ﰡ
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وتسعة وستون كلمها سبعمائة واثنان وثلاثون آياتها ثمان وثمانون)
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ٤٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
أو نزل بالواو مثل أأنبئكم [الآية: ١٥] في آل عمران عذابي وعقابي بالياء في الحالين: يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل الْأَيْكَةِ مذكور في «الشعراء» مِنْ فَواقٍ بضم الفاء: حمزة وعلي وخلف. الباقون:
بالفتح وَلِيَ نَعْجَةٌ بفتح الياء: حفص والأعشى والبرجمي فَتَنَّاهُ بتخفيف النون على أنه مثنى والضمير للخصمين: عباس لتدبروا بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب: يزيد والأعشى والبرجمي. الباقون: على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال إِنِّي أَحْبَبْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والرياح مجموعة: يزيد.
الوقوف:
ذِي الذِّكْرِ ط وَشِقاقٍ هـ مَناصٍ هـ مِنْهُمْ ز لتصريح ذكر الكافرين مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان كَذَّابٌ ج للاستفهام واتحاد العامل واحِداً ج لمثل ما مر عُجابٌ هـ آلِهَتِكُمْ ج لما مر يُرادُ ج هـ لذلك الْآخِرَةِ ج لذلك اخْتِلاقٌ هـ ج لما قلنا مِنْ بَيْنِنا ط مِنْ ذِكْرِي هـ لعطف الجملتين المختلفتين والابتداء بالتهديد عَذابِ هـ لأن «أم» بمعنى ألف استفهام إنكار الْوَهَّابِ هـ ج لأن «أم» تصلح ابتداء إنكار الْأَسْبابِ هـ الْأَحْزابِ هـ الْأَوْتادِ هـ لا الْأَيْكَةِ ط الْأَحْزابُ هـ عِقابِ هـ فَواقٍ هـ الْحِسابِ هـ الْأَيْدِ ج للابتداء بان ولاحتمال التعليل أَوَّابٌ هـ وَالْإِشْراقِ هـ أَوَّابٌ هـ الْخِطابِ هـ الْخَصْمِ م لأن «إذ» ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا الْمِحْرابَ هـ لا
التفسير:
عن ابن عباس أن ص بحر عليه عرش الرحمن. وعن سعيد بن جبير:
بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقيل: صدق محمد ﷺ في كل ما أخبر به عن الله.
وقيل: صدّ الكفار عن قبول هذا الدين. وقيل: صدّ محمد ﷺ قلوب العباد. وقيل: هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ ص بالكسر، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة، وجواب القسم محذوف كأنه قيل: إنه المعجز وإن إلهكم لواحد.
ويجوز إن كان ص اسم السورة أن يراد هذه ص، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله. ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله. ومعنى «بل» ترك كلام والأخذ في كلام آخر. ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد ﷺ صادقا في تبليغ الرسالة، أو كون القرآن، أو هذه السورة معجزا، والحكم المذكور بعد «بل» هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب. ثم خوف الكفار بقوله كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ أي رفعوا أصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك. وعن الحسن: فنادوا بالتوبة كقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ولهذا قال وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي. قال سيبويه والخليل: التاء في «لات» زائدة مثلها في «ربت» و «ثمت» وهي المشبهة بليس، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية: ليس الحين حين مناص. ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلا لهم. وقال الأخفش: إنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء
العاطفون تحين ما من عاطف | والمطعمون زمان ما من مطعم |
يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء: امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فدعا أبو طالب النبي ﷺ وقال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال: ماذا يسألونني؟ فقالوا: ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل: والله لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله. فنفروا من ذلك وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات.
يعني من أول السورة إلى قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي نهضوا من ذلك المجلس وأَنِ مفسرة أي امْشُوا من غير أن يتلفظوا به وَاصْبِرُوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ.
قال النحويون: الانطلاق هاهنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم. وقيل: وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا. وقيل: انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول. وليس المراد بالمشي السير إنما
بها عنده. وقال المبرد: بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها. وقيل: هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة. وقيل: أراد كثرة أوتاد خيام معسكره. وقيل: أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب. وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجوه كلها. وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه.
قال أبو البقاء: قوله أُولئِكَ الْأَحْزابُ مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون خبرا والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط، قلت: ويحتمل أن يكون الْأَحْزابُ صفة أُولئِكَ وأُولئِكَ بدلا من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه. قال جار الله: قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب. لقد ذكر تكذيبهم أوّلا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم فَحَقَّ أي ثبت أو وجب لذلك عقابي إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ المذكورون. وقيل: أهل مكة: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النفخة الأولى ما لَها مِنْ توقف مقدار فَواقٍ وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب.
عن النبي ﷺ «العيادة قدر فواق الناقة»
ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر. وقيل: الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم:
أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم. وَاذْكُرْ أخاك داوُدَ كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب.
وقال غيره: اصبر على أذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به. ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء. ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات. ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام: الأول: تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل. الثاني: شرح الواقعة التي وقعت له. والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك. والأول عشرة أصناف: أحدها ذكر نبينا ﷺ إياه ليقتدي به في الصبر وسائر أصول الأخلاق. وثانيها تسميته بالعبد مضافا إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مرارا. ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضا تشريفا له. وثالثها قوله ذَا الْأَيْدِ ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل. ويحتمل أن يكون الياء محذوفا اكتفاء بالكسر فيكون جمع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره. رابعها قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع في الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب. خامسها تسبيح الجبال معه وقوله يُسَبِّحْنَ حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى. يقال شرقت الشمس ولما تشرق. واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما
روي عن أم هانىء: دخل علينا رسول الله ﷺ فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق.
قال ابن عباس: وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله. سادسها قوله وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية. قال ابن عباس: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير
قوله مَحْشُورَةً في مقابلة قوله يُسَبِّحْنَ ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى. سابعها قوله كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح. وقيل: الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة. ثامنها قوله وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس، وزاد بعضهم فقال أربعون ألفا. وقيل: نصرناه بالهيبة، وسببه
أن غلاما ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام. فقال داود: هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا: أتقتل رجلا بلطمة؟ فقال داود:
هذا أمر الله فسكتوا. ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل: صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا: إنه يقضي بالوحي من السماء.
تاسعها قوله وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وقد مر معناها مرارا وأنها منحصرة في قسمين: الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية. وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع. عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملا مكملا فهما مفهما.
قال جار الله: الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلط بغيره. قلت: ومن ذلك أن لا يخطىء صاحبه مظان الفصل والوصل كما نذكره في الوقوف.
وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: البينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشورات.
يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها. ثم إن رجلا غصب من آخر لؤلؤة وجعلها في جوف عصا له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي: إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق
وقيل: هو قوله «أما بعد» وهو أوّل من تكلم به. وقيل: هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلا وَهَلْ أَتاكَ يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها. وللناس في هذه الواقعة ثلاثة أقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلا منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة.
القول الأوّل: يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود- وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه- فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره. وفي قوله إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه. قال الفراء: قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك «ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ» مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا. وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر. فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلا نظرا إلى أصله، وثناه ثانيا بتأويل شخصان أو فريقان خصمان، وجمع الضمائر في قوله إِذْ تَسَوَّرُوا إِذْ دَخَلُوا فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية وَلا تُشْطِطْ وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه. وحين أخبروا عن وقوع الخصومة مجملا شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيرا إلى الآخر إِنَّ هذا وقوله أَخِي أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي أنثى من الضأن وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في
بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ وقد تغلب الخلطة في الماشية. والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا اتحد الفحل والراعي والمراح والمسقى وموضع الحلب، فإن كانت للخليطين أربعون شاة فعليهما شاة. وعند أبي حنيفة لا شيء عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي. هذا عند الشافعي، وعند أبي حنيفة لا شيء على ذي النعجة. ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم لقليل. «وما» في قوله وَقَلِيلٌ ما هُمْ مزيدة للإبهام، وفيه تعجيب من قلتهم. وقال ابن عيسى: هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك. قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من الظلم والاعتداء، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء أسوة وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطانا شديد القوّة وقد فزع منهم. ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب فحمله على الابتلاء فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
من تلك الحالة وَأَنابَ إلى الله واعترف بأن إقدامه على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم.
ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم، ثم استغفر من تلك الهمة. أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعا إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه. وَمعنى خَرَّ راكِعاً سقط ساجدا. قال الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، أو المراد أن خرّ للسجود مصليا لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة. ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضا. ومذهب أبي حنيفة بخلافه. وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل. ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله لا تَخَفْ وَلا تُشْطِطْ وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل
القول الثاني: إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان. فقيل له: إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول لك، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني. وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر. وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر. وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب. والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. أو أرادوا: أرأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده. وعن الحسن: لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل.
القول الثالث:
وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلق في صورة حمامة من ذهب فمد يده
ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق.
فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاما ولا شرابا حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك.
ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا، فأتاه واستحل منه فقال: أنت في حل. قال: فلما رجع قال له جبريل: هل أخبرته بجرمك؟ فقال: لا قال: فإنك لم تعمل شيئا فارجع وأخبره بالذي صنعت. فرجع داود فأخبره بذلك فقال: أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتما وبكى أربعين يوما. فأتاه جبريل وقال: إن الله تعالى يقول: أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزينا في عمره باكيا على خطيئته.
وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها.
والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه.
روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء.
قلت: لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل.
ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله سبحانه عقيب ذكر الواقعة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فمن البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال:
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا: من ابتلى بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول فيصير الخصم ساكتا مفحما. وإذ قد عرفت هذا فنقول: إن الكفار قد بلغوا في إنكار الحشر إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ فقال
أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول: نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلّا لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن أفسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة. وحين ذكر هذه الطريقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد، لأن هذه الطائف لا تستفاد إلا منه.
وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ أي هو فحذف المخصوص للعلم به. وفي قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه كان شبيها بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح. وفي القصة واقعتان يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في العصمة وهو المختار عند المحققين، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلا منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى.
أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل. قيل: الصافن الذي يجمع بين يديه.
وفي الحديث «من سرّه أن يقوم الناس له صفوفا فليتبوّأ مقعده من النار»
أي واقفين مثل خدم الجبابرة. والْجِيادُ جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال. وإذا أجريت كانت سراعا في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق. يروى أن رباط الخيل كان مندوبا في شرعهم كما في شرعنا. ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيل، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي سمى الخيل خيرا لتعلق الخير بها كما
جاء في الحديث «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» «١»
أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره. والضمير في قوله حَتَّى تَوارَتْ للخيل أي ما زالت تعرض
وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما
روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس.
وقيل: ورثها من أبيه وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقيل: أخرجها الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة. فقعد يوما بعد الظهر واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله حَتَّى تَوارَتْ أي الشمس بدليل ذكر العشي بِالْحِجابِ حجاب الأفق. وقيل: حتى توارت الخيل بحجاب الليل وغفل عن العصر، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها مغنيا عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقربا لله وذلك قوله فَطَفِقَ مَسْحاً قال جار الله: أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم «عرضت الناقة على الحوض» قال الراوي: قربها إلا مائة فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها، وحين عقرها أبدله الله خيرا منها وهي الريح تجري بأمره. وقيل: الضمير في رُدُّوها للشمس والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر. ومحل القدح في هذه الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى غفل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه.
وقد روي عن النبي ﷺ أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله.
وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء والمساكين، قال الزجاج: لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي. قال الإمام فخر الدين الرازي: إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال لنبيه: اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا داود. ثم ذكر عقيبه قصة سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات، فأما لو كان المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسبا. هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى.
وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً
وثانيها
روي عن النبي ﷺ «أن سليمان قال ذات ليلة: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي رواية على مائة وفي رواية على ألف- كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل:
إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين فذلك قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» «١».
وثالثها قال أبو مسلم: مرض سليمان مرضا شديدا امتحنه الله به حتى صار جسدا على كرسيه ملقي كما
جاء في الحديث «لحم على وضم وجسد بلا روح»
لأن الجسد يطلق في الأكثر على ما لا روح له. ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى حالة الصحة. والمشهور عند الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطانا جلس على سرير ملكه أربعين يوما، وذلك أن ملكه كان في خاتمه فأخذ شيطانا يقال له آصف وقال: كيف تفتنون الناس؟ قال:
أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: بينما سليمان جالس على شاطىء البحر وهو يعبث بخاتمه إذ سقط في البحر.
وقيل: إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه.
وقال في الكشاف: وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكا عظيم الشأن. فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها. فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس. واسمه صخر- على صورة سليمان فقال: يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس. وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال: أنا سليمان. حثوا
وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه. وقيل: من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التوراة، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجرة عمله يوما فأخرج من بطنها الخاتم ثُمَّ أَنابَ أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجدا. ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر. والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا: إنها من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلا عن أنبيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه.
وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط، فلما رآه لا يثبت في اليد أيقن بالفتنة فقال له آصف: إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك. فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوما وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده.
وعن سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوما عن ظالم، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه.
ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديما لأمر الدين على أمر الدنيا، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات.
والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي على أنه سأل ملكا لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه.
والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسدا وإنما قصد به أن يكون معجزة له، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم:
أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة. وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوبا لأنه سماوي فوق طوق البشر، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية
ما جاء في الحديث «أردت أن أربطه- يعني الشيطان- على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان» «١»
والضمير في بِأَمْرِهِ لسليمان. وقيل: لله. والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة. ومعنى أصاب قصد وأراد من إصابة السهم. وقوله وَالشَّياطِينَ معطوف على الرِّيحَ وقوله كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بدل الكل من الشياطين. كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخرج الدر من البحر وَآخَرِينَ عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه
قول عليّ رضي الله عنه: من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك
وقيل: حقيقته التفويض على الخير والشر. قال الجبائي: إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس. ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة. قلت: هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة. ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق. هذا عَطاؤُنا أي قلنا لسليمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم. وقوله: بِغَيْرِ حِسابٍ يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضا إليك زمام
التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد. أقسم بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله فأعظم علاجه ذكر الله. ثم أشار إلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلى الغلظ والقساوة، ومن التواضع إلى التكبر، ومن الوفاق إلى الخلاف، ومن التصديق إلى التكذيب، ومن التوحيد إلى تكثير الآلهة. وفي قوله وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصبر والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب الحقيقي إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ في الأزل من المقبول والمردود.
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالألم فعاينوا الأمر حين لا ينفع العيان، ويزول الشك يوم لا يجدي البرهان. عَجِّلْ لَنا قِطَّنا النفوس الخبيثة تميل بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أن النفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية، ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد. لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب الأسماء التسعة والتسعين، فلكل منها مظهر في عالم الملك والخلق وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ هو ذات الله وحده فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي صيرني أجمع بين الله وبين ما سواه. ثم هاهنا أسرار كثيرة تفهمها إن شاء الله. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا فَاسْتَغْفَرَ للحق رَبَّهُ راكِعاً وَأَنابَ إلى الله معرضا عما سواه. وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهيا للحق: إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّا لها بالقوة، وفيه أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام:
١] فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: ١] ووجه الخلافة هو أن
يتناوله بالصورة لا بالمعنى. فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا مع القدرة عليها، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة وغير ذلك كان حاصلا للنبي ﷺ من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتتان به عزة ودلالا ولهذا
قال في حديث تسلطه على الشيطان «ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته» «١»
وكان يعرض عليه مقاليد الخزائن
فيقول: «الفقر فخري»
على أن صورة الملك أيضا مما سيحصل لبعض أمته كما
قال «وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» «٢».
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٨٨]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
(٢) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ١٩. أبو داود في كتاب الفتن باب ١. الترمذي في كتاب الفتن باب ١٤. ابن ماجة في كتاب الفتن باب ٩. أحمد في مسنده (٥/ ٢٧٨) (٤/ ١٢٣).
مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بسكون الياء: حمزة. بنصب بضمتين: يزيد، وقرأ يعقوب بفتحتين، وقرأ هبيرة بالفتح والسكون. والباقون: بالضم والسكون بِخالِصَةٍ ذِكْرَى على الإضافة: أبو جعفر ونافع وهشام عبدنا إبراهيم على التوحيد: ابن كثير وعلى هذا يكون إبراهيم وحده عطف بيان. ما يوعدون على الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو وَغَسَّاقٌ بالتشديد حيث كان: حمزة وعليّ وخلف وحفص وأخر بضم الهمزة على الجمع: أبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل. والباقون: بالمد على التوحيد. الْأَشْرارِ بالإمالة والتفخيم مثل الْأَبْرارِ غير ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان الْأَشْرارِ بالإمالة أَتَّخَذْناهُمْ موصولة والابتداء بكسر الألف: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. والآخرون: بفتح الهمزة على الاستفهام ما كان لي بفتح الياء: حفص إلا إنما بكسر الهمزة على الحكاية: يزيد لَعْنَتِي إِلى بفتح الياء: أبو جعفر ونافع فَالْحَقُّ بالرفع: حمزة وخلف وعاصم غير المفضل وهبيرة ويعقوب غير رويس.
أَيُّوبَ م إلا إذا جعل «إذ» بدلا وَعَذابٍ هـ ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض بِرِجْلِكَ ج لأن هذا مبتدأ مع أنه من تمام القول وَشَرابٌ هـ الْأَلْبابِ هـ وَلا تَحْنَثْ ط صابِراً ط الْعَبْدُ ط أَوَّابٌ هـ وَالْأَبْصارِ هـ الدَّارِ هـ ج للاية مع العطف الْأَخْيارِ هـ وَذَا الْكِفْلِ ط مِنَ الْأَخْيارِ هـ ذِكْرٌ هـ ط مَآبٍ هـ لا لأن جَنَّاتِ بدل أو عطف بيان. الْأَبْوابُ هـ ج لاحتمال أن عامل مُتَّكِئِينَ محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالا من مُفَتَّحَةً فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب وَشَرابٍ هـ أَتْرابٌ هـ الْحِسابِ هـ مِنْ نَفادٍ هـ ج هذا ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا مَآبٍ هـ لا جَهَنَّمَ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا يَصْلَوْنَها ج الْمِهادُ هـ هذا لا لأن خبره حَمِيمٌ فقوله فَلْيَذُوقُوهُ اعتراض وَغَسَّاقٌ هـ لا للعطف أَزْواجٌ هـ ط مَعَكُمْ ج لاتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء بِهِمْ هـ النَّارِ ط بِكُمْ ط لَنا ج الْقَرارُ هـ النَّارِ هـ الْأَشْرارِ هـ ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالا ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق الْأَبْصارُ هـ النَّارِ هـ الْقَهَّارُ هـ ج لأن ما بعده يصلح بدلا وخبرا لمحذوف أي هو الغفار عَظِيمٌ هـ لا لأن ما بعده وصف مُعْرِضُونَ هـ يَخْتَصِمُونَ هـ مُبِينٌ هـ طِينٍ هـ ساجِدِينَ هـ أَجْمَعُونَ هـ لا إِبْلِيسَ ط الْكافِرِينَ هـ بِيَدَيَّ ط للاستفهام الْعالِينَ هـ مِنْهُ ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية طِينٍ هـ رَجِيمٌ هـ ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به الدِّينِ هـ يُبْعَثُونَ هـ الْمُنْظَرِينَ هـ لا لتعلق إلى الْمَعْلُومِ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا للاستثناء الْمُخْلَصِينَ هـ فَالْحَقُّ ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول أَقُولُ ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله وَالْحَقَّ. أَجْمَعِينَ هـ ج الْمُتَكَلِّفِينَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ حِينٍ هـ.
التفسير:
وجه النظم كأنه تعالى يقول: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالا أو جاها من داود وسليمان، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد، فالصبر مفتاح الفرج. وأَيُّوبَ عطف بيان و «إذ» معمول فعل آخر أو بدل اشتمال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصرا ليعقوب، وامرأته ليا بنت يعقوب، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل. ومعنى الكل التعب والمشقة. قيل: الضر
روي أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال: نعم، عبدي أيوب. قال: فسلطني على ماله فكان يجيئه ويقول: هلك من مالك كذا فيقول: الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله.
فقال: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده. فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال: إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فأشارت إلى أيوب بذلك فغضب لذلك- أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء- وحلف إن عافه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكيا إليه لامنه
كقول يعقوب نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: ٨٦] فأجاب دعاءه وأوحى إليه ارْكُضْ أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض. عن قتادة: هي أرض الجابية من قرى الشام. فأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله.
القول الثاني: إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحا إلا نكبه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة. فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء. ولناصر القول الأول أن يقول: سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط؟. ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام. قوله مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائه ويشرب منه، والظاهر أنها كانت عينا واحدة عذبة باردة، وروى بعضهم أنه نبعت عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح. وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد. وقوله وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قيل: أحياهم الله بأعيانهم وزاده مثلهم من أولاده. وقيل: من أولاد أولاده. وقيل: كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم. وقيل: كانوا مرضى فشفاهم الله والأول أصح. وقوله رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى
روي أن النبي ﷺ أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها.
ومعنى وَجَدْناهُ صابِراً علمنا منه الصبر.
وهاهنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ تارة وفي حق أيوب أخرى، اغتم أمة محمد ﷺ وقالوا: هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه، فكيف السبيل الى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: ٧٨] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى، فإن كان منك الفضول فمني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق. قلت: وصف أنبياء سائر الأمم بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ ووصف هذه الأمة بقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: ١١٠] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال، والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والعرفان فهم في حكم الزمنى والعميان، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة، والدار ظرف فهي الدنيا، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة، أو بما خلص من ذكراها، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم.
والْمُصْطَفَيْنَ جمع مصطفى وأصله مصطفيين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء
والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح. وقيل: أراد به وصف تلك المساكن بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل. وقوله مُتَّكِئِينَ حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو يَدْعُونَ أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم. وقيل: يتمنون وقيل: يسألون. قال المفسرون:
أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول. وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح. وقاصرات الطرف قد مر في «الصافات» أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن. والأتراب جمع ترب وهي اللدة. واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد. والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن وأزواجهن واحدة في الأسنان. وقيل: أراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية. ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين. ومعنى لِيَوْمِ الْحِسابِ قيل: لأجل الحساب لأن الحساب علة الوصول إلى جزاء العمل. والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها. ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان هاهنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخريا، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزوا لأن الطاغي اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر، ويؤيده قول ابن عباس: المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير. وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم
٥١] وقيل: حَمِيمٌ مبتدأ وهذا خبره. والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار. يقال: غسقت العين إذا سال دمعها. وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل لليل الغاسق لأنه أبرد من النهار. فالحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده.
وقال الزجاج: إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر: هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه. وقال كعب: هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية. وعن الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا الله. إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق. وأَزْواجٌ أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله، والمجموع خبر هذا أو خبر هو.
وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم. أما الأوّل فقوله هذا أي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون. والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع. وقيل: الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا فَوْجٌ أي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم. والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال. وقوله لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم ومَرْحَباً نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحبا لا ضيقا، أو رحبت بلادك رحبا فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عليهم. وقوله إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ تعليل لاستيجابهم اللعن. قيل: إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم. وقيل: هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا موردا لا رحب فيه ولا سعة. وقيل هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم. وقيل: هذا كله كلام الخزنة قالُوا أي الأتباع.
بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم
واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمدا يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى. ثم ذكر طرفا من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء. ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد ﷺ وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ من جميع الوجوه الْقَهَّارُ لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار. قوله قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر
روى ابن عباس عن النبي ﷺ «أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد. قلت: لبيك ربي وسعديك. قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم.
قال: فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض. قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «١» الحديث.
قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام.
واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمدا ﷺ بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجرا للمكلفين عن هاتين الخصلتين، فعلى هذا يكون إِذْ قالَ معمولا لمحذوف أي اذكر وقت قول ربك للملائكة. وقيل: النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما يذكره عما قريب. والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي. وقوله إِذْ قالَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ والملأ الأعلى أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠] كأنهم قالوا: هؤلاء فيما بينهم. ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان. أو نقول: المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته. وقال جار الله:
كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط. وقصة
جاء في الأحاديث القدسية «لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان»
قوله أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وفقت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وقيل: استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين. ومعنى الهمزة التقرير. قوله فَالْحَقُّ من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل لَعَمْرُكَ [الحجر: ٧٢] أي فالحق قسمي لأملان والحق أقوله وهو اعتراض. ومن نصبهما فعلى أن الثاني تأكيد للأوّل، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه، أو الحق الذي هو نقيض الباطل. وقوله مِنْكَ أي من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذريّة آدم. وأَجْمَعِينَ تأكيد للتابعين والمتبوعين. ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه. أما الداعي فلا يسأل أجرا على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال البتة. وأما المدعو إليه فقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلا ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانيا، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثا ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعا، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامسا، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادسا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: ٣١] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
عن النبي ﷺ «للمتكلف
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وقيل: هو القيامة. وقيل: هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد.