وتبدأ السورة بقسَمه تعالى بمظاهر قدرته على أن أولئك الطغاة المتعرضين لإيذاء المؤمنين سيُطردون من ساحة الرحمة، كما طُرد من سلك سبيلهم ممن سبقوهم من الأمم.
وتقص السورة خبر فعل الطغاة بالمؤمنين، وتصور ذلك المشهد المفجع في لمحات خاطفة، ثم تعقّب ذلك بوعد المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار. وهي تقرر أن الحق في كل العصور معرّض لمناوأة المناوئين، وأن القرآن الذي هو دعامة الحق في منأى عن الشك، لأنه في لوح محفوظ عند الله.
ﰡ
أقسَم الله تعالى بالسماءِ البديعة وما فيها من نجوم لِينبِّهَنا إلى ما فيها من دقة الصنع، وبالغ الحكمة، لِنعلمَ أن الذي خلَقها أجلُّ وأعظم.
والبروج اثنا عشر وهي : الحمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسُنبلة، والميزان، والعقرب، والدَّلو، والجَدي، والحوت، والقوس.
وتحلُّ الشمس كل شهرٍ في واحد من هذه البروج، وكلٌّ منها يضمُّ منزلَين وثلُثاً من منازل القمر، وعددها ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل يوم في واحد منها ويستتر ليلتين يغيب فيهما.
ومنازل القمر هي : الشرطان، والبطين، والثريا، والدَّبَران، والهَقْعَة، والهَنْعة، والذِراع، والنثرة، والطَرْف، والجَبْهة، والزّبرة، والصرفة، والعَوّاء، والسِّماك الأعزل، والغفر، والزُّبانى، والإكليل، والقلب، والشَّولة، والنعائم، والبلدة، وسعدُ الذابح، وسعد بَلَعَ، وسعدُ سُعود، وسعدُ الأخبية، والفرغُ الأول، والفرغُ الثاني، وبطنُ الحوت.
ونرى في السماء ستة بروج، والستة الأخرى تكون في سماء نصفِ الأرض المغيَّبة عنّا.
ونرى في المنازل أربعة عشر منزلا، والبقية في النصف المغيّب عنّا. والبروج الإثنا عشر، منها ستة في شمال خط الاستواء، وستة أخرى في جنوبه.
فأما التي في شماله فهي : الحمل، والثور، والجوزاء.
وهذه الثلاثة تقطعها الشمس في ثلاثة أشهر هي فصل الربيع، ثم السرطان، والأسد، والسنبلة، وهذه هي فصل الصيف.
والستة التي في جنوب خط الاستواء هي : الميزان، والعقرب، والقوس، وفيها يكون فصل الخريف.
ثم الجدي، والدلو، والحوت، وفيها يكون فصل الشتاء. هكذا قسّم القدماء البروج والمنازل.
ولقد أقسم الله تعالى بالسماء لما فيها من نجوم لا تُعدُّ ولا تحصى، ومن جملتها هذه البروج، لأننا نراها ونشاهدُها دائما، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس في هذه الحياة.
وقد اهتم العربُ اهتماماً كبيرا بمعرفة هذه النجوم، ومن قبلِهم اهتمت الأمم التي سبقتهم. وكانوا أحوجَ الناس إلى معرفتها، ومواقع طلوعها وغروبها، لأنهم يحتاجون إليها في السفَر برّاً وبحراً، إذ يهتدون ليلاً بهذه الدراري اللامعة، فلولاها لضلّت قوافلُهم وهلكت تجارتُهم ومواشيهم، وهذا ما أشار الله تعالى إليه بقوله :
﴿ وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر ﴾ [ الأنعام : ٩٧ ].
وقال :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [ الحجر : ١٦ ].
وقال :﴿ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ﴾ [ يونس : ٥ ].
ولذلك اهتم العرب بهذه السماء العجيبة، وعرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسمّوها بأسماء مخصوصة، وذكروا في أشعارهم بعضها، مثل الفَرْقَدَين والدَّبَران، والعَيُّوق، والثريا، والسِّماكَين، والشِّعْرَيَيْن، وغيرهما مما ذكر في كتب الفلك والأدب والتفسير والتاريخ....
وقد صور العلامة أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي جميع أسماء الكواكب المستعملة عند العرب في كتابه البديع : صور الكواكب الثمانية والأربعين، والذي حوى نحو مئتين وخمسين كوكبا....
فالقَسم بهذه السماء البديعة الصنع، العجيبة التركيب، وما فيها من نجوم ومجرات، ومجموعات لا نعلم منها إلا القليل القليل، قَسَمٌ عظيم، والذي أقسَمَ أجَلُّ أعظمُ.
هو يوم القيامة الذي وعَدَ اللهُ أنه لا بدّ آتٍ للحساب والجزاء.
وبجميع ما خلق اللهُ في هذا الكون العجيب، مما يشهده الناس ويرونه رأيَ العين. وبهذا يوجه الله تعالى أنظارنا إلى ما في هذا الكون الواسع الكبير من العظمة والفخامة والحكمة، لنعتبر ونتعظ، ونعلم أن الله الذي خلق هذا الكون هو الذي يستحق أن يعبد.
قاتلَ اللهُ أصحابَ الأخدود ولعنهم، فهم الذين شقّوا في الأرض شقاً مستطيلا كالخندق، وملأوه بالنيران، وحرقوا بها المؤمنين بالله.
﴿ النار ذَاتِ الوقود ﴾
إنهم أصحابُ النار المتأججة التي أوقدوا فيها الحطب الكثير، فارتفع لهبها.
﴿ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ﴾،
قُتل هؤلاء المجرمون ولُعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار، وهم جلوسٌ حولَها.
وما كان للمؤمنين من ذنْبٍ عندهم، ولا انتقموا منهم، إلا لأنهم آمنوا بالله العزيزِ، الغالبِ الذي لا يُضام مَنْ لاذَ به، الحميدِ في جميع أقواله وأفعاله.
﴿ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
إنه تعالى مطَّلع على أعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم، فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.
عذاب الحريق : عذاب النار في جهنم.
وبعد أن ذكر قصةَ أصحابِ الأُخدود، وما فعلوه من العذاب الكبير بالمؤمنين، شدَّد النكير على أولئك المجرمين الذي عذّبوهم، بأنه أعدَّ لهم عذاباً أليما في نار جهنم، وأنه إن أمهَلَهم فإنه لا يُهمِلُهم، فقال :
﴿ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق ﴾.
إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات في دِينهم بالأذى والتعذيبِ بالنار ولم يتوبوا إلى الله من ذلك الجرم الكبير، بل ظلّوا مصرّين على كفرهم وعنادهم، لهم في الآخرة عذابُ جهنم وحريقُها كما أحرقوا المؤمنين.
وقد اختلف المفسرون في حقيقة أصحاب الأخدود، وأين كان موضعهم ومن هم، وأوردوا أقوالا كثيرة لا فائدة منها فأضربنا عنها وتركناها.....
﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير ﴾.
بهذا القول الكريم يتمثل رضى الله وإنعامُه على الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، حيث تكون خاتمتُهم في جناتِ النعيم التي تجري من تحتِ أشجارها الأنهارُ، وهذا هو الفوزُ الكبير، جزاء صبرهم وإيمانهم وعملهم الصالح.
ثم أخبر تعالى عن انتقامهِ الشديد من أعدائه وأعداء رسُله والمؤمنين فقال :
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾.
إن انتقام الله من الجبابرة والظَلَمة، وأخْذَه إياهم بالعقوبة، بالغُ الغايةِ في الشدة، والنهايةِ في الأذى.
فهو الخالقُ القادر الذي يبدأ الخَلْق من العدم، ثم يعيدُهم أحياءً بعد الموت. فإذا كان قادراً على البدءِ والإعادة، فهو قادرٌ على البطش بهم... لأنهم في قبضتِه وخاضعون لسلطانه.
ثم ذكر سبحانه أنه يغفر دائماً، وأنه رحيمٌ لعباده، كثيرُ المحبّة لمن أطاعه، فبين في ذلك أوصافٍ من صفات الرحمةِ والجَلال فقال :
١- ﴿ وَهُوَ الغفور ﴾ وهو كثير المغفرة لمن يتوب ويرجع إليه، فيا أيها الناس
لا تقنَطوا من رحمة الله، فإن رحمته وسِعت كلَّ شيء.
٢- ﴿ الودود ﴾ المحبّ لأوليائه المخلِصين، اللطيف المحسِن إليهم. وأي صفة أعظمُ من هذه الصفة ؟
المجيد : السامي القدر، المتناهي في الجود والكرم، يقال : مجُد مجادة، فهو مجيد.
ومن صفات الرحمةِ والجَلال أيضا :
- ﴿ ذُو العرش ﴾ صاحبُ الملك والعظمة، والسلطان والقدرة النافذة، والأمر الذي
لا يُرَدّ.
- ﴿ المجيد ﴾ العظيم الكرم والفضل، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال.
قراءات
قرأ حمزة والكسائي : ذو العرش المجيدِ بكسر الدال، وقرأ الباقون : المجيدُ بالرفع.
- ﴿ فعال لما يريد ﴾ : يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقّب لحُكمه ولا رادَّ لقضائه.
روي أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه، قيل له وهو في مرض الموت : هل نظرتَ إلى طبيب ؟ فقال : نعم، قالوا : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : إني فعّال لما أريد.
ما لقي هؤلاء من أقوامهم.
والغرضُ من هذا كله تسليةُ النبيّ الكريم وصحبه، وشدُّ عزائمهم على التذرع بالصبر.
﴿ والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ ﴾ لا يفلتون من قبضته، ولا يُعجِزونه.
﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾
إن ما جئتهم به يا محمد من قرآن عظيم، وكذّبوا به، هو من عند الله واضحُ الدلالة على صِدقك.
وهو محفوظٌ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل.
قراءات :
قرأ نافع : في لوح محفوظٌ بالرفع، والباقون : محفوظٍ بالجر.