تفسير سورة يونس

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة يونس من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة يونس
مائة وتسع آية إلا ثلاث آيات ﴿ فإن كنت في شك ﴾

﴿ آلر ﴾الكلام عليه في أوائل سورة البقرة، قرأ ابن كثير وقالون وحفص و آلر و آلمر بالفتح وورش بين اللفظين والباقون بالإمالة ﴿ تلك ولا إشارة إلى ما تضمنته السورة والقرآن من الآيات، وقيل : المراد بها الآيات التي نزلت قبل هذه السورة { آيات الكتاب ﴾ أي القرآن والإضافة بمعنى من ﴿ الحكيم ﴾ وصف به لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم، أو المعنى انه محكم آياته لم ينسخ منها آن كان المراد آيات هذه السورة، أو محكم عن الكذب والاختلاف، قال : الحسن حكم فيها بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والانتهاء عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيها بالجنة لمن أطاعه والنار لمن عصاه.
وأخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : لما بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر ذلك منهم فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله تعالى ﴿ أكان للناس عجبا ﴾استفهام إنكار للتعجب، وعجبا خبر كان واسمه ﴿ أن أوحينا ﴾ وللام في الناس متعلق بمحذوف حال من قوله عجبا، وفي اللام دلالة على أنهم جعلوه عجوبة لهم يوجهون نحو إنكارهم واستهزاءهم، والعجب حال يعتري للإنسان في رؤية شيء على خلاف العادة ووجه الإنكار على استعجالهم أن عبادة الله تعالى جارية من بدء خلق آدم عليه السلام على بعث الرسل من البشر ومن تم أنزل الله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ﴾ ١وأيضا عادة الملوك جارية بأن الكتاب والخطاب يكون بلسان المخاطبين والرسول من جنس من أرسل إليهم فإنه لا بد للإفادة والاستفادة من المناسبة بينهما قال : الله تعالى :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ٩٥ ﴾ ٢﴿ إن رجل منهم ﴾يعني من آحاد رجالهم دون عظيم من عظائمهم، قالوا : وإن كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾٣ أحد أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم بعون الوليد بن المغيرة من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف فأنزل الله تعالى ردا عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك ﴾٤ الآية، وكان هذا من فرط حماقتهم وجهلهم بحقيقة الوحي، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأتم وأكمل في كرائم الأوصاف وفي كل شيء إلا في المال، وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك ﴿ أن أنذر الناس ﴾ أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة في موضع مفعول أو حينا ﴿ وبشر الذين آمنوا ﴾ عم الإنذار إذ قل من أحد ليس فيه ما ينبغي منه الإنذار، وخص البشارة بالمؤمنين لعدم استحقاق الكفار به ﴿ أن ﴾أي بأن ﴿ لهم قدم صدق عند ربهم ﴾ قال : عطاء أي مقام صدق لا زوال ولا بؤس فيه، يعني منزلة رفيعة يسبقون إليها ويقيمون فيها، سميت قدما لأن السبق والقيام يكون بالقدم كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد وإضافتها إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية، وأصدق القول شهادة أن لا إله إلا الله، ويعود إلى ما قلنا ما قال : ابن عباس في تفسير القدم أي أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم، وما قال : الضحاك أي ثواب صدق فإن المنزلة عند الله يعبر بالأجر والثواب، وقال : الحسن يعني به عملا صالحا أسلفوه يقدمون عليه، فهو بشارة بأنهم يجدون عند ربهم ما قدموا من الأعمال فالقدم بمعنى التقدم، وقال أبو عبيدة كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم يقال لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق أو قدم سوء، وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو السعادة في الذكر الأول، وقال زيد بن أسلم هو شفاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : البخاري : زيد بن أسلم : أن لهم قدم صدق } محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قال الكافرون ﴾ تعنتا وعنادا لما راو من الرسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا خارقة للعادة وسمعوا كلاما معجزا عن المعارضة ﴿ إن هذا ﴾ يعني الرسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ سحر مبين ﴾على وزن فاعل كذا قرأ ابن كثير والكوفيون وقرأ الباقون لسحر بغر ألف، والإشارة حينئذ القرآن، يعني أن هذا الكلام لكونه سحرا يمنعنا عن المعارضة وجاز ان يكون الإشارة إلا كل معجزة رأوها.
١ سورة يوسف، الآية ١٠٩..
٢ سورة الاسراء، الآية ٩٥..
٣ سورة الزخرف، الآية: ٣١..
٤ سورة الزخرف، الآية ٣٢..
﴿ إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض ﴾ التي هي أصول الممكنات ﴿ في ستة أيام ﴾ من أيام الدنيا أي في قدرها ولو شاء لخلقهن في لمحة وإنما فعل ذلك لتعليم خلقه التثبيت ﴿ ثم استوى على العرش ﴾ أجمع أهل السنة من الخلف والسلف على أن الله تعالى منزه عن صفات الأجسام وصفات الحدوث، فلهم في هذه الآية وأمثالها سبيلان : أحدهما : تأويلهما بما يليق به تعالى بناء على عطف قوله تعالى :﴿ والراسخون في العلم ﴾ ١ على اسم الله في قوله تعالى ﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ﴾ ٢، وقد مر البحث عليه في سورة آل عمران، فقالوا معنى استوى استولى على العرش الذي هو أعظم المخلوقات ومحدد الجهات وذا يستلزم استيلاءه تعالى على جميع الخلائق، وأسند البغوي تأويله الاستواء بالاستيلاء إلى المعجزة وكلام السلف الصالح يأبى عن سبيل التأويل بل المختار عندهم الإيمان بتلك الآيات وتفويض علمه إلى الله تعالى والتحاشي عن البحث عنه، قال : محمد بن الحسن اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب رضي الله عنه من غير تفسير ولا وصف ولا شبهة، فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة، وقال مالك بن انس الكيف غير مفعول والاستواء غير مجهول والسؤال عنه بدعة فبناء على هذا السبيل نقل عن السلف القول باستوائه تعالى على العرش مع قولهم بالتنزيه الصرف قال أبو حنيفة " إن الله في السماء دون الأرض " رواه البيهقي، وروى عنه من قال : لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر لأن الله يقول﴿ الرحمان على العرش استوى ٥ ﴾٣ وعرشه فوق سمواته وروي عنه انه قال : من أنكر الله في السماء فقد كفر، وقال الشافعي إن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل كيف شاء، ومثل ذلك قال : أحمد بن حنبل، وقال إسحاق بن راهويه إنه اجمع أهل العلم أنه فوق العرش استوى و يعلم كل شيء وهو قول المزني والذهبي والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن أبي شيبة وأبو يعلى و البيهقي وغيرهم من أئمة الحديث، وقال أبو زرعة الرازي ما ينبئ عن إجماع أهل السنة على ذلك، وقال عثمان بن سعيد الدرامي الحافظ اتفقت الكلمة بين المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سمواته، وقال سهل بن عبد الله التستري لا يجوز لمؤمن أن يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء ولنا عليه الرضاء والتسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعالى على العرش، وقال محمد بن جرير حسب امرئ أن يعلم أن ربه الذي على العرش استوى يجاوز ذلك فقد خاب وخسر، وقال ابن خزيمة من لم يقر ان الله على عرشه استوى فوق سبع سمواته بائن من خلقه فقد كفر فيستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وقال الطحاوي العرش والكرسي كما بين في كتابه هو مستغن عن العرش وما دونه محيط بكل شيء وفوقه، وقال الشيخ أبو الأشعري البصري المتكلم في كتاب اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وان الله على عرشه كما قال :﴿ الرحمان على العرش استوى ٥ ﴾، وله يدان بلا كيف كما قال :﴿ خلقت بيدي ﴾ ٤، وقال أبو نعيم في الحلية طريقتنا طريقة السلف المتتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة وما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته إلى أن قال : وإن الأحاديث التي ثبتت في العرش والاستواء عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكيف ولا تمثيل وانه بائن من خلقه، وقال ابن عبد البر إن الله في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وقال الخطيب مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقال إمام الحرمين والذي يرضيه دينا وتدين الله به عقيدة إتباع سلف الأمة وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله، وقال البغوي أما أهل السنة فيقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به قال : البيضاوي معناه أن له استواء على الوجه الذي عناه منزها عن الاستقرار والتمكن، وقال أبو بكر علي بن عيسى الشبلي أعلم الصوفية في زمانه الرب في السماء يقضي ويمضي، وقال شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري في أخبار شتى أن الله في السماء السابعة على العرش، وللشيخ عبد القادر الجيلاني في الباب كلام كثير في الغنيمة هذه الأقوال كلها ذكرها الذهبي في كتاب العلو وذكر هذا المذهب عن جماعة كثيرة من أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن دونهم من الفقهاء والمحدثين والصوفية يطول الكلام بذكرهم وقد ذكرت هذه المسألة مختصرا في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى ﴿ ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار ﴾٥ وقد ذكرنا في سورة البقرة في تفسيره قوله تعالى ﴿ يأتيهم الله في ظلل من الغمام ﴾ ٦ ما قال : أصحاب القلوب : من تجليات الله تعالى في بعض مخلوقاته برقيات ودائميات غير مستدعيات حدوث أمر في ذاته تعالى وكونه محلا للحوادث، ولا تنزلا له سبحانه عن مرتبة التنزيه الصرف بل مبنيات على حدوث أمر في الممكن حتى يصير صالحا لذلك التجلي، وأيضا ذكرنا مسألة التجلي على قلب المؤمن والكعبة الحسناء والعرش العظيم في تلك السورة في تفسير قوله تعالى ﴿ ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ﴾ ٧فليرجع إليها من غفل عنهما ﴿ يدبر الأمر ﴾ التدبير النظر إلى أدبار الأمور حتى يأتي محمودة العاقبة، يعني يقدر أمر الكائنات على ما يقتضه الحكمة ﴿ ما من شفيع ﴾يشفع لأحد ﴿ إلا من بعد إذنه ﴾ تقرير لعظمة وعزة جلاله، ورد على النضر بن الحارث حيث قال : إذا كان يوم القيامة يشفعني اللات و العزى، وفيه إشارة إلى ثبوت الشفاعة لمن أذن له ﴿ ذلكم ﴾أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية ﴿ الله ﴾مبتدأ وخبر لا يشركه احد في شيء من ذلك ﴿ فاعبدوه ﴾دون غيره من إنسان أو ملك فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع ﴿ أفلا تذكرون١٥٥ ﴾ تتفكرون أدنى تفكر فيظهر لكم أنه المستحق للعبادة دون غيره مما تعبدون.
١ سورة آل عمران، الآية: ٧..
٢ سورة آل عمران، الآية: ٧..
٣ سورة طه، الآية: ٥.
٤ سورة ص، الآية ٧٥..
٥ سورة الأعراف، الآية: ٢١٠..
٦ سورة البقرة، الآية ٢١٠. ما قال: أصحاب القلوب: من تجليات الله تعالى في بعض مخلوقاته برقيات ودائميات.
٧ سورة البقرة، الآية ٢٩..
﴿ إليه مرجعكم ﴾ مصدر أو ظرف ﴿ جميعا ﴾ بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه ﴿ وعد الله ﴾مصدر مؤكد لنفسه فإن قوله تعالى ﴿ إليه مرجعكم ﴾ وعد من الله تعالى ﴿ حقا ﴾ مصدر مؤكد لغيره وهو ما يدل عليه وعد الله ﴿ انه يبدؤا الخلق ﴾ بالحياة الدنيا، قرأ العامة إنه بالكسر على الاستئناف، وقرأ أبو جعفر بالفتح على معنى لأنه وهو تعليل لقوله ﴿ إليه مرجعكم جميعا ﴾ فإنه لما كان المقصود من الإبداء وإلا عادة مجازة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجمع إليه لا محالة ويجوز ان يكون منصوب بما نصب وعد الله أو مرفوعا بما نصب حقا ﴿ ثم يعيده ﴾ بعد إهلاكه بالحياة الأخرى ﴿ ليجزي الذين امنوا وعملوا الصالحات بالقسط ﴾ أي بعد له، أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم لأن الإيمان عدل قويم كما ان الشرك ظلم عظيم وهو أوجه لمقابلة قوله ﴿ والذين كفروا لهم شراب من حميم ﴾ ماء بالغ نهاية الحرارة ﴿ وعذاب اليم ﴾ أي مؤلم ﴿ بما كانوا يكفرون ﴾ معناه وليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم العذاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة إنما هو الإثابة وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، وأما تعذيب الكفار فهو واقع بالعرض كأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم.
﴿ هو الذي جعل الشمس ضياء ﴾ قرأ قنبل ضِئَاءً وبضئاء هاهنا وفي الأنباء والقصص على القلب بتقديم اللام على العين، والباقون بياء منقلبة عن واو الانكسار ما قبلها وهمزة متطرفة، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط جمع سوط والمضاف محذوف أي ذات ضياء ﴿ والقمر نورا ﴾ أي ذات نور والنور أهم من الضوء فإنه أقوى أفراد النور، وقيل : ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ﴿ وقدره منازل ﴾ والضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما أو قدر كل واحد منهما ذا منازل أو للقمر وتخصيصه بالذكر لمعاينة منازل وإناطة أحكام الشرع من الصوم والزكاة والحج به ولذلك لله بقوله ﴿ لتعلموا عدد السنين ﴾ بعد الأشهر المنوطة بسير القمر ﴿ والحساب ﴾أي حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرفاتكم ﴿ ما خلق الله ذلك ﴾ الخلق ﴿ إلا ﴾ متلبسا ﴿ بالحق ﴾ أي لإظهار صنعته ودلالة قدرته مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة ﴿ يفصل ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء على الغيبة لقوله تعالى ﴿ ما خلق الله ﴾ والباقون بالنون على التكلم والتعظيم الآيات ﴿ الآيات لقوم يعلمون ﴾ أي يتدبرون.
﴿ إن في اختلاف الليل والنهار ﴾ أي في مجيء كل منهما خلف الآخر أو في اختلاف لونهما ﴿ وما خلق الله في السماوات والأرض ﴾ أي من أنواع الكائنات ﴿ لآيات ﴾ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته وتنزهه عن المناقص ﴿ لقوم يتقون ﴾ العواقب فإنه يحملهم على التفكر والتدبر.
﴿ إن الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي ثوابنا فإن أعظم المثوبات لقاء الله سبحانه ورؤيته ﴿ ورضوا بالحياة الدنيا ﴾ اختاروها على الآخرة ﴿ واطمأنوا بها ﴾ أي سكنوا إليها واقتصروا على لذائذها وزخرفها وتركوا ما يفيدهم للآخرة ﴿ والذين هم عن آياتنا ﴾ أي عن الأدلة الدالة على وجود الصانع ﴿ غافلون ﴾ فعلى هذا المراد بالأولين أهل الكتاب من الكفار الذين يعتقدون الصانع ويعلمون البعث والنشور ومع ذلك اختاروا الدنيا على الآخرة ويئسوا من ثواب الآخرة واقتصروا على لذائد الدنيا، وبالآخرين لم يوحدوا الله تعالى ولا يعرفون البعث والجزاء، وقال البيضاوي المراد بالأولين من أنكر البعث ولا يرجون أي لا يتوقعون الجزاء ولم يروا إلا الحياة الدنيا بالآخرة من ألهاهم حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له، وقيل العطف لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم أصلا، وقال البغوي الرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع فمعنى ﴿ لا يرجون لقاءنا ﴾ لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا وقال ابن عباس ﴿ عن آياتنا غافلون ﴾ يعني عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن غافلون معرضون
﴿ أولئك مأواهم النار بما كانوا ﴾ مأواهم مبتدأ ثان والنار خبره والجملة خبر أولئك خبر إن ﴿ يكسبون ﴾ من الكفر والمعاصي أي بما واظبوا عليه وتمرنوا بالمعاصي، الباء في بما كانوا متعلق بمحذوف دل عليه الكلام أي جوزوا.
﴿ إن الذين امنوا وعملوا الصالحات يهديهم ﴾ يرشدهم ﴿ ربهم بإيمانهم ﴾أي يرشدهم بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، قال مجاهد : يهديهم على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نورا يمشون به وقيل : معنى ﴿ يهديهم ربهم بإيمانهم ﴾يهديهم ربهم لدينه يعني لإدراك حقائق الدين، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " رواه أبو نعيم في الحلية، وقيل : معناه يثيبهم ويجزيهم أو يهديهم لما يريدونه في الجنة، قال : البيضاوي مفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله بإيمانهم على استقلال الإيمان بالسببية فإن العمل الصالح كالتتمة والرديف له ﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾أي بين أيديهم كقوله تعالى :﴿ قد جعل ربك تحتك سريا ﴾ ١ لم يرد به أنه تحتها وهي قاعدة عليه وجملة تجري مستأنفة أو خبر أو حال من الضمير المنصوب على معنى يهديهم لإدراك الحقائق أو لما يريدونه في الجنة حال كونهم، وقال البغوي فيه إضمار تقديره يهديهم أي يرشد ربهم بإيمانهم إلى جنات تجري من تحتهم النهار فعلى هذا جملة تجري صفة لجنات لكن يجب حينئذ تقدير ضمير في تلك الجملة إلا أن يقال في قوله تعالى ﴿ في جنات النعيم ﴾ وضع المظهر موضع الضمير مغن عنه فيها وقال البيضاوي هذا خبر أو حال آخر منه أو من الأنهار أو متعلق أو بيهديهم
١ سورة مريم، الآية: ٢٤..
﴿ دعواهم ﴾ أي دعاءهم ﴿ فيها ﴾ أي في الجنات ﴿ سبحانك اللهم ﴾ أي اللهم نسبحك تسبيحا أي ننزهك من كل سوء، قال : البغوي قال : أهل التفسير هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا أرادوا الطعام قالوا : سبحانك اللهم فأتوهم في الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل في ميل على كل مائدة سبعون ألف صحفة في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا وإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله رضي الله عنه فذلك قوله تعالى ﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾وقيل : دعواهم أي قولهم وكلامهم فيها تلذذا سبحانك اللهم. روى مسلم وأحمد وأبو داود عن جابر في حديث مرفوع " أن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس " ١ ﴿ وتحيتهم فيها ﴾ أي في الجنة ﴿ سلام ﴾ أي يحيى بعضهم بعضا بالسلام وتداخل عليهم الملائكة من كل باب يقولون :﴿ سلام عليكم بما صبرتهم ﴾ ٢ ونأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام ويقرأ الله تعالى عليه السلام، روى ابن ماجة وابن أبي الدنيا و الدارقطني و الآجري عن جابر قال : قال : النبي صلى الله عليه وسلم " بينا أهل الجنة وأهل النار في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تبارك وتعالى أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله تعالى ﴿ سلام من قول رب رحيم ﴾٣ الحديث، وروى أحمد و البزار وابن ماجة وابن حبان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت احدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته إيتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم، قال : إنهم كانوا عبادي يعبدونني ولا يشركون بي شيئا وتسير بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت احدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " ﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾ لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة والله سبحانه بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه بصفات الإكرام، وأن هي المخفقة من الثقيلة، قلت : وجاز أن يكون مفسرة لأن في الدعاء معنى القول، قال البغوي : يفتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد ويتكلمون بينهما بما أرادوا.
١ أخرجه مسلم في كتاب: صفة الجنة ونعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا (٢٨٥٣).
٢ سورة الرعد، الآية: ٢٤.
٣ أخرجه ابن ماجة في افتتاح الكتاب، باب: فيما أنكرت الجهمية (١٨٤)..
﴿ ولو يعجل الله للناس الشر ﴾ أي يسرعه إليهم ﴿ استعجالهم بالخير ﴾ قال : ابن عباس هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده لعنكم الله ولا بارك فيكم كذا قال : قتادة ومعنى الآية ولم يعجل الله للناس الشر الذي دعوه واستعجلوه تعجيلا كتعجيله لهم الخير حين دعوه واستعجلوه فحذف لدلالة الباقي عليه، وضع استعجالهم موضع تعجيله لهم للإشعار بسرعة إجابة لهم في الخير حتى كان استعجالهم به تعجيل لهم بأن المراد بالشر الشر الذي استعجلوه، قيل : نزلت الآية في النضر بن الحارث حين قال ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ١ ﴿ لقضي إليهم اجلهم ﴾أي لأميتوا وأهلكوا قرأ ابن عامر ويعقوب لقضي بفتح القاف والضاد على البناء للفاعل واجلهم بالنصب على المفعولية والباقون بضم القاف وكسر الضاد على البناء للمفعول ورفع أجلهم ﴿ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي لا يخافون البعث والعذاب ﴿ وفي طغيانهم يعمهون ﴾ جملة فنذر معطوف على فعل محذوف دل عليه الشرطية تقديره ولكن لا تعجل ولا نقضي فنذرهم إمهالا واستدراجا.
١ سورة الأنفال، الآية: ٣٢..
﴿ وإذا مس الإنسان الضر ﴾الشدة والبلاء ﴿ دعانا ﴾ لإزالته مخلصا فيه ﴿ لجنيه ﴾ ملقيا بجنبه أي مضجعا ﴿ أو قاعدا أو قائما ﴾فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال يعني يدعو لإزالته كائنا على أي حال كان سواء كان قائما أو قاعدا أو راقدا يعني فورا ويستمر عليه في جميع الأحوال ﴿ فلما كشفنا عنه ضره مر ﴾أي مضى على طريقه واستمر على كفره ولم يشكر ﴿ كأن لم يدعنا ﴾ أصله كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن يعني كان لم يكن في ضر وبلاء ولم يدعنا قط ﴿ إني ﴾ كشف ﴿ ضر مسه كذلك ﴾ أي مثل ذلك التزيين ﴿ زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾ من الانهماك في الشهوات والإعراض عن الذكر والعبادات
﴿ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ لما ظلموا ﴾أنفسهم بالكفر واستعمال القوى والجوارح فيما لا ينبغي لما ظرف لأهلكنا ﴿ وجاءتهم رسلهم بالبنات ﴾ بالحجج الواضحة عطف على ظلموا أو حال من فاعله بتقدير قد فالإهلاك ترتب على الكفر بعد تمام الحجة بمجيء الرسل كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ ١ ﴿ وما كانوا ﴾أي القرون الظالمة عطف على ولقد أهلكنا ﴿ ليؤمنوا ﴾اللام لتأكيد النفي، أي ما استقام لهم أن يؤمنوا الفساد استعدادهم حيث كان مبادي تعيناتهم ظلال اسم المفضل فخذلهم الله تعالى أو ما كانوا مؤمنين في علم الله الأزلي بل كان الله يعلم أنهم يموتون على الكفر، وقيل : ما كانوا معطوف على ظلموا ﴿ كذلك ﴾ أي مثل ذلك الجزاء وهو إلا هلاك بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر بعد ما تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم ﴿ نجزي القوم المجرمين ﴾ أي نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وأنهم هم المستحقون لهذا الإسم
١ سورة الإسراء، الآية: ١٥..
﴿ ثم جعلناكم ﴾ يا كفار مكة ﴿ خلائف في الأرض من بعدهم ﴾ أي بعد القرون التي أهلكناهم ﴿ لننظر كيف تعملون ﴾ خيرا أو شرا فيعاملكم على مقتضى أعمالكم وهل تعتبرون بهم فتصدقوا رسلنا، وكيف منصوب بتعملون لا بننظر لأن الاستفهام يقضي صدر الكلام وفيه دلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال و كيفياتها لاهي من حيث ذواتها ولذلك يحسن الأفعال تارة ويقبح أخرى، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون " ١.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة (٢١٩١)واخرجه مسلم في كتاب: الرقائق، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر اهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء (٢٧٤٢).
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا ﴾ قال قتادة يعني على مشركي مكة، وقال مقاتل وهم خمسة عبد الله بن أبي المخزومي والوليد بن المغيرة و مكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قبيس العامري والعاص بن عامر بن هشام ﴿ بينات ﴾واضحات الدلالة على كونها من عند الله تعالى ﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي لا يخافون البعث وينكرون القيامة ﴿ لقاءنا بقرآن غير هذا ﴾ أي بكتب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من الثواب والعقاب بعد الموت وما نكره من معايب آلهتنا ﴿ أو بدله ﴾ بأن تجعل مكان آية آية أخرى، قال : مقاتل : قال النفر الخمسة المذكورة للنبي صلى الله عليه وسلم إن تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزى و مناة وليس فيه عيبها وإن لم ينزلها الله فقل أنت من عند نفسك أو بدله فاجعل مكان آية رحمة أو مكان حرام حلالا وحلالي حراما ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ ما يكون لي ﴾ قرأ الحرمان وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أي ما يصلح لي ﴿ أن أبدله من تلقائي نفسي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أي من قبل نفسي تلقاء مصدر استعمل ظرفا اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، أو لأن التبديل مقدور للإنسان بأن يقرأ آية الرحمة مكان آية العذاب بخلاف إتيان قرآن آخر معجز مثله، أو لأن المراد بالتبديل هاهنا اعم من تبديل القرآن بقرآن آخر أو آية مكان آية ﴿ إن اتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ تعليل لقوله ما يكون لي فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبدل بالتصريف فيه بوجه، وجوب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعه ولذلك قيد التبديل في الجواب بقوله ﴿ من تلقاء نفسي ﴾ سماه عصيانا حيث قال :﴿ إني ﴾ قرأ الحرميان وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أخاف إن عصيت ربي ﴾ بالتبديل ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ أي يوم القيامة وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
﴿ قل لو شاء الله ﴾ غير ذلك أو عدم تلاوتي عليكم لم ينزل القرآن علي ﴿ ما تلوته عليكم ولا أدراكم ﴾ أي لا أعلمكم الله على لساني ﴿ به ﴾ قرأ البزي عن ابن كثير أدراكم بالقصر على الإيجاب ولام التأكيد يعني لو شاء الله ما تلوته عليكم ولعلمكم به من غير قراءتي على لساني غيري، وفيه إشارة أنه الحق الذي لا محيص عليه لو لم أرسل به لأرسل به غيري ﴿ فقد لبثت فيكم عمرا ﴾أي زمانا وهو أربعون سنة ﴿ من ﴾أي قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء ما لم يوح إلي وفيه إشارة إلى كون القرآن معجزا خارقا للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ولم يشاهد عالما ولم ينشأ شعرا ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتابا بدت فصاحته كل وعلا كل منظوم ومنثور واحتوى على قواعد الأصول والفروع وأغرب عن قصص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلم به من الله تعالى ﴿ أفلا تعقلون ﴾أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا انه ليس من قبل نفسي بل من عند الله.
فائدة : لبث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قبل الوحي أربعين سنة ثم أوحى إليه فأقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ١ كذا روى مسلم عن ابن عباس، قال : محمد بن يوسف الصالحي : اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة وغنما الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد النبوة قبل الهجرة والصحيح أنه ثلاث عشرة سنة، وذكر البغوي برواية أنس انه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد الوحي عشر سنين وتوفي وهو ابن ستين سنة وكذا روى ابن أسعد وعمرو بن شيبة والحاكم في الإكليل عن ابن عباس قال البغوي : الأول أشهر وأظهر وقد روى مسلم عن أنس " أنه قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة " وكذا أبو بكر وعمر، وروى أبو داود الطيالسي ومسلم عن معاوية بن أبي سفيان قال : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة " ٢، قال : النووي : وهو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء وروى أحمد ومسلم عن عمار بن أبي عمار قال : قلت لأبن عباس كم أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ؟ قال : أتحسب ؟ قلت نعم قال : أمسك أربعين بعث بها وخمس عشرة أقام بمكة يأمن ويخاف وعشرة مهاجرة بالمدينة، وروى الحاكم في الإكليل عن علي بن أبي زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة، قال : الحاكم في الإكليل والنووي : اتفق العلماء على أن أصح الروايات ثلاث وستين سنة وتأتوا الباقي على ذلك فرواية الستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسور ورواية الخمس والستين متأولة عليها أو حصل فيها شك، وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله خمس وستون سنة ونسبه إلى الغلط وأنه لم يدرك أول النبوة بخلاف الباقين، قال : محمد بن يوسف الصالحي أكثر الرواة عن ابن عباس حكوا عنه رواية ثلاث وستين فالظاهر أنه كان قال : ثم رجع إلى ما عليه الأكثر والله أعلم، و حكى القاضي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية انه بعث على رأس ثلاث وأربعين والصواب أربعون.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة (٢٣٥١)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: كم سن النبي صلى الله عليه وسلم يوم قبض (٢٣٤٩)..
﴿ فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ فزعم أن له شريكا أو ولدا ﴿ أو كذب بآياته ﴾ فكفر بها ﴿ انه ﴾ أي الشأن ﴿ لا يفلح المجرمون ﴾ أي لا ينجوا المشركون
﴿ ويعبدون ﴾ أي كفار مكة ﴿ من دون الله ما لا يضرهم ﴾ إن تركوا عبادته ﴿ ولا ينفعهم ﴾ إن عبدوه يعني الأصنام فغنها جمادات لا تقدر على نفع ولا ضر والمعبود ينبغي أن يكون مثيبا ومعاقبا حتى تعود عبادته يجلب نفع أو دفع ضر ﴿ ويقولون هؤلاء ﴾ الأصنام ﴿ شفعاؤنا عند الله ﴾ يشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا وفي الآخرة إن يكن بعث ﴿ قل أتنبئون الله ﴾ أتخبرونه ﴿ بما لا يعلم ﴾ وهو أن له شريكا وفيه تقريع وتهكم بهم إذ هؤلاء شفعاء وما لا يعلم الله لا يتحقق له أصلا ﴿ في السماوات ولا في الأرض ﴾ حال من العائد المحذوف مؤكد لنفيه، وفيه إشارة إلى أن ما يزعمونه إلها فهو سماوي كالملائكة أو أرضي كالأصنام وليس شيء من الموجودات فيهما إلا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به ﴿ سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ أي عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركون به قرأ حمزة والكسائي تشركون بالتاء على الخطاب للكفار هاهنا وفي سورة النحل في موضعين وفي سورة الروم والباقون بالياء على الغيبة
﴿ وما كان الناس إلا امة واحدة ﴾ موحدين على الفطرة أو متفقين على الإسلام وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى قبيل بعثة نوح أو بعد الطوفان، أو من عهد إبراهيم إلى عمر بن لحي أو على الضلال في زمن فترة الرسل ﴿ فاختلفوا ﴾ بإتباع الهوى والأباطيل أو ببعثة الرسل حين تبعهم طائفة وأصرت على الكفر أخرى ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ بأن جعل لكل أمة أجلا وقال الكلبي : هي إمهال هذه الأمة وأن لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا ﴿ لقضي بينهم ﴾ بنزول العذاب في الدنيا وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فضلا بينهم ﴿ فيما فيه يختلفون ﴾
قال : الحسن ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ مضت في حكمه انه لا يقضي بينهم ﴿ فيما اختلفوا فيه ﴾ بالثواب والعقاب دون القيامة لقضي في الدنيا فأدخل المؤمن الجنة والكافر النار ولكنه سبق من الله الأجل موعدهم يوم القيامة ﴿ ويقولون ﴾ يعني كفار مكة ﴿ لولا انزل عليه ﴾أي على محمد﴿ آية من ربه ﴾من الآيات التي اقترحوها﴿ فقل إنما الغيب لله ﴾هو المختص بعلمه فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير أو المعنى الغيب يعني ما غاب عن الناس أي أمره تعالى عنده ﴿ فانتظروا ﴾نزول الآيات المقترحة أو فانتظروا بقضاء الله بيننا وبينكم بإظهار المحق على المبطل ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾لما يفعل الله بكم بجحودكم على ما نزل علي من الآيات العظام واقتراحكم غيرها.
﴿ و إذا أذقنا الناس ﴾أهل مكة ﴿ رحمة ﴾خصبا وسعة وصحة﴿ من بعد ضراء ﴾قحط وشدة ومرض ﴿ مستهم إذا لهم مكر في آياتنا ﴾ قال : مجاهد تكذيب واستهزاء، قلت : المكر عبارة إرادة الشر بغيره على وجه الإخفاء وإنما سمي تكذيب الآيات والاستهزاء بها مكرا لأن الظاهر فيه تكذيب الرسول وإرادة الشر به عليه السلام دون تكذيب الله سبحانه لكن الشر والتكذيب يعود إلى الله فإنها في الحقيقة كلامه تعالى، وقال مقاتل بن حبان مكرهم أنهم لا يقولون هذا رزقنا الله بل يقولون سقينا بنوء كذا وقيل مكرهم احتيالهم في دفعها والطعن فيها، قيل : قحط أهل مكة فلما كشف الله عنهم ورحمهم أسرعوا إلى الكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى قبل أنى يؤذوا شكر النعمة. روى البخاري " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حصب كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف فأتى أبو سفيان فقال : يا محمد إنك تأمر بطاعة الله وصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فأدع الله لهم أن يكشف عنهم فدعا " ١، وفي رواية قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فقيل له ان كشفت عنهم عادوا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه فكشف الله عنهم " فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ولما كان كلمة إذا للمفاجأة دالة على سرعة مكرهم قال : الله تعالى ﴿ قل ﴾ يا محمد﴿ الله أسرع مكرا ﴾منكم والمكر من الله تعالى إما الاستدراج كما يدل عليه قول علي من وسع الله عليه دنياه ولم يعلم إنه مكر به فهو مخدوع عن عقله قلت : يعني من وسع الله عليه الدنيا وهو غير شاكر، وإما الجزاء على المكر وكونه تعالى أسرع مكرا من الناس أنه دبر عقابهم أو استدراجهم قبل أن يدبروا كيدهم وقيل معناه أن عذابه في إهلاككم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق فإن ما أراد الله بكم آت لا محالة وهو قادر على ما يريد وأنتم لا تقدرون على دفع الحق ﴿ ان رسلنا ﴾أي حفظتنا ﴿ يكتبون ما تمكرون ﴾قرأ يعقوب يمكرون بالياء على الغيبة موافقا لما سبق والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف عن الحفظة فضلا من أ، يخفى على خالق الأشياء كلها من الأعراض والجواهر.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الاستسقاء، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ((اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)).
﴿ هو الذي يسيركم ﴾أي يحملكم على السير ويمكنكم منه، كذا قرأ الجمهور وقرأ ابن عامر وأبو جعفر ينشركم بالنون والشين من النشر﴿ في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك ﴾أي السفن الفلك لفظ مشترك بين الواحد والجمع والمراد هاهنا الجمع بدليل قوله تعالى ﴿ وجرين بهم ﴾أي بمن فيها عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة فإنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم ﴿ بريح طيبة ﴾أي لينة الهبوب الموصلة إلى المقصود ﴿ وفرحوا بها جاءتها ﴾جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقاها﴿ ريح عاصف ﴾ذات عصف أي شدة الهبوب ﴿ وجاءهم الموج ﴾وهو ما علا من الماء لشدة الريح ﴿ من كل مكان ﴾يجيء منه﴿ وظنوا ﴾لم يقل أيقنوا لأن اليقين لا يتصور فيما يكون في المستقبل بمجرد القرائن، ﴿ أنهم أحيط بهم ﴾يعني أحاط بهم الموج والمهلكات بحيث لا سبيل إلى الخلاص كمن أحاط به العدو﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾أي أخلصوا في الدعاء لله ولم يدعوا أحدا سوى الله وكانت العرب لا يدعون في الشدائد إلا الله تعالى، وقوله﴿ دعوا الله ﴾بدل اشتمال من ظنوا لان دعاءهم من لوازم ظنهم ﴿ لئن أنجانا ﴾يا ربنا﴿ من هذه ﴾الريح العاصف﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾هذه الجملة الشرطية إما على إرادة القول أو مفعول دعوا لأنه من جملة القول، وليس الكون في الفلك غاية للتسيير بل مضمون الجملة الشرطية بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل حتى إذا كان كيت و كيت مجيء الريح وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالإنجاء
﴿ فلما أنجاهم ﴾إجابة لدعائهم﴿ أنجاهم هم يبغون ﴾يعني فاجئوا وسارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي أي الظلم على الناس والتجاوز عن حدود الإباحة إلى الفساد، ﴿ في الأرض بغير الحق ﴾أي مبطلين فيه تأكيد لقوله ﴿ يبغون ﴾فإن البغي لا يكون متلبسا بالحق وفيه دفع لتوهم تخريب المسلمين ديار الكفار وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فإنها بإذن الله تعالى ليجزي الفاسقين ويهديهم إلى الصلاح﴿ يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ﴾ فان وباله راجع عليكم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسرع الخير ثوابا البر و صلة الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم " ١ رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عائشة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث من كن فيه فهي راجعة على صاحبها : البغي والمكر والنكث " رواه أبوا الشيخ وابن مردويه في التفسير والخطيب عن أنس، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو بغي جبل على جبل لدك الباغي منهما " ٢ رواه ابن لال عن أبي هريرة﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾أي منفعة غير باقية، قرأ حفص بالنصب مصدر مؤكد أي تمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول للبغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار والمجرور من صلته والخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال، أو مفعول فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبر، وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم بعد خبر أو هو خبر وعلى أنفسكم صلة أو خبر محذوف تقديره ذاك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم﴿ ثم إلينا مرجعكم ﴾بالموت أو يوم القيامة ﴿ فننبئكم بما كنتم تعلمون ﴾بالجزاء عليه.
١ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: البغي(٤٢١٢) قال في الزوائد: في إسناده صالح بن موسى وهو ضعيف..
٢ رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو نعيم عن ابن عباس موقوفا وابن مردويه وابن ماجه في الضعفاء، وفيه أحمد بن الفضل وضاع، وقال النجم: بسند ضعيف. انظر كشف الخفاء(٢٠٩٥)..
﴿ إنما مثل الحياة الدنيا ﴾أي حالها العجيبة في سرعة زوالها واغترار الناس ﴿ كماء أنزلناه من السماء فاختلط ﴾ أي اشتبك وخالط بعضه بعضا﴿ به ﴾أي بسبب الماء﴿ نبات الأرض مما يأكل الناس ﴾من الحبوب والثمار والبقول﴿ والأنعام ﴾من الحشيش﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ﴾حسنها وبهجتها بألوان النبات والأزهار﴿ وازينت ﴾أصله تزينت كذا قرأا بن مسعود﴿ وظن أهلها ﴾أي أهل الأرض﴿ أنهم قادرون عليها ﴾ أي الأرض بمعنى أنهم متمكنون من تحصيل خيراتها بالجزاز والقطاف والحصاد ورفع غلتها والانتفاع بها﴿ أتاها أمرنا ﴾أي قضاؤنا بضرب زرعها ببعض العاهات بعد استيقانهم انه قد سلم { ليلا أو نهارا
فجعلناها }أيزرعها ﴿ حصيدا ﴾أي شبيها بالمحصود من أصله ﴿ كان لم تغن ﴾أي كان لم تلبث زرعها فحذف المضاف في الموضعين مبالغة وأقيم المضاف إليه مقامه مشتق من غني بالمكان إذا أقام به ﴿ بالأمس ﴾ أي قبيل ذلك الزمان وهو مثل في الوقت القريب الماضي، والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات وبهجتها فجاءة وذهابها حطاما بعدما كان غصنا وزين الأرض حين طمع فيه أهله وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن كان متصلا بحرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب، قال : قتادة معناه المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون﴿ كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ﴾فإنهم هم المنتفعون به
﴿ والله يدعو ﴾جميع الناس﴿ إلى دار السلام ﴾أي السلامة عن الهلاك والآفات وهي الجنة، وقال قتادة السلام هو الله تعالى وداره الجنة وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك. عن جابر قال " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فأضربوا له مثلا قال : بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقضان، فقالوا : مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا : أولوها له يفقهها قال : بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقضان فقالوا : الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله محمد فرق بين الناس ١رواه البخاري ورواه الدرامي عن ربيعة الجرشي نحوه بلفظ
" قيل لي سيد بني دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة " وقيل : المراد بالسلام التحية سميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيى بعضهم بعضا بالسلام﴿ و ذرياتهم يدخلون عليهم من كل باب٢٣ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾٢﴿ ويهدي ﴾من الناس﴿ من يشاء ﴾هدايته﴿ إلى صراط مستقيم ﴾هو دين الإسلام دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن الكافر لم يرد الله هدايته.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم (٧٢٨١).
٢ سورة الرعد، الآية: ٢٤..
﴿ للذين أحسنوا ﴾العمل في الدنيا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإحسان " أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك " ١في الصحيحين من حديث عمر في قصة سؤال جبرئيل﴿ الحسنى ﴾يعني المثوبة الحسنى أي الجنة، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " للذين أحسنوا شهادة أن لا إله إلا الله الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى الله " ﴿ وزيادة ﴾وهو النظر إلى وجه الله الكريم كذا روى ابن جرير وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يبعث الله تعالى يوم القيامة مناديا ينادي بصوت يسمعه أولهم وآخرهم يا أهل الجنة إن الله وعدكم الحسنى وزيادة الحسنى الجنة وزيادة النظر إلى وجه الرحمن "، وكذا روى ابن جرير وابن مردويه و اللالكاني وابن أبي حاتم من طرق عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوه روى ابن مردويه وأبو الشيخ و اللالكاني من طريقين عن أنس مرفوعا وأبو الشيخ عن أبي هريرة مرفوعا نحوه، وابن جرير وابن مردويه وابن المنذر وأبو الشيخ في تفاسيرهم و اللالكاني و الآجري في كتاب الرؤية عن أبي بكر الصديق وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ و اللالكاني و الآجري عن حذيفة ابن اليمان في الآية نحوه، وأخرج هناد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ و اللالكاني عن أبي موسى الأشعري نحوه، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم و اللالكاني من طريق عن عكرمة عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم اللالكاني من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن عروة عن ابن مسعود نحوه، واخرج اللالكاني هذا التفسير بأسانيده عن سعيد بن المسيب وحسن البصري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعامر بن سعيد الجبلي وابن أي إسحاق السبيعي وعبد الرحمن بن سابط وعكرمة ومجاهد وقتادة. قال : القرطبي في كتاب الرؤية : هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ومثله لا يقال إلا بتوقيف، روى مسلم وابن ماجه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم " ٢ ثم تلا هذه الآية، وروى البغوي بسنده هذا الحديث بلفظ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾ وقال :" إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجز كموه، فقالوا : ما هذا الموعد ؟ ألم تثقل موازيننا وتبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار ؟قال : فيرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى قال : فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إليه " قال : القرطبي قوله فيكشف الحجاب معناه يرفع الموانع عن الرؤية عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نور العظمة والجلال فذكر الحجاب إنما هو حق الخلق لا الخالق تعالى وتقدس ﴿ ولا يرهق ﴾ أي لا يغشى ﴿ وجوههم قتر ﴾ أي غبرة فيها سواد كذا روى ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس وابن مسعود ﴿ ولا ذلة ﴾ أي هو إن كما يرهق أهل النار ﴿ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ دائمون فيها لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (٥٠)وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان(٩)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (١٨١)..
﴿ والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ﴾ عطف على قوله ﴿ للذين أحسنوا الحسنى ﴾ على مذهب من يجوز في الدار زيد والحجرة عمرو، أو هو مبتدأ خبره ﴿ جزاء سيئة ﴾ تقديره جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها لا يزاد عليها، وجاز أن يكون خبره كأنما أغشيت أو أولئك أصحاب النار وما بينهما اعتراض وقوله ﴿ جزاء سيئة ﴾ مبتدأ خبره محذوف أي جزاء سيئة واقع أو مقدر بمثلها أو الخبر بمثلها على زيادة الباء ﴿ وترهقهم ﴾ تغشاهم
﴿ ذلة ﴾ هوان ﴿ ما لهم من الله من عاصم ﴾ من زائدة، يعني ما لهم أحد يعصمهم من سخط الله أو مالهم احد من جهة الله أو من عنده من يعصمهم من عذاب الله ﴿ كأنما أغشيت وجوههم قطعا ﴾ جمع قطعة مفعول ثان لأغشيت ﴿ من الليل ﴾ صفة لقطعا ﴿ مظلما ﴾ حال من الليل والعامل فيه أغشيت لأن العامل في موصوفة عامل فيه أو معنى الفعل من الليل، وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب قطعا ساكن الطاء أي بعضا كقوله تعالى :﴿ بقطع من الليل ﴾ ١ وعلى هذا يصح أن يكون مظلما صفة لقطعا أو حال منه ﴿ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ احتجت المعتزلة بهذه الآية على خلود أصحاب الكبائر في النار ورد قولهم بأن السيئات يعم الصغائر والكبائر والكفر فلو كانت الآية على عمومها لزم خلود أصحاب الصغائر أيضا، ولم يقل به أحد وأيضا يأبى عنه قوله تعالى ﴿ جزاء سيئة بمثلها ﴾ فإنه يقتضي أن يكون جزاء الكبائر دون الكفر فوق الصغائر فلا يتصور الحكم بالخلود على العموم فمرجع الإشارة ليس الذين كسبوا السيئات على العموم بل بعضهم وهم الكفار كما في قوله تعالى ﴿ وبعولتهن أحق بردهن ﴾ بعد قوله ﴿ عليم يتربصن ﴾ ٢ وجاز أن يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الكفار لأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبائر من أهل القبلة فإن الإيمان رأس الحسنات فلا يتناولهم قسيمة ويمكن أن يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الموجودون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الموجودون في ذلك الزمان كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدول كلهم بالإجماع ما كسب أحد منهم سيئة إلا تاب وغفر والتائب من الذنب كم لا ذنب له فالمسيء في ذلك الزمان لم يكن كافر والله اعلم.
١ سورة هود، الآية: ٨١..
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٢٨..
﴿ ويوم نحشرهم جميعا ﴾ يعني الفريقين ﴿ ثم نقول للذين أشركوا مكانكم ﴾ أي إلزموا مكانكم حتى تنظروا ما نفعل بكم ﴿ انتم ﴾ تأكيد للضمير المتنقل إلى قوله مكانكم من عامله المحذوف أعني إلزموا ﴿ وشركاؤكم ﴾ عطف على الضمير المذكور على الأوثان ﴿ فزيلنا ﴾ أي فرقنا ﴿ بينهم ﴾ يعني قطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا حتى تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده وقيل معناه ميزنا بينهم وبين المؤمنين كما قوله تعالى : وامتازوا اليوم أيها المجرمون ٥٩ } ١ ﴿ وقال ﴾ لهم ﴿ شركاؤهم ﴾ يعني الأصنام ﴿ ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ بطلبنا منكم العبادة ينطق الله بذلك الأصنام فيشأ فهم بالتبري مكان الشفاعة التي كانوا يرجون منها، وقيل : المراد بالشركاء الملائكة والمسيح فإنهم ما أمروا بها ولا رضوا بها فإذا قالت المعبودون بالباطل ذلك، قالت الكفار بلى كنا نعبدكم فيقول الأوثان ﴿ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ان كنا عن عبادتك لغافلين ﴾
١ سورة البقرة، الآية ٢٢٨.
﴿ فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ﴾ فإنه هو العالم بكنه الأشياء ﴿ ان كنا ﴾ مخففة من الثقيلة يعني إنا كنا ﴿ عن عبادتك ﴾ إيانا ﴿ لغافلين ﴾ اللام هي الفارقة وجاز أن يكون إن نافية وللام بمعنى ألا يعني ما كنا إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل
﴿ هنالك ﴾ أي في ذلك المقام ﴿ تبلوا كل نفس ما أسلفت ﴾ أي تختبر وتعلم ما قدمت من عمل فيعاين نفعها وضررها قرأ حمزة والكسائي تتلوا بالتاءين الفوقانيتين من التلاوة أي تقرأ صحيفتها أو من العلو أي تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو النار ﴿ وردوا إلى الله ﴾ أي إلى حكمه أو إلى جزائه إياهم بما أسلفوا ﴿ مولاهم الحق ﴾ أي ربهم ومتولي أمورهم على الحقيقة لا ما اتخذوه أولياء فإن قيل : أليس الله قد قال ﴿ وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ ١ قلنا المولى هنالك بمعنى الناصر وهاهنا بمعنى الرب والمالك ﴿ وضل عنهم ﴾ أي زال وبطل عنهم ﴿ ما كانوا يفترون ﴾ من أن آلهتهم يشفع لهم، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة.
١ سورة محمد، الآية ١١..
﴿ قل من يرزقكم من السماء ﴾ بإنزال المطر بالبركة ﴿ والأرض ﴾ بالإنبات وقيل من لبيان من الموصولة على حذف المضاف أي من أهل السماء والأرض ﴿ أمن يملك السمع والأبصار ﴾ فيسمعكم ويبصركم ما شاء إسماعه وإبصاره وجرى به عادته أو من أعطاكم السمع والأبصار ومن يستطيع خلقهما وتسويتهما أو من يحملهما عن الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء ﴿ ومن ويخرج الحي ﴾ الحيوان ﴿ من الميت ﴾ من النطفة والبيضة ﴿ و يخرج الميت ﴾ أي النطفة والبيضة ﴿ من الحي ﴾ من الحيوان ﴿ ومن يدبر الأمر ﴾أي يقضي الأمور ويعلم عواقبها ﴿ فسيقولون الله ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي هو الله يعني لا يقدرون على إسناد هذه الأمور إلى ما يدعونه آلهة لظهور بطلانه ﴿ أفلا تتقون ﴾ أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يقدر على شيء مما ذكر
﴿ فذلكم ﴾ أي من يفعل هذه الأشياء ﴿ الله ﴾ المستحق للعبادة ﴿ ربكم ﴾ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان حيث خلقكم ورزقكم ودبر أموركم ﴿ الحق ﴾ الثابت المتحقق الذي لا شبهة في وجوده ولا في ألوهية ﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ استفهام إنكار أي ليس غير الحق إلا الضلال فمن يخطئ الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلالة ﴿ فأنى تصرفون ﴾ عن الحق إلى الضلال مع قيام البرهان
﴿ كذلك ﴾ يعني كما تحققت الربوبية لله تعالى وان ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما صرف هؤلاء عن الإيمان ﴿ حقت ﴾ ثبتت ووجبت ﴿ كلمت ربك ﴾ أي حكمه السابق ﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس ﴾ ١ قرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر كلمات ربك على الجمع والباقون بالإفراد ﴿ على الذين فسقوا ﴾ خرجوا عن حد الاستصلاح وتمردوا في كفرهم ﴿ إنهم لا يؤمنون ﴾ بدل من الكلمة أو تعليل لحقيقتها والمراد بها العدة بالعذاب.
١ سورة هود، الآية ١١٩..
﴿ قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده ﴾ جعل الإعادة كالإبداء في الإلزام بها لظهور برهانها وإن كانوا منكرين لها، ولذلك أمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب، فقال :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ بعد إعدامه كما كان ﴿ فأنى تؤفكون ﴾ تصرفون عن عبادته غيره مع قيام البرهان
﴿ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ﴾ بنصب الدلائل وإرسال الرسل والتوفيق إلى النظر الصحيح وخلق الهداية، والهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام أيضا للدلالة على ان المنتهى هو المقصود بالهداية فقال :﴿ قل الله يهدي للحق ﴾ لا يستطيع ذلك غيره ﴿ أفمن يهدي إلى الحق ﴾ يعني الله سبحانه تعالى ﴿ أحق ان يتبع ﴾ ممن لا يهدى ﴿ أفمن يهدي ﴾قرأ ابن كثير وورش وابن عامر بفتح الياء والهاء وتشديد الدال وقالون وأبو عمرو كذلك إلا أنهما يخفيان حركة الهاء والنص على قالون الإسكان، وقرأ اليزيدي عن أب عمرو كأن يشم الهاء شيئا من الفتح وأبو بكر بكسر الياء وحفص ويعقوب بفتح الياء وكسر الهاء، والأصل في هذه القراآت يهتدي فأدغمت التاء في الدال وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين وكسرت الياء على قراءة أبي بكر بإتباع الهاء ولم يبال أبو عمرو بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وإسكان الهاء والمعنى من لا يهدي غيره أو لا يهتدي بنفسه فضلا من ان يهتدي غيره أحق بالإتباع ممن يهدي غيره أحق بالإتباع من يهدي غيره ﴿ إلا ان يهدى ﴾ استثناء مفرغ منصوب على الظرفية يعني لا يهدي في شيء غيره وهذا حال أشراف شركائهم كالملائكة والمسيح و عزير، وقيل : معنى الهداية الانتقال من مكان إلى مكان آخر فيشتمل الأصنام أيضا يعني إلا ان تحمل وتنقل يبين به عجز الأصنام ﴿ فما لكم ﴾ أيها الكفار ﴿ كيف تحكمون ﴾ بما هو باطل بالبداهة
﴿ وما يتبع أكثرهم ﴾ فيما يعتقدونه ﴿ إلا ظنا ﴾ غير مستند إلى برهان عقلي أو نقلي بل إلى خيالات فارغة و أقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة، والمراد بالأكثر المجموع أو من ينتمي منهم إلى تميز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف ﴿ ان الظن لا يغني ﴾ أي لا يفيد ﴿ من الحق ﴾ من العلم والاعتقاد الحق ﴿ شيئا ﴾ من الإغناء أو لا يفيد شيئا كائنا من الحق وفيه دليل على أنه لا يجوز في الاعتقاديات الاكتفاء بالظن والتقليد بل لا بد فيه من تحصيل العلم بالبرهان النقلي أو العقلي ﴿ ان الله عليم بما يفعلون ﴾ وعيد على الإعراض عن الحجج العقلية والنقلية إتباعا للنقل والتقليد.
﴿ وما كان هذا القرآن ﴾ المعجز﴿ ان يفترى ﴾ مصدر بمعنى المفعول خبر كان ﴿ من دون الله ولكن تصديق ﴾ منصوب على انه خبر لكان مقدرا أو علة لفعل محذوف تقديره ولكن انزله الله لتصديق ﴿ الذي بين يديه ﴾ يعني محمد صلى الله عليه وسلم أو كتب المنزلة المتقدمة أو القيامة أو البعث الذي أخبر بها الكتب المتقدمة فلا يكون كذبا ﴿ وتفصيل الكتاب ﴾ أي تبيين لما في اللوح المحفوظ من الحلال والحرام والفرائض والأحكام ﴿ لا ريب فيه ﴾ منتفيا عنه صلاحية الريب لكونه معجزا مطابقا للكتب المتقدمة خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك أو استيناف ﴿ من رب العالمين ﴾ خبر آخر تقديره كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو بتفصيل ولا ريب فيه أو بالفعل المعلل بهما أو حال من الكتاب أو من ضمير فيه وفي الآية تنبيه على ما يجب إتباعه بعد المنع عن إتباع الظن
﴿ أم يقولون ﴾ بل أيقولون ومعنى الهمزة فيه للإنكار ﴿ افتراه ﴾اختلقه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قل ﴾ يا محمد ردا لقولهم ﴿ فأتوا بسورة ﴾ الفاء جزاء لمقدر يعني إن إفتريته فأتوا انتم أيضا بسورة ﴿ مثله ﴾ أي شبيها للقرآن في البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد في النظم والعبارة ﴿ وادعوا ﴾ مع ذلك ﴿ من استطعتم ﴾ دعوته ممن يعينكم عليه ﴿ من دون الله ﴾ أي غيره تعالى فإن تعالى لا يقدر على إتيان مثله ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في أن محمدا افتراه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعني فأتوا فلم يقدروا على ذلك، ولما كان في هذه الآية دعوتهم إلى المناظرة وطلب الحق بالتفكر في نظم القرآن ومعانيه
قال الله تعالى ﴿ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ﴾ يعني أن كلامهم وإنكارهم للقرآن ليس مبتنيا على التحقيق والتفكير بل كذبوا به أول ما سمعوه قبل أن يتفكروا فيه ويحيطوا بالعلم بشأنه وإدراك أنه ليس من جنس أن يمكن إتيانه من البشر ﴿ ولما تأتهم تأويله ﴾ أي لم يأتيهم بعد العلم بعقابه ما في القرآن من الوعد والوعيد والإخبار بالغيوب من المبدأ والمعاد وكان يمكنهم تحصيل ذلك العلم من علماء الكتب المنزلة المتقدمة حتى يتبين لهم صدق الحديث، والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ظاهر صدقة على من يتأمل في أدنى تأمل ويتفكر ويبحث عن علومه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل سارعوا في تكذيبه قبل أن يتدبروا في نظمه ويتفحصوا عن معناه، ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي وجربوا أقوالهم في معارضته فتضالت دونها وشاهدوا وقوع بعض ما أخبر به مطابقا لما أخبره مرارا كما في قوله :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ﴾١ وقوله :﴿ آلم ١ غلبت الروم ٢ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ٣ في بضع سنين ﴾٢ وقوله :﴿ تبت يد أب لهب وتب ١ ﴾ ٣وغير ذلك فمنهم من آمن بعد ذلك ومنهم من كفر ومنهم من لم يؤمن تمردا وعنادا قال : الله تعالى :﴿ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ﴾ ٤ وقال :﴿ وجحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ﴾ ٥﴿ كذلك ﴾ أي كما فعل هؤلاء بالقرآن كذلك ﴿ كذب الذين من قبلهم ﴾ يعني كذب كفار الأمم الخالية كتبهم وأنبياءهم ﴿ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ فيه وعيد لهم إن لم يؤمنوا بمثل ما عوقب به من قبلهم
١ سورة البقرة، الآية: ٢٤..
٢ سورة الروم، الآية: ١-٣..
٣ سورة المسد، الآية ١..
٤ سورة البقرة، الآية: ١٤٦..
٥ سورة النمل، الآية: ١٤.
﴿ ومنهم ﴾ أي من المكذبين ﴿ من يؤمن به ﴾ أي يصدق به نفسه ويستيقن بعد التفكر في القرآن أو المعنى ومنهم من يؤمن به في الاستقبال بعد ما يتضح عليه حقيَّة القرآن فيتوب عن كفره هذا ما دلت عليه كلمة لما من التوقيع ﴿ ومنهم من لا يؤمن به ﴾ لفرط غباوته وسبق قضاء الله تعالى بموته على الكفر ﴿ وربك أعلم بالمفسدين ﴾ بالمعاندين أو المصرين
﴿ وإن كذبوك ﴾ يعني إن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة يا محمد ﴿ فقل ﴾ يعني فتبرأ عنهم وقل ﴿ لي عملي ﴾ أي جزاؤه ﴿ ولكم عملكم ﴾ أي جزاؤه ﴿ أنتم بريئون مما أعمل ﴾ يعني لا تؤاخذون على عملي ولا يضركم فعلي فلا تؤذوني ولا تهتموا بما فعلت ﴿ وأنا برئ مما تعملون ﴾ لا أؤاخذ بأعمالكم إنما أقول لكم ما أقول نصحا لكم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما مثلي و مثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق " ١ متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري، قال : الكلبي ومقاتل هذه الآية منسوخة بآية الجهاد كقوله ﴿ لكم دينكم ولي دين ٦ ﴾٢
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: الانتهاء عن المعاصي (٦٤٨٢) وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته (٢٢٨٣)..
٢ سورة الكافرون، الآية ٦..
﴿ ومنهم من يستمعون إليك ﴾ أي يلقون إليك أسماعهم الظاهرة إذا قرأت القرآن وتكلمت بالحكم والشرائع لكن يسمعون بقلوبهم فلا يدركون حقائقها ولطائفها لفساد استعدادهم كالأصم الذي يريد أن يسمع فلا يسمع لعدم القوة السامعة في صماخة ﴿ أفأنت تسمع الصم ﴾ أي تقدر على إسماع الصم ﴿ ولو كانوا لا يعقلون ﴾ أي ولو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس بالقرائن فكما لا تقدر أنت على إسماع الصم المسلوب عنه العقل لا تقدر على استماع من سلب عن قلبه صلاحية سماع التفكر والتدبر
﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ بأبصارهم ويعاينون أدلة الصدق وإعلام النبوة لكنهم لا يصدقون لعدم بصيرة في قلوبهم ﴿ أفأنت تهدي العمى ﴾ أي ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإنه لا يهتدي بالطريق الأولى، فيه تسلية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول إنك لا تقدر أن تسمع من سلبت عنه السمع ولا تهدي من سلبت عنه البصر ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه أنه لا يؤمن، وتعليل للأمر بالتبري والإعراض عنهم
﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ فإنهم لسوء استعدادهم وفساد اختيارهم لا يقبلون هداية الله ورسوله، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك من فقه في دين ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " ١ متفق عليه من حديث أبي موسى، وقيل : معناه إن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب آلات الاستدلال من العقول والحواس ولكن أنفسهم يظلمون بإفسادها وتفويت منافعها وترك الاستدلال فالآية دليل على أن العبد له كسب وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت الجبرية، ويجوز ان يكون وعيدا بمعنى أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله تعالى لا يظلمهم الله به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابها، قرأ حمزة والكسائي.
١ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: فضل من علم وعلم (٧٩)..
﴿ ويوم يحشرهم ﴾ قرأ حفص بالياء على الغيبة والضمير عائد إلى الله والباقون بالنون على التكلم والتعظيم ﴿ كأن لم يلبثوا ﴾قال : ابن عباس في قبورهم وقال الضحاك في الدنيا ﴿ إلا ساعة من النهار ﴾يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا والقبور لهول ما يرون والجملة التشبيهية في موقع الحال من الضمير المنصوب في يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة أو صفة ليوم والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو صفة لمصدر محذوف أي حشرا كان لم يلبثوا قبله ﴿ يتعارفون بينهم ﴾ أي يعرف بعضهم بعضا كما يتعارفون في الدنيا كأن لم يتفارقوا إلا قليلا وهذا حال آخر مقدرة أو بيان لقوله أو متعلق الظرف والتقدير يتعارفون بينهم يوم يحشرهم، قال : البغوي : هذه المعرفة حين بعثوا من القبور ثم ينقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة، وفي بعض الآثار أن الإنسان يعرف من بجنبه ولا يكلمه هيبة وخشية ﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ بالبعث على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم حيث استبدلوا الكفر بالإيمان والنار بالجنة ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ بطرق استعمال ما أعطوا من أسباب تحصيل المعارف وكسب السعادة استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل ما أخسرهم
﴿ وإما ﴾ مركبة من أن شرطية وما زائدة يعني وإن ﴿ نرينك ﴾ أي نبصرنك ﴿ بعض الذي نعدهم ﴾ من العذاب في الدنيا كما أراه يوم بدر ﴿ أو نتوفينك ﴾ قبل أن نريك عذابهم ﴿ فإلينا مرجعهم ﴾ أي فنريكه في الآخرة فهو جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف نحو فذاك ﴿ ثم الله شهيد على ما يفعلون ﴾ ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها مجازا ولذلك رتبها على الرجوع بثم، والمعنى ثم الله يفعل بهم على مقتضى ما شهد منهم من أفعالهم وقيل : ثم هاهنا بمعنى الواو : قال : مجاهد كان البعض الذي أراه قتلهم يوم بدر وسائر أنواع العذاب بعد الموت
﴿ ولكل أمة ﴾ خلت ﴿ رسول ﴾ أرسل إليهم إلى الإسلام ﴿ فإذا جاء رسولهم ﴾ بالبينات فكذبوه ﴿ قضي بينهم ﴾ وبين الرسول ﴿ بالقسط ﴾ بالعدل فأهلك المكذبون ويجيء الرسول والمؤمنون بالعدل ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ يعني ما ظلمناهم في تعذيبهم بل استحقوا ذلك، وقال مجاهد ومقاتل معناه لكل أمة من الأمم رسول أرسل إليهم فإذا كان يوم القيامة وجاء رسولهم ليشهد عليهم بالكفر أو الإيمان قضي بينهم بإنجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين كما قال : الله تعالى ﴿ وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم ﴾ ١ وقال :﴿ فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ٤١ ﴾٢.
١ سورة الزمر، الآية ٦٩..
٢ سورة النساء، الآية: ٤١.
﴿ ويقولون ﴾ أي كفار مكة ﴿ متى هذا الوعد ﴾ الذي تعدنا يا محمد من العذاب { إن
كنتم } أيها الرسول وأتباعه ﴿ صادقين ﴾ فيما وعدتم به شرط حذف جزاؤه يعني فأتوا به قالوا : ذلك تكذيبا واستهزاء
﴿ قل ﴾يا محمد ﴿ لا املك لنفسي ضرا ولا نفعا ﴾أي دفع ضر وجلب نفع فكيف أملك في جلب العذاب إليكم ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أن يقدر في فأملكه أو المعنى لكن ما شاء الله كائن ﴿ لكل امة أجل ﴾مدة مضروبة في علم الله لهلاكهم ﴿ إذا جاء أجلهم ﴾ أي الوقت المقدر لتعذيبهم ﴿ فلا يستأخرون ساعة ﴾ أي لا يتأخرون منه أدنى زمان ﴿ ولا يستقدمون ﴾معطوف على جملة إذا جاء أجلهم يعني لا تستعجلوا عذابكم فسيجيء وقته وينجز وعدكم
﴿ قل أراءيتم ﴾ يعني أخبروني ﴿ إن أتاكم عذابه ﴾ تعالى الذي تستعجلونه ﴿ بياتا ﴾ وقت اشتغالكم بالنوم ﴿ أو نهارا ﴾ وقت اشتغالكم بأمور معاشكم، وجواب الشرط محذوف يعني ندمتم على استعجالكم عرفتم ما أخطأكم ﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾ استفهام تعجب من استعجالهم شيئا من المكروه، إذ لا شيء من المكروه ما يلائم الاستعجال، وهو متعلق بأرأيتم وما بينهما اعتراض، والمجرمون مظهر موضع الضمير وضع للدلالة على أن جرمهم يقتضي أن يفزعوا لا ان يستعجلوا جزاءه، قال : البغوي إنهم يستعجلون العذاب ويقول أحدهم ﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ ١ فيقول الله ماذا يستعجلون أي أيّ شيء من العذاب يستعجلونه وكله مكروه قلت : وجاز ان يكون قوله ماذا يستعجل الخ جزاء للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني، والمعنى غن أتاكم عذاب الله أي شيء تستعجلونه حينئذ هل تستعجلون مثل ذلك العذاب، وتختارون بقاءكم فيه أو تستعجلون التقصي عنه يعني لا يستعجلون العذاب حينئذ البتة
١ سورة الأنفال،/ الآية: ٣٢..
﴿ أثم إذا ما وقع ﴾ العذاب الذي يستعجلونه الظرف متعلق بقوله ﴿ آمنتم به ﴾ وهذا معطوف على جزاء الشرط محذوفا كان أو مذكورا، تقديره أتاكم عذابه ندمتم ثم آمنتم به أي العذاب أو بمن أخبر به إذا ما وقع يعني بعد وقوعه والهمزة لإنكار تأخير الإيمان إلى وقت لا يفيد الإيمان حينئذ، أو تقديره إن أتاكم عذابه أي شيء تستعجلونه حينئذ يعني لا تستعجلونه حينئذ بالعذاب ثم تؤمنون بالعذاب أو بمن أخبر به حين لا ينفعهم وجاز ان يكون هذا جملة شرطية معطوفة على شرطية سابقة وقوله ﴿ ماذا يستعجل منه المجرمون ﴾معترضة أو جزاء شرطية سابقة والمراد بالعذاب ههنا عذاب الآخرة وبالعذاب السابق عذاب الدنيا والمعنى أرأيتم إن أتاكم عذاب الله في الدنيا ليلا أو نهار تندمون أو أي شيء تستعجلوا حينئذ ثم إذا وقع بكم عذاب الآخرة هل تؤمنوا به حين لا ينفعكم الإيمان هلا تؤمنوا حين ينفعكم وذلك في الدنيا قبل الغرغرة ﴿ الآن ﴾ على إضمار القول يعني يقال لكم حين تؤمنوا به رؤية العذاب في الآخرة أو عند غرغرة الموت على وجه الإنكار ﴿ آمنتم به ﴾ بعد وقوعه حين لا ينفعكم، قرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، والباقون بإسكان اللام وهمزة بعدها، وكلهم سهل همزة الوصل التي بعد همزة الاستفهام، أو قلبها مدة في ذلك وشبهه، نحو قوله تعالى ﴿ الآن وقد عصيت ﴾ ١ و﴿ الذاكرين ﴾ ٢ و ﴿ الله خير ﴾ ٣ ولم يحققها أحد منهم، ولم يجعل أحد فصلا بينها وبين التي قبلها بألف لضعفها ﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾ تكذيبا واستهزاء حال من فاعل آمنتم المقدور
١ سورة يونس، الآية ٩١..
٢ سورة الأنعام، الآية: ١٤٣.
٣ سورة النمل، الآية ٥٩..
﴿ ثم قيل ﴾ عطف على قيل المقدور ﴿ للذين ظلموا ﴾ أي أشركوا ﴿ ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون ﴾ أي ما تجزون ﴿ إلا بما كنتم تكسبون ﴾ من الكفر والمعاصي
﴿ و يستنبئونك ﴾ أي سيخبرونك يا محمد ﴿ أحق هو ﴾ يعني ما تدعيه من التوحيد والنبوة والقرآن وقيام الساعة والعذاب والثواب، أم باطل تهزل به، قوله حق مبتدأ من القسم الثاني والضمير مرتفع به على الفاعلية ساد مسد الخبر أو الضمير مبتدأ وحق خبر مقدم عليه والجملة في موضع النصب بيستنؤنك ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إي ﴾ أي نعم ﴿ وربي ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إنه لحق ﴾لا شك فيه ﴿ وما أنتم ﴾ يا كفار مكة ﴿ بمعجزين ﴾ بفائتين من العذاب لأن من عجز عن شيء فقد فاته.
﴿ ولو ﴾ ثبت ﴿ أن لكل نفس ظلمت ﴾ على الله سبحانه بالشرك أو على غيره بالتعدي ﴿ ما في الأرض ﴾ من خزائنها وما يحبه مما هو عليها ﴿ لافتدت به ﴾ أي لجعلته فدية من العذاب من قولهم افتداه بمعنى فداه ﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾ قال : أبو عبيدة معناه أظهروا الندامة لأن ليس ذلك اليوم يوم تبصر وتصنع وقيل : معناه أخفوا الندامة أي أخفوا الرؤساء الندامة من الضعفاء وهم الأتباع خوفا من ملامتهم وتعييرهم، وقيل : إنهم لما بهتوا من رؤية عذاب لم يكونوا يحتسبوه لم يقدروا ان ينطقوا، وقيل : أسروا الندامة يعني أخلصوها لأن إخلاصها أو لأنه يقال سر الشيء لخلاصته من حيث أنها تخفي ويضين بها ﴿ وقضي بينهم ﴾ أي الظالمين والمظلومين دل عليهم ذكر الظلم يعني حكم للمظلومين على الظالمين بالعذاب ﴿ بالقسط ﴾ أي بالعدل ﴿ وهم لا يظلمون ﴾ بالتعذيب بلا ذنب وليس هذا تكريرا لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم وهذا مجازات المشركين على شركهم والحكومة بين الظالمين والمظلومين
﴿ ألا إن لله ما في السموات والأرض ﴾ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والتعذيب ﴿ ألا إن وعد الله حق ﴾ أي ما وعده من الثواب والعذاب كائن لا خلف فيه ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ به لنهم لقصور عقلهم لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا
﴿ هو يحي ويميت ﴾ في الدنيا فهو يقدر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا يزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا ﴿ وإليه ترجعون ﴾ بالموت والبعث.
﴿ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ يعني القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. فإنها موعظة يعني تنبيه وتذكير يدعوا إلى كل مرغوب ويزجر كل موهوب، وذلك بالأوامر والنواهي فإن المر من الحكيم العليم الجواد يقتضي حسن المأمور به فيكون مرغوبا ويترتب عليه أجر مرغوب والنهي يقتضي قبحه فهو مرهوب يترتب عليه أجر مرهوب ﴿ وشفاء ﴾ أي دواء موجب للشفاء ﴿ وشفاء لما في الصدور ﴾ أي في صدوركم من الأمراض القلبية يعني العقائد الفاسدة و تعلقات القلوب بما سوى الله تعالى، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني اشتكي صدري قال : قرأ القرآن يقول الله تعالى وشفاء لما في الصدور وله شاهد من حديث واثلة بن الأسقع أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ﴿ وهدى ﴾ أي إراءة طريق إلى العقائد الحقة وسبيل الجنة ومراتب القرب من الله سبحانه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يقال لصاحب القرآن اقرأ واتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها " } ١ رواه احمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو ﴿ ورحمة ﴾ من الله تعالى ﴿ للمؤمنين ﴾ أي لمن آمن به منكم فإنهم هم المنتقمون به كاسبون رحمة الله بتلاوته وإتباعه، قال : البغوي الرحمة النعمة على المحتاج فإنه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا لا يقال قد رحمه وإن كان ذلك نعمة لأنه لم يضعها محتاج.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل القرآن (٢٩١٤) وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: كيف يستحب الترتيل في القراءة (١٤٦٣)..
﴿ قل ﴾ يا محمد شكرا له تعالى في جواب ما قال : منه عليكم ﴿ بفضل الله وبرحمته ﴾ يعني جاءنا الموعظة والشفاء و الهداية والرحمة بفضل الله تعالى ورحمة منه دون استحقاق منا ﴿ فبذلك ﴾ الفضل من الله والرحمة بمجيء القرآن ﴿ فليفرحوا ﴾ تقديره فبذلك ليفرحوا فليفرحوا والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص مجيء الكتاب أو الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء في قوله فبذلك داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل إن فرحوا بشيء فليفرحوا بذلك، أو للربط بما قبلها والدلالة على أن مجيء الكتاب الموصوف بما ذكر موجب للفرح، وقيل : المراد بفضل الله ورحمته إنزال القرآن، وقال مجاهد وقتادة فضل الله الإيمان ورحمته القرآن،
وقال أبو سعيد الخدري فضل الله القرآن ورحمته إن جعلنا من أهله، أخرج أبو الشيخ وغيره عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بفضل الله أي القرآن وبرحمته ان جعلكم من أهله " وقال ابن عمر فضل الله الإسلام ورحمته تزينه في القلوب، وقال خالد بن معدان فضل الله الإسلام ورحمته السنن، وقيل : فضل الله الإيمان ورحمته الجنة، والباء على هذه الأقوال متعلقة بفعل يفسره ما بعده تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا أو ليفرحوا، وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح، قرأ يعقوب باختلاف عنه فلتفرحوا بالتاء الفوقانية على الأصل المرفوض لصيغة الخطاب في المر، أخرج أبو داود عن أبي بن كعب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا " ١ بالتاء الفوقانية ﴿ هو ﴾ الضمير راجع إلى ذلك، أي مجيء القرآن أو فضل الله ورحمته ﴿ خير مما يجمعون ﴾من حطام الدنيا، قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الحروف والقراءات (٣٩٧٤).
﴿ قل ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿ أرأيتم ما أنزل الله لكم ﴾ أي خلق لكم عبر عن الخلق بالإنزال لما نيط خلقها بسبب منزل من السماء يعني المطر، أو لأنه لما قدر وكتب أولا في اللوح المحفوظ ثم خلق على وفقه فكأنه أنزل من اللوح، وما منصوب بأنزل أو أرأيتم فإنه بمعنى اخبروني ﴿ من رزق ﴾ بيان لما يعني من زرع أو ضرع، وكلمة لكم دلت على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على تشقيصه فقال ﴿ فجعلتم منه ﴾ أي بعضه ﴿ حراما ﴾ وبعضه ﴿ حلالا ﴾ ﴿ الحمد لله الذي خلق السموات ﴾ ١﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ﴾ خالصة ﴿ لذكورنا ومحرم على أزواجنا ﴾٢ وحرموا البحيرة و السائبة و الوصيلة والحام ﴿ قل ألله أذن لكم ﴾ في هذا التحليل والتحريم فتقولون ذلك بحكمه ﴿ أم على الله تفترون ﴾ في نسبة ذلك الأمور، والجملة متعلق بأرأيتم وقل تكرير للتوكيد، وجاز أن يكون الاستفهام للإنكار، وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير افترائهم على الله، والمعنى أن الله لم يأذن لكم بل على الله تفترون حيث تقولون﴿ والله أمرنا بها ﴾٣
١ سورة الأنعام، الآية: ١٣٧..
٢ سورة النعام، الآية: ١٣٩..
٣ سورة الأعراف، الآية: ٢٨..
﴿ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب ﴾ أي شيء ظنهم ﴿ يوم القيامة ﴾ منصوب بالظن، يعني أيحسبونه أنهم لا يجاوزون عليه لا بل كائن لامحالة، وفي إبهام الوعيد تهديد عظيم ﴿ أحياهم الله لذو فضل على الناس ﴾ حيث أنعم عليهم بالفعل، وهداهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل ﴿ ولكن أكثرهم لا يشكرون ﴾ هذه النعمة، ولو شكروها اتبعوا العقل والنقل ولم يفتروا على الله، وجاز أن يكون معنى الآية أن اله لذو فضل على الناس حيث لم يستعجل بعقوبتهم في الدنيا.
﴿ وما تكون ﴾ يا محمد ﴿ في شأن ﴾ أي أمر وحال، قال : بعض المحققين : لا يقال الشأن إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور قال : البيضاوي أصله من شأنت شأنه أي قصدت قصده ﴿ وما تلوا منه ﴾ أي من الشأن لأن تلاوة القرآن كان معظم شأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن القراءة يكون لشأن عظيم فيكون التقدير من اجله أو من القرآن وإضمار قبل الذكر، ثم قوله ﴿ من قرآن ﴾ بيانا له تفخيم له أو المعنى ما تتلو من الله ومن في من قرآن تبعيضه أو مزيدة لتأكيد النفي ﴿ ولا تعملون ﴾ أيها الناس ﴿ من عمل ﴾ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، ولذلك ذكر من أعماله أولا ما فيه فخامة ثم عمم ما يتناول الجليل والحقير ﴿ إلا كنا عليكم شهودا ﴾ أي رقباء مطلعين عليه ﴿ إذ تفيضون فيه ﴾ أي تدخلون وتندفعون فيه أي في العمل وقيل معناه تكثرون فيه وإفاضة الدفع بكثرة ﴿ وما يعزب ﴾ قرأ الكسائي بكسر الزاء والآخرون بضمها وهما لغتان معناه لا يغيب ﴿ عن ربك من مثقال ﴾ مصدر ميمي بمعنى الثقل يعني الوزن ومن زائدة ﴿ ذرة ﴾ أي نملة صغيرة أو هباء ﴿ في الأرض ولا في السماء ﴾ أي في الوجود والإمكان واقتصر على ذكر الأرض والسماء لأن أبصار العوام قاصرة عليها وقدم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود بيان إحاطة علمه تعالى بالأشياء كلها ﴿ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾ كلام برأسه مقرر لما قبله، ولا لنفي الجنس، وأصغر واكبر إسمها، وفي كتاب خبرها، قرأ حمزة ويعقوب برفع أصغر واكبر على الابتداء والخبر بإبطال عمل لا لأجل التكرير والباقون بالنصب على أعمال لا وقيل لا ولا زائدتان واصغر وأكبر معطوفان على مثقال ذرة، أو على مثقال ذرة، أو على ذرة والفتح بدل الكسر لامتناع الصرف، أو للحمل على مثقال ذرة مع الجار والرفع للعطف على مثقال ذرة حملا على حمله البعيد قبل دخول من والاستثناء حينئذ منقطع، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ، أو صحائف الأعمال للحفظة.
﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ﴾ حين يخاف الناس يوم القيامة من لحقوق مكروه ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ حينئذ بفوات مأمول، اعلم أن الولاء والتوالي في اللغة أن يحصل شيئا فصاعدا حصولا ليس منهما ويستعار للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، وفي القاموس الولي القرب والدنو والولي اسم منه بمعنى القريب والمحب والصديق والنصير فاعلم ان الله سبحانه بعباده بل بجميع خلقه قربا غير متكيف كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾١ وذلك القرب هو الموجب لوجود الممكنات فما لم يحصل للمكن ذلك القرب بالواجب تعالى لم يشم رائحة الوجود فإن له في نفسه ليس وله سبحانه نجوا من عبادة قرب آخر غير متكيف أيضا وذلك قرب المحبة ويتمثل هذا القرب في عالم المثال بنظر بصورة القرب الجسماني، وهذان القربان لا اشتراك بينهما إلا من حيث الاسم، وهذا القرب الثاني إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " ٢ الحديث رواه البخاري عن أبي هريرة، وأدنى درجات هذا القرب يحصل بمجرد الإيمان قال : الله تعالى ﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾ ٣ وأعلى درجاته نصيب الأنبياء ونصيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وله صلى الله عليه وسلم ترقيات تتناهى إلى أبد الآبدين، وأدنى ما يعتد به ويطلق على اسم الولي في اصطلاح الصوفية والمراد بهذه الآية إن شاء الله تعالى من كان قلبه مستغرقا في ذكر الله ﴿ يسبحون الليل والنهار لا يفترون ٢٠ ﴾ ممتلئا بحب الله تعالى لا يسع فيه غيره :﴿ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ﴾ ٤ فلا يحب أحدا إلا الله والصوفية العلية يسمون هذه الصفة بفناء القلب، فكان ظاهره وباطنه متحليا بتقوى يقي نفسه عما يكرهه الله تعالى من الأعمال والأخلاق، فكأن نفسه منزها عن الرذائل من الشرك الجلي والخفي و الأخفى من دبيب النمل ومن الحسد والحقد والكبر والهوى والهلع وغير ذلك متصفا بمحاسن العمال والأخلاق، والصوفية العلية يسمون هذه الصفة بفناء النفس ويقولون حينئذ أسلم شيطانه
أشار الله سبحانه إلى الوصف الأول بقوله ﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾
١ سورة ق، الآية: ١٦..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: التواضع (٦٥٠٢)..
٣ سورة البقرة، الآية: ٢٥٧.
٤ سورة الأنبياء، الآية: ٢٠.
﴿ الذين آمنوا ﴾أي حقيقة الإيمان فإن الإيمان محله القلب وكمال الإيمان محله القلب أن يطمئن قلبه بذكر الله لا يغفل عنه ساعة ولا يلتفت إلى غيره وإلى الوصف الثاني بقوله ﴿ وكانوا يتقون ﴾ الله تعالى بإتيان أوامره وانتهاء نواهيه الظاهرة والباطنة، وروى أبو داود عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله قالوا : يا رسول الله تخبرنا من هم ؟ قال : هم قوم تحابون بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوا لله إن وجوههم لنور وإنهم على نوره يخافون إذا خاد الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ ﴾ " ١ وروى البغوي بسنده عن أي مالك الأشعري نحو ذلك وكذا روى البيهقي في شعب الإيمان، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٦٢ ﴾قال :" الذين يتحابون في الله " وورد مثله من حديث جابر بن عبد الله أخرجه ابن مردويه.
فصل : في أسباب حصول الولاية : وهذه المرتبة أعني ولاية الله تعالى غنما يستفاد بالانعكاس من رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط ولا بد فيه من كثرة المجالسة مع المحبة والانقياد بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بمن ينويه، فإنهما يثمران محبة الله وانصباغ قلبه وقالبه ونفسه بصبغ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالبه ونفسه الذي هو ﴿ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ﴾٢ وكثرة الذكر على وجه مسنون يؤيد ذلك الانعكاس لكونه موجبا لصقالة القلب المستوجب للانعكاس، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لكل شيء صقالة و صقالة القلب ذكر الله " رواه البيهقي عن عبد الله بن عمر والله اعلم عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" قال الله تعالى وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتبادلين في " ٣ رواه مالك واحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وروى أحمد والطبراني والحاكم نحوه عن عبادة بن الصامت، وعن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم " قال :" المرء مع من أحب " ٤ متفق عليه، ومعنى قوله لم يلحق بهم أي لم يعمل مثل عملهم، وفي الصحيحين عن أنس نحوه، وعن أبي رزين انه قال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أدلك على ملاك هذا الأمر الذي تصيب منه خير الدنيا والآخرة ؟ عليك بمجالس الذكر وإذا خلوت فحرك لسانك ما استطعت بذكر الله وأحب في الله وأبغض في الله " الحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أحب الأعمال إلى الله الحب في الله والبغض في الله " ٥رواه أحمد وأبو داود. ذكر المرادين ثم اعلم أن ما ذكرنا حال المريدين من أولياء الله تعالى، ومن أوليائه تعالى جماعة مرادون بدل عليه ما رواه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله إذا أحب عبدا دعا جبرئيل فقال غني أحب فلانا فأحبه قال : فيحبه جبرئيل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبد دعا جبرئيل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال : فيبغضه جبرئيل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال : فيبغضوه ثم يوضع له البغضاء في الأرض " ٦
فصل : في علامة أولياء الله : ذكر البغوي عن النبي الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل من أولياء الله قال :" الذين إذا رأوا ذكر الله " وقال البغوي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" قال الله تعالى إن أوليائي من عبادي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم " وروى ابن ماجة عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول :" ألا أنبئكم بخياركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال :
" الذين إذا راو ذكر الله " ٧
فائدة : والسر في ذلك أن أولياء الله تعالى لهم قرب ومعية بالله تعالى غير متكفية يقتضي ذلك أن يكون مجالسهم كالمجالسة بالله تعالى ورؤيتهم مذكرا الله تعالى وذكرهم جالبا إلى ذكره تعالى كالمرآة إذا قوبلت بالشمس وامتلأت بنورها حصلت لها حالة إذا قوبل شيء بذلك المرآة يستضيء بمقابلة الشمس، بل يحترق القطنة بمقابلة المرآة دون مقابلة الشمس لقرب القطنة بالمرآة دون الشمس وأيضا ان الله سبحانه أودع في ذوات أوليائه استعداد تأثر من الله تعالى لقرب ومناسبة خفية غير متكفية به تعالى، واستعداد تأثير في الناس لأجل مناسبة جنسية ونوعية وشخصية فذلك التأثر والتأثير يقتضي حصول بالله تعالى، وذكره تعالى فيمن رآهم وجالسهم بشرط عدم الإنكار تعوذ بالله منه :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ ٨ أي الخارجين عن الإيمان والانقياد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله تعالى :" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " ٩ رواه البخاري عن أبي هريرة، وفي الباب حديث حنظلة يا رسول اله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأي العين خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد و الضيعات نسينا كثيرا فقل : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" والذي نفسي بيده لو تدومون كما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات } ١٠ رواه مسلم. فائدة وليست علامة الأولياء ما زعمت العوام من خرق العادات ولا العلم بالمغيبات، فإنها لا توجد في كثير من أولياء الله، وقد يوجد في غيرهم على سبل الاستدراج وكونه في بعضهم نادرا لا يستلزم كون ذلك علامة للولاية كيف وقد قال : الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ﴾١١ وقال قل ﴿ لو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ ١٢ وقال :﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾ ١٣ ونحو ذلك، وقد قالت الصوفية العلية : الكرامة حيض الرجال لابد استتارها ولا مزية لأحد على احد بها، ومن ثم ندم الرجال عن كثرة ظهور خرق العادات بأيديهم والله أعلم.
ومحل الذين آمنوا للنصب على المدح أو على كونه وصفا للأولياء، أو الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف يعني والجملة مادحة أو على انه مبتدأ خبره
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الإجارة، باب: في الرهن (٣٥٢٤)..
٢ سورة البقرة، الآية: ١٣٨.
٣ قال الحاكم: في صحيح على شرطهما وأقره الذهبي، وقال المنذري: إسناد صحيح، وقال الهيثمي: رجال احمد والطبراني وثقوا.
انظر فيض القدير (٦٠٣٨)..

٤ أخرجه البخاري في كتاب: الدب، باب: علامة حب الله عز وجل (٦١٧٩) وأخرجه كتاب: البر والصلة والآداب، باب: المرء مع من أحب (٢٦٤٠).
٥ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة باب: مجانية أهل الأهواء وبغضهم (٤٥٨٧).
٦ أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده (٢٦٣٧)..
٧ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: من لا يؤبه له (٤١١٩) قال: في الزوائد: إسناده حسن وشهر بن حوشب وسويد بن سعيد مختلف فيهما وباقي رجال الإسناد ثقات..
٨ سورة المائدة، الآية: ١٠٨.
٩ أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: التواضع (٦٥٠٢)..
١٠ أخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: فضل الذكر والفكر في أمور الآخرة، والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا (٢٧٥٠)..
١١ سورة الكهف، الآية ١١٠..
١٢ سورة الأعراف، الآية ١٨٨..
١٣ سورة النعام، الآية ١٠٩..
﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾ وذلك ما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالوحي عموما وخصوصا فقال :" أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمان بن عوف في الجنة وسعد بن أب وقاص في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ١ رواه الترمذي عن عبد الرحمان بن عوف وابن ماجة عن سعيد بن زيد، وقال :" أما أنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي " ٢ رواه أبو داود عن أبي هريرة، وقال :" أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر " ٣ رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال :" لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان " ٤رواه الترمذي عن طلحة بن عبيد الله، وقال لعلي :" أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " ٥ متفق عليه عن سعد بن أبي وقاص، وقال :" من كنت مولاه فعلي مولاه " ٦ رواه أحمد والترمذي عن زيد بن أرقم وقال :" فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني " ٧متفق عليه عن مسور بن مخرمة، وقال :" الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " ٨ رواه الترمذي عن أبي سعيد، وقال :" خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد " ٩ وقال :" فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام " ١٠ وقال :" عن عبد الله يعني ابن عمر رجل صالح " ١١ متفق عليه عن ابن عمر، وقال لعبد الله بن سلام " انه من أهل الجنة } متفق عليه عن سعد بن أب وقاص، وقال :" الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " ١٢ وقال :" نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح " ١٣وقال " إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان " ١٤ هكذا بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من الصحابة فضلا، وبشر الله سبحانه كلهم أجمعين بقوله :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ ١٥ وبقوله ﴿ محمد رسول الله والذين معه ﴾ ١٦ الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا أصحابي فلو أن احدهم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد احد ولا نصيفه " ١٧ متفق عليه عن أبي سعيد الخدري، وقال :" أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم " ١٨ رواه رزين عن عمر، وقال :" خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ١٩ الحديث متفق عليه عن عمران بن حصين.
ثم إذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فالبشرى في الدنيا ما بشر الله سبحانه أولياءه بالكشف يعني أراه في عالم المثال في المنام أو اليقظة وهو المراد بالرؤيا الصالحة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا : وما المبشرات ؟ قال :" الرؤيا الصالحة " ٢٠ رواه البخاري عن أبي هريرة، وقال البغوي روي عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾ قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المرء و ترى له " أخرج أحمد وسعيد بن منصور والترمذي وغيرهم عن أبي الدرداء انه سئل عن هذه الآية ﴿ لهم البشرى في الحياة الدنيا ﴾ قال : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" ما سألني عنها غيرك منذ أنزلت هذه الآية الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له فهي بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة " له طرق كثيرة، والمراد بالرؤيا رؤيا الأولياء و الصلحاء لا رؤيا العوام، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الرؤيا ثلاث : فبشرى من الله وحديث النفس وتخويف الشيطان " ٢١ رواه الترمذي وصححه ابن ماجة عن أبي هريرة فإن قيل : الرؤيا وإن كان من الأولياء و الصلحاء لا يفيد القطع ؟ قلنا وإن كان لا يفيد القطع لكنه يفيد غلبة الظن وذلك كاف للبشارة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " ٢٢رواه البخاري عن أبي سعيد ومسلم عن ابن عمر عن أبي هريرة واحمد وابن ماجة عن أبي رزين والطبراني عن ابن مسعود ونحوه ابن ماجة عن عوف بن مالك، وروى احمد عن ابن عمروا بن عباس وابن ماجة " الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة " وليس المراد بالبشرى ههنا ما بشر الله تعالى المؤمنين به عموما في كتابه من جنته وكريم ثوابه كقوله تعالى ﴿ وبشر الذين آمنوا ﴾ ٢٣ لأن البشارة بمثل هذه الآيات لا يتصور إلا بعد القطع بالتوفي على الأيمان وذلك غير متصور، وقيل البشرى في الدنيا هي الثناء الحسن لما روى البغوي بسنده عن عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه ويحبه الناس ؟ قال :" تلك عاجل بشرى المؤمن " ٢٤ واخرج مسلم نحوه بلفظ " ويحمده الناس " وقال الزهري وقتادة هي نزول الملائكة بالبشارة من الله عند الموت قال : الله تعالى :﴿ تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا و أبشروا بالجنة ﴾ ٢٥ وكذا قال : عطاء عن ابن عباس ﴿ وفي الآخرة ﴾ يعني خروج نفس المؤمن يعرج بها على الله ويبشر برضوان الله وعند الخروج من القبر يوم القيامة، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة أو و بعض أزواجه إنا لنكره الموت، قال : ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله ورحمته فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه " ٢٦متفق عليه، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور كأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنه الحزن " رواه الطبراني، وكذا أخرج الختلي في الديباج عن ابن عباس مرفوعا ﴿ لا تبديل لكلمات الله ﴾ يعني لا خلف لمواعيده ومن ههنا يمكن استنباط قول الصوفية الفاني لا يرد ﴿ ذلك ﴾ إشارة على كونهم مبشرين في الدارين ﴿ هو الفوز العظيم ﴾ هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به { وتعظيم شأنه وليس من شرط الاعتراض أن يقع بعده كلام متصل بما قبله.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: عبد الرحمان بن عوف (٣٧٨٦).
وأخرجه ابن ماجة في افتتاح الكتاب، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (١٣٣).

٢ أخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب: في الخلفاء (٤٦٤٣)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب (٣٧٠١).
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب (٣٧٠٧) وقال إسناده منقطع..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب غزوة تبوك (٤٤١٦) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب من فضائل
علي بن أبي طالب رضي الله (٢٤٠٤).

٦ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام (٣٧٢٢)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: مناقب فاطمة عليها السلام (٣٧٦٧)
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم (٢٤٤٩)..

٨ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما (٣٧٧٧).
٩ أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة وفضلها (٣٨٧٥) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل خديجة أم المؤمنين (٢٤٣٠).
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، فضل عائشة (٣٧٦٩) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل عائشة رضي الله عنها (٢٤٤٦).
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب عبد الله بن عمر (٣٨٣٤) أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: مناقب عبد الله بن عمر (٣٧٤٠)..
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: مناقب الأنصار، باب: حب الأنصار من الإيمان (٣٧٨٣) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان (٥٦).
١٣ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم (٣٨٠٤).
١٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: مناقب سلمان الفارسي رضي الله عنه (٣٨٠٦)..
١٥ سورة النساء، الآية ٩٥..
١٦ سورة محمد، الآية ٢٩..
١٧ أخرجه البخاري في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا خليلا" (٣٦٧٣)
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم (٢٥٤٠)..

١٨ رواه البيهقي وأسنده الديلمي عن ابن عباس بلفظ قريب منه انظر. انظر كشف الخفاء (٣٨١).
١٩ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (٢٦٥٢) وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة باب: الصحابة ثم الذين يلونهم (٢٥٣٣)..
٢٠ أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: المبشرات (٦٩٩٠)..
٢١ أخرجه الترمذي في كتاب: الرؤيا، باب: ذهب النبوة وبقيت المبشرات (٢٢٧٢)..
٢٢ أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٦٩٧٩) وأخرجه مسلم في كتاب: الرؤيا (٢٢٦٣).
٢٣ سورة البقرة، الآية ٢٥..
٢٤ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: إذا أثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره (٢٦٤٢)..
٢٥ سورة فصلت، الآية: ٣٠..
٢٦ أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٦٥٠٧) وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٢٦٨٣).
﴿ ولا يحزنك ﴾ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاء من الأفعال والباقون بفتح الياء وضم الزاء من المجرد وكلاهما بمعنى ﴿ قولهم ﴾ أي إشراكهم وتكذيبهم وتهديديهم ﴿ إن العزة لله جميعا ﴾ استئناف بمعنى التعليل وبدل عليه ما قرأ بالفتح كأنه قيل لا تحزن ولا تبال بهم لأن الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقرهم وينصرك عليهم ﴿ هو السميع ﴾ لأقوالهم ﴿ العليم ﴾ بنياتهم فيجازيهم عليها
﴿ ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ﴾ من الملائكة والثقلين وإذا كان هؤلاء الذين هم أشراف الممكنات عبيدا إلا يصلح أحد للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ند ولا شريك فهو كالدليل على قوله ﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾ أي شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء فإن الشركة في الربوبية محال ويجوز أن يكون شركاء مفعول يدعون ومفعول يتبع محذوف دل عليه قوله ﴿ إن يتبعون إلا الظن ﴾ أي ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنهم أي خيالهم إنها شركاء، ويجوز أن يكون ما موصولة معطوفة على من أي لله ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء أو استفهامية منصوبة بيتبع والمعنى أي شيء يتبع الذين يدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين يعني أنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله تعالى :﴿ أولئك يدعون إلى ربهم الوسيلة ﴾ ١ فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشأ رأيهم ﴿ وإن هم إلا يخرصون ﴾ أي يكذبون فيما ينسبون أو يحزرون ويتعدون أنها شركاء تقديرا باطلا
١ سورة الإسراء، الآية: ٥٧..
﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ﴾ وتستريحوا من تعب التردد ﴿ والنهار مبصرا ﴾ أي مضيئا سببا لإبصار الأشياء ﴿ إن في ذلك ﴾ أي في خلق هذه الأشياء العظام على وفق الحكمة ﴿ لآيات ﴾ دالة على كمال قدرة الله وعظيم نعمته وحكمته المتوحد بها المستحق للعبادة المختصة به ﴿ لقوم يسمعون ﴾ كلام الله تعالى وكلام المذكرين سماع تدبر واعتبار
﴿ قالوا ﴾ يعني المشركين ﴿ اتخذ الله ولدا ﴾ وهو قولهم الملائكة بنت الله ﴿ سبحانه ﴾ تنزيه له عن التبني وتعجب من كلام الحمقاء حيث حكموا بأمر مستحيل لا يمكن ولا يتصور ﴿ هو الغني ﴾ عما سواه لا يحتاج في شيء من الأمور إلى شيء من الأشياء وما سواه ممكن محتاج في وجوه وبقائه وفي كل صفة من صفاته إليه، فأي مناسبة بينه وبين ما يزعمونه ولدا فإن الولد يكون من جنس الوالد، أو يقال إنما يطلب الولد ضعيف يتقوى به أو فقير ليتعين به أو ذليل ليتشرف به أو من يموت لبقاء جنسه والكل أمارة الحاجة والله غني قديم ﴿ له ما في السموات وما في الأرض ﴾ خلقا وملكا فكيف كون شيء مما فيهما ولدا له ﴿ إن عندكم ﴾ ما عندكم ﴿ من سلطان ﴾ أي برهان ﴿ بهذا ﴾ متعلق بسلطان أو نعت له أو بعندكم كأنه قيل ليس عندكم في هذا سلطان نفي دليل معارض لما أقام من البرهان على نفي الولد ﴿ أتقولون على الله مالا تعلمون ﴾توبيخ عن جهلهم وتنبيه على أنه لا يجوز أن يقول أحدا قولا لا دليل عليه وأن العقائد لابد لها من دليل قاطع يوجب العلم ولا يجوز التقليد فيها
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إن الذين يفترون على الله الكذب ﴾ بنسبة الولد والشريك إليه ﴿ لا يفلحون ﴾ لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة
﴿ متاع في الدنيا ﴾ خبر مبتدأ محذوف يعني افتراءهم سبب تمتعهم في الدنيا يقيمون به رياستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم متاع، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع في الدنيا ﴿ ثم إلينا مرجعهم ﴾ بالموت ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } أي بسبب كفرهم.
﴿ واتل عليهم ﴾ أي اقرأ يا محمد على أهل مكة ﴿ نبأ نوح ﴾ أي خبره مع قومه ﴿ إذ قال ﴾ متعلق ﴿ لقومه ﴾ قال : البغوي هم ولد قابيل وهذا لا يتصور لأن نوحا عليه السلام كان من ولد شيث عليه السلام لابد من ولد قابيل فإضافة القوم إليه يدل على كونهم من أولاد شيث عليه السلام ﴿ يا قوم إن كان كبر ﴾ أي شق ﴿ عليكم مقامي ﴾ أي قيامي بينكم مدة مديدة، أو قيامي على الدعوى ﴿ وتذكيري بآيات الله ﴾ أي بحججه و بيناته أو آياته المنزلة ﴿ فعلى الله ﴾ لا قدرة على غيره ﴿ توكلت ﴾ أي وثقت ﴿ فأجمعوا أمركم ﴾ من أجمع الأمر إذا نواه أو عزم عليه ﴿ وشركاءكم ﴾ قرأ يعقوب بالرفع عطفا على الضمير المرفوع المستتر في أجمعوا وجاز للفضل يعني اعزموا انتم وشركاؤكم على قتلي أو إصابة مكروه بي، والباقون بالنصب إما على أنه مفعول معه والواو بمعنى مع والمعنى ما مر كذا قال : الزجاج، وإما على أنه معطوف على أمركم بحذف المضاف أي أقصدوا أمركم وأمر شركائكم، وإما انه منصوب بفعل مقدر أي و أدعوا شركاءكم ﴿ ثم لا يكن أمركم ﴾ أي لا يكن شيء مما تقصدون بي ﴿ عليكم غمة ﴾مشكورا بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا من غمه إذا ستره، أو المعنى لا يكن حالكم عليكم غما إذا أهلكتومني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري ﴿ ثم اقضوا ﴾ أي أدوا ﴿ إلي ﴾ ما أردتم ﴿ ولا تنظرون ﴾ ولا تمهلوني هذا أمر على سبيل التعجيز، أخبر الله تعالى عن نوح أنه كان واثقا بنصر الله غير خائف من كيد قومه علما منه بأنهم وآلهتهم لا يملكون نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله
﴿ فإن توليتم فما سألتكم من أجر ﴾ حذف جزاء الشرط وأقيم علته مقامه، تقديره فإن توليتم عن تذكيري وأعرض تمعن قولي وقبول نصحي بعد ظهور صدقه هلكتم، أو يعذبكم الله لكون ذلك التولي عن الحق بلا مانع عن قبوله، إذا ما سألتكم من أجر يوجب توليكم ويمنع عن قبول الحق لثقته عليكم، أو اتهامكم إياي لأجله، أو المعنى إن توليتم ظلمتم أنفسكم مما أضررتموني بشيء إذ ما سألتكم من أجر يفوتني بتوليتكم بل إنما يفوت عليكم الهداية ﴿ إن أجري ﴾قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء وكذلك حيث وقع والباقون بإسكانها حيث وقع والباقون بإسكانها أي ليس ثوابي على الدعوة والتذكير ﴿ إلا على الله ﴾ لا تعلق له بكم فهو يثيبني آمنتم أو توليتم، فيه إشارة إلى ان أخذ الأجر على تعليم القرآن ونحو ذلك لا يصلح ﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ المنقادين لحكم الله تعالى في الإيمان والأعمال ودعوة الناس إليه وقد فعلت
﴿ فكذبوه ﴾ أي أصرفا على تكذيبه بعد وضوح الحق عنادا وتمردا ﴿ فنجينه ﴾ يعني نوحا من الغرق ﴿ ومن معه في الفلك ﴾ وكانوا ثمانين ﴿ وجعلناهم خلائف ﴾ من الهالكين ﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ بالطوفان ﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾ أي آخر أمر من انذرهم الرسل فلم يؤمنوا، فيه تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسل وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم
﴿ ثم بعثنا ﴾ أرسلنا ﴿ من بعده ﴾ أي بعد نوح ﴿ رسلا إلى قومهم ﴾ أي كل رسول إلى قومه ﴿ فجاءوهم ﴾ أي الرسل ﴿ بالبينات ﴾ أي بالدلائل الواضحة ﴿ فما كانوا ﴾ أي أقوام الرسل ﴿ ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ﴾ أي بما كذب قوم نوح قبل مجيئهم ﴿ كذلك ﴾ أي كما طبعنا على قلوب قوم نوح وأقوام الرسل بعده ﴿ نطبع على قلوب المعتدين ﴾ من أمتك بخذلانهم لانهماكهم في الضلال وإتباع المألوف.
﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي بعد تلك الرسل ﴿ موسى ﴾ بن عمران ﴿ و ﴾ أخاه ﴿ هارون إلى فرعون وملإيه ﴾ أي أشراف قومه خص الملأ بالذكر تمهيدا بالذكر تمهيدا بالبيان استكبارهم ﴿ بآياتنا فاستكبروا ﴾ عن إتباع موسى وهارون ﴿ وكانوا قوما مجرمين ﴾ أي معتدين بالإجرام ولذلك تهاونوا برسالة الله سبحانه واجترءوا على ردها.
﴿ فلما جاءهم ﴾ أي فرعون وقومه ﴿ الحق ﴾ أي الدين الحق ﴿ من عندنا ﴾ وعرفوا حقيقته بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك ﴿ قالوا ﴾ أي فرعون وملاؤه من فرد تمردهم ﴿ إن هذا ﴾ ما جاء به موسى من المعجزات ﴿ لسحر مبين ﴾ ظاهر أنه سحر أو فائق في فنه واضح فيما بين أشباهه
﴿ قال موسى ﴾ على سبيل التعجب والإنكار ﴿ أتقولون للحق ﴾ للأمر الثابت المتحقق من عند الله ﴿ لما جاءكم ﴾ أنه سحروا لسحر ثمويه لا حقيقة له، فحذف محكي القول لدلالة ما قبله عليه، ولا يجوز أن يكون المحكي ﴿ أسحر هذا ﴾ لأنهم بتوا القول بل هو استيناف بإنكار ما قالوه إلا أن يكون الاستفهام فيه التقرير ويجوز أن يكون معنى تقولون للحق أتعنونه، من قولهم فلان يخاف القالة فيستغني عن المفعول كقوله تعالى :﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم ﴾ ١ ﴿ ولا يفلح الساحرون ﴾ أي لا يظفر، من تمام كلام موسى للدلالة على أنه ليس بسحر، فإنه لو كان سحرا
لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة، ولأن العالم به لا يسحر أو تمام قولهم أن جعل أسحر هذا محكيا كأنهم قالوا : جئتنا بالسحر تطلب به الفلاح و لا يفلح الساحرون
١ سورة الأنبياء، الآية: ٧٠..
﴿ قالوا ﴾ يعني فرعون وقومه لموسى ﴿ أجئتنا ﴾ يا موسى ﴿ لتلفتنا ﴾ أي لتصرفنا، وقال قتادة لتلوينا ﴿ عما وجدنا عليه آباءنا ﴾ من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون ﴿ وتكون ﴾ قرأ أبو بكر بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية ﴿ لكما الكبرياء ﴾ الملك والسلطان سمى بها لاتصاف الملوك بالتكبر على الناس باستتباعهم ﴿ تفسدوا الأرض ﴾ أرض مصر ﴿ وما نحن لكما بمؤمنين ﴾ مصدقين فيما تدعونه
﴿ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿ ساحر عليم ﴾ حاذق فيه
﴿ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر ﴾ قرأ أبو عمر وأبو جعفر السحر بالمد على أن ما استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها والسحر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة بدل من قوله ما جئتم به تقديره أهو أو السحر، وقرأ الجمهور بلا مد على الخبر يعني جئتم به السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله، ويؤيد قراءة ابن مسعود ما جئتم به سحر ﴿ إن الله سيبطله ﴾ أي سيمحقه أو سيظهر بطلانه ﴿ إن الله لا يصلح ﴾ أي لا يثبت ولا يقوى ﴿ عمل المفسدين ﴾فيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له
﴿ ويحق الله ﴾ أي يثبت ويقوي ﴿ الحق بكلماته ﴾ بآياته ﴿ ولو كره المجرمون ﴾.
﴿ فما آمن لموسى ﴾ أي لم يصدق موسى مع ما جاء به من الآيات وأبطل سحر السحرة ﴿ إلا ذرية من قومه ﴾ قيل : ضمير قومه راجع إلى موسى يعني مؤمني بني إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه، قال : مجاهد كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل هلك الآباء وبقي الأبناء ولذا سموا ذرية، وقيل : هم قوم نجوا من قتل فرعون لما أمر بقتل أبناء بني إسرائيل كانت المرأة من بني إسرائيل إذا أولدت ولدا وهبته للقبطية خوفا من القتل فنشئوا عند القبط وأسلموا في اليوم الذي غلب موسى السحرة، وقال آخرون الضمير راجع إلى فرعون وروى عطية عن ابن عباس قال : هم أناس يسيرون من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون أمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله، قال : الفراء سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل كما يقال لأولاد أهل الفرس الذين سقطوا إلى اليمن الأبناء. لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم ﴿ على خوف ﴾ أي مع خوف ﴿ من فرعون وملإيهم ﴾ الضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد من ضمير العظماء أو على أن المراد بفرعون آله كما يقال ربيعة ومضر والمعنى مع خوف من آل فرعون وأشراف قومهم أو للذرية أو للقوم ﴿ أن يفتنهم ﴾ أي عذبهم فرعون وهو بدل من فرعون أو مفعول خوف وإفراده بالضمير للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسببه ﴿ وإن فرعون لعال ﴾ غالب متكبر ﴿ في الأرض وإنه لمن المسرفين ﴾ المجاوزين الحد حتى ادعى الربوبية مع كونه عبدا مخلوقا محتاجا، واسترق أبناء الأنبياء
﴿ وقال يا موسى ﴾ لما رأى خوف المؤمنين من فرعون ﴿ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ﴾ أي ثقوا به واعتمدوا عليه ولا تخافوا من فرعون وملائه ﴿ إن كنتم مسلمين ﴾ جزاؤه محذوف دل عليه السياق يعني إن كنتم مستسلمين لقضاء الله مخلصين له توكلتم عليه، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان وجوب التوكل فإنه المقتضى له، والمشروط بالإسلام حصوله فإن التوكل على الله لا يحصل ما لم يسلموا نفوسهم لله أي يجعلوها له سالمة خاصة بحيث لا يكون حظ للهوى ولا للشيطان فيها، لأن التوكل لا يحصل مع التخليط وهو من مقامات الصوفية
﴿ فقالوا على الله توكلنا ﴾ فإنهم كانوا مخلصين أصحاب لرسول رب العالمين على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ثم دعوا ربهم وقالوا :﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة ﴾ أي موضع فتنة وعذاب ﴿ للقوم الظالمين ﴾ أي لا تسلطهم علينا فيفنوننا ويعذبوننا، أو بالمعنى لا تجعلنا سببا لزيادة طغيانهم وكفرهم بأن تعذبنا بعذاب من عندك أو بأيدي قوم فرعون فيقول قوم فرعون لو كان هؤلاء على الحق ما عبدوا أو ظنوا أنهم خير منا
﴿ ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ﴾ من كيدهم وشؤم مشاهدتهم وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي أن يتوكل أولا ليجاب دعوته قلت : بل على أن يتوكل أولا ليجاب دعوته بل على أن التوكل من صفات اللازمة للصوفي والدعاء من عوارضه.
﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه ﴾ هارون ﴿ أن تبوءا ﴾ أي تتخذا مباة ومرجعا من غير الأماكن إليها للسكنى والعبادة ﴿ لقومكما بمصر بيوتا ﴾ قال : البغوي قال : أكثر المفسرين كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى أمر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فيها فأمرهم الله أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من آل فرعون هذا قول إبراهيم النخعي وعكرمة عن ابن عباس، وقال مجاهد خاف موسى ومن معه من فرعون في الكنائس الجامعة فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقلة الكعبة يصلون فيها سرا ﴿ واجعلوا ﴾ أنتما وقومكما ﴿ بيوتكم ﴾ التي تبوأتما لهم ﴿ قبلة ﴾ يعني مصلى متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة، وروى ابن جريح عن ابن عباس قال : كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه ﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ فيها أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ﴿ وبشر ﴾ يا موسى ﴿ المؤمنين ﴾ أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض في الدنيا، ويورثكم الجنة في العقبى، ثنى الضمير أولا لأن التبوء القوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاورهم، ثم جمع لن جعل البيوت مساجد وإقامة الصلاة يجب على كل أحد، ثم وحد لأن البشارة وظيفة صاحب الشريعة وقال البغوي بشر المؤمنين خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
﴿ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة ﴾ أي ما يتزين به الناس من اللباس والحلي والفرش والأثاث والمراكب والخدم والحشم وغيرها ﴿ وأموالا في الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾ اللام في ليضلوا للعاقبة متعلقة بآتيت يعني حتى صار عاقبة أمرهم الضلال والطغيان كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ﴾ ١ وقيل : هي لام كي أي آتيتهم استدراجا ليثبتوا على الضلال، أو لأنهم لما جعلوها سببا للضلال فكأنما أتوها ليضلوا، فيكون كلمة ربنا تكريرا للأول تأكيدا للإلحاح في التضرع : قال : الشيخ أبو منصور الماتريدي : إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا عن سبيله، وهو قوله تعالى ﴿ إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ﴾ ٢ فيكون الآية حجة على المعتزلة في القول بوجوب الأصلح واللطف على الله، وقال البيضاوي قوله ﴿ ربنا ليضلوا عن سبيلك ﴾ دعاء عليهم بلفظ الأمر ﴿ ربنا اطمس ﴾ أي أمحق ﴿ على أموالهم ﴾ بإهلاكها كذا قال : مجاهد، وقال أكثر أهل التفسير امسخها وغيرها عن هيئتها، قال : قتادة صارت أموالهم وحروثهم وزر وعهم وجواهرهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وإنصافا وأثلاثا، ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة و الجوزة مشقوقة وغنها لحجر وقال السدي مسخ الله تعالى أموالهم حجارة والنجيل والثمار والدقيق والأطعمة وكانت إحدى الآيات التسع ﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ يعني أقسها وأطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، إنما دعا عليهم لما أيس من إيمانهم وعلم بالوحي أنهم لا يؤمنون، فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون فلا يجوز له أن يدعوا بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم بالإيمان فإن قيل : بعدما علم أنهم لا يؤمنون أي فائدة في الدعاء عليهم قلنا لعل ذلك للبعض بأعداء الله في الله وذلك مقتضى طبيعة الإيمان أو يكون ذلك امتثالا لأمر الله تعالى ونظير ذلك قولك لعن الله إبليس مع أن ذلك معلوم أنه ملعون امتثالا ﴿ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ﴾٣﴿ فلا يؤمنوا ﴾ منصوب على انه جواب للدعاء، أو على انه معطوف على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض وقال الفراء مجزوم على أنه دعاء بلفظ النهي كأنه قال : اللهم فلا يؤمنوا ﴿ حتى يروا العذاب الأليم ﴾بعد الموت كذا قال السدي
١ سورة القصص، الآية: ٨.
٢ سورة آل عمران، الآية: ١٧٨.
٣ سورة فاطر، الآية ٦..
﴿ قال ﴾ الله تعالى لموسى وهارون ﴿ قد أجيبت دعوتكما ﴾ نسب الدعوة إليهما لأنه روى أن موسى كان يدعوا وهارون يؤمن والتامين دعاء، قال : البغوي وفي بعض القصص كان بين دعاء موسى والإجابة أربعين سنة ﴿ فاستقيما ﴾ على الرسالة والدعوة وأمضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذاب ﴿ ولا تتبعان ﴾ نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم، وقرأ ابن ذكوان بالنون الخفيفة وكسر النون لالتقاء الساكنين ﴿ سبيل الذين لا يعلمون ﴾ أي طريق الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق وعدم الاطمئنان بما وعد الله سبحانه.
﴿ وجوزنا ببني إسرائيل البحر ﴾ أي جاوزناهم وعبرناهم حتى بلغوا الشط وفاعل ههنا بمعنى فعل نحو عاقب أمير اللص وكذا البحر قد انفلق لموسى وقومه ﴿ فأتبعهم ﴾ أي لحقهم وأدركهم ﴿ فرعون وجنوده ﴾ يقال أتبعه وتبعه إذا أدركه ولحقه واتبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به وقيل : هما واحد ﴿ بغيا وعدوا ﴾ أي باغين وعادين أو للبغي والعدو، وقيل بغيا في القول وعدوا في الفعل فلما وصل فرعون بجنوده إلى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبرئيل عليه السلام على فرس أنثى وخاض البحر فاقتحمت الخيول خلفه ﴿ حتى إذا أدركه الغرق ﴾ وانطبق عليهم الماء لما دخل آخرهم وهم أولهم أن يخرج ﴿ قال آمنت أنه ﴾ أي بأنه وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على إضمار القول أو الاستئناف بدلا وتفسيرا لآمنت ﴿ لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾ فدس جبرئيل عليه السلام في فيه من حماة البحر فمات قبل أن تقبل توبته، نكب الشقي عن الإيمان أو أن القبول وبالغ فيه حين لا يقبل فقال : الله تعالى على سبيل الإنكار
﴿ ءالآن ﴾ يعني أنؤمن الآن حين أيئست من الحياة ولم يبق لك اختيار ﴿ وقد عصيت قبل ﴾ ذلك مدة عمرك﴿ وكنت من المفسدين ﴾ الضالين المضلين عن الإيمان قال : البغوي : روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما أغرق الله تعالى فرعون قال : آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل فقال : جبرئيل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة. فائدة : زعم جلال الدين الدواني أن فرعون مات مسلما حيث أتى بكلمة التوحيد حال حياته، وقد اتبع هو في هذا القول الشيخ الجل محي الدين ابن العرب قدس الله سره حيث قال : مات فرعون طاهرا والحق أن قول الشيخ هذا مصروف عن الظاهر وكثير من كلماته السكرية لا تطابق الشرع وهذا القول خارق للإجماع، ومخالف للصحاح من الأحاديث، قال : الدواني كل ما في القرآن من الوعيد بالنار إنما جاء في حق آل فرعون دون نفسه، قال : الله تعالى أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ١ وقال تعالى :﴿ فأوردهم النار وبئس الورد المورود ﴾٢ وقال ﴿ وحاق بآل فرعون سوء العذاب ﴾ ٣ وأما فرعون فلا يعذب على كفره فإنه قد آمن بل على عصيانه وظلمه في حق العباد فإن حقوق العباد لا يغفرها الله، قلت وهذا ليس بشيء فإن الله سبحانه قال :﴿ فحشر فنادى ٢٣ فقال أنا ربكم الأعلى ٢٤ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى٢٥ ﴾٤ فإنه صريح في كونه معذبا في الآخرة لأجل كفره وما قال : الله تعالى حكاية عن موسى ﴿ ربنا إنك آتيت فرعون وملائه زينة وأموالا ﴾ ٥ على قوله اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا } ٦ وقوله ﴿ قد أجيبت دعوتكما ﴾ ٧ صريح في أن موسى دعا على فرعون أن يموت على الكفر وقد أجيبت دعوته، فإنكار موته على الكفر إنكار لهذه الآية نعوذ بالله منه.
١ سورة غافر، الآية: ٤٦..
٢ سورة هود، الآية ٩٨..
٣ سورة غافر، الآية ٤٥..
٤ سورة النازعات، الآية ٢٣-٢٥.
٥ سورة يونس، الآية ٨٨..
٦ سورة يونس، الآية ٨٨..
٧ سورة يونس، الآية ٨٩..
﴿ فاليوم ننجيك ﴾ أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع، أو المعنى نبعدك مما وقع قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا وقرأ يعقوب ننجيك بالتخفيف من الأفعال ﴿ ببدنك ﴾ أي ببدنك عاريا من الروح أو كاملا سويا أو عريانا عن اللباس أو بدرعك، وكانت له درع مشهور من ذهب مرصع بالجواهر، قال : البغوي لما أخبر موسى قومه بهلاك فرعون قال : بنو إسرائيل ما مات فرعون، فأمر الله البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل وعرفوه بدرعه فصدقوا ﴿ لتكون لمن خلفك آية ﴾ أي من ورائك ﴿ آية ﴾ أي عبرة وعظة، أو آية دالة على طريقة التوحيد مظهرا لعجز البشر وغن كان ملكا فإنه كان في نفوس بني إسرائيل متخيلا متمكنا انه لا يهلك حتى شكوا في موته حين اخبرهم موسى عليه السلام إلى أن عاينوه مطروحا على ممرهم من الساحل أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك ونكالا عن الطغيان ﴿ وإن كثيرا من الناس ﴾ يعني الكفار ﴿ عن آياتنا لغافلون ﴾ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
﴿ ولقد بوأنا ﴾أي أنزلنا ﴿ بني إسرائيل مبوأ صدق ﴾ أي منزلا صالحا يعني مصر وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة التي كتب الله ميراثا لإبراهيم وذريته وقال الضحاك هي مصر والشام ﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ أي اللذائد ﴿ الطيبات فما اختلفوا ﴾ أي بنو إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه بل كان كلهم متفقين على انه رسول الله منعوت بصفات مكتوبة في التوراة مبشرين الناس بقرب ظهوره مستفتحين به على الذين كفروا ﴿ حتى جاءهم العلم ﴾ أي معلومهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم كالخلق بمعنى المخلوق في قوله تعالى ﴿ هذا خلق الله ﴾ ١ والمعنى حتى جاءهم العلم بأنه هو بمطابقة صفاته بما ذكرت في التوراة وظهور معجزاته فحينئذ اختلفوا فآمنت طائفة منهم وكفرت عنادا وحسدا ﴿ إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ﴾ فيميز المحق عن المبطل بالإنجاء والإهلاك
١ سورة لقمان الآية: ١١.
﴿ فإن كنت ﴾ أيها الإنسان ﴿ في شك مما أنزلنا إليك ﴾ من القرآن والهدى على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ﴾ قال : ابن عباس ومجاهد والضحاك : يعني من آمن من أهل الكتب كعبد الله بن سلام وأصحابه يشهدون لك انه موعود في التوراة والإنجيل مطابق في قصصه وأصول أحكامه بالكتب المتقدمة فهذا خطاب مع أهل الشك من الناس، وكأن الناس في عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مصدق ومكذب وشاك، وفيه تنبيه على أنه من خالجه شبهة في الدين ينبغي أن يتسارع إلى حلها بالرجوع إلى الصالحين من أهل العلم، وقيل : هذا خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفرض والتقدير أو لزيادة تثبيته، يدل عليه ما اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة : بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قال : لا أشك ولا أسأل، وقيل : خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره على عادة العرب فإنهم قد يخاطبون الرجل ويريدون به غيره كقوله تعالى ﴿ يا أيها النبي اتق الله ﴾١ خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به المؤمنون بدليل قوله تعالى ﴿ إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ ٢حيث لم يقل بما تعمل وقوله تعالى ﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾٣ وقال الفراء علم الله سبحانه أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاك لكنه ذكره على عادة العرب يقول أحدهم لعبده إن كنت عبدنا فأطعني ويقول لولده عن كنت ولدي فأفعل كذا ولا يكون ذلك على وجه الشك ﴿ لقد جاءك الحق ﴾ يعني ما أنزلنا إليك أمر ثابت متحقق﴿ من ربك ﴾ ثبت ذلك عندك بالآيات الواضحة والبراهين القاطعة بحيث لا مدخل للمرية فيه ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.
١ سورة الأحزاب، الآية: ١..
٢ سورة الأحزاب، الآية ١..
٣ سورة الطلاق، الآية ١..
﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ﴾الخطاب في هذا كالخطاب في ما سبق إما للشاكين من الناس أو للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره أو للرسول على سبيل الفرض، أو الغرض منه التثبيت وقطع الأطماع عنه كقوله :﴿ فلا تكونن ظهيرا للكافرين ﴾ ١.
١ سورة القصص، الآية ٨٦..
﴿ إن الذين حقت ﴾ أي وجبت ﴿ عليهم كلمت ربك ﴾ يعني قوله حين أخذ الميثاق أن هؤلاء للنار، روى مالك والترمذي وأبو داود عن مسلم بن يسار قال :" سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية ﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ﴾ الآية قال : عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال :" إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فأخرج من ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " ١الحديث وروى احمد عن أبي نصرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله عز وجل قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى وقال : هذه لهذه يعني للجنة وهذه لهذه يعني للنار ولا أبالي " ﴿ لا يؤمنون ﴾ إذ لا نقص لقضاء الله تعالى.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة العراف (٣٠٧٥).
وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في القدر (٤٦٩١).

﴿ ولو جاءتهم كل آية ﴾ دالة على الصدق موجبة للإيمان فإن السبب الأصلي لإيمانهم إنما هو تعلق إرادة الله تعالى به ولم يوجد، وجملة لو جاءتهم مع معطوفة عليها مقدرة في محل الحال من فاعل لا يؤمنون، تقديره لا يؤمنون لو لم يجئهم ولو جاءتهم كل آية يعني لا يؤمنون في حال من الأحوال حذف ما حذف لدلالة المذكور عليه ﴿ حتى يروا العذاب الأليم ﴾ في القبر أو في النار أو حالة الغرغرة وحينئذ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع إيمان فرعون حال الغرغرة
﴿ فلولا ﴾ أي فهلا ﴿ كانت قرية ﴾ أي أهل قرية من القرى التي أهلكناها ﴿ آمنت ﴾ قبل معاينة العذاب ولم يؤخر إلى حالة الغرغرة كما أخر فرعون ﴿ فنفعها إيمانها ﴾ أي قبلها الله منها، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ١رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي، وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب " قالوا : يا رسول الله ما الحجاب ؟ قال :" أن تموت النفس وهي مشركة " رواه أحمد والبيهقي في كتاب البعث والنشور ﴿ إلا قوم يونس ﴾ استثناء منقطع يعني قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم، وجاز أن تكون الجملة في معنى لتضمن حرف التحضيض معناه فيكون الاستثناء متصلا والمعنى ما آمن احد من أهل قرية عاصية قبل معاينة العذاب الأخروي حالة الغرغرة إلا قوم يونس فإنهم آمنوا قبل حالة الغرغرة وقبل رؤية العذاب الأخروي ﴿ لما آمنوا ﴾ في حالة الاختيار قبلنا منهم الإيمان، أخرج بن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : لما آمنوا ودعوا ﴿ كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم ﴾ في الدنيا ﴿ إلى حين ﴾ أي وقت معين معلوم عند الله وهو وقت آجالهم، وقال البغوي تأويل هذه الآية إنه لم يكن قرية آمنت عند معاينة العذاب فنفعها إيمانها في حال البأس إلا قوم يونس، فإنهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، ثم قال : واختلفوا في أنهم هل رأوا العذاب عيانا أولا ؟ فقال : بعضهم رأوا دليل العذاب والأكثرون على أنهم رأوا العذاب عيانا بدليل قوله تعالى :﴿ كشفنا عنهم الخزي ﴾ والكشف يكون بعد الوقوع، وكلام البغوي هذا يفيد أن الإيمان في حالة العذاب الدنيوي لا يقبل ولم يقبل إلا قوم يونس وتسمى تلك الحالة حال البأس والصحيح أن المراد برؤية العذاب الأليم المانع من قبول الإيمان رؤية العذاب الأخروي عند حضور الموت حين لا يرى ملائكة الموت، ألا ترى أن الكفار عذبوا يوم بدر بالعذاب الدنيوي من القتل والأسر وغير ذلك ثم آمن بعض من بقي حيا وكذا حال قوم يونس أنهم آمنوا قبل رؤية العذاب الأخروي فقبل الله تعالى إيمانهم بعدما رأوا العذاب في الدنيا، ثم لما آمنوا كشف الله عنهم الخزي في الحياة الدنيا وأما إيمان فرعون فلم يقبل إما لكونه عند الغرغرة وغما لعدم خلوصه إلى قلبه بسبب دعاء موسى ﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ وقد كان من عادة فرعون وقومه إنهم كلما وقع عليهم الجز ﴿ قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ﴾٢ وكان كلما كشف الله ﴿ عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذ هم ينكثون ﴾ ٣ فلعله آمن فرعون حينئذ أيضا بلسانه دون قلبه فلم يقبل منه، وقد ذكرنا مسألة قبول التوبة قبل حالة الغرغرة في سورة النساء في قوله تعالى ﴿ إنما التوبة على الذين يعملون السوء بجهالة ﴾ ٤ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت } ٥الآية.
قصة يونس عليه السلام
على ما ذكره البغوي عن ابن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى لهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان فأبوا فقيل له أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فأخبرهم بذلك، فقالوا إنا لم نجرب عليه كذبا، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلما كان جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل، وقال وهب غامت السماء غيما أسود هائلا، يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، ولبسوا المسموح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحن بعضها إلى بعض وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم وعجوا أو تضرعوا إلى الله وقالوا آمنا بما جاء به يونس، فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعدما أظلمهم وذلك يوم عاشوراء، واخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فذكر نحوه، وفيه فلما عرف الله الصدق في قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى كشف الله عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم ولم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل، وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال : تيب على قوم يونس يوم عاشوراء وكان يونس قد خرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم يكن له بينه قتل فقال : يونس كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم ؟ فانطلق عاتبا على ربه مغاضبا لقومه، فأتى البحر فإذا قوم يركبون سفينة فعرفوه بغير اجر فلما دخلها وتوسطت بهم ولججت وقفت السفينة لا ترجع ولا تتقدم فقال : أهل السفينة إن لسفينتنا لشأنا قال يونس : قد عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة قالوا : ومن هو ؟ قال أنا إقذفوني في البحر قالوا : ما كنا لنطرحك من بيننا حتى نعذر في شأنك، فاستهموا فأقرعوا ثلاث مرات فأدحض سهمه، والحوت عند رجل السفينة فعرفه ينتظر أمر ربه فيه، فقال : يونس إنكم والله لتهلكن جميعا أو لتطرحوني فيه، فقذفوه فيه فانطلقوا وأخذت الحوت. وروي أن الله تعالى أوحى إلى حوت عظيم حتى قصد السفينة فلما رآه أهل السفينة مثل الجبل العظيم وقد رآه ينظر إلى في السفينة كأنه يطلب شيئا خافوا فلما رآه يونس زخ نفسه في الماء. وعن ابن عباس انه خرج مغاضبا لقومه فأتى بحر الروح فإذا سفينة مشحونة فركبها، فلما لججت السفينة تكافت حتى كادوا أن يغرقوا، فقال : الملاحون ههنا رجل عاص أو عبد آبق وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر، ولأن يغرق واحد خير من ان تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس، فقام يونس وقال أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في الماء، فابتلعه الحوت ثم جاء حوت آخر أكبر منه وابتلع هذا الحوت وأوحى الله إلى الحوت لا تؤذي منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم نجعله طعاما لك، وروي عن ابن عباس قال : نودي الحوت إنا لم نجعل يونس لك قوتا وإنما جعلنا بطنك له حرزا ومسجدا، وروي أن قام قبل القرعة قال : أنا العبد العاصي الآبق، قالوا من أنت ؟ قال يونس بن متى، فعرفوا فقالوا لا نلقيك يا رسول الله ولكن نساهم، فخرجت القرعة عليه فألقى نفسه في الماء، قال : ابن مسعود ابتلعه الحوت فأهوى به إلى قرار الأرض السابعة وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى ﴿ فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾٦، فأجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر كالفرخ الممعط، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وهو الدباء فجعل يستظل تحتها ووكل الله به وعلة يشرب من لبنا فيبست الشجرة فبكى عليها، فأوحى الله تعالى إليه تبكي على شجرة يبست ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون وأردت أن أهلكهم، ، فخرج يونس وهو بغلام يرعى فقال : من أنت يا غلام ؟ قال : من قوم يونس، قال : إذا رجعت إليهم فأخبرهم أني لقيت يونس، فقال الغلام قد تعلم أنه لم يكن بينة قتلت قال : يونس تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، فقال : له الغلام فمرهما قال : يونس إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا نعم، فرجع الغلام فقال للملك إني لقيت يونس فأمر الملك بقتله فقال : إن لي بينة فأرسلوا معي فأتى البقعة والشجرة فقال : أنشدكما بالله هل أشهد كما يونس ؟ قالتا نعم فرجع القوم مذعورين وقالوا للملك شهد له الشجرة والأرض فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه وقال : أنت أحق بهذا المكان مني فأقام لهم أمرهم ذلك أربعين سنة.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات.
وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد باب: ذكر التوبة (٤٢٥٣).

٢ سورة الأعراف، الآية ١٣٤.
٣ سورة الأعراف، الآية: ١٣٥..
٤ سورة النساء، الآية: ١٧.
٥ سورة النساء، الآية ١٨.
٦ سورة الأنبياء، الآية ٨٧.
﴿ ولو شاء ربك ﴾يا محمد أن يؤمن من في الأرض كلهم ﴿ لآمن من في الأرض كلهم ﴾ بحيث لا يشذ عنهم أحد ﴿ جميعا ﴾ مجتمعين على الإيمان غير مختلفين فيه وفيه رد لمذهب القدرية الذين قالوا : أن الله سبحانه يشاء إيمان جميع الناس كلهم لا يؤمنون باختيارهم، فإنها تدل أنه لو يشأ إيمانهم وإن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة لاستحالة تخلف مشية الله عما شاء والتقييد بمشيئته الإلجاء خلاف الظاهر ﴿ أفأنت ﴾ يا محمد ﴿ تكره الناس ﴾ يعني الكفار ﴿ حتى يكونوا مؤمنين ﴾ ولم يشأ الله ذلك منهم ترتب الإكراه على عدم المشيئة بالفاء وإدخال حرف الاستفهام للإنكار وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على ان ما لم يشأ الله مستحيل وجوده لا يمكن تحصيله بالإكراه فضلا عن الحث والتحريض عليه، وذلك انه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يؤمن جميع الناس فأخبره الله تعالى بأن لا يؤمن من منهم إلا من سبق علم الله فيه بالسعادة دون من سبق عليه بالشقاوة فلا تهتم في ذلك فالآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم
﴿ وما كان لنفس أن تؤمن ﴾بالله تعالى ﴿ إلا بإذن الله ﴾ يعني إلا بإرادته وتوفيقه ﴿ ويجعل ﴾ قال أبو بكر بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة أن يجعل الله ﴿ الرجس ﴾ أي العذاب أو الخذلان فإنه سببه ﴿ على الذين لا يعقلون ﴾الحق من الباطل يعني الكافر لما على قلوبهم من الطبع ولعدم تعلق مسية الله بتعقلهم
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ انظروا ﴾ أيها الناس وتفكروا ﴿ ماذا في السموات والأرض ﴾ من عجائب الممكنات كالشمس والقمر والنجوم وحركتها المنتسقة والجبال والأنهار والأشجار والمواليد والدالات على وجود صانع قديم عليم متوحد بجلال ذاته وكمال صفاته، وكلمة ماذا إن جعلت استفهامية علقت انظروا على العمد ﴿ وما تغني ﴾ ما نافية أو استفهامية للإنكار في موضع النصب يعني لا يفيد ﴿ الآيات ﴾ الموجبة للعلم واليقين ﴿ والنذور ﴾ جمع نذير يعني الرسل وغيرهم كالشيب وموت الأقران ﴿ عن قوم لا يؤمنون ﴾ في علم الله وحكمه فإن الإيمان أمر وهبي
﴿ فهل ينتظرون ﴾ أي مشركو مكة ﴿ إلا مثل أيام ﴾ أي مثل وقائع ﴿ الذين خلوا ﴾ مضوا ﴿ من قبلهم ﴾ من كفار الأمم السابقة قال : قتادة يعني وقائع الله تعالى في قوم نوح وعاد وثمود، والعرب يسمى العذاب أياما، والنعم أيضا أياما قال : الله تعالى :﴿ وذكرهم بأيام الله ﴾ ١ فكلما مضى عليك من خيرا وشر فهم أيام ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ فانتظروا ﴾ يا أهل مكة هلاكي ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ هلاككم
١ سورة إبراهيم، الآية: ٥.
﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ﴾ عطف على محذوف دل عليه قوله إلا مثل أيام الذين خلو كأنه قيل نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن معهم على حكاية الحال الماضية ﴿ كذلك ﴾ يعني كما ننجي رسلنا من الأمم السابقة كذلك ﴿ حقا علينا ننج المؤمنين ﴾أي إنجاء مثل ذلك الإنجاء ننجي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين يهلك المشركون وحقا علينا اعتراض يعني وجب علينا وجوبا قرأ حفص والكسائي ننج مخففا من الأفعال والباقون مشددا من التفعيل.
﴿ قل يا أيها الناس ﴾ خطاب لأهل مكة ﴿ إن كنتم في شك من ديني ﴾ من صحته فإنهم كانوا في استبعاد من أمر النبوة وكانوا إذا رأوا الآيات اضطروا إلى الإيمان فكانوا في شك وتردد لشقاوتهم الجبلية ﴿ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ﴾ من الحجارة المنحوتة بأيديكم ﴿ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ﴾ يعني الذي يحييكم و يميتكم ويخلق ما يشاء ويختار، وإنما التوفي بالذكر للتهديد، جملة فلا اعبد إلى آخره وضع موضع الجزاء إقامة للسبب مقام المسبب تقديره إن كنتم في شك من ديني فأزيلوا ذلك بالتأمل والتفكر في ديني وهو لا أعبد الحجارة المخلوقة التي لا تضر ولا تنفع وأعبد الله الخالق القادر النافع الضار ﴿ وأمرت أن أكون ﴾ أي بأن أكون ﴿ من المؤمنين ﴾بما دل عليه العقل وثبت بالنقل من الكتب السماوية
﴿ وأن أقم وجهك ﴾ عطف على ان أكون ذكر الصلة في المعطوف عليه المضارع وفي المعطوف بصيغة الأمر لعدم الفرق بينهما إذ المقصود وصلها بما يتضمنه من المعنى المصدرية وصيغ الأفعال كلها لذلك سواء، والمعنى أمرت بكوني على الإيمان والاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو في الصلاة باستقبال القبلة ﴿ للدين حنيفا ﴾ حال من الدين أو الوجه ﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾عطف على أقم يعني أمرت بأن لا تكونن من المشركين ومعناه نهيت عن كوني على الشرك.
﴿ ولا تدع ﴾ عطف تفسيري على قوله ﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ يعني لا تعبد ﴿ من دون الله ما لا ينفعك ﴾ إن دعوته ﴿ ولا يضرك ﴾ إن خذلته ولا شك أن من تفكر ونظر بعين الإنصاف في هذا الدين المؤيد بالعقل والنقل حصل له اليقين بصحة الدين وزال عنه الشك عن شاء الله تعالى ﴿ فإن فعلت ﴾ عبادة ما لا ينفعك ولا يضرك ﴿ فإنك من الظالمين ﴾ حيث وضعت العبادة في غير موضعه جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر عن تبعة عبادة غير الله.
﴿ وإن يمسسك الله ﴾ أي يصيبك ﴿ بضر ﴾ أي بمرض أو شدة أو بلاء ﴿ فلا كاشف له ﴾أي لا دافع له أحد ﴿ إلا هو وإن يردك ﴾ الله ﴿ بخير ﴾ من خيرات الدنيا والآخرة ﴿ فلا راد ﴾ أي لا دافع ﴿ لفضله ﴾ أحد لعله ذكر الإرادة مع الخير مع الضر مع تلازم الأمرين للتنبيه على ان الخير مراد بالذات والضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريدهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه، ولم يستثن لأن مراد الله لا يمكن رده ﴿ يصيب به ﴾ أي بكل واحد من الخير والشر ﴿ من يشاء من عباده ﴾ فتتعرضوا الرحمة بالطاعة ولا تتكلوا عليها ولا تيئسوا من غفرانه بالمعصية ولكن خافوا عذابه، روى أبو نعيم عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل قل لأهل طاعتي من أمتك أن يتكلوا على أعمالهم إني لا أناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته وقل لأهل معصيتي من أمتك لا تلقوا بأيديكم فإني أغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي " قطع الله سبحانه بهذه الآية طريق الرغبة والرهبة إلا إليه ﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ سبقت رحمته على غضبه.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ يا أيها الناس ﴾ يا أهل مكة﴿ قد جاءكم ﴾ العلم ﴿ الحق ﴾ الثابت المطابق للواقع يعني العلم بالتوحيد والصفات وأحوال المبدأ والمعاد وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ من ربكم ﴾ ولم يبق لكم عذر بالجهل، أو المراد بالحق ما ظهر تحققه وصدقه بالإعجاز يعني القرآن أو الرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لكم عذر ﴿ فمن اهتدى ﴾ بإذعان ذلك العلم والسلوك على مقتضاه وبقبول القرآن ومتابعة الرسول ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾فإن نفعه عائد إليها ﴿ ومن ضل ﴾ عن طريق الحق بالإنكار والعناد ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ لأن وباله عائد عليها ﴿ وما أنا عليكم بوكيل ﴾ بحفيظ موكول إلي أمركم حتى أؤاخذ بضلالكم
﴿ واتبع ﴾ يا محمد ﴿ ما يوحى إليك ﴾ بامتثال الأوامر وترك المناهي﴿ واصبر ﴾ على الطاعة وتحمل أذيتهم ﴿ حتى يحكم الله ﴾ بقتال الكفار وضرب الجزية عليهم ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر.
تم بعون الله تفسير سورة يونس
Icon