ﰡ
(مكية حروفها أربعمائة وأربعون كلمها مائة وسبع كلمات آياتها خمسة وعشرون)
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١ الى ٢٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
القراآت
وَيَصْلى ثلاثيا مفتوح العين مبنيا للفاعل: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وحمزة وعاصم وخلف. الباقون يصلى بالتشديد مبنيا للمفعول لَتَرْكَبُنَّ بفتح الباء للتوحيد والخطاب للإنسان: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالضم على خطاب أفراد الجنس.
الوقوف
انْشَقَّتْ هـ لا وَحُقَّتْ هـ ك مُدَّتْ هـ ك وَتَخَلَّتْ هـ ك وَحُقَّتْ هـ ط لأن الجواب محذوف أي إذا كانت هذه الأمارات ظهر ما ظهر فَمُلاقِيهِ هـ ط وقد يقال عامل «إذا» فَمُلاقِيهِ أي إذا السماء انشقت لاقى كدحه فلا وقف إلى قوله فَمُلاقِيهِ وقيل: قوله فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ الشرط مع جوابه جواب للشرط الأول، وقوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلى قوله فَمُلاقِيهِ اعتراض ولا وقف على بِيَمِينِهِ يَسِيراً هـ ك مَسْرُوراً هـ ط ظَهْرِهِ هـ لا ثُبُوراً هـ لا سَعِيراً هـ ط مَسْرُوراً هـ يَحُورَ هـ لا بَلى ج لجواز تعلق بلى بما قبله وبما بعده بَصِيراً هـ ط للإبتداء بالقسم بِالشَّفَقِ هـ لا وَسَقَ هـ لا اتَّسَقَ هـ لا طَبَقٍ هـ ك لا يُؤْمِنُونَ هـ ك لا يَسْجُدُونَ هـ ط
التفسير:
عن علي رضي الله عنه أن السماء تنشق من المجرّة.
ومعنى أَذِنَتْ لِرَبِّها استمعت له ومنه
قوله ﷺ «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» «١»
والمراد أنها لم تمتنع عن قبول ما أريد بها من الانشقاق والانفطار فعل المأمور والمطواع الذي أصغى لحديث آمره وَحُقَّتْ بذلك لأن الممكن لا بدّ له أن يقع تحت قدرة الواجب لذاته. ومدّ الأرض تسوية جبالها وآكامها بحيث لا يبقى فيها عوج. عن ابن عباس: مدّت مدّ الأديم العكاظي لأن الأديم إذا مدّ زال ما فيه من الانثناء واستوى. وقيل: من مدّه بمعنى أمدّه أي زيد في سعتها أو بسطتها ليمكن وقوف الخلائق الأوّلين والآخرين عليها وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت بما في جوفها من الكنوز والأموات وَتَخَلَّتْ أي خلت غاية الخلو كأنها تكلفت أقصى ما يمكنها من الفراغ. وقوله وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ ليس بمكرر لأن الأوّل في السماء وهذا في الأرض وحذف جواب «إذا» ليذهب الوهم كل مذهب، أو اكتفاء بما مر في سورتي «التكوير» و «الانفطار». وقيل: في الكلام تقديم وتأخير. والمعنى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ إذا السماء انشقت، والأقرب أن الإنسان للجنس بدليل التفصيل بعده. وقيل: هو رجل بعينه إما محمد ﷺ والمعنى إنك تكدح فى تبليغ رسالات الله فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل، وإما أمية بن خلف وإنه يجتهد في إيذاء النبي ﷺ قاله ابن عباس. والكدح جهد النفس في العمل حتى تأثرت من كدحت جلده إذا خدشته أي جاهد إلى وقت لقاء ربك وهو الموت وما بعده. وفيه أن الدنيا دار عناء وتعب ولا راحة ولا فرح فيها. والضمير في قوله فَمُلاقِيهِ للرب أي فملاق له البتة فهو كالتأكيد للمذكور، ويجوز أن يكون للكدح أي لجزائه يؤيده التفصيل الذي بعده. عن عائشة أن الحساب اليسير هو أن يعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه.
وعن النبي ﷺ أنه قال «من يحاسب يعذب فقيل: يا رسول الله فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب» «٢»
أقول فَسَوْفَ من الكريم إطماع فيمكن أن تكون الفائدة في إيراده أن يكون
أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٠. الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٧. النسائي في كتاب الافتتاح باب ٨٣. الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧١. أحمد في مسنده (٢/ ٢٧١، ٢٨٥).
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ٣٥. مسلم في كتاب الجثّة حديث ٧٩ أبو داود في كتاب الجنائز باب ١. الترمذي في كتاب تفسير سور، ٨٤ باب ٢. أحمد في مسنده (٦/ ٤٧، ٩١).
٢٣] ومعنى وَراءَ ظَهْرِهِ أن تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره ويؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره. وقيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. وقيل: تجعل وجوههم إلى خلف فيكون الكتاب قد أوتي من جانب ظهره ولكن بشماله كما في «الحاقة». والوراء هاهنا بمعنى مجرد الجانب، أو معنى قدام. والثبور الهلاك ودعاؤه أن يقول «وا ثبوراه».
وسمي المواطأة على الشيء مثابرة لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه والنفس تمنعه عن ذلك أنه كان أي في الدنيا مسرورا في أهله كقوله وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: ٣١] وفيه أن الفرح في الدنيا يعقب الغم في الآخرة لقوله فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً [التوبة: ٨٢] ومن كان في الدنيا حزينا متفكرا في أمر الآخرة كان حاله في الآخرة بالعكس. والفرح المنهي عنه ما يتولد من البطر والترفه لا الذي يكون من الرضا بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: ٥٨] ثم بين أن سروره إنما كان لأجل أن البعث والنشور لم يكن محققا عنده فقال إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي أن يرجع إلى الله أو إلى خلاف حاله من السرور والتنعم. عن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنت لها:
حوري أي ارجعي. ثم نفى منطوقه بقوله بَلى أي بلى يحور. وفي قوله إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً إشارة إلى أن العلم التام بأحوال المكلفين يوجب إيصال الجزاء إليهم، فلا بد من دار سوى دار التكليف وإلا كان قدحا في القدرة والحكمة. قال الكلبي: كانَ بِهِ بَصِيراً من يوم خلقه إلى أن بعثه. وقال عطاء: بصيرا بما سبق عليه في أم الكتاب من الشقاء ثم أكد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال بقوله فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وهو الحمرة الباقية من آثار الشمس في الأفق الغربي قاله ابن عباس والكلبي ومقاتل. وعن الفراء: سمعت بعض العرب يقول: عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وعن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه البياض، وأنه روى أنه رجع عنه لأن البياض يمتد وقته فلا يصلح للتوقيت، ولأن التركيب يدل على الرقة ومنه الشفقة لرقة القلب. ثم إن الضوء يأخذ من عند غيبة الشمس في الرقة والضعف. وعن مجاهد أن الشفق هاهنا النهار لما في النور من الرقة واللطافة كما أن في الظلمات الغلظ والكثافة، لأن القسم بالنهار يناسب القسم بالليل في قوله وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ والتركيب يدل على الاجتماع والضم ومنه الوسق لأنه جامع لستين صاعا.
واستوسقت الإبل إذا اجتمعت وانضمت، وقد وسقها الراعي أي جمعها ونظيره في وقوع
وقوله عَنْ طَبَقٍ حال من فاعل لَتَرْكَبُنَّ أو صفة أي طبقا مجاوزا لطبق، ف «عن» تفيد البعد والمجاوزة أي حالا بعد حال، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول.
وجوز أن يكون جمع طبقة أي أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة، فبعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من أهوال القيامة كأنهم لما أنكروا البعث أقسم الله سبحانه أن ذلك كائن وأن الناس يلقون بعد الموت شدائد متنوّعة وأحوالا مترتبة حتى يتبين السعيد من الشقي والمحسن من المسيء. وقيل: لتركبن سنة الأولين من المكذبين المهلكين. عن مكحول: كل عشرين عاما تجدون أمرا لم تكونوا عليه. والركوب على هذه التفاسير مجاز عن الحصول على تلك الحالة. وقد يقال على قراءة فتح الباء: إنها صيغة الغائبة والضمير للسماء وأحوالها المختلفة انشقاقها ثم انفطارها، ولعل هذا كمال الانحراف ثم صيرورتها وردة كالدهان أو كالمهل وهذا القول مناسب لأول السورة وهو مرويّ عن ابن مسعود.
وقيل: الخطاب للنبي ﷺ والمراد أعباء الرسالة وأنه يجب عليه أن يتلقاه بالصبر والتحمل إلى أوان الظفر والغلبة كقوله لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران: ٨٦] وعن ابن عباس وابن مسعود أن المراد حديث الإسراء وأن النبي ﷺ ركب أطباق السماء. وبين القسم والمقسم عليه مناسبة لأنه أقسم بتغيرات واقعة في الأفلاك والعناصر على صحة إيجاد سائر التغايير من أحوال القيامة وغيرها، ولا شك أن القادر على بعض التغايير المعتبرة قادر على أمثالها فلا جرم قال على سبيل الاستبعاد فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وتأويل الآية أن النفس إذا استغرقت في بعض المجهولات التصورية والتصديقية كانت المناسبة شبيهة بالشمس الغاربة، فإذا أقبلت على تحصيل قضية من تلك القضايا المجهولة مثلا تجلى عليها نور من النفس يترجح به عندها أحد طرفي النقيض على الآخر، لكن ما لم تكن جازمة فذلك النور كالشفق بالنسبة إلى ضياء الشمس، ثم إذا سبحت في لجة المعلومات لها طالبة للحد الأوسط عرضت هناك شبهة شبيهة بالليل وما وسقه، فإذا حصل الحدّ الأوسط بالتحقيق وانتقل الذهن منه إلى النتيجة الحقة صارت المسألة كالبدر التم وهو المستفاد ضوءه من النفس الناطقة القدسية التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. وطَبَقاً عَنْ طَبَقٍ هي مراتب العلوم النظرية من
أراد به الخضوع والاستكانة. والأكثرون على أنه السجود نفسه. ثم اختلفوا فعن أبي حنيفة وجوبه لأنه ذمهم على الترك. وعن الحسن وهو قول الشافعي أنه سنة كسائر سجدات التلاوة عنده. ثم بين بقوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أن الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه وإن كانت جلية ظاهرة لكن الكفار يكذبون بها تقليدا للإسلاف أو عنادا. ثم أجمل وعيدهم بقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي يجمعون ويضمرون في صدورهم من الشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة فهو يجازيهم على ذلك. وقيل: بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء. ثم صرح بالوعيد قائلا فَبَشِّرْهُمْ وقوله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا استثناء منقطع عند الزمخشري ولا بأس بكونه متصلا كأنه قال: إلا من آمن منهم فله أجر غير مقطوع أو هو من المنة، بني الكلام هاهنا على الاستئناف فلم يحتج إلى الفاء، وعلى التعقيب في التين فأورد الفاء والاستئناف أجمع مقدّمة.