تفسير سورة الأحزاب

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في "الدلائل" من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خط رسول الله - ﷺ - الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله سبحانه من بطن الخندق صخرةً بيضاء مدورةً، فأخذ رسول الله - ﷺ - المعول، فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضرب الثانية فصدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبر وكبر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: ضربت الأولى فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور قيصر من أرض الروم، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة فأضاء لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل: أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون، يحدثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا، فأنزل الله عز وجل قوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾. قال: ابن أبي حاتم. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في متعب بن قشير الأنصاري، وهو صاحب هذه المقالة.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾؛ أي (٢): يا أيها النبي الكريم، خف الله بطاعته وأداء
(١) لباب النقول.
(٢) المراغي.
406
فريضته، وواجب حقوقه عليك، وترك محارمه، وانتهاك حدوده.
والخلاصة: يا أيها المخبر عنا، المأمون على وحينا، أثبت ودم على تقوى الله تعالى.
وناداه (١) تعالى بالنبي لا باسمه؛ أي: لم يقل يا محمد، كما قال يا آدم ويا نوح ويا موسى ويا عيسى ويا زكريا ويا يحيي، تشريفًا له، فهو من الألقاب المشرفة، الدالة على علو جنابه - ﷺ -، وله - ﷺ - أسماء وألقاب غير هذا، وكثرة الأسماء والألقاب تدل على شرف المسمى، وأما تصريحه باسمه في قوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ فلتعليم الناس أنه رسول الله، وليعتقدوه كذلك، ويجعلوه من عقائدهم الحقة.
وقيل المعنى: يا أيها النبي اتق في نقض العهد، ونبذ الأمان، واثبت على التقوى، وزد منها، فإنه ليس لدرجات التقوى نهاية، وإنما حملت على الدوام، لأن المشتغل بالشيء لا يؤمر به، فلا يقال للجالس مثلًا: أجلس، أمره الله تعالى بالتقوى تعظيمًا لشأن التقوى، فإن تعظيم المنادي، ذريعة إلى تعظيم شأن المنادى له.
وقال ابن عطاء: معناه يا أيها المخبر عن خبر صدق، والعارف بي معرفةً حقيقةً، اتق الله في أن يكون لك الالتفات إلى شيء سواي. انتهى.
ولما وجه إلى رسوله - ﷺ - الأمر بتقوى الولي الودود.. أتبعه بالنهي عن الالتفات نحو العدو والحسود، فقال: ﴿وَلَا تُطِعِ﴾؛ أي: لا توافق ﴿الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: المجاهرين للكفر كأهل مكة، ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾؛ أي: المظهرين للإسلام، المضمرين للكفر، كأهل المدينة فيما طلبوا منك، ولا تساعدهم على شيءٍ، واحترس منهم، فإنهم أعداء الله والمؤمنين.
روي (٢): أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جعل وأبا الأعور عمر بن سفيان
(١) روح البيان.
(٢) النسفي.
407
السلمي، قدموا المدينة بعد غزوة أحد فنزلوا على عبد الله بن أبي بن سلول، وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه، فقالوا: ارفض ذكر آلهتنا وقيل: إنها تنفع وتشفع وندعك وربك، ووازرهم المنافقون على ذلك، فهم المسلمون بقتلهم فنزلت الآية؛ أي: اتق الله في نقض العهد، ولا تطع الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك.
وقيل المعنى (١): أي ولا تطع الكافرين الذين يقولون لك: اطرد عنا أتباعك من ضعفاء المؤمنين حتى نجالسك، والمنافقين الذين يظهرون الإيمان والنصيحة، وهم لا يألونك وأصحابك إلا خبالًا، فلا تقبل لهم رأيًا، ولا تستشرهم مستنصحًا بهم، فإنهم أعداؤك، ويودون هلاكك، وإطفاء نور دينك.
روي: أنه لما قدم رسول الله - ﷺ -. المدينة تابعه ناس من اليهود نفاقًا، وكان يلين لهم جانبه، ويظهرون له النصح خداعًا، فحذره الله منهم، ونبهه إلى عداوتهم، ثم علل ما تقدم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ﴾ (٢) على الاستمرار والدوام، لا في جانب الماضي فقط ﴿عَلِيمًا﴾ بالمصالح والمفاسد، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة، ولا ينهاك إلا عما فيه مفسدة، ﴿حَكِيمًا﴾ لا يحكم بما تقتضيه الحكمة البالغة.
قال أبو السعود: وهذه الجملة للأمر والنهي: مؤكدة لمضمون وجوب الامتثال. أو المعنى: أي إن الله سبحانه عليم بما تضمره نفوسهم، وما الذي يقصدونه من إظهار النصيحة، وبالذي تنطوي عليه جوانحهم، حكيم في تدبير أمرك وأمر أصحابك، وسائر شؤون خلقه، فهو أحق أن تتبع أوامره وتطاع.
والخلاصة: أنه تعالى هو العلم بعواقب الأمور، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير شؤون خلقه،
٢ - ثم أكد وجوب الامتثال، بأن الأمر هو مربيك في نعمه، الغامر لك بإحسانه، فهو الجدير أن يتبع أمره، ويجتنب نهيه، فقال: ﴿وَاتَّبِعْ﴾ يا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
محمد ﴿مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ من القرآن؛ أي: واعمل بما ينزله إليك ربك من وحيه، وآي كتابه في كل أمورك، ولا تتبع شيئًا مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين، ولا من الرأي البحث، فإن فيما أوحي إليك ما يغنيك عن ذلك.
ثم علل ذلك بما يرغبه في اتباع الوحي، وبما ينأى به عن طاعة الكافرين والمنافقين، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: بما تعمل أنت وأصحابك ﴿خَبِيرًا﴾ لا يخفى عليه شيء منه، ثم يجازيكم على ذلك بما وعدكم به من الجزاء، وجملة ﴿إن﴾ معللة لأمره باتباع ما أوحي إليه، والأمر له - ﷺ - أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن، كما هو مأمور باتباعه، ولذا جاء بخطابه وخطابهم في قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ على قراءة الجمهور، بالفوقية للخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ أبو عمرو السلمي وابن أبي إسحاق (١): ﴿بما يعملون﴾ بياء الغيبة هنا، وفيما سيأتي في قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾؛ أي: بما يعمل الكفار والمنافقون، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات، وقرأ باقي السبعة ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ بتاء الخطاب في الموضعين.
٣ - ثم بعد أن أمره باتباع ما أوحي إليه من القرآن، وترك مراسيم الجاهلية، أمره بتفويض أموره إليه وحده، فقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: اعتمد عليه في شؤونك، وفوض أمورك إليه وحده ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ سبحانه ﴿وَكِيلًا﴾؛ أي: حافظًا يحفظ من توكل عليه، وكفيلًا له في جميع شؤونه، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره.
والخلاصة: حسبك الله، فإنه إن أراد لك نفعًا.. لم يدفعه عنك أحد، وإن أراد بك ضرًا.. لم يمنعه منك أحد. قال الزروقي في "شرح الأسماء الحسنى": الوكيل: هو المتكفل بمصالح عباده، والكافي لهم في كل أمر، ومن عرف أنه الوكيل.. اكتفى به في كل أمره، فلم يدبر معه، ولم يعتمد إلا عليه، وخاصيته
(١) البحر المحيط.
نفي الجوائح والمصائب وصرفها، فمن خاف ريحًا أو صاعقة أو نحوهما.. فليكثر منه، فإنه يصرف ويفتح له أبواب الخير والرزق.
٤ - ثم ذكر سبحانه مثلًا توطئةً وتمهيدًا لما يعقبه من الأحكام القرآنية، التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه، فقال: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ﴾؛ أي: ما خلق الله سبحانه وتعالى ﴿لِرَجُلٍ﴾؛ أي: لشخص، وهو مخصوص بالذكر من الإنسان، والتنكير (١) فيه، و ﴿من﴾ الاستغراقية في قوله: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾ لإفادة التعميم، والقلب: مضغة صغيرة في هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الجانب الأيسر من صدر الإنسان، معلقة بعرق الوتين، وجعلها محلًا للعلم ﴿فِي جَوْفِهِ﴾؛ أي: في صدره، وذكره لزيادة التقرير، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
وقيل: ﴿من﴾ في قوله: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾: زائدة في المفعول، وإنما (٢) امتنع تعدد القلب؛ لأنه معدن الروح الحيواني، المتعلق للنفس الإنساني، ومنبع القوى بأسرها، فيمتنع تعدده، لأنه يؤدي إلى التناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلًا لكل القوى، وغير أصل لها. اهـ. "كرخي".
قيل (٣): نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري، كما سبق، كان رجلًا لبيبًا حافظًا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين، وكان هو يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين يوم بدر.. انهزم أبو معمر، فلقيه أبو سفيان، وإحدى نعليه بيده، والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا، فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده.
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
(٣) المرح.
410
وقيل (١): هي مثل ضربه الله للمظاهر؛ أي: كما لا يكون للرجل قلبان، كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه، حتى يكون لَهُ أُمَّان، وكذلك لا يكون الدعي ابنًا لرجلين، وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب ينهاني عن كذا، فنزلت الآية لرد النفاق، وبيان أن النفاق لا يجتمع مع الإِسلام، كما لا يجتمع قلبان في جوف واحد.
﴿وَمَا جَعَلَ﴾ سبحانه ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾؛ أي: نساءَكم وزوجاتكم أيها الرجال جمع زوج ﴿اللَّائِي﴾ جمع التي ﴿تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ﴾؛ أي: تقولون لهن، أنتن علينا كظهور أمهاتنا؛ أي: في التحريم، فإن معنى ظاهر من امرأته: قال لها: أنت علي كظهر أمي، فهو مأخوذ من الظهر بحسب اللفظ، كما يقال: لبى المحرم: إذا قال: لبيك، وأفف الرجل: إذا قال: أفٍّ، وتعديته بـ ﴿من﴾ لتضمينه التجنب، وكان طلاقًا في الجاهلية، وكانوا يجتنبون المظاهر، منها كما يجتنبون المطلقة.
فمعنى أنت علي كظهر أمي (٢): أنت علي حرام كبطن أمي، فكنوا عن البطن بالظهر، لئلا يذكروا البطن، الذي ذكره يقارب ذكر الفرج، وإنما جعلوا الكناية بالظهر عن البطن، لأنه عمود البطن قوام البنية، ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾؛ أي: كأمهاتكم في الحرمة.
والمعنى: ما جمع الله الزوجية والأمومة في امرأة؛ لأن الأم مخدومة لا يتصرف فيها، والزوجة خادمة يتصرف فيها، والمراد بذلك: نفي ما كانت العرب تزعمه، من أن الزوجة المظاهر منها كالأم؛ أي: ولم يجعل (٣) الله سبحانه لكم أيها الرجال نساءكم اللاتي تقولون لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم، بل جعل ذلك من قبلكم كذبًا، لا من قبل الله سبحانه، بل ألزمكم عقوبةً وكفارةً على ذلك، كما سيأتي بيانها في سورة المجادلة.
وقد كان الرجل في الجاهلية متى قال هذه المقالة لامرأته.. صارت حرامًا
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
411
حرمةً مؤيدةً، فجاء الإِسلام ومنع هذا التأبيد، وجعل الحرمة مؤقتة، حتى تؤدى كفارة - غرامة - لانتهاكه حرمة الدين، إذ حرم ما أحل الله له.
وقرأ قالون وقنبل (١): ﴿اللَّائِي﴾ هنا، وفي المجادلة والطلاق بالهمز من غير ياء، وقرأ ورش: بهمزة مكسورة مسهلة كالياء، بدون ياء بعدها، وقرأ البزي وأبو عمرو: بياء ساكنة بعد ألف محضة بدلًا من الهمزة، وهو بدل مسموع لا مقيس، قال أبو عمرو بن العلاء: هي لغة قريش التي أمر الناس أن يقرؤوا بها، وقرأ باقي السبعة: بالهمز وياء بعدها.
وقرأ عاصم: ﴿تُظَاهِرُونَ﴾ هنا بتاء الخطاب المضمومة مع كسر الهاء أيضًا، مضارع ظاهر، من باب فاعل الرباعي، وقرأ الحرميان: نافع وابن كثير وأبو عمرو: ﴿تظهرون﴾ بشد الظاء والهاء وفتح التاء بدون ألف، أصله: تتظهرون، وقرأ ابن عامر: ﴿تظاهرون﴾ بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء، مضارع تظاهر، من باب تفاعل، وقرأ حمزة والكسائي: ﴿تظاهرون﴾ بتخفيف الظاء وبالألف بحذف إحدى التاءين؛ لأن أصله: تتظاهرون، ووافقهما ابن عامر في المجادلة، وقرأ باقي السبعة في المجادلة: ﴿تظاهرون﴾ بشد الظاء، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية: ﴿يظهرون﴾ بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء، مضارع أظهر، وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه: بتخفيف الظاء، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء، وقرأ الحسن: ﴿تظهرون﴾ بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء، مضارع ظهر مشدد الهاء، وقرأ هارون عن أبي عمرو: ﴿تظهرون﴾ بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مخفف الهاء، من ظهر الثلاثي، وفي مصحف أبي: ﴿تتظهرون﴾ بتاءين فتلك تسع قراءات.
﴿وَمَا جَعَلَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿أَدْعِيَاءَكُمْ﴾ الذين تبنيتم، جمع دعي فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مدعو، وهو الذي يدعى ولدًا لغير أبيه ويتخذ ابنًا؛ أي: متبنى، بتقديم الباء الموحدة على النون، ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾؛ أي: كأبنائكم حقيقة في
(١) البحر المحيط بتصرف.
412
حكم الميراث والحرمة والنسب؛ أي (١): ما جعل الدعوة والنبوة في رجلٍ واحدٍ؛ لأن الدعوة عرض، والبنوة: أصل في النسب، ولا يجتمعان في الشيء، وهذا أيضًا ردّ لما كانوا يزعمون، من أن دعي الرجل ابنه، فيجعلون له من الميراث مثل نصيب الذكر من أولادهم، ويحرمون نكاح زوجته إذا طلقها أو مات عنها.
والمعنى (٢): أي ولم يجعل الله من أدعى أحدكم أنه ابنه، وهو ابن غيره ابنًا له بدعواه فحسب، وفي هذا إبطال لما كان في الجاهلية وصدر الإِسلام، من أنه إذا تبنى الرجل ابن غيره.. أجريت عليه أحكام الابن النسبي، وقد تبنى رسول الله - ﷺ - قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطَّاب عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة سالمًا.
ويجوز أن يكون نفي القلبين لتمهيد أصل يحمل عليه نفي الأمومة عن المظاهر منها، والبنوة عن المتبنى، كما مر.
والمعنى (٣): لما لم يجعل الله قلبين في جوف واحدٍ لأدائه إلى التناقض، وهو أن يكون كل منهما أصلًا لكل القوى، وغير أصلٍ، كذلك لم يجعل الله الزوجة أمًا، والدعي ابنًا لأحدٍ، يعني كون المظاهر منها أمًا، وكون الدعي ابنًا؛ أي: بمنزلة الأم والابن في الآثار والأحكام المعهودة بينهم في الاستحالة، بمنزلة اجتماع قلبين في جوف واحد.
وفيه إشارة إلى أن في القرابة النسبية خواص لا توجد في القرابة السببية، فلا سبيل لأحد أن يضع في الأزواج بالظهار وما وضع الله في الأمهات، ولا أن يضع في الأجانب بالتبني ما وضع الله في الأبناء، فإن الولد سر أبيه، فما لم يجعل الله فليس في مقدور أحد أن يجعله.
﴿ذَلِكُمْ﴾ المذكور (٤) من قولكم للزوجة: أنت علي كظهر أمي، أو للدعي
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) النسفي.
413
أنت ابني ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ فقط؛ أي: قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له ولا تأثير له إذ الإبن يكون بالولادة وكذلك الأم فلا تصير به المرأة أمًا، ولا ابن الغير به ابنًا، ولا يترتب على ذلك شيء من أحكام الأمومة والبنوة، وقيل: الإشارة (١) إلى الأخير فقط، لأنه المقصود من سياق الكلام؛ أي: دعاؤكم الدعي بقولكم: هذا ابني قولكم بألسنتكم، لا تأثير له في الأعيان، فهو بمعزل عن أحكام البنوة كما زعمتم، والأفواه جمع فم، كما سيأتي. قال الراغب: وكل موضع علق الله فيه حكم القول بالفم فإشارة إلى الكذب، وتنبيه على أن الاعتقاد لا يطابقه.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَقُولُ﴾ القول ﴿الْحَقَّ﴾ والصدق، والكلام المطابق للواقع الذي يجب اتباعه لكونه حقًا في نفسه، لا باطلًا، فيدخل تحته دعاء الأبناء لآبائهم، أو يحكم الحكم الحق، وهو أن غير الابن لا يكون ابنًا، ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَهْدِي﴾ ويرشد ﴿السَّبِيلَ﴾؛ أي: سبيل الحق لا غيره، فدعوا أقوالكم وخذوا بقوله هذا؛ أي: يدل على الطريق الموصلة إلى الحق.
وقرأ الجمهور: ﴿يَهْدِي﴾ مضارع هدى، وقتادة: بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. ذكره أبو حيان.
والمعنى (٢): أي والله هو الصادق الذي يقول الحق، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه، وبه تكون المرأة أمًا إذا حكم بذلك، وهو يبيّن لعباده سبيل الحق، ويهديهم إلى طريق الرشاد، فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزّ اسمه.
وفي هذا: إرشاد للعباد إلى قول الحق، وترك قول الباطل والزور.
وخلاصة ما سلف:
١ - أنه لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين؛ لأنه إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر، فأحدهما يكون نافلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، وهذا يؤدي إلى التناقض في أعمال الإنسان،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
414
فيكون مريدًا للشيء كارهًا له، وظانًا له موقنًا به في حال واحدة، وهذا لن يكون.
٢ - أنه لم ير أن تكون المرأة أمًا لرجل وزوجًا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة في المصالح الزوجية على وجوه شتى.
٣ - لم يشأ في حكمته أن يكون الرجل الواحد دعيًا لرجل وابنًا له؛ لأن البنوة نسب أصيل عريق، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا وغير أصيلٍ.
٥ - ولما ذكر أنه يقول الحق.. فصل هذا الحق بقوله: ﴿ادْعُوهُمْ﴾؛ أي: أنسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم ﴿لِآبَائِهِمْ﴾؛ أي: إلى آبائهم الذين ولدوهم، فقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا: زيد بن محمد، وكذا غيره ﴿هُوَ﴾؛ أي: الدعاء لآبائهم، فالضمير (١) لمصدر ﴿دعوا﴾، كما في قوله: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ﴿أَقْسَطُ﴾ وأعدل ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه، وأصوب في حكمه من دعائكم إياهم لغير آبائهم، وأقسط أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة.
والمعنى: بالغ في العدل والصدق، وهذه الجملة معللة لما قبلها.
وفي "كشف الأسرار": هو أعدل وأصدق من دعائهم إياهم لغير آبائهم.
﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا﴾ أنتم أيها الناس، ولم تعرفوا آباء أدعيائكم من هم، حتى تنسبوهم إليهم، وتلحقوهم بهم ﴿فَـ﴾ هم ﴿إِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إن كانوا قد دخلوا في دينكم ﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾ إن كانوا محررين؛ أي: قولوا: هو مولى فلان، ولهذا قيل لسالم بعد نزول الآية: مولى حذيفة، وكان قد تبناه من قبل، قال الزجاج: ويجوز (٢) أن يكون ﴿مواليكم﴾ أولياؤكم في الدين، وقيل المعنى: فإن كانوا محررين، ولم يكونوا أحرارًا.. فقولوا: موالي فلان.
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
415
فائدة: قال بعضهم (١): متى عرض ما يحيل معنى الشرط.. جعلت إن بمعنى إذ، وإذ: يكون للماضي، فلا منافاة هاهنا بين حرفي الماضي والاستقبال، قال البيضاوي: في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ إن تفعلوا جزم بـ ﴿لَمْ﴾ فإنها لما صيرته؛ أي: المضارع ماضيًا صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع، وكأنه قال: فإن تركتم الفعل، ولذلك ساغ اجتماعهما؛ أي: حرف الشرط ولم. انتهى.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ أيها الناس ﴿جُنَاحٌ﴾؛ أي: ذنب وإثم ﴿فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: فيما فعلتموه من تلك الدعوة، مخطئين قبل النهي أو بعده، نسيانًا أو سبق لسان.
قال ابن عطية: لا تتصف التسمية بالخطأ إلا بعد النهي، والخطأ: العدول عن الجهة المقصودة؛ أي: لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد بالنسيان، أو سبق اللسان، فقول القائل لغيره: يا بني، بطريق الشفقة، أو يا أبي، أو يا عمي، بطريق التعظيم، فإنه مثل الخطأ لا بأس به، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان.
﴿وَلَكِنْ﴾ الجناح والإثم فيـ ﴿مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾؛ أي: فيما قصدت قلوبكم به بعد النهي، على أن ما في محل الجر عطفًا على ﴿مَا أَخْطَأْتُمْ﴾، أو المعنى: ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح، على أن محل ﴿ما﴾ الرفع على الابتداء محذوف الخبر؛ أي: ولكن الجناح والإثم عليكم فيما فعلتموه عامدين، من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك.
وخلاصة ما سلف (٢): أنه لا إثم عليكم إذا نسبتم الولد لغير أبيه خطأً غير مقصود، كان سهوتم أو سبق لسانكم بما تقولون، ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك تعمدين.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وعن قتادة، أنه قال في الآية: لو دعوت رجلًا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
416
لغير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه.. لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه.
وفي الحديث: "من دعي إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه.. فالجنة عليه حرام".
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا﴾؛ أي: ستارًا لذنب من ظاهر زوجته، وقال الزور والباطل من القول، وذنب من ادعى ولد غيره ابنًا له، إذا تابا ورجعا إلى أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل، بعد أن نهاهما - ﴿رَحِيمًا﴾ بهما بقبول توبتهما، فلا يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما.
فالمغفرة (١): هو أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، والرحمة: هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه، لا لعوض.
٦ - ثم ذكر سبحانه لرسوله مزيةً عظيمةً، وخصوصيةً جليلةً لا يشاركه فيها أحد من العباد، فقال: النبي محمد - ﷺ - ﴿أَوْلَى﴾؛ أي: أرأف وأشفق وأحرس ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: النبي أشد (٢) ولايةً ونصرةً لهم من أنفسهم، فإن النبي - ﷺ - لا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم، ولا ينهاهم إلا عما يضرهم ويؤذيهم في دنياهم وآخرتهم، أما النفس، فإنها أمارة بالسوء، وقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع.
روي: أن النبي - ﷺ - أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نشاور آباءنا وأمهاتنا فنزلت.
والمعنى (٣): النبي - ﷺ - أحرى وأجدر بالمؤمنين من أنفسهم في كل أمر من أمور الدين والدنيا، كما يشهد به الإطلاق على معنى أنه لو دعاهم إلى شيء ودعتهم نفوسهم إلى شيء آخر.. كان النبي أولى بالإجابة إلى ما يدعوهم إليه من
(١) المراح.
(٢) المراغى.
(٣) روح البيان.
417
إجابة ما تدعوهم إليه نفوسهم لأن النبي - ﷺ - لا يدعوهم إلا إلى ما فيه نجاتهم وفوزهم، وأما نفوسهم فربما تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وبوارهم، كما قال تعالى حكايةً عن يوسف الصديق عليه السلام: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ فيجب أن يكون عليه السلام أحب إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ عليهم من أمرها، وآثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه، ويجعولها فداءه في الخطوب والحروب، ويتبعوه في كل ما دعاهم إليه، ويجعلوه مقدمًا على ما يختارونه لأنفسهم، كما قال: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾.
وخلاصة ذلك: أنه تعالى علم شفقته - ﷺ - على أمته، وشدة نصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وفي الحديث: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة"؛ أي: في الشفقة من أنفسهم ومن آبائهم، وفيه أيضًا: "مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يذب عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي". وفيه أيضًا: "لا يؤمن أحدكم، حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين".
قال في "الأسئلة المقحمة": وفي الآية إشارة إلى أن اتباع الكتاب والسنة أولى، من متابعة الآراء والأقيسة، حسبما ذهب إليه أهل السنة والجماعة.
وقيل (١): المراد بـ ﴿أَنْفُسِهِمْ﴾ في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي - ﷺ - أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل: هي خاصة بالقضاء؛ أي: هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم، وقيل: أولى بهم في الجهاد بين يديه، وبذل النفس دونه، والأول أولى.
﴿وَأَزْوَاجُهُ﴾؛ أي: زوجاته - ﷺ - ﴿أُمَّهَاتُهُمْ﴾؛ أي: مثل أمهاتهم، ومنزلات منزلتهن في التحريم والاحترام والتوقير والإكرام، فلا يحل لأحد منهم أن يتزوج
(١) الشوكاني.
418
بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج أمه كما قال تعالى: ﴿وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن، والخلوة بهن، والمسافرة معهن، والميراث، فهن كالأجنبيات، فلا يحل النظر إليهن، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ ولا الخلوة بهن، ولا المسافرة معهن، ولا يرثن المؤمنين، ولا يرثونهن.
ثم إن (١) حرمة نكاحهن من احترام النبي - ﷺ - واحترامه واجب على الأمة، وتخصيص التحريم بهن، يدل على أنه لا يتعدى إلى عشيرتهن فلا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم، ولهذا قال الشافعي: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر، وهي أخت أم المؤمنين، ولم يقل: هي خالة المؤمنين.
وقال القرطبي: الذي يظهر لي: أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيمًا لحقهن على الرجال والنساء، كما يدل عليه قوله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً قال: ثم إن في مصحف أبي بن كعب: ﴿وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم﴾، وقرأ ابن عباس: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم﴾.
قيل: كن (٢) أمهات الرجال دون النساء، بدليل ما روي عن مسروق: إن امرأة قالت لعائشة: يا أمه، فقالت: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم، فبان بذلك أن معنى الأمومة: إنما هو تحريم نكاحهن.
وظاهر قوله (٣): ﴿وَأَزْوَاجُهُ﴾: عموم كل من أطلق عليها أنها زوجة له - ﷺ -؛ أي: سواء دخل بهن أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وقيل: لا يثبت هذا الحكم لطلقة، وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعًا.
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
419
وفي "فتح الرحمن": وإنما (١) جعلهن الله كالأمهات، ولم يجعل نبيه كالأب حتى قال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ لأنه تعالى أراد أن أمته يدعون أزواجه بأشرف ما تنادى به النساء، وهو الأم، وأشرف ما ينادى به النبي - ﷺ - لفظ الرسول، ولأنه تعالى جعلهن كالأمهات، إجلالًا لنبيه، لئلا يطمع أحد في نكاحهن بعده، ولو جعله أبًا للمؤمنين.. لكان أبًا للمؤمنات أيضًا فيحرمن عليه، وذلك ينافي إجلاله وتعظيمه، ولأنه تعالى جعله أولى بنا من أنفسنا، وذلك أعظم من الأب في القرب والحرمة، إذ لا أقرب للإنسان من نفسه، ولأن من الآباء من يتبرأ من ابنه، ولا يمكنه أن يتبرأ من نفسه. انتهى.
ثم بين سبحانه: أن القرابة أولى بالإرث بها من الأخوة في الدين، فقال: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾؛ أي: ذوو القربات النسبية ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى﴾ وأحق ﴿بـ﴾ إرث ﴿بَعْضٍ﴾ آخر منهم، فالكلام على حذف مضاف.
وهذه الآية كانت ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، وكان (٢) التوارث في بدء الإِسلام بالحلف والمؤاخاة بين المسلمين، فكان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته، وذوي رحمه، للأخوة التي آخى بينهما رسول الله - ﷺ - حين الهجرة، فقد آخى بين أبي بكر - رضي الله عنه - وخارجة بن زيد، وبين عمر وشخص آخر، وبين الزبير وكعب بن مالك، ثم نسخ ذلك بهذه الآية.
وقوله تعالى: ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى: يجوز (٣) أن يتعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ لأن أفعل التفضيل يعمل في الظروف.
والمعنى: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله تعالى، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في ﴿أَوْلَى﴾، والعامل فيها ﴿أَوْلَى﴾ لأنها شبيهة بالظرف؛ أي: حالة كون أولويتهم ثابتةً في كتاب الله تعالى، ولا يجوز أن يكون حالًا من ﴿أولوا﴾ للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها
(١) فتح الرحمن.
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
420
على مذهب الجمهور. انتهى. من "الكرخي".
والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، أو القرآن، أو آية المواريث، وقوله: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: الأنصار ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ يجوز في ﴿من﴾ وجهان:
أحدهما: أنها من الجارة للمفضل عليه، كهي في زيد أفضل من عمرو، المعنى عليه: وأولو الأرحام والقرابات، أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين الأجانب.
والثاني: أنا للبيان، جيء بها بيانًا لأولي الأرحام، فتتعلق بمحذوف، والمعنى: وأولو الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، أولى بالإرث من الأجانب. اهـ. "سمين".
والمعنى (١): أي وأولو الأرحام أولى بالإرث بحق القوابة، من إرث المؤمنين بحق الدين، ومن إرث المهاجرين بحق الهجرة، فيما كتبه الله سبحانه، وفرضه على عباده.
والخلاصة: أن هذه الآية أرجعت الأمور إلى نصابها، وأبطلت حكمًا شرع لضرورةٍ عارضةٍ في بدء الإِسلام، وهو الإرث بالتآخي في الدين، والتآخي حين الهجرة بين الماجرين والأنصار، حين كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه.
ثم استثنى من ذلك الوصية، فقال: ﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾ وأصدقائكم؛ أي: إلا أن تحسنوا إلى أصدقائكم من الأجانب ﴿مَعْرُوفًا﴾؛ أي: وصيةً من الثلث؛ أي (٢): إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا.. فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم.
وهذا الاستثناء إما متصل من أعم ما تقدر فيه الأولوية من النفع، كقولك: القريب أولى من الأجنبي، إلا في الوصية، تريد أحق منه في كل نفع، من
(١) المراغي.
(٢) المراح.
421
ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقة وغير ذلك، إلا في الوصية، والمراد بالأولياء: من يوادونهم ويصادقونهم، ومن يوالونهم ويؤاخونهم، وبفعل المعروف الوصية؛ أي: التوصية بثلث المال، أو أقل منه، لا بما زاد عليه.
والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل نفع، من ميراثٍ وهبةٍ وهديةٍ وصدقةٍ وغير ذلك، إلا أن تفعلوا إلى أصدقائكم معروفًا بتوصيةٍ لهم من ثلث المال، فهم أولى بالوصية، لأنه لاوصية لوارث، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعًا؛ أي: الأقارب أحق بالميراث من الأجانب، لكن فعل التوصية أولى للأجانب من الأقارب، لأنه لا وصية لوارث.
ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة.. أباح أن يوصى لهم.
ثم بين أن هذا الحكم هو الأصل في الإرث، وهو الحكم الثابت في كتابه، الذي لا يغير ولا يبدل، فقال: ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ المذكور في الآيتين: من أولوية النبي - ﷺ - بأنفسهم، ونسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ متعلق بقوله: ﴿مَسْطُورًا﴾؛ أي: مكتوبًا؛ أي: كان ذلك المذكور من الحكمين مثبتًا في اللوح المحفوظ، أو مكتوبًا في القرآن الكريم.
والمعنى: أي (١) إن هذا الحكم، وهو كون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض: حكم من الله تعالى مقدر مكتوب في الكتاب، الذي لا يبدل ولا يغير وإن كان قد شرع غيره في وقتٍ ما لمصلحةٍ عارضةٍ، وحكمةٍ بالغةٍ، وهو يعلم أنه سيغيره إلى ما هو جارٍ في قدره الأزلي، وقضائه التشريعي.
واعلم: أنه (٢) لا توارث بين المسلم والكافر، ولكن صحت الوصية بشيء من مال المسلم للذمي، لأنه كالمسلم في المعاملات، وصحت الوصية بعكسه؛ أي: من الذمي للمسلم، ولذا ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأولياء: هم الأقارب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
422
من غير المسلمين؛ أي: إلا أن توصوا لذوي قرابتكم بشيء، وإن كانوا من غير أهل الإيمان، وذلك فإن القريب غير المسلم، يكون كالأجنبي، فتصح الوصية له مثله، وأما الوصية لحربي فلا تصح مطلقًا؛ أي: قريبًا أو أجنبيًا؛ لأنه ليس من أهل المواساة، والمعروف له كتربية الحية الضارة لتلدغه، وندبت الوصية. عند الجمهور في وجوه الخير، لتدارك التقاصير.
٧ - والظرف في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك، أو ليكن ذكر منك، يعني لا تنس قصة وقت أخذنا من الأنبياء كافةً عند تحميلهم الرسالة ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾؛ أي: عهودهم المؤكدة باليمين على تبليغ الرسالة، والدعوة إلى التوحيد والدين الحق.
ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم فقال: ﴿وَمِنْكَ﴾؛ أي: وأخذنا منك يا حبيبي خاصةً، وقدم تعظيمًا وإشعارًا بأنه أفضل الأنبياء وأولهم في القرب، وإن كان آخرهم في البعث، وفي الحديث: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"؛ أي: لا أقول هذا بطريق الفخر، ﴿و﴾ أخذنا ﴿مِنْ نُوحٍ﴾ شيخ الأنبياء وأول الرسل بعد الطوفان ﴿وَإِبْرَاهِيمَ﴾ الخليل ﴿وَمُوسَى﴾ الكليم ﴿وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ روح الله وكلمته خصهم (١) بالذكر مع اندراجهم في النبيين، للإيذان بمزيد فضلهم، وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع، وأساطين أولي العزم من الرسل، قال الزجاج: وأخذ الميثاق حين أخرجوا من صلب آدم مثل الذر، ثم أكد ما أخذه على النبيين من الميثاق، بتكرير ذكره ووصفه بالغلظ، فقال: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ﴾؛ أي: من النبيين ﴿مِيثَاقًا﴾؛ أي: عهدًا مؤكدًا وثيقًا ﴿غَلِيظًا﴾؛ أي: شديدًا على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالات، وأداء الأمانات، وهذا هو الميثاق الأول بعينه، والتكرير لبيان هذا الوصف، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين، فأخذ عليهم في المرة الأولى مجرد الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانيًا مغلظًا مشددًا.
(١) روح البيان.
والمعنى (١): أي واذكر أيها الرسول الكريم، العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على أولى العزم الخمسة، وبقية الأنبياء، ليقيمن دينه ويبلغن رسالته، ويتناصرن، كما قال في آية أخرى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ الآية. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ بسؤالهم عما فعلوا حين الإرسال كما قال: ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقد جرت العادة أن الملك إذا أرسل رسولًا وأمره بشيء، وقبله.. كان ذلك ميثاقًا عليه، فإذا أعلمه بأنه سيسأله عما يقول، ويفعل.. كان ذلك تغليظًا للميثاق، حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة.
فإن قلت: لم (٢) قدم النبي - ﷺ - في هذه الآية، وقدم نوحًا في آية ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ الآية؟
قلت: قدمه - ﷺ - هنا إظهارًا لشرفه وفضله عليهم - ﷺ - عليهم أجمعين، وقدم نوحًا هناك، لأن الآية سيقت لوصف ما بعث به نوح من العهد القديم، وما بعث به نبينا من العهد الحديث، وما بعث به من توسطهما من الأنبياء المشاهير، فكان تقديم نوح فيها أشد مناسبةً للمقصود من بيان أصالة الدين وقدمه. اهـ. "كرخي".
٨ - ثم بين علة أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ﴿لِيَسْأَلَ﴾ الله سبحانه ﴿الصَّادِقِينَ﴾؛ أي: الأنبياء ﴿عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ في تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم؛ لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم.
وقيل: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم، كما في قوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦)﴾ و (اللام) فيه: لام كي، إما متعلقة بـ ﴿أَخَذْنَا﴾؛ أي: وأخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم، لكي نسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل أقوامهم فيما بلغوهم عن ربهم من الرسالة، وقيل: متعلق بمحذوف مستأنف، مسوق لبيان ما هو داع، إلى ما ذكر من أخذ الميثاق وغاية
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
424
له، لا بـ ﴿أَخَذْنَا﴾ فإن المقصود نفس الميثاق، ثم بيان الغرض منه بيانًا قصديًا، كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة.
والمعنى: فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوا لقومهم وفي الخبر: "أنه يسأل القلم يوم القيامة، فيقول: ما فعلت بأمانتي؟ فيقول: يا رب سلمتها إلى اللوح، ثم يصير القلم يرتعد مخافة أن لا يصدقه اللوح، فيسأل اللوح، فيقر بأن القلم قد أدى الأمانة، وأنه قد سلمها إلى إسرافيل، فيقول لإسرافيل: ما فعلت بأمانتي التي سلمها إليك اللوح؟ فيقول: سلمتها إلى جبريل، فيقول لجبريل: ما فعلت بأمانتي؟ فيقول: سلمتها إلى أنبيائك، فيسأل الأنبياء فيقولون: سلمناها إلى خلقك، فذلك قوله: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ قال القرطبي: إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف من سواهم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعَدَّ﴾؛ أي: هيأ في الآخرة ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾؛ أي: للمكذبين الرسل ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: وجيعًا معطوف على محذوف، دل عليه ﴿لِيَسْأَلَ...﴾ إلخ، فكأنه قال: فأثاب المؤمنين بهم، وأعد للكافرين بهم عذابًا أليمًا، وقيل: إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلة في الثاني، والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، وأعد لهم عذابًا أليمًا.
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ وتكون جملة ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ﴾ مستأنفة، لبيان ما أعده للكفار.
غزوة الأحزاب المسماة بغزوة الخندق
وخلاصة هذه القصة، على ما قاله أرباب السير: أن نفرًا من اليهود قدموا على قريش في شوال سنة، خمس من الهجرة بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله - ﷺ -، وقالوا لهم: إن دينكم خير من دينه، ثم جاؤوا غطفان وقيسًا وغيلان، وحالفوا جميع هؤلاء أن يكونوا معهم عليه، فخرجت هذه القبائل، ومعها قادتها وزعماؤها، ولما سمع رسول الله - ﷺ - بمسيرهم.. أمر المسلمين
425
بحفر خندق حول المدينة، بإشارة سلمان الفارسي، وعمل فيه رسول الله - ﷺ - والمسلمون، وأحكموه، وكان رسول الله - ﷺ - يرتجز بكلمات ابن رواحة، ويقول:
لَا هُمَّ لَوْلاَ أنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيُنَا
فَأَنْزَلَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُوْنَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أرَادُوْا فِتْنَةً أَبَيْنَا
وفي أثناء العمل برزت لهم صخرة بيضاء في بطن الخندق، فكسرت حديدهم، وشقت عليهم، فلما علم بها - ﷺ -.. أخذ المعول من سلمان، وضربها به ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها - جانبي المدينة - حتى كأن مصباح في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله - ﷺ - تكبير فتح، وكبر المسلمون، وهكذا مرة ثانيةً وثالثةً، فكانت تضيء وكان التكبير، ثم قال رسول الله - ﷺ -: "ضربت ضربتي الأولى، فبرق البرق الذي رأيتم، فأضاء لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية، فبرق البرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور قيصر من أرض الروم، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فبرق البرق الذي رأيتم، أضاء لي منها قصور صنعاء، كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فابشروا" فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله الذي صدقنا وعده، فقال المنافقون: ألا تعجبون! يمنيكم، ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه ينظر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وإنكم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزل: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ...﴾ إلخ. ونزل: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ...﴾ الآية.
ولما اجتمع هؤلاء الأحزاب، الذين حزبهم اليهود، وأتوا إلى المدينة.. رأوا الخندق حائلًا بينهم وبينها، فقالوا: والله هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ووقعت مصادمات بين القوم كرًا وفرًا، فمن المشركين من كان يقتحم
426
الخندق فيرمى بالحجارة، ومنهم من يقتحمه بفرسه فيهلك.
ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر من غطفان، أتى رسول الله - ﷺ - فأعلمه أنه أسلم، وأن قومه لم يعلموا بذلك، فقال - ﷺ -: إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة" فأتى قريظة وقال لهم: لا تحاربوا مع قريش وغطفان، إلا إذا أخذتم منهم رهنًا من أشرافهم، يكونون بأيديكم تقية لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدًا، لأنهم رجعوا وسئموا حربه، وإنكم وحدكم لا تقدرون عليه، وذهب إلى قريش وإلى غطفان، فقال لهم: إن اليهود يريدون أن يأخذوا منكم رهنًا، يدفعوها لمحمد فيضرب أعناقها، ويتحدون معه على قتالكم، لأنهم ندموا على ما فعلوا من نقض العهد، وتابوا، وهذا هو المخرج الذي اتفقوا عليه.
وحينئذ تخاذل اليهود والعرب، دب بينهم ودبيب الفشل، ومما زاد في فشلهم أن بعث الله عليهم ريحًا في ليلةٍ شاتيةٍ شديدة البرد، فجعلت تكفىء قدورهم، وتطرح آنيتهم، وقد قام رسول الله - ﷺ - ليلةً يصلي على التل الذي عليه مسجد الفتح، ثم يلتفت ويقول: "هل من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم" فعل ذلك ثلاث مراتٍ، فلم يقم رجل واحد من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد، فدعا حذيفة بن اليمان، وقال: "ألم تسمع كلامي منذ الليلة" قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله منعني أن أجيبك الضر والقر، قال: "انطلق حتى تدخل في القوم، فتسمع كلامهم، وتأتيني بخبرهم، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، حتى ترده إلى، انطلق ولا تحدث شيئًا حتى تأتيني"، فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله - ﷺ - يده يقول: "يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فقد ترى حالي وحال أصحابي"، فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك، فخر رسول الله - ﷺ - على ركبتيه، وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: "شكرًا شكرًا كما رحمتني ورحمت أصحابي"، وذهب حذيفة إلى القوم، فسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف
427
وأخلفتنا ينو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، وشرع القوم يقولون: الرحيل الرحيل، والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة، ولم تجاوز عسكرهم، ورحلوا وتركوا ما استثقلوا من متاعهم، فلما رجع أخبر رسول الله - ﷺ -، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل، وقال: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". اهـ. ملخصًا من كتب السيرة، وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة بما هو معروف، فلا نطيل بذكرها.
٩ - ثم شرع سبحانه في تفصيلها فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بالله ورسوله ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: اشكروا إنعام الله عليكم بالنصرة، فمعنى ذكر النعمة: شكرها، ﴿إِذْ﴾ ظرف للنعمة؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصرة حين ﴿جَاءَتْكُمْ﴾ وأحاطت بكم ﴿جُنُودٌ﴾ مجندة، وجموع مجمعة، وعساكر مسلحة، والمراد بهم: جنود الأحزاب، الذين تحزبوا على رسول الله - ﷺ -، وغزوه بالمدينة، وهم أبو سفيان بن حرب بقريش، ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حصن الفزاري، ومن معه من قومه غطفان، وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقةً شديدةً، كما وصف الله سبحانه في هذه الآية، وكانت هذه الغزوة في شوالٍ سنة خمس من الهجرة، قاله ابن إسحاق، وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة أربع، وكانت جملة الأحزاب أثني عشر ألفًا، وجملة المسلمين ثلاثة آلاف، ومكثوا في حفر الخندق ستة أيام، وقيل: خمسة عشر، وقيل: أربعةً وعشرين، وقيل: شهرًا، فلما فرغوا من حفره أقبلت قريش، والقبائل، فحاصروا المسلمين خمسة عشر يومًا، وقيل: أربعةً وعشرين يومًا، والخندق بينهم وبين المسلمين، حتى هزمهم الله سبحانه وتعالى بريح وجنود لم يروها، بلا مقاتلة أحدٍ من المسلمين.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ ليلًا من جانب القهار، عطف على جاءتكم ﴿رِيحًا﴾ شديدةً ناصرةً لكم، وهي ريح الصبا، وهي تهب من جانب المشرق، والدبور من قبل المغرب، قال ابن عباس: قالت الصبا للدبور؛ أي: للريح الغريبة: اذهبي بنا
428
ننصر رسول الله - ﷺ -، فقالت: إن الحرائر لا تهب ليلًا، فغضب الله عليها فجعلها عقيمًا، وفي الحديث: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".
﴿وَ﴾ أرسلنا عليهم أيضًا ﴿جُنُودًا﴾ عظيمةً هائلةً ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾؛ أي: لا ترون أنتم أيها المسلمون تلك الجنود، وهم الملائكة، قيل: كانوا ألفًا، روي (١) أن الله تعالى بعث على المشركين ريحًا باردةً، في ليلة شاتية، ولم تجاوز عسكرهم، فأحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وبعث الله عليهم أيضًا الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، ونفثت في روعهم الرعب، وكبرت في جوانب معسكرهم، حتى سمعوا التكبير وقعقعة السلاح، واضطربت الخيول، ونفرت، فصار سيد كل حي يقول لقومه: يا بني فلان: هلموا إلى، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء؛ أي: الإسراع الإسراع، فانهزموا من غير قتال، وارتحلوا ليلًا، وحملوا ما خف عليهم من متاعهم، وتركوا ما استثقلوه مثله.
والمعنى (٢): أي تذكروا أيها المؤمنون نعم الله، التي أسبغها عليكم، حين حوصرتم أيام الخندق، وحين جاءتكم جنود الأحزاب من قريش وغطفان، ويهود بني النضير أجلاهم رسول الله - ﷺ - من المدينة إلى خيبر، فأرسلنا عليهم ريحًا باردةً، في ليلة باردةً، أحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وأمر ملائكته فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وماجت الخيل بعضها في بعض، وقذف الرعب في قلوب الأعداء، حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: إن محمدًا قد بدأكم بالسحر، فالنجاة النجاة، فانهزموا من غير قتال.
والخلاصة: أنه تعالى يمتن على عباده المؤمنين بذكر النعم التي أنعم بها عليهم، إذ صرف عنهم أعداءهم حين تألبوا عليهم، وتحزبوا عام الخندق.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
429
وقرأ الحسن (١): ﴿وجنودًا﴾ بفتح الجيم، والجمهور: بالضم، وقرأ أبو عمرو في رواية وأبو بكر في رواية: ﴿لم يروها﴾ بياء الغيبة؛ أي: الكفار، وباقي السبعة والجمهور: بتاء الخطاب؛ أي: أيها المسلمون.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قرأ (٢) الجمهور: بتاء الخطاب؛ أي: بما تعملون أيها المسلمون من ترتيب الأسباب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، ﴿بَصِيرًا﴾؛ أي: رائيًا، ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم، وعصمتكم من شرهم، فلا بد لكم من الشكر على هذه النعمة الجليلة، باللسان والجنان والأركان.
وقرأ أبو عمرو بالتحتية؛ أي: بما يعمله الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب للمسلمين، واجتماعهم عليهم من كل جهة؛ أي: وكان الله سبحانه عليمًا بجميع أعمالكم، من حفركم للخندق، وترتيب وسائل الحرب، لإعلاء كلمته، ومقاساتكم من الجهد والشدائد ما لا حصر له، بصيرًا بها، لا يخفى عليه شيء منها، وهو يجازيكم عليها، ولا يظلم ربك أحدًا.
١٠ - ثم زاد الأمر تفصيلًا وبيانًا، فقال: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾: ﴿إِذْ﴾: هذه وما بعدها: بدل من ﴿إذ﴾ الأولى، والعامل في هذه: هو العامل في تلك، وقيل: منصوبة بمحذوف، هو اذكر؛ أي: اذكروا أيها المؤمنون: هول إذ جاءكم أعداؤكم الأحزاب ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾؛ أي: من أعلى الوادي من جهة المشرق، والذين جاؤوا من هذه الجهة هم غطفان، وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن، وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد، وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إليهم عوف بن مالك، وبنو النضير.
﴿و﴾ جاؤوكم ﴿مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾؛ أي: من أسفل الوادي من جهة المغرب، من ناحية مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي، ومعه حيي بن أخطب اليهودي، في
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
430
يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل.
وقوله: ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾: معطوف على ما قبله، داخل في حكم التذكير، والزيغ: الميل عن الاستقامة؛ أي: وإذ مالت الأبصار عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلًا من كل جانب، وقيل: شخصت من فرط الهول والحيرة.
والمعنى (١): واذكروا حين مالت الأبصار عن مستوى نظرها، حيرةً وشخوصًا، لكثرة ما رأت من العَدد والعُدد، فإنه كان مع قريش ثلاث مئة فرس، وألف وخمس مئة بعير.
﴿وَ﴾ إذ ﴿بَلَغَتِ﴾ ووصلت ﴿الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾: جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم؛ أي: ارتفعت القلوب عن أماكنها للخروج، فزعًا وخوفًا، ووصلت في الارتفاع إلى رأس الحلقوم وأسفله، وهو مدخل الطعام والشراب، والحنجرة: منتهى الحلقوم وطرفه الأسفل؛ أي: بلغت رأس الغلصمة والحنجرة من خارج رعبًا وغمًا؛ لأن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغم، فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهو مشاهد في مرض الخفقان من غلبة السوداء.
قال قتادة: شخصت عن أماكنها، فلولا أنه ضاق الحلقوم بها عن أن تخرج.. لخرجت، وقال بعضهم: كادت تبلغ، فإن القلب إذا بلغ الحنجرة، مات الإنسان، فعلى هذا يكون الكلام تمثيلًا، لاضطراب القلوب من شدة الخوف، وإن لم تبلغ الحناجر حقيقةً.
وقوله: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ﴾ يا من يظهر الإِسلام على الإطلاق ﴿الظُّنُونَا﴾ المختلفة، المخلصون يظنون النصر والظفر، والمنافقون يظنون خلاف ذلك، معطوف على ﴿زَاغَتِ﴾. وصيغة المضارع فيه لاستحضار الصورة، والدلالة على الاستمرار، وقال الحسن: ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظن المؤمنون أنه ينصر، وقيل: الآية خطاب للمنافقين، والأولى (٢) ما قاله الحسن.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
431
واختلف القراء في الألف التي في ﴿الظُّنُونَا﴾، وكذا ﴿السبيلا﴾ و ﴿الرسولا﴾، كما سيأتيان في آخر هذه السورة، فأثبت هذه الألفات نافع وابن عامر وأبو بكر وصلًا ووقفًا، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخط المصحف العثماني، وبخط جميع المصاحف في جميع البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن، بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضًا بما في أشعار العرب من مثل هذا، وأنشد أبو عمرو في "كتاب الألحان":
إِذَا الْجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ظَنَنْتَ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُوْنَا
وقرأ (١) أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب، بحذفها في الوصل والوقف معًا، وقالوا هي من زيادات الخط، فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها، وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقرأ ابن كثير والكسائي وحفص وابن محيصن: بإثباتها وقفًا وحذفها وصلًا، وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية، أما (٢) إثباتها وقفًا، ففيه اتباع الرسم، وموافقة لبعض مذاهب العرب؛ لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم، وفي تصاريفها؛ اتباعًا للفتحة، والفواصل في الكلام كالمصارع، وقال أبو علي: هي رؤوس الآي، تشبه بالقوافي، من حيث إنها كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم النحو.
١١ - ﴿هُنَالِكَ﴾ هو (٣) في الأصل ظرف للمكان البعيد، لكن العرب تكني بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان، فهو إما ظرف زمان أو ظرف مكان لما بعده؛ أي: في ذلك المكان الهائل، أو في ذلك الدحض الذي تدحض فيه الأقدام ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ واختبروا بالحصر والرعب والخوف والجوع والبرد؛ أي:
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
432
عوملوا معاملة من يختبر، فظهر المخلصر من المنافق، والراسخ من المتزلزل ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾؛ أي: حركوا تحريكًا شديدًا، وأزعجوا إزعاجًا قويًا، وذلك أن الخائف يكون قلقًا مضطربًا، لا يستقر على مكان، وتكرير حروف لفظه، تنبيه على تكرر معنى الزلل، ولكن صبروا وقاسوا الشدائد في طريق الحق ونصره، واجتهدوا إلى أن فتح الله مكة، واتسع الإِسلام وبلاده وأهاليه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿زلزلوا﴾ بضم الزاي الأولى، وكسر الثانية، على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو: بكسر الزاي الأولى، قاله ابن خالويه، وقال الزمخشري: وعن أبي عمرو إشمام زاي: ﴿زلزلوا﴾. انتهى، كأنه يعني إشمامها الكسر، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة: أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية، ولم يعتد بالساكن، كما لم يعتد به من قال: منتن، بكسر الميم إتباعًا لحركة التاء، وهو اسم فاعل من أنتن، وقرأ الجمهور: ﴿زلزالًا﴾ بكسر الزاي، والجحدري وعيسى بفتحها، وكذا: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١)﴾، ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح، نحو قلقل قلقالًا، وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل، كصلصال بمعنى مصلصل؛ أي: مصوت.
ومعنى الآيتين: أي واذكروا حين مالت الأبصار عن سننها، وانحرفت عن مستوى نظرها، حيرةً ودهشةً، وخاف الناس خوفًا شديدًا، وفزعوا فزعًا عظيمًا، وظنوا مختلف الظنون، فمنهم مؤمن مخلص يستنجز الله وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه، ويقول هذا ما وعدنا الله ورسوله، ومنهم منافق وفي قلبه مرض، يظن أن محمدًا وأصحابه سيستأصلون، ويستولي المشركون على المدينة، وتعود الجاهلية سيرتها إلى نحو ذلك من ظنون لا حصر لها، تجول في قلوب المؤمنين والمنافقين، على قدر ما يكون القلب عامرًا بالإخلاص، مكتوبًا له السعادة، أو متشككًا في اعتقاده، ليست له عزيمة صادقة، ثم ذكر أن هذه الشدائد محصت
(١) البحر المحيط.
433
المؤمنين، وأظهرت المنافقين فقال: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)﴾؛ أي: حين ذاك اختبر الله المؤمنين، ومحصهم أشد التمحيص، فظهر المخلص من المنافق، والراسخ في الإيمان من المتزلزل، واضطربُوا اضطربًا شديدًا من الفزع وكثرة العدو.
١٢ - وقوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾: معطوف على ﴿وَإِذْ زَاغَتِ﴾، والتعبير بالمضارع، لحكاية الحال الماضية كما سيأتي؛ أي: واذكروا حين قال المنافقون، كمعتب بن قشير: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾؛ أي: ضعف اعتقاد في الإيمان، لقرب عهدهم بالإِسلام، والمراد بالمنافقين: عبد الله بن أبي وأصحابه، وبالذين في قلوبهم مرض: أهل الشك والاضطراب.
فإن قلت (١): ما الفرق بين المنافق والمريض؟
قلت: المنافق من كذب الشيء تكذيبًا لا يعتريه فيه شك، والمريض: من قال الله تعالى في حقه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ كذا في "الأسئلة المقحمة".
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾، من النصر والظفر على العدو، واعلاء الدين وهم لم يقولوا رسول الله - ﷺ -، وإنما قالوه باسمه، ولكن الله ذكره بهذا اللفظ، ﴿إِلَّا غُرُورًا﴾؛ أي: إلا وعد غرور، وهو بالضم لا غير، والقائل لذلك معتب بن قشير ومن تبعه، كما سبق؛ أي: إلا وعدًا باطلًا يغرنا به، ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به، ويسلخنا عن دين آبائنا، ويقول: إن هذا الدين سيظهر على الدين كله، وإنه سيفتح لنا فارس والروم، وها نحن أولاء قد حصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته.
١٣ - وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلًا من أهل النفاق والشك (٢)، وهذا القول المحكي عن هؤلاء هو كالتفسير للظنون المذكورة؛ أي: كان ظن هؤلاء هذا الظن، كما كان ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله، ﴿وَ﴾ اذكروا
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
434
﴿إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ﴾ وجماعة، ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من المنافقين، قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين، وقال السدي: هم عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: هم أوس بن قيظي وأصحابه، والطائفة: تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة هو قوله: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾؛ أي: يا أهل المدينة ﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾؛ أي: لا إقامة ولا استقرار لكم هاهنا في العسكر، أو لا موضع إقامة لكم هاهنا جنب هذا العسكر العظيم لكثرة العدو، وغلبة الأحزاب، يريدون لا معسكر لكم هاهنا.
وقرأ السلمي والأعرج واليماني وحفص والجحدري وأبو حيوة (١): بضم الميم، فاحتمل أن يكون مكانًا؛ أي: لا مكان إقامة، واحتمل أن يكون مصدرًا؛ أي: لا إقامة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو رجاء والحسن وقتادة والنخعي وعبد الله بن مسلم وطلحة، وباقي السبعة: بفتحها، واحتمل أيضًا المكان؛ أي: لا مكان قيام، واحتمل المصدر؛ أي: لا قيام لكم.
﴿فَارْجِعُوا﴾ إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل، وقد يكون المعنى: لا مقام لكم في دين محمد، فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك، وأسلموا محمد إلى أعدائه، ومرادهم الأمر بالفرار، لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجًا لمقالهم، وإيذانًا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم، وقد ثبطوا الناس عن الجهاد، والرباط لنفاقهم ومرضهم، ولم يوافقهم إلا أمثالهم، فإن المؤمن من المخلص لا يختار إلا الله ورسوله.
وذلك أن رسول الله - ﷺ - والمسلمين خرجوا عام الخندق، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء المنافقون: ليس هاهنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وفي "المختار" التثريب: التعبير والاستقصاء في اللوم، وثرب عليه تثريبًا: قبح عليه فعله. اهـ.
فائدة: يثرب (٢) هو اسم للمديمة المنورة، لا ينصرف للتعريف وزنة الفعل،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
435
وفيه التأنيث أيضًا، وقد نهى النبي - ﷺ - أن تسمى المدينة بيثرب، وقال: "هي طيبة أو طابة والمدينة"كأنه كره هذا اللفظ، لأن يثرب يفعل من التثريب، وهو التقريع والتوبيخ واللوم، الذي لا يستعمل إلا فيما يكره غالبًا، ولذلك نفاه يوسف عليه السلام، حيث قال لإخوته: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾، وكأن المنافقين ذكروها بهذا الاسم مخالفةً له - ﷺ -، فحكى الله عنهم كما قالوا.
وقال الإِمام السهيلي: سميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عبيل بن مهلاييل بن عوض بن عملاق بن لاود بن إرم، وعبيل: هم الذين سكنوا الجحفة، وهي ميقات الشاميين، فأجحفت بهم السيول فيها؛ أي: ذهبت بهم فسميت الجحفة، وقال بعضهم: هي من الثرب بالتحريك، وهو الفساد، وكان في المدينة الفساد واللؤم بسبب عفونة الهواء، وكثرة الحمى، فلما هاجر رسول الله - ﷺ -.. كره ذلك فسماها طيبة، على وزن بصرة، من الطيب، وقد أفتى الإِمام مالك - رحمه الله تعالى - فيمن قال: تربة المدينة رديئة بضربه ثلاثين درةً، وقال: ما أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها رسول الله - ﷺ -، يزعم أنا غير طيبة.
وفي الحديث: "من سمى المدينة بيثرب.. فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة، هي طيبة". وقوله - ﷺ - حين أشار إلى دار الهجرة: "لا أراها إلا يثرب" ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه - ﷺ - من تسميتها بذلك، كان قبل النهي عن ذلك، وإنما سميت طيبة؛ لطيب رائحة من مكث بها، وتزايد روائح الطيب بها، ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم؛ لأن ترابها يشفي المجذوم، وهو كغراب، علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيآتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرحٍ. انتهى.
وفيه إشارة إلى حال أهل الفساد والإفساد في هذه الأمة، إلى يوم القيامة، نسأل الله تعالى أن يقيمنا على نهج الصواب، ويجعلنا من أهل التواصي بالحق، والصبر دون التزلزل والاضطراب.
436
وقوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ معطوف على ﴿قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ والتعبير فيه بالمضارع لحكاية الحال الماضية أيضًا؛ أي: ويطلب جماعة منهم من النبي - ﷺ - الإذن في الرجوع إلى بيوتهم، وتركهم للقتال، معتذرين بمختلف المعاذير، وجملة قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾: بدل من قوله: ﴿يستأذن﴾ أو حال، أو مستأنف جوابًا لسؤال مقدر، والقول الذي قالوه هو قولهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا﴾ ومنازلنا في المدينة ﴿عَوْرَةٌ﴾؛ أي: غير حصينة، وغير محرزة لما فيها، لأنها قصيرة الحيطان، وفي أطراف المدينة، فيخشى عليها من السراق، وأصل العورة في اللغة: الخلل في البناء ونحوه، بحيث يمكن دخول السارق فيها، كما سيأتي.
والمعنى: أنها غير حصينة متخرقة، ممكنة لمن أرادها، فأذن لنا حتى نحصنها ثم نرجع إلى العسكر، وكان عليه السلام يأذن لهم، وفي الحقيقة أنهم كاذبون فيما يقولون، وهم مضمرون غير ذلك، ثم رد الله عليهم بقوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾؛ أي: والحال أن بيوتهم ليست بضائعةٍ، يخشى عليها السراق، بل هي حصينة محرزة.
وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعكرمة ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة، وأبو طالوت وابن مقسم وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير: ﴿عورة﴾ ﴿بعورة﴾ بكسر الواو فيهما؛ أي: قصيرة الجدران، والجمهور: بإسكانها فيهما، أطلقت على المختل مبالغةً.
ثم بيّن سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال: ﴿إِنْ يُرِيدُونَ﴾؛ أي: ما يريدون بالاستئذان ﴿إِلَّا فِرَارًا﴾ وهربًا من القتال، وعدم مساعدة عسكر رسول الله - ﷺ -، أو فرارًا من الدين والإِسلام.
١٤ - ثم بيّن وهن الدين وضعفه في قلوبهم إذ ذاك، وأنه معلق بخيط دقيق، ينقطع بأدنى هزةٍ، فقال: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ﴾ بيوتهم أو المدينة، أسند الدخول إلى بيوتهم، وأوقع عليهم، لما أن المراد فرص دخولها وهم فيها، لا فرص دخولها مطلقًا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور.
﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾؛ أي: من جميع جوانبها، لا من بعضها دون بعض؛ أي:
437
لو كانت بيوتهم مختلة بالكلية، ودخلها كل من أراد الخبث والفساد، ﴿ثُمَّ سُئِلُوا﴾ من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة ﴿الْفِتْنَةَ﴾؛ أي: الردة والرجعة إلى الكفر مكان ما سئلوا من الإيمان والطاعة.. ﴿لَآتَوْهَا﴾ بالمد؛ أي: لأعطوا تلك الفتنة السائلين لها؛ أي (١): أعطوهم مرادهم غير مبالين بما دهاهم من الداهية والغارة بالقصر؛ أي: لفعلوا تلك الفتنة وجاؤوا بها.
﴿وَمَا تَلَبَّثُوا﴾؛ أي: وما مكثوا وما تأخروا عن الإتيان بتلك الفتنة ﴿إِلَّا﴾، زمنًا ﴿يَسِيرًا﴾؛ أي؛ قليلًا قدر ما يسمع السؤال والجواب، فضلًا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها، كما فعلوا الآن، وما ذلك إلا لمقتهم الإِسلام، وشدة بغضهم لأهله، وحبهم بالكفر وأهله، وتهالكهم على حزبه.
والمعنى (٢): لو دخل هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم، وهم الأحزاب، من نواحي المدينة وجوانبها، أو دخلوا بيوتهم من جوانبها جميعًا، لا من بعضها، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم، ثم سئلوا الفتنة والردة والرجعة إلى الكفر، الذي يبطنونه ويظهرون خلافه من جهة أخرى، عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم.. لآتوها؛ أي: لجاؤوا، وفعلوا تلك الفتنة، أو أعطوا تلك الفتنة لسائلها، وما تلبثوا وجلسوا بها؛ أي: بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة إلا تلبثًا يسيرًا حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي، وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلًا، بل هم مسرعون إليها، راغبون فيها، لا يقفون عنها إلا قدر زمن وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة، مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة، كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة، ولم تكن إذ ذاك عورة.
وقال ابن عطية: والمعنى: ولو دخلت المدينة من أقطارها، واشتد الحرب الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة، والحرب لمحمد - ﷺ -.. لطاروا إليها، وأتوها
(١) روح البيان.
(٢) الخازن والشوكاني.
438
مجيبين فيها، ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلا يسيرًا، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سُئِلُوا﴾، وقرأ الحسن: ﴿سولوا﴾ بواو ساكنة بعد السين المضمومة، قالوا: وهي من سأل يسال، كخاف يخاف، لغة: من سأل المهموز العين، وحكى أبو زيد هما يتساولان. انتهى.
ويجوز أن يكون أصلها الهمز، لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب ضرب ثم سهل الهمزة، بإبدالها واوًا، على قول من قال: في بؤس بوس، بإبدال الهمزة واوًا لضم ما قبلها، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو والأعمش: ﴿سيلوا﴾ بكسر السين من غير همز، نحو قيل، وقرأ مجاهد: ﴿سويلوا﴾ بواو بعد السين المضمومة، وياء مكسورة بدلًا من الهمزة، وقرأ الجمهور ﴿لَآتَوْهَا﴾ بالمد؛ أي: لأعطوها، وقرأ نافع وابن كثير: ﴿لأتوها﴾ بالقصر؛ أي: لجاؤوها.
وفي هذا إيماء (٢) إلى أن الإيمان لا قرار له في نفوسهم، ولا أثر له في قلوبهم، فهو لا يستطيع مقابلة الصعاب، ولا مقاومة الشدائد، فلا تعجب لاستئذانهم، وطلبهم الهرب من ميدان القتال.
والخلاصة: أن شدة الخوف والهلع الذي تمكن في قلوبهم، مع خبث طويتهم، وإضمارهم النفاق، تحملهه على الإشراك بالله، والرجوع إلى دينهم، عند أدنى صدمةٍ تحصل لهم من العدو، فإيمانهم طلاء ظاهري، لا أثر له في نفوسهم بحال، فلا عجب إذا هم تسللوا لواذًا، وبلغ الخوف من نفوسهم كل مبلغ.
١٥ - ثم بيَّن أن لهم سابقة عهدٍ بالفرار وخوف اللقاء من الكماة، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان الفريق الذين استأذنوك للرجوع إلى منازلهم في المدينة، وهم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وحلفوا له {مِنْ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
قَبْلُ}؛ أي: من قبل واقعة الخندق، يعني: يوم أحد، حين هموا بالانهزام، ثم تابوا لما نزل فيهم ما نزل كما سبق في آل عمران، وقال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر، ورأوا ما أعطى الله لأهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالًا.. لنقاتلن.
﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾: جواب قسم؛ لأن ﴿عَاهَدُوا﴾: بمعنى حلفوا، كما في "الكواشي"؛ أي: لا يتركون العدو خلف ظهورهم ولا يفرون من القتال ولا ينهزمون ولا يعودون لمثل ما في يوم أحد، ثم وقع منهم هذا الاستئذان نقضًا للعهد، وقال أبو البقاء: ويقرأ بتشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. اهـ. "سمين".
﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَسْئُولًا﴾ عنه صاحبه يوم القيامة، ومطلوبًا بالوفاء به في الدنيا، ومجازًى على ترك الوفاء به يوم القيامة، يسأل عنه: هل وفي المعهود به، أو نقضه فيجازى عليه؟ وهذا وعيد.
والمعنى: أي (١) ولقد كان هؤلاء المستأذنون، وهم بنو حارثة وبنو سلمة، قد هربوا يوم أحد، وفروا من لقاء عدوهم، ثم تابوا وعاهدوا الله أن لا يعودوا إلى مثلها، وأن لا ينكثوا على أعقابهم حين قتالهم مع رسول الله - ﷺ -، ثم بين ما للعهد من حرمةٍ فقال: ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ﴾ يسأل عن الوفاء به يوم القيامة ويجازى عليه.
١٦ - ثم أمر الله رسوله أن يقول لهم: إن فراركم لا يؤخر آجالكم، ولا يطيل أعماركم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المستأذنين الفارين من قتال العدو ومنازلته في الميدان: ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ﴾ والهرب، ولا يدفع عنكم ما أبرم في الأزل، من موت أحدكم حتف أنفه، ﴿إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ﴾ قتلة بسيف أو نحوه، إن فررتم من ﴿الْقَتْلِ﴾، والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، فإنه لا بد لكل شخص من الفناء والهلاك، سواء كان بحتف أنف أو بقتل سيف في وقت
(١) المراغي.
معين سبق به القضاء، وجرى عليه القلم، ولا يتغير أصلًا، فإن المقدر كائن لا محالة، والأجل إن حضر لم يتأخر بالفرار، وكان علي بن أبي طالب يقول عند اللقاء: دهم الأمر وتوقد الجمر.
أَيَّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَفِرّ يَوْمَ لَا يَقْدِرُ أَمْ يَوْمَ قَدِرْ
يَوْمَ لَا يَقْدِرُ لَا أُرْهِبُهُ وَمِنَ الْمَقْدُوْرِ لَا يُنْجِيْ الْحَذِرْ
﴿وَإِذًا﴾؛ أي: وإن نفعكم الفرار مثلًا، فمتعتم بالتأخير ﴿لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا﴾ تمتيعًا ﴿قَلِيلًا﴾ أو إلا زمانًا قليلًا بعد فراركم إلى أن تنقضي آجالكم، وكل ما هو آتٍ قريب، وعمر الدنيا كله قليل، فكيف مدة آجال أهلها، وقد قال من عرف مقدار: عمرك في جنب عيش الآخرة، كنفس واحد، وقد أجاد من قال:
الْمَوْتُ كَأْسٌ وَكُلُّ النَّاسِ شَارِبُهُ وَالْقَبْرُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ
وعن بعض المروانية: أنه مر بحائط مائلٍ فأسرع، فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل أطلب.
والمعنى (١): أي وإن نفعكم الفرار، بأن دفع عنكم الموت، فمتعتم.. لم يكن ذلك التمتع إلا قليلًا، فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، فعمر تأكله الدقائق قليل، وإن كثر، ولله در أحمد شوقي حيث يقول:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِيْ
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تمتعون﴾ بالفوقانية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه: بالتحتية، وفي بعض الروايات: ﴿لا تمتعوا﴾ بحذف النون إعمالًا لإذن، وعلى قراءة الجمهور: هي ملغاة.
١٧ - ولما كانوا ربما يقولون: بل ينفعنا، لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم.. أمره الله سبحانه بالجواب عن هذا فقال: ﴿قُل﴾ يا محمد لهؤلاء المستأذنين ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾ ويحفظكم ﴿مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: من قضائه،
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
441
والاستفهام فيه إنكاري، ومذهب (١) سيبويه على أن ﴿مِنَ﴾ الاستفهامية: مبتدأ، و ﴿ذا﴾: خبره، و ﴿الَّذِي﴾: صفة أو بدل منه، وذهب بعض النحاة إلى كون: ﴿مَنْ ذَا﴾ خبرًا مقدمًا، والعصمة: الحفظ والمنع؛ أي: قل لهم: من الذي يحفظكم ويدفع عنكم قضاء الله وحكمه ﴿إِنْ أَرَادَ﴾ الله سبحانه ﴿بِكُمْ سُوءًا﴾؛ أي: شرًا وضررًا وهلاكًا في أنفسكم، أو نقصًا في الأموال، وجدبًا مرضًا ﴿أَوْ﴾ من الذي يصيبكم بسوء وضرر إن ﴿أَرَادَ﴾ الله سبحانه ﴿بِكُمْ رَحْمَةً﴾؛ أي: نصرةً وإطالة عمر في عافيةٍ وسلامةٍ وخصبًا وكثرة مال، أو المعنى: من يمنع الله من أن يرحمكم، إن أراد بكم رحمةً، لما في العصمة من معنى المنع، ففي الكلام اختصار كما في قوله: متقلدًا سيفًا ورمحًا؛ أي: ومعتقلًا رمحًا، والاعتقال: أخذ الرمح بين الركب والسرج، وكما في قوله: علفتها تبنًا وماءً باردًا.
والمعنى: لا أحد يستطيع أن يدفع عنكم شرًا قدره الله سبحانه عليكم، من قتل أو غيره، ولا أحد يستطيع أن يصيبكم بسوء، إن أراد الله بكم رحمةً، من خصب وملامة وعافيةٍ.
وإجمال القول (٢): أن النفع والضر بيده سبحانه، وليس بغيره في ذلك تصريف ولا تبديل.
ثم أكد هذا بقوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ﴾؛ أي: ولا يجد هؤلاء المنافقون لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: متجاوزين الله سبحانه ﴿وَلِيًّا﴾ يلي أمرهم، ويدفع عنهم السوء قبل الوقوع ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصرهم ويخلصهم من السوء، والضرر بعد الوقوع.
واعلم (٣): أن الآية دلت على أمور:
الأول: أن الموت لا بد منه، قال بعضهم: إذا بلغ الرجل أربعين سنة.. ناداه منادٍ من السماء: دنا الرحيل فأعد زادًا، وقال الثوري: ينبغي لمن كان له
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
442
عقل إذا أتى عليه عمر النبي - ﷺ - أن يهيىء كفنه.
والثاني: أن الفرار لا يزيد في الآجال، ومن أسوأ حالًا ممن سعى لتبديل الآجال والأرزاق، ورجاء دفع ما قدر له أنه لاقٍ، وأنه لا يقيه منه واقٍ.
والثالث: أن من اتخذ الله سبحانه وليًا ونصيرًا.. نال ما يتمناه قليلًا وكثيرًا، ونصر أميرًا وفقيرًا، وطاب له وقته مطلقًا وأسيرًا، فثبت ثبات الجبال، وعامل معاملة الرجال، نسأل الله سبحانه أن يعصمنا من الفرار من نحو بابه، والإقبال على الإدبار عن جنابه، إنه الولي النصير، ذو الفضل الكثير.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣)﴾:
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿النَّبِيُّ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل منه، وجملة النداء: مستأنفة، ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾ ومفعول به، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿وَلَا تُطِعِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُطِعِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله: ضمير يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾، ﴿الْكَافِرِينَ﴾: مفعول به، ﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾: معطوف عليه. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿عَلِيمًا﴾: خبر أول له، ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَاتَّبِعْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على ﴿النَّبِيُّ﴾ - ﷺ -، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾، ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، {مِنْ
443
رَبِّكَ}: حال من الضمير المستتر في ﴿يُوحَى﴾، والجملة الفعلية: صلة الموصول، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرًا﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة ﴿مَا﴾ الموصول، ﴿خَبِيرًا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، معطوف على ﴿اتَّقِ﴾، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿اتَّقِ﴾، ﴿وَكَفَى﴾: فعل ماض، ﴿بِاللَّهِ﴾: فاعل، و ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿وَكِيلًا﴾: تمييز لفاعل ﴿كفى﴾. والجملة: مستأنفة.
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)﴾.
﴿مَا﴾: نافية، ﴿جَعَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة مسوقة للرد على مزاعم المشركين، بأن لبعضهم قلبين، فهو أعقل من محمد، ﴿لِرَجُلٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾، وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿قَلْبَيْنِ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾ ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ صفة لـ ﴿قَلْبَيْنِ﴾ ﴿وَمَا﴾ ﴿و﴾: عاطفة، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾. والجملة: معطوفة على جملة ﴿ما﴾ نافية ﴿جَعَلَ﴾ الأولى، ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿اللَّائِي﴾: اسم موصول للجمع المؤنث في محل النصب صفة لـ ﴿أَزْوَاجَكُمُ﴾. ﴿تُظَاهِرُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿مِنْهُنَّ﴾: متعلق به، ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾: مفعول ثان لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر معطوف على ﴿جَعَلَ﴾ الأول، ﴿أَدْعِيَاءَكُمْ﴾: مفعول أول لـ ﴿جَعَلَ﴾، ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾: مفعول ثان، ﴿ذَلِكُمْ﴾: مبتدأ، ﴿قَوْلُكُمْ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة، ﴿بِأَفْوَاهِكُمْ﴾: حال من ﴿قَوْلُكُمْ﴾؛ أي: كائنًا بأفواهكم فقط، من غير أن تكون له حقيقة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿يَقُولُ الْحَقَّ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة، ﴿وَهُوَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هو﴾: مبتدأ ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع
444
وفاعل مستتر ﴿السَّبِيلَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يَهْدِي﴾، والأول محذوف؛ أي: من يشاء، أو منصوب بنزع الخافض، وجملة ﴿يَهْدِي﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿يَقُولُ﴾.
﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾.
﴿ادْعُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان أن نسبة كل مولود إلى والده أقوم وأعدل. ﴿لِآبَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿ادْعُوهُمْ﴾. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿أَقْسَطُ﴾: خبره. والجملة: مستأنفة. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَقْسَطُ﴾ أو حال من الضمير في ﴿أَقْسَطُ﴾، ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: هذا إن علمتم آباءهم. ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿آبَاءَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿إخوانكم﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم إخوانكم. ﴿فِي الدِّينِ﴾: حال من ﴿إخوانكم﴾، ﴿وَمَوَالِيكُمْ﴾: معطوف على ﴿إخوانكم﴾. والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها. وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
﴿وَلَيْسَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ليس﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: خبرها مقدم. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسمها مؤخر. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿جُنَاحٌ﴾. وجملة ﴿ليس﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فإن لم تعلموهم﴾. ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ما في قوله فيما ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾. ويجوز أن يكون في محل الرفع مبتدأ، وخبره:
445
محذوف تقديره: ولكن ما تعمدت قلوبكم تؤاخذون به. ﴿تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَّا﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ولكن ما تعمدته قلوبكم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿غَفُورًا﴾: خبر أول لكان. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة.
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)﴾.
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾. والجملة: مستأنفة. ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ أيضًا. ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾: مبتدأ وخبر. والجملة: معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾: مبتدأ أول. ﴿بَعْضُهُمْ﴾: مبتدأ ثان أو بدل من أولوا. ﴿أَوْلَى﴾: خبر للمبتدأ الثاني. وجملة الثاني: خبر الأول. وجملة الأول: معطوفة على الجمل التي قبلها. ﴿بِبَعْضٍ﴾: متعلق ﴿أَوْلَى﴾، ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: بإرث بعض. ﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ أيضًا؛ لأن أفعل التفضيل يعمل في الظرف؛ أي: هذه الأولوية، وهذا الاستحقاق، كائن وثابت في كتاب الله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير في ﴿أَوْلَى﴾ والعامل فيها ﴿أَوْلَى﴾؛ لأنها شبيهة بالظرف، ولا يجوز أن يكون حالًا من ﴿وَأُولُو﴾ للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل فيها. اهـ. "كرخي". ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾ أيضًا. ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ﴾: معطوف عليه، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تَفْعَلُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية. ﴿إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَفْعَلُوا﴾: بتضمينه معنى تحسنوا أو تسدوا. ﴿مَعْرُوفًا﴾: مفعول به. والجملة الفعلية، مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية: في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ، وخبره: محذوف، والتقدير: لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفًا جائز، والجملة الاستدراكية: مستأنفة. ﴿كَانَ ذَلِكَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِي الْكِتَابِ﴾: متعلق بـ ﴿مَسْطُورًا﴾. ﴿مَسْطُورًا﴾. خبر ﴿كَانَ﴾: وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة.
446
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد قصة إذ أخذنا إلخ. ﴿أَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾: متعلق به. ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾: مفعول به. والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾: معطوفان على ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾: عطف خاص على عام. ﴿وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾: معطوفات على ﴿نُوحٍ﴾. ﴿ابْنِ مَرْيَمَ﴾: صفة لـ ﴿وَعِيسَى﴾. ﴿وَأَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على لـ ﴿أَخَذْنَا﴾ الأول للتأكيد. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿مِيثَاقًا﴾: مفعول به لـ ﴿أَخَذْنَا﴾. ﴿غَلِيظًا﴾: صفة ﴿مِيثَاقًا﴾.
﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)﴾.
﴿لِيَسْأَلَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يسأل﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿الصَّادِقِينَ﴾: مفعول به، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿اللام﴾: الجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: فعل ذلك ليسأل الصادقين. إلخ. والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿عَنْ صِدْقِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يسأل﴾. ﴿وَأَعَدَّ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أعد﴾. ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به. ﴿أَلِيمًا﴾: صفة له. وفي "الفتوحات": ﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾: يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوف على ما دل عليه ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾، إذ التقدير: فأثاب الصادقين وأعد للكافرين.
والثاني: أنه معطوف على ﴿أَخَذْنَا﴾؛ لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
447
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)}.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل أو عطف بيان. وجملة النداء: مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿اذْكُرُوا﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. والجملة: جواب النداء. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾؛ لأنه مصدر بمعنى: إنعام الله عليكم، أو بمحذوف حال من ﴿النعمة﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿اذْكُرُوا﴾، وهو بمنزلة بدل اشتمال من ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾، والمراد بـ ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾: نصرهُ في غزوة الأحزاب. ﴿جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾: فعل ومفعول به وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فَأَرْسَلْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أرسلنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَتْكُمْ﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أرسلنا﴾. ﴿رِيحًا﴾: مفعول به، ﴿وَجُنُودًا﴾: معطوف على ﴿رِيحًا﴾. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَرَوْهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. والجملة الفعلية: صفة لـ ﴿جُنُودًا﴾. ورأى هنا بصرية. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرًا﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿بَصِيرًا﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿أرسلنا﴾.
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان بدل من ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾. ﴿جَاءُوكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءُوكُمْ﴾. ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ﴾: معطوف على ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَسْفَلَ﴾. ﴿وَإِذْ زَاغَتِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، معطوف على ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾. ﴿زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿زَاغَتِ﴾. ﴿الْحَنَاجِرَ﴾: منصوب على الظرفية المكانية، أو على التوسع.
448
﴿وَتَظُنُّونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿زَاغَتِ﴾، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تظنون﴾. ﴿الظُّنُونَا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، و ﴿الألف﴾: مزيدة تشبيهًا للفواصل بالقوافي. ﴿هُنَالِكَ﴾: ﴿هنا﴾: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، و ﴿اللام﴾: لبعد المشار إليه، و ﴿الكاف﴾: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ ﴿ابْتُلِيَ﴾. ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿وَزُلْزِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿ابْتُلِيَ﴾. ﴿زِلْزَالًا﴾: مصدر مبين للنوع. ﴿شَدِيدًا﴾: صفة لـ ﴿زِلْزَالًا﴾.
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر إذ يقول المنافقون، والجملة المحذوفة، مستأنفة، أو معطوفة على ما سبق. ﴿يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على ﴿الْمُنَافِقُونَ﴾. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَرَضٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: صلة الموصول. ﴿مَا وَعَدَنَا﴾: ﴿مَا﴾: نافية. ﴿وَعَدَنَا اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿وَرَسُولُهُ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿يَقُولُ﴾. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿غُرُورًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، ولكنه على حديث مضاف؛ أي: وعد غرور. ﴿وَإِذْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على ﴿إذ يقول﴾. ﴿قَالَتْ طَائِفَةٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لـ ﴿طَائِفَةٌ﴾. ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾: منادى مضاف، ويثرب ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، أو التأنيث المعنوي، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن. ﴿مُقَامَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: خبر ﴿لَا﴾. وجملة ﴿لَا﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فَارْجِعُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها
449
أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سمعتم كلامي، وقبلتم نصحي.. فأقول لكم: ارجعوا. ﴿ارجعوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿وَيَسْتَأْذِنُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يستأذن فريق﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالَتْ﴾. ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة ﴿فَرِيقٌ﴾. ﴿النَّبِيَّ﴾: مفعول به. ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل. والجملة: في محل النصب حال من ﴿فَرِيقٌ﴾ لوصفه بما بعده. ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا﴾: ناصب واسمه. ﴿عَوْرَةٌ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿وَمَا هِيَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿ما﴾: حجازية تعمل عمل ليس. ﴿هِيَ﴾: في محل الرفع اسمها. ﴿بِعَوْرَةٍ﴾: خبرها. و ﴿الباء﴾: زائدة. وجملة ﴿ما﴾: في محل النصب حال من ﴿بيوتنا﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿يُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿فِرَارًا﴾: مفعول به. والجملة: مستأنفة.
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿دُخِلَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود إلى ﴿بيوتهم﴾، أو إلى المدينة. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾: حال من مرفوع ﴿دُخِلَتْ﴾. والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿سُئِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿دُخِلَتْ﴾. ﴿الْفِتْنَةَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿دُخِلَتْ﴾. ﴿لَآتَوْهَا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿أتوها﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والمفعول الثاني: محذوف إن قرأنا بالمد؛ لأنه بمعنى أعطي، تقديره: لأعطوها السائلين. والجملة الفعلية: جواب ﴿لو﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿تَلَبَّثُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تَلَبَّثُوا﴾. ﴿إِلا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿يَسِيرًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تلبثًا يسيرًا، أو لزمن محذوف؛
450
أي: زمنًا يسيرًا، والجملة: معطوفة على جواب ﴿لو﴾ الشرطية.
﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية، في محل النصب خبر ﴿كان﴾. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَاهَدُوا﴾. وجملة ﴿كان﴾: جملة قسمية لا محل لها من الإعراب؛ لأنه بمعنى: ولقد أقسموا بالله من قبل. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُوَلُّونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿الْأَدْبَارَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿يُوَلُّونَ﴾، والمفعول الأول: محذوف، تقديره: لا يولون العدو الأدبار، والجملة الفعلية: جواب القسم لا محل لها من الإعراب. وجاء على حكاية اللفظ، فجاء بلفظ الغيبة، ولو جاء على حكاية المعنى.. لقيل: لا نولي. ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كان عهد الله﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مَسْئُولًا﴾: خبره. والجملة: معطوفة على جملة القسم. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿لَنْ﴾: حرف نفي ونصب. ﴿يَنْفَعَكُمُ﴾: فعل ومفعول به منصوب بـ ﴿لَنْ﴾. ﴿الْفِرَارُ﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿فَرَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزمِ بـ ﴿إِنْ﴾: الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿مِنَ الْمَوْتِ﴾: متعلق بـ ﴿فَرَرْتُمْ﴾، ﴿أَوِ الْقَتْلِ﴾: معطوف عليه، وجواب ﴿إِنْ﴾: الشرطية معلوم مما قبله، تقديره: إن فررتم من الموت.. لن ينفعكم الفرار، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَإِذًا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِذًا﴾: حرف جواب وجزاء مهمل لعدم تصدرها في أول الكلام المجاب بها، كما هو الغالب والشرط فيها. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تُمَتَّعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تمتيعًا قليلًا، أو زمان محذوف؛ أي: زمنًا قليلًا.
451
﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة: مستأنفة. ﴿مَنْ ذَا﴾: اسم استفهام مركب للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع خبر مقدم. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية: في مجل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يَعْصِمُكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به. والجملة: صلة الموصول ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَرَادَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر في محل الحزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿بِكُمْ﴾ متعلقان به ﴿سُوءًا﴾: مفعول به، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبله، تقديره: إن أراد بكم سوءًا فمن الذي يعصمكم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَوْ أَرَادَ﴾: فعبم وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَرَادَ﴾ الأول. ﴿بِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَرَادَ﴾. ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول به، ولا بد من تقدير محذوف هنا كما مر؛ أي: أو من الذي يصيبكم بسوء، إن أراد بكم رحمة. ﴿وَلَا يَجِدُونَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهُمْ﴾: جار وجرور في محل المفعول الثاني، أو متعلق به إن كان من وجد الضالة. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من ﴿وَلِيًّا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول أول لـ ﴿يَجِدُونَ﴾ أو مفعول به له. ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾: معطوف على ﴿وَلِيًّا﴾. والجملة الفعلية: مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾: النبي: إما مأخوذ من النبأ، وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، وسمي نبيًا؛ لأنه منبىء؛ أي: مخبر عن الله بما تسكن إليه العقول الزكية، أو من النبوة؛ أي: الرفعة؛ لأنه مرفوع الرتبة على سائر الخلائق، أو رافع رتبة من تبعه، فهو فعيل: إما بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، فأصله على الأول نبييء؛ وعلى الثاني: نبيو.
﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾؛ أي: دم على التقوى، قال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل
452
بطاعة الله سبحانه على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله. اهـ.
واعلم: أن التقوى في اللغة بمعنى: الاتقاء، وهو اتخاذ الوقاية، وعند أهل الحقيقة هو، الاحتواز بطاعة الله من عقوبته، وصيانة النفس عما تستحق به العقوبة، من فعل أو ترك، فالتقوى اسم مصدر من اتقى يتقي اتقاءً: إذا جعل لنفسه وقاية عما يخافه.
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: دم على ما أنت عليه من انتقاء الطاعة لهم، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهنٍ في الدين، وذلك أن رسول الله - ﷺ - لم يكن مطيعًا لهم، حتى ينهى عن إطاعتهم، لكنه أكد عليه ما كان عليه، وثبت على التزامه، والإطاعة: الانقياد، والطاعة: اسم مصدر من أطاع يطيع إطاعةً وطاعةً، والفرق بين الطاعة والعبادة: أن الطاعة فعل يعمل بالأمر، بخلاف العبادة.
﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ﴾؛ أي: نساءكم، جمع زوج، كما أن الزوجات جمع زوجة، والزوج، أفصح، وإن كان الثاني أشهر.
﴿اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ﴾ يقال: ظاهر الرجل من زوجته: إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، يريدون: أنت محرمة علي كما تحرم الأم، وكانوا في الجاهلية يجرون على المظاهر منها حكم الأم، فهو مضارع ظاهر، ومصدره: الظهار بكسر الظاء، كقاتل قتالًا، وهو كما في "القاموس" قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وقد ظاهر وتظهر وظهر، وخصوا الظهر دون غيره؛ لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوب الزوج، ففي قول المظاهر: أنت علي كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر إلى المركوب، ومن المركوب إلى المرأة؛ لأنها مركوب الزوج، فكان المُظاهر يقول: أنت محرمة علي لا تركبين، كتحريم ركوب أمي.
﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾؛ أي: كأمهاتكم، جمع أم، زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق، من أراق، وشذت زيادتها في الواحدة بأن يقال: أمه.
453
﴿أَدْعِيَاءَكُمْ﴾: جمع دعي، وهو من يُدعى لغير أبيه؛ أي: يتخذ ولدًا وابنًا له، وهو المتبنى بتقديم الباء الموحدة على النون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس، لأن أفعلاء، إنما يكون جمعًا لفعيل المعتل اللام، إذا كان بمعنى فاعل، نحو تقي وأتقياء، وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلًا معتل اللام، إلا أنه بمعنى مفعول، فكان القياس جمعه على فعلى، كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، بأن يقال: دعيًا، فكأنه شبه فعيل بمعنى مفعول في اللفظ، بفعيل بمعنى فاعل، فجمع جمعه.
﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾: والأفواه: جمع فم، وأصل فم: فوه بالفتح، مثل ثوب وأثواب، وهو مذهب سيبويه والبصريين، أوفوه بالضم، مثل سوق وأسواق، وهو مذهب الفراء، حذفت الهاء حذفاَ غير قياسي لخفائها، ثم الواو لاعتلالها، ثم أبدلت الواو المحذوفة ميمًا لتجانسهما، لأنهما من حروب الشفة، فصار فمًا.
﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾: والسبيل من الطرق: ما هو معتاد السلوك وما فيه سهولة.
﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ يقال: فلان يدعى لفلان؛ أي: ينسب إليه، ووقوع اللام هاهنا للاستحقاق.
﴿أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ﴾: القسط بالكسر: العدل، بالفتح: هو أن يأخذ قسط غيره، وذلك غير إنصاف، ولذلك قيل: قسط الرجل: إذا جار، وأقسط: إذا عدل. حكي أن امرأة قالت للحجاج: أنت القاسط، فضربها، وقال: إنما أردت القسط بالفتح، وأقسط هنا أفعل تفضيل، قصد به الزيادة المطلقة، والمعنى بالغ في العدل والصدق.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾؛ أي: إثم، يقال: جنحت السفينة؛ أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم: المائل بالإنسان عن الحق جناحًا، ثم سمي كل إثم جناحًا، وقال بعضهم: إنه معرب، كناه على ما هو عادة العرب في الإبدال، ومثله الجوهر: معرب كوهر.
454
﴿فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ بقطع الهمزة؛ لأن همزة باب الإفعال مقطوعة وفرق بين الخاطىء والمخطيء، بأن الخاطيء من يأتي بالخطأ: وهو يعلم أنه خطأ، والمخطيء: من يأتي بالخطأ، وهو لا يعلم أنه خطأ، يقال: أخطأ الرجل في كلامه وأمره، إذا زلّ وهنا وخطأ الرجل إذا ضلّ في دينه وفعله، ومنه قوله: ﴿لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)﴾.
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: أرأف وأشفق وأجدر بهم.
﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾: فيما دعاهم إليه من أمر الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم.
والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم. اهـ. "شيخنا".
ويقال: فلان أولى بكذا: أحرى وأليق به.
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾: جمع رحم، وهو القرابة؛ أي: ذوو القرابات.
﴿مَسْطُورًا﴾؛ أي: مكتوبًا، يقال: سطر فلان كذا؛ أي: كتب سطرًا سطرًا، والسطر: الصف من الكتابة.
﴿مِيثَاقَهُمْ﴾: الميثاق: عقد يؤكد بيمين. ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: إنعام الله عليكم بالنصر على الأحزاب، وذكر النعمة: شكرها.
﴿جُنُودٌ﴾: جمع جند، ويقال للعسكر: الجند؛ اعتبارًا بالغلظ من الجند، وهي الأرض الغليظة التي فيها حجارة، ثم يقال لكل مجتمع جند، نحو: الأرواح جنود مجندة؛ أي: مجمعة، والمراد بالجنود هنا: الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة بن حصن، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير من اليهود ورؤسائهم: حيي بن أخطب، وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله - ﷺ - عهد، فنبذه كعب بسعي حيي، وكان مجموع جيوش الأعداء عشرة آلاف، أو نحو ذلك.
455
﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾؛ أي: انحرفت عن مستوى نظرها حيرةً ودهشةً، والزيغ: الميل عن الاستقامة، والأبصار: جمع بصر، والبصر: الجارحة الناظرة.
﴿الْحَنَاجِرَ﴾: جمع حنجرة، وهي: رأس الغلصمة، والغلصمة: رأس الحلقوم، والحلقوم: مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم: مجرى النفس، والمريء: مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم. وقال الراغب: الحنجرة: رأس الغلصمة من خارج. اهـ. وهي منتهى الحلقوم وطرفه من أسفله اهـ. "سمين".
﴿هُنَالِكَ﴾: هو في الأصل للمكان البعيد، لكن العرب تكنى بالمكان عن الزمان، وبالزمان عن المكان.
﴿زِلْزَالًا﴾ الزلة في الأصل: استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلت رجله تزل، والمزلة: المكان الزلق، وقيل: للذنب من غير قصد: زلة، تشبيهًا بزلة الرجل، والتزلزل: الاضطراب، وكذا الزلزلة: شدة الحركة، وتكرير حروف لفظه تنبيه على تكرر معنى الزلل.
﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾: قال الواغب: المرض: الخروج عن الاعتدال الخاص بالإنسان، وهو ضربان: جسمي ونفسي، كالجهل والجبن والنفاق ونحوها من الرذائل الخلقية، وهم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم، لقرب عهدهم بالإِسلام.
﴿إِلَّا غُرُورًا﴾: بضم الغين لا غير، لأنه مصدر؛ أي: وعد غرور لا حقيقة له.
﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾؛ أي: لا ينبغي لكم الإقامة هاهنا.
﴿عَوْرَةٌ﴾ بسكون الواو، وفي الأصل: أطلقت على المختل مبالغة، يقال: عور المكان عورًا: إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق، وفلان يحفظ عورته؛ أي: خلله، والعورة أيضًا: سوءة الإنسان، وذلك كناية، وأصلها من
456
العار، وذلك لما يلحق في ظهورها من العار؛ أي: المذمة، ولذلك سمي النساء عورة، ومن ذلك العوراء، للكلمة القبيحة.
﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾: جمع قطر بالضم، وهو الجانب والناحية.
﴿الْفِتْنَةَ﴾: الردة ومقاتلة المؤمنين.
﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾ العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالًا بعد حال، وسمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدًا، والمعاهدة: المعاقدة.
﴿الْأَدْبَارَ﴾: جمع دبر، ودبر الشيء: خلاف القبل، يقال: ولاه دبره: إذا انهزم.
﴿مَسْئُولًا﴾؛ أي: مطلوبًا حتى يوفى، يقال: سألت فلانًا حقي؛ أي: طالبته به.
﴿أَوِ الْقَتْلِ﴾ والقتل: فعل يحصل به زهوق الروح، قال الراغب: أصل القتل: إزالة الروح عن الجسد، كالموت، لكن إذا اعتبر بفعل المتولي لذلك يقال قتل، وإذا اعتبر بفوت الحياة يقال موت. انتهى.
﴿وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ﴾: وإذًا: حرف جواب وجزاء كما مر، ولما وقعت هنا بعد عاطف.. جاءت على الأكثر، وهو عدم إعمالها، ولم يشذ ما هنا ما شذ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب. اهـ. "سمين".
﴿يَعْصِمُكُمْ﴾: والعصمة: الإمساك والحفظ.
﴿سُوءًا﴾: والسوء: كل ما يسوء الإنسان ويغمه، والمراد هنا: القتل والهزيمة ونحوهما.
﴿وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾: الولي هو الدافع عنهم قبل وقوع السوء بهم والناصر المخرج لهم من السوء بعد وقوعهم فيه، كذا فرق بينهما.
457
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: النداء بوصف النبي في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ إجلالًا له وتعظيمًا.
ومنها: تنكير رجل في قوله: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ لإفادة الاستغراق والشمول، وإدخال حرف الجر الزائد؛ لتأكيد الاستغراق في قوله: ﴿مِنْ قَلْبَيْنِ﴾.
ومنها: ذكر الجوف في قوله: ﴿فِي جَوْفِهِ﴾ لزيادة التصوير في الإنكار.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾، وقوله: ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾؛ أي: مثل أمهاتكم في التحريم، ومثل أبنائكم في الميراث، وفي قوله: ﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ حذف منه وجه الشبه وأداة التشبيه، فصار بليغًا، وأصل الكلام: وأزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم والإجلال والتكريم.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾؛ أي: أولى بإرث بعض.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام، إظهارًا لشرفه وفضله في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ﴾ إلخ. فقد دخل هؤلاء المذكورون في جملة النبيين، ولكنه خصهم بالذكر؛ تنويهًا بشأنهم، وتشريفًا لهم؛ لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل، فآثرهم بالذكر؛ للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم، وقدم النبي محمدًا - ﷺ - مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده؛ لأنه هو المخاطب من بينهم، والمنزل عليه هذا المتلو، فكان تقديمه لهذا السبب.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ حيث شبه الميثاق بجرم
458
محسوس، واستعار له شيئًا من صفات الإجرام، وهو الغلظ؛ للتنويه لعظم الميثاق وحرمته وثقل حمله.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ لغرض بيان وصف الغلظ.
ومنها: الالتفات من التكلم في قوله: ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ﴾ إلى الغيبة في قوله: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾ لغرض التبكيت والتقبيح للمشركين.
ومنها: الطباق بين ﴿أَخْطَأْتُمْ﴾ و ﴿تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾، وبين ﴿سُوءًا﴾ و ﴿رَحْمَةً﴾؛ لأن المراد بالسوء: الشر، وبالرحمة: الخير، وبين ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾.
ومنها: التمثيل في قوله: ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ حيث صور القلوب في خفقانها، واضطرابها، بارتفاعها إلى الحناجر.
ومنها: الإتيان بصيغة المضارع في قوله: ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ لاستحضار الصورة الماضية، وللدلالة على الاستمرار، وفي قوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ للدلالة على استحضار القول، واستحضار صورته، وفي قوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾؛ لأنه كناية عن الفرار من الزحف.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾؛ لأنه كناية عن كونها غير حصينة.
ومنها: العدول إلى الغيبة في قوله: ﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾ على إرادة حكاية اللفظ، ولو جاء على حكاية المعنى.. لقيل: لا نولي الأدبار على، صيغة التكلم.
459
ومنها: توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا﴾، ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾، وهو مما يزيد رونق الكلام، وعذوبته، لما له من وقعٍ رائعٍ وجذب سامع.
ومنا: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
460
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما نصر (١) نبيه - ﷺ -، فرد عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير.. ظن أزواجه - رضي الله عنهن - أنه اختص بنفائس اليهود
(١) المراغي.
461
وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول - الخدم والحشم - ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه الشريف بمطالبهن من توسعة الحال، ومعاملتهن معاملة نساء الملوك وأبناء الدنيا، من التمتع بزخرفها من المأكل والمشرب، ونحو ذلك، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في شأنهن.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (١) البخاري بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين.. ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون.. قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: المشركين، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع.
قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾. إلى آخر الآية.
والحديث أخرجه أيضًا مسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطيالسي وابن جرير وأبو نعيم في "الحلية" وعبد الله بن المبارك في "الجهاد".
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(١) البخاري.
462
وَزِينَتَهَا...} الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لم أزل حريصًا على أن أسال عمر - رضي الله عنه - عن المرأتين من أزواج النبي - ﷺ -، اللتين قال الله لهما: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس: عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، فقال: إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي - ﷺ -، فينزل يومًا، وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله، وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصاحت علي امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي - ﷺ - ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره النهار حتى الليل، فأفزعني، فقلت: خابت من فعلت منهن بعظيمٍ، ثم جمعت على ثيابي فدخلت على حفصة، فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله - ﷺ - حتى الليل؟ فقالت: نعم، فقلت: خابت وخسرت، أفتأمن من أن يغضب الله رسوله فتهلكين، لا تستكثري على رسول الله - ﷺ - ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، واسأليني ما بدا لك ولا تغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى رسول الله - ﷺ - يريد عائشة - وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته، فرجع عشاء، فضرب بأبي ضربًا شديدًا، وقال: أنائم هو، ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم، قلت: ما هو، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله - ﷺ - نساءه، قال: قد خابت حفصة وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون، فجمعت علي ثيابي، فصليت صلاة الفجر مع النبي - ﷺ -، فدخل مشربةً له فاعتزل فيها، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، قلت: ما يبكيك، أولم أكن حذرتك، أطلقكن رسول الله - ﷺ -؟ قالت: لا أدري هوذا في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، فجلست معهم قليلًا ثم غلبني ما أجد، فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود: استأذن لعمر، فدخل فكلم النبي - ﷺ - ثم خرج فقال: ذكرتك له
463
فصمت، فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فذكر مثله، فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فذكر مثله، فلما وليت منصرفًا فإذا الغلام يدعوني، قال: أذن لك رسول الله - ﷺ -، فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، وقد أثر الرمال بجنبه، متكىء على وسادةٍ من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه، ثم قلت: وأنا قائم: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ فرفع بصره إليّ فقال: "لا" ثم قلت وأنا قائم: استأنس يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي - ﷺ -، ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك، وأحب إلى النبي - ﷺ -، يريد عائشة، فتبسم أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، ثم رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاث، فقلت: أدع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله، وكان متكأ فقال: "أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي، فاعتزل النبي - ﷺ - من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة على عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهن شهرًا، من موجدته عليهن حين عاتبه الله سبحانه، فلما مضت تسع وعشرون ليلة.. دخل على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرًا، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلةً أعدها عدًا، فقال النبي - ﷺ -: الشهر تسعٌ وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين، قالت عائشة: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول مرةٍ، فقال: "إني ذاكر لك أمرًا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: إن الله سبحانه قال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ إلى قوله: ﴿عَظِيمًا﴾ قلت: أفي هذا أستامر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءَه، فقلن: مثل ما قالت عائشة.
الحديث أخرجه الترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه وأحمد وابن
464
الجارود وابن جرير.
وأخرج (١) مسلم وأحمد والنسائي من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله - ﷺ -، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لهما فدخلا، والنبي - ﷺ - جالس وحوله نساؤه وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي - ﷺ - لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر، سألتني النفقة آنفًا فوجأت عنقها، فضحك النبي - ﷺ - حتى بدا ناجده، وقال: من حولي يسألنني النفقة آنفًا، فقام أبو بكر، إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي - ﷺ - ما ليس عنده، وأنزل الخيار فبدأ بعائشة، فقال النبي - ﷺ -: "إني ذاكر لك أمرًا، ما أحب أن تتعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك" قالت: ما هو؟ فتلا عليها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ...﴾ الآية. قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل اختار الله ورسوله.
التفسير وأوجه القراءة
١٨ - ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾: ﴿قد﴾ (٢) فيه لتأكيد العلم بالتعويق، ومرجع العلم إلى توكيد الوعيد، والتعويق: التثبيط، يقال: عاقه وعوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده، كما سيأتي. ومنه عوائق الدهر، والخطاب فيه لمن أظهر الإيمان مطلقًا.
والمعنى: قد علم الله سبحانه المثبطين للناس عن نصرة رسول الله - ﷺ -، الصارفين عن طريق الخير، وهم المنافقون أيًا من كان منهم.
﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ من منافقي المدينة، فالمراد: الأخوة في الكفر والنفاق ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾؛ أي: احضروا وارجعوا إلينا، ودعوا محمدًا - ﷺ -، فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك، وهذا يدل على أنهم عند هذا القول
(١) مسلم.
(٢) روح البيان.
465
خارجون عن العسكر، متوجهون نحو المدينة فرارًا من العدو، و ﴿هَلُمَّ﴾: اسم فعل بمعنى أقبل وأحضر وقرب، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وكلمة ﴿إلى﴾ صلة التقريب الذي تضمنه ﴿هَلُمَّ﴾. والمعنى: قربوا أنفسكم إلينا.
قيل (١): هم أناس من المنافقين، كانوا يثبطون أنصار النبي - ﷺ -، ويقولون لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأسٍ، ويريدون أنهم قليلو العدد، ولو كانوا لحمًا لالتهمهم؛ أي: ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك، وقيل: نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلت إليهم: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة.. لم يبقوا منكم أحدًا، وإنا نشفق عليكم، فأنتم إخواننا وجيراننا، هلموا إلينا، فأقبل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه على المؤمنين، يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا: لئن قدر اليوم عليكم لم يبق منكم أحدًا، أما ترجعون عن محمد، ما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا؛ يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانًا وإحتسابًا.
﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾؛ أي: الحرب والقتال، وهو في الأصل الشدة ﴿إِلَّا﴾ إتيانًا ﴿قَلِيلًا﴾ خوفًا من الموت، فإنهم يعتذرون ويتأخرون ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين، يوهمونهم أنهم معهم، لا تراهم يبارزون ويقاتلون، إلا شيئًا قليلًا، إذا اضطروا إليه، وهذا على تقدير عدم الفرار، وقيل: المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياءً وسمعةً من غير احتساب، وقال أبو حيان: وقلته: إما لقصر زمانه، وإما لقلة عقابه، وأنه رياء وتلميع لا تحقيق، انتهى.
وقال ابن السائب: (٢) هي في عبد الله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير
(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
466
ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة، فإذا جاءهم المنافق.. قالوا له: ويحك، اجلس ولا تخرج، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر: أن ائتونا فإنا ننتظركم، وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن لا يجدوا بدًا من إتياته، فيأتون ليرى الناس وجوههم، فإذا غفل عنهم.. عادوا إلى المدينة، فنزلت هذه الآية؟
والمعنى (١): أي إن ربك أيها الرسول، ليعلم حق العلم من يثبطون الناس عن رسول الله - ﷺ -، يصدونهم عنه، وعن شهود الحرب معه، نفاقًا منهم، وتخذيلًا عن الإِسلام، ويعلم الذين يقولون لأصحابهم خلطائهم من أهل المدينة: تعالوا إلى ما نحن فيه من الظلال والثمار، ودعوا محمدًا فلا تشهدوا معه مشهدًا، فإنا نخاف عليكم الهلاك، ولا يأتون المعسكر إلا ليراهم المخلصون، فإذا غفلوا عنهم.. تسللوا لواذًا، وعادوا إلى بيوتهم.
١٩ - ثم ذكر بعض معايبهم، من البخل والخوف والفخر الكاذب فقال:
١ - ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يَأْتُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم بخلاء عليكم، لا يعاونونكم بحفر الخندق، ولا بالنفقة والنصرة في سبيل الله، فهم لا يودون مساعدتكم، لا بنفس ولا بمالٍ، قاله مجاهد وقتادة، وقيل: بخلاء بالقتال معكم، وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل: أشحةً بالغنائم إذا أصابوها، قاله السدي. وقرأ الجمهور: بالنصب، وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع.
٢ - ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ﴾؛ أي: الخوف من العدو ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾؛ أي: رأيت يا محمد، أو أيها المخاطب أولئك المعوقين ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ يا محمد في تلك الحالة، حالة كونهم ﴿تَدُورُ﴾ وتتحرك ﴿أَعْيُنُهُمْ﴾ وأبصارهم في أحداقهم يمينًا وشمالًا، وذلك شأن الجبان، إذا شاهد ما يخافه، و (الكاف) في قوله: ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: تدور أعينهم دورانًا كائنًا كدوران عين المغشي عليه من معالجة سكرات الموت وأسبابه، حذرًا وخوفًا
(١) المراغي.
467
والتجاءً بك، يقال: غشي على فلان: إذا نابه ما غشي فهمه وستر عقله، كما سيأتي؛ أي: تدور أعينهم كدوران عين الذي غشيته أسباب الموت، وأحاطت به سكراته، فيذهل عن كل شيء، ويذهب عقله، ويشخص بصره، فلا يطرف، كذلك هؤلاء، تشخص أبصارهم لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه.
والمعنى: أي (١) فإذا بدأ الخوف بِكَرِّ الشجعان وفرِّهم في ميدان القتال.. رأيتهم ينظرون إليك، وقد دارت أعينهم في مواضعها، فرقًا وخوفًا، كدوران عين الذي قرب من الموت، وعشيته أسبابه، فإنه إذ ذاك يذهب نبه وعقله، ويشخص بصره، فلا يتحرك طرفه.
٣ - ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾ وحصل الأمن من العدو وجمعت الغنائم.. ﴿سَلَقُوكُمْ﴾؛ أي: جرحوكم وآذوكم ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾؛ أي: بألسنة سليطةٍ ذربةٍ بذيةٍ خفيفة الحياء، جهروا فيكم بالسوء من القول، قال قتادة: ومعنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، وقالوا: وفروا لنا قسمتنا وسهمنا، فإنا قد ساعدناكم، وقاتلنا معكم، وبمكاننا غلبتم عدوكم، وبنا نصرتم عليه.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿سَلَقُوكُمْ﴾ بالسين، وابن أبي عبلة: بالصاد.
أي: فإذا كان الأمن.. تكلموا فصيح الكلام، وفخروا بما لهم من المقامات المشهودة في النجدة والشجاعة، وهم في ذلك كاذبون، قال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم، وأسوؤهم مقاسمةً، يقولون: أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذَ لُهم للحق. اهـ.
ثم بيّن ما دعاهم إلى بسط ألسنتهم فيهم، فقال: ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾: حال من فاعل سلقوكم؛ أي: طعنوكم بألسنةٍ حدادٍ؛ أي: مؤثرة في الإعراض تأثير الحديد في الأجسام، حالة كونهم بخلاء على المال، حريصين على أخذ الغنائم.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
468
وقرأ الجمهور: ﴿أَشِحَّةً﴾ بالنصب على الحال، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿أشحة﴾ بالرفع؛ أي: هم بخلاء حريصون على الغنائم، إذا ظفر بها المؤمنون، لا يريدون أن يفوتهم شيء مما وصل إلى أيديهم.
والخلاصة: أنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء.
أَفِيْ السلم أعيار جفاءً وغلظةً وَفِيْ الْحَرْبِ أمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَاتِكِ
وبعد أن وصفهم بما وصفهم به، من دنيء الصفات.. بين ما دعاهم إليها، وهو قلة ثقتهم بالله، لعدم تمكن الوازع النفسي في قلوبهم فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من صفات السوء ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ بالإخلاص، حيث أبطنوا خلافًا ما أظهروا، فصاروا أخبث الكفرة، وأبغضهم إلى الله ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: أظهر بطلانها إذ لم يثبت لهم أعمال تقتضي الثواب فتبطل؛ لأنهم منافقون، وفي هذا (١) دلالة على أن المعتبر عند الله هو العمل المبني على التصديق، وإلا فهو كبناء على غير أساس، أو المراد (٢) أبطل تصنعهم ونفاقهم، فلم يبق مستتبعًا لمنفعةٍ دنيوية أصلًا.
وقال الزمخشري: فإن قلت (٣): هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟
قلت: لا، ولكن تعليم لمن يظن أن الإيمان باللسان إيمان، وإن لم يواطئه القلب، وأن ما يعمله المنافق من الأعمال يجزى عليه، فبين أن إيمانه ليس بإيمان، وأن كل عمل يوجد منه باطل، انتهى.
والمعنى: أي هؤلاء الذين بسطت أوصافهم لم يصدقوا الله ورسوله، ولم يخلصوا له العمل؛ لأنهم أهل نفاق، فأبطل أعمالهم، وأذهب أجورها، وجعلها هباءً ومنثورًا.
(١) روح البيان.
(٢) أبو السعرد.
(٣) الكشاف.
469
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الإحباط ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾؛ أي: هينًا على الله، لا يبالي به، لتعلق الإرادة به، إذ هم قوم فعلوا ما يستوجب الإحباط ويستدعيه، فاقتضت حكمته أن يعاملهم بما يقتضيه عدله، وتدل عليه حكمته.
٢٠ - ثم أبان مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم فقال: هم ﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا﴾؛ أي: هؤلاء المنافقون لجبنهم المفرط، يظنون أن الأحزاب باقون في معسكرهم، لم يذهبوا، إلى ديارهم، ولم ينهزموا، ففروا إلى المدينة، والأحزاب: هم الذين تحزبوا وتجمعوا على محاربة النبي - ﷺ - يوم الخندق، وهم قريش وغطفان وبنو قريظة والنضير من اليهود، كما مر.
أي: هم (١) من شدة الهلع والخوف، وعظيم الدهشة والحيرة، لا يزالون يظنون أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد هزمهم الله، ورحلوا وتفرقوا في كل وادٍ.
وإجمال القول: أنهم لم يقاتلوا لجبنهم وضعف إيمانهم، فكأنهم غائبون، فظنوا أن الأحزاب لم يرحلوا، وقد كانوا راحلين منهزمين، لا يلوون على شيء.
﴿وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾ مرةً ثانية إلى المدينة ﴿يَوَدُّوا﴾ ويتمنوا ﴿لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ﴾؛ أي: خارجون من المدينة إلى البادية ساكنون ﴿فِي الْأَعْرَابِ﴾ لئلا يقاتلوا، والود (٢): محبة لشيء وتمني حصوله، والبادون: هم الساكنون في البادية، وهم خلاف الحاضرين، والبدو وكذا البادية: خلاف الحضر، كما سيأتي. والأعراب: سكان البادية مطلقًا.
حال كونهم ﴿يَسْأَلُونَ﴾ كل قادم من جانب المدينة عَنْ ﴿أَنْبَائِكُمْ﴾؛ أي: عن أخباركم وعما جرى عليكم من الأحزاب؛ أي: يودون أنهم غائبون عنكم، يسمعون أخباركم بسؤالهم عنها من غير مشاهدة.
أي: وإن يأت الأحزاب ويعودوا مرةً أخرى.. تمنوا أن لو كانوا مقميمن في البادية، بعيدين عن المدينة، حتى لا ينالهم أذًى ولا مكروه، ويكتفون بأن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
يسألوا عن أخباركم كل قادم من جانب المدينة، وفي هذا كفاية لديهم لجبنهم، وخور عزائمهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَسْأَلُونَ﴾ بالهمز مضارع سأل، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصمًا، والأعمش قرؤوا: ﴿يسلون﴾ بغير همز نحو قوله: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما، ونقلهما صاحب "اللوامح" عن الحسن والأعمش، وقرأ زيد بن علي وقتادة والجحدري والحسن ويعقوب بخلاف عنهما: ﴿يسأل بعضهم بعضًا﴾؛ أي: يقول: بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول: ترائينا الهلال.
ثم سلى نبيه - ﷺ - عنهم، وحقر شأنهم، فقال: ﴿وَلَوْ كَانُوا﴾؛ أي: ولو كان هؤلاء المنافقون ﴿فِيكُمْ﴾ أيها المؤمنون في الخندق في هذه الغزوة مشاهدين للقتال، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان قتال ﴿مَا قَاتَلُوا إِلَّا﴾ قتالًا ﴿قَلِيلًا﴾ رياءً وسمعةً وخوفًا من التعبير من غير حسبةٍ.
والمعنى: أي ولو كان هؤلاء المنافقون فيكم في الكرة السابقة، ولم يرجعوا إلى المدينة، وكان القتال قتال جلاءٍ وكرٍّ وفرٍّ وطعنٍ وضربٍ ومحاربةٍ بالسيوف، ومبارزة في الصفوف ما قاتلوا إلا قتالًا يسيرًا رياءً وخوفًا من العار، لا قتالًا يحتسبون فيه الثواب من الله وحسن الأجر.
وحاصل معنى الآية (٢): أي وإن يأت الكفار بعدما ذهبوا كرةً ثانية.. تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب، بعداء عن تلك الكفرة، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار، والحال أن هؤلاء المنافقين، لو كانوا فيكم هذه الكرة، ولم يرجعوا إلى المدينة، ووقع قتال آخر.. ما قاتلوا معكم إلا قليلًا رياءً وخوفًا من التعيير.
٢١ - وبعد أن فصل أحوالهم، وشرح نذالتهم، وعظيم جبنهم.. عاتبهم أشد
(١) البحر المحيط.
(٢) المراح.
471
العتب، وأبان لهم أنه قد كان لهم برسول الله - ﷺ - معتبر لو اعتبروا، وأسوة لو أرادوا التأسي، فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون، وهو الظاهر من قوله فيما بعد: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ...﴾ الخ ﴿فِي رَسُولِ اللَّهِ﴾ - ﷺ - ﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾؛ أي: خصلة صالحة، حقها أن يقتدى بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين، وعلى سبيل الايستحباب في أمور الدنيا، والقدوة: الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره، إن حسنًا وإن قبيحًا، وإن سارًا وإن ضارًا، يقال: تأسيت به؛ أي: اقتديت به.
والمعنى (١): لقد كان لكم أيها المؤمنون في محمد - ﷺ - خصلة حسنة، وسنة صالحة، حقها أن يؤتى بها؛ أي: يقتدى فيها، كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، فإنه قد شج فوق حاجبه وكسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة يوم أحد، وأوذي بضروب الأذى، فوقف ولم ينهزم، وصبر ولم يجزع، فاستسنوا بسنته وانصروه، ولا تتخلفوا عنه.
وقال بعضهم: كلمة ﴿فِي﴾ تجريدية، جرد من نفسه شيء وسمي قدوة، وهي هو؛ يعني أن رسول الله - ﷺ - في نفسه أسوة وقدوة، يحسن التأسي به، والاقتداء، كقولك: في البيضة عشرون منًا حديدًا؛ أي: هي نفسها هذا القدر من الحديد.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أُسْوَةٌ﴾ بضم الهمزة، وقرأ عاصم: بكسرها، وهما لغتان، كما قال الفراء وغيره، وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله - ﷺ -؛ أي: لقد كان لكم في رسول الله، حيث بذل نفسه للقتال، وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية، وإن كان سببها خاصًا.. فهي عامة في كل شيء، ومثلها ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
472
وهذه الجملة: خبرية لفظًا، إنشائيةً معنًى قصد بها الأمر؛ أي: اقتدوا به اقتداءً حسنًا، وهو أن تنصروا دين الله، كما نصر هو بنفسه بالخروج إلى الغزو.
و (اللام) في قوله: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾: ويأمل ثوابه ﴿و﴾ يرجو ﴿الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾؛ أي: نعيمه، أو يخاف الله واليوم الآخر، فالرجاء يحتمل الأمل والخوف متعلقه بحسنة، أو بمحذوف، هو صفة لحسنة؛ أي: كائنة لمن كان يرجو الله، وقال الزمخشري: إنه بدل من ﴿لَكُمْ﴾، كقوله: ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ﴾. انتهى. ولا يجوز (١) على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب اسم ظاهر في بدل الشيء، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش، ويدل عليه قول الشاعر:
بِكَمْ قُرَيْشٍ كَفَيْنَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ وَأَمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضَلِيْلًا
والمراد بـ ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله، ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: إنهم يرجون رحمة الله فيه، أو يصدقون بحصوله، وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة: تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى.
وقوله: ﴿وَذَكَرَ اللَّهَ﴾ سبحانه بلسانه، وجنانه ذكرًا ﴿كَثِيرًا﴾ في جميع أوقاته وأحواله معطوف على ﴿كان﴾؛ أي: ولمن ذكر الله سبحانه في جميع أحواله، ذكرًا كثيرًا، وجمع (٢) بين الرجاء لله، وكثرة الذكر له، المؤدية إلى ملازمة الطاعة؛ لأن بهما يتحقق الائتساء برسول الله - ﷺ -.
قال الحكيم الترمذي: الأسوة في الرسول: الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول وفعل.
٢٢ - ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب، ومشاهدتهم لتلك الجيوش، التي أحاطت بهم كالبحر المحيط، فقال: {وَلَمَّا رَأَى
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
473
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ}؛ أي: الجنود المجتمعة لمحاربة النبي - ﷺ - وأصحابه يوم الخندق، والحزب: جماعة فيها غلظ، كما في "المفردات".. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المؤمنون ﴿هَذَا﴾ البلاء العظيم، والإشارة (١) بقوله: ﴿هَذَا﴾ إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل بهم، والبلاء الذي دهمهم ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ﴾ سبحانه وأخبرنا به، ﴿وَرَسُولُهُ﴾ - ﷺ - بقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾ الآية. وبقوله - ﷺ -: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، والعاقبة لكم عليهم"، وبقوله عليه السلام: "إن الأحزاب سائرون، إليكم بعد تسع ليال أو عشر" كما روي عن ابن عباس قال: قال النبي - ﷺ - لأصحابه: "إن الأحزاب سائرون، إليكم تسعًا أو عشرًا؛ أي: في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا من حين الإخبار.. قالوا ذلك، وهذا القول استبشار بحصول ما وعدهم الله تعالى ورسوله - ﷺ -، من مجيء هذه الجنود، وأنه يعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله تعالى.
ثم أردفوا ما قالوه بقولهم: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾؛ أي: ظهر صدق خبر الله ورسوله - ﷺ - ﴿وَمَا زَادَهُمْ﴾ ما رأوه ﴿إِلَّا إِيمَانًا﴾ بالله وتصديقًا بمواعيده ﴿وَتَسْلِيمًا﴾ لأوامره ومقاديره، وقال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا وتسليمًا.
وقرأ ابن أبي عبلة (٢): ﴿وما زادوهم﴾ بالواو وضمير الجميع يعود على الأحزاب؛ أي: ولما أبصر (٣) المؤمنون الصادقون المخلصون لله في القول والعمل الأحزاب، الذين أدهشت رؤيتهم العقول، وتبلبلت لها الأفكار، واضطربت الأفئدة.. قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والاختبار، الذي يعقبه النصر في نحو قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
474
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ...} الآية. وقوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)﴾ وقوله - ﷺ -: "سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم" إلخ، وقوله: "إنهم سائرون إليكم تسعًا أو عشرًا"؛ أي: في آخر تسع ليال أو عشر من حين الأخبار، وصدق الله ورسوله في النصرة والثواب، كما صدق الله ورسوله في البلاء والاختبار، وما زادهم ذلك إلا صبرًا على البلاء، وتسليمًا للقضاء، وتصديقًا بتحقيق ما كان الله ورسوله وعدهم. ووجه إظهار الاسم الشريف والرسول في قوله: ﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ بعد قوله: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر:
أرَى الْمَوْتَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ
وأيضًا لو أضمرهما.. لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظٍ واحدٍ، وقال صدقا، وقد ورد النهي عن جمعهما، كما في حديث: "بئس خطيب القوم أنت" لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى،
٢٣ - ثم وصف سبحانه بعض الكملة من المؤمنين الذين صدقوا عند اللقاء واحتملوا البأساء والضراء بقوله:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من المؤمنين المخلصين لله، المصدقين برسوله ﴿رِجَالٌ﴾ كمله، فالتنوين فيه للتعظيم، والكمال ﴿صَدَقُوا﴾ ووفوا ﴿مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: أوفوا بما عاهدوا الله عليه، ونذروا على أنفسهم من الثبات مع الرسول، والمقاتلة لإعلاء الدين، والصبر في اللأواء وحين البأساء؛ أي (١): حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر وغيرهم - رضي الله عنهم أجمعين - نذروا أنهم إذا لقوا حربًا مع رسول الله - ﷺ -.. ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا.
وقيل المعنى (٢): أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسوله - ﷺ - ليلة العقبة، من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده، وهم المنافقون.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
475
قال الحكيم الترمذي - رحمه الله -: خص الله الإنس من بين الحيوان، ثم خص المؤمنين من بين الإنس، ثم خص الرجال من المؤمنين، فقال: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا﴾ فحقيقة الرجولية الصدق، ومن لم يدخل في ميادين الصدق.. فقد خرج من حدّ الرجولية.
وقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى﴾ ووفى نحبه ونذره فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير هذه المواطن، كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ قضاء نذره ووفاءه والقتل في سبيله؛ لكون موقنًا كعثمان وطلحة وغيرهما، فإنهم على نذووهم وقد قضوا بعضها، وهو الثبات مع رسول الله - ﷺ -، والقتال إلى حين نزول الآية الكريمة، ومنتظرون قضاء بعضها الباقي، وهو القتال إلى الموت شهيدًا، وفي وصفهم بالانتظار إشارة إلى كمال اشتياقهم إلى الشهادة.
تفصيل (١) لحال الصادقين، وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب في الأصل: النذر المحكوم بوجوبه، وهو أن يلتزم الإنسان شيئًا من أعماله ويوجبه على نفسه، وقضاؤه الفراغ منه والوفاءُ به، يقال: قضى فلان نحبه؛ أي: وفي بنذره، ويعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله واستوفى أكله، وقضى من الدنيا حاجته، وذلك، لأن الموت كنذر لازم في عنق كل حيوان.
وقال أبو السعود: ويجوز (٢) أن يكون النحب مستعارًا لالتزام الموت شهيدًا، إما: بتنزيل أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه، وإيراده الالتزام عليه، وهو الأنسب بمقام المدح، وأما ما قيل عن أن النحب استعير للموت؛ لأنه كنذر لازم في رقبة الحيوان، فهو تقبيح للاستعارة، وإذهاب لرونقها. انتهى.
ومعنى الآية (٣): أن من المؤمنين رجالًا أدركوا أمنيتهم، وقضوا حاجتهم، ووفوا بنذرهم، فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك كما في يوم أحد، كحمزة بن عبد
(١) روح البيان.
(٢) أبو السعود.
(٣) الشوكاني.
476
المطلب ومصعب بن عمير وأنس بن النضر، ومنهم من ينتظر قضاء نحبه حتى يحضر أجله، كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم، فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه، من الثبات مع رسوله - ﷺ -، والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم، وحصول أمنيتهم بالقتل وإدراك فضل الشهادة.
وجملة قوله: ﴿وَمَا بَدَّلُوا﴾ عهدهم وما غيروه ﴿تَبْدِيلًا﴾ وتغييرًا ما، لا أصلًا، ولا وصفًا، كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتًا مستمرًا، راغبين فيه، مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، معطوفة على ﴿صَدَقُوا﴾ وفاعله: فاعله.
أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، فقد أخرج الإِمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في جماعة آخرين عن أنس، قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله - ﷺ - غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهدًا مع رسول الله - ﷺ - فيما بعد.. ليرين الله تعالى ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين؟ قال: واهًا: لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون، من ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ، ونزلت هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ الآية.
وأما الذين ينتظرون قضاء نحبهم.. فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا، ولم يغيروا ولا بدلوا، فيشهد به انتظارهم أصدق الشهادة، روي أن طلحة - رضي الله عنه - ثبت مع رسول الله - ﷺ - يوم أحد يحميه، حتى أصيبت يده فشلت، وجرح أربعًا وعشرين جراحةً، فقال عليه السلام: "أوجب طلحة الجنة" وسماه النبي - ﷺ - يومئذ طلحة الخير، ويوم حنين طلحة الجود، ويوم غزوة ذات العشيرة طلحة الفياض، وقتل يوم الجمل، وفي الآية تعريض (١) بأرباب النفاق، وأصحاب مرض القلب، فإنهم ينقضون العهود، ويبدلون العقود.
(١) روح البيان.
477
٢٤ - و (اللام): في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ يجوز أن يتعلق بـ ﴿صَدَقُوا﴾ أو بـ ﴿زَادَهُمْ﴾ أو بـ ﴿ما بدَّلوا﴾ أو بمحذوف، تقديره: وقع جميع ما وقع؛ ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الصدق والوفاء قولًا وفعلًا، قال في "كشف الأسرار": في الدنيا بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية، وفي الآخرة بجميل الثواب، وجزيل المآب، والخلود في النعيم المقيم، والتقديم على الأمثال بالتكريم والتعظيم.
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾ بما صدر منهم من الأقوال والأعمال المحكية في التغيير والتبديل ﴿إِنْ شَاءَ﴾ تعذيبهم؛ أي: إن لم يتوبوا فإن الشرك لا يغفر البتة.
جعل (١) المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء، وأرادوها، بسبب تبديلهم وتغييرهم، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبها، والسعي لتحصيلها، ومفعول ﴿إِنْ شَاءَ﴾ وجوابها: محذوفان؛ أي: إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق، ولم يتركوه ويتوبوا عنه، كما مرّ.
﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: يقبل توبتهم إن تابوا ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ غَفُورًا﴾؛ أي: ستورًا على من تاب محاءً لما صدر منه ﴿رَحِيمًا﴾؛ أي: منعمًا عليه بالجنة والثواب.
والمعنى (٢): أي إنه سبحانه إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال؛ ليتميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر كل منهما جليًا واضحًا، كما قال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١)﴾ وقال: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾. ثم يثيب أهل الصدق منهم بصدقهم بما عاهدوا الله عليه ووفائهم له به، ويعذب المنافقين الناقضين لعهده، المخالفين لأوامره، إذا استمروا على نفاقهم حتى يلقوه، فإن تابوا ونزعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال.. غفر لهم ما
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
أسلفوا من السيئات، واجترحوا من الآثام والذنوب، ولما كانت رحمته ورأفته بخلقه هي الغالبة.. قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ أي: إنه تعالى من شأنه الستر على ذنوب التائبين، والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حث عليها في كل حين، وبيان نفعها للتائبين.
٢٥ - ثم رجع يحكي بقية القصص، وفصل ذلك تتميمًا للنعمة التي أشار إليها إجمالًا بقوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ ووسط بينهما بإيضاح ما نزل بهم من الطامة التي تحير العقول والأفهام، والداهية التي زلت فيها الأقدام، وما صدر من الفريقين المؤمنين وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال؛ لإظهار عظمة النعمة، وإبانة جليل خطرها، ومجيئها حين اشتداد الحاجة إليها، فقال: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ﴾ سبحانه وصرف ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وهم الأحزاب، معطوف على قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ أو على محذوف؛ أي: وقع ما وقع من الحوادث، ورد الله الذين كفروا من الذين تحزبوا وتجمعوا لمحاربة النبي - ﷺ - إلى بلدانهم، حالي كونهم ملتبسين ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ وغضبهم وحسرتهم، لم يشف صدورهم ﴿لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ حال بعد حال؛ أي: حال كونهم لم يصيبوا ما أرادوا من الغلبة، وسماها خيرًا؛ لأن ذلك كان خيرًا عندهم، فجاء على استعمالهم وزعمهم.
والمعنى: أن الله سبحانه ردهم بغيظهم، لم يشف صدورهم، ولا نالوا خيرًا في اعتقادهم، وهو الظفر بالمسلمين، أو لم ينالوا خيرًا، أي خير، بل رجعوا خاسرين، لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة. ﴿وَكَفَى اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾؛ أي: أغناهم عن قتال الأحزاب بما أرسله عليهم من الريح الشديدة والجنود من الملائكة.
وحاصل المعنى (١): أي فأرسلنا ريحًا وجنودًا لم تروها، ورددنا الذين كفروا بالله ورسوله من قريش وغطفان بغمهم، بفوت ما أملوا من الظفر، وخيبتهم، فيما كانوا طمعوا فيه من الغلبة، والنصر على محمد وصحبه، إذ لم
(١) المراغي.
يصيبوا مالًا ولا إسارًا، ولم يحتج المؤمنون إلى منازلتهم ومبارزتهم لإجلائهم عن بلادهم، بل كفى الله المؤمنين القتال، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده". ورويا أيضًا عن عبد الله بن أوفى: قال: دعا رسول الله - ﷺ - على الأحزاب، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم".
وروى محمد بن إسحاق: أنه لما انصرف أهل الخندق عن الخندق.. قال رسول الله - ﷺ -: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم". وقد تحقق هذا، فلم تغزهم قريش بعد ذلك، بل كان رسول الله - ﷺ - يغزوهم، حتى فتح الله تعالى مكة.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿قَوِيًّا﴾ على إحداث كل ما يريده، وإيجاده، إذ قال له؛ كن فكان، ﴿عَزِيزًا﴾؛ أي: غالبًا قاهرًا على كل شيء، لا يغالبه أحد من خلقه، ولا يعارضه معارض في سلطانه وجبروته؛ أي: وكان الله عزيزًا بحوله وقوته، فردهم خائبين لم ينالوا خيرًا.
٢٦ - ولما قص أمر الأحزاب، وذكر ما انتهى إليه أمرهمِ.. ذكر حال من عاونوهم من اليهود، فقال: ﴿وَأَنْزَلَ﴾ الله سبحانه اليهود ﴿الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ﴾؛ أي: عاونوا الأحزاب المردودين على رسول الله - ﷺ - والمسلمين، حين نقضوا العهد وعاضدوهم عليهم حالة كون المظاهرين ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ وهم بنو قريظة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذٍ سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾؛ أي: من حصونهم وقصورهم، جمع صيصية بالكسر، وهي (١) ما يتحصن به، ويجعل وقايةً من المهالك، ولذلك يقال لقرن الثور
(١) روح البيان.
480
والظبي وشوكة الديك، وهي في مخلبته التي في ساقه؛ لأنه يتحصن بها ويقاتل.
أي: وأنزل الله (١) يهود بني قريظة الذي عاونوا الأحزاب على رسول الله - ﷺ -، وأخرجهم من حصونهم وقصورهم، بعد أن نقضوا العهد، بسفارة حيي بن أخطب النضيري، إذ لم يزل بزعيمهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وكان مما قاله له: جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان، وأتباعها، ولا يزالون هاهنا حتى يستأصلوا محمدًا وأصحابه، فقال له كعب: بل والله جئتني بذل الدهر، ويحك يا حيي إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يحاوله حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصين، فيكون أسوتهم.
ولما أيد الله المومنين، وكبت أعداءهم وردهم خائبين، ورجعوا إلى المدينة، ووضع الناس سلاحهم.. أوحي إلى رسول الله - ﷺ -: أن انهض إلى بني قريظة من فورك، فأمر الناس بالسير إليهم، وكانوا على أميال من المدينة بعد صلاة الظهر، وقال - ﷺ -: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فسار الناس، فأدركتهم الصلاة فصلى بعض في الطريق، وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحدًا من الفريقين.
﴿وَقَذَفَ﴾ الله سبحانه وتعالى؛ أي: ألقى ورمى ﴿فِي قُلُوبِهِمُ﴾؛ أي: في قلوب اليهود الذين ظاهروا الأحزاب ﴿الرُّعْبَ﴾؛ أي: الخوف والفزع الشديد، حتى سلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأولادهم للأسر، حسبما ينطق به قوله: ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ يعني رجالهم ﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ يعني نساءهم وصبيانهم من غير أن يكون من جهتهم حركة، فضلًا عن المخالفة، وهذه الجملة: مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تقتلون وتأسرون﴾ بالفوقية على الخطاب وكسر السين، وقرأ أبو حيوة: بضمها، وقد حكى الفراء كسر السين وضمها، فهما لغتان. وقرأ
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
481
اليماني: بالفوقية في الأول، والتحتية في الثاني، وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه: بالتحتية فيهما.
ووجه تقديم مفعول الفعل الأول، وتأخير مفعول الثاني (١): أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشد الأمرين، وهو القتل.. كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل: كان المقتولون من ست مئة إلى سبع مئة، وقيل: ست مئة، وقيل: سبع مئة، وقيل: ثمان مئة، وقيل: تسع مئة. وكان المأسورون سبع مئة. وقيل: سبع مئة وخمسين، وقيل: تسع مئة.
والمعنى: أي وألقى الله الرعب والخوف الشديد في قلوبهم حين نازلهم رسول الله - ﷺ -، وحاصرها خمسًا وعشرين ليلةً، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس، لأنهم كانوا حلفاءهم، فأحضره رسول الله - ﷺ - وقال له: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت" فقال - رضي الله عنه -: وحكمي نافذ فيهم؟ فقال رسول الله - ﷺ -: "نعم، فقال: إني أحكم أن تقتل مقاتليهم، وتسبى ذراريهم وأموالهم، فقال له رسول الله - ﷺ -: "لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله"، ثم أمر رسول الله - ﷺ - بالأخادية، فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتوفي الأيدي، فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين سبع مئة وثمان مئة، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء، وسبي أموالهم.
والخلاصة (٢): أنه قذف الرعب في قلوبهم، حتى أسلموا أنفسهم للقتل، وأهليهم وأموالهم للأسر.
٢٧ - ﴿وَأَوْرَثَكُمْ﴾ أيها المؤمنون؛ أي: ملَّككم ملكًا، كالميراث في حصوله بلا مقابل ﴿أَرْضَهُمْ﴾؛ أي: مزارعهم وحدائقهم ﴿وَدِيَارَهُمْ﴾؛ أي: منازلهم وحصونهم ﴿وَأَمْوَالَهُمْ﴾؛ أي: حليهم وأثاثهم ومواشيهم وسلاحهم ونقودهم التي ادخروها، شبهت (٣) في بقائها على المسلمين بالميراث الباقي على الوارثين، إذ ليسوا في
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
482
علقةٍ منهم من قرابةٍ ولا دين، ولا ولاءٍ، فأهلكهم الله تعالى على أيديهم، وجعل أملاكهم وأموالهم غنائم لهم باقيةً عليهم كالمال الباقي على الوارث. ﴿وَ﴾ أورثكم في علمه وتقديره ﴿أَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ الآن بأقدامكم، ولم تقبضوها كفارس والروم وما ستفتح على المسلمين إلى يوم القيامة من الأراضي والممالك، من وطيء على الأرض، يطأ وطئًا: إذا مشى عليها بالأقدام، قاله عكرمة، واختاره أبو حيان.
قال الشوكاني: واختلف (١) المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة، فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: إنها خيبر، فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين، ولم يكونوا إذ ذاك قد نالوها، فوعدهم الله بها، وقال قتادة: كنا نتحدث: إنها مكة، وقال الحسن: فارس والروم، وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. انتهى.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لَمْ تَطَئُوهَا﴾ بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ زيد بن علي: ﴿لم تطوها﴾ بفتح الطاء وواوٍ ساكنة أبدل همزة تطأ ألفًا على حد قوله:
إِنَّ السِّبَاعَ لَتَهْدَا فِيْ مَرَابِضِهَا وَالنَّاسُ لَا يُهْتَدَى مِنْ شَرِّهِمْ أَبَدَا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت، كقوله: ﴿لَمْ تَرَوْهَا﴾، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المقدورات ﴿قَدِيرًا﴾؛ أي: قادرًا، فقد شاهدتم بعض مقدوراته من إيراثكم الأرض التي تسلمتموها ونصركم عليهم، فقيسوا عليها ما بعدها، إذ لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء شاءه.
وقال أبو حيان: وختم تعالى هذه الآية بقدرته على كل شيء، فلا يعجزه شيء، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، وأنه لا يستبعد ذلك، فكما ملكهم هذه، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد.
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
483
٢٨ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ الكريم ﴿قُلْ﴾ أمر إيجاب في تخييرهن، وهو من خصائصه عليه السلام ﴿لِأَزْوَاجِكَ﴾ ونسائك، قيل (١): هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي - ﷺ -، وكان قد تأذى ببعض الزوجات، قال الواحدي: قال المفسرون: إن أزواج النبي - ﷺ - سألنه شيئًا من عرض الدنيا، وطلبن منه الزيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فألى رسول الله - ﷺ - منهن شهرًا، وأنزل الله سبحانه آية التخيير هذه، وكن يومئذٍ تسعًا: عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة - واسمها رملة بنت أبي سفيان - وأم سلمة - واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية - وسودة بنت زمعة العامرية، وهذه الخمسة من قريش، وأربع من غيرهم: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية الهارونية وجويرية بنت الحارث الخزاعية والمصطلقية، وهذه كلها بعد وفاة خديجة الكبرى - رضي الله عنها وعنهن -.
﴿إِنْ كُنْتُنَّ﴾ أنتن ﴿تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي: التنعم فيها، والسعة في معاشها، ﴿وَزِينَتَهَا﴾؛ أي: زخارفها ونضارتها ورفايتها ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾؛ أي: أقبِلْنَ إلى بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين، وأجبن إلى ما أعرض عليكن وأسمعنه، وليس المراد حقيقة الإقبال والمجيء، كما يقال: أقبل يكلمني، وذهب يخاصمني، وقام يهددني، كما سيأتي في مبحث التصريف.
﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾ بالجزم جوابًا للأمر؛ أي: أعطيكن متعة الطلاق، وتقديم التمتع (٢) على التسريح المسبب عنه من باب الكرم وحسن الخلق، وفيه قطع لمعاذيرهن من أول الأمر، وقيل: لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها، فإنه طلقة رجعية عند الشافعي، وبائنة عند أبي حنيفة. اهـ. "بيضاوي".
والمتعة لغة: اسم مصدر بمعنى التمتع والتلذذ بالأمور، وشرعًا: مال يجب على الزوج لمطلقة قبل وطء لم يجب لها شطر مهر، بأن كانت مفوضةً لم يفرض
(١) الشوكاني.
(٢) البيضاوي.
484
لها شيء، وهي واجبة في المطلقة التي لم يدخل بها، ولم يسم لها مهرًا عند العقد، ومستحبة في غيرها، والحكمة في (١) إيجابها: الجبر لما أوحشها الزوج بالطلاق، فيعطيها لتنتفع بها مدة عدتها، ويعتبر قدرها بحسب حال الزوج يسارًا وإعسارًا، كما هو مقرر في محله.
وقوله: ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾؛ أي: أطلقكن، بالجزم معطهوف على ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾. ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾؛ أي: طلاقًا حسنًا من غير ضرار ولا بدعة ولا صريح اللفظ، الذي يقع به الطلاق من غير نيةٍ، وهو لفظ الطلاق عند أبي حنيفة وأحمد، والطلاق والفراق والسراح عند الشافعي ومالك.
وقرأ (٢) الجمهور: ﴿أمتعكن﴾ بالتشديد من متع، وزيد بن علي: بالتخفيف من أمتع، وقرؤوا أيضًا: ﴿أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ بالجزم في الفعلين، وقرأ حميد الخراز: بالرفع في الفعلين على الاستئناف، والجزم على قراءة الجمهور على أنهما جواب الطلب، وقيل: على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا فيكون قوله: ﴿فَتَعَالَيْنَ﴾ اعتراضًا بين الشرط وجزائه، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض كقول الشاعر:
وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ أنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا
واتفق الأئمة (٣) على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدةً، في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها، حتى تنقضي عدتها، وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهرٍ أصابها فيه، وهي ممن تحبل.. فهو طلاق بدعة محرم، ويقع بالاتفاق، وجميع الثلاثة بدعة عند أبي حنيفة وهالك، وقال أحمد: هو محرم، خلافًا للشافعي، ويقع بلا خلافٍ بينهم.
واعلم: أن الشارع إنما كره الطلاق ندبًا إلى الألفة وانتظام الشمل، ولما علم الله أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف، لحقيقةٍ خفيت عن أكثر
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
485
الناس.. شرع الطلاق رحمةً لعباده، ليكونوا مأجورين في أفعالهم، محمودين، غير مذمومين، إرغامًا للشيطان، فإنهم في ذلك تحت إذن إلهي.
وإنما كان الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ لأنه رجوع إلى العدم، إذ بائتلاف الطبائع ظهر وجود التركيب، وبعد الائتلاف كل العدم، فمن أجل هذه الرائحة كرهت الفرقة بين الزوجين؛ لعدم عين الاجتماع، كذا في "الفتوحات".
ومعنى الآية: أي يا أيها النبي الكريم والرسول العظيم، قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن إحدى خصلتين: أولاهما: إن تكن ممن يحببن لذات الدنيا ونعيمها، والتمتع بزخرفها، فليس لكن عندي مقام، إذ ليس عندي شيء منها، قأقبلن علي أعطكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهن بالطلاق، تطييبًا لخاطرهن، وتعويضًا عما لحقهن من ضرر بالطلاق، وهي كسوة تختلف بحسب الغنى والفقر، واليسار والإقتار، كما قال تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾. ثم أسرحكن وأطلقكن على ما أذن الله به وأدب عباده بقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ وحين نزلت هذه الآية، عرض عليهن رسول الله - ﷺ - ذلك، وبدأ بعائشة، وكانت أحب أهله إليه فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ففرح رسول الله - ﷺ -،
٢٩ - ثم تابعها بقية نسائه، ثم ذكر ثانية الخصلتين، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾؛ أي: إن كنتن تردن طاعة الله وطاعة رسوله، أو المعنى: إن كنتن تردن رسوله وصحبته ورضاه، وذكر الله للإيذان بكرامته - ﷺ - عنده تعالى: ﴿وَالدَّارَ الْآخِرَةَ﴾؛ أي: نعيمها الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها جميعًا، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعَدَّ﴾ وهيأ في الآخرة، ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ﴾؛ أي: لمن عمل الصالحات منكن بمقابلة إحسانهن، و ﴿من﴾ للتبيين؛ لأن كلهن محسنات أصلح نساء العالمين، ولم يقل: لكن، إعلامًا بأن كل الإحسان في إيثار مرضاة الله ورسوله على مرضاه أنفسهن.
وقال أبو حيان: وأوقع الظاهر موقع المضمر، حيث قال: ﴿لِلْمُحْسِنَاتِ﴾ ولم يقل: لكن تنبيهًا على الوصف الذي ترتب لهن به الأجر العظيم، وهو الإحسان،
كأنه قال: أعد لكن، لأن من أراد الله ورسوله والدار الآخرة كان محسنًا. ﴿أَجْرًا﴾؛ أي: ثوابًا ﴿عَظِيمًا﴾؛ أي: كبيرًا في ذاته، حسنًا في صفاته، باقيًا في أوقاته.
والمعني (١): أي وإن كنتن تردن رضا الله ورضا رسوله، وثواب الدار الآخرة.. فأطعنهما، فإن الله أعد للمحسنات منكن في أعمالهن القولية والفعلية ثوابًا عظيمًا، تستحقر الدنيا وزينتها دونه كفاء إحسانهن.
والخلاصة: أنتن بين أحد أمرين: أن تقمن مع الرسول وترضين بما قسم لكن، وتطعن الله، وأن يمتعكن ويفارقكن إن لم ترضين بذلك.
٣٠ - وبعد أن خيرهن واخترن الله ورسوله، أتبع ذلك بعظتهن وتهديدهن إذا هن فعلن ما يسوء النبي - ﷺ -، وأوعدهن بمضاعفة العذاب فقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ﴾ الكريم، توجيه (٢) الخطاب إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن، ونداؤهن هاهنا وفيما بعده بالإضافة إليه - ﷺ -؛ لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام ﴿مَنْ يَأْتِ﴾ ويفعل ﴿مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ﴾؛ أي: بسيئةٍ بليغةٍ في القبح، وهي الكبيرة، وقد عصمهن الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن.
وقرأ زيد بن علي والجحدري وعمرو بن فائد الأسواري ويعقوب (٣): ﴿تأت﴾ بتاء التأنيث، حملًا، على معنى ﴿من﴾، والجمهور: بالياء، حملًا على لفظ ﴿من﴾ ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾ قرىء بكسر الياء، وقرىء بفتحها كما مر في سورة النساء؛ أي: ظاهرة القبح، من بين بمعنى تبين، قيل: هذا كقوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ لا أن منهن من أتت بفاحشة؛ أي: معصية ظاهرة.
قال أبو حيان: ولا يتوهم أنها الزنا لعصمة رسول الله - ﷺ - من ذلك، لأنه وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به، وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته. انتهى.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
487
قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق، وقال بعضهم: لعل (١) وجه قول ابن عباس أن الزلة منهن، كسوء الخلق مما يعد فاحشة بالنسبة إليهن؛ لشرفهن وعلو مقامهن، خصوصًا إذا حصل بها أذية النبي - ﷺ -، ولذا قال: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ﴾؛ أي: يعذبن ضعفي عذاب غيرهن؛ أي: مثليه، إذا أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن، ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي.. لزمهن بسبب ذلك، وكونهن تحت الرسول أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب، وقد ثبت في هذه الشريعة في غير موضع، أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات، يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾؛ أي: تضعيف العذاب لهن ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾؛ أي: سهلًا لا يصعب عليه ولا يتعاظمه، لا يمنعه عنه كونهن نساء النبي - ﷺ -، بل يدعوه إليه لمراعاة حقه، وليس أمر الله كأمر الخلق، حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم.
ومعنى الآية (٢): يا أزواج النبي، من يعص منكم الرسول - ﷺ -، ويطلب ما يشق عليه ويضيق به ذرعًا، ويغتم لأجله.. يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين؛ أي: تعذب ضعفي عذاب غيرها، لأن قبح المعصية أشد، ومن ثم كان ذم العقلاء للعالم العاصي أشد منه للجاهل العاصي، وكان ذلك سهلًا يسيرًا على الله ال