تفسير سورة لقمان

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سورة لقمان مكيةإلا ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ ﴾ الآيتان فمدنيتان. وهي أربع وثلاثون آيةمبتدأ وخبر، سميت بذلك لذكر قصة لقمان فيها. قوله: (إلا) ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ إلخ، هذا أحد أقوال ثلاثة، وقيل مكية كلها، وقيل إلإ ثلاث آيات من قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ إلى ﴿ خَبِيرٌ ﴾ هذا القول الثالث للبيضاوي. قوله: (أي هذه الآيات) أي آيات السورة، وأشير إليها بإشارة البعيد لعلو رتبتها ورفعة قدرها عند الله، وإن كانت قريبة من الأذهان. قوله: (ذي الحكمة) أي المشتمل على الحكمة، وهي العلم النافع، ويصح أن يراد بالحكيم المحكم، أي المتقن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويصح أن يراد ﴿ ٱلْحَكِيمِ ﴾ قائله، حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه، وهو الضمير المجرور، فبانقلابه مرفوعاً استكن في الصفة المشبهة. قوله: (بالرفع) أي لحمزة على أنه خبر لمحذوف قدره بقوله: (هو). قوله: (وفي قراءة العامة) أي وهم السبعة ما عدا حمزة. قوله: (حالاً من الآيات) أي حال كون كل منهما حالاً. قوله: (من معنى الإشارة) أي كأنه قال: أشير إلى تلك الآيات، حال كونها هدى ورحمة. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي يؤدونها بأركانها وآدابها. قوله: ﴿ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾ أي يعطونها لمستحقيها. قوله: ﴿ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ أي يؤمنون بلقاء الله والبعث. قوله: (الفائزون) أي بما أعد لهم من النعميم المقيم.
قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي ﴾ إلخ، شروع في ذكر مقابل الفريق الأول على حكم عادته تعالى في كتابه، والجار والمجرور خبر مقدم، والاسم الموصول مبتدأ مؤخر، واعلم أن من لفظها مفرد، ومعناها جمع، فروعي لفظها في جميع الضمائر الآتية، وروعي معناها في ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾.
قوله: ﴿ لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ ﴾ إما من إضافة الصفة للموصوف، أي الحديث اللهو، أي المشتغل عما يعني، أو الإضافة على معنى من، وإليه يشير المفسر بقوله: (أي ما يلهي عنه). قوله: (بفتح الياء) أي ليستمر على الضلال، وقوله: (وضمها) أي ليوقع غيره في الضلال، فهو ضال مضل، والقراءتان سبعيتان. قوله: (طريق الإسلام) أي الأمور الموصلة للإسلام، فاللهو كل ما يشغل عن عبادة الله، وذكره من الأضاحيك والخرافات والمغاني والمزامير، وغيرها من الأمور الباطلة. قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ حال من فاعل ﴿ يَشْتَرِي ﴾ أي حالة كونه جاهل القلب، وإن كان عليم اللسان. قوله: ﴿ وَيَتَّخِذَهَا ﴾ أي الآيات. قوله: (بالنصب) إلخ، أي والقراءتان سبعيتان. قوله: (مهزوءاً بها) أي لمحاكاته لها بالخرافات. قوله: (أعلمه) أشار بذلك إلى أن المراد بالبشارة مطلق الإعلام بالخبر، وإن لم يكن فيه بشارة، ودفع بذلك ما يقال: إن الإخبار بالعذاب الأليم، ليس بشارة بل هو نذارة، وقوله: (وذكر البشارة) إلخ، جواب آخر، فكان المناسب أن يذكره بأو. قوله: (النضر بن الحرث) أي ابن كلدة كان صديقاً لقريش. قوله: (فيستملحون حديثه) أي يعدونه مليحاً فيصغون له. قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ بيان لحال المؤمنين وبالقرآن، بعد بيان حال الكافرين به. قوله: ﴿ جَنَّاتُ ٱلنَّعِيمِ ﴾ المراد بها جميع الجنان، لا خصوص المسماة بهذا الاسم. قوله: (أي مقدراً خلودهم) أي فهم عند دخولهم يقدرون الخلود، لسماعهم النداء من قبل الله، يا أهل الجنة خلود بلا موت.
قوله: ﴿ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً ﴾ مصدران مؤكدان لمضمون الجملة الأولى، والعامل مختلف، والتقدير وعد الله ذلك وعداً وحقه حقاً. قوله: (الذي لا يغلبه شيء) أي لا يقهره أحد. قوله: ﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ إلخ، هذا دليل على أنه عزيز حكيم، لا يمنعه أحد عن إنجازه وعد ووعيده. قوله: (أي العمد) أشار بذلك إلى أن جملة ﴿ تَرَوْنَهَا ﴾ صفة لعمد. قوله: (جمع عماد) أي كأهب جمع إهاب. قوله: (الإسطوانة) يضم الهمزة وهي السارية. قوله: (وهو صادق) إلخ، أي لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع وهو المراد هنا، ويصح أن يراد الشق الثاني، وهو أن يكون لها عمد لا ترى، وهي قدرة الله تعالى. قوله: ﴿ رَوَاسِيَ ﴾ أي ثوابت. قوله: (جبالاً مرتفعة) قال ابن عباس: هي سبعة عشر جبلاً منها: ق وأبو قبيس والجودي ولبنان وطور سينين. قوله: ﴿ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ قدر المفسر لام التعليل ولا النافية، إشارة إلى أن حكمة تثبيت الأرض بالجبال، عدم تحركها بأهلها. قوله: ﴿ وَبَثَّ فِيهَا ﴾ أي نشر، وقوله: ﴿ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾ زائدة. قوله: (فيه التفات) أي من الغيبة إلى التكلم، زيادة في التبكيت وإلزام الحجة. قوله: ﴿ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ ﴾ أي ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما. قوله: (استفهام إنكار) وتوبيخ وتقريع. قوله: (معلق على العمل) أي في اللفظ، وأما في المحل فهو عامل النصب. قوله: (سد مسد المفعولين) ظاهره أن أروني تنصب ثلاثة مفاعيل، الياء وجُملة الاستفهام التي سدت مسد الثاني والثالث، وهذا غير ما ذكروه من أن أرى إن كان بمعنى أخبر، فإنها تتعدى لمفعولين: الأول مفرد صريح، والثاني جملة الاستفهام، فالمناسب للمفسر أن يقول: سدت مسد الثاني. قوله: (للانتقال) أي من تبكيتهم إلى الإخبار بتقبيح الظالمين عموماً.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ ﴾ اختلف في لقمان، فقيل اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقيل عربي ومنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، واختلف فيه أيضاً، فقيل هو لقمان بن فاغور بن ناخور بن تارخ وهو آزر، فعلى هذا هو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقيل كان ابن أخت أيوب، وقيل كان ابن خالته، يقال إنه عاش ألف سنة حتى أدرك داود، واتفق العلماء على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً، إلا عكرمة والشعبي فقالا بنبوته، وقيل خيِّر بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وروي أنه كان نائماً في وسط النهار، فنودي يا لقمان، هل لك أن نجعلك خليفة في الأرض، فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيرني رب قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم علي فسمعاً وطاعة، فإني أعلم أن الله تعالى، إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني، فقالت الملائكة بصوت لابراهيم: لم يا لقمان؟ قال: إن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاء المظلوم من كل مكان، إن عدل نجا، وإن أخطأ الطريق أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً، خير من أن يكون شريفاً، ومن يختر الدنيا على الآخرة، تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومه فأعطي الحكمة، فانتبه وهو يتكلم بها، ثم نودي بها داود بعده فقبلها، وكان لقمان يؤازر داود لحكمته، وقيل كان خياطاً، وقيل كان راعي غنم، فروي أنه لقيه رجل وهو يتكلم بالحكمة فقال: ألست فلاناً الراعي؟ قال: بلى، قال: فيم بلغت ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما يعنيني. قوله: (منها العمل والديانة) أي فالحكمة هي العلم والعمل، ولا يسمى الرجل حكيماً حتى يجمعها، وقيل الحكمة المعرفة والأمانة، وقيل هي نور في القلب، يدرك به الأشياء كما تدرك بالبصر. قوله: (وحكمة كثيرة) قال وهب: تكلم لقمان باثني عشر ألف باب من الحكمة، أدخلها الناس في كلامهم. قوله: (وقال في ذلك) أي في شأن الاعتذار عن ترك الفتيا. قوله: (وقلنا له أن) ﴿ ٱشْكُرْ ﴾ إلخ، أشار بذلك إلى أن أن زائدة، وجملة ﴿ أَنِ ٱشْكُرْ ﴾ مقول القول، والأنسب (أن) تفسيرية لتقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله: (وما أعطاك من الحكمة) أي فهي نعمة يجب الشكر عليها بصرفها في مصارفها. قوله: ﴿ وَمَن يَشْكُرْ ﴾ إلخ، تعليل للأمر بالشكر. قوله: (محمود في صنعه) أي فهو حقيق بأن يحمد من دون المخلوقات. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ ﴾ أي واسمه ثاران وقيل مشكم وقيل أنعم، قيل كان ابنه وامرأته كافرين، فما زال يعظهما حتى أسلما، قيل وضع لقمان جراباً من خردل إلى جنبه، وجعل يعظ ابنه موعظة موعظة، ويخرج خردلة خردلة، فنفد الخردل فقال: يا بني وعظتك موعظة ولو وعظتها جبلاً لتفطر، فتفطر ابنه ومات. قوله: ﴿ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ يٰبُنَيَّ ﴾ بكسر الياء وفتحها قراءتان سبعيتان. قوله: (اشفاق) أي محبة. قوله: (فرجع إليه) أي إلى دين أبيه وهو الإسلام، وقال أيضاً: يا بني اتخذ تقوى الله تعالى تجارة، يأتك الربح من غير بضاعة، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإن الجنائز تذكرة الآخرة، والعرس يشهيك الدنيا. يا بني لا تكن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار، وأنت نائم على فراشك. يا بني لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة. يا بني لا ترغب في ود الجاهل، فيرى أنك ترضى عمله. يا بني اتق الله ولا تر الناس أنك تخشى، ليكرموك بذلك وقلبك فاجر، يا بني ما ندمت على الصمت قط، فإن الكلام إذا كان من فضة، كان السكوت من ذهب. يا بني اعتزل الشر كما يعتزلك، فإن الشر للشر خلق. يا بني عليك بمجالس العلماء، واستمع كلام الحكماء، فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر، فإن من كذب ذهاب ذهب ماء وجه، ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من موضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، يا بني لا ترسل رسولك جاهلاً، فإن لم تجد حكيماً فكن رسول نفسك. يا بني لا تنكح أمة غيرك، فتورث بنيك حزناً طويلاً. يا بني يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حليم. يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فاجلس معهم، فإنك إن تك عالماً ينفعك علمك، وإن تك غبياً يعلموك، وإن يطلع الله عز وجل عليهم برحمة تصبك معهم. يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر فيه الله عز وجل، فإنك إن تك عالماً لا ينفعك علمك، وإن تك غبياً يزيدوك غباوة، وإن يطلع الله عليهم بعد ذلك بسخط يصبك معهم. يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء. يا بني إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيه ناس كثير، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان بها، وشراعها التوكل على الله، لعلك تنجو. يا بني إني حملت الجندل والحديد، فلم أحمل شيئاً أثقل من جار السوء، وذقت المرارة كلها، فلم أذق أشد من الفقر، يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره. يا بني إنك منذ نزلت إلى الدنيا استدبرتها واستقبلت الآخرة، فدار أنت إليها تسير، أقرب من دار أنت عنها ترحل. يا بني عود لسانك أن يقول: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا ترد. يا بني إياك والدين، فإن ذل النهار وهم الليل. يا بني أرج الله رجاء لا يجرئك على معصيته، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته. إلى غير ذلك من المواعظ المأثورة عنه عليه السلام.
قوله: ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ إلخ، هاتان الآيتان نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص كما تقدم، فهما معترضتان بين كلامي لقمان، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأل في الإنسان للجنس. قوله: (أن يبرهما) أي يحسن إليهما. قوله: (فوهنت) قدر الفعل إشارة إلى أن ﴿ وَهْناً ﴾ مفعول مطلق، والأحسن جعله حالاً من أمة أي ذات وهن. قوله: ﴿ عَلَىٰ وَهْنٍ ﴾ صفة لوهناً أي ضعفاً كائناً على ضعف، والمراد التوالي لا خصوص وهنين بدليل قول المفسر (أي ضعفت للحمل) إلخ. قوله: (أي فطامه) أي ترك رضاعه. قوله: ﴿ فِي عَامَيْنِ ﴾ أي في انقضائهما. قوله: ﴿ أَنِ ٱشْكُرْ لِي ﴾ أن يحتمل أنها مفسرة لجملة ﴿ وَوَصَّيْنَا ﴾ أو مصدرية. قوله: (أي المرجع) أي فأجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته. قوله: (موافقة للواقع) أي فلا مفهوم له، وهو جواب عما يقال: إن الشريك مستحيل على الله تعالى، فربما يتوهم وجود الشريك له به علم.
قوله: ﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ أي أمورها التي لا تتعلق بالدين. قوله: (أي بالمعروف) أشار بذلك إلى أنه منصوب بنزع الخافض. قوله: ﴿ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ قيل إن الخطاب للمكلفين عموماً، ويراد بمن أناب النبي وأصحابه ومن على قدمهم، وقيل الخطاب لسعد بن أبي وقاص، والمراد بمن أناب أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه حين أسلم، أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف فقالوا له: قد صدقت هذا الرجل وآمنت به؟ قال: نعم هو صادق فآمنوا، ثم جاء بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسلموا، فهؤلاء سابقون للإسلام بإرشاد أبي بكر رضي الله عنه. قوله: (فأجازيكم عليه) أي على العمل الحسن والسيء. قوله: (وجملة الوصية) أي وهي قوله: ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ ﴾ إلخ. وقوله: (وما بعدها) أي وهو قوله: (وإن جاهداك) إلخ، وقوله: (اعتراض) أي بين كلامي لقمان. قوله: ﴿ يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ ﴾ إلخ، رجوع لذكر وصايا لقمان لولده، وسبب تلك المقالة أنه قال له ولده: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلمها الله؟ فقال له تلك المقالة وهذا السؤال، ليس عن اعتقاد لمضمونه، إذ هو مسلم لا يعتقد أن الله تخفى عليه خافية، وإنما مقصوده الانتقال من العلم بالدليل إلى المعرفة والمشاهدة، ولذا مات من استيلاء الهيبة على قلبه. قوله: ﴿ مِّنْ خَرْدَلٍ ﴾ هو حب الكبر وهو أصغر حب، والمراد أصغر شيء، بدليل ضرب المثل بالذرة في الآية. قوله: ﴿ فِي صَخْرَةٍ ﴾ قيل المراد بها التي تحت الأرضين السبع، وهي التي يكتب فيها أعمال الفجار، وخضرة السماء منها لما قيل: خلق الأرض على حوت، والحوت في الماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، وقيل على ظهر ثور وهو على الصخرة، وهي التي ذكرها لقمان، فليست في السماء ولا في الأرض. قوله: (أي في أخفى مكان من ذلك) أي من الصخرة والسماوات والأرض، فأخفى الصخرة باطنها، وأخفى السماوات أعلاها، وأخفى الأرض أسفلها. قوله: ﴿ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ ﴾ جواب الشرط. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ ﴾ أي عالم بخفيات الأمور. قوله: ﴿ خَبِيرٌ ﴾ أي عالم ببواطن الأشياء كظواهرها، قيل إن هذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها لقمان، فانشقت مرارة ابنه من هيبتها وعظمتها، فمات مسلماً شهيداً رضي الله عنه. قوله: ﴿ يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي بشروطها وأركانها وآدابها، لكونها عماد الدين ومناجاة الله تعالى. ﴿ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ قوله: أي بكل ما عرف شرعاً، لأن الدال على الخير كفاعله. قوله: ﴿ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾ أي باليد أو اللسان أو القلب على حسب الطاقة، فإن لم يفد، فالهجر أولى بالمعروف. قوله: (بسبب الأمر والنهي) المناسب حمله على العموم، فالصبر على المصائب، سواء كانت من الخلق أو الخالق أمره عظيم، لأن الكل في الحقيقة من الله، والمراد بالصبر التسليم لأحكام الله والرجوع إليه، قال تعالى:﴿ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾[البقرة: ١٥٥-١٥٦].
قوله: (التي يعزم عليها لوجوبها) أي تحتمها على المكلفين، فلا ترخيص في تركها.
قوله: ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ الصعر بفتحتين في الأصل، داء يصيب البعير يلوي عنقه، ثم استعمل في ميل العنق وانقلاب الوجه إلى أحد الشدقين، لأجل الفخر على الناس، والمراد لا تتكبر فتحتقر الناس، ولا تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. قوله: (وفي قراءة تصاعر) أي وهما سبعيتان ومعناهما واحد. قوله: (أي خيلاء) أي عجباً وتكبراً، قال تعالى:﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً ﴾[الإسراء: ٣٧].
قوله: ﴿ فَخُورٍ ﴾ (على الناس) أي لظنه أن نعمة الله أصبغت عليه لاستحقاقه إياها، فتكبر بها على الناس. قوله: ﴿ وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ لما أمره أولاً بحسن الباطن، أمره ثانياً بحسن الظاهر، ليجمع له في وصيته بين كمال الظاهر والباطن. قوله: (بين الدبيب) أي وهو ضعيف المشي جداً، قال الشاعر: زعمتني شيخاً ولست بشيخ   إنما الشيخ من يدب دبيباقوله: (والإسراع) أي وهي قوة المشي وهي مذمومة لما ورد: سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن. إن قلت: ورد في الحديث: كنا نجهد أنفسنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتضي أنه كان يسرع في مشيه. أجيب بأنه صلى الله عليه وسلم في نفسه مشية متوسطة، وبالنسبة للصحابة هو أعلى مشياً منهم، لما في الحديث المقتدم: وهو غير مكترث كأن الأرض تطوى له. قوله: ﴿ مِن صَوْتِكَ ﴾ يحتمل أن ﴿ مِن ﴾ تبعيضية، أو الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمحذوف، أي شيئاً من صوتك. قوله: ﴿ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ ﴾ أي هذا الجنس لما فيه من العلو المفرط من غير حاجة، فإن كل حيوان يصيح من ثقل أو تعب أو غير ذلك، والحمار يصيح لغير سبب، وصياح كل شيء تسبيح لله تعالى، إلا الحمار. إن قلت: إن دق النحاس بالحديد أشد صوتاً من الحمير. أجيب: بأن الصوت الشديد لحاجة يتحمله العقلاء، بخلاف الصوت الخالي عن الثمرة والفائدة، وهو صوت الحمار. قوله: (أوله زفير) أي صوت قوي، وقوله: (وآخره شهيق) أي صوت ضعيف، وهما صفة أهل النار.
قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ﴾ إلخ، رجوع لما سبق من خطاب المشركين والرد عليهم. قوله: (يا مخاطبين) القياس بالواو لأنه منادى مفرد، وهو مبني على ما يرفع به، إلا أن يقال: إنه نكرة غير مقصودة فهو منصوب. قوله: ﴿ نِعَمَهُ ﴾ إما بالجمع فظاهرة وباطنة حالان، أو الإفراد بتاء التأنيث نكر فهما نعتان لها، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (هي حسن الصورة) إلخ، وقيل الظاهرة نعمة الدنيا، والباطنة نعمة العقبى، وقيل الظاهرة ما ترى الأبصار، كالمال والجاه والجمال في الناس، والباطنة ما يجده الإنسان في نفسه من حسن اليقين والعلم بالله تعالى، وكل صحيح. قوله: (وتسوية الأعضاء) أي تناسبها. قوله: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف ومن حذا حذوهما، كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في الله وصفاته من غير علم. قوله: ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي بالجهل وعدم المعرفة. قوله: ﴿ وَلاَ هُدًى ﴾ أي مع رسول جاءهم به. قوله: ﴿ وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ أي نير واضح الدلالة. قوله: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ﴾ الجمع باعتبار المعنى. قوله: ﴿ أَ ﴾ (يتبعونه) أشار بذلك إلى أن الشرط للحال والتقدير أيتبعونه، والحال أن الشيطان يدعوهم إلى العذاب، وحينئذ فلا جواب للو. قوله: ﴿ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾ أي يدعو آباءهم، لأن مدار إنكار الإتباع، كون الرؤساء تابعين للشيطان. قوله: (لا) أي لا يليق منهم ذلك. قوله: (أي يقبل طاعته) أشار بذلك إلى أن المراد بالوجه الذات، والمعنى من يبذل ذاته في طاعة ربه، والحال أنه موحد، فقد استمسك إلخ، وهذا هو حقيقة الشكر، فالإقبال على الله ظاهراً وباطناً، موجب للأمن من عذاب الله، ومن زوال تلك النعمة، وهذه الآية معنى قوله تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ﴾[الأنعام: ٨٢].
قوله: (موحد) إنما فسره بذلك ليشمل الإسلام في حق العامة وهو التوحيد، وإلا فالإحسان الكامل أن تعبد الله كأنك تراه. قوله: (بالطرف الأوثق) أي الموصل إلى الله بلا انقطاع، فقد مثل المؤمن المتمسك بطاعة الله، بمن أراد أن يرقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق حبل، فهو تشبيه تمثيلي بذكر طرفي التشبيه. قوله: (مرجعها) أي فيجازي عليها. قوله: ﴿ وَمَن كَفَرَ ﴾ إلخ، هذا مقابل الفريق الأول، قوله: ﴿ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ﴾ بفتح الياء وضم الزاي، وبضم الياء وكسر الزاي قراءتان سبعيتان، أي فتسل ولا تغتم على ذلك. قوله: ﴿ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤاْ ﴾ أي نخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، كما أن المؤمن إذا نعم في الدنيا بأنواع النعم، فليس ذلك جزاء لأعماله الصالحة. قوله: (لا يجدون عنها محيصاً) أي ملجأ.
قوله: ﴿ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ ﴾ الجملة جواب القسم، وحذف جواب الشرط للقاعدة، ولفظ الجلالة مرفوع، إما على أنه فاعل بفعل محذوف تقديره خلقهن الله، بدليل آية﴿ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ ﴾[الزخرف: ٩]، أو خبر لمحذوف تقديره الخالق لهن. قوله: (وواو الضمير) أي لالتقائها ساكنة مع نون التوكيد، وبقيت الضمة دليلاً عليها. قوله: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ (وجوب عليهم) أي بل يعتقدون أن الإشراك يقرب إلى الله، مع كونهم ينسبون الخلق لله وحده. قوله: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ هذا نتيجة ما قبله، أي فحيث ثبت أنه الخالق لها، تحقق أنه المالك لها. (المحمود في صنعه) أي المتصف بالكمالات أزلاً وأبداً، لا يستحق الحمد غيره. قوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ ﴿ أَنَّ ﴾ حرف توكيد ونصب و ﴿ مَا ﴾ اسم موصول في محل نصب اسمها، وجمل الجار والمجرور مع متعلق صلة الموصول، و ﴿ مِن شَجَرَةٍ ﴾ بيان لما، وتوحيد شجرة إشارة إلى استغراق الأفراد كأنه قال: لو أن كل شجرة تجعل أقلاماً إلخ، وقوله: ﴿ أَقْلاَمٌ ﴾ خبر ﴿ أَنَّ ﴾.
قوله: ﴿ وَٱلْبَحْرُ ﴾ أي المحيط، لأن الحقيقة إذا أطلقت تنصرف للفرد الكامل. قوله: (عطف على اسم أن) أشار بذلك إلى توجيه قراءة النصب، وترك توجيه قراءة الرفع، وتوجيهها أن يقال: إما عطف على جملة ﴿ أَنَّ ﴾ واسمها وخبرها، لأن موضعها رفع على الفاعلية لفعل محذوف، والتقدير لو ثبت أن ما في الأرض إلخ، أو مبتدأ خبره ﴿ يَمُدُّهُ ﴾ والجملة حالية. قوله: (مداد) خبر لمحذوف تقديره والجميع مداد، وهو جملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر تقديره ما تجعل تلك الأبحر؟ فأجاب بقوله: (مداد) يدل على ذلك قوله في الآية الأخرى:﴿ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾[الكهف: ١٠٩] إلخ. قوله: ﴿ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ ﴾ أي مدلولات كلامه النفسي القديم القائم بذاته تعالى، بدليل قوله المعبر بها، فإن مدلول الكلام القديم، هو ما أحاط به العلم القديم، وأما الكلام المنزل للقراءة والتعبد به كالكتب السماوية، فهو دال على بعض مدلول الكلام القديم، فلذلك كان به مبدأ وغاية. قوله: ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ سبب نزولها: أن أبي بن خلف وجماعة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أن الله خلقنا أطواراً، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً ثم تقول: إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة فنزلت، والمعنى أن الله لا يصعب عليه شيء، بل خلق العالم وبعثه برمته، كخلق نفس واحدة وبعثها. قوله: (خلقاً وبعثاً) لف ونشر مرتب. قوله: (يا مخاطباً) نصبه لكونه قصد أنه نكرة غير مقصودة. قوله: (بما نقص) أي بالجزاء الذي نقص من الأجر، وهو أربع ساعات دائرة بين الليل والنهار، زائدة على الاثني عشر، فتارة يزيدها الليل، وتارة يزيدها النهار.
قوله: ﴿ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ﴾ عطف على ﴿ يُولِجُ ﴾ وعبر في الأولى بالمضارع، لأن الإيلاج متجدد بخلاف التسخير. قوله: ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ عبر هنا بإلى، وفي فاطر والزمر باللام تفننا، لأن اللام وإلى للانتهاء. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ (المذكور) أي من الآيات الكريمة، وهو مبتدأ خبره قوله: ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ﴾.
قوله: (الثابت) أي الذي لا يقبل الزوال ولا أبداً. قوله: (بالياء والتاء) أي فها قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ ﴾ إلخ، هذا دليل آخر على إثبات الألوهية لله وحده. قوله: ﴿ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ ﴾ أي إحسانه. قوله: (أي علا الكفار) أي أحاط بهم، فعلا فعل ماض ولا حرف جر. قوله: (أي لا يدهون معه غيره) أي كالأصنام لأنهم في ذلك الوقت في غاية الشدة والهول، فلا يجدون ملجأ لكشف ما نزل بهم غيره تعالى. قوله: (متوسط بين الكفر والإيمان) المناسب تفسير المقتصد بالعدل الموفي، بما عاهد الله عليه من التوحيد، ليكون موافقاً لسبب النزول، فإنها نزلت في عكرمة بن أبي جهل، وذلك أنه هرب عام الفتح إلى البحر، فجاءتهم ريح عاصف فقال عكرمة: لئن أنجانا الله من هذا، لأرجعن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده فسكن الريح، فرجع عكرمة إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه. قوله: (ومنهم باق على كفره) أي وهو المشار إليه بقوله: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ﴾ إلخ. قوله: (غدار) أي لأنه نقص العهد، ورجع إلى ما كان عليه.
قوله: ﴿ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ﴾ أي امتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه. قوله: ﴿ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ﴾ إلخ، كل من الجملتين نعت ليوماً، والمعنى أن يوم القيامة يقول كل إنسان، نفسي نفسي لا أملك غيرها، ولا يهتم بقريب ولا بعيد، وهذه الآية مخصوصة بالكفار، وأما المسلمون فينتفعون من بعضهم، فالأولاد تنفع الآباء، والآباء تنفع الأولاد، قال تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾[الطور: ٢١] وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة ابنته:" أنا لا أغني عنك من الله شيئاً "فهو تحذير لها من الكفر الذي به تنقطع الأنساب. قوله: ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ ﴾ مبتدأ، وهو مبتدأ ثان، و ﴿ جَازٍ ﴾ خبر الثاني، وهو خبره خبر الأول، أو معطوف على والد. قوله: (في حلمه وإمهاله) أشار بذلك أن الباء سببية، والكلام على حذف مضاف، والأصل لا يغرنكم بسبب حلم الله وامهاله الغرور. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾ إلخ، نزلت لما قال الحرث بن عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ وأنا قد ألقيت الحب في الأرض فمتى السماء تمطر؟ وامرأتي حامل فهل حملها ذكر أم أنثى؟ وأي شيء أعمله غداً؟ ولقد علمت بأي أرض ولدت، فبأي أرض أموت؟ قوله: (متى تقوم) أي وقت قيامها. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (بوقت يعلمه) أي وفي أي مكان ينزله. قوله: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ أي من حيث ذاتها، وأما بإعلام الله للعبد فلا مانع منه، كالأنبياء وبعض الأولياء، قال تعالى:﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾[البقرة: ٢٥٥] وقال تعالى:﴿ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ﴾[الجن: ٢٦-٢٧] قال العلماء: وكذا ولي، فلا مانع من كون يطلع بعض عباده الصالحين على بعض هذه المغيبات، فتكون معجزة للنبي وكرامة للولي، ولذلك قال العلماء: الحق أنه لم يخرج نبينا من الدنيا، حتى أطلعه الله على تلك الخمس، ولكنه أمر بكتمها، والحكمة في كونه تعالى، أضاف العلم إلى نفسه في الثلاثة الأول: ونفي العلم عن العباد في الأخيرتين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها، ونفي علم العباد بها، أن الثلاثة الأول أمرها عظيم، لا يتوهم في الخلق علمها، بخلاف الأخيرتين فهما من صفات العباد، فربما يتوهمون علمها، فإذا انتفى عنهم علمهما، كان انتفاء علمهم بغيرهما أولى. قوله: ﴿ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ لم يقل بأي وقت تموت فيه، لأن انتقال الإنسان من مكان إلى آخر في وسعه واختياره، فتوهمه علم مكان موته أقرب بخلاف الزمان، ففقه تنبيه على انتقاء علم الأقرب، ليفهم منه علم الأبعد بالأولى. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ﴾ أشار بذلك إلى أن علمه تعالى، ليس مختصاً بهذه الأشياء المتقدمة، بل هو عليم ببواطن الأشياء كظواهرها.
Icon