ﰡ
قوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أنزلت ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢)﴾ قاموا سنة حتى ورمت أقدامهم، فأنزلت: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)﴾ أي: المتزمل؛ أي (١): المتلفّف بثيابه، من تزمّل بثيابه إذا: تلفّف بها وتغطى، فأدغم التاء في الزاي، فقيل: المزمّل بتشديدين. كان - ﷺ - نائمًا بالليل متزمّلًا في قطيفة؛ أي: دثار مخمل، فأمر أن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة، ويختار التهجد على الهجود. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما جاءه جبريل خافه، فظن أن به مسًّا من الجن، فرجع من جبل حراء إلى بيت خديجة مرتعدًا، وقال: زملوني. فبينما هو كذلك إذ جاءه جبريل، وناداه وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾.
وعن عكرمة أن المعنى: يا أيها الذي زمل أمرًا عظيمًا؛ أي: حُمِّلَهُ. يعني: النبوة والرسالة. والزمل: الحمل، وازدمله: تحمّله، وكان يقرأ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)﴾ بتخفيف الزاي، وفتح الميم المشددة اسم مفعول.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْمُزَّمِّلُ﴾ بتشديد الزاي وكسر الميم المشدّدة، أصله: المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي. وقرأ أبي بن كعب، وأبو العالية، وأبو مجلز وأبو عمران، والأعمش ﴿يا أيها المتزمّل﴾ على الأصل. وقرأ عكرمة وابن يعمر ﴿المُزَمَّلُ﴾ بتخفيف الزاي وفتح الميم المشدّدة على صيغة اسم المفعول من زمّل المضعّف. ومثل هذه القراءة قول امرىء القيس:
كَأَنَّ بَشِيْرًا فِيْ أَفَانِيْنِ وَبَلِهِ | كَبِيْرُ أُنَاسٍ فِي لِحَادِ مُزَمَّلِ |
(٢) البحر المحيط وزاد المسير.
إحداهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي - ﷺ - لعليّ رضي الله عنه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها، أي: أغضبها وأغضبته، فأتاه وهو نائم قد لصق بجنبه التراب، فقال له: قم يا أبا تراب إشعارًا بأنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، وكذلك قوله - ﷺ - لحذيفة رضي الله عنه: قم يا نومان، وكان نائمًا ملاطفة وإشعارًا بترك العتب. والتأديب. فقول الله تعالى لمحمد - ﷺ -: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)﴾ تأنيس وملاطفة له، ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة انتهى.
وفي "فتح الرحمن": الخطاب الخاص بالنبي - ﷺ - كـ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ ونحوه عام للأمة إلا بدليل يخصه. وهذا قول أحمد، والحنفية، والمالكية. وقال أكثر الشافعية: لا يعمهم إلا بدليل. وخطابه - ﷺ - لواحد من الأمة هل يعم غيره؟ قال الشافعي والحنفية والأكثر: لا يعم. وقال أبو الخطاب من أئمة الحنابلة: إن وقع جوابًا عم، وإلا فلا.
٢ - ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ ولا تتزمل ولا ترقد، ودع هذه الحال لما هو أفضل منها، وقم إلى الصلاة في الليل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضمها إتباعًا لحركة القاف. وقرىء بفتحها طلبًا للتخفيف. قال عثمان بن جنيّ: الغرض بالحركة الهرب من التقاء الساكنين، فبأي حركة تحرك الحرف حصل الغرض.
فانتصاب (٣) ﴿اللَّيْلَ﴾ على الظرفية، ان كان الحدث الواقع فيه أعني: القيام المأمور به يستغرق جميع الليل، ولذلك صحّ الاستثناء منه؛ إذ لو كان غير مستغرق
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وحد الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال بعضهم: إنّ الله اشتاق إلى مناجاة حبيبه، فناداه أن يقوم في جوف الليل. وقد قالوا: إنّ القيام والمناجاة ليسا من الدنيا بل من الجنة لما يجده أهل الذوق من الحلاوة. وقيل: معنى (١) ﴿قُمِ﴾ صل، عبر به عنه تجوزًا.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ استثناء من الليل. أي: صل الليل كله إلا يسيرًا منه، والقليل من الشيء هو ما دون النصف، وقيل: ما دون السدس، وقيل: ما دون العشر. وقال مقاتل والكلبي: المراد بالقليل هنا الثلث. وقد أغنانا عن هذا الاختلاف.
٣ - قوله: ﴿نِصْفَهُ﴾ بالنصب بدل من الليل الباقي بعد الاستثناء بدل الكل. والنصف (٢) أحد شقي الشيء. أي: قم نصفه. والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزء المقارن للقيام والإيذان بفضله وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب. يعني: أنه يجوز أن يوصف النصف المستثنى بكونه قليلًا بالنسبة إلى النصف المشغول بالعبادة مع أنهما متساويان في المقدار من حيث إن النصف الفارغ لا يساويه بحسب الفضيلة والشرف، فالاعتبار بالكيفية لا بالكمية. وقال بعضهم: إن القلة في النصف بالنسبة إلى الكل لا إلى العديل الآخر، وإلا لزم أن يكون أحد النصفين المتساويين أقل من الآخر، وفيه أنه من عرائه عن الفائدة خلاف الظاهر، كما في الإرشاد.
﴿أَوِ انْقُصْ مِنْهُ﴾ أي: أو انقص القيام من النصف المقارن له إلى الثلث ﴿قَلِيلًا﴾ أي نقصانًا قليلًا أو مقدارًا قليلًا بحيث لا ينحط إلى نصف الليل
٤ - ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ أي زد القيام على النصف المقارن له إلى الثلثين. فالمعنى: تخييره - ﷺ - بين أن يقوم نصفه أو أقل منه أو أكثر. أي: قم إلى الصلاة في الزمان المحدود المسمى بالليل إلا في
(٢) روح البيان.
قيل: وهذا التخيير (١) بحسب طول الليالي وقصرها، فالنصف إذا استوى الليل والنهار، والنقص منه إذا قصر الليل، والزيادة عليه.. إذا طال الليل. فكان (٢) النبيّ - ﷺ - وأصحابه يقومون على هذه المقادير، وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه؟ فكان يقوم الليل كله حتى يصبح، مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب. واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم، فرحمهم الله تعالى، وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾. قيل: ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أوّلَها إلا هذه السورة، وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة، وقيل: ستة عشر شهرًا. وكان قيام الليل فرضًا ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس، وثبتت فريضته على النبي - ﷺ - بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾.
والمعنى: يا أيها النبي المتزمل بثيابه المتهيّىء للصلاة دم عليها الليل كله إلا قليلًا. ثم فسر هذا القليل: ﴿نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ﴾ إلخ؛ أي إلا قليلًا وهو النصف أو انقص من النصف، أو زد على النصف إلى الثلثين، فهو - ﷺ - قد خير بين الثلث والنصف والثلثين.
وقصارى ذلك: أنه أمر أن يقوم نصف الليل، أو يزيد عليه قليلًا أو ينقص منه قليلًا، ولا حرج عليه في واحد من الثلاثة.
أخرج مسلم عن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله - ﷺ -؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله - ﷺ - كان القرآن. فقلت: فقيام رسول الله - ﷺ - يا أم المؤمنين؟ قالت: ألست تقرأ المزّمّل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض القيام في
(٢) الخازن.
واختلف في الناسخ لهذا الأمر، فقيل: هو قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ إلى آخر السورة. وقيل: هو قوله: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ وقيل: هو قوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، وقيل غير ذلك.
وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ﴾ في أثناء ما ذكر من قيام الليل؛ أي: اقرأه على تؤدةٍ وتمهلٍ وتبيين حروف. ﴿تَرْتِيلًا﴾ بليغًا وتبيينًا واضحًا بحيث يتمكن السامع من عدها، ولذا نهى ابن مسعود رضي الله عنه عن التعجل، وقال: ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. يعني: لا بد للقارىء من الترتيل ليتمكن هو ومن حضره من التأمل في حقائق الآيات. فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يقع في الرجاء والخوف، وليسلم نظم القرآن من الخلل والزلل.
قال في "الكشاف": ترتيل القرآن قراءته على ترسّل وتؤدة بتبيين الحروف، وإشباع الحركات حتى يجيء المتلوّ منه شبيهًا بالثغر المرتل، وهو المفلّج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهزّه هزًا، ولا يسرده سردًا. والأمر بترتيل القرآن يشعر بأنّ الأمر بقيام الليل نزل بعدما تعلم - ﷺ - مقدارًا منه وإن قلّ.
٥ - وقوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥)﴾ على الاستقبال بالنسبة إلى بقيّة القرآن. ثم الظاهر أن الأمر به يعم الأمة، لأنه أمر مهم للكل، والأمر للوجوب، كما دل عليه التأكيد بالمصدر أو للندب.
والمعنى: واقرأ القرآن على تمهّل، فإنه أعون على فهمه وتدبّره، وكذلك كان - ﷺ -. قالت عائشة رضي الله عنها: كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وجاء في الحديث: "زيّنوا القرآن بأصواتكم" ولقد أوتى هذا مزمارًا من مزامير آل داود". يعني: أبا موسى الأشعريّ، فقال أبو موسى: لو كنت أعلم أنّك كنت تسمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرًا". "وعن عبد الله بن مغفّل قال: رأيت رسول الله - ﷺ - يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح، فرجع في قراءته"، أخرجه
قال في "فتح البيان": (١) والمقصود من الترتيل إنّما هو حضور القلب عند القراءة، لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء، كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها في مكة المكرّمة، وغيرها، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع، وأدلتها الصادقة، وليس هذا أول قارورة كسرت في الإسلام اهـ.
والحكمة في ترتيل القرآن: التمكن من التأمل في حقائق الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلاله، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور الله. فإن الإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية، ومن سرّ بشيء أحب ذكره كما أن من أحب شيئًا لا يحب أن يمر عليه مسرعًا.
وكان - ﷺ - مجوّدًا للقرآن كما أنزل (٢)، وتجويده تحسين ألفاظه بإخراج الحروف من مخارجها وإعطاء حقوقها من صفاتها، كالجهر والهمس واللين ونحوها، وذلك بغير تكلف، وهو ارتكاب المشقّة في قراءته بالزيادة على أداء مخرجه، والمبالغة في بيان صفته، فينبغي أن يتحفظ في الترتيل عن التمطيط، وهو التجاوز عن الحد، وفي الحد. عن الإدماج والتخليط بأن تكون قراءته بحال كأنه يلف بعض الحروف والكلمات في بعض آخر لزيادة السرعة.
واعلم: أن التجويد على ثلاث مراتب: ترتيل وحدر وتدوير:
أما الترتيل: فهو تؤدة وتأن وتمهل، وهو مختار ورش وعاصم وحمزة، ويؤيده قوله - ﷺ -: "من قرأ القرآن" أي ختمة "أقل من ثلاث" أي في أقل من ثلاث ليالٍ "لم يفهمه". وفي "قوت القلوب": أفضل القراءة الترتيل؛ لأن فيه التدبر والتفكر، وأفضل الترتيل والتدبر للقرآن ما كان في صلاة.
(٢) روح البيان.
وأما الحدر: فهو الإسراع في القراءة، كما روي: أنه ختم القرآن في ركعة واحدة أربعة من الأمة: عثمان بن عفّان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة رضي الله عنهم. وهذا؛ أي: الحدر مختار ابن كثير وأبي عمرو وقالون.
وأمّا التدوير: فهو التوسط بين الترتيل والحدر، وهو مختار ابن عامر والكسائي. وهذا كله إنما يتصور في مراتب الممدود.
وفي الحديث: "رب قارىء للقرآن والقرآن يلعنه". وهو (١) متناول لمن يخل بمبانيه، أو معانيه أو بالعمل بما فيه، وذلك موقوف على بيان اللحن.
وهو قسمان: جلي وخفيّ:
فالجليّ: خطأ يعرض للفظ، ويخلّ بالمعنى بأن بَدَّلَ حرفًا مكان حرف بأن يقول مثلًا: الطالحات بدل الصالحات، وبالإعراب كرفع المجرور ونصبه سواء تغيَّر المعنى به أم لا، كما إذا قرأ ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بجرّ ﴿رسوله﴾.
والخفي: خطأ يخل باصطلاحات القراء المعروفة لديهم كترك الإخفاء والإدغام والإظهار والقلب، وكترقيق المفخّم عكسه ومد المقصور وقصر الممدود، وأمثال ذلك. ولا شك أن هذا النوع مما ليس بفرض عين يترتب عليه العقاب الشديد، وإنما فيه التهديد وخوف العقاب. قال بعضهم: اللحن الخفي هو الذي لا يعرفه إلا مهرة القراء من تكرير الراءات وتطنين النونات وتغليظ اللامات وترقيق الراءات في غير محلّها لا يتصور أن يكون من فرض العين يترتب عليه العقاب على فاعلها، لما فيه من حرج، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وقال بعض أهل العلم: ومن الفتنة أن يقول لأهل القرى والبوادي والعجائز والعبيد والإماء لا تجوز الصلاة بدون التجويد، وهم لا يقدرون على التجويد، فيتركون الصلاة رأسًا. فالواجب أن يعلم مقدار ما يصح به النظم والمعنى ويتوغل في الإخلاص وحضور القلب.
وهذه الجملة اعتراض بين الأمر وهو ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾، وبين تعليله وهو ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ إلخ، لتسهيل ما كلفه - ﷺ - من القيام. يعني: أنّ في توصيف ما سيلقي عليه بالثقل إيماءً إلى أنَّ ثقل هذا التكليف بالنسبة إليه كالعدم، فإذا كان ما سيكلف أصعب وأشقّ، فقد سهل هذا التكليف.
وفي "الكشاف": أراد بهذا الاعتراض أنً ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الصعبة التي ورد بها القرآن؛ لأن الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادّة لطبعه ومجاهدة لنفسه، فمن استأنس بهذا التكليف لا يثقل عليه أمثاله.
والمعنى: أي إنا سننزل عليك القرآن، وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه، فلا تبال بهذه المشقّة، وامْرُنْ عليها لما بعدها. وقال الحسن بن الفضل: ثقيلًا لا يحمله إلا قلب مؤيَّدٌ بالتوفيق، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وفي "فتح الرحمن": وصف القرآن بالثقل لثقله بنزول الوحي على نبيه حتى كان يعرف في اليوم الثاني أو لثقل العمل بما فيه أو لثقله في الميزان أو لثقله على المنافقين.
وقد يكون (١) المراد أنّه ثقيل في الوحي، فقد جاء في حديث البخاري ومسلم: "إنّ الوحي كان يأتيه - ﷺ - أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشدّه عليه، فيفصم عنه - يفارقه - وقد وعى ما قال، وأحيانًا يتمثّل له الملك رجلًا، فيكلّمه فيعي ما يقول، وان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقًا" يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد.
ويحتمل (١) أن يكون المراد بناشئة الليل ساعاته، فإنها تحدث واحدة بعد واحدة، أي: ساعات الليل الناشئة؛ أي: الحادثة شيئًا فشيئًا، فتكون الناشئة صفة ساعات الليل أشدّ وطئًا؛ أي: بملاحظة القيام منها؛ أي: إن ساعات الليل أشد مواطأة؛ أي: أكثر موافقة بين السمع والبصر والقلب واللسان لانقطاع الحركات والأصوات فيها، وأثبت للعبادة؛ لأن الليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش وعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبيّ: أشدّ نشاطًا وأكثر فراغًا.
ويحتمل أن يكون المعنى: إن النفس التي تنشأ وتنهض وتقوم في الليل من مضجعها إلى العبادة، من نشأ من مكانه إذا نهض. فالموصوف محذوف، والإضافة للملابسة بمعنى النفس الناشئة القائمة للصلاة في الليل. ﴿هِيَ﴾ خاصة ﴿أَشَدُّ وَطْئًا﴾؛ أي: كلفة وثقلًا. مصدر قولك: وطىء الشيء؛ أي: داسه برجله أو جعل عليه ثقله، فإن النفس القائمة بالليل إلى العبادة أشد وطئًا وكلفةً ومشقةً من التي تقوم بالنهار، فلا بد من قيام الليل، فإن أفضل العبادات أشقها. ويجوز أن يكون معنى ﴿أَشَدُّ وَطْئًا﴾: أشد ثبات قدمٍ واستقرارها، فيكون المقصود بيان وجه اختيار الليل وتخصيصه بالأمر بالقيام فيه من حيث إنه تعالى جعل الليل لباسًا يستر الناس، ويمنعهم عن الاضطراب والانقلاب في اكتساب المعاش، وجعل النهار معاشا يباشرون فيه أمور معاشهم، فلا تثبت فيه أقدامهم للعبادة. ﴿وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾؛ أي: (٢) أصوب قراءة، وأصح قولًا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات. وقيل: معناه أبين قولًا للقرآن.
والحاصل: أن عبادة الليل أشد نشاطًا، وأتم إخلاصًا، وأبعد عن الرياء،
(٢) الخازن.
قرأ الجمهور (١): بفتح الواو وسكون الطاء مقصورًا، واختار هذه القراءة أبو حاتم. والمعنى: إنّ الصلاة في ناشئة الليل وساعاته أثقل على المصلّي من الصلاة في ساعات النهار، لأنّ الليل وقت الراحة والنوم. وقرأ أبو العالية وابن أبي إسحاق، ومجاهد، وأبو عمرو، وابن عامر، وحميد، وابن محيصن، والمغيرة، وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودًا، واختار هذه القراءة أبو عبيد. والمعنى عليها: أنها أشد مواطأة؛ أي: موافقة بين اللسان والقلب والسمع والبصر لانقطاع الأصوات والحركات فيها من واطأت فلانًا إذا وافقته، ومنه: قوله تعالى: ﴿لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾؛ أي: ليوافقوا.
٧ - ﴿إِنَّ لَكَ﴾ يا محمد ﴿فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾؛ أي: تقلّبًا كثيرًا وتصرّفًا في مهماتك كتردد السابح في الماء، واشتغالًا كثيرًا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرّغ للعبادة، فعليك بها في الليل، فعليك بها في الليل. وهذا بيان للداعي الخارجيّ إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي.
وقيل معنى الآية: إن فاتك من الليل شيء ذلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه حتى لا ينقص شيء من حظك من المناجاة لربك، ويناسبه قوله - ﷺ -: "من نام عن حزبه، أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل". وقيل: سبحًا سبحةً؛ أي: نافلةً.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سَبْحًا﴾ بالحاء المهملة؛ أي: تصرفا في حوائجك وإقبالًا وإدبارًا وذهابًا ومجيئًا في أشغالك كما يتردد السابح في الماء يقلب يديه ورجليه. قال الشاعر:
أبَاحُوْا لَكُمْ شَرْقَ الْبِلاَدِ وَغَرْبَهَا | فَفِيْهَا لَكُمْ يَا صَاحِ سَبْحٌ مِنَ السَّبْحِ |
(٢) البحر المحيط.
فَسبِّخْ عَلَيْكَ الهَمَّ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ | إِذَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ شَيْئًا فَكَائِنُ |
ومعنى الآية (١): أي إن لك في النهار تقلبًا وتصرَّفًا في مهام أمورك واشتغالًا بشواغلك، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة، فعليك بالتهجد، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل.
٨ - ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له، فقال: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ﴾؛ أي: ودم على ذكره تعالى ليلًا ونهارًا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم، خصوصًا بعد صلاة الغداة وصلاة العصر؛ لأنه وقت يتعاقب فيه ملائكة الليل والنهار. وقيل: ادعه بأسمائه الحسنى. وقيل: اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك. وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته وتبعد عن معصيته. وقال الكلبيّ: المعنى: صل لربك. ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾؛ أي: وانقطع إليه تعالى انقطاعًا بالاشتغال بعبادته من تبتل إلى الشيء إذا انقطع إليه؛ أي: وانقطع إلى ربك انقطاعًا تامًّا بالعبادة وإخلاص النية والتوجه الكلّيّ. وليس (٢) هذا يعارض قوله - ﷺ -: "لا رهبانية ولا تبتّل في الإِسلام "؛ لأن ما هنا هو الانقطاع عن الشواغل إلى العبادة، والمنفيّ في الحديث هو الانقطاع عن النكاح. ومنه قيل لمريم العذراء: البتول؛ أي: المنقطعة عن الرجال. ووضع ﴿تَبْتِيلًا﴾ مكان تبتلا لرعاية الفواصل. قال الواحدي: والتبتّل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى.
والمعنى: أي ودم على ذكره ليلًا ونهارًا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن، وانقطع إليه بالعبادة، وجرّد إليه نفسك، وأعرض عمّا سواه. ونحو الآية: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧)﴾؛ أي: فإذا فرغت من شؤونك فانصب في طاعته وعبادته، لتكون فارغ القلب خاليًا من الهواجس والوساوس الدنيوية.
٩ - ثم بين السبب في الأمر بالذكر والتبتل فقال: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾؛ أي:
(٢) روح البيان.
قرأ (١) حمزة، والكسائيّ، وأبو بكر، وابن عامر، ويعقوب بجر ﴿رَبُّ﴾ على النعت لـ ﴿رَبِّكَ﴾ أو البدل منه أو البيان له. وقرأ باقي السبعة برفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾. وقرأ زيد بن عليّ بالنصب على المدح. وقرأ الجمهور ﴿الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ بإفرادهما. وقرأ عبد الله وأصحابه وابن عباس بجمعهما. وقال الزمخشري: وعن ابن عباس على القسم يعني خفض ﴿رَبُّ﴾ بإضمار حرف القسم كقولك: الله لأفعلنّ، وجوابه: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، كما تقول: والله لا أحد في الدار إلا زيدًا انتهى. ولعل هذا التخريج لا يصح عن ابن عباس.
وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ استئناف لبيان ربوبيته بنفي الألوهية عما سواه. والفاء: في قوله: ﴿فَاتَّخِذْهُ﴾ لمصالح دينك ودنياك ﴿وَكِيلًا﴾؛ أي: موكولًا ومفوّضًا إليه لإصلاحها وإتمامها، واسترح أنت. ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنه المختص بالربوبية، وأردت بيان ما هو الأصلح لك فأقول لك: اتخذه وكيلًا؛ أي: قائمًا بأمورك، وعول عليه في جميعها. وقيل: كفيلًا بما وعدك من الجزاء والنصر.
١٠ - ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ يعني: قريشًا مما لا خير فيه من الخرافات والهذيانات في حق الله تعالى من الشريك والصاحبة والولد، وفي حقك من الساحر والشاعر والكاهن والمجنون، وفي حق القرآن من أنه أساطير الأوّلين، ونحو ذلك.
وقوله: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ تأكيد للأمر بالصبر؛ أي: واتركهم تركًا حسنًا بأن تجانبهم بقلبك وهواك، وتداريهم ولا تكافئهم، وتكل أمورهم إلى ربهم، كما أعرب به ما بعد الآية. قال الحكماء: تسلح على الأعداء بحسن المداراة حتى تبصر فرصة. وقيل: الهجر الجميل الذي لا جزع فيه، وهذا كان قبل الأمر بالقتال.
١١ - ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ﴾ بك وبالقرآن؛ أي: دعني وإياهم، ولا تهتم بهم، فإنّي أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم. قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة، وقد تقدم
وقال بعضهم (١): يجوز نصب ﴿المكذبين﴾ هو على المعيّة؛ أي: دعني معهم وهو الظاهر. ويجوز على العطف؛ أي: دعني على أمري مما تقتضيه الحكمة ودع المكذّبين بك وبالقرآن، وهو أوفق للصناعة؛ لأن النصب إنما يكون نصًا في الدلالة على المصاحبة؛ إذا كان الفعل لازمًا، وهنا الفعل متعد. ﴿أُولِي النَّعْمَةِ﴾ صفة لـ ﴿المكذبين﴾، وهم صناديد قريش؛ أي: أرباب الغنى والسعة والترفّه واللذة في الدنيا. ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا﴾؛ أي: تمهيلًا قليلًا على أنه صفة لمصدر محذوف أو زمانًا قليلًا على أنّه صفة لزمان محذوف. والمعنى: أمهلهم إلى انقضاء آجالهم، وقيل: إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر. والأوّل أولى لقوله: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا﴾ وما بعده، فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة.
والمعنى: ودعني والمكذّبين المترفين أصحاب الأموال، فإنّي أكفيك أمرهم، وأجازيهم بما هم له أهل، وتمهل عليهم قليلًا حتى يبلغ الكتاب أجله، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم. ونحو الآية: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤)﴾.
والخلاصة: خل بيني وبينهم فسأجازيهم بما يستحقون. روي: أنها نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين، وقالت عائشة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر.
١٢ - ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورًا أربعة:
١ - ﴿إِنَّ لَدَيْنَا﴾ في الآخرة وفيما هيّأناه للعصاة من آلات العذاب وأسبابه، وهو أولى من قول بعضهم: في علمنا وتقديرنا؛ لأنّ المقام مقام تهديد العصاة، فوجود آلات العذاب بالفعل أشد تاثيرًا على أن تلك الآلات صور الأعمال القبيحة. ولا شك أن معاصري النبي - ﷺ - من الكفار قد قدموا تلك الآلات بما فعلوا من السيئات ﴿أَنْكَالًا﴾؛ أي: قيودًا ثقالًا، يقيد بها أرجل المجرمين إهانة لهم وتعذيبا لا
٢ - ﴿وَجَحِيمًا﴾؛ أي: نارًا مؤجّجة مستعرة تشوي الوجوه، وقيل: كلّ نار عظيمة في مهواة. وفي "الكشاف": هي النار الشديدة الحر والاتقاد.
٣ - ١٣ ﴿وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ﴾؛ أي: لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه، فلا ينزل ولا يخرج. قال مجاهد: هو الزقّوم. وقال الزجاج: وهو الضريع. وفي "الروح": والغصّة هو كلّ ما ينشب في الحلق، ويعلق من عظم وغيره فلا ينساغ؛ أي: طعامًا غير سائغ يأخذ بالحلق، لا هو نازل ولا هو خارج كالضريع والزقّوم، وهما في الدنيا من النباتات والأشجار سمّان قاتلان للحيوان الذي يأكلهما مستكرهان عند الناس، فما ظنّك بضريع جهنم وزقومها. وهو في مقابلة الهنيء والمريء لأهل الجنة، وإنّما ابتلوا بهما لأنّهم أكلوا نعمة الله وكفروا بها.
٤ - ﴿وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: نوعًا آخر من العذاب مؤلمًا لا يقادر قدره، ولا يدرك كنهه. كما يدل عليه التنكير، كل ذلك معد لهم ومرصد، فالمراد بالعذاب سائر أنواع العذاب.
والمعنى (٢): أي إنّ لدينا لهؤلاء المكذّبين بآياتنا قيودًا ثقيلة توضع في أرجلهم، كما يفعل بالمجرمين في الدنيا إذلالًا لهم. قال الشعبيّ: أترون أن الله جعل الأنكال في أرجل أهل النار خشية أن يهربوا؟ لا والله ولكنّهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استقلت بهم، ونارًا مستعرة تشوي الوجوه، وطعامًا لا يستساغ، فلا هو نازل في الحلق ولا هو خارج منه كالزقوم والضريح، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧)﴾، وقال: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)﴾. ﴿وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾ أي: ألوانًا أخرى من العذاب المؤلم الموضع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب.
(٢) المراغي.
١٤ - وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ﴾ وتضطرب وتتحرك ﴿الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ وانتصاب (١) الظرف إمّا بـ ﴿ذرني﴾ أو بالاستقرار المتعلق به لدينا أو صفة لـ ﴿عذابا﴾، فيتعلق بمحذوف؛ أي: عذابًا واقعًا يوم ترجف الأرض، أو متعلق بـ ﴿أَلِيمًا﴾. وقرأ الجمهور ﴿أَلِيمًا﴾ بفتح التاء وضم الجيم مبنيًّا للفاعل. وقرأ زيد بن علي بضمها مبنيًا للمفعول، مأخوذ من أرجفها، أي: إنَّ لدينا أنكالًا وجحيمًا وعذابًا أليمًا يوم تتحرك وتضطرب الأرض والجبال بمن عليها، وتتزلزل زلزلةً شديدة بهيبة الله وجلاله؛ ليكون علامة يخطيء القيامة وأمارة لجريان حكم الله في مؤاخذة العاصين. والرجفة: الزلزلة، والزعزعة الشديدة. وأفرد (٢) الجبال بالذكر مع كونها من الأرض لكونها أجسامًا عظامًا أوتادًا لها، فإذا تزلزلت الأوتاد لم يبق للأرض قرار، وأيضًا إنّ زلزلة العلويّات أظهر من زلزلة السفليات، ومن زلزلتها تبلغ القلوب الحناجر خوفًا من الوقوع..
﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ﴾ من شدّة الرجفة مع صلابتها وارتفاعها ﴿كَثِيبًا﴾؛ أي: رملا مجتمعا ﴿مَهِيلًا﴾؛ أي: رخوًا ليّنًا سائلًا. وفي "القاموس": الكثيب: التل من الرمل انتهى، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ثم صار اسمًا بالغلبة للرمل المجتمع؛ أي: صارت مثل رمل مجتمع هيل هيلًا؛ أي: نثر وأسيل بحيث لو حرك من أسفله انهال من أعلاه وسال، لتفرق أجزائه كالعهن المنفوش، ومثله هذا الرمل يمر تحت الرجل ولا يتماسك، فكونه متفرق الأجزاء منثورًا سائلًا لا ينافي كونه رملًا مجتمعًا. فـ ﴿مَهِيلًا﴾ اسم مفعول من هال يهيل هيلا كباع يبيع بيعًا ومبيعًا، لا فعيل من مهل يمهل. وخص (٣) الجبال بالتشبيه بالكثيب المهيل، لأنّ ذلك خاصة لها، فإن الأرض تكون مقررة في مكانها بعد الرجفة، دل عليه قوله
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
والحاصل: أنّ الأرض والجبال يدق بعضها ببعض، كما قال تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤)﴾. فترجع الجبال كثيبًا مهيلًا، ثم ينسفها الريح فتصير هباء منبثًّا وتبقى الأرض مكانها ثم تبدل، كما مر. وإنما عبر بالماضي في الجبال لتحقق وقوعه.
والمعنى (١): أي ذلك العذاب في يوم تضطرب فيه الأرض، وتزلزل الجبال، وتتفرق أجزاؤها وتصير كالعهن المنفوش وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجارة صماء، ثم ينسفها ربي نسفًا، فلا يبقى منها شيء.
١٥ - وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم، فقال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿رَسُولًا﴾، هو محمد - ﷺ - وكونه مرسلًا إليهم لا ينافي إرساله إلى من عداهم، فإن مكة أم القرى، فمن أرسل إلى أهل مكة فقد أرِسل إلى أهل الدنيا جميعًا، ولذا نص الله تعالى عليه بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾، ليندفع أوهام أهل الوهم. ﴿شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ يشهد عليكم يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان، وكذا يشهد على غيركم، كما قال تعالى: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ هو موسى عليه السلام؛ لأنَّ هارون عليه السلام ردء له وتابع، وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه، وتخصيص فرعون لأنه من رؤساء أولى النعمة المترفهين المتكبرين، فبينه وبين قريش جهة جامعة ومشابهة حال ومناسبة سريرة. قيل: إنما خص موسى وفرعون بالذكر؛ لأن أخبارهما كانت منتشرة بمكة.
١٦ - ﴿فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾؛ أي: فعصى (٢) فرعون المعلوم حاله كبرًا وتنعمًا الرسول الذي أرسلناه إليه. ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف؛ أي: إنا أرسلنا إليكم رسولًا فعصيتموه، كما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ إرسالًا كائنًا كإرسالنا إلى فرعون رسولًا، فعصاه بأن جحد رسالته، ولم يؤمن به. وفي إعادة فرعون والرسول مُظْهرين تفظيع لشان عصيانه، وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه
(٢) روح البيان.
﴿فَأَخَذْنَاهُ﴾ بسبب عصيانه ﴿أَخْذًا وَبِيلًا﴾؛ أي: ثقيلًا شديدًا. والوبيل: الثقيل الغليظ، ومنه: الوابل للمطر العظيم، والكلام خارج عن التشبيه، جيء به للتنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة.
والمعنى (١): أي إنّا أرسلنا إليكم رسولًا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتي، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقونني في القيامة، كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا يدعوه إلى الحق، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه، فأخذناه أخذًا شديدًا، فأهلكناه ومن معه بالغرق، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم مثل ما أصابه.
وقصارى ذلك: كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصاه، فأخذناه أخذًا وبيلًا أرسلنا إليكم رسولًا شاهدًا عليكم، فاحذروا أن تعصوه، فيصيبكم مثل ما أصابه.
١٧ - وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة، فقال: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ﴾ أي: كيف تتقون وتحفظون أنفسكم ﴿إِنْ كَفَرْتُمْ﴾؛ أي: إن بقيتم على كفركم ﴿يَوْمًا﴾، أي: عذاب يوم ﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ﴾ والصبيان ﴿شِيبًا﴾؛ أي: شيوخًا لشدة هوله. وقرأ الجمهور ﴿يَوْمًا﴾ منونا ﴿يَجْعَلُ﴾ بالياء، والجملة صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾. وقرأ زيد بن عليّ ﴿يَوْمًا﴾ بغير تنوين، و ﴿نجعل﴾ بالنون، فالظرف مضاف إلى الجملة. والشيب: جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك أو تمثيلًا لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه، وضعفت أعضاؤه وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة. وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم. و ﴿يَوْمًا﴾ مفعول به لتتقون. قال ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم بـ ﴿كفرتم﴾، وهذا قبيح انتهى.
قال ابن الشيخ: قوله: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ﴾ مرتب على الإرسال، فالعصيان، وكان الظاهر أن يقدم على قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ إلا أنه أخر زيادة في التهويل؛ إذ علم من
ويجوز (١) أن يكون ﴿يَوْمًا﴾ ظرفًا؛ أي: فكيف لكم بالتقوى، والتوحيد في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أي: لا سبيل إليه لفوات وقته، فاتقى على حاله، وكذا ﴿إذا﴾ انتصب بـ ﴿كَفَرْتُمْ﴾ على تأويل جحدتم؛ أي: فكيف تتقون الله وتخشون عقابه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء ﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ﴾ من شدة هوله وفظاعة ما فيه من الدّواهي، وهو صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾، نسب الجعل إلى اليوم للمبالغة في شدته، وإلا فنفس اليوم لا تأثير له ألبتة. و ﴿الْوِلْدَانَ﴾: جمع وليد، يقال لمن قرب عهده بالولادة، وإن كان في الأصل يصح إطلاقه على من قرب عهده بها ومن بعد. ﴿شِيبًا﴾؛ أي: شيوخًا جمع أشيب، والشيب: بياض الشعر كبيض جمع أبيض، وسيأتي تمام البحث فيه في مبحث التصريف إن شاء الله تعالى، وقد سبق لك قريبًا أن جعلهم شيوخًا إما محمول على الحقيقة كما ذهب إليه بعضهم.
فإن قلت: إيصال الألم والضرر إلى الصبيان يوم القيامة غير جائز بل هم لكونهم غير مكلفين معصومون محفوظون عن كل خطر.
قلت: قد يكون في القيامة من هيبة المقام ما يجثوا به الأنبياء عليهم السلام على الركب، فما ظنك بغيرهم من الأولياء والشيوخ والشبان والصبيان؟ وفي الآية مبالغة، وهي أنه إذا كان ذلك اليوم يجعل الولدان شيبًا، وهم أبعد الناس من الشيخوخة لقرب عهدهم بالولادة، فغيرهم أولى بذلك. وإما محمول على التمثيل بأن شبه اليوم في شدة هوله بالزمان الذي يشيب الشبان لكثرة همومه وأهواله.
وأصله: أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء.. ضعفت قواه، وأسرع فيه الشيب؛ لأنّ كثرة الهموم توجب انعصار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانعصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وضعفها وانطفاؤها يوجب بقاء الأجزاء
وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيْمَ نَحَافَةً | وَيُشِيبُ ناصِيَةً الصَّبِيَّ وَيُهْرِمُ |
دَهَتْنا أُمُوْرٌ تُشِيبُ الوَلِيدَ | وَيَخْذِلُ فِيهَا الصَّدِيقُ الصَّدِيقْ |
١٨ - ثم زاد في وصف ذلك اليوم بالشدّة، فقال: ﴿السَّمَاءُ﴾ مبتدأ، خبره قوله: ﴿مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾؛ أي: منشق بسبب ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى مسبب الأسباب، فيجوز أن يجعل شدة ذلك اليوم سببًا للانفطار، والجملة صفة أخرى لـ ﴿يَوْمًا﴾؛ والباء سببية؛ أي: متشقّقة بسببه لشدّته وعظيم هوله. وقيل: هي بمعنى في؛ أي: منفطر فيه، وقيل: بمعنى اللام؛ أي: منفطر له. وإنما قال: ﴿مُنْفَطِرٌ﴾ ولم يقل: منفطرة لتنزيل السماء منزلة الشيء، لكونها قد تغيّرت، ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء. وقال الفراء: السماء تذكر وتؤنث. وقيل: غير ذلك. وقيل: الضمير في ﴿بِهِ﴾ عائد إلى الله؛ أي: منفطر بالله، والمراد منفطر بأمره تعالى. والأول أولى.
واعلم: أن الله ذكر من هول ذلك اليوم أمرين:
الأول: قوله تعالى: ﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾.
والثاني: قوله: ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾؛ لأن السماء على عظمتها وقوتها إذا انشقت بسبب ذلك اليوم، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ فالباء للسببية، وهو الظاهر. وتذكير الخبر لإجرائه على موصوف مذكر؛ أي: شيء منفطر، عبر عنها بذلك للتنبيه على أنه تبدلت سقيفتها، وزال عنها اسمها ورسمها، ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء.
﴿كَانَ وَعْدُهُ﴾ سبحانه وتعالى. فالضمير إمّا لله وإن لم يجر له ذكر للعلم به،
والمعنى: كيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان، وتنشق السماء، وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم.
والعرب تضرب المثل في الشدّة، فتقول: هذا يوم تشيب من هوله الولدان، وهذا يوم يشيب نواصي الأطفال. ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب، فجعلوا الشيب كناية عن الشدّة والمحنة فاحذروا هذا اليوم، فإنه كائن لا محالة كما وعد.
١٩ - وقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة، وهي من قوله: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا﴾، إلى هنا. ﴿تَذْكِرَةٌ﴾؛ أي: موعظة لمن يريد الخير لنفسه، والاستعداد لربه. أو إشارة إلى جميع الآيات القرآنية؛ لأن القرآن موعظة للمتقين وطريق للسالكين، ونجاة للهالكين، وبيان للمستبصرين، وشفاء للمتحبرين، وأمان للخائفين، وأنس للمريدين، ونور لقلوب العارفين، وهدى لمن أراد الطريق إلى رب العالمين.
﴿فَمَنْ شَاءَ﴾ من المتكلفين الوصول إلى مرضاة الله سبحانه والقرب إليه ﴿اتَّخَذَ﴾ لنفسه ﴿إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾؛ أي: جعل لنفسه طريقًا موصلًا إلى مرضاته تعالى بالتقرب إليه بالإيمان والطاعات، فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته ومقام قربه والاستقرار في دار كرامته.
والمعنى (١): أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر عبرة لمن اعتبر وادكر، فمن شاء.. اتعظ بها واتخذ سبيلًا إلى ربه، فآمن به وعمل بطاعته، وأخبت إليه. وذلك هو النهج القويم،
٢٠ - ثم رخص لأمته في ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ﴾؛ أي: تصلي كقوله: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾، لما كان أكثر أحوال الصلاة القيام عبر به عنها. ﴿أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾؛ أي: أقل منهما. فإطلاق الأدنى على الأقل مجاز (١) مرسل من قبيل إطلاق الملزوم على اللازم، لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز والحدود، وإذا بعدت كثر ذلك.
روي: أنه تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام النبي - ﷺ - وأصحابه حولًا مع مشقة عظيمة من حيث إنه يعسر عليهم تمييز القدر الواجب حتى قام أكثر الصحابة الليل كله خوفًا من الخطأ في إصابة القدر المفروض، وصاروا بحيث انتفخت أقدامهم، واصفرت ألوانهم، وأمسك الله خاتمة السورة من قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ إلخ، اثني عشر شهرًا في السماء حتى أنزل الله في آخر السورة التخفيف، فنسخ تقدير القيام بالمقادير المذكورة مع بقاء فرضية أصل التهجد حسبما تيسر، ثم نسخ نفس الوجوب أيضًا بالصلوات الخمس، لما روي: أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.
﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ بالنصب عطفًا على ﴿أَدْنَى﴾. والثلث: أحد الأجزاء الثلاثة، والجمع أثلاث؛ أي: أنك تقوم أقل من ثلثي الليل، وتقوم نصفه وثلثه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ بضمّ اللام. وقرأ الحسن، وشيبة، وأبو حيوة، وابن السميفع، وهشام، وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب "الكامل" بإسكانها، وجاء ذلك عن نافع، وابن عامر فيما ذكر "صاحب اللوامح". وقرأ العربيّان: أبو عمرو وابن عامر، ونافع ﴿ونصفه وثلثه﴾ بجرهما عطفًا على ﴿ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾. وقرأ باقي السبعة، وزيد بن علي بالنصب عطفًا على ﴿أَدْنَى﴾؛ لأنه منصوب على الظرف؛ أي: وقتًا أدنى من ثلثي الليل، فقراءة النصب مناسبة للتقسيم الذي في أوّل السورة؛ لأنّه إذا قام الليل إلا قليلًا صدق عليه أدنى من ثلثي الليل؛ لأن الزمان
(٢) البحر المحيط.
وأما قراءة الجرّ فالمعنى (١): أنه قيام مختلف مرّة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من النصف، ومرة أدنى من الثلث. وذلك لتعذر معرفة البشر مقادير الزمان مع عذر النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنّما هو لله تعالى، والبشر لا يطيقون ذلك.
والمعنى عليه: أنّ ربك يعلم أنك تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه.
﴿وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ﴾ مرفوع معطوف (٢) على الضمير في ﴿تَقُومُ﴾ وجاز ذلك للفصل بينهما؛ أي: ويقوم معك طائفة من أصحابك الذين آمنوا معك حين فرضية قيام الليل. و ﴿من﴾ تبيينية فلا دلالة فيه على أن قيام الليل لم يكن فرضًا على الجميع.
وحاصل المعنى: يتابعك طائفة في قيام الليل، وهم أصحابك. وفيه وعد لهم بالإحسان إليهم. وفي "قوت القلوب": قد قرن الله تعالى قوام الليل برسوله المصطفى - ﷺ -، وجمعهم معه في شكر المعاملة وحسن الجزاء.
والمعنى: أي إنّ ربك يا محمد لعليم بأنك تقوم أقل من ثلثي الليل، وأكثر من النصف، وتقوم النصف وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل.
﴿وَاللهُ﴾ وحده ﴿يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾؛ أي (٣): يعلم مقادير الليل والنهار على
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
والمعنى: لا يقدر على تقديرهما ومعرفة مقادير ساعاتهما وأوقاتهما أحد أصلًا، فإن تقديم الاسم الجليل مبتدأ وبناء ﴿يُقَدِّرُ﴾ عليه موجب للاختصاص قطعًا. قال الراغب: التقدير: تبيين كميّة الشيء. وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ﴾ إلخ. إشارة إلى (١) ما أجرى من تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل. أي: إدخال هذا في هذا إلخ. وأن ليس أحد يمكنه معرفة ساعاتهما، وتوفية حق العبادة منهما في وقت معلوم.
والحاصل: أن العالم بمقادير ساعات الليل والنهار على حقائقها هو الله، وأنثم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ، فربما يقع منكم الخطأ في إصابتها، فتقومون أقل من المقادير المذكورة. ولذا قال: ﴿عَلِمَ﴾ الله سبحانه ﴿أَنْ﴾ أي: أن الشأن ﴿لَنْ تُحْصُوهُ﴾؛ أي: لن تقدروا على تقدير الأوقات على حقائقها، ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدًا. فالضمير (٢) عائد على المصدر المفهوم من ﴿يُقَدِّرُ﴾؛ أي: علم أنّه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم تحصيل تلك المقادير على سبيل الظن إلا مع المشقة التامة. واحتج بعضهم بهذه الآية على وقوع التلكيف بما لا يطاق، فإنه تعالى قال: ﴿لَنْ تُحْصُوهُ﴾؛ أي: لن تطيقوه، ثم إنه كلفهم بتقدير الساعات والقيام فيها حيث قال. ﴿قُمِ اللَّيْلَ...﴾ إلخ. ويمكن أن يجاب عنه: بأنّ المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه أصلًا، كما يقال: لا أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
أي (٣): علم أنه لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير؛ إلا بشدة ومشقة، وفي ذلك حرج. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: فخفف عليكم، وأسقط عنكم فرض قيام الليل. ﴿فَاقْرَءُوا﴾؛ أي: فصلوا ﴿مَا تَيَسَّرَ﴾ لكم ﴿مِنَ الْقُرْآنِ﴾؛ أي: من صلاة الليل؛ أي: فصلوا ما تيسر وسهل عليكم من صلاة الليل غير مقدرة بكونها في ثلث الليل أو نحوه، ولو قدر حلب شاة، فهذا إنما يكون أربع ركعات وقد يكون ركعتين. عبّر
(٢) روح البيان.
(٣) النسفي.
ومعنى قوله: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ...﴾ إلخ؛ أي: (٢) ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلّا الله، وأما أنتم.. فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات، فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدّر، وعفا عنكم ورفع هذه المشقّة. قال مقاتل وغيره: لمّا نزلت: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢)﴾ إلخ، شق ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه؟ فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء، فانتفخت أقدامهم وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله، وخفف عنهم فقال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾.
والخلاصة: الله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامًّا، فإذا زدتم على المفروض.. ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض، وإن نقصتم.. شق هذا عليكم. فتاب عليكم، ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عسر إلى يسر، وطلب إليكم أن تصلوا ما تيسر بالليل، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾؛ أي: فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن: هو ما يقرأ في صلاة المغرب والعشاء. وقال السدّي: ما تيسّر منه هو مئة آية. وفي بعض الآثار: من قرأ مئة آية في ليلة.. لم يحاجّه القرآن. وعن قيس بن حازم قال: صليت خلف ابن عباس فقرأ في أول ركعة بالحمد لله رب العالمين، وأول آية من البقرة، ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال: إنّ الله يقول: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنهُ﴾، أخرجه
(٢) المراغي.
ثم ذكر أعذارًا أخرى تسوغ هذا التخفيف، فقال: ﴿عَلِمَ﴾ الله سبحانه ﴿أَن﴾ أي: أنّ الشأن ﴿سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ استئناف مبيّن لحكمة أخرى داعية إلى الترخيص والتخفيف؛ أي: علم الله سبحانه أنّه سيوجد منكم مرضى لا يستطيعون الصلاة بالليل ﴿وَآخَرُونَ﴾ عطف على ﴿مَرْضَى﴾؛ أي: وسيوجد منكم أقوام آخرون ﴿يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يسافرون في نواحي الأرض وأرجائها للتجارة حال كونهم ﴿يَبْتَغُونَ﴾؛ أي: يطلبون في سفرهم ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ ورزقه. وهو الربح ما يحتاجون إليه في معاشهم، فلا يطيقون قيام الليل. وفيه (١) تصريح بما علم التزامًا، وبيان أن ما حصلوه من الرزق من فضل الله. ومحل ﴿يَبْتَغُونَ﴾ النصب على أنه حال من ﴿يَضْرِبُونَ﴾. وقد عمّ ابتغاء الفضل تحصيل العلم، فإنه من أفضل المكاسب، وفيه أن معلم الخير وهو رسول لله - ﷺ - كان حاضرًا عندهم وقت نزول الآية، فأين يذهبون؟ إلا أن يجعل آخر السورة مدنيًّا، فقد كانوا يهاجرون من مكة إلى المدينة لطلب العلم، وأيضًا إنَّ هذا بالنسبة إلى خصوص الخطاب. وأمّا بالنسبة إلى أهل القرن الثاني، ومن بعدهم فبقاء الحكم بلا نسخ يوقعهم في الحرج. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنّه قال: حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة، وأفضل من شهود ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض. قيل: ومن قراءة القرآن؟ قيل: وهل تنفع قراءة القرآن بلا علم؟.
﴿وَ﴾ علم أن سيوجد أقوام ﴿آخَرُونَ﴾ منكم عطف على ﴿مَرْضَى﴾ أيضًا ﴿يُقَاتِلُونَ﴾ الأعداء ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ويجاهدونهم لإعلاء كلمة الله، فلا يطيقون قيام اللّيل. وسبيل الله هو ما يوصل إلى الأجر عند الله كالجهاد. وفيه تنبيه على أنه سيؤذن لهم في القتال مع الأعداء.
والمعنى (٢): أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب في الأرض ابتغاء الرزق من فضل الله، وغزو في سبيل لله، فهؤلاء إذا لم يناموا في الليل تتوالى عليهم أسباب المشقّة، ويظهر عليهم آثار الجهد. وفي هذا إيماء إلى أنّه لا فرق بين الجهاد في قتال العدوّ
(٢) المراغي.
ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص، ورفع وجوب القيام عن هذه الأمّة ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص، فقال: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ والفاء: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر من الأعذار، وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص، وأردتم بيان ما هو الأسهل عليكم.. فأقول لكم: اقرؤوا ما تيسّر منه؛ أي: صلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، أو فاقرؤوا في صلاة الليل ما خف عليكم وتيسر لكم منه من غير تحمل المشاقّ.
وهذا (١) تأكيد للأوّل، فالأوّل مفرع على قوله تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ إلخ، وهذا مفرع على قوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ إلخ. فكل من المؤكّد والمؤكّد مفرع على حكمة.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: صلوا الصلاة المفروضة، وأدّوها في أوقاتها، وقوموها بأركانها وشروطها وآدابها، فلا تكون قلوبكم غافلةً، ولا أفعالكم خارجةً عمّا رسمه الدين. ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾؛ أي: أعطوا الزكاة الواجبة في أموالكم لمستحقيها. وقيل (٢): هي زكاة الفطر، إذ لم يكن بمكة زكاة غيرها، وإنما وجبت بعدها. ومن فسّرها بالزكاة المفروضة في الأموال جعل آخر السورة مدنيًّا. وذلك إن لم نجعلها من باب ما تأخر حكمه عن نزوله ففيه دلالة على أنه سينجز وعده لرسوله، ويقيم دينه، ويظهر حتى تفرض الزكاة وتؤدي.
﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾؛ أي: أنفقوا إنفاقًا حسنًا لا منّ فيه، ولا أذى من أموالكم في سبيل الخير، والتطوع للإفراد والجماعات مما هو نافع لها في رقيّها
(٢) روح البيان.
ثم حبب في الصدقة وفعل الخيرات، فقال: ﴿وَمَا﴾ شرطية ﴿تُقَدِّمُوا﴾ في الدنيا ذخرا ﴿لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر ﴿تَجِدُوهُ﴾ جواب الشرط، ولذا جزم؛ أي: تجدوا ثوابه ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه في الآخرة ﴿هُوَ﴾ تأكيد للضمير ﴿خَيْرًا﴾ وأنفع لكم من متاع الدنيا ﴿و﴾ تجدوه هو ﴿أَعْظَمَ﴾؛ أي: أكثر ﴿أَجْرًا﴾ وثوابًا من الذي تؤخّرونه إلى الوصية عند الموت، أي: ما تنفقونه في حال الصحة أكثر ثوابًا مما تنفقونه بالوصية بعد الموت. وقوله: ﴿خَيْرًا﴾ (١)، ثاني مفعولي ﴿تَجدُوُه﴾ و ﴿هُوَ﴾ تأكيد للمفعول الأول لـ ﴿تَجدُوُه﴾ وفصل بينه وبين الفعول الثاني وإن لم يقع بين معرفتين فإنّ أفعل في حكم المعرفة. وذلك يمتنع من حرف التعريف وقوله: ﴿وَأَعْظَمَ﴾ عطف على ﴿خَيْرًا﴾ و ﴿أَجْرًا﴾ تمييز عن نسبة الفاعل. والأجر: ما يعود من ثواب العمل دنيويًا كان أو أخرويًا.
وقال بعضهم: المشهور أنّ وجد إذا كان بمعنى. صادف يتعدى إلى مفعول واحد، وهو هاهنا بمعناه لا بمعنى علم، فلا بُدَّ أن يكون ﴿خَيْرًا﴾ حالًا من الضمير. وفي الحديث: "اعلموا أنَّ كل امرىء على ما قدم قادم، وعلى ما خلف نادم". وعنه - ﷺ -: "إنّ العبد إذا مات.. قال الناس: ما خلف وقالت الملائكة: ما قدم". ومر عمر ببقيع الغرقد؛ أي: مقبرة المدينة، سمّيت بذلك لأنها كانت منبت الغرقد، وهو بالغين المعجمة اسم شجر. فقال: السلام عليكم أهل القبور أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت، فأجابه هاتف يا ابن الخطاب أخبار ماء عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفنا
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوتِكَ صَالِحًا | وَاعْمَل فَلَيْسَ إِلَى الْخُلُوْدِ سَبِيْلُ |
والمعنى: أي وما تقدّموا لأنفسكم في دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها في سبيل الله، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج، أو غير ذلك تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة خيرًا مما أبقيتم في دار الدنيا، وأعظم منه عائدة لكم.
﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: سلوا الله المغفرة لذنوبكم في جميع أوقاتكم. وكافّة أحوالكم، فإن الإنسان قلما يخلو عن تفريط، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر، ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح. واستحب (٢) الاستغفار على الأسماء من القرآن مثل أن يقول: أستغفر الله إنه كان توّابًا، أستغفر الله إنّ الله غفور رحيم، أستغفرُ الله إنه كان غفّارًا، رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾؛ أي: كثير المغفرة لمن استغفره يغفر ما دون أن يشرك به. ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: كثير الرحمة لمن استرحمه، فيبدل السيئات حسنات.
وفي "عين المعاني": (٣) غفور يستر على أهل الجهل والتقصير، رحيم يخفف عن أهل الجهل والتوقير. ومن عرف أنّه الغفور الذي لا يتعاظمه ذنب يغفر له أكثر من الاستغفار، وهو طلب المغفرة. ثم إن كان مع الانكسار.. فهو صحيح، وإن كان مع التوبة.. فهو كامل، وإن كان عريًّا عنهما.. فهو باطل. ومن كتب سيد الاستغفار وجرعه لمن صعب عليه الموت انطلق لسانه وسل عليه الموت، وقد جرب مرارًا. وسيد الاستغفار قوله: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء، ﴿أيُّ﴾ منادى نكرة مقصودة، مبني على الضمّ، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عمّا فات ﴿أيُّ﴾ من الإضافة، وجملة النداء مستأنفة. ﴿الْمُزَّمِّلُ﴾ نعت لـ ﴿أيُّ﴾ أو بدل منه، ﴿قُمِ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿اللَّيْلَ﴾ منصوب على الظرف، متعلق بـ ﴿قُمِ﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، ﴿قَلِيلًا﴾ منصوب على الاستثناء، وفيه دليل على أنَّ المستثنى قد يكون مبهم المقدار. ﴿نِصْفَهُ﴾، بدل من ﴿اللَّيْلَ﴾، أو من ﴿قَلِيلًا﴾، فإذا كان بدلًا من ﴿اللَّيْلَ﴾ كان الاستثناء منه، وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلًا. ﴿أَوِ﴾ حرف عطف وتخيير ﴿انْقُصْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على ﴿قُمِ﴾ ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿انْقُصْ﴾، ﴿قَلِيلًا﴾ مفعولى به، ﴿أَو﴾ حرف عطف وتخيير، ﴿زِدْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على ﴿انْقُصْ﴾، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿زِدْ﴾، والضمير في ﴿مِنْهُ﴾ و ﴿عَلَيْهِ﴾ عائدان على النصف. ﴿وَرَتِلِ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾، ﴿الْقُرْآنَ﴾ مفعولى به، ﴿تَرْتِيلًا﴾ مفعول مطلق، ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿سَنُلْقِي﴾ السين حرف استقبال، ﴿نلقي﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿عَلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿نلقي﴾، ﴿قَوْلًا﴾، مفعول به، ﴿ثَقِيلًا﴾ صفة ﴿قَوْلًا﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ...﴾ إلخ. ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ ناصب واسمه ومضاف إليه، ﴿هِيَ﴾ ضمير فصل أو مبتدأ، ﴿أَشَدُّ﴾ خبر ﴿إنّ﴾ أو خبر المبتدأ، والجملة خبر ﴿إنّ﴾، ﴿وَطْئًا﴾ تمييز، ﴿وَأَقْوَمُ﴾ معطوف على أشدّ ﴿قِيلًا﴾ تمييز، وجملة إنّ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بقيام الليل.
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿لَكَ﴾ خبرها مقدم، ﴿فِي النَّهَارِ﴾ حال من ﴿سَبْحًا﴾؛ لأنه كان صفة نكرة قدمت عليها، ﴿سَبْحًا﴾ اسمها مؤخّر، ﴿طَوِيلًا﴾ صفة ﴿سَبْحًا﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معترضة أيضًا. ﴿وَاذْكُرِ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على قوله: ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾. ﴿اسْمَ رَبِّكَ﴾ مفعول به، ﴿وَتَبَتَّلْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على ﴿اذْكُر﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تبتل﴾، ﴿تَبْتِيلًا﴾ مفعول مطلق، ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ﴾ بالرفع خبر لمبتدأ محذوف ومضاف إليه؛ أي: هو ربّ المشرق، ويقرأ بالجرّ على أنه بدل من ﴿رَبِّكَ﴾. ﴿وَالْمَغْرِبِ﴾ معطوف على المشرق. ﴿لَا﴾ نافية تعمل عمل ﴿إنّ﴾ المكسورة، ﴿إِلَهَ﴾ في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لا﴾ محذوف تقديره: موجود، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، ﴿هُوَ﴾ ضمير للمفرد المنزَّه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستتر في خبر ﴿لا﴾ المحذوف، وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب حال من رب المشرق، أو معطوفة على جملته بعاطف مقدر. ﴿فَاتَّخِذْهُ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت انفراده بالربوبية والألوهية، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: اتخذه يا محمد وكيلا. ﴿اتخذه وكيلا﴾ فعل أمر وفاعل مستتر ومفعولان؛ لأنّ ﴿اتَّخَذَ﴾ من أخوات ظنّ، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (١٤)﴾.
﴿وَاصْبِرْ﴾ فعل وفاعل مستتر، معطوف على اتخذه، ﴿عَلَى مَا﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اصبر﴾، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، والعائد محذوف؛ أي: على ما يقولونه. ﴿وَاهْجُرْهُمْ﴾ فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿اصبر﴾، ﴿هَجْرًا﴾ مفعول مطلق، ﴿جَمِيلًا﴾ صفة هجرا، ﴿وَذَرْنِي﴾ الواو: عاطفة، ﴿ذر﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والنون للوقاية، والياء: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة اصبر، ﴿وَالْمُكَذِّبِينَ﴾ معطوف على الياء أو مفعول معه، ﴿أُولِي النَّعْمَةِ﴾ صفة لـ ﴿المكذبين﴾، منصوب بالياء؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، ﴿وَمَهِّلْهُمْ﴾ فعل
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧)﴾.
﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة. ﴿إِلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿رَسُولًا﴾ مفعول به، ﴿شَاهِدًا﴾ صفة ﴿رَسُولًا﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿شَاهِدًا﴾، ﴿كَمَا﴾ جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف تقديره: أرسلنا إليكم رسولًا إرسالًا كائنا كإرسالنا موسى إلى فرعون. و ﴿ما﴾ مصدرية، وجملة ﴿أَرْسَلْنَا﴾ صلتها، ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿رَسُولًا﴾، مفعول به، ﴿فَعَصَى﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿عصى فرعون الرسول﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ﴾. ﴿فَأَخَذْنَاهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، أخذناه فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿فَعَصَى﴾، ﴿أَخْذًا﴾ مفعول مطلق، ﴿وَبِيلًا﴾ صفة ﴿أَخْذًا﴾، ﴿فَكَيْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿كيف﴾ اسم استفهام في محل النصب على الحال من فاعل ﴿تَتَّقُونَ﴾، ﴿تَتَّقُونَ﴾ فعل مضارع مرفوع بالنون، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿كَفَرْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، والجواب محذوف دل عليه ما قبلها؛ أي:
﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (١٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (١٩)﴾.
﴿السَّمَاءُ﴾ مبتدأ، ﴿مُنْفَطِرٌ﴾ خبره ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿مُنْفَطِرٌ﴾، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿يَوْمًا﴾، ﴿كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا﴾ فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾ ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة. ﴿فَمَن﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿من﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿شَاءَ﴾ فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ومفعول ﴿شَاءَ﴾ محذوف تقديره: فمن شاء النجاة. ﴿اتَّخَذَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾، ﴿إِلَى رَبِّهِ﴾ في موضع المفعول الثاني لـ ﴿اتَّخَذَ﴾، ﴿سَبِيلًا﴾ مفعول أوّل له.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، ﴿أَنَّكَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿تَقُومُ﴾ خبر ﴿أنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ في تأويل مصدر ساد مسدّ مفعولي ﴿يَعْلَمُ﴾، ﴿أَدْنَى﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، متعلق بـ ﴿تَقُومُ﴾ أي: وقتًا أدنى، ﴿مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ متعلق بـ ﴿أَدْنَى﴾، ﴿وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ﴾ معطوفان على ﴿أَدْنَى﴾، ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ معطوف على فاعل ﴿تقوم﴾ المستتر لوجود الفاصل، ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿طائفة﴾، ﴿مَعَكَ﴾ صلة الموصول. ﴿وَاللَّهُ﴾ مبتدأ، ﴿يُقَدِّرُ اللَّيْلَ﴾ فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿وَالنَّهَارَ﴾ معطوف على ﴿اللَّيْلَ﴾، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿عَلِمَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿أَن﴾
﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿فَاقْرَءُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على علم أن ﴿سَيَكُونُ﴾. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب، مفعول به، وجملة ﴿تَيَسَّرَ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿تَيَسَّرَ﴾ أو حال من فاعل ﴿تَيَسَّرَ﴾. ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿اقرؤوا﴾، ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ معطوف عليه أيضًا، ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، معطوف عليه أيضًا، ﴿قَرْضًا﴾ مفعول مطلق، ﴿حَسَنًا﴾ هو صفة ﴿قَرْضًا﴾ ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: اعتراضية، ﴿مَا﴾ اسم شرط جازم في محل النصب، مفعول مقدم لـ ﴿تُقَدِّمُوا﴾، ﴿تُقَدِّمُوا﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَا﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿والواو﴾: فاعل، ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿تُقَدِّمُوا﴾، ﴿مِنْ خَيْرٍ﴾ حال من الضمير المحذوف في ﴿تُقَدِّمُوا﴾، ﴿تَجِدُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، مجزوم بـ ﴿مَا﴾ على
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)﴾ أصله: المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه؛ أي: تلفّف بها، فأبدلت التاء زايًا، وأدغمت الزاي في الزاي. وفي "المصباح": زمّلته بثوبه تزميلًا فتزمّل مثل: لفّفته فتلفّف، وزملت الشيء: حملته، ومنه قيل للبعير: زاملة بالهاء للمبالغة، لأنّه يحمل متاع المسافر. ﴿قُمِ اللَّيْلَ﴾ أمر من قام يقوم؛ لأن الأمر قطعة من المضارع المجزوم الذي حذف منه حرف المضارعة، والجازم؛ لأن مضارعه المجزوم لم يقم، فإذا حذفت منه الجازم وحرف المضارعة يكون الباقي منه قم، فهو أمر ﴿اللَّيْلَ﴾ هو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾ أمر مأخوذ من لم يزد، لأنه الباقي من المضارع بعد حذف الجازم وحرف المضارعة. ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ﴾ أمر من رتل يرتل ترتيلًا من باب فعل المضعف. قال في "الكشاف": ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات حتى يجيء المتلو منه شبيهًا بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهزه هزا ولا يسرده سردًا، كما مرّ.
﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ وناشئة الليل: القيام بعد النوم، فهي صفة لمحذوف؛ أي: إن النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة؛ أي: ترتفع وتنهض، من نشأت السحابة إذا ارتفعت. وقيل: إنها مصدر بمعنى القيام من نشأ إذا قام ونهض، فتكون كالعافية. وفي "المختار": وناشئة الليل أول ساعاته. وقيل: ما ينشأ فيه من الطاعات. ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ﴾؛ أي: انقطع إليه. و ﴿تَبْتِيلًا﴾ مصدر على غير القياس، وهو
وغَيْرُ ذي ثَلاَثَةٍ مَقِيْسُ | مَصْدُرُ كَقُدِّسَ التَّقْدِيْسُ |
دعاك فَقَطَّعْتَ أَنْكَالَهَ | وقَدْ كُنَّ قَبْلَكَ لَا تُقْطَعُ |
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهَرَه | إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَه |
تَغَايَرَتْ وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِي | تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ |
﴿تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ﴾ أصله: أدنى بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَثُلُثَهُ﴾ والثلث: أحد أجزاء الثلاثة، والجمع أثلاث. ﴿وَطَائِفَةٌ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: طاوفة؛ لأنه من طاف يطوف، قلبت الواو همزة حملًا للوصف على فعله طاف في الإعلال. ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ﴾ قال الراغب: التقدير: تبيين كمية الشيء، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ﴾... إلخ، إشارة إلى ما أجرى من تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل؛ أي: إدخال هذا في هذا، كما مرّ. ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ﴾ أصله: تحصيوه، استثقلت الضمة على الياء فحذفت فلما سكنت حذفت لإلتقاء الساكنين، وضمت الصاد لمناسبة الياء. قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد. ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ أصله: توب بوزن فعل، قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين ﴿أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا﴾ و ﴿أَوْ زِدْ عَلَيْهِ﴾، وبين ﴿الْمَشْرِقِ﴾ ﴿وَالْمَغْرِبِ﴾، وبين ﴿اللَّيْلِ﴾ ﴿وَالنَّهَارِ﴾.
ومنها: تأكيد الفعل بالمصدر في قوله: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾، وقوله: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾، وفي قوله: ﴿وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾. وفي قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾. زيادة في البيان والإيضاح وفي هذه الأمثلة أيضًا. جناس الاشتقاق.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصليّة في قوله: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧)﴾، حيث استعير السبح الذي هو المر السريع في الماء لسرعة الذهاب في طلب المعاش، وقضاء حوائج الناس بجامع التردّد في كل منهما؛ أي: إن لك في النهار تصرّفًا وتقلّبًا في المهمّات كما يتردّد السابح في الماء.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ إشارة إلى هوله وشدّته، بحيث لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه.
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا﴾ إشعارًا بتحقق وقوعه، وفيه أيضًا لتشبيه البليغ؛ أي: وكانت الجبال كالثيب المهيل؛ أي: كالرمل السائل في عدم التماسك.
ومنها: تخصيص هذا التشبيه بالجبال دون الأرض؛ لأنَّ ذلك خاصة لها، فإن الأرض تكون مقررة في مكانها بعد الرجفة حتى تبدل بغيرها، كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥)﴾ الآية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا﴾. ولو جرى على مقتضى السياق.. لقال: إنا أرسلنا إليهم. والغرض من هذا الالتفات التقريع والتوبيخ على عدم الإيمان.
ومنها: عدم تعيين الرسول فيه لعدم دخله في التشبيه.
ومنها: تخصيص فرعون دون ملئِهِ؛ لأنه من رؤساء أولى النعمة المترفهين المتكبرين، فبينه وبين قريب جهة جامعة ومشابهة حال ومناسبة سريرة.
ومنها: إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيعا لشأن عصيانه، وأن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى.
ومنها: ترك ذكر أملاء فرعون إشارةً إلى أن كل واحد منهم كأنه فرعون في نفسه لتمرده.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾، حيث أسند الجعل إلى اليوم للمبالغة في شدّته، وإلا فنفس اليوم لا تأثير له ألبتة.
وفيه أيضًا لاستعارة التمثيلية بأن شبه اليوم في شّدة هوله بالزمان الذي يشيب الشبّان لكثرة همومه وأهواله.
ومنها: تقدم الاسم الجليل وبناء الخبر الفعلي عليه في قوله: ﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ لإفادة الاختصاص قطعًا.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾، حيث استعار التوبة بمعنى رفع الحرج عن التائب للتخفيف والترخيص، فاشتقّ منه تاب بمعنى: خفف ورخّص على طريقة الاستعارة التبعية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾؛ أي: صلوا ما تيسّر من صلاة الليل، حيث أطلق الجزء على الكلّ، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة؛ أي: أركانها.
ومنها: تصريح ما علم التزامًا في قوله: ﴿يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾؛ لأنّه معلوم من قوله: ﴿يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأن السفر لا يكون إلا لحاجة.
ومنها: التكرار بقوله: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، تأكيدًا للحث على قيام الليل بما تيسر.
ومنها: الاستعارة التبعية في قوله: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ حيث شبه الإنفاق لوجه الله تعالى بالإقراض المعروف من حيث إن ما أنفقه يعود إليه مع زيادة، فاستعار له اسم المشبّه به، فاشتق من الإقراض بمعنى الإنفاق في سبيل الله ﴿أقرضوا﴾ بمعنى أنفقوا في سبيل الله على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. وفيه أيضًا جناس الاشتقاق.
ومنها: ذكر العام بعد الخاصّ في قوله: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾، حيث عمم بذكره بعد أن خصص بذكر الصلاة والزكاة والإقراض الحسن.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
أمر النبي - ﷺ - بأشياء:
١ - أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.
٢ - أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهل.
٣ - أن يذكر ربه ليلًا ونهارًا بالتحميد والتسبيح والصلاة، وأن يجرد نفسه عما سواه.
٤ - أن يتخذه وكيلًا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه.
٥ - أن يصبر على ما يقولون فيه من أنه ساحر أو شاعر، وفي ربه من أن له صاحبة وولدًا، وأن يهجرهم هجرأ جميلًا بمجانبتهم ومداراتهم، وأن يكل أمرهم إلى ربهم، فهو الذي يكافئهم، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره.
٦ - أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة، والاكتفاء بما تيسّر من صلاة الليل، ففي الصلاة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار (١).
والله أعلم
* * *
سورة المدثر كلها مكية بلا خلاف، نزلت بعد سورة المزمل. وأخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة المدّثّر بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وقيل (١): هي مكية إلا آية من آخرها.
وآياتها: ست وخمسون آية. وكلماتها: مئتان وخمس وخمسون كلمة. وحروفها: ألف حرف وعشرة أحرف.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم: سورة المدّثّر كلها محكمة إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١)﴾، نسخت بآية السيف.
مناسبتها لما قبلها (٢):
١ - أنّها متواخية مع السّورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ - ﷺ -.
٢ - أن صدر كلتيهما نازل في قصة واحدة.
٣ - أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل، وهو تكميل لنفسه - ﷺ - بعبادة خاصة، وهذه بدئت بالإنذار لغيره، وهو تكميل لسواه.
وقال أبو حيان (٣): مناسبتها لما قبلها: أن ما في قبلها ﴿ذرني والمكذّبين﴾ وفيه أيضًا ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾، فناسب ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾، وناسب ذكر يوم القيامة بعد، وذكر بعض المكذبين في قوله: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١)﴾.
والله أعلم
* * *
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلَّا وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)﴾.المناسبة
قد تقدم بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها، وأمّا آياتها فنزلت في قصة واحدة، فلا حاجة إلى البحث عن المناسبة بينها، فتأمل.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾ سبب نزوله (١): ما أخرجه الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري نزلت، فاستبطنت الوادي، فنوديت، فلم أر أحدًا، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء، ففزعت فرجعت إلى أهلي، فقلت: دثّروني دثروني، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾ إلى قوله: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)﴾.
قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾... الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم وغيره عن ابن عباس وصححه أن النبي - ﷺ - قام في المسجد يصلي، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، وهو يقرأ: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (٤)﴾، فلما فطن النبي - ﷺ - إلى استماعه.. أعاد القراءة، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، والله إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى عليه. ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبونّ قريش كلهم، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينًا، فقال الوليد: ما لي أراك حزينًا يا ابن أخي؟ فقال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريب يجمعون لك نفعة يعينونك على كبر سنّك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وأنك تدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريب أنّي من أكثرهم مالًا وولدًا؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام، ثم أتى مجلس قومه مع أبي جهل، فقال لهم: تزعمون أن محمدًا مجنون فهل رأيتموه يخنق قطّ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهّن قطّ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنّه كذّاب، فهل جربتم عليه شئيا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا وكان رسول الله - ﷺ - يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه. ثم قالوا: فما هو؟ قال: ما
وقد كان الوليد يسمّى الوحيد؛ لأنه وحيد في قومه، فماله كثير فيه الزرع والضرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحامل والمجامع أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه، وكان يسمى ريحانة قريش.
قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾ سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في "الشعب" عن البراء رضي الله عنه: أن رهطًا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي - ﷺ - عن خزنة جهنم؟ فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبي - ﷺ -، فنزل عليه ساعتئذٍ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما رواه ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾ قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يعني: "محمدًا - ﷺ - يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم - الشجعان - أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟ فقال له أبو الأشدّ بن كلدة الجمحيّ وكان شديد البطش: أيهولنكم التسعة عشر أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة، وبمنكبي الأيسر التسعة، ثم تمرون إلى الجنة، يقول ذلك مستهزئًا. وفي رواية: أن الحارث بن كلدة قال: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً﴾؛ أي: لم نجعلهم رجالًا فيتعاطون مغالبتهم.
قوله تعالى: ﴿بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (٥٢)﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا: لئن كان محمد صادقًا.. فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة