تفسير سورة الغاشية

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

الغاشية من أسماء يوم القيامة، لأنها تغشى الناس وتعمهم، روي عن عمرو بن ميمون أنه قال :« مرَّ النبي ﷺ على امرأة تقرأ :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية ﴾ فقام يستمع، ويقول :» نعم قد جاءني « » وقوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾ أي ذليلة، وقال ابن عباس : تخشع ولا ينفعها عملها، وقوله تعالى :﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ أي قد عملت عملاً كثيراً ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة ناراً حامية، عن أبي عمران الجوني قال : مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب، قال : فناداه : يا راهب، فأشرف، قال : فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له : يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال : ذكر قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه :﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تصلى نَاراً حَامِيَةً ﴾ فذاك الذي أبكاني، قال ابن عباس :﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ النصارى، وعن عكرمة والسدي : عملة في الدنيا بالمعاصي، ناصبة في النار بالعذاب والإهلاك. وقال ابن عباس :﴿ تصلى نَاراً حَامِيَةً ﴾ أي حارة شديدة الحر، ﴿ تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴾ أي قد انتهى حرها وغليانها، وقوله تعالى :﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ﴾ قال ابن عباس : شجر من النار، وقال سعيد بن جبير : هو الزقوم، وعنه أنها الحجارة، وقال البخاري، قال مجاهد : الضريع نبت يقال له الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس، وهو سم، وقال قتادة :﴿ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ﴾ من شر الطعام وأبشعه وأخبثه، وقوله تعالى :﴿ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾ يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور.
لما ذكر حال الأشقياء ثَنى بذكر السعداء فقال :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم القيامة، ﴿ نَّاعِمَةٌ ﴾ أي يعرف النعيم فيها، وإنما حصل لها ذلك بسعيها، ﴿ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴾ قد رضيت عملها، وقوله تعالى :﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴾ أي رفيعة بهية في الغرقات آمنون، ﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾ أي لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو، كما قال تعالى :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ]، وقال تعالى :﴿ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ [ الطور : ٢٣ ]، ﴿ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴾ أي سارحة وليس المراد بها عيناً واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك »، ﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ أي عالية ناعمة، كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور العين، فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له، ﴿ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴾ يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها، ﴿ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴾ قال ابن عباس : النمارق الوسائد، وقوله تعالى :﴿ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ قال ابن عباس : الزرابي البسط، ومعنى مبثوثة : أي هاهنا وهنا لمن أراد الجلوس عليها، عن أُسامة بن زيد قال : قال رسول الله ﷺ :« » ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية «!، قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال :» قولوا : إن شاء الله « قال القوم إن شاء الله ».
يقول تعالى آمراً عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته :﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ ؟ فإنها خلق عجيب و تركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها لله عزَّ وجلَّ عن الأرض هذا الرفع العظيم، كما قال تعالى :﴿ أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ [ ق : ٦ ]، ﴿ وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ ﴾ أي جعلت منصوبة فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها :« وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن، ﴿ وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ ! أي كيف بسطت ومدت ومهدت، فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه، والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته، على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه، عن أنَس قال :» كنا نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن كل شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد إنا أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال :« صدق » قال : فمن خلق السماء؟ قال :« الله »، قال : فمن خلق الأرض؟ قال :« الله »، قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال :« الله »، وقال : فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال :« نعم ». قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال :« صدق »، قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بها، قال :« نعم »، قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً؟ قال :« صدق »، قال : ثم ولى، فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً ولا أنقص منهن شيئاً، فقال النبي ﷺ :« إن صدق ليدخلن الجنة » «.
وقوله تعالى :﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب ﴾ [ الرعد : ٤٠ ]، ولهذا قال :﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ ؛ قال ابن عباس ومجاهد : لست عليهم بجبار، أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم، وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان، عن جابر قال : قال رسول الله ﷺ :
2699
« » أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزَّ وجلَّ «، ثم قرأَ :﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾ » وقوله تعالى :﴿ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ ﴾ أي تولى عن العمل بأركانه، وكفر بالحق بجنانه ولسانه، وهذه كقوله تعالى :﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى ﴾ [ القيامة : ٣١-٣٢ ]، ولهذا قال :﴿ فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر ﴾، روى الإمام أحمد :« أن أبا أمامة الباهلي مرَّ على خالد بن يزيد بن معاوية، فسأله عن أَلين كلمة سمعها من رسول الله ﷺ، فقال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير عن أهله « » وقوله تعالى :﴿ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ﴾ أي مرجعهم ومنقلبهم، ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.
2700
Icon