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي لا يتكبرون عن عبادة ربهم ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾ أي ينزهونه عما لا يليق به ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ أي لا يسجدون إلا لله.
البَلاَغَة: ١ - ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ التشبيه مرسل مجمل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
٢ - ﴿فَلَماَّ تَغَشَّاهَا﴾ التغشي هنا كناية عن الجماع وهو من الكنايات اللطيفة.
٣ - ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ﴾ الخ هذا الأسلوب يسمى «الإِطناب» وفائدته زيادة التقريع والتوبيخ.
٤ - ﴿يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ﴾ شبّه وسوسة الشيطان وإغراءه الناس على المعاصي بالنزغ وهو إِدخال الإِبرة وما شابهها في الجلد ففيه استعارة لطيفة.
٥ - ﴿هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ فيه تشبيه وأصله هذا كالبصائر، حُذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فهو بليغ ويرى بعض العلماء أنه من قبيل المجاز المرسل حيث أطلق المسبّب على السبب لأن القرآن لما كان سبباً لتنوير العقول أطلق عليه لفظ البصيرة.
لطيفَة: حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال إن هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ماذا تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال: هذا يطول عليك ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك، فهذه فائدة الإستعاذة.
454
Icon