تفسير سورة الفرقان

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ﴿ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾، وهو هذا القرآن العظيم ﴿ عَلَى عَبْدِهِ ﴾، وهو محمّد صلى الله عليه وسلم ؛ لأجل أن يكون ﴿ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾، أي : منذرًا، وقد قدّمنا مرارًا أن الإنذار هو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف، وأن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا، كما أوضحناه في أول سورة «الأعراف ».
وهذه الآية الكريمة تدلّ على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للأسود والأحمر والجنّ والإنس، لدخول الجميع في قوله تعالى :﴿ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]، أي : أرسلناك للناس كافّة، أي : جميعًا. وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَىُّ شَيء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا القرآن لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَىّ آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ٣٣-٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُواْ يأَبَانَا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * مُّسْتَقِيمٍ * يا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرْضَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٩-٣٢ ] الآية. وفي معنى قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ ﴾ أقوال لأهل العلم، قال القرطبي :﴿ تَبَارَكَ ﴾ اختلف في معناه، فقال الفراء : هو في العربية بمعنى : تقدّس وهما للعظمة، وقال الزجاج :﴿ تَبَارَكَ ﴾ : تفاعل من البركة. قال : ومعنى البركة : الكثرة من كل ذي خير، وقيل :﴿ تَبَارَكَ ﴾ : تعالى، وقيل : تعالى عطاؤه، أي : زاد وكثر. وقيل المعنى :
دام وثبت إنعامه. قال النحاس : وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي : دام وثبت، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال أبو حيان في «البحر المحيط » : قال ابن عباس :﴿ تَبَارَكَ ﴾ : لم يزل، ولا يزول. وقال الخليل : تمجد. وقال الضحاك : تعظّم. وحكى الأصمعي : تباركت عليكم من قول عربي صعد رابية، فقال ذلك لأصحابه، أي : تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات. وقال ابن عباس أيضًا، والحسن، والنخعي : هو من البركة، وهو التزايد في الخير من قبله. فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل، انتهى محل الغرض من كلام أبي حيان.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : الأظهر في معنى ﴿ تَبَارَكَ ﴾ بحسب اللغة التي نزل بها القرآن أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى ﴿ تَبَارَكَ ﴾ : تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وذلك يستلزم عظمته وتقدّسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ؛ لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات ويدرّ الأرزاق على الناس هو وحده المتفرّد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير، ولا رزق كالأصنام، وسائر المعبودات من دون اللَّه لا يصحّ أن يعبد، وعبادته كفر مخلّد في نار جهنّم، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [ النحل : ٧٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ [ الأنعام : ١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ الذاريات : ٥٧-٥٨ ]، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السَّمَاء رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [ غافر : ١٣-١٤ ] الآية.
تنبيه
اعلم أن قوله :﴿ تَبَارَكَ ﴾ فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع، ولا مصدر، ولا اسم فاعل، ولا غير ذلك، وهو مما يختصّ به اللَّه تعالى، فلا يقال لغيره تبارك خلافًا لما تقدّم عن الأصمعي، وإسناده ﴿ تَبَارَكَ ﴾ إلى قوله :﴿ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ﴾، يدلّ على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه، كما أوضحناه في أول سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ] الآية، وذكرنا الآيات الدالّة على ذلك، وإطلاق العرب ﴿ تَبَارَكَ ﴾ مسندًا إلى اللَّه تعالى معروف في كلامهم، ومنه قول الطرماح :
تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا ربّ مانع
وقول الآخر :
فليست عشيّات الحمى برواجع لنا أبدًا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
وقد قدّمنا الشاهد الأخير في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ]، وقوله :﴿ الْفُرْقَانَ ﴾، يعني : هذا القرآن العظيم، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان، وهذا المصدر أُريد به اسم الفاعل ؛ لأن معنى كونه فرقانًا أنه فارق بين الحقّ والباطل، وبين الرشد والغي، وقال بعض أهل العلم : المصدر الذي هو ﴿ الْفُرْقَانَ ﴾ بمعنى اسم المفعول ؛ لأنه نزل مفرّقًا، ولم ينزل جملة.
واستدلّ أهل هذا القول بقوله تعالى :﴿ وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً واحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ]، وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ نَزَّلَ ﴾ بالتضعيف يدلّ على كثرة نزوله أنجمًا منجمًا. قال بعض أهل العلم : ويدلّ على ذلك قوله في أول سورة «آل عمران » :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ﴾ [ آل عمران : ٣ ] الآية. قالوا : عبّر في نزول القرآن ب :﴿ نَزَّلَ ﴾ بالتضعيف لكثرة نزوله. وأمّا التوراة والإنجيل، فقد عبّر في نزولهما ب :﴿ أَنَزلَ ﴾ التي لا تدلّ على تكثير ؛ لأنهما نزلا جملة في وقت واحد، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرآن ؛ كقوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ] الآية، وقوله في هذه الآية :﴿ عَلَى عَبْدِهِ ﴾، قال فيه بعض العلماء : ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان، يدلّ على أن العبودية للَّه هي أشرف الصفات، وقد بيّنا ذلك في أوّل سورة «بني إسرائيل ».
قوله تعالى :﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾.
قوله :﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾، بدل من الَّذي في قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ ﴾، وقال بعضهم : هو مرفوع على المدح، وقال بعضهم : هو منصوب على المدح. وقد أثنى -جلَّ وعلا- على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور، هي أدلَّة قاطعة على عظمته، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له :
الأول : منها أنه هو الذي له ملك السماوات والأرض.
والثاني : أنه لم يتّخذ ولدًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.
والثالث : أنه لا شريك له في ملكه.
والرابع : أنه هو خالق لك شيء.
والخامس : أنه قدّر كل شيء خلقه تقديرًا، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أُخر.
أمّا الأوّل منها : وهو أنه له ملك السماوات والأرض، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى في سورة «المائدة » :﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ [ المائدة : ٤٠ ] الآية، وقوله تعالى في سورة «النور » :﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [ النور : ٤٢ ]، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ [ فاطر : ١٣ ] الآية، وجميع الآيات التي ذكر فيها جلَّ وعلا أن له الملك، فالملك فيها شامل لملك السماوات والأرض وما بينهما وغير ذلك. كقوله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [ الملك : ١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّوَرِ ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ﴾ [ الفاتحة : ٤ ]، والآيات الدالّة على أن له ملك كل شيء كثيرة جدًا معلومة.
وأمّا الأمر الثاني : وهو كونه تعالى لم يتّخذ ولدًا، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : ٣-٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ﴾ [ الجن : ٣ ]، وقوله تعالى :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [ الأنعام : ١٠١ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ﴾ [ الكهف : ٤-٥ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ [ الإسراء : ٤٠ ]، وقوله تعالى :﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ﴾، إلى قوله :﴿ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩١ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة، وقد قدّمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة «الكهف » وغيرها.
وأمّا الأمر الثالث : وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك، فقد جاء موضحًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى في آخر سورة «بني إسرائيل » :﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ في الْمُلْكِ ﴾ [ الإسراء : ١١١ ] الآية، وقوله تعالى في سورة «سبأ » :﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ ﴾ [ سبأ : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ] ؛ لأن قوله :﴿ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ يدلّ على تفرّده بالملك، والقهر، واستحقاق إخلاص العبادة، كما لا يخفى، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الأمر الرابع : وهو أنه تعالى خلق كل شيء، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيء وهُوَ بِكُلّ شَيء عَلِيمٌ * ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيء فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيء وَكِيلٌ ﴾ [ الأنعام : ١٠١-١٠٢ ]، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلّ شَيء لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [ غافر : ٦٢-٦٣ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الأمر الخامس : وهو أنه قدَّر كل شيء خلقه تقديرًا، فقد جاء أيضًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [ الأعلى : ٢-٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكُلُّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [ الرعد : ٨ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّا كُلَّ شَيء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [ القمر : ٤٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات. وقال ابن عطيّة : تقدير الأشياء هو حدّها بالأمكنة، والأزمان، والمقادير، والمصلحة، والإتقان. انتهى بواسطة نقل أبي حيّان في «البحر ».
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال : الخلق في اللغة العربية، معناه التقدير. ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
قال بعضهم : ومنه قوله تعالى :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ]، قال : أي أحسن المقدّرين، وعلى هذا فيكون معنى الآية ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيء ﴾، أي : قدّر كل شيء فقدّره تقديرًا، وهذا تكرار كما ترى، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال، وذكر أبو حيان جوابه في «البحر »، ولم يتعقّبه.
والجواب المذكور هو قوله : فإن قلت في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾، كأنه قال : وقدّر كل شيء فقدّره.
قلت : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثًا مراعي فيه التقدير والتسوية فقدّره وهيّأه لما يصلح له.
مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المسوى، الذي تراه فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر ما ومصلحة مطابقًا لما قدّر له غير متجافٍ عنه، أو سمى إحداث اللَّه خلقًا ؛ لأنه لا يحدث شيئًا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت، فإذا قيل : خلق اللَّه كذا، فهو بمنزلة قولك : أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنّه قيل : وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتًا. وقيل : فجعل له غاية ومنتهى، ومعناه : فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم، انتهى كلام صاحب «الكشاف » وبعضه له اتّجاه، والعلم عند اللَّه تعالى.
﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواةً وَلاَ نُشُوراً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه، متّصفة بستّة أشياء كل واحد منها برهان قاطع، أن عبادتها مع اللَّه، لا وجه لها بحال، بل هي ظلم متناه، وجهل عظيم، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جلّ وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة، على أن المتّصف بها هو المعبود وحده، والأمور الستّة التي هي من صفات المعبودات من دون اللَّه :
الأول منها : أنها لا تخلق شيئًا، أي : لا تقدر على خلق شيء.
والثاني منها : أنها مخلوقة كلّها، أي : خلقها خالق كل شيء.
والثالث : أنها لا تملك لأنفسها ضرًّا ولا نفعًا.
الرابع والخامس والسادس : أنها لا تملك موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا، أي : بعثًا بعد الموت، وهذه الأمور الستّة المذكورة في هذه الآية الكريمة، جاءت مبيّنة في مواضع أُخر من كتاب اللَّه تعالى.
أمّا الأول منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دون اللَّه لا تخلق شيئًا، فقد جاء مبيّنًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [ النحل : ٢٠-٢١ ]، وقوله تعالى في سورة «فاطر » :﴿ قُلْ أَرَأيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ قُلْ أَرَأيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴾ [ فاطر : ٤٠ ]، وقوله تعالى في سورة «لقمان » :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ لقمان : ١١ ]، وقوله تعالى في «الأحقاف » :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٤ ]، وقوله تعالى :﴿ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً ﴾ [ الكهف : ٥١ ]، وقد بيّن تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق، ومن لا يخلق ؛ لأن من يخلق هو المعبود، ومن لا يخلق لا تصح عبادته ؛ كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] الآية، أي : وأما من لم يخلقكم، فليس بربّ، ولا بمعبود لكم، كما لا يخفى. وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَيء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ]، أي : ومن كان كذلك، فهو المعبود وحده جلّ وعلا، وقوله تعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ].
وأمّا الأمر الثاني منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة، فقد جاء مبيّنًا في آيات من كتاب اللَّه ؛ كآية «النحل »، و «الأعراف »، المذكورتين آنفًا.
أمّا آية «النحل »، فهي قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ النحل : ٢٠ ]، فقوله :﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ صريح في ذلك. وأمّا آية «الأعراف »، فهي قوله تعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الأمر الثالث منها : وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فقد جاء مبيّنًا في مواضع من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا ﴾ [ الرعد : ١٦ ]، وكقوله تعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩١-١٩٢ ]، ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرًّا ولا نفعًا. وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ألَهُمْ أرْجُلٌ يَمْشونَ بهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٩٣-١٩٥ ] الآية.
وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئًا، وقوله تعالى :﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وأمّا الرابع والخامس والسادس، من الأمور المذكورة : أعني كونهم لا يملكون موتًا، ولا حياة، ولا نشورًا. فقد جاءت أيضًا مبيّنة في آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٤٠ ].
فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، يدلّ دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئًا من ذلك المذكور في الآية، ومنه الحياة المعبّر عنها ب :﴿ خَلَقَكُمْ ﴾، والموت المعبّر عنه بقوله :﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾، والنشور المعبّر بقوله :﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾، وبيَّن أنهم لا يملكون نشورًا بقوله :﴿ أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢١ ]، وبيّن أنهم لا يملكون حياة لا نشورًا، في قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [ يونس : ٣٤ ] الآية. وبيَّن أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَن يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا ﴾ [ المنافقون : ١١ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ ﴾ [ نوح : ٤ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [ غافر : ١١ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدّين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾، أظهر الأقوال فيه أن المعنى لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع ؛ كما قاله القرطبي وغيره. وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دلّ المقام عليه، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، وقد أشار إليه في «الخلاصة » بقوله :
وما يلي المضاف يأتي خلفًا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وقيل المعنى : لا يقدرون أن يضرّوا أنفسهم، أو ينفعوها بشيء، والأول هو الأظهر، أي : وإذا عجزوا عن دفع ضرّ عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز ؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلاّ اللَّه جلَّ وعلا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلاَ نُشُوراً ﴾، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين :
الأول : أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدّي، تقول : نشر اللَّه الميت ينشره نشرًا ونشورًا.
والثاني : أن يكون مصدر نشر الميّت ينشر نشورًا لازمًا، والميت فاعل نشر.
والحاصل أن في المادة ثلاث لغات، الأولى : أنشره رباعيًّا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارًا، ومنه قوله تعالى :﴿ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ﴾ [ عبس : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ]، بضمّ النون وبالراء المهملة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وهو مضارع أنشره. والثانية نشر اللَّه الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدّي، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور، ومنه قوله هنا :﴿ حَيَواةً وَلاَ نُشُوراً ﴾ : أي لا يملكون أن ينشروا أحدًا، بفتح الياء وضمّ الشين. والثالثة : نشر الميّت بصيغة الثلاثي اللازم، ومعنى أنشره، ونشره متعدّيًا أحياه بعد الموت، ومعنى نشر الميّت لازمًا حيى الميت وعاش بعد موته، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب، ومن إطلاقهم نشر الميّت لازمًا فهو ناشر، أي : عاش بعد الموت، قول الأعشى :
لو أسندت ميّتًا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبًا للميّت الناشر
ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت، مصدر الثلاثي المتعدّي، قوله هنا :﴿ وَلاَ نُشُوراً ﴾، أي : بعثًا بعد الموت، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم، قول الآخر :
إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير
فيأخذني العناق مبرد فيها بموت في عظامي أو فتور
فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور
فقد جعل الغيبوبة من شدّة اللذّة موتًا، والإفاقة منها نشورًا، أي : حياة بعد الموت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾، حذف فيه أحد المفعولين، أي : اتّخذوا من دونه أصنامًا آلهة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أأتخذ أصناما آلهة ﴾ [ الأنعام : ٧٤ ] الآية. والآلهة جمع إله
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذّبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا في هذا القرآن العظيم، الذي أوحاه اللَّه إليه :﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ ﴾، أي : ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمّد صلى الله عليه وسلم، وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون، قيل : اليهود، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي، وأبو فكيهة الرومي، قال ذلك النضر بن الحر العبدري.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفّار كذّبوه وادّعوا عليه أن القرآن كذب اختلقه، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبيّنًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ ص : ٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ١٠١ ]، وقوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ [ ق : ٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ [ الأنعام : ٦٦ ] الآية، والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه أعانه على افتراء القرآن قوم آخرون جاء أيضًا موضحًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ]، وقوله تعالى :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤ ]، أي : يرويه محمّد صلى الله عليه وسلم عن غيره ﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٥ ]، كما تقدّم إيضاحه في «الأنعام »، وقد كذّبهم اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله :﴿ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً ﴾، قال الزمخشري : ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلامًا عربيًّا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه، انتهى. وتكذيبه جلَّ وعلا لهم في هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في مواضع أُخر من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ لّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ]، كما تقدّم إيضاحه في سورة «النحل »، وقوله :﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ﴾ [ الأنعام : ٦٦ ]، وقوله تعالى :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤-٢٧ ] الآية، لأن قوله :﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ بعد ذكر افترائه على القرآن العظيم يدلّ على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر، أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل.
واعلم : أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل، فقوله :﴿ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً ﴾، أي : فعلوه، وقيل : بتقدير الباء، أي : جاءوا بظلم، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ ﴾ [ آل عمران : ١٨٨ ] الآية، أي : بما فعلوه. وقول زهير بن أبي سلمى :
فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب، لأنه قلب للكلام عن الحقّ إلى الباطل، والعرب تقول : أفكه بمعنى قلبه، ومنه قوله تعالى في قوم لوط :﴿ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ ﴾ [ التوبة : ٧٠ ]، وقوله :﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴾ [ النجم : ٥٣ ]، وإنما قيل لها مؤتفكات ؛ لأن الملك أفكها، أي : قلبها ؛ كما أوضحه تعالى بقوله :﴿ جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ﴾ [ الحجر : ٧٤ ].
﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فهي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَاواتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفّار، قالوا : إن هذا القرآن ﴿ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾، أي : مما كتبه، وسطره الأوّلون كأحاديث رستم واسفنديار، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم جمعه، وأخذه من تلك الأساطير، وأنه اكتتب تلك الأساطير، قال الزمخشري : أي كتبها لنفسه وأخذها، كما تقول : استكب الماء واصطبّه إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه، وقوله :﴿ فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ ﴾، أي : تلقى إليه، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه، والهمزة مبدّلة من اللام تخفيفًا، والأصل في الإملاء الإملال باللام، ومنه قوله تعالى :﴿ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] الآية.
وقوله :﴿ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾، البكرة : أوّل النهار، والأصيل : آخره.
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية من أن الكفّار، قالوا : إن القرآن أساطير الأوّلين، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تعلمه من غيره، وكتبه جاء موضحًا في آيات متعدّدة ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الأنفال : ٣١ ].
وقد ذكرنا آنفًا الآيات الدالَّة على أنهم افتروا عليه أنه تعلّم القرآن من غيره، وأوضحنا تعنّتهم، وكذبهم في ذلك في سورة «النحل »، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى :﴿ لّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] الآية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ومن الآية الدالَّة على كذبهم في قوله :﴿ اكْتَتَبَهَا فهي تُمْلَى عَلَيْهِ ﴾، قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ]، وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمّىَّ ﴾، إلى قوله تعالى :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمّي ﴾ [ الأعراف : ١٥٧-١٥٨ ] الآية، والأُمّي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب.
وما ذكر جلَّ وعلا في الآية الأخيرة من قوله :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾ الآية، جاء أيضًا موضحًا في آيات أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ ﴾ [ النحل : ١٠٢ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٩٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ ﴾ [ الشعراء : ١٩٢-١٩٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالقرآن مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ وقوله تعالى :﴿ لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦-١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الحاقة : ٣٨-٤٣ ]، وقوله تعالى :﴿ تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى ﴾ [ طه : ٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا :﴿ الَّذِي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ ﴾، أي : ومن يعلم السر، فلا شكّ أنه يعلم الجهر.
ومن الآيات الدالَّة على ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، من كونه تعالى يعلم السرّ في السماوات والأرض، قوله تعالى :﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [ طه : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [ الملك : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [ التوبة : ٧٨ ]، وقوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٠ ]، وقوله تعالى :﴿ ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [ السجدة : ٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ في السَّمَاء وَالأرْضِ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ النمل : ٧٥ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾، قال فيه ابن كثير : هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة، وأن حلمه عظيم، وأن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم، وافترائهم، وفجورهم، وبهتانهم، وكفرهم، وعنادهم، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عمّا هم فيه إلى الإسلام والهدى ؛ كما قال تعالى :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ واحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٧٣-٧٤ ]، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [ البروج : ١٠ ].
قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة، انتهى كلام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى، وما ذكره واضح.
والآيات الدالَّة على مثله كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِنّي لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ﴾ [ طه : ٨٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
﴿ وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى في الأسْوَاقِ ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفّار قالوا في نبيّنا صلى الله عليه وسلم : ما لهذا الرسول الذي يدعي أنه رسول، وذلك كقول فرعون في موسى :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الشعراء : ٢٧ ]، أي : ما له يأكل الطعام كما نأكله، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء، ليحصل بذلك قوته يعنون أنه لو كان رسولاً من عند اللَّه، لكان ملكًا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام، ولا إلى المشي في الأسواق، وادّعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس، ويحتاج إلى المشي في الأسواق، لقضاء حاجته منها، لا يمكن أن يكون رسولاً، وأن اللَّه لا يرسل إلا ملكًا لا يحتاج للطعام، ولا للمشي في الأسواق، جاء موضحًا في آيات كثيرة، وجاء في آيات أيضًا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة.
فمن الآيات الدالَّة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية، قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ في الْحَيواةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٣-٣٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ]، وقوله تعالى عنهم :﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾ [ المؤمنون : ٤٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَبَشَراً مّنَّا واحِداً نَّتَّبِعُهُ ﴾ [ القمر : ٢٤ ] الآية، وقوله :﴿ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ﴾ [ التغابن : ٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ].
ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم، وأنهم من جملة البشر، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته، وأنه لو أرسل للبشر ملكاً لجعله رجلاً، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين، لنزل عليهم ملكاً رسولاً، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسْوَاقِ ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً ﴾ [ الرعد : ٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ]، أي ولم نجعلهم ملائكة، لأن كونهم رجالاً وكونهم من أهل القرى، صريح في أنهم ليسوا ملائكة، وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩ ]، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار : إنه بشر، وإنه رسول. وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٣ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولاَ يُشْرِك بعبَادَةِ ربّهِ أحَداً ﴾ [ الكهف : ١١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ [ فصلت : ٦ ] الآية. وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ قُل لَوْ كَانَ في الأرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٥ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَمْشِى في الأسْوَاقِ ﴾ جمع سوق وهي مؤنثة، وقد تذكر. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ [ ٧-٨ ].
اعلم أولاً أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق، والتحضيض. هو الطلب بحث، وشدة، وإليه أشار في الخلاصة بقوله :
وبهما التحضيض مزوهلا ألا ألا وأولينها الفعلا
وبه تعلم أن المضارع في قوله : فيكون معه نذيراً منصوب بأن مستترة وجوباً، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وبعد فاجواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب
ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض. قوله تعالى :﴿ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [ المنافقون : ١٠ ] لأن قوله : لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
لولا تعوجين يا سلمى على دنف فتخمدي نار وجد كاد يفنيه
فقوله تعالى في الآية الكريمة : فأصدق بالنصب، وقول الشاعر : فتخمدي منصوب أيضاً، بحذف النون، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض.
واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله :﴿ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ ﴾ إنما ساغ فيه الجزم، لأنه عطف على المحل لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
وبعد غير النفي جزماً اعتمد إن تسقط الفا والجزاء قد قصد
وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام، ليس بصحيح.
واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور :
الأول : أن ينزل إليه ملك، فيكون معه نذيراً أي يشهد له بالصدق، ويعينه على التبليغ.
الثاني : أن يلقي إليه كنز، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه، ويستغني به عن المشي في الأسواق.
الثالث : أن تكون له جنة يأكل منها، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير :
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا
فقوله : تسقى جنة أي بستاناً، وقوله : سحقا يعني أن نخله طوال.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث، تعنتاً منهم وعناداً، جاءت مبينة في غير هذا الموضع، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم، لنزول الكنز، ومجيء الملك معه، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إنّما أنتَ نذير ﴾ [ هود : ١٢ ]، وبين جلا وعلا في سورة بني إسرائيل إقتراحهم الجنة، وأوضح أنهم يعنون بها بستاناً من نخيل وعنب، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٩٠-٩١ ] واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٣ ] تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم.
وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار، وشدة تعنتهم وعنادهم، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً في قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأنعام : ٧ ] وقال تعالى :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ [ الحجر : ١٤-١٥ ] وقال تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾[ الأنعام : ١١١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم.
وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه : يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق كما نتردد. يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكاً إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضاً فقالوا إن لم يكن مرفوداً بذلك، فليكن مرفوداً بكنز يلقى إليه من السماء، يستظهر به، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان، فينتفعون به في دنياهم، ومعاشهم. انتهى منه، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم، وعنادهم. وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي بأكل منها بالمثناة التحتية، وقرأ حمزة والكسائي : جنة نأكل منها بالنون، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله : أو يأكلون هم من ذلك البستان.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ﴾ يعنون : أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره، وقال مجاهد : مسحوراً : أي مخدوعاً كقوله :﴿ فأنى تسحرون ﴾ [ المؤمنون : ٨٩ ] : أي من أين تخدعون، وقال بعضهم : مسحوراً : أي له سحر أي رثة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب، فهو بشر مثلكم، وليس بملك، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله : مسحوراً بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [ طه : ٦٩ ] ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه صلى الله عليه وسلم، من الإفك والبهتان خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾، وما
قاله الله لنبيه في ذلك، وهو
قوله :﴿ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ ﴾ الآية. جاء كله مصرحاً به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى :﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا*انظُر كَيْفَ ضَرَبوا الأَمثَالَ فضَلّوا فلاَ يَسْتطيعَونَ سَبيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٧-٤٨ ].
قال الزمخشري : ضربوا لك الأمثال قالوا : فيك تلك الأقوال، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة، من نبوة مشتركة بين إنسان وملك، وإلقاء كنز عليك من السماء، وغير ذلك، فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون قولاً يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق، فلا يجدون طريقاً إليه اه.
والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى : ضربوا لك الأمثال : أنها تارة يقولون إنك ساحر، وتارة مسحور، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وتارة كاهن، وتارة كذاب، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ ﴾[ الفرقان : ٤ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الفرقان : ٥ ] وقوله :﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ وقوله تعالى :﴿ فُضّلُواْ ﴾ أي عن طريق الحق، لأن الأقوال التي قالوها، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء، وكفر مخلد في نار جهنم، فالذين قالوها هم أضل الضالين، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ فيه أقوال كثيرة متقاربة.
وأظهرها أن معنى : فلا يستطيعون سبيلاً : أي طريقاً إلى الحق والصواب، ونفي الاستطاعة المذكور هنا كقوله تعالى :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هود : ٢٠ ] وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾ [ الكهف : ١٠١ ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى ﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هود : ٢٠ ] وقد قدمنا أيضاً معنى الظلم والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء، وأنه جل وعلا اعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة : أي أنكر يوم القيامة سعيراً : أي ناراً شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى. وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما تكذيبهم بالساعة، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث، والجزاء بعد الموت، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى :﴿ إِنَّ هَؤُلاَء لَيَقُولُونَ * إِنْ هي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٤-٣٥ ] وقوله تعالى :﴿ مَن يُحيِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً ومَا نحنُ بمستيقنين ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نَّاصِرِينَ ﴾ [ الجاثية : ٣٢-٣٤ ] فقوله :﴿ ومأواكم النار ﴾ بعد قوله :﴿ قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ] الآية، يدل على أن قولهم :﴿ ما ندري ما الساعة ﴾ هو سبب كون النار مأواهم، وقوله بعده ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً ﴾ [ الجاثية : ٣٥ ] لا ينافي ذلك لأن من اتخاذهم آيات الله هزواً تكذيبهم بالساعة، وإنكارهم البعث كما لا يخفى، وكقوله تعالى :﴿ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإذَا كُنَّا تُرَابًا أَإنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾ [ الرعد : ٥ ] فقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث، الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم ﴿ مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ جامع بين أمرين.
الأول منهما : أنه عجب من العجب لكثرة البراهين القطعية الواضحة الدالة على ما أنكروه.
والثاني منهما : وهو محل الشاهد من الآية أن إنكارهم البعث المذكور كفر مستوجب للنار وأغلالها والخلود فيها، وذلك في قوله تعالى مشيراً إلى الذين أنكروا البعث ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ﴾ [ الرعد : ٥ ] ومعلوم أن إنكار البعث إنكار للساعة، وكقوله تعالى :﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾ [ طه : ١٦ ] أي لا يصدنك من لا يؤمن بالساعة عن الإيمان بها، فتردى : أي تهلك لعدم إيمانك بها، والردى الهلاك، وهو هنا عذاب النار بسبب التكذيب بالساعة، وقد قال تعالى :﴿ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ [ الليل : ١١ ] وقوله تعالى في آية طه هذه :﴿ فترَدى ﴾، يدل دلالة واضحة على أنه إن صده من لا يؤمن بالساعة من التصديق بها، أن ذلك يكون سبباً لرداه أي هلاكه بعذاب النار كما لا يخفى، وكقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ في الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [ الروم : ١٦ ] فآية الروم هذه، تدل على أن الذين كذبوا بلقاء الآخرة وهم الذين كذبوا بالساعة معدودون مع الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وأنهم في العذاب محضرون. وهو عذاب النار. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ ﴾ أظهر الأقوال فيه عندي أنه متصل بما يليه، وأن بل فيه للإضراب الانتقالي، وقد أوضحنا معنى السعير مع بعض الشواهد العربية في أول سورة الحج، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيرا ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن النار يوم القيامة، إذا رأت الكفار من مكان بعيد : أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها، وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها، وسمعوا زفيرها.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها، وأنهم يسمعون لها أيضاً شهيقاً مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ﴾ [ الملك : ٧-٨ ] أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها، على من كفر بالله تعالى.
وللعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق، وأقربها أنهما يمثلهما معاً صوت الحمار في نهيقه، فأوله زفير، وآخره الذي يردده في صدره شهيق.
والأظهر أن معنى قوله تعالى :﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً ﴾ أي سمعوا غليانها من شدة غيظها، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه، وذلك أسلوب عربي معروف. وقال بعض أهل العلم :﴿ سمعوا لها تغيظاً ﴾ : أي أدركوه، والإدراك يشمل الرؤية والسمع، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك، وما ذكرنا أظهر.
وقال القرطبي : قيل المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم، ثم ذكر في آخر كلامه أن هذا القول هو الأصح.
مسألة
اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في قوله هنا :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ ورؤيتها إياهم من مكان بعيد، تدل على حدة بصرها كما لا يخفى، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله :﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ [ ق : ٣٠ ] والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، كحديث محاجة النار مع الجنة، وكحديث اشتكائها إلى ربها، فأذن لها في نفسين، ونحو ذلك، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية، أنها تراهم وأن لها تغيظاً على الكفار، وأنها تقول : هل من مزيد.
واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر، ولا تتكلم، ولا تغتاظ. وأن ذلك كله من قبيل المجاز، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند، والحق هو ما ذكرنا.
وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محله.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : " إن القول بأن النار تراهم هو الأصح، ثم قال لما روى مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً ». قيل يا رسول الله أو لها عينان ؟ قال : أو ما سمعتم الله عز وجل يقول :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيرا ﴾، يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول : وكلت بكل من جعل مع الله إلهاً آخر فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه » وفي رواية «يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم » ذكره رزين في كتابه، وصححه ابن العربي في قبسه، وقال : أي تفصلهم عن الخلق في المعرفة، كما يفصل الطائر حب السمسم عن التربة، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله آلهاً آخر وبالمصورين » وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح. انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطبراني، وابن مردويه من طريق مكحول، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعداً من بين عيني جهنم. قالوا يا رسول الله : وهل لجهنم من عين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد. فهل تراهم إلا بعينين » وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق خالد بن دريك، عن رجل من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً قيل : يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد ﴾ إلى آخر كلامه »، وفيه شدة هول النار، وأنها تزفر زفرة يخاف منها جميع الخلائق.
نرجو الله جل وعلا أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل.
قوله تعالى :﴿ وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار إذا ألقوا : أي طرحوا في مكان ضيق من النار، في حال كونهم مقرنين، دعوا هنالك : أي في ذلك المكان الضيق ثبوراً، فيقال لهم : لا تدعو ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً، فقوله : مكاناً منصوب على الظرف، كما قال أبو حيان في البحر المحيط.
وما ذكره هنا من أنهم يلقون في مكان ضيق من النار، جاء مذكوراً أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * في عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ﴾ [ الهمزة : ٨-٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ﴾ [ البلد : ١٩-٢٠ ] ومعنى مؤصدة في الموضعين بهمز، وبغير همز : مطبقة أبوابها، مغلقة عليهم كما أوضحناه بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ﴾ [ الكهف : ١٨ ] ومن كان في مكان مطبق مغلق عليه، فهو في مكان ضيق، والعياذ بالله، وقد ذكر أن الواحد منهم يجعل في محله من النار بشدة كما يدق الوتد في الحائط، وعن ابن مسعود :«أن جهنم تضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح ». والزج بالضم : الحديدة التي في أسفل الرمح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مقرنين ﴾ : أي في الأصفاد بدليل قوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٩ ] والأصفاد والقيود. والأظهر أن معنى مقرنين : أن الكفار يقرن بعضهم إلى بعض في الأصفاد والسلاسل، وقال بعض أهل العلم : كل كافر يقرن هو وشيطانه، وقد قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ].
وهذا أظهر من قول من قال : مقرنين مكتفين، ومن قول من قال : مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، والثبور : الهلاك والويل والخسران.
وقال ابن كثير : والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار. كما قال موسى لفرعون :﴿ وَإِنّي لأظُنُّكَ يا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ﴾ أي هالكاً، قال عبد الله بن الزبعري السهمي :
إذا جارى الشيطان في سنن الغس ى ومن مال ميله مثبور. ا ه
وقال الجوهري في صحاحه : والثبور الهلاك والخسران أيضاً، قال الكميت :
ورأت قضاعة في الأيا من رأى مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها لليمن. اه.
وقوله تعالى :﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ معنى دعائهم الثبور هو قولهم : واثبوره، يعنون : يا ويل، ويا هلاك، تعال، فهذا حينك وزمانك.
وقال الزمخشري : ومعنى وادعوا ثبوراً كثيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور، لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم. اه.
تنبيه
اعلم أنه تعالى في هذه الآية الكريمة قال : مكاناً ضيقاً، وكذلك في الأنعام في قوله تعالى :﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ] وقال في هود ﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] فما وجه التعبير في سورة هود، بقوله : ضائق على وزن فاعل، وفي الفرقان والأنعام بقوله : ضيقاً على وزن فيعل، مع أنه في المواضع الثلاثة هو الوصف من ضاق يضيق، فهو ضيق.
والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقاً، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله :
وفاعل صالح للكل إن قصد ال حدوث نحو غدا ذا فارح جذلا
وإن لم يقصد به الحدوث، والتجدد بقي على أصله.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في سورة هود ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] أريد به أنه يحدث له ضيق الصدر، ويتجدد له بسبب عنادهم وتعنتهم في قولهم :﴿ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ [ هود : ١٢ ] ولما كان كذلك، قيل فيه : ضائق بصيغة اسم الفاعل، أما قوله : ضيقاً في الفرقان والأنعام فلم يرد به حدوث، ولذلك بقي على أصله.
ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى :﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :
أبلغ خداشا أنني ميت كل امرئ ذي حسب مائت
فلما أراد حدوث الموت قال : مائت بوزن فاعل، وأصله ميت على وزن فيعل.
ومن أمثلته في فعل يفتح فكسر قول أبي عمرو أشجع بن عمرو السلمي يرثى قتيبة بن مسلم :
فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح
فلما نفى أن يحدث له في المستقبل فرح ولا جزع قال جازع وفارح، والأصل : جزع وفرح.
ومثاله في فعيل قول لبيد :
حسبت التقى والجود خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً
فلما أراد حدوث الثقل قال : ثاقلاً والأصل ثقيل، وقول السمهري العكلي :
بمنزلة أما اللئيم فسامن بها واكرم الناس باد شحوبها
فلما أراد حدوث السمن قال : فسا من والأصل سمين.
واعلم أن قراءة ابن كثير ضيقا بسكون الياء في الموضعين راجعه في المعنى إلى قراءة الجمهور بتشديد الياء لأن إسكان الياء تخفيف كهين ولين، في هين ولين. والعلم عند الله تعالى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله تعالى :﴿ وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار إذا ألقوا : أي طرحوا في مكان ضيق من النار، في حال كونهم مقرنين، دعوا هنالك : أي في ذلك المكان الضيق ثبوراً، فيقال لهم : لا تدعو ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً، فقوله : مكاناً منصوب على الظرف، كما قال أبو حيان في البحر المحيط.
وما ذكره هنا من أنهم يلقون في مكان ضيق من النار، جاء مذكوراً أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * في عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ﴾ [ الهمزة : ٨-٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ﴾ [ البلد : ١٩-٢٠ ] ومعنى مؤصدة في الموضعين بهمز، وبغير همز : مطبقة أبوابها، مغلقة عليهم كما أوضحناه بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ﴾ [ الكهف : ١٨ ] ومن كان في مكان مطبق مغلق عليه، فهو في مكان ضيق، والعياذ بالله، وقد ذكر أن الواحد منهم يجعل في محله من النار بشدة كما يدق الوتد في الحائط، وعن ابن مسعود :«أن جهنم تضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح ». والزج بالضم : الحديدة التي في أسفل الرمح.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مقرنين ﴾ : أي في الأصفاد بدليل قوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ ﴾ [ إبراهيم : ٤٩ ] والأصفاد والقيود. والأظهر أن معنى مقرنين : أن الكفار يقرن بعضهم إلى بعض في الأصفاد والسلاسل، وقال بعض أهل العلم : كل كافر يقرن هو وشيطانه، وقد قال تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ].
وهذا أظهر من قول من قال : مقرنين مكتفين، ومن قول من قال : مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال، والثبور : الهلاك والويل والخسران.
وقال ابن كثير : والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار. كما قال موسى لفرعون :﴿ وَإِنّي لأظُنُّكَ يا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ﴾ أي هالكاً، قال عبد الله بن الزبعري السهمي :
إذا جارى الشيطان في سنن الغس ى ومن مال ميله مثبور. ا ه
وقال الجوهري في صحاحه : والثبور الهلاك والخسران أيضاً، قال الكميت :
ورأت قضاعة في الأيا من رأى مثبور وثابر
أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها لليمن. اه.
وقوله تعالى :﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ معنى دعائهم الثبور هو قولهم : واثبوره، يعنون : يا ويل، ويا هلاك، تعال، فهذا حينك وزمانك.
وقال الزمخشري : ومعنى وادعوا ثبوراً كثيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، إنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور، لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها، فلا غاية لهلاكهم. اه.
تنبيه
اعلم أنه تعالى في هذه الآية الكريمة قال : مكاناً ضيقاً، وكذلك في الأنعام في قوله تعالى :﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ] وقال في هود ﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] فما وجه التعبير في سورة هود، بقوله : ضائق على وزن فاعل، وفي الفرقان والأنعام بقوله : ضيقاً على وزن فيعل، مع أنه في المواضع الثلاثة هو الوصف من ضاق يضيق، فهو ضيق.
والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقاً، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله :
وفاعل صالح للكل إن قصد ال حدوث نحو غدا ذا فارح جذلا
وإن لم يقصد به الحدوث، والتجدد بقي على أصله.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في سورة هود ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] أريد به أنه يحدث له ضيق الصدر، ويتجدد له بسبب عنادهم وتعنتهم في قولهم :﴿ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ﴾ [ هود : ١٢ ] ولما كان كذلك، قيل فيه : ضائق بصيغة اسم الفاعل، أما قوله : ضيقاً في الفرقان والأنعام فلم يرد به حدوث، ولذلك بقي على أصله.
ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى :﴿ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ] وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :
أبلغ خداشا أنني ميت كل امرئ ذي حسب مائت
فلما أراد حدوث الموت قال : مائت بوزن فاعل، وأصله ميت على وزن فيعل.
ومن أمثلته في فعل يفتح فكسر قول أبي عمرو أشجع بن عمرو السلمي يرثى قتيبة بن مسلم :
فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح
فلما نفى أن يحدث له في المستقبل فرح ولا جزع قال جازع وفارح، والأصل : جزع وفرح.

ومثاله في فعيل قول لبيد :
حسبت التقى والجود خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً
فلما أراد حدوث الثقل قال : ثاقلاً والأصل ثقيل، وقول السمهري العكلي :
بمنزلة أما اللئيم فسامن بها واكرم الناس باد شحوبها
فلما أراد حدوث السمن قال : فسا من والأصل سمين.
واعلم أن قراءة ابن كثير ضيقا بسكون الياء في الموضعين راجعه في المعنى إلى قراءة الجمهور بتشديد الياء لأن إسكان الياء تخفيف كهين ولين، في هين ولين. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى :﴿ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً * لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْداً * مَسْئولاً ﴾ [ ١٥-١٦ ].
التحقيق إن الإشارة في قوله : أذلك راجعة إلى النار، وما يلقاه الكفار فيها من أنواع العذاب كما ذكره جلا وعلا بقوله :﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ﴾ [ الفرقان : ١١ ] إلى قوله تعالى :﴿ وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٤ ]، وغير هذا من الأقوال لا يعول عليه، كقول من قال : إن الإشارة راجعة إلى الكنز والجنة في قوله تعالى :﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ ﴾ [ الفرقان : ٨ ] الآية، وكقول من قال : إنها راجعة إلى الجنات والقصور المعلقة على المشيئة في قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٠ ] والتحقيق إن شاء الله أنه لما ذكر شدة عذاب النار وفظاعته قال : أذلك العذاب خير أم جنة الخلد الآية.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة، جاء أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الصافات ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ﴾ إلى قوله :﴿ يُهْرَعُونَ ﴾ [ الصافات : ٦٠-٧٠ ] وكقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يُلْقَى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] الآية.
وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف، وهو أن يقال : لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية :
وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
كما قدمناه موضحاً في صورة النحل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ﴾ [ النحل : ٣٠ ] الآية.
والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال.
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين :
الأول : أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن، وفي اللغة مراداً بها مطلق الاتصاف، لا تفضيل شيء على شيء. وقدمناه مراراً وأكثرنا من شواهده العربية في سورة النور وغيرها.
الثاني : أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
أتهجوه ولست له بكفء فشرّكما لخيركما الفداء
وكقول العرب : الشقاء أحب إليك، أم السعادة ؟ وقوله تعالى :﴿ قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] الآية.
قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى :﴿ أَذالِكَ خَيْرٌ ﴾ الآية، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :
*فشركما لخيركما الفداء*
وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة، وكقوله :﴿ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [ يوسف : ٣٣ ] وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ. اه. الغرض من كلام أبي حيان.
وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير البتة كما لا يخفى، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان.
وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ العائد محذوف : أي وعدها المتقون، والآية تدل على أن الوعد الصادق بالجنة، يحصل بسبب التقوى.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ النحل : ٣١ ].
وقوله تعالى :﴿ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ ﴾ [ النحل : ٣١ ] العائد أيضاً محذوف كالذي قبله : أي ما يشاءونه، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير، كما قال في الخلاصة : والحذف عندهم كثير منجلي *** في عائد متصل إن انتصب
بفعل أو وصف *** كمن نرجو يهب
وهذه الآية الكريمة، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ ﴾ [ النحل : ٣١ ] والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة، وقوله :﴿ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً ﴾ المصير مكان الصيرورة، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى :﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ [ الكهف : ٣١ ] لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾ فيه وجهان معروفان.
أحدهما : أن معنى كونه مسئولاً أن المؤمنين كانوا يسألونه، وكانت الملائكة أيضاً تسأله لهم، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى : بقوله عنهم :﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [ آل عمران : ١٩٤ ] وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضاً في قوله :﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ ﴾ [ غافر : ٨ ] الآية، وقال بعض العلماء : مسئولاً : أي واجباً لأن ما وعد الله به واجب الوقوع، لأنه لا يخلف الميعاد، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء لا معقب لحكمه ويستأنس لهذا القول بلفظة على في قوله :﴿ كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً ﴾ كقوله تعالى :﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ﴾ [ الروم : ٤٧ ] وقال بعض أهل العلم : إن المسلمين يوم القيامة يقولون : قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا، والقولان الأولان أقرب من هذا. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَومًا بورًا ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير وحفص عن عاصم : نحشرهم، بالنون الدالة على العظمة، وقرأ ابن كثير، وحفص، عن عاصم : يحشرهم بالياء المثناة التحتية، وقرأ عامة السبعة غير ابن عامر، فيقول بالياء المثناة التحتية، وقرأ ابن عامر فنقول بنون العظمة.
فتحصل أن ابن كثير وحفصاً يقرآن بالياء التحتية فيهما، وأن ابن عامر يقرأ بالنون فيهما، وأن باقي السبعة يقرؤون : نحشرهم بالنون، فيقول بالياء، وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يحشر الكفار يوم القيامة، وما كانوا يعبدون من دونه : أي يجمعهم جميعاً فيقول للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فزينتم لهم أن يعبدوكم من دوني، أم هم ضلوا السبيل : أي كفروا وأشركوا بعبادتهم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم، وأن المعبودين يقولون : سبحانك أي تنزيهاً لك عن الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ليس للخلائق كلهم، أن يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، من غير أمرنا، ونحن برآء منهم، ومن عبادتهم، ثم قال :﴿ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ ﴾ أي طال عليهم العمر، حتى نسوا الذكرى أي نسوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك، من الدعوة إلى عبادتك وحدك، لا شريك لك، وكانوا قوماً بوراً قال ابن عباس " أي هلكى "، وقال الحسن البصرى ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم اه. الغرض من كلام ابن كثير.
وقال أبو حيان في البحر : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم إلى آخر كلامه.
وإذا عرفت ما ذكره جل وعلا في هذه الآية من سؤاله للمعبودين وجوابهم له، فاعلم أن العلماء اختلفوا في المعبودين. فقال بعضهم : المراد بهم الملائكة وعيسى وعزير قالوا : هذا القول يشهد له القرآن، لأن فيه سؤال عيسى والملائكة عن عبادة عن عبدهم، كما قال في الملائكة :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٤٠-٤١ ] وقال في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمّىَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لي بِحَقّ ﴾ إن كنتُ قلته فقد عَلِمتَهُ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب } وجواب الملائكة وجواب عيسى كلاهما شبيه بجواب المعبودين في آية الفرقان هذه، ولذلك اختار غير واحد من العلماء أن المعبودين الذين يسألهم الله في سورة الفرقان هذه هم خصوص العقلاء، دون الأصنام.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام، مع الملائكة وعيسى، وعزير لأن ذلك تدل عليه قرينتان قرآنيتان.
الأولى : أنه عبر عن المعبودين المذكورين بما التي هي لغير العاقل في قوله :
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ الآية. فلفظة ما تدل على شمول غير العقلاء، وأنه غلب غير العاقل لكثرته.
القرينة الثانية : هي دلالة آيات من كتاب الله، على أن المعبودين غافلون عن عبادة من عبدهم : أي لا يعلمون بها لكونهم غير عقلاء كقوله تعالى في سورة يونس ﴿ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [ يونس : ٢٨-٢٩ ] وإنما كانوا غافلين عنها لأنهم جماد لا يعقلون. وإطلاق اللفظ المختص بالعقلاء عليهم، نظراً إلى أن المشركين نزلوهم منزلة العقلاء كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وكقوله تعالى في الأحقاف :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٥-٦ ] فقد دل قوله تعالى :﴿ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٥ ] على أنهم لا يعقلون، ومع ذلك قال :﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ] وكقوله تعالى في العنكبوت ﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ في الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعضُكم بَعضا ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] الآية. فصرح بأنهم أوثان، ثم ذكر أنهم هم وعبدتهم يلعن بعضهم بعضاً. وكقوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ ﴾ الظاهر أن معنى نسوا تركوا. والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد، وقيل ذكر الله بشكر نعمه، والأصح أن قوله بوراً معناه هلكى، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا ﴿ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ﴾ وقوله في سورة الفتح ﴿ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾ [ الفتح : ١٢ ] ومن إطلاقه على المفرد قول عبد الله بن الزبعري السهمي رضي الله عنه.
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
ويطلق البور على الهلاك. وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان، وهم من أهل اليمن، ومنه قول الشاعر :
فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه
واعلم أن ما ذكره الزمخشري في هذه الآية، وأطنب فيه من أن الله لا يضل أحداً مذهب المعتزلة، وهو مذهب باطل وبطلانه في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإياك أن تغتر به، وما ذكر عن الحسن البصري، ومالك، عن الزهري من أن معنى بوراً لا خير فيهم له وجه في اللغة العربية، ولكن التحقيق أنه ليس معنى الآية، وأن معنى بوراً هلكى كما تقدم، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية : أن المعبودين كذبوا العابدين وذلك في قوله عنهم :﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ﴾ [ الفرقان : ١٨ ].
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تكذيب المعبودين للعابدين، جاء في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [ الأحقاف : ٦ ] وكقوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَءا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ النحل : ٨٦ ] وقوله :﴿ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ [ يونس : ٢٨ ] وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ﴾ [ مريم : ٨٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ﴾ [ ١٩ ].
قال ابن كثير : ومن يظلم منكم أي يشرك بالله، وذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا التفسير تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ يونس : ١٠٦ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الظلم في قوله تعالى :﴿ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [ الأنعام : ٨٢ ] فقال : أي بشرك كما قدمناه موضحاً.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه جعل بعض الناس فتنة لبعض.
وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية ذكره في قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] الآية.
وقال القرطبي في تفسير قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ ومعنى هذا : أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسيه، ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنى عليه أن لا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق، كما قال الضحاك في معنى : أتصبرون : أي على الحق، وأصحاب البلايا يقولون : لِمَ لَمْ نعاف، والأعمى يقول لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره وكذلك العلماء، وحكام العدل ألا ترى إلى قولهم :﴿ لَوْلاَ نُزّلَ هَذَا القرآن عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] فالفتنة أن يحسد المبتلي المعافى، ويحقر المعافى المبتلي، والصبر أن يحبس كلاهما نفسه هذا عن البطر، وذلك عن الضجر. انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وإذا علمت معنى كون بعضهم فتنة لبعض. فاعلم أن قوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] الآية. فيه فتنة أغنياء الكفار بفقراء المسلمين، حيث احتقروهم وازدروهم، وأنكروا أن يكون الله من عليهم دونهم لأنهم في زعمهم لفقرهم، ورثاثة حالهم، لا يمكن أن يرحمهم الله ويعطيهم من فضله الواسع كما قال تعالى عنهم إنهم قالوا فيهم ﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وقال ﴿ أأُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا ﴾ [ ص : ٨ ] إلى غير ذلك من الآيات، وسيوبخهم الله يوم القيامة على احتقارهم لهم في الدنيا كما قال تعالى :﴿ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩-٣٦ ] وقوله تعالى :﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ البقرة : ٢١٢ ] وقوله تعالى :
أتصبرون، أي على الحق أم لا تصبرون. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يرجون لقاء الله قالوا. لولا أنزل علينا الملائكة، أو نرى ربنا، ولولا في هذه الآية للتحضيض.
والمعنى أنهم طلبوا بحثٍّ وشدةٍ أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون ربهم، وهذا التعنّت الذي ذكره الله عنهم هنا من طلبهم إنزال الملائكة عليهم، أو رؤيتهم ربهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] وقولهم :﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ﴾ قيل : فتوحي إلينا كما أوحت إليك، وهذا القول يدل له قوله تعالى :﴿ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] الآية وقيل : لولا أنزل علينا الملائكة فنراهم عياناً، وهذا يدل له قوله تعالى :﴿ أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] أي معاينة على القول بذلك، وقد قدمنا الأقوال في ذلك في سورة بني إسرائيل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا يرجون قال بعض العلماء : لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم إيمانهم بالبعث. والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع. قال بعض العلماء : ومنه قوله تعالى :﴿ مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾ [ نوح : ١٣ ] قال أي لا تخافون لله عظمة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل
فقوله لم يرج لسعها : أي لم يخف لسعها، وقال بعض أهل العلم : إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة، وقال بعض العلماء : لا يرجون لقاءنا لا يأملون، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال : ومنه قول الشاعر :
أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب
أي أتأمل أمة الخ. والذي لا يؤمن بالبعث لا يخاف لقاء الله، لأنه لا يصدق بالعذاب، ولا يأمل الخير من تلقائه، لأنه لا يؤمن بالثواب.
وقوله جلا وعلا :﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ ﴾ أي أضمروا التكبر عن الحق في قلوبهم، واعتقدوه عناداً وكفراً، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى :﴿ إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴾ [ غافر : ٥٦ ] وقوله تعالى :﴿ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان يقال : عتا علينا فلان : أي تجاوز الحد في ظلمنا، ووصفه تعالى عتوهم المذكور بالكبر، يدل على أنه بالغ في إفراطه، وأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، وهذه الآية الكريمة تدل على أن تكذيب بالرسل بعد دلالة المعجزات، ووضوح الحق وعنادهم والتعنت عليهم بطلب إنزال الملائكة، أو رؤية الله استكبار عن الحق عظيم وعتو كبير يستحق صاحبه النكال والتقريع، ولذا شدد الله النكير على من تعنت ذلك التعنت واستكبر عن قبول الحق، كما في قوله تعالى :﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ ﴾ [ البقرة : ١٠٨ ] وقوله تعالى :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فأخذتهم الصاعقة بظُلمِهم ﴾ [ النساء : ١٥٣ ] الآية وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [ البقرة : ٥٥ ] واستدلال المعتزلة بهذه الآية وأمثالها، على أن رؤية الله مستحيلة استدلال باطل ومذهبهم والعياذ بالله من أكبر الضلال، وأعظم الباطل، وقول الزمخشري في كلامه على هذه الآية : إن الله لا يرى قول باطل، وكلام فاسد.
والحق الذي لا شك فيه : أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم يوم القيامة، كما تواترت به الأحاديث عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ودلت عليه الآيات القرآنية منطوقاً ومفهوماً. كما أوضحناه في غير هذا الموضع.
وقد قدمنا في هذه السورة وفي سورة بني إسرائيل الآيات الدالة على أن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين طلبوا إنزال الملائكة عليهم، أنهم يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم أي لا تسرهم رؤيتهم ولا تكون لهم في ذلك الوقت بشارة بخير، ورؤيتهم للملائكة تكون عند احتضارهم، وتكون يوم القيامة ولا بشرى لهم في رؤيتهم في كلا الوقتين.
أما رؤيتهم الملائكة عند حضور الموت فقد دلت آيات من كتاب الله أنهم لا بشارة لهم فيها لما يلاقون من العذاب من الملائكة عند الموت، كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٥٠ ] الآية وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد : ٢٧-٢٨ ] وأما رؤيتهم الملائكة يوم القيامة فلا بشرى لهم فيها أيضاً، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨ ]. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ ﴾ يدل بدليل خطابه : أي مفهوم مخالفته، أن غير المجرمين يوم يرون الملائكة تكون لهم البشرى، وهذا المفهوم من هذه الآية جاء مصرحاً به في قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تَوعَدونَ* نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٠-٣٢ ].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة. ﴿ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً ﴾ أظهر القولين فيه عندي أنه من كلام الكفار، يوم يرون الملائكة. لا من كلام الملائكة، وإيضاحه : أن الكفار الذين اقترحوا إنزال الملائكة إذا رأوا الملائكة توقعوا العذاب من قبلهم، فيقولون حينئذٍ للملائكة : حجراً محجوراً : أي حراماً محرماً عليكم أن تمسونا بسوء أي لأننا لم نرتكب ذنباً نستوجب به العذاب، كما أوضحه تعالى بقوله عنهم ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٢٨ ] فقولهم : ما كنا نعمل من سوء : أي لم نستوجب عذاباً فتعذبينا حرام محرم، وقد كذبهم الله في دعواهم هذه بقوله :﴿ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٢٨ ] وعادة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أنهم يقولون هذا الكلام :
أي حجراً محجوراً عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك.
وقد ذكر سيبويه هذه الكلمة أعني : حجراً محجوراً في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو : معاذ الله، وعمرك الله، ونحو ذلك وقوله : حجراً محجوراً، أصله من حجره بمعنى منعه، والحجر الحرام، لأنه ممنوع ومنه قوله :﴿ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ﴾ [ الأنعام : ١٣٨ ] أي حرام ﴿ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٨ ] ومنه قول المتلمس :
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس
فقوله حرام تأكيد لقوله حجر لأن معناه حرام وقول الآخر :
ألا أصبحت أسماءُ حجراً محرما وأصبحت من أدنى حموتها حَمَا
وقول الآخر :
قالت وفيها حيرة وذعر عوذ بربي منكم وحجر
وقوله : محجوراً توكيد لمعنى الحجر. قال الزمخشري : كقول العرب : ذيل ذائل. والذيل الهوان، وموت مائت، وأما على القول بأن حجراً محجوراً من قول الملائكة، فمعناه : أنهم يقولون للكفار حجراً محجوراً. أي حراماً محرماً أن تكون للكفار اليوم بشرى، أو أن يغفر لهم، أو يدخلون الجنة وهذا القول اختاره ابن جرير، وابن كثير وغير واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ ﴾ قال الزمخشري : يوم منصوب بأحد شيئين، إما بما دل عليه بلا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى، أو يعدمونها، ويومئذٍ للتكرير، وإما بإضمار اذكر : أي اذكر يوم يرون الملائكة، ثم قال لا بشرى يومئذٍ للمجرمين.
قوله تعالى :﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ [ الإسراء : ١٩ ] الآية. وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية. وغير ذلك فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾.
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن حساب أهل الجنة يسير، وأنه ينتهي في نصف نهار، ووجه ذلك أن قوله : مقيلاً : أي مكان قيلولة وهي الاستراحة في نصف النهار، قالوا : وهذا الذي فهم من هذه الآية الكريمة، جاء بيانه في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾ [ الانشقاق : ٧-٩ ].
ويفهم من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ﴾ الآية. أن أصحاب النار ليسوا كذلك وأن حسابهم غير يسير.
وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى قريباً من هذه الآية :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢٦ ] فقوله : على الكافرين يدل على أنه على المؤمنين غير عسير، كما قال تعالى :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٣ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ فإذا نُقر في الناقور* فذلك يوم عسير* على الْكَافِرينَ غير يسير ﴾ [ المدثر : ٨-١٠ ] وقوله تعالى :﴿ مهطعين إلى الدّاع يقول الكافرون هذا يوم عسير ﴾ [ القمر : ٨ ] وإذا علمت مما ذكرنا ما جاء من الآيات فيه بيان لقوله : أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً، فهذه أقوال بعض المفسرين في المعنى الذي ذكرنا في الآية.
قال صاحب الدر المنثور : " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله :﴿ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ قال " في الغرف من الجنة، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وذلك مثل قوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾ [ الانشقاق : ٧-٩ ] وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود. قال : " لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ وقرأ ﴿ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنما هي ضحوة. فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر، وأبو نعيم في الحلية، عن إبراهيم النخعي : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة، نصف النهار. فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فذلك قوله :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة، حين يفرغ الناس من الحساب، وذلك قوله :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ إلى أن قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، الساعة التي يكون فيها ارتفاع الضحى الأكبر، إذا انقلب الناس إلى أهليهم، للقيولة، فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة، وأطعموا كبد الحوت فأشبعهم كلهم فذلك قوله. ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ انتهى منه.
وذكر نحوه القرطبي مرفوعاً وقال : ذكره المهدوي. والظاهر أنه لا يصح مرفوعاً، وقال القرطبي أيضاً : وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ﴾ فقلت ما أطول هذا اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم :«والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة » وهو ضعيف أيضاً، وما ذكره عن ابن مسعود من أنه قرأ : ثم ﴿ إنٍّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ﴾ معلوم أن ذلك شاذ لا تجوز القراءة به، وأن القراءة ﴿ الْحَقّ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ﴾[ الصافات : ٦٨ ].
واعلم أن قول قتادة في هذه الآية معروف مشهور، وعليه فلا دليل في الآية لما ذكرنا، وقول قتادة هو أن معنى قوله :﴿ وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ أي منزلاً ومأوى، وهذا التفسير لا دليل فيه على القيلولة في نصف النهار كما ترى.
وقد بينا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب : وجه الجمع بين ما دل عليه قوله هنا ﴿ وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ من انقضاء الحساب في نصف نهار، وبين ما دل عليه قوله تعالى :﴿ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ] وذكرنا الآيات المشيرة إلى الجمع، وبعض الشواهد العربية.
واعلم أن المشهود في كلام العرب أن المقيل القيلولة أو مكانها، وهي الاستراحة نصف النهار زمن الحر مثلاً، وإن لم يكن معها نوم، ومنه قوله :
جزى الله خير الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أو معبد
أي نزلا فيها وقت القائلة، كما قاله صاحب اللسان، وما فسر به قتادة الآية، من أن المقيل المنزل والمأوى، معروف أيضاً في كلام العرب. ومنه قول ابن رواحة :
اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله
فقوله : يزيل الهام عن مقيله، يعني : يزيل الرؤوس عن مواضعها من الأعناق، ومعلوم أن المقيل فيه المحل الذي تسكن فيه الرؤوس والظاهر أن من هذا القبيل قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري :
وما تدري وإن أجمعت أمرا بأي الأرض يدركك المقيل
وعليه فالمعنى : بأي الأرض يدركك الثواب والإقامة بسبب الموت أو غيره من الأسباب، وصيغة التفضيل في قوله هنا :﴿ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ تكلمنا على مثلها قريباً في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ﴾ [ الفرقان : ١٥ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء تتشقق يوم القيامة بالغمام، وأن الملائكة تنزل تنزيلاً. وقال القرطبي : " تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام. قال : والباء وعن يتعاقبان كقولك : رميت بالقوس، وعن القوس " انتهى. ويستأنس لمعنى " عن " بقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ﴾ [ ق : ٤٤ ] الآية.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة من تشقق السماء يوم القيامة، ووجود الغمام، وتنزيل الملائكة، كلها جاءت موضحة في غير هذا الموضع.
أما تشقق السماء يوم القيامة فقد بينه جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدّهَانِ ﴾ [ الرحمن : ٣٧ ] وقوله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فهي يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١٥-١٦ ] وقوله :﴿ إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ﴾ [ الانشقاق : ١ ] الآية وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ﴾ الآية فقوله : فرجت : أي شقت، فكان فيها فروج أي شقوقن كقوله :﴿ إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ﴾ [ المرسلات : ٨-٩ ] الآية فقوله : فرجت : أي شقت، فكان فيها فروج أي شقوق كقوله :﴿ إذا السماء انفطرت ﴾ [ الانفطار : ١ ] وقوله تعالى :﴿ وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً ﴾ [ النبأ : ١٩ ] وأما الغمام ونزول الملائكة، فقذ ذكرهما معاً في قوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] الآية. وقد ذكر جل وعلا نزول الملائكة في آيات أخرى كقوله ﴿ وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ] الآية وقوله تعالى :﴿ مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴾ [ الحجر : ٨ ].
قال الزمخشري : " والمعنى : أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون، وفي أيديهم صحف أعمال العباد. " انتهى منه.
وقرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر : تشّقق بتشديد الشين، والباقون بتخفيفها بحذف إحدى التاءين، وقرأ ابن كثير : ونُنْزِلُ الملائكةَ بنونين الأولى مضمومة، والثانية ساكنة مع تخفيف الزاي، وضم اللام، مضارع أنزل، والملائكة بالنصب مفعول به، والباقون بنون واحدة وكسر الزاي المشددة ماضياً مبنياً للمفعول، والملائكة مرفوعاً نائب فاعل نزل، والأظهر أن يوم منصوب باذكر مقدراً، كما قاله القرطبي، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الملك الحق يوم القيامة له جل وعلا دون غيره، وأن يوم القيامة كان عسيراً على الكافرين.
وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله، أما كون الملك له يوم القيامة، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله جلا وعلا :﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ﴾ [ الفاتحة : ٤ ]وقوله :﴿ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّوَرِ ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
وأما كون يوم القيامة عسيراً على الكافرين، فقد قدمنا الآيات الدالة عليه قريباً في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ﴾ بالفرقان : ٢٤ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾.
من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية، هو عقبة بن أبي معيط، وأن فلاناً الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف، أو أخوه أبي بن خلف، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة. ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير، لا القراءة، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط.
وما ذكره جلا وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحاً في غيرها. فقوله :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾ كناية عن شدة الندم والحسرة، لأن النادم ندماً شديداً، يعض على يديه، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية، جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى في سورة يونس :﴿ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [ يونس : ٥٤ ] الآية. وقوله تعالى في سورة سبأ :﴿ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاْغْلَالَ في أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ سبأ : ٣٣ ] الآية. وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ﴾ [ الأنعام : ٣١ ] الآية. والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى :﴿ كَذالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٦٧ ] إلى غير ذلك من الآيات، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا، واتخذ معه سبيلاً : أي طريقاً إلى الجنة في قوله هنا :﴿ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾ جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ في النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴾ [ الأحزاب : ٦٦ ] وقوله تعالى :﴿ يَقُولُ لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [ الفجر : ٢٤ ] وقوله تعالى :﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ﴾ [ الحجر : ٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية، ذكرت أيضاً في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ سَبِيلاً ﴾ [ المزمل : ١٩ ] و [ الإنسان : ٢٩ ] في المزمل والإنسان، ويقرب من معناه المآب المذكور في قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبّهِ مَئَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٩ ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلاً، ذكره في غير هذا الموضع، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى :﴿ وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٣-١٤ ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم، فقد ذكره أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا ﴾ [ البقرة : ١٦٧ ] فلفظة لو في قوله ﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾ للتمني، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله ﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ الآية. وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم، وطاعتهم في الدنيا، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ في الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ﴾[ الأعراف : ٢٠٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [ فصلت : ٢٥ ] الآية وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرََ الْجِنّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ] وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ ﴾ بالأعراف : ٣٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤمنين ﴾ [ سبأ : ٣١ ] الآيات. إلى غير ذلك من الآيات،
وقوله : تعالى هنا :﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ﴾ الأظهر أنه من كلام الله، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة، والخذول صيغة مبالغة، والعرب تقول : خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه، ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ] وقول الشاعر :
إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا
وقول الآخر :
إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً
ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إنّي كفرت بما أشركتمونِ مِنْ قبلُ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ على عقبيه وقال إنّي بريء منكم إنّي أرى ما لاَ ترونَ ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ] الآية. وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ ﴾ [ الفرقان : ٢٩ ] الأظهر أن الذكر القرآن وقوله :﴿ لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَليلاً ﴾ العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم : أي لم اتخذ أبيا أو أمية خليلاً، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ومنه قول عروة بن حزام العذرى :
ألا قاتل الله الوشاة وقولهم فلانة أضحت خلة لفلان
وقوله :﴿ بَعْضَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ] من عضض بكسر العين في الماضي، يعض بفتحها في المضارع على القياس، ومنه قول الحارث بن وعلة الدهلي :
الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابى على جذم
فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي، والكسر أشهر، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة، المذكورين وربما عديت بالباء ومنه قوله ابن أبي ربيعة :
فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء، قد يدخل قرينه النار والتحذير من قرين السوء مشهور معروف، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات : أن رجلاً من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّي كَانَ لي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [ الصافات : ٥١-٥٧ ].
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا القرآن مَهْجُوراً ﴾.
معنى هذه الآية الكريمة ظاهر، وهو أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربّه هجر قومه، وهم كفّار قريش لهذا القرآن العظيم، أي : تركهم لتصديقه، والعمل به، وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
واعلم أن السبكي قال إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة «الفرقان » مسألة أصولية، وهي أن " الكف عن الفعل فعل ". والمراد بالكف : الترك، قال في طبقاته : " لقد وقفت على ثلاثة أدلّة تدلّ على أن الكفّ فعل لم أرَ أحدًا عثر عليها ".
أحدها : قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا القرآن مَهْجُوراً ﴾، فإن الأخذ التناول، والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكًا، أي : فعلوا تركه. انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب «نشر البنود، شرح مراقي السعود »، في الكلام على قوله :
*فكفّنا بالنهي مطلوب النبيّ*
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : استنباط السبكي من هذه الآية أن الكفّ فعل وتفسيره لها بما يدلّ على ذلك، لم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلّت عليه، وهو كون الكفّ فعلاً دلّت عليه آيتان كريمتان من سورة «المائدة »، دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع. فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية «الفرقان » هذه، فإنه قد بيّنته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة «المائدة ». أمّا الأولى منهما، فهي قوله تعالى :﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [ المائدة : ٦٣ ]، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سمّاه اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة صنعًا في قوله :﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [ المائدة : ٦٣ ]، أي : وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخصّ من مطلق الفعل، فصراحة دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح ؛ كما ترى.
وأمّا الآية الثانية، فهي قوله تعالى :﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ المائدة : ٧٩ ]، فقد سمّى جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلاً، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذمّ في قوله :﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [ المائدة : ٧٩ ]، أي : وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضًا على ما ذكر واضحة، كما ترى.
وقد دلَّت أحاديث نبويّة على ذلك ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم :«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده »، فقد سمّى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلامًا، ومما يدلّ من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة :
" لئن قعدنا والنبيّ يعمل لذاك منّا العمل المضلل ".
فسمّى قعودهم عن العمل، وتركهم له عملاً مضللاً. وقد أشار صاحب «مراقي السعود »، إلى أن الكف فعل على المذهب، أي : وهو الحقّ. وبيّن فروعًا مبنية على ذلك نظمها الشيخ الزقاق في نظمه المسمّى بالمنهج المنتخب، وأورد أبيات الزقاق في ذلك، وقال : وجلبتها هنا على سبيل التضمين، وهذا النوع يسمّى استعانة، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله :
فكفنا بالنهي مطلوب النبي والكفّ فعل في صحيح المذهب
له فروع ذكرت في المنهج وسردها من بعد ذا البيت يجي
من شرب أو خيط ذكاة فضل ما وعمد رسم شهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المآخذا
وكالتي ردّت بعيب وعدم وليّها وشبهها مما علم
فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكفّ، هل هو فعل، وهو الحق أو لا ؟ وقول الزقاق في الأوّل من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله :
وهل كمن فعل تارك كمن له بنفع قدرة لكن كمن
من شرب... الخ فقوله : من شرب بيان للنفع الكامن في قوله : له بنفع قدرة، لكن كمن، أي : لكنه ترك النفع مع قدرته عليه، فتركه له كفعله لما حصل بسبب تركه من الضرر على القول بأن الترك فعل، ومراده بقوله : من شرب أن من عنده فضل شراب، وترك إعطاءه لمضطر حتى مات عطشًا، فعلى أن الترك فعل يضمن ديته، وعلى أنه ليس بفعل، فلا ضمان عليه، وفضل الطعام كفضل الشراب في ذلك، وقوله : أو خيط يعني أن من منع خيطًا عنده ممن شقّ بطنه، أو كانت به جائفة، حتى مات ضمن الدية على القول بأن الترك فعل، وعلى عكسه فلا ضمان، وقوله : ذكاة : يعني : أن من مرّ بصيد لم ينفذ مقتله وأمكنته تذكيته فلم يذكه حتى مات، هل يضمنه أو لا على الخلاف المذكور ؟
وقوله : فضل ما، يعني : أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له، إذا منع منه الماء، حتى هلك زرعه، هل يضمنه أو لا على الخلاف المذكور، وقوله : وعمد، يعني : أنه إذا كانت عنده عمد جمع عمود، فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : رسم شهادة، يعني : أن من منع وثيقة فيها الشهادة بحقّ حتى ضاع الحقّ، هل يضمنه أو لا ؟ وقوله : وما عطل ناظر، يعني : أن الناظر على مال اليتيم مثلاً إذا عطّل دوره فلم يكرها، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنًا أو ترك الأرض حتى تبوّرت هل يضمن أو لا ؟ وقوله : وذو الرهن : يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن، حتى فات الانتفاع به زمنا، وكان كراؤه له أهمية، هل يضمن أولا ؟ وقوله : كذا مفرط في العلف : يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها، وقال له قدم لها العلف، فترك تقديمه لها حتى ماتت، هل يضمن أو لا، والعلف في البيت بسكون الثاني، وهو تقديم العلف بفتح الثاني.
وقوله : وكالتي ردت بعيب وعدم. وليها : يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا ؟ فهذه الفروع وما شابهها مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا ؟ والصحيح أن الكفّ فعل، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة واللغة ؛ كما تقدّم إيضاحه. وعليه : فالصحيح لزوم الضمان فيما ذكر.
قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾. لما شكا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربّه في قوله :﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا القرآن مَهْجُوراً ﴾ [ الفرقان : ٣٠ ]، أنزل اللَّه قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً ﴾ الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي : كما جعلنا الكفار أعداء لك يكذبونك، ويتّخذون القرآن الذي أنزل إليك مهجورًا، كذلك الجعل ﴿ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً ﴾، أي : جعلنا لك أعداء، كما جعلنا لكل نبيّ عدوًّا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً ﴾ الآية، قد قدّمنا إيضاحه في «الأنعام »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾، قد قدّمنا الكلام مستوفى على كفى اللازمة، والمتعدّية بشواهده العربية في سورة «الإسراء »، في الكلام على قوله :﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [ الإسراء : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً ﴾، جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله :﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ [ الكهف : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ [ البقرة : ١٢٠ ]، وقوله :﴿ وَنَصِيراً ﴾، أي : وكفى بربك نصيرًا، جاء معناه أيضًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ ﴾ [ آل عمران : ١٦٠ ].
قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾.
تقدّمت الآيات التي بمعناه في آخر سورة «الإسراء » في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ] الآية، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾، أي : كذلك الإنزال مفرّقًا بحسب الوقائع أنزلناه لا جملة كما اقترحوا، وقوله :﴿ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾، أي : أنزلناه مفرقًا، لنثبت فؤادك بإنزاله مفرقًا.
قال بعضهم : معناه لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه ؛ لأن حفظه شيئًا فشيئًا أسهل من حفظه مرة واحدة، ولو نزل جملة واحدة.
وقال بعضهم : ومما يؤكد ذلك أنه صلوات اللَّه وسلامه عليه أمّي لا يقرأ ولا يكتب.
﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم القيامة، وأنهم شرّ مكانًا وأضلّ سبيلاً. وبيَّن في مواضع أُخر أنهم تكبّ وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ في النَّارِ ﴾ [ النمل : ٩٠ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ في النَّارِ ﴾ [ الأحزاب : ٦٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ ﴾ [ القمر : ٤٨ ]، وبيَّن جلَّ وعلا في سورة «بني إسرائيل » أنهم يحشرون على وجوههم، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميًا وبكمًا وصمًّا، وذكر في سورة «طه »، أن الكافر يحشر أعمى، قال في سورة «بني إسرائيل » :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، وقال في سورة «طه » :﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ﴾ [ طه : ١٢٤-١٢٦ ] الآية.
وقد بيَّنا وجه الجمع في آية «بني إسرائيل »، وآية «طه » المذكورتين مع الآيات الدالَّة على أن الكفّار يوم القيامة يبصرون ويتكلّمون ويسمعون ؛ كقوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ]، وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا ﴾
[ الكهف : ٥٣ ]، في سورة «طه »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى ﴾ [ طه : ١٢٤ ]، وكذلك بيّنا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب »، في الكلام على آية «بني إسرائيل » المذكورة.
وصيغة التفضيل في قوله :﴿ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾، قد قدّمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله :﴿ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ ﴾ [ الفرقان : ١٥ ]، والمكان محل الكينونة. والظاهر أنه يكون حسيًّا، ومعنويًا. فالحسي ظاهر، والمعنوي ؛ كقوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ في نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ شَرُّ مَكانا ﴾ [ يوسف : ٧٧ ] الآية، والسبيل الطريق وتذكّر وتؤنّث كما تقدّم، ومن تذكير السبيل قوله تعالى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ]، ومن تأنيثها قوله تعالى :﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ].
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٢ ].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٥:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٢ ].

﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ﴾.
قد قدّمنا بعض الآيات الدالَّة على كيفية إغراقهم في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا ﴾ [ الأعراف : ٦٤ ].
﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً ﴾.
الأظهر عندي أن قوله :﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ ﴾ معطوف على قوله :﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ ﴾ الآية، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دلّ عليها قوله بعده :﴿ أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ﴾ [ الفرقان : ٣٧ ]، على حدّ قوله في «الخلاصة » :
فالسابق انصبه بفعل أضمرا *** حتمًا موافق لما قد ذكرا
أي : أهلكنا قوم نوح بالغرق، وأهلكنا عادًا وثمودًا وأصحاب الرس، وقرونًا بين ذلك كثيرًا، أي : وأهلكنا قرونًا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح، وعاد وثمود.
والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح، وعاد، وثمود، وقبل أصحاب الرس وقد دلّت آية من سورة «إبراهيم » على أن بعد عاد، وثمود، خلقًا كفروا وكذبوا الرسل، وأنهم لا يعلمهم إلا اللَّه جلَّ وعلا.
وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا، وذلك في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أفواههم وقالوا إنّا كفرنا بما أُرسلتم به وإنّا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ﴾ [ إبراهيم : ٩ ].
وقد قدّمنا كلام أهل العلم في معنى قوله :﴿ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ ﴾، والإشارة في قوله :﴿ بَيْنَ ذالِكَ ﴾، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس، أي : بين ذلك المذكور ورجوع الإشارة، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدّد باعتبار المذكور أسلوب عربيّ معروف، ومنه في الإشارة قوله تعالى :﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ﴾ [ البقرة : ٦٨ ]، أي : ذلك المذكور من الفارض والبكر، وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٧ ]، أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر، وقول عبد اللَّه بن الزبعري السهمي :
إن للخير وللشرّ مدى *** وكلا ذلك وجه وقبل
أي : وكلا ذلك المذكور من الخير والشر، ومنه في الضمير قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
أي : كأنه، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق، وقد قدّمنا هذا البيت.
أمّا عاد وثمود فقد جاءت قصّة كل منهما مفصّلة في آيات متعدّدة. وأمّا أصحاب الرس فلم يأت في القرآن تفصيل قصّتهم ولا اسم نبيّهم، وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شيء منها.
والرس في لغة العرب : البئر التي ليست بمطوية، وقال الجوهري في «صحاحه » : إنها البئر المطوية بالحجارة، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر :
وهم سائرون إلى أرضهم *** فيا ليتهم يحفرون الرساسا
وقول النابغة الجعدي :
سبقت إلى فرط ناهل *** تنابلة يحفرون الرساسا
والرساس في البيتين جمع رس، وهي البئر، والرس واد في قول زهير في معلّقته : بكرن بكورًا واستحرن بسحرة *** فهن لوادي الرس كاليد للفم
وقوله في هذه الآية :﴿ وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ﴾، جمع قرن، وهو هنا الجيل من الناس الذين اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة.
﴿ وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن كلاًّ من الماضين المهلكين من قوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرس، والقرون الكثيرة بين ذلك : أنه ضرب لكل منهم الأمثال ليبيّن لهم الحق بضرب المثل ؛ لأنه يصير به المعقول كالمحسوس، وأنه جلَّ وعلا تبّر كلاًّ منهم تتبيرًا، أي : أهلكهم جميعًا إهلاكًا مستأصلاً، والتتبير الإهلاك والتكسير، ومنه قوله تعالى :﴿ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٧ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ﴾ [ الأعراف : ١٣٩ ]، أي : باطل، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ﴾، أي : هلاكًا، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما أنه جلَّ وعلا ضرب لكل منهم الأمثال، وأنه تبرهم كلهم تتبيرًا جاءا مذكورين في غير هذا الموضع.
أما ضربه الأمثال للكفّار، فقد ذكره جلَّ وعلا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى في سورة «إبراهيم » :﴿ أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ في مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤-٤٥ ]. وأمّا تتبيره جميع الأُمم لتكذيبها رسلها، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى في سورة «الأعراف » :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٤-٩٥ ]، وقوله تعالى في سورة «سبأ » :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٤ ]، وقوله في «الزخرف » :﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارهم مُقتدون ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ]، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ [ المؤمنون : ٤٤ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أن جميع الأُمم كذبوا رسلهم، وأن اللَّه أهلكهم بسبب ذلك، وقد بيَّن جلَّ وعلا في آية أخرى أن هذا العموم لم يخرج منه إلا قوم يونس دون غيرهم، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي في الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِين ﴾ [ يونس : ٩٨ ].
ويدلّ على ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ الصافات : ١٤٧-١٤٨ ]، وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ضرب الأمثال لكل منهم، لم يبيّن فيه هنا هل ضرب الأمثال أيضًا لهذه الأُمّة الكريمة التي هي آخر الأُمم في هذا القرآن، كما ضربها لغيرهم من الأُمم، ولكنه تعالى بيَّن في آيات كثيرة أنه ضرب لهذه الأُمَّة الأمثال في هذا القرآن العظيم، ليتفكّروا بسببها، وبيَّن أنها لا يعقلها إلا أهل العلم، وأن اللَّه يهدي بها قومًا، ويضلّ بها آخرين.
وهذه الآيات الدالَّة على ذلك كلّه، فمنها قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وأمّا الّذِين كفرُوا فيقُولُون ماذا أراد اللّهُ بِهذا مثلًا يُضِلُّ بِهِ كثِيرًا ويهْدِي بِهِ كثِيرًا وما يُضِلُّ بِهِ إِلّا الْفاسِقِين ﴾ [ البقرة : ٢٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هَذَا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [ الزمر : ٢٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الحشر : ٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤٣ ]، وقوله تعالى :﴿ يأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ]، والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة معلومة، والعلم عند اللَّه تعالى.
﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾.
أقسم جلَّ وعلا في هذه الآية، أن الكفّار الذين كذبوا نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء، وهو أن اللَّه أمطر عليها حجارة من سجّيل، وهي سذوم قرية قوم لوط، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة، وهما أن اللَّه أمطر هذه القرية مطر السوء الذي هو حجارة السجيل، وأن الكفار أتوا عليها، ومروا بها جاء موضحًا في آيات أخرى.
أمّا كون اللَّه أمطر عليها الحجارة المذكورة، فقد ذكره جلَّ وعلا في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ﴾ [ الحجر : ٧٤ ]، وبيَّن في سورة «الذاريات »، أن السجيل المذكور نوع من الطين، وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٢-٣٣ ]، ولا شكّ أن هذا الطين وقعه أليم، شديد مهلك ؛ وكقوله تعالى :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٧٣ ]، وقوله تعالى :﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ﴾ [ الحجر : ٧٢-٧٤ ] الآية.
وأمّا كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة، فقد جاء موضحًا أيضًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ]، والمراد بأنهم مرّوا على قرية قوم لوط، وأن مرورهم عليها، ورؤيتهم لها خالية من أهلها ليس فيها داع، ولا مجيب ؛ لأن اللَّه أهلك أهلها جميعًا لكفرهم وتكذيبهم رسوله لوطًا، فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن تكذيب نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، لئلاّ ينزل بالذين كذبوه مثل ما نزل بقوم لوط من العذاب والهلاك، وبذا وبّخهم على عدم الاعتبار بما أنزل بها من العذاب ؛ كقوله في آية «الصافّات » المذكورة :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، وكقوله تعالى في آية «الفرقان » هذه :﴿ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾، فقوله :﴿ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا ﴾ توبيخ لهم على عدم الاعتبار ؛ كقوله في الآية الأخرى :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾، ومعلوم أنهم يمرّون عليها مصبحين، وبالليل وأنهم يرونها ؛ وكقوله تعالى :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ * إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٤-٧٦ ]، يعني : أن ديار قوم لوط بسبيل مقيم، أي : بطريق مقيم، يمرّون فيه عليها في سفرهم إلى الشام، وقوله تعالى :﴿ بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً ﴾، أي : لا يخافون بعثًا ولا جزاء، أو لا يرجون بعثًا وثوابًا.
﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾.
تقدّم إيضاحه في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٦ ]، وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم، بيّن في سورة «ص » أن بعضهم أمر به بعضًا، في قوله تعالى :﴿ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾ [ ص : ٦ ] الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾.
تقدّم إيضاحه في سورة «الأنبياء »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٦ ]، وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم، بيّن في سورة «ص » أن بعضهم أمر به بعضًا، في قوله تعالى :﴿ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ ﴾ [ ص : ٦ ] الآية.

﴿ أَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾.
قال ابن كثير رحمه اللَّه في تفسير هذه الآية :﴿ أَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾، أي : مهما استحسن من شيء ورآه حسنًا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، إلى أن قال : قال ابن عباس : " كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانًا، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأَوّل "، اه منه.
وذكر صاحب «الدرّ المنثور » : أن ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجا عن ابن عباس " أن عبادة الكافر للحجر الثاني مكان الأَوّل هي سبب نزول هذه الآية "، ثم قال صاحب «الدرّ المنثور » : وأخرج ابن مردويه عن أبي رجاء العطاردي، قال : كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز ويعبدون الحجر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، رموا به وعبدوا الآخر، فإذا فقدوا الآخر أمروا مناديًا فنادى : أيّها الناس إن إلهكم قد ضلّ فالتمسوه، فأنزل اللَّه هذه الآية :﴿ أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾، وأخرج ابن منذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :﴿ أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾، قال : ذلك الكافر اتّخذ دينه بغير هدى من اللَّه ولا برهان.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن :﴿ أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾، قال : لا يهوى شيئًا إلا تبعه.
وأحرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة :﴿ أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾، قال : كل ما هوى شيئًا ركبه، وكل ما اشتهى شيئًا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع، ولا تقوى.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، أنه قيل له : أفي أهل القبلة شرك ؟ قال : نعم، المنافق مشرك، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون اللَّه، وإن المنافق عبد هواه، ثم تلا هذه الآية :﴿ أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾.
وأخرج الطبراني عن أبي أُمامة، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :«ما تحت ظلُّ السماء من إلاه يعبد من دون اللَّه أعظم عند اللَّه من هوى متّبع »، انتهى محل الغرض من كلام صاحب «الدرّ المنثور ».
وإيضاح أقوال العلماء المذكورة في هذه الآية أن الواجب الذي يلزم العمل به، هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره به معبوده جلَّ وعلا، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه، وإذن فكونه اتّخذ إلهه هواه في غاية الوضوح.
وإذا علمت هذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم أن اللَّه جلَّ وعلا بيّنه في غير هذا الموضع، في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ منْ بعدِ الله ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ [ فاطر : ٨ ] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾، استفهام إنكار فيه معنى النفي.
والمعنى : أن من أضلّه اللَّه فاتّخذ إلاهه هواه، لا تكون أنت عليه وكيلاً، أي : حفيظًا تهديه وتصرف عنه الضلال الذي قدّره اللَّه عليه ؛ لأن الهدى بيد اللَّه وحده لا بيدك، والذي عليك إنما هو البلاغ، وقد بلّغت.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ﴾ [ القصص : ٥٦ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ ﴾ [ النحل : ٣٧ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النَّارِ ﴾ [ الزمر : ١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ يونس : ٩٩-١٠٠ ] الآية، وقوله في آية «فاطر » المذكورة آنفًا :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ] الآية، وقوله تعالى في آية «الجاثية » المذكورة آنفًا أيضًا :﴿ فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة، والعلم عند اللَّه تعالى.
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾. ﴿ أَمْ ﴾، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية، واستفهام الإنكار معًا، والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي :
والمعنى : بل ﴿ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾، أي : لا تعتقد ذلك ولا تظنّه، فإنهم لا يسمعون الحقّ ولا يعقلونه، أي : لا يدركونه بعقولهم :﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ ﴾، أي : ما هم إلا كالأنعام، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق وإدراكه، ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ من الأنعام، أي : أبعد عن فهم الحقّ وإدراكه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا أضلّ من الأنعام ؟
قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرّها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربّهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتّقون العقاب الذي هو أشدّ المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، اه منه.
وإذا علمت ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم أن اللَّه بيّنه في غير الموضع، كقوله تعالى في سورة «الأعراف » :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسمعونَ بها أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أضلُّ أولئك هُمُ المفلحونَ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ]، وقوله تعالى في «البقرة » :﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧١ ].
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي جعل لخلقه الليل لباسًا، والنوم سباتًا، وجعل لهم النهار نشورًا، أمّا جعله لهم اللّيل لباسًا، فالظاهر أنه لما جعل الليل يغطّي جميع من في الأرض بظلامه صار لباسًا لهم، يسترهم كما يستر اللباس عورة صاحبه، وربما انتفعوا بلباس اللّيل كهروب الأسير المسلم من الكفّار في ظلام الليل، واستتاره به حتى ينجو منهم، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بسبب لباس الليل ؛ كما قال أبو الطيّب المتنبّي :
وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم وزارك فيه ذو الدلال المحجب
وأمّا جعله لهم النوم سباتًا، فأكثر المفسّرين على أن المراد بالسبات : الراحة، من تعب العمل بالنهار ؛ لأن النوم يقطع العمل النهاري، فينقطع به التعب، وتحصل الاستراحة، كما هو معروف.
وقال الجوهري في «صحاحه » : السبات النوم وأصله الراحة، ومنه قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً ﴾ [ النبأ : ٩ ]، وقال الزمخشري في «الكشاف » : والسبات : الموت، والمسبوت : الميّت ؛ لأنه مقطوع الحياة، وهذا كقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ].
فإن قلت : هل لا فسّرته بالراحة ؟
قلت : النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد، وهو مرنق، اه محل الغرض منه.
وإيضاح كلامه : أن النشور هو الحياة بعد الموت كما تقدم إيضاحه. وعليه فقوله :﴿ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ﴾، أي : حياة بعد الموت، وعليه فالموت هو المعبّر عنه بالسبات في قوله :﴿ وَالنَّوْمَ سُبَاتاً ﴾، وإطلاق الموت على النوم معروف في القرآن العظيم ؛ كقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ فيه دليل على ما ذكره الزمخشري ؛ لأن كلاًّ من البعث والنشور يطلق على الحياة بعد الموت ؛ وكقوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسمّى ﴾ [ الزمر : ٤٢ ]، وقال الجوهري في «صحاحه » : والمسبوت الميّت والمغشى عليه، اه.
والذين قالوا : إن السبات في الآية الراحة بسبب النوم من تعب العمل بالنهار، قالوا : إن معنى قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ﴾، أنهم ينشرون فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسبابهم. والظاهر أن هذا التفسير فيه حذف مضاف، أو هو من النعت بالمصدر، وهذا التفسير يدلّ عليه قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ﴾، وقوله تعالى في «القصص » :﴿ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ القصص : ٧٣ ]، أي : لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار في السعي للمعاش.
وإذا علمت هذا، فاعلم أن ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في مواضع أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ﴾ بالنبأ : ٩-١١ ]، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ القصص : ٧١-٧٣ ].
وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] الآية.
وقد أوضحنا هذا في الكلام على هذه الآية.
وكقوله تعالى :﴿ وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [ الليل : ١-٢ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [ الشمس : ٣-٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الآيات المذكورة بيان أن الليل والنهار آيتان من آياته، ونعمتان من نعمه جلَّ وعلا.
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ﴾.
قد قدّمنا الآية الموضحة له في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ * بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ]، على قراءة من قرأ ﴿ بَشَرًا ﴾ بالباء.
وآية «الأعراف »، وآية «الفرقان » المذكورتان تدلاّن على أن المطر رحمة من اللَّه لخلقه.
وقد بيَّن ذلك في مواضع أُخر ؛ كقوله تعالى :﴿ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [ الروم : ٥٠ ]، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] الآية.
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾.
التحقيق : أن الضمير في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾، راجع إلى ماء المطر المذكور في قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٧ ]، كما روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة وغير واحد، خلافًا لمن قال : إن الضمير المذكور راجع إلى القرآن، كما روي عن عطاء الخراساني وصدر به القرطبي، وصدر الزمخشري بما يقرب منه.
وإذا علمت أن التحقيق أن الضمير في :﴿ صَرَّفْنَاهُ ﴾، عائد إلى ماء المطر.
فاعلم أن المعنى : ولقد صرفنا ماء المطر بين الناس فأنزلنا مطرًا كثيرًا في بعض السنين على بعض البلاد، ومنعنا المطر في بعض السنين عن بعض البلاد، فيكثر الخصب في بعضها، والجدب في بعضها الآخر، وقوله :﴿ لّيَذْكُرُواْ ﴾، أي : صرفناه بينهم لأجل أن يتذكّروا، أي : يتذكّر الذين أخصبت أرضهم لكثرة المطر نعمة اللَّه عليهم، فيشكروا له، ويتذكّر الذين أجدبت أرضهم ما نزل بهم من البلاء، فيبادروا بالتوبة إلى اللَّه جلَّ وعلا ليرحمهم ويسقيهم، وقوله :﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾، أي : كفرًا لنعمة من أنزل عليهم المطر، وذلك بقولهم : مطرنا بنوء كذا.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، أشار له جلّ وعلا في سورة «الواقعة »، في قوله تعالى :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٢ ]، فقوله :﴿ رَزَقَكُمُ ﴾، أي : المطر ؛ كما قال تعالى :﴿ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السَّمَاء رِزْقاً ﴾ [ غافر : ١٣ ]، وقوله :﴿ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ﴾، أي : بقولكم : مطرنا بنوء كذا، ويزيد هذا إيضاحًا الحديث الثابت في صحيح مسلم، وقد قدّمناه بسنده ومتنه مستوفى، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومًا على أثر سماء أصابتهم من الليل :«أتدرون ماذا قال ربكم » ؟ قالوا : اللَّه ورسوله أعلم، قال :«قال : أصبح عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال : مطرنا بفضل اللَّه ورحمته، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأمّا من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ».
وقد قدّمنا أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾، يدخل فيه من قال : مطرنا بنوء كذا. ومن قال : مطرنا بالبخار، يعني أن البحر يتصاعد منه بخار الماء، ثم يتجمّع ثم ينزل على الأرض بمقتضى الطبيعة لا بفعل فاعل، وأن المطر منه ؛ كما تقدّم إيضاحه فسبحانه وتعالى عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً ﴾.
المعنى : لو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة، وبعثنا في كل قرية نذيرًا يتولّى مشقّة إنذارها عنك، أي : ولكننا اصطفيناك، وخصّصناك بعموم الرسالة لجميع الناس تعظيمًا لشأنك، ورفعًا من منزلتك، فقابل ذلك بالاجتهاد والتشدّد التامّ في إبلاغ الرسالة، و ﴿ لاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ ﴾.
وما دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من اصطفائه صلى الله عليه وسلم بالرسالة لجميع الناس، جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]، وقوله :﴿ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا القرآن لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وقوله :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ] الآية.
وقد قدّمنا إيضاح هذا في أوّل هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ]،
وقوله :﴿ فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾، ذكره أيضًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [ الأحزاب : ٤٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [ الكهف : ٢٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ [ القلم : ١٠ ].
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾، أي : بالقرآن، كما روي عن ابن عباس.
والجهاد الكبير المذكور في هذه الآية هو المصحوب بالغلظة عليهم ؛ كما قال تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ [ التوبة : ١٢٣ ] الآية، وقال تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾، من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطيع الكافرين، ولكنه يأمر وينهى ليشرّع لأُمّته على لسانه، كما أوضحناه في سورة «بني إسرائيل ».
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾.
اعلم أن لفظة :﴿ مَرَجَ ﴾، تطلق في اللغة إطلاقين :
الأول : مرج بمعنى : أرسل وخلى، من قولهم : مرج دابّته إذا أرسلها إلى المرج، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب ؛ كما قال حسان بن ثابت رضي اللَّه عنه :
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
وعلى هذا، فالمعنى : أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر.
والإطلاق الثاني : مرج بمعنى : خلط، ومنه قوله تعالى :﴿ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾ [ ق : ٥ ]، أي : مختلط، فعلى القول الأول : فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا، والماء الملح في جميعها.
وقوله :﴿ هَدّاً عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾، يعني : به ماء الآبار، والأنهار والعيون في أقطار الدنيا.
وقوله :﴿ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾، أي : البحر الملح، كالبحر المحيط وغيره من البحار التي هي ملح أُجاج، وعلى هذا التفسير فلا إشكال.
وأمّا على القول الثاني بأن ﴿ مَرَجَ ﴾ بمعنى خلط، فالمعنى : أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد، ولا يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون بينهما حاجز من قدرة اللَّه تعالى، وهذا محقّق الوجود في بعض البلاد، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سان لويس، وقد زرت مدينة سان لويس عام ستّ وستّين وثلاثمائة وألف هجرية، واغتسلت مرة في نهر السنغال، ومرة في المحيط، ولم آت محل اختلاطهما، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقاة أنه جاء إلى محل اختلاطهما، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبًا وفراتًا، وبالأخرى ملحًا أُجاجًا، والجميع في مجرى واحد، لا يختلط أحدهما بالآخر، فسبحانه جلَّ وعلا ما أعظمه، وما أكمل قدرته.
وهذا الذي ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية، جاء موضحًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى في سورة «فاطر » :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾[ فاطر : ١٢ ]، وقوله تعالى :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٩-٢٠ ]، أي : لا يبغي أحدهما على الآخر فيمتزج به، وهذا البرزخ الفاصل بين البحرين المذكور في سورة «الفرقان » و سورة «الرحمان »، قد بيَّن تعالى في سورة «النمل » أنه حاجز حجز به بينهما، وذلك في قوله جلَّ وعلا :﴿ أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النمل : ٦١ ]، وهذا الحاجز هو اليبس من الأرض الفاصل بين الماء العذب، والماء الملح على التفسير الأَوَّل.
وأمّا على التفسير الثاني : فهو حاجز من قدرة اللَّه غير مرئي للبشر، وأكّد شدّة حجزه بينهما بقوله هنا :﴿ وَحِجْراً مَّحْجُوراً ﴾، والظاهر أن قوله هنا :﴿ حِجْراً ﴾، أي : منعًا وحرامًا قدريًّا، وأن ﴿ مَّحْجُوراً ﴾ توكيد له، أي : منعًا شديدًا للاختلاط بينهما، وقوله :﴿ هَذَا عَذْبٌ ﴾، صفة مشبّهة من قولهم : عذب الماء بالضم فهو عذب. وقوله :﴿ فُرَاتٌ ﴾ صفة مشبّهة أيضًا، من فرت الماء بالضم، فهو فرات، إذا كان شديد العذوبة، وقوله :﴿ وَهَذَا مِلْحٌ ﴾، صفة مشبهة أيضًا من قولهم : ملح الماء بالضم والفتح، فهو ملح.
قال الجوهري في «صحاحه » : ولا يقال مالح إلا في لغة ردية، اه.
وقد أجاز ذلك بعضهم، واستدلّ له بقول القائل :
ولو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبًا
وقوله :﴿ أُجَاجٌ ﴾، صفة مشبهة أيضًا، من قولهم : أجّ الماء يؤجّ أُجوجًا فهو أجاج، أي : ملح مر، فالوصف بكونه أجاجًا يدلّ على زيادة المرارة على كونه ملحًا، والعلم عند اللَّه تعالى.
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾.
قال الزمخشري في «الكشاف »، في تفسير هذه الآية الكريمة : فقسم البشر قسمين، ذوي نسب، أي : ذكورًا ينسب إليهم، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان، وذوات صهر، أي : إناثًا يطاهر بهنّ ؛ كقوله :﴿ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنثَى ﴾ [ القيامة : ٣٩ ]، ﴿ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً ﴾، حيث خلق من النطفة الواحدة بشرًا نوعين ذكر وأُنثى، انتهى منه.
وهذا التفسير الذي فسّر به الآية، يدلّ له ما استدلّ عليه به، وهو قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنثَى ﴾ [ القيامة : ٣٧-٣٩ ]، وهو دليل على أن آية «الفرقان » هذه بيّنتها آية «القيامة » المذكورة، وفي هذه الآية الكريمة أقوال أُخر غير ما ذكره الزمخشري.
منها ما ذكر ابن كثير، قال :﴿ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ﴾، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصهر صهرًا، وانظر بقية الأقوال في الآية في تفسير القرطبي و «الدرّ المنثور » للسيوطي.
مسألة
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن بنت الرجل من الزنى، لا يحرّم عليه نكاحها. قال ابن العربي المالكي في هذه الآية : والنسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأُنثى، على وجه الشرع، فإن كان بمعصية كان خلقًا مطلقًا، ولم يكن نسبًا محقّقًا، ولذلك لم يدخل تحت قوله :﴿ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٣ ]، بنته من الزنى ؛ لأنها ليست ببنت له في أصحّ القولين لعلمائنا، وأصحّ القولين في الدين، وإذا لم يكن نسب شرعًا فلا صهر شرعًا، فلا يحرم الزنى بنت أُم، ولا أُمّ بنت، وما يحرم من الحلال، لا يحرم من الحرام ؛ لأن اللَّه امتنّ بالنسب، والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلّق الأحكام في الحلّ والحرمة عليهما، فلا يلحق الباطل بهما، ولا يساويهما، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه.
وقال القرطبي : اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى، أو أخته، أو بنت ابنه من زنى فحرّم ذلك قوم منهم : ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون، منهم : عبد الملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في «النساء » مجودًا، انتهى منه.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه وغفر له : الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف، وأرجح القولين دليلاً فيما يظهر أن الزنى لا يحرم به حلال، فبنته من الزنى ليست بنتًا له شرعًا، وقد أجمع أهل العلم أنها لا تدخل في قوله تعالى :﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنْثَيَيْنِ ﴾ [ النساء : ١١ ]، فالإجماع على أنها لا ترث، ولا تدخل في آيات المواريث، دليل صريح على أنها أجنبية منه، وليست بنتا شرعًا، ولكن الذي يظهر لنا أنه لا ينبغي له أن يتزوّجها بحال، وذلك لأمرين :
الأول : أن كونها مخلوقة من مائه، يجعلها شبيهة شبهًا صوريًّا بابنته شرعًا، وهذا الشبه القوي بينهما ينبغي أن يزعه عن تزويجها.
الأمر الثاني : أنه لا ينبغي له أن يتلذّذ بشيء سبب وجوده معصيته لخالقه جلَّ وعلا، فالندم على فعل الذنب الذي هو ركن من أركان التوبة، لا يلائم التلذّذ بما هو ناشئ عن نفس الذنب، وما ذكره عن الشافعي من أنه يقول : إن البنت من الزنى لا تحرم، هو مراد الزمخشري بقوله :
وإن شافعيًا قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
تنبيه
اعلم أن ما ذكره صاحب «الدرّ المنثور » عن قتادة مما يقتضي أنه استنبط من قوله تعالى في هذه الآية :﴿ فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ﴾، أن الصهر كالنسب في التحريم، وأن كل واحد منهما تحرم به سبع نساء لم يظهر لي وجهه، ومما يزيده عدم ظهور ضعف دلالة الاقتران عند أهل الأصول ؛ كما تقدّم إيضاحه مرارًا، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ ﴾.
تقدم إيضاحه في سورة «الحج »، وغيرها.
قوله تعالى :﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً ﴾[ ٥٥ ].
الظهير في اللغة : المعين، ومنه قول تعالى :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [ التحريم : ٤ ]، وقوله تعالى :﴿ قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [ القصص : ١٧ ].
ومعنى قوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً ﴾، على أظهر الأقوال : وكان الكافر معينًا للشيطان، وحزبه من الكفرة على عداوة اللَّه ورسله، فالكافر من حزب الشيطان يقاتل في سبيله أولياء اللَّه، الذين يقاتلون في سبيل اللَّه، فالكافر يعين الشيطان وحزبه في سعيهم ؛ لأن تكون كلمة اللَّه ليست هي العليا، وهذا المعنى دلّت عليه آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ﴾ [ النساء : ٧٦ ] الآية، ومعلوم أن الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، المقاتلين في سبيل اللَّه، أنه على ربّه ظهير.
وقوله تعالى :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ ﴾ [ يس : ٧٤-٧٥ ]، على قول من قال : إن الجند المحضرون هم الكفار، يقاتلون عن آلهتهم ويدافعون عنها، ومن قاتل عن الأصنام مدافعًا عن عبادتها، فهو على ربّه ظهير، وكونه ظهيرًا على ربّه، أي : معينًا للشيطان، وحزبه على عداوة اللَّه ورسله ؛ ككونه عدوًّا له المذكور في قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾[ البقرة : ٩٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [ فصلت : ١٩ ]، ومعلوم بالضرورة أن جميع الخلق لو تعاونوا على عداوة اللَّه لا يمكن أن يضرّوه بشيء، وإنما يضرّون بذلك أنفسهم :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ﴾ [ فاطر : ١٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾.
قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أوّل سورة «الأعراف »، وأوّل سورة «الكهف ».
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «هود »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَارِهُونَ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ].
قوله تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة لمثله في سورة «الفاتحة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [ الفاتحة : ٥ ].
قوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ﴾[ ٥٨ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا ﴾ [ الإسراء : ١٧ ].
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾.
قد قدّمنا الآية التي فيها تفصيل ذلك في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]. قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ﴾ [ ٥٩ ].
قد قدّمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة «الأعراف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قيل لهم :﴿ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ ﴾، أي : قال لهم ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون، تجاهلوا الرحمان، وقالوا :﴿ وَمَا الرَّحْمَنُ ﴾، وأنكروا السجود له تعالى، وزادهم ذلك نفورًا عن الإيمان والسجود للرحمن، وما ذكره هنا من أنهم أمروا بالسجود له وحده جلَّ وعلا مذكورًا في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ].
وقوله تعالى :﴿ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَاعْبُدُواْ ﴾ [ النجم : ٦٢ ]، وقد وبّخهم تعالى على عدم امتثال ذلك في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا قُرِئ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ ﴾ [ الانشقاق : ٢١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤٨ ]، وتجاهلهم للرحمن هنا أجابهم عنه تعالى بقوله :﴿ الرَّحْمَانُ * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [ الرحمن : ١-٤ ].
وقوله تعالى :﴿ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ]، وقد قدّمنا طرفًا من هذا في الكلام على هذه الآية ؛ وقد قدّمنا أيضًا أنّهم يعلمون أن الرحمان هو اللَّه، وأن تجاهلهم له تجاهل عارف، وأدلّة ذلك. وقوله هنا :﴿ وَزَادَهُمْ نُفُوراً ﴾، جاء معناه في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هَذَا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴾ [ الإسراء : ٤١ ].
وقوله تعالى :﴿ بَل لَّجُّواْ في عُتُوّ وَنُفُورٍ ﴾ [ الملك : ٢١ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾.
قد قدّمنا كلام أهل العلم في معنى ﴿ تَبَارَكَ ﴾، في أول هذه السورة الكريمة.
والبروج في اللغة : القصور العالية، ومنه قوله تعالى :﴿ وَلَوْ كُنتُمْ في بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [ النساء : ٧٨ ].
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية، فقال بعضهم : هي الكواكب العظام. قال ابن كثير : وهو قول مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، والحسن، وقتادة، ثم قال : وقيل هي قصور في السماء للحرس. ويروى هذا عن عليّ، وابن عباس، ومحمّد بن كعب، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وهو رواية عن أبي صالح أيضًا، والقول الأوّل أظهر، اللَّهمّ إلاّ أن تكون الكواكب العظام، هي قصور للحرس فيجتمع القولان ؛ كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ [ تبارك : ٥ ]، اه. محل الغرض من كلام ابن كثير.
وقال الزمخشري في «الكشاف » : البروج منازل الكواكب السبعة السيّارة : الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، سمّيت البروج التي هي القصور العالية ؛ لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها، واشتقاق البرج من التبرج لظهوره، اه منه.
وما ذكره جلَّ وعلا هنا من أنه جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وهو الشمس، وقمرًا منيرًا، بيّنه في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [ الحجر : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾ [ البروج : ١ ]، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً ﴾ [ النبأ : ١٣ ]، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ [ نوح : ١٥-١٦ ]، وقرأ هذا الحرف عامّة السبعة غير حمزة والكسائي :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً ﴾، بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف على الإفراد، وقرأه حمزة والكسائي :﴿ سُرُجًا ﴾ بضم السين، والراء جمع سراج، فعلى قراءة الجمهور بإفراد السراج، فالمراد به الشمس، بدليل قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجمع، فالمراد بالسرج : الشمس والكواكب العظام.
وقد قدّمنا في سورة «الحجر »، أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنيّة لا السماء التي هي مطلق ما علاك ؛ لأن اللَّه بيَّن في سورة «الحجر »، أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة، والمحفوظة هي المبنيّة في قوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ]، وقوله :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ [ النبأ : ١٢ ]، وليست مطلق ما علاك، والبيان المذكور في سورة «الحجر » في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا ﴾ [ الحجر : ١٦-١٧ ] الآية. فآية «الحجر » هذه دالَّة على أن ذات البروج هي المبنيّة المحفوظة، لا مطلق ما علاك.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أنه جلَّ وعلا في آية «الفرقان » هذه، بيَّن أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج ؛ لأنه قال هنا :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾، وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك، وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : يوجد في كلام بعض السلف، أن القمر في فضاء بعيد من السماء، وأن علم الهيئة دلّ على ذلك، وأن الأرصاد الحديثة بيّنت ذلك.
قلنا : ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدى القرآن العظيم ؛ لأن الصحابة رضي اللَّه عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له : يا نبيّ اللَّه : ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرًا ؟ نزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر، وترك ما لا فائدة فيه، وذلك في قوله تعالى :﴿ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ]، وهذا الباب الذي أرشد القرآن العظيم إلى سدّه لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر، والإلحاد وتكذيب اللَّه ورسوله من غير فائدة دنيوية، والذي أرشد اللَّه إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه وعجائبه في السماوات والأرض، ليستدلّ بذلك على كمال قدرته تعالى، واستحقاقه للعبادة وحده، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار.
وعلى كل حال، فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرآن العظيم إلا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محلّه.
ولا شكّ أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم، وضعفهم، وعجزهم، وذلّهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جلَّ وعلا.
وقد قدّمنا في سورة «الحجر »، أن ذلك يدلّ عليه قوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ في الأسْبَابُ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحَزَابِ ﴾ [ ص : ١٠-١١ ].
فإن قيل : الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال على أسلوب عربي معروف، يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت، وهو عود الضمير إلى اللفظ وحده، دون المعنى.
وإيضاحه أن يقال في قوله :﴿ جَعَلَ في السَّمَاء بُرُوجاً ﴾، هي السماء المحفوظة، ولكن الضمير في قوله :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾، راجع إلى مطلق لفظ السماء الصادق بمطلق ما علاك في اللغة، وهذا أسلوب عربي معروف وهو المعبّر عنه عند علماء العربية، بمسألة : عندي درهم ونصفه، أي : نصف درهم آخر، ومنه قوله تعالى :﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ في كِتَابٍ ﴾ [ فاطر : ١١ ]، أي : ولا ينقص من عمر معمر آخر.
قلنا : نعم هذا محتمل، ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه، والعدول عن ظاهر القرآن العظيم لا يجوز إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وظاهر القرآن أولى بالاتّباع والتصديق من أقوال الكفرة ومقلّديهم، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٧ ].
﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ ٦٣ ].
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ﴾ [ مريم : ٤٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ﴾.
ما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة، من أن عباده الصالحين، يبيتون لربّهم سجّدًا وقيامًا، يعبدون اللَّه ويصلّون له، بيّنه في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى :﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ * رَّحْمَةِ رَبّهِ ﴾ [ الزمر : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ [ السجدة : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٦-١٨ ]، وقوله تعالى :﴿ يُبَيّتُونَ ﴾، قال الزجاج : بات الرجل يبيت، إذا أدركه الليل، نام أو لم ينم، قال زهير :
فبتنا قيامًا عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله
انتهى بواسطة نقل القرطبي.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾.
الأظهر أن معنى قوله :﴿ كَانَ غَرَاماً ﴾، أي : كان لازمًا دائمًا غير مفارق، ومنه سمى الغريم لملازمته، ويقال : فلان مغرم بكذا، أي : لازم له، مولع به.
وهذا المعنى دلّت عليه آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٧ ] و [ التوبة : ٦٨ ]، وقوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٥ ]، وقوله :﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾ [ الفرقان : ٧٧ ]، وقوله تعالى :﴿ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ﴾ [ النبأ : ٣٠ ]، وقوله :﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ]، و[ آل عمران : ٨٨ ] وقوله :﴿ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [ فاطر : ٣٦ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ ﴾ [ النساء : ٥٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال الزجاج : الغرام أشدّ العذاب. وقال ابن زيد : الغرام الشرّ. وقال أبو عبيدة : الهلاك، قاله القرطبي. وقول الأعشى :
إن يعاقب يكن غرامًا وإن يع ط جزيلاً فإنه لا يبال
يعني : يكن عذابه دائمًا لازمًا، وكذلك قول بشر بن أبي حازم :
ويوم النسار ويوم الجفا ركانًا عذابًا وكان غرامًا
وذلك هو الأظهر أيضًا في قول الآخر :
وما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾.
قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر :﴿ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ بضمّ الياء المثناة التحتية وكسر التاء مضارع أقتر الرباعي، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو :﴿ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ بفتح المثاة التحتية، وكسر المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كضرب، وقرأه عاصم وحمزة، والكسائي، ﴿ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ بفتح المثناة التحتية، وضمّ المثناة الفوقية مضارع قتر الثلاثي كنصر، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحد، وهو التضييق المخل بسد الخلّة اللازم، والإسراف في قوله تعالى :﴿ لَمْ يُسْرِفُواْ ﴾، مجاوزة الحدّ في النفقة.
واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة، أن اللَّه مدح عباده الصالحين بتوسّطهم في إنفاقهم، فلا يجاوزون الحدّ بالإسراف في الإنفاق، ولا يقترون، أي : لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم.
وقال بعض أهل العلم : الإسراف في الآية : الإنفاق في الحرام والباطل، والإقتار منع الحق الواجب، وهذا المعنى وإن كان حقًّا فالأظهر في الآية هو القول الأول.
قال ابن كثير رحمه اللَّه :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾، أي : ليسوا مبذرين في إنفاقهم، فيصرفوا فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، انتهى محل الغرض منه.
وقوله تعالى :﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾، أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر ﴿ قَوَاماً ﴾ أي : عدلاً وسطًا سالمًا من عيب الإسراف والقتر.
وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي، قال :﴿ قَوَاماً ﴾ خبر ﴿ كَانَ ﴾، واسمها مقدّر فيها، أي : كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قوامًا، ثم قال : قاله الفراء، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي ؛ كقول من قال : إن لفظة ﴿ بَيْنَ ﴾ هي اسم ﴿ كَانَ ﴾، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني، وقول من قال : إن ﴿ بَيْنَ ﴾ هي خبر ﴿ كَانَ ﴾، و ﴿ قَوَاماً ﴾ حال مؤكدة له، ومن قال إنهما خبران كل ذلك ليس بوجيه عندي، والأظهر الأول. والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم، وإنفاقهم المال في أوجه الخير.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع ؛ فمن ذلك أن اللَّه أوصى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾[ الإسراء : ٢٩ ] الآية، فقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ﴾، أي : ممسكة عن الإنفاق إمساكًا كليًّا، يؤدي معنى قوله هنا :﴿ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾. وقوله :﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾، يؤدي معنى قوله هنا :﴿ لَمْ يُسْرِفُواْ ﴾، وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله :﴿ وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٢٦ ]، وقوله تعالى :﴿ يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ]، على أصحّ التفسيرين.
وقد أوضحنا الآيات الدالَّة على هذا المعنى في أوّل سورة «البقرة »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٣ ].
مسألة
هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ﴾ الآية، والآيات التي ذكرناها معها، قد بيّنت أحد ركني ما يسمّى الآن بالاقتصاد.
وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأوّل إلى أصلين، لا ثالث لهما.
الأوّل منهما : اكتساب المال.
والثاني منهما : صرفه في مصارفه، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرًا في أوجه اكتساب المال، إلاّ أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرًا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه، فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه، والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبّهتهم على الاقتصاد في الصرف.
وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلّها راجعة إلى الأصلين المذكورين، وأن الآيات المذكورة دلّت على أحدهما، فاعلم أن الآخر منهما وهو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أُخر دلّت على فتح اللَّه الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة، كالتجارات وغيرها ؛ كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ]، وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ في الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، وقوله تعالى :﴿ عَلِمَ أَن سيكونُ منكم مرضى وآخرون في الأرض يبتغون من فضل الله ﴾ [ المزمل : ٢٠ ]، والمراد بفضل اللَّه في الآيات المذكورة ربح التجارة ؛ وكقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ]، وقد قدّمنا في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ [ الكهف : ١٩ ] الآية. أنواع الشركات وأسماءها، وبيّنا ما يجوز منها، وما لا يجوز عند الأئمّة الأربعة وأوضحنا ما اتفقوا على منعه، وما اتّفقوا على جوازه، وما اختلفوا فيه، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها اللَّه لاكتساب المال، بالأوجه الشرعية اللائقة.
وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين، هما : اكتساب المال، وصرفه في مصارفه، فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين، لا بدّ له من أمرين ضروريين له :
الأوّل منهما : معرفة حكم اللَّه فيه، لأن اللَّه جلَّ وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال، بل أباح بعض الطرق، وحرم بعضها ؛ كما قال تعالى :﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَا ﴾ بالبقرة : ٢٧٥ ]، ولم يبح اللَّه جلَّ وعلا صرف المال في كل شيء، بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه ؛ كما قال تعالى :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٦١ ] الآية. وقال تعالى في الصرف الحرام :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾ [ الأنفال : ٣٦ ] الآية، فمعرفة حكم اللَّه في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بدّ منه، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام، والمال المكتسب من وجه حرام، لا خير فيه البتّة، وقد يصرف المال في وجه حرام، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه.
الأمر الثاني : هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال، فقد يعلم الإنسان مثلاً أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعًا، ولكنه لا يعلم أوجه التصرّف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال، من ذلك الوجه الشرعيّ، وكم من متصرّف يريد الربح، فيعود عليه تصرّفه بالخسران، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح. وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح، وفيه مصلحة، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة، فإن جواز الصرف فيها معلوم، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة، لا يعلمه كل الناس.
وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة :
الأول : معرفة حكم اللَّه في الوجه الذي يكتسب به المال، واجتناب الاكتساب به، إن كان محرّمًا شرعًا.
الثاني : حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض، وما لا يبيحه.
الثالث : معرفة حكم اللَّه في الأوجه التي يصرف فيها المال، واجتناب المحرم منها.
الرابع : حسن النظر في أوجه الصرف، واجتناب ما لا يفيد منها، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلاً بمصلحته، وكان مرضيًا للَّه جلّ وعلا، ومن أخلّ بواحد من هذه الأُسس الأربعة كان بخلاف ذلك ؛ لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها اللَّه جلَّ وعلا فلا خير في ماله، ولا بركة ؛ كما قال تعالى :﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ]، وقال تعالى :﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ] الآية.
وقد تكلّمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة «البقرة »، وتكلّمنا على أنواع الشركات وأسمائها، وبيّنا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ [ الكهف : ١٩ ] الآية.
ولا شكّ أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون كفيلاً بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعًا ؛ لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئًا منها يجوز شرعًا، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية، أو على غرر، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في أقطار الدنيا، فإنك لا تكاد تجد شيئًا منها سالمًا من الغرر، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن من يدّعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك، ولأنه لا دليل معه بل الأدلّة الصحيحة على خلاف ما يقول، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ﴾.
أي : إذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كرامًا مكرّمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم، وهو كل كلام لا خير فيه، كما تقدّم.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، أوضحه جلَّ وعلا بقوله :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، وقد قدّمنا الآيات الدالَّة على معاملة عباد الرحمان للجاهلين، في سورة «مريم »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ﴾ [ مريم : ٤٧ ].
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ﴾.
قال الزمخشري : لم يخرّوا عليها ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى ؛ كما تقول : لا يلقاني زيد مسلِّمًا، وهو نفي للسلام لا للقاء.
والمعنى : أنهم إذا ذكِّروا به أكّبوا عليها، حرصًا على استماعها وأقبلوا على المذكِّر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية، انتهى محل الغرض منه.
ولا يخفى أن لهذه الآية الكريمة دلالتين : دلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم، فقد دلَّت بمنطوقها على أن من صفات عباد الرحمان، أنهم إذا ذكِّروا بآيات ربّهم لم يخرّوا عليها، لم يكبّوا عليها في حال كونهم صمًّا عن سماع ما فيها من الحقّ، وعميانًا عن إبصاره، بل هم يكبّون عليها سامعين ما فيها من الحقّ مبصرين له.
وهذا المعنى دلّت عليه آيات أُخر من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى :﴿ وإذا تُليت عليهم آياتنا زادتهم إيمانا ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الآية، ومعلوم أن من تليت عليه آيات هذا القرآن، فزادته إيمانًا أنه لم يخرّ عليها أصمّ أعمى ؛ وكقوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَستَبشِرونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٤ ]، وقوله تعالى :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ﴾ [ الزمر : ٢٣ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دلَّت الآية المذكورة أيضًا بمفهومها أن الكفرة المخالفين، لعباد الرحمان الموصوفين في هذه الآيات : إذا ذكروا بآيات ربهم خرّوا عليها صمًّا وعميانًا، أي : لا يسمعون ما فيها من الحق، ولا يبصرونه، حتى كأنهم لم يسمعوها أصلاً.
وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة بمفهومها، جاء موضحًا في آيات أُخر من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى في سورة «لقمان » :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ لقمان : ٧ ]، وقوله تعالى في «الجاثية » :﴿ وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [ الجاثية : ٧-٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذينَ في قلوبهم مرض فزادتهم رِجسا إلى رجسهم ﴾ [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
والظاهر : أن معنى خرور الكفار على الآيات، في حال كونهم صمًّا وعميانًا، هو إكبابهم على إنكارها والتكذيب بها، خلافًا لما ذكره الزمخشري في «الكشاف »، والصمّ في الآية جمع أصم، والعميان جمع أعمى، والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ ﴾.
الظاهر أن المراد بالغرفة في هذه الآية الكريمة جنسها الصادق بغرف كثيرة ؛ كما يدلّ عليه قوله تعالى :﴿ وَهُمْ في الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٧ ]، وقوله تعالى :﴿ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ﴾ [ الزمر : ٢٠ ] الآية.
وقد أوضحنا هذا في أوّل سورة «الحجّ »، وفي غيرها.
قوله تعالى :﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً ﴾ [ ٧٥ ].
وقد قدَّمنا الآيات الموضحة له في سورة «يونس »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ﴾ [ يونس : ١٠ ].
قوله تعالى :﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً ﴾.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة «الكهف »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ [ الكهف : ٣١ ].
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾.
العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، يقولون : ما عبأت بفلان، أي : ما باليت به، ولا اكترثت به، أي : ما كان له عندي وزن، ولا قدر يستوجب الاكتراث والمبالاة به، وأصله من العبء وهو الثقل، ومنه قول أبي زيد يصف أسدًا :
كان بنحره وبمنكبيه *** عبيرًا بات يعبؤه عروس
وقوله : يعبؤه، أي : يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به واكتراثه به.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن كلام أهل التفسير في هذه الآية الكريمة يدور على أربعة أقوال.
واعلم أوّلاً أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله :﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، هل هو مضاف إلى فاعله، أو إلى مفعوله، وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية داعون، لا مدعوون، أي :﴿ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، أي : عبادتكم له. وأمّا على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية مدعوون لا داعون، أي : ما يعبؤ بكم لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده، وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصّلاة والسّلام.
واعلم أيضًا أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنيّة على كون المصدر فيها مضافًا إلى فاعله. والرابع : مبني على كونه مضافًا إلى مفعوله.
أمّا الأقوال الثلاثة المبنيّة على كونه مضافًا إلى فاعله.
فالأوّل منها أن المعنى :﴿ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، أي : عبادتكم له وحده جلَّ وعلا، وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين، ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله :﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾ الآية.
والثاني منها : أن المعنى :﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾ أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب، أي : ولو كنتم ترجعون إلى شرككم، إذا كشف الضرّ عنكم.
والثالث : أن المعنى ﴿ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبّى ﴾، أي : ما يصنع بعذابكم، ﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾ معه آلهة أخرى، ولا يخفى بُعد هذا القول، وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.
أمّا القول الرابع المبنى على أن المصدر في الآية، مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر، أي :﴿ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ ﴾ دعاؤه إياكم على ألسنة رسله.
وإذا عرفت هذه الأقوال، فاعلم أن كل واحد منها، قد دلَّ عليه قرآن وسنبيّن هنا إن شاء اللَّه تعالى دليل كل قول منها من القرآن مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها.
أمّا هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله، وأن المعنى :﴿ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ ﴾ دعاؤه إياكم إلى الإيمان به وتوحيده وعبادته على ألسنة رسله، فقد دلّت عليه آيات من كتاب اللَّه ؛ كقوله تعالى في أوّل سورة «هود » :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ]، وقوله تعالى في أوّل سورة «الكهف » :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الكهف : ٧ ]، وقوله في أوّل سورة «الملك » :﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الملك : ٢ ].
فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض، وجميع ما على الأرض، والموت والحياة، هي أن يدعوهم على ألسنة رسله ويبتليهم، أي : أن يختبرهم أيّهم أحسن عملاً.
وهذه الآيات تبيّن معنى قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ].
وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله :﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، أي : دعاؤه إياكم على ألسنة رسله، وابتلاؤكم أيّكم أحسن عملاً، وعلى هذا فلا إشكال في قوله :﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾، أي :﴿ مَا يَعْبَؤُ بِكُمْ لَوْلاَ ﴾ دعاؤه إياكم، أي : وقد دعاكم فكذبتم، وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه، فهو قويّ بدلالة الآيات المذكورة عليه.
وأمّا القول بأن معنى :﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، أي : إخلاصكم الدعاء له أيّها الكفار عند الشدائد والكروب، فقد دلَّت على معناه آيات كثيرة ؛ كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ في الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٦ ]، وقوله تعالى :﴿ جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ﴾ [ يونس : ٢٢ ].
وقد أوضحنا الآيات الدالَّة على هذا المعنى في سورة «بني إسرائيل »، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ في الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] الآية، وهذا القول وإن دلّت عليه آيات كثيرة، فلا يظهر كونه هو معنى آية «الفرقان » هذه.
وأمّا على القول بأن المعنى : ما يصنع بعذابكم، ﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾ معه آلهة أخرى ؛ فقد دلَّ على معناه قوله تعالى :﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [ النساء : ١٤٧ ] الآية.
والقول الأوّل الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلاً، وهو أن المعنى :﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، أي : عبادتكم له وحده، قد دلَّ عليه جميع الآيات الدالَّة على ما يعطيه اللَّه لمن أطاعه، وما أعدّه لمن عصاه، وكثرتها معلومة لا خفاء بها.
واعلم أن لفظة ﴿ مَا ﴾، في قوله :﴿ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى ﴾، قال بعض أهل العلم : هي استفهامية، وقال بعضهم : هي نافية وكلاهما له وجه من النظر.
واعلم أن قول من قال :﴿ لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ﴾، أي : دعاؤكم إياي لأغفر لكم، وأعطيكم ما سألتم، راجع إلى القول الأوّل ؛ لأن دعاء المسألة داخل في العبادة كما هو معلوم. وقوله :﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾، أي : بما جاءكم به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقد قدّمنا في الكلام على قوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٥ ]، أن معنى قوله تعالى :﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾، أي : سوف يكون العذاب ملازمًا لهم غير مفارق، كما تقدّم إيضاحه.
وقال جماعة من أهل العلم : إن المراد بالعذاب اللازم لهم المعبّر عن لزومه لهم، بقوله :﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾، أنه ما وقع من العذاب يوم بدر، لأنهم قتل منهم سبعون وأسر سبعون، والذين قتلوا منهم أصابهم عذاب القتل، واتّصل به عذاب البرزخ والآخرة فهو ملازم لا يفارقهم بحال، وكون اللزام المذكور في هذه الآية : العذاب الواقع يوم بدر. نقله ابن كثير عن عبد اللَّه بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، ومحمّد بن كعب القرظي، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي، وغيرهم، ثم قال : وقال الحسن البصري :﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾، أي : يوم القيامة ولا منافاة بينهما، انتهى من ابن كثير، ونقله صاحب «الدرّ المنثور » عن أكثر المذكورين وغيرهم.
وقال جماعة من أهل العلم : إن يوم بدر ذكره اللَّه تعالى في آيات من كتابه، قالوا هو المراد بقوله تعالى :﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَى ﴾ [ السجدة : ٢١ ]، أي : يوم بدر، ﴿ دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ ﴾ [ السجدة : ٢١ ]، أي : يوم القيامة، وأنه هو المراد بقوله :﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾، وأنه هو المراد بالبطش والانتقام، في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ﴾ [ الدخان : ١٦ ]، وأنه هو الفرقان الفارق بين الحقّ والباطل في قوله تعالى :﴿ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ﴾ [ الأنفال : ٤١ ]، وهو يوم بدر، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ﴾ [ آل عمران : ١٢٣ ] الآية، وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح، عن ابن مسعود، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر :
وقد أتى منوّهًا في الذكر :
لأنه العذاب واللزام *** وأنه البطش والانتقام
وأنه الفرقان بين الكفر *** والحق والنصر سجيس الدهر
ومعنى سجيس الدهر : أي : مدّته.
وأظهر الأقوال في الآية عندي، هو القول بأن المصدر فيها مضاف إلى مفعوله لجريانه على اللغة الفصيحة من غير إشكال ولا تقدير، وممن قال به قتادة. والعلم عند اللَّه تعالى.
تم بحمد الله تفسر سورة الفرقان
Icon