لما تبين من التهديد في ص أنه سبحانه قادر على ما يريد، ثم ختمها بأن القرآن ذكر للعالمين، وأن كل ما فيه لا بد أن يرى لأنه واقع لا محالة لكن من غير عجلة، فكانوا ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان قادراً لا يعجل ما يريده بعد حين، علل ذلك بأنه
﴿تنزيل﴾ أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين، ووضع موضع الضمير قوله:
﴿الكتاب﴾ للدلالة على جمعه لكل صلاح، أي لا بد أن يرى جميع ما فيه لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان، ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله:
﴿من الله﴾ أي المتصف بجميع صفات الكمال
﴿العزيز﴾ فلا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء
﴿الحكيم *﴾ الذي يضع الأشياء في محالها التي هي أوفق لها، فلكونه منه لا من غيره كان ذكراً للعالمين، صادقاً في كل ما يخبر به، حكيماً في جميع أموره.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما بنيت سورة ص على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء، ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض
437
حال من تقدم، وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب، فقال تعالى
﴿تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم﴾ ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين﴾ ﴿ألا لله الدين الخالص﴾ وجاء قوله تعالى
﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء﴾ - الآية في معرض أن لو قيل: عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص، فسترى حاله، وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم
﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال
﴿لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى﴾ - الآية، فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه
﴿هو الله الواحد القهار﴾ ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتي النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة، وهي نفس آدم عليه السلام، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شيء وأدل شاهد، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل، ثم بين تعالى أنه غني من الكل بقوله
﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم﴾ ثم قال
438
﴿ولا يرضة لعباده الكفر﴾ فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى له بالكفر، وحصل من ذلك مفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به ثم أنس من آمن ولم يتبع سبيل الشيطان وقبيلته من المشار إليهم في السورة قبل فقال تعالى
﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾
﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم﴾ [الأسراء: ٧]
﴿ولا تكسب كل نفس إلا عليها﴾ ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة - انتهى.
ولما أخبر أنه من عنده، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير، فقال صارفاً القول عن الغيبة منبهاً على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانياً، مبرزاً له في أسلوب العظمة مختبراً أنه خص به أعظم خلقه، معبراً بالإنزال الظاهر في الكل تجوزاً عن الحكم الجازم الذي لا مرد له:
﴿إنا﴾ أي على ما لنا من العظمة
﴿أنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قرب منه
439
ويسره وسهولته لأمته فقال:
﴿إليك﴾ أي خاصة بواسطة الملك، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك، فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس، وأظهر موضع الإضمار تفخيماً بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف
﴿الكتاب﴾ أي الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي، والكائن، متلبساً
﴿بالحق﴾ وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره، فالواقع تابع لأخباره، لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لاخفاء بشيء منها، لا حلية له ولا لباس إلا الحق، فلا دليل على كونه من عنده من ذلك، فليتبعوا خبره، ولينظروا عينه وأثره.
ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد، ثبت أنه سبحانه الإله وحده، فتسبب عن ذلك قوله لفتاً للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلحظ جميع صفات الكمال لأجل العبادة تعظيماً لقدرها لأنها المقصود بالذات:
﴿فاعبد الله﴾ أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك
﴿مخلصاً﴾ والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة
﴿له﴾ أي وحده
﴿الدين *﴾ بمعانقة الأمر على غاية الخضوع لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخسأ عنك الأعداء، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئاً من أمرك فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص أنه لا سبيل للشيطان
440
عليهم وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم لأجل صبرهم في إخلاصهم، قال الرازي: قال الجنيد: الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال، وهو إفراد الله بالعمل، وفي الخبر
«أنا أغنى الشركاء عن الشرك».
ولما أمره سبحانه بهذا الأمر، نادى باستحقاقه لذلك وأنه لم يطلب غير حقه، وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره، فقال في جواب من كأنه قال: لم منعه من الالتفات إلى غيره؟ منادياً إشارة إلى أنه لا مكافئ له فلا يسع أحداً يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعاً أو كارهاً:
﴿ألا لله﴾ أي الملك الأعلى وحده
﴿الدين الخالص﴾ لأنه له الأمر والخلق لا يشركه فيه أحد، فكما تفرد بأن خلقك وخلق كل ما لك من شيء فكذلك ينبغي أن تفرده بالطاعة، ولأنه إذا عبده أحد مخلصاً كفاه كل شيء، وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئاً من الأشياء فضلاً عن كل شيء والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام الذي كان في كل ملة المنبني على القواعد
441
الخمس المثبتة بالإخلاص المحض الناشئ من المراقبة في الأوامر والنواهي وجميع ما يرضي الشارع للدين أو يسخطه، فتكون جملته لله من غير شهوة ظاهرة أو باطنة في شهرة ولا غيرها، وإنما استحقه سبحانه دون غيره لأنه هو الذي شرعه ولا أمر لأحد معه فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه، وأما ما كان فيه أدنى شرك فهو رد على عامله والله غني حميد، وهذه كما ترى مناداة لعمري تخضع لها الأعناق فتنكس الرؤوس ولا يوجد لها جواب إلا بنعم وعزته وأي وكبريائه وعظمته، قال القشيري: وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد اللهم إلا أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فأطاعه لا يخرج عن الاحتساب باحتسابه أمره فيه، ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص، قال ابن برجان: وذلك - أي ترك الإخلاص - كله مولد عن حب البقاء في الدنيا ونسيان لقاء الله تعالى، ثم قال ما معناه: إن ذلك من الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك في الإلهية وهو أن يرى مع الله إلهاً آخر، وهو شرك المجوس والمجسمة: والوثنية، ويضاهيه غلط القدرية، الثاني شرك في العبادة بالرياء وإضافة العمل إلى النفس، والثالث الشرك الخفي وهو الشهوة الخفية، وهو أن يخفي العمل ويخاف من إظهار ويحب لو اطلع عليه ومدح بأسراره، ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله
442
أن تتزين لغيره بعمل ألهمك إياه وقواك عليه وخلت فيه وزعمت تطلب التقرب إليه فأتاك عدوه إبليس الذي عاداه فيك فتطيعه فيما يضرك ولا ينفعك، فاستعن على عبادتك بالستر فاستر حسناتك كما تستر سيئاتك، فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفاً، وذلك كالشجرة إذا ظهرت عروقها ضعف شربها، وأضر بها حرارة الهواء وبرده، وتعرضت للآفات من قطع ويبس وغير ذلك ولم تحسن فروعها وخف ورقها فقل نفعها، وإذا غاصت عروقها غابت عن الآفات وأمنت القطع من أيدي الناس، فكثر شربها فجرى ماؤها فيها، فتزايدت لذلك فروعها واخضر ورقها وكثر خيرها وطاب ثمرها لجانيها، فكذلك العمل إذا كانت له أصول في القلب مستورة زكا في نفسه وطهر من الأدناس وكثر خيره وطاب ثوابه لعامله، وإذا بدا لم يؤمن عليه من أبصار الناظرين، وإذا خفي لم يبق ما يخاف منه إلا العجب ومحبة أن يطلع عليه، وهي الشهوة الخفية، ومن قولهم
«من عرف الله بعد الضلالة وعرف الإخلاص بعد الرياء وأنزل الموت حق منزلته لم يغفل عن الموت والاستعداد له بما أمكنه» انتهى.
ولما أخبر سبحانه عما له وحده، وكان محط أمر الإنسان بل جميع الحيوان على الهداية إلى مصالحه ليفعلها ومفاسدة ليتركها، وأرشد
443
السياق إلى أن التقدير: فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره، وإن اشتد الإشكال، وتراكمت وجوه الضلال، عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال، والغي والمحال، فقال محذراً من مثل حاله، بما حكم عليه في مآله:
﴿والذين﴾ ولما كان الإنسان مفطوراً على الخضوع للملك الديان، ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان، عبر بصيغة الافتعال فقال:
﴿اتخذوا﴾ أي عالجوا عقولهم حتى صرفوها عن الله فأخذوا، ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى بقوله:
﴿من دونه﴾ ومعلوم أن كل شيء دونه
﴿أولياء﴾ أي يكلون إليهم أمورهم، ويدخل فيهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله مع اعترافهم بأن الله تفرد بخلقهم ورزقهم.
ولما كان من العجب العجيب فعلهم، هذا بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم فقال:
﴿ما﴾ أي قائلين لمن أخلصوا له الدين إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه ولياً: ما
﴿نعبدهم﴾ لشيء من الأشياء
﴿إلا ليقربونا﴾ ونبه سبحانه على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم مع حرف الغاية فقال:
﴿إلى الله﴾ الذي له معاقد العز ومجامع العظمة، تقريباً عظيماً على وجه التدريج ويزلفونا إليه
﴿زلفى﴾ أي تقريباً حسناً سهلاً بهجاً زائداً نامياً متعالياً، قال القشيري: ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فرد الله عليهم، وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد
444
من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت، فكل ذلك اتباع هوى - انتهى - والآية من الاحتباك: ذكر فعل التقريب أولاً دليلاً على فعل الزلف ثانياً، واسم الزلف ثانياً دليلاً على الاسم من التقريب أولاً، وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم، فأتى سبحانه في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه لأن الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته وتكثيره من لفظ واحد وبدأ بأرشق الفعلين وأشهرهما وأخفهما وأوضحهما، وقد خسر لعمري غاية الخسارة قوم تمذهبوا بأقبح المذاهب وجعلوا عذرهم هذه الآية التي ذم الله المعتذر بها، وعلى ذلك فقد راج اعتذارهم بها على كثير من العقول، وهم أهل الاتحاد الذين لا أسخف من عقولهم ولا أجمد من أذهانهم.
ولما كان إنما محط دينهم الهوى، وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه، فكيف إذا كان معه غيره فكيف إذا كانوا كثيراً فيكثر الخلاف والنزاع وإن لم يحصل ذلك بالفعل كان بالقوة، ولذلك كلن لكل قبيلة ممن يعبد الأصنام صنم غير صنم الأخرى وكان بعض القبائل يعبد الشعرى، وبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم غير ذلك
445
﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون﴾ [المؤمنون: ٥٣] نبه على ذلك مهدداً لهم بقوله مخبراً مؤكداًَ لأجل إنكارهم:
﴿إن الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال. ولما لم يقيد الحكم بالقيامة وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه قال:
﴿يحكم بينهم﴾ من غير تأكيد آخر أي بين جميع المخالفين في الأديان وغيرها من المتخذين للأولياء من دونه ومن المخلصين وغيرهم فلا بد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل.
ولما كانوا أوزاعاً أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها، قال:
﴿في ما﴾ أي في الدين الذي والأمر الذي. ولما كان تحكيمهم للهوى موفراً لدواعيهم على الاختلاف، وكان الاتخاذ الذي يبنى الكلام عليه له نظر عظيم إلى علاج الباطن بخلاف سورة يونس اثبت الضمير هنا فقال:
﴿هم﴾ أي بضمائرهم
﴿فيه يختلفون *﴾ أي ليس لهم أصل يضبطهم، فهو لا يرجعون إلا إلى الخلف كيف ما تقلبوا لأنهم مظروفون لذلك العمل الذي مبناه الهوى هو منشأ الاختلاف، فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم الذي أرشد إليه اعتذارهم، فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقواعد استنبطوها من ذلك لا يخرجون
446
عنها ليس خلافاً بل وفاق لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله، ومن هذا إنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عمر وأبي وغيرهما رضي الله عنهم لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة وقال:
«إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تختلفوا»، فلا فرق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلاً أو اجتهاداً لأنه في قوة الاتفاق لوحدة مرجعه - والله الموفق، ويجوز أن يكون الضمير في
«بينهم» لهم ولمعبوداتهم فإنهم ليس منهم معبود صامت ولا ناطق إلا وهو صارخ بلسان حاله إن لم ينطق لسان قاله بأنه مقهور مربوب عابد لا معبود، فهم مع من يعبدهم في غاية الخلاف.
447
ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحاً إلا أن انتظم بنظام غير مختل، وكان الدين إذا كان معوجاً داعياً إلى التفرق منادياً على نفسه بالانخلاع عنه والبعد منه فكان الحال مقتضياً للتعجب ممن تدين به، فضلاً عمن يدوم عليه، فضلاً عمن لا ينتبه عند التنبيه، فضلاً عمن يقاتل دون ذلك، أجاب من كأنه قال: سبب عكوفهم على هذا الضلال الذي أوجب لهم قطعاً الاختلاف بالفعل أو بالقوة، فقال مؤكداً تكذيباً لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار وإن
448
ظهر لبعض العمى غير ذلك مما يبدو من الكذبة والكفرة من أعمال مزينة وأفكار دقيقة فتظن هدى وإنما هي استدراج. ولما أرشد السياق إلى أن المعنى: لأنهم غير مهتدين لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم، نسق به قوله:
﴿إن الله﴾ أي الملك القادر القاهر الحكيم. ولما كان الأصل: لا يهديهم وأراد سبحانه التعميم وتعليق الحكم بالوصف تنفيراً عنه قال:
﴿لا يهدي﴾ أي لا يخلق الهداية في قلب
﴿من هو﴾ أي لضميره
﴿كاذب﴾ أي مرتكب الكذب عريق فيه حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك أن شيئاً يقرب إليه بغير إذنه، ويخضع بالعبادة التي هي نهاية التعظيم، فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام لمن لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم.
ولما كان من كفر في حين من الدهر قد ضاعف كفره لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل وما لله عليه من الإحسان، وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة ولعبادتهم بالفعل ولادعائهم فيهم التقريب قال
﴿كفار﴾ بصيغة المبالغة، والأحسن أن يقال: إن المبالغة لإفهام أن الذي لا يهديه إنما هو من ختم عليه سبحانه الموت على ذلك، قال القشيري: والإشارة إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي شيئاً ليس بصادق فيه فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده، وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.
449
ولما أخبر سبحانه بالحكم بينهم، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك، كافياً في ذلك لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول: فما حال من يتولى الولد؟ - قال القشيري: والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه -:
﴿لو أراد الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال
﴿أن يتخذ﴾ أي يتكلف كما هو دأبكم، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً
﴿ولداً﴾ أي كما زعم من زعم ذلك، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً، وكان الله قادراً على كل شيء، عدل عن أن يقول
﴿لاتخذ﴾ إلى قوله:
﴿لاصطفى﴾ أي اختار على سبيل التبني
﴿مما يخلق﴾ أي يبدعه في أسرع من الطرف، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء
449
أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار - كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال:
﴿ما يشاء﴾ أي مما يقوم مقام الولد فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك.
ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات، فكنتم كاذبين من جهتين، هذا غاية الإمكان، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا، بل هو مما يحيله العقل، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً، قال ابن برجان ما معناه: كان معهود الولادة على وجهين، فولد منسوب إلى والده بنوة وولادة ورحماً، فهذا ليس له في الوجود العلي وجود، ولا في الإمكان تمكن، ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه، وولد بمعنى التبني والاتخاذ، وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه حتى نسخة القرآن، فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا، فلما أعضل
450
بهم الداء وألحدوا في ذلك عن سواء القصد الذي هو الاصطفاء إلى بنوة الولادة أضلهم الله وأعمى أبصارهم وسد السبيل عن العبادة عن ذلك، وكشف معنى الاصطفاء، وأظهر معنى الولاية، ونسخ ذلك بهذا، لأن هذا لا يداخله لبس، وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة وعلوها في كل أمر.
ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل بالحكم باعترافهم بأن حكمه سبحانه نافذ في كل شيء لشهادة الوجود، ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلاً فضلاً عن الولد، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام، فقال:
﴿سبحانه﴾ أي له التنزيه التام عن كل نقيصة، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال:
﴿هو﴾ أي الفاعل لهذا الفعال، والقائل لهذه الأقوال، ظاهراً وباطناً
﴿الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال:
﴿الواحد﴾ أي الذي لا ينقسم أصلاً، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه
﴿القهار *﴾ أي الذي له هذه الصفة، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار،
451
فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله.
ولما أثبت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد، وأثبتت له الكمال المطلق، دل عليها بقوله:
﴿خلق السماوات والأرض﴾ أي أبدعهما من العدم
﴿بالحق﴾ أي خلقاً متلبساً بالأمر الثابت الذي ليس بخيال ولا سحر، على وجه لا نقص فيه بوجه، ولا تفاوت ولا خلل يقول أحد فيه أنه مناف للحكمة ولما كان من أدل الأشياء على صفتي الوحدانية والقهر، وتمام القدرة وكمال الأمر، بعد إيجاد الخافقين اختلاف الملوين، وكان التكوير - وهو إدارة الشيء على الشيء بسرعة وإحاطته به بحيث يعلو عليه ويغلبه ويغطيه - أدل على صفة القهر من الإيلاج، قال مبيناً لوقت إيجاد الملوين:
﴿يكور﴾ أي خلقهما أي صورهما في حال كونه يلف ويلوي ويدير فيغطي مع السرعة والعلو والغلة تكويراً كثيراً متجدداً مستمراً إلى أجله
﴿الّيل على النهار﴾ بأن يستره به فلا يدع له أثراً، ولعظمة هذا الصنع أعاد العامل فقال:
﴿ويكور النهار﴾ عالياً تكويره وتغطيته
﴿على الّيل﴾ فيذهبه كذلك
452
ويدخل في هذا الزيادة في كل منهما بما ينقص من الآخر لأنه إذا ذهب أحدهما وأتى الآخر مكانه، فكأن الآتي لف على الذاهب وألبسه كما يلف اللباس على اللابس، أو أنه شبه الذاهب في خفائه بالآتي بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامع الأبصار، أو أن كلاًّ منهما لما كان يكر على الآخر كروراً متتابعاً شبه ذلك بتتابع أكوار بعضها على بعض، فتغيب ما تحتها.
ولما كانت الظلمة سابقة على الضياء، وكان الليل إنما هو ظلمة يسبقها ضياء بطلوع الشمس، رتب سبحانه هذا الترتيب على حسب الإيجاد، ولذلك قدم آية النهار فقال معبراً بالماضي بخلقه الآيتين مسخرتين على منهاج معلوم لكل منها لا يتعداه، وحد محدود لا يتخطاه
﴿وسخر﴾ أي ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر
﴿الشمس﴾ أي التي محت ما كان من الظلام فأوجبت اسم النهار
﴿والقمر﴾ أي آية الليل.
ولما أخبر بقهرهما، بين ما صرفهما فيه، فقال بياناً لهذا
453
التسخير:
﴿كل﴾ أي منهما
﴿يجري﴾ أي بقضائنا الذي لا مرد له، وهذا آية لاختلاف أحوال العبد لأن خلقه جامع، فيختلف في القبض والبسط والجمع والفرق والأخذ والرد والصحو والسكر، وفي نجوم العقل، وأقمار العلم، وشموس المعرفة، ونهار التوحيد، وليل الشك والجحد، ونهار الوصل وليالي الهجر والفراق، وكيفية اختلافها وزيادتها ونقصانها - قاله القشيري.
ولما كان مقصود السورة العزة التي محطها الغلبة، وكان السياق للقهر، وكان القضاء لعلة لا يتخلف عنها المعلول أدل على القهر من ذكر الغاية مجردة عن العلة قال:
﴿لأجل مسمى﴾ أي لمنتهى الدور ومنقطع الحركة. ولما ثبت بهذا قهره، قال منادياً رشقاً في قلوب المنكرين:
﴿ألا هو﴾ أي وحده
﴿العزيز﴾ ولما كان ربما قال متعنت: فما له لا يأخذ من يخالفه؟ وكانت صفة القهر والعزة ربما أقنطت العصاة فأخرتهم عن الإقبال، قال مبيناً لسبب التأخير ومستعطفاً:
﴿الغفار *﴾ أي الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة فيمحو ذنوب من يشاء عيناً، وأثراً بمغفرته ويأخذ من يشاء بعزته.
ولما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله،
454
وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته، وكان أعجبه خلقاً الإنسان بما له من قوة النطق، قال دالاً على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتاً القول إلى خطاب النوع كله إيذاناً بتأهلهم للخطاب، وترقيهم في عُلا الأسباب، من غير عطف إيذاناً بأن كلاًّ من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له:
﴿خلقكم﴾ أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره
﴿من نفس واحدة﴾ هي آدم عليه السلام.
ولما كان إيجادنا منها بعد شق الأنثى منها، قال عاطفاً على ما تقديره: أوجدها من تراب، مبيناً بلفظ الجعل أن الذكر هو سببها ومادتها منبهاً بأداة التراخي على القهر الذي السياق له بالتراخي في الزمان بتأخير المسبب عن سببه المقتضي له إلى حين مشيئته لأن إيجادها منه كان بعد مدة من إيجاده، والأصل في الأسباب ترتب المسببات عليها من غير مهلة وعلى التراخي في الرتبة أيضاً بأن ذلك - لكونه شديد المباينة لأصله - من أعجب العجب:
﴿ثم﴾ أي بعد حين، وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سبباً لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له
455
سبحانه من صفات الكمال فقال:
﴿جعل منها﴾ أي تلك النفس
﴿زوجها﴾ أي ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه: قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه، فلا تزيدون على ما قدره شيئاً ولا تنقصون وأن تفيض منه زوجه، وذلك قبل خلق حواء منه، ثم أوجدها فكان الفيض منها فيضاً منه فالكل منه، ولهذا ورد الحديث في مسند أحمد بن منيع عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«خلق الله آدم يوم خلقه وضرب على كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في يساره: إلى النار ولا أبالي».
ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر، وكان سبحانه موصوفاً بالعلو، وكان أكثر الأنعام أشد من الإنسان، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً عن قوته
456
وإيهاناً لشدته، قال دالاً على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال:
﴿وأنزل لكم﴾ أي خاصة
﴿من الأنعام﴾ أي الإبل بنوعيها، والبقر كذلك، والضأن والمعز. ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه، واقتصر على ما عندهم، وقال:
﴿ثمانية أزواج﴾ أي من كل نوع زوجين ذكراً وأنثى، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل ذكرها وأنثاها على انفراده، لا أن أحداً منها من صاحبه، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي.
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجباً قال مستأنفاً بياناً لما أجمل قبل:
﴿يخلقكم﴾ أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر
﴿في بطون أمهاتكم﴾ ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره، قال دالاً على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر:
﴿خلقاً﴾ ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف فقال:
﴿من بعد خلق﴾ أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار. ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا
457
في التطوير الرابع، وكان الجهل ظلمة قال:
﴿في ظلمات ثلاث﴾ ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فإذا صار عظاماً مكسوة لحماً عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل، وصار خلقاً آخر، وقيل؛ ظلمة البطن والرحم والمشيمة - نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وعزاه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
ولما ثبت له سبحانه كمال العظمة والقهر، قال مستأنفاً ما أنتجه الكلام السابق معظماً باداة البعد رميم الجمع:
﴿ذلكم﴾ أي العالي المراتب شهادتكم أيها الخلق كلكم، بعضكم بلسان قاله، وبعضكم بناطق حاله، الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا أفعاله، ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد، أخبر عن اسم الإشارة فقال:
﴿الله﴾ أي الجامع لجميع صفات الكمال، ونبه على جهلهم مما يعلمون من ربوبيته لعملهم بالشرك عمل جاهل بذلك فقال واصفاً:
﴿ربكم﴾ أي المالك والمربي لكم بالخلق والرزق. ولما كان المربي قد لا يكون ملكاً قال نتيجة لما سبق:
﴿له﴾ أي وحده
﴿الملك﴾ ولما كان المختص بالملك قد لا يكون إلهاً، قال مثبتاً له الإلهية على ما يقتضيه من الوحدانية وهو
458
بمنزلة نتيجة النتيجة:
﴿لا إله إلا هو﴾.
ولما تكفل هذا السياق بوجوب الإخلاص في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لأن الكل تحت قهره، وشمول نهيه وأمره، سبب عنه قوله:
﴿فأنى﴾ أي فكيف ومن أي وجه
﴿تصرفون *﴾ أي قهراً عن الإخلاص له إلى الإشراك به بصارف ما وإن كان عظيماً، ونبه بالبناء للمفعول مع هذا على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه لأنهم تابعون للهلاك المحض، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي العطشة الذي إن تركه هلك إلا قهراً؛ وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول، وأشار إلى هذا لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر وأن يفعلوا شيئاً بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة.
459
ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج، بين ما على من غطاها بالإصرار، وما لمن تاب ورجع التذكار، فقال مستأنفاً لما هو نتيجة ما مضى، معرفاً لهم نعمته عليهم بأنه ما تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئاً بما هو من درء المفاسد:
﴿إن تكفروا﴾
459
أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك
﴿فإن الله﴾ لأنه جامع لصفات الكمال
﴿غني عنكم﴾ أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه، ولا بد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم
﴿ولا يرضى﴾ لكم - هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال:
﴿لعباده﴾ أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم
﴿الكفر﴾ بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه
﴿وإن تشكروا﴾ أي بالعبادة والإخلاص فيها
﴿يرضه﴾ أي الشكر الدال عليه فعله
﴿لكم﴾ أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله، والقسمان بإرادته، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر - والله أعلم، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في
460
الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه.
ولما كان في سياق الحكم والقهر، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجوائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال:
﴿ولا تزر وازرة﴾ أي وازرة كانت
﴿وزر أخرى﴾ بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه، فوزر الفاعل على الفعل، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي
﴿ثم إلى ربكم﴾ أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به
﴿مرجعكم﴾ أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء. ولما كان الجزاء تابعاً للعلم، قال معبراً عنه به:
﴿فينبئكم﴾ أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً
﴿بما كنتم تعملون﴾ أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء.
ولما كان المراد - كما أشار إليه بكان - الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة، حسن التعليل بقوله:
﴿إنه عليم﴾ أي بالغ العلم
﴿بذات الصدور *﴾ أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم، وذلك بما دلت عليه الصحبة - كل ما لم يبرز إلى الخارج، فهو بما برز أعلم.
461
ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس ذماً له ونفرة منه وذماً به فقال:
﴿وإذا﴾ وهي - والله أعلم - حالية من واو
﴿تصرفون﴾ وكان الأصل: مسكم، ولكنه عمم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال:
﴿مس الإنسان﴾ أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره
﴿ضر﴾ أي ضر كان من جهة يتوقعها - بما أشار إليه الظرف بمطابقة المقصود السورة مع تهديد آخر التي قبلها
﴿دعا ربه﴾ أي الحسن إليه الذي تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله
«ذلكم الله ربكم» ذاكراً صفة إحسانه
﴿منيباً﴾ أي راجعاً رجوعاً عظيماً
﴿إليه﴾ بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيره ضرورة يجدها في نفسه لأن الضر أزال عنه الأموية والحظوظ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد.
ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في
462
ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال:
﴿ثم﴾ أي بعد استبعاده جداً. ولما كان الرخاء محققاً، وهو أكثر من الشدة، عبر بأداة التحقق، فقال منبهاً بالتعبير ب
«خول» على أن غطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً لأن التخويل لا يكون جزاء بل ابتداء:
﴿إذا خوله﴾ أي أعطاه عطاء متمكناً ابتداء، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده
﴿نعمة منه﴾ ومكنه فيها
﴿نسي﴾ أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه، فعلم أن صلاحه بالضراء
﴿ما﴾ أي الأمر الذي
﴿كان يدعوا﴾ ربه على وجه الإخلاص
﴿إليه﴾ إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل حال التخويل
﴿وجعل﴾ زيادة على الكفران بنسيان الإحسان
﴿لله﴾ أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع
﴿أنداداً﴾ أي لكونه يتأهلهم، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم.
463
ولما كان ذلك في غاية الضلال، لكونه - مع أنه خطأ - موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، وكان هذا الضلال في غاية الظهور، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه، فقال مشيراً إلى ذلك كله:
﴿ليضل﴾ أي بنفسه عند فتح الياء، ويضل غيره عند من ضمها
﴿عن سبليه﴾ أي الطريق الموصل إلى رضوانه، الموجب للفوز بإحسانه.
ولما كان من المعلوم المحقق المقطوع به المركوز في الفطر الأولى المستمر فيما بعدها أن الملك لا يدع من يعصيه بغير عقاب، وكان قد ثبت بقضية الإجماع وقت الاضطرار أنه لا يلتفت إلى أحد سوى الله وكان من التفت - بعد أن أنجاه الله من ضرره وأسبغ عليه من نعمه - كافراً من غير شك عند ذي عقل، وكان من كان بهذه المثابة في هذه الدار هم أهل النعم الكبار، والتمتع الصافي عن الأكدار، كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار، فقال تعالى مبيناً
464
لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب
﴿قل﴾ أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر:
﴿تمتع﴾ أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها - مع كونه زائلاً - يفيض إلى الله، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله.
ولما ذكر تمتيعه بالخسيس، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمنيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال:
﴿بكفرك﴾ ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال:
﴿قليلاً﴾ ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال: ما رأيت نعيماً قط، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها:
﴿إنك﴾ وهذا الأمر هنا يراد به الزجر، تقديره: إن تمتعت هكذا كنت
﴿من أصحاب النار *﴾ أي الذين لم يخلفوا إلا لها {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس
465
لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: ١٧٩].
ولما أرشدت
«أم» قطعاً في قراءة من شدد إدغاماً لإحدى الميمين في الأخرى أن التقدير شرحاً لأحوال المؤمنين بعد أحوال المشركين: أهذا - الذي يدعو الله مرة، وغيره ممن يجعله له نداً أخرى - أسد طريقة وأقوم قيلاً:
﴿أمّن هو﴾ والتقدير في قراءة نافع وابن كثير وحمزة بالتخفيف: أمن هو بهذه الصفة خير أم ذلك الكافر الناسي لمن أحسن إليه، ويرجح التقدير بالاستفهام دون النداء إنكار التسوية بين العالم الذي حداه علمه على القنوت والذي لا يعلم حقيقة أو مجازاً لعدم الانتفاع بعلمه
﴿قانت﴾ أي مخلص في عبادته الله تعالى دائماً
﴿آناء الّيل﴾ أي جميع ساعاته.
ولما كان المقام للإخلاص، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله لأنه التجرد عن جميع الأغيار، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه، لأنه خاص بالله تعالى، قال:
﴿ساجداً﴾ أي وراكعاً ودل على تمكنه من الوصفين بالعطف فقال:
﴿وقائماً﴾ أي وقاعداً، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه، والآية من الاحتباك: ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن
466
السجود يدل على العبادة، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين لأن القعود إنما هو للرفق بالاستراحة والركوع إنما أريد به إخلاص الأركان للعبادة، لأنه لا يمكن عادة أن يكون لغيرها، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد، فلما ضم إليهما الركوع تمحضاً للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم.
ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان، وكان ذلك في محل الغفران، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول: ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد:
﴿يحذر الآخرة﴾ أي عذاب الله فيها، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه. ولما ذكر الخوف، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال:
﴿ويرجوا رحمة ربه﴾ أي الذي لم يزل ينقلب في إنعامه.
ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع، وكان العلم الذي لا ينفع كالجهل أو الجهل خير، كان جواب ما تقدم من الاستفهام: لا يستويان، لأن المخلص عالم والمشرك جاهل. فأمره بالجواب بقوله:
﴿قل﴾ أي لا يستويان، لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل، ثم أنكر على من يشك في ذلك فقل
467
له:
﴿هل يستوي﴾ أي في الرتبة
﴿الذين يعلمون﴾ أي فيعملون على مقتضى العلم، فأداهم علمهم إلى التوحيد والإخلاص في الدين
﴿والذين لا يعلمون﴾ فليست أعمالهم على مقتضى العلم إما لجهل وإما لإعراض عن مقتضى العلم فصاروا لا علم لهم لأنه لا انتفاع لهم به لأنهم لو تأملوا أدنى تأمل مع تجريد الأنفس من الهوى لرجعوا إليه من أنه لا يرضى أحد أصلاً لعبده أن يخالف أمره، وإلى أنه لا يطلق العلم إلا على العامل أرشد قول ابن هشام في السيرة
﴿ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾ [آل عمران: ١٨٨] أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا حق.
ولما كان مدار السداد التذكر. وكان مدار التذكر الذي به الصلاح والفساد هو القلب لأنه مركز العقل الذي هو آلة العلم، وكان القلب الذي لا يحمل على الصلاح عدماً، بل العدم خير منه، قال:
﴿إنما يتذكر﴾ أي تذكراً عظيماً بما أفهمه إظهار التاء فيعلم أن المحسن لا يرضى بالإحسان إلى من يأكل خيره ويعبد غيره
﴿أولوا الألباب *﴾ أي العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون آخر آل عمران بقوله تعالى:
﴿الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم﴾ [آل عمران: ١٩١] إلى
468
آخرها، وما أحسن التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء لأن السياق للإخلاص، قال الرازي في اللوامع: قال الإمام محمد بن علي الترمذي: خلق الله تعالى الأشياء مسخرة للآدمي، وخلق الآدمي للخدمة، ووضع فيه أنواره ليخرج الخدمة لله تعالى من باطنه بالحاجة، فالآدمي مندوب إلى العلم بالله تعالى وبأوامره حسب ما خلق له، والخدمة والقنوت بقلبك بين يديه ماثلاً منتصباً محقاً مبادراً مسارعاً سائقاً مركبك في جميع أمورك بالحب له، وعلم الخدمة علم البساطين: بساط القدرة وبساط العبودة فإذا طالعت بساط القدرة بعقل وافر وهو أن تعرف نفسك وتركيبك من روحاني وجسماني، وطالعت بساط العبودة بكياسة تامة أدركت تدبيره في العبودة وباطن أمره ونهيه وعلل التحريم والتحليل، وبسط الله بساط الربوبية من باب القدرة، وبسط بساط العبودة من باب العظمة، ثم كان آخر خلقه سبحانه هذا الإنسان الذي بسط له هذين البساطين، وجمع فيه العالمين، وزاد على ما فيهما من قبول الأمر اختياراً وطوعاً، وكل شيء أعطاك إنما أعطاك لتبرزه إلى جوارحك، وتستعمله فيما خلق له، فلو لم يعطك منك لم يطلب منك، فلا تطلب الزكاة ممن لا مال له، ولا الصلاة قياماً ممن لا رجل له.
469
ولما ثبت أن القانت خير، وكان المخالف له كثيراً، وكان أعظم
469
حامل له على القنوت التقوى، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل، وكان الإنسان - لما له من النقصان - أحوج شيء إلى التثبيت، وكان التثبيت من المجانس، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال:
﴿قل﴾ ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف، وتوالي الزلزال والمتالف، إلا إذ كان عن الملك، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق، فقال:
﴿يا عباد﴾ دون أن يقول: يا عباد الله، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير. قال الله، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه:
﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها.
ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين
«اجلس على البساط وإياك والانبساط» ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من
470
أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً، وخوفاً وانكساراً، مما أقله قطع الإحسان فقال:
﴿اتقوا ربكم﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى.
ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا: فما لنا إن فعلنا؟ قال مجيباً معللاً:
﴿للذين أحسنوا﴾ أي لكم، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال:
﴿في هذه﴾ باسم الإشارة زيادة في التعيين
﴿الدنيا﴾ أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه
﴿حسنة﴾ أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب، ويجوز أن يكون معنى
﴿أحسنوا﴾ أوقعوا الإحسان، ومعلوم أنه في هذه الدنيا، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا، فالأول حسن.
ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان، ويحمله على العصيان، حث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه
471
ذلك المانع، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل:
وإذا نبا بك منزل فتحول... فقال:
﴿وأرض الله﴾ أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة
﴿واسعة﴾ ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة.
ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال:
﴿إنما يوفى﴾ أي التوفية العظمية
﴿الصابرون﴾ أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها
﴿أجرهم بغير حساب *﴾ أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره، وتتعاظم آثاره، بحسب الهمم في علوها وسفولها، وسموها ونزولها، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال - لم يكن عليه حساب، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة
472
بها لمم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي، قال:
«إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك»، قالت: بل أصبر ولا حساب علي.
ولما كانت الأعين ناظرة إلى الأمر هل يفعل ما يأمر به ومقيده بالرئيس لتأتسي به، وكان أعظم الصابرين من جاهد نفسه حتى خلص أعمالها من الشوائب وحماها من الحظوظ والعوائق، وصانها من الفتور والشواغل، أمره بما يرغبهم في المجاهدة، ويكشف لهم عن حلاوة الصبر، بقوله:
﴿قل﴾ ولما كان الرئيس لقربه من الملك بحيث يظن أنه يسامحه في كثير مما يكلف به غيره أكد قوله:
﴿إني أمرت﴾ وبني الفعل لما لم يسم فاعله تعظيماً للأمر بأنه قطع ومضى بحيث لم يبق فيه مشوبة، وأقام مقام الفاعل دليلاً على أنه العمدة للحث على لزومه قوله:
﴿أن أعبد الله﴾ أي الذي الخلق كلهم سواء بالنسبة إلى قبضته وعلوه وعظمته لأنه غني عن كل شيء
﴿مخلصاً له الدين *﴾ أي العبادة التي يرجى منه الجزاء عليها.
ولما كان الرئيس إذا سابق إلى شيء شوق النفوس إليه، وأوجب عليها العكوف عليه قال:
﴿وأمرت﴾ أي، وقع الأمر لي وانبرم بأوامر عظيمة وراء ما أمرتم به لا تطيقونها
﴿لأن﴾ أي لأجل
473
أن
﴿أكون﴾ في وقتي وفي شرعي
﴿أول﴾ أي أعظم
﴿المسلمين *﴾ أي المنقادين في الرتبة الحائزين قصب السبق بكل اعتبار لأوامر الإله الذي لا فوز إلا بامتثال أوامره أو أسبق الكائنين منهم في زماني، فجهة هذا الفعل غير جهة الأول، فلذلك عطف عليه لأنه لإحراز قصب السبق، والأول لمطلق الإخلاص في العبادة.
ولما كان ما أمر به مفهماً لأن يكون مع ترغيب ومع ترهيب، وكان ربما ظن أن الرئيس لا يرهب الملك لأمور ترجى منه أو تخشى، وكان تكرير الأمر بإبلاغ المأمورين أوقع في قلوبهم وأشد إقبالاً بنفوسهم قال تعالى:
﴿قل﴾ أي لأمتك، وأكد - لما في الأوهام أن الرئيس لا يخاف - قوله
﴿إني أخاف﴾ أي مع تأمينه لي بغفران ما تقدم وما تأخر إخلاصاً في إجلاله وإعظامه وفعلاً لما على العبد لمولاه الذي له جميع الكبرياء والعظمة، ولما كان وصف الإحسان ربما جراً على العصيان، يبن أنه لا يكون ذلك إلا لعدم العرفان فقال:
﴿إن عصيت ربي﴾ أي المحسن إليّ المربي لي بكل جميل فتركت الإخلاص له
﴿عذاب يوم عظيم *﴾ وإذا كان اليوم عظيماً، فكيف يكون عذابه.
474
ولما بين ما أمر به، وأعلم أنه يخاف من مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به، أمره سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح
474
من المزية ما لا يخفى فقال:
﴿قل الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال وحده
﴿أعبد﴾ تخصيصاً له بذلك، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً
﴿مخلصاً له﴾ وحده
﴿ديني *﴾ أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر، فصارت عبادتي لآجل وجهه وكونه مستحقاً للعبادة خاصة شوقاً إليه وحباً له وحياء منه وأما الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي لأجل إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية.
ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقواهم قلباً وأصفاهم لباً، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً، كان خوف غيره من باب الأولى، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديد بقوله:
﴿فاعبدوا﴾ أي أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء المعرضون عنه في وقت الرخاء
﴿ما شئتم﴾ أي من جماد أو غيره. ونبّه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه سبحانه تسفيهاً لمن يلتفت إلى سواه بقوله:
﴿من دونه﴾ فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه، ولا إحسان إلا إحسانه، فإذا انقطع حصل كل سوء، وفي ذلك جميع الخسارة.
ولما كانوا يدعون الذكاء، ويفعلون ما لا يفعله عاقل، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم بما يصيرون إليه من شقاوتهم فقال:
475
﴿قل إن الخاسرين﴾ أي الذين خسارتهم هي الخسارة لكونها النهاية في العطب
﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ أي بدخولهم النار التي هي معدن الهلاك لعبادتهم غير الله من كل ما يوجب الطغيان. ولما كان أعز ما على الإنسان بعد نفسه أهله الذين عزه بهم قال:
﴿وأهليهم﴾ أي لأنهم إن كانوا مثلهم فحالهم في الخسارة كحالهم، ولا يمكن أحداً منهم أن يواسي صاحبه بوجه فإنه لكل منهم شأن يغنيه، وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم.
ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات، قال:
﴿يوم القيامة﴾ لأن ذلك اليوم هو الفيصل لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلاً ولما كان في ذلك غاية الهول. كرر التعريف بغباوتهم تنبيهاً على رسخوهم في ذلك الوصف على طريق النتيجة لما أفهمه ما قبله فقال منادياً لأنه أهول مبالغاً بالاستئناف وحرف التنبيه وضمير الفصل وتعريف الخبر ووصفه:
﴿ألا ذلك﴾ أي الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جداً
﴿هو﴾ أي وحده
﴿الخسران﴾ أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة فكيف إذا بنيت على الضم الذي هو أثقل الحركات، وزاد في تقريعهم بالغباوة بقوله:
﴿المبين *﴾.
ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره، فصله بقوله على طريق التهكم بهم:
﴿لهم﴾ فإن عادة
476
اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الظلل وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال:
﴿من فوقهم ظلل﴾ ولما أوهمهم ذلك الراحة، أزال ذلك بقوله:
﴿من النار﴾ وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر. ولما كان في القرار - كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب، يصعدهم اللهيب تارة، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار، يغلي به صاعداً وسافلاً، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله:
﴿ومن تحتهم﴾.
ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة، أعادها ولم يكتف بالأولى، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال:
﴿ظلل﴾ ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا، فسألنا يوماً قلنا: لا، قال: لكني رأيت
477
رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة» - فذكره بطوله حتى قال:
«فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقد تحته نار، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا» فذكره وهو طويل عظيم، ثم فسرهم بالزناة.
لما كان هذا أمراً مهولاً، وهو لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الشأن
﴿يخوف الله﴾ أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر
﴿به عباده﴾ أي الذين لهم أقلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيعيذهم منه. ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال:
﴿يا عباد فاتقون *﴾ أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم.
ولما ذكر ما لمن عبد الطاغوت، عطف عليه أضدادهم ليقترن الوعد بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب فقال:
﴿والذين اجتنبوا﴾ أي كلفوا أنفسهم ذلك لما لها في الانسياق إليه من الهوى مع تزيين الشيطان
«حفت النار بالشهوات» ولما كان للإجمال ثم البيان موقع عظيم، قال:
﴿الطاغوت﴾ وهو كل ما عبد من دون الله، فلغوت من
478
الطغيان وهو صيغة مبالغة، وفيه مبالغة أخرى بجعل الذات عين المعنى، ودل على عكس من تبعها بتعكيس حروفها، ولما ذكر اجتنابها مطلقاً ترغيباً فيه، بين خلاصة ما يجتنب لأجله مع التنفير منها بتأنيثها الذي أبصره المنيبون بتقوية الله لهم عليها حتى كانوا ذكراناً وهم إناثاً عكس ما تقدم للكفار في البقرة، فقال مبدلاً منها بدل اشتمال:
﴿أن يعبدوها﴾.
ولما ذكر اجتناب الشرك، أتبعه التزام التوحيد فقال:
﴿وأنابوا﴾ أي رجعوا رجوعاً عظيماً أزالوا فيه النوبة وجعلوها إقبالة واحدة لا صرف فيها
﴿إلى الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال فلا معدل عنه
﴿لهم البشرى﴾ في الدنيا على ألسنة الرسل وعند الموت تتلقاهم الملائكة فقد ربحوا ربحاً لا خسارة معه لأنهم انتفعوا بكلام الله فأخلصوا دينهم له فبشرهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال مسبباً عن عملهم، صارفاً القول إلى التكلم بالإفراد تشريفاً للمبشرين الموصوفين:
﴿فبشر عباد *﴾ أي الذين أهلوا أنفسهم بقصر هممهم عليّ للإضافة إليّ
﴿الذين يستمعون﴾ أي بجميع قلوبهم
﴿القول﴾ أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على
479
شيء أعرضوا عن غيره بغير دليل
﴿فيتبعون﴾ أي بكل عزائمهم بعد انتقاده:
﴿أحسنه﴾ بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى هوى، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم، فإن كتب الله كلها حسنة، وهذا القرآن أحسنها كلاماً، ومعاني ونظاماً، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق.
ولما بين عملهم، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد:
﴿أولئك﴾ أي العالو الهمة والرتبة خاصة
﴿الذين﴾ ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم،
﴿هداهم الله﴾ بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال
﴿أولئك الذين هدى الله﴾ فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال:
﴿وأولئك هم﴾ أي خاصة
﴿أولوا الألباب *﴾ أي العقول الصافية عن شوب كدر.
ولما خص سبحانه البشارة بالمحسنين، علم أن غيرهم قد حكم بشقاوته،
480
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديراً بالأسف على من أعرض، سبب عن أسفه عليهم قوله:
﴿أفمن حق﴾ وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم
﴿عليه كلمة العذاب﴾ بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمساً في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها، أفأنت تنقذه من إعراضه الذي غمسه في النار؟ ثم دل على هذا الذي قدرته بقوله مؤكداً بإعادة حرف الاستفهام لأجل طول الكلام ولتهويل الأمر وتفخيمه للنهي عن تعليق الهم بهم لما عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جبلة العطف والرقة على عباد الله:
﴿أفأنت تنقذ﴾ أي تخلص وتمنع وتنجي، ووضع موضع ضميره قوله شهادة عليه بما هو مستحقه ولا يمكن غير الله فكه منه
﴿من في النار *﴾ متمكناً فيها شديد الانغماس في طبقاتها، والرسوخ بحيث إنها قد أحاطت به من كل جانب، وكان الأصل: أنت تنقذ من حق عليه العذاب، فقدم المفعول وجعله عمدة الكلام ليقرع السمع ويترقب الخبر عنه، ثم حذف خبره ليكون أهول فتذهب النفس فيه كل مذهب، ثم أنكر أن يكون أعلى الخلق ينقذه، فغيره من باب الأولى، فصار الكلام بذلك من الرونق والبهجة والهول والإرهاب ما لا يقدر البشر على مثله.
481
ولما بين أن من عبد الأنداد هالك لخروجه عن دائرة العقل بجرأة
481
وعدم تدبير، بين ما لأضدادهم، فقال صارفاً القول عن الاسم الأعظم إلى وصف الإحسان إشارة إلى كرم المتقين بما لهم من إصالة الرأي التي أوجبت خوفهم مع تذكر الإحسان ليدل على أن خوفهم عند تذكر الانتقام أولى:
﴿لكن الذين اتقوا ربهم﴾ أي جعلوا بينهم وبين سخط المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكنة، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه
﴿لهم غرف﴾ أي علالي من الجنة يسكنونها في نظير ظلل الكفار. ولما كانت الغرف في قرار تقر به العيون لم يقل
«من فوقهم» كما قال في أهل النار وقال:
﴿من فوقها غرف﴾ أي شديدة العلو. ولما كان ربما ظن أن الطبقة الثانية السماء، لأن الغرفة أصلها العالي، ولذلك سميت السماء السابعة غرفة، وأن تكون الغرفة مثل ظلل النار ليس لها قرار، قال تحقيقاً للحقيقة مفرداً كما هو المطرد في وصف جمع الكثرة لما يعقل:
﴿مبنية﴾. ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء، وكان الجاري أشرف وأحسن قال:
﴿تجري من تحتها﴾ أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوت بين العلو والسفل، لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك
﴿الأنهار﴾.
ولما ذكر يوم القيامة وما يكون فيه، بين أنه أمر لا بد منه بقوله، راداً السياق إلى الاسم الأعظم الذي لا يتصور مع استحضار ما له من الجلال إخلاف:
﴿وعد الله﴾ مؤكداً لمضمون الجملة بصيغة المصدر
482
الدال على الفعل الناصب له، وهو واجب الإضمار والإضافة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، ثم أتبع ذلك بيان ما يلزم من كونه وعده بقوله على سبيل النتيجة:
﴿لا يخلف الله﴾ أي الملك الذي لا شريك له يمنعه من شيء يريده. ولما كان الرعي لزمان الوعد ومكانه إنما يكون للمحافظة عليه فهو أبلغ من رعيه نفسه، عبر بالمفعال فقال:
﴿الميعاد *﴾ لأنه لا سبب أصلاً يحمله على الإخلاف.
ولما أخبر سبحانه بقدرته على البعث، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها، وخص المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً:
﴿ألم تر﴾ أي مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق، وأرفت وتفرق:
﴿أن الله﴾ أي الذي له كل صفة كمال
﴿أنزل من السماء﴾ أي التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك
﴿ماء﴾ كما تشاهدونه في كل عام
﴿فسلكه﴾ أي في خلال التراب حال كونه
﴿ينابيع﴾ أي عيوناً فائرة
﴿في الأرض﴾ فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم، قال الشعبي والضحاك: كل ماء في
483
الأرض من السماء ينزل إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا.
ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر، عبر بثم، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال:
﴿ثم يخرج﴾ أي والله
﴿به﴾ أي الماء
﴿زرعاً﴾ ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة، قال:
﴿مختلفاً ألوانه﴾ أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً.
ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه النقص
﴿ثم يهيج﴾ وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
﴿فتراه﴾ أي فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه
﴿مصفراً﴾ آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة. ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون لأن السياق ثَم لأن الدنيا عدم فقال:
﴿ثم يجعله حطاماً﴾ أي مكسراً مفتتاً بالياً.
ولما تم هذا المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة، كما قدر على الإيجاد
484
من العدم والإفادة لكل ما لم يكن، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود:
﴿إن في ذلك﴾ أي التدبير على هذا الوجه
﴿لذكرى﴾ أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده، فإن النبات كالإنسان سواء، يكون ماء، ثم ينعقد بشراً، ثم يخرج طفلاً، ثم يكون شاباً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً ثم هرماً، ثم تراباً مفتتاً في الأرض، ثم يجمعه فيخرجه كما أخرج الماء النبات:
﴿لأولي الألباب *﴾ أي العقول الصافية جداً كما نبه عليه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان.
ولما كان الذي قرر به أمراً فيما يظنه السامع ظاهراً كما كان جديراً بأن ينكر بعض الواقفين مع الظواهر تخصيص الألباء به، سبب عن ذلك الإنكار في قوله:
﴿أفمن شرح الله﴾ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل
﴿صدره للإسلام﴾ أي للانقياد للدليل، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل
﴿فهو﴾ أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان
﴿على نور﴾ أي بيان عظيم بكتاب، به يأخذ، وبه يعطي، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه، يصرفه حيث يشاء، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت
485
القول إلى مظهر الإحسان فقال:
﴿من ربه﴾ أي المحسن إليه إحسانه في انقياده، فبشرى له فهو على صراط مستقيم، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً، فكان في الظلام خابطاً، فويل له - هكذا كان الأصل ولكن قيل:
﴿فويل للقاسية قلوبهم﴾ أي لضيق صدورهم، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال:
﴿من ذكر الله﴾ فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود.
ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى:
﴿أولئك﴾ أي الأباعد الأباغض
﴿في ضلال مبين *﴾ أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف ضده أولاً - روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية، قال: فقلنا: يا رسول الله! كيف انشراح صدورهم؟ قال: إذا دخل النور القلب
486
انشرح وانفسح قلنا: يا رسول الله؟ فما علاقة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، فعند ذلك لا وجد ولا قصد، ولا قرب ولا بعد، كلا بل هو الله الواحد القهار، وذلك كما قيل: المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب.
ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه:
﴿الله﴾ أي الفعال
487
لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال
﴿نزّل﴾ أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة
﴿أحسن الحديث﴾ وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، ولقدر - ولو يوماً واحداً - على الإتيان بشيء من مثله، وأبدل من
«أحسن» قوله:
﴿كتاباً﴾ أي جامعاً لكل خير
﴿متشابهاً﴾ أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أو لا، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر، ولم يقل: مشتبهاً، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة لا يمدح به.
ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله:
﴿مثاني﴾ جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم
488
والشقاء والضلال والهدى، والسراء والضراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير: متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله، ومن ثم كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر.
ولما كان التكرار يمل، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار، ويزداد حلاوة ولو ثنى آناء الليل وأطراف النهار، فقال:
﴿تقشعر﴾ أي تهتز وتتجمع وتتقبض تقبضاً شديداً، من القشع وهو الأديم اليابس، وزيد حرفاً لزيادة المعنى، واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه، وكونه حرف التطوير أشد للمناسبة
﴿منه جلود﴾ أي ظواهر أجسام
﴿الذين يخشون﴾ أي يخافون خوفاً شديداً ويلتذون لذة توجب إجلالاً وهيبة، فيكون ذلك سبب ذلك، وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن، فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفاً، فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان فقال:
489
﴿ربهم﴾ أي المربي لهم والمحسن إليهم لاهتزاز قلوبهم، روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه»، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر برجل من أهل العراق ساقط، قال: فما بال هذا؟ قال: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر رضي الله عنهما: إنا لنخشى الله وما نسقط وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
﴿ثم تلين﴾ أي تمتد وتنعم، وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه اليبس، وأخر القلوب إبعاداً لها عما قد يفهم يبساً فيوهم قسوة فقال:
﴿جلودهم﴾ لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء وإن اشتدت صلابتها
﴿وقلوبهم﴾ وذكره لتجدد لين القلوب مع الجلود دال على تقدير اقشعرارها معها من شدة الخشية فإن الخشية لا تكون إلا في القلب، وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيههاً عن ذكر ما قد يفهم القسوة.
ولما كان القلب شديد الاضطراب والتقلب، دل على حفظه له بنافذ أمره وباهر عظمته بالتعدية ب
«إلى» ليكون المعنى: ساكنة مطمئنة
490
﴿إلى ذكر الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام، فإن الأصل في ذكره الرجاء لأن رحمته سبقت غضبه، وأظهر موضع الإضمار لأحسن الحديث لئلا يوهم أن الضمير للرب، فيكون شبهة لأهل الاتحاد أو غيرهم من أرباب البدع، ولم يقل: إلى الحديث أو الكتاب - مثلاً، بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره سبحانه ليكون أفخم لشأنه، وزاده فخامة بصرف القول عن الوصف المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام.
ولما كان ما ذكر من الآثار عجباً، دل على عظمته بقوله على طريق الاستنتاج:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل والقبض والبسط
﴿هدى الله﴾ أي الذي لا يتمنع عليه شيء
﴿يهدي به من يشاء﴾ ومن هداه الله فما له من مضل، ويضل به من يشاء فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم، فيكون هدى لناس ضلالاً لآخرين
﴿ومن يضلل الله﴾ أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء إضلالاً راسخاً في قلبه بما أشعر به الفك ليخرج الضلال العارض
﴿فما له من هاد *﴾ لأنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، لأنه الواحد في ملكه، فلا شريك له، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً إطلاق أمره في الهداية دليلاً على حذف مثله في الضلال، وثانياً انسداد باب الهداية على من أضله دليلاً على وحذف مثله فيمن هداه وهي دامغة للقدرية.
491
ولما أتم الإنكار على من سوى، بين من شرح صدره ومن ضيق، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد، والثاني ضال، شرع في بيان ما لكل منهما نشراً مشوشاً في أسلوب الإنكار أيضاً، فقال مشيراً إلى أن الضلال سبب العذاب، والهدى سبب النعيم، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي القلب في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب، لتتقابل الآيتان، وتتعادل العبارتان:
﴿أفمن﴾ وأفرد على لفظ
﴿من﴾ لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال:
﴿يتقي﴾ ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله:
﴿بوجهه﴾ الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه
﴿سوء العذاب﴾ أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه
﴿يوم القيامة﴾ لأنه يرمي به في النار منكوساً وهو مكبل، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم، ويسحب في النار على وجهه، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه.
ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئاً، بني للمفعول قوله:
﴿وقيل﴾ له - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم به وجمع تنبيهاً على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئاً
492
فقال:
﴿للظالمين﴾ أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا:
﴿ذوقوا ما﴾ أي جزاء ما
﴿كنتم تكسبون *﴾ أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم، وقيل لأهل النعيم: طيبوا نفساً وقروا عيناً جزاء بما كنتم تعلمون، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستفهام أولاً دليلاً على حذف متعلقه ثانياً، وما يقال للظالم ثانياً دليلاً على ما يقال للعدل أولاً.
ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول: فهل يعذبون في الدنيا:
﴿كذب الذين﴾ وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم:
﴿فأتاهم العذاب﴾ وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله:
﴿من حيث﴾ أي من جهة
﴿لا يشعرون *﴾ أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير.
493
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال:
﴿فأذاقهم الله﴾ أي الذي لا راد لأمره
﴿الخزي﴾ أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم
﴿في الحياة الدنيا﴾ أي العاجلة الدنية.
ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه:
﴿ولعذاب الآخرة﴾ أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث:
﴿أكبر﴾ من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك: ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت. فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب.
ولما كان من علم أن فعله يورث نكالاً كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال:
﴿لو كانوا يعلمون *﴾ أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا، ولكنه لا علم لهم أصلاً، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكاً لأن بينها وبينه عداوة بما خلق
494
الله في طبعه من أكل أمثالها، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق.
ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر:
﴿ولقد ضربنا﴾ على ما لنا من العظمة. ولما كان في سياق المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال
﴿أمن هو قانت﴾ إلى أن ختم بقوله
﴿أفمن يتقي بوجهه﴾ وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر، فقدم قوله:
﴿للناس﴾ أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة.
ولما كان المتعنت كثيراً، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف، وجعلها ما يعبر به عن القرب، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلع القلوب وملأها، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان، فقال:
﴿في هذا القرآن﴾ أي الجامع لكل علم. ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفد وعجائبه لا تعد ولا تحد، وكان في
495
سياق التعجيب من توقفهم قال
﴿من كل مثل﴾ أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة، ثم بين علة الضرب بقوله:
﴿لعلهم يتذكرون *﴾ أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً - بما أرشد إليه الإظهار، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان.
ولما كان ذلك غاية في الشرف، دل على زيادة شرفه بحال مؤكدة دالة على شدة عنادهم، تسمى موطئه لأن الحال في الحقيقة ما بعدها بقوله:
﴿قرآناً﴾ أي حال كون ذلك المضروب جامعاً لكن ما يحتاج إليه، ويجوز أن يكون النصب على المدح
﴿عربياً﴾ جارياً على قوانين لسانهم في جمعه باتساعه ووضوحه واحتمال اللفظ الواحد منه لمعان كثيرة، فكيف إذا انضم إلى غيره فصار كلاماً. ولما كان الشيء قد يكون مستقيماً بالفعل وهو معوج بالقوة، قال تعالى:
﴿غير ذي عوج﴾ أي ليس بمنسوب إلى شيء من العوج ولا من
496
شأنه العوج، فلا يصح أن يكون معوجاً أصلاً في شيء من نظمه ولا معناه باختلاف ولا غيره كما في آية الكهف سواء، وفي الإتيان بعوج الذي هو مختص بالمعاني بيان أن الوصف له حقيقة، فهو أبلغ من غير معوج، لأنه يحتمل إرادة أهله على المجاز.
ولما كان التذكر بالتذكير لكونه أبلغ للوعظ حاملاً، ولا بد للعاقل على الخوف المسبب للنجاة قال:
﴿لعلهم يتقون *﴾ أي ليكون حالهم بعد التذكير الناشىء عن التذكير حال من يرجى له أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية.
497
ولما أقام سبحانه الدليل المنير على التفاوت العظيم، بين من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يدعو الله مخلصاً له الدين وبين من يدعو لله أنداداً، وختم بضرب الأمثال، وكان الأمثال أبين فيما يراد من الأحوال، قال منبهاً على عظمتها بلفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال:
﴿ضرب الله﴾ أي الملك الأعظم المتفرد بصفات الكمال
﴿مثلاً﴾ لهذين الرجلين مع أنه لا يشك ذو عقل أن المشرك لا يداني المخلص فضلاً عن أن يقول: إن المشرك أعظم كما يقوله المشركون. ولما كان الذكر أقوى من الأنثى، وأعرف بمواقع النفع والضر، وكان كونه بالغاً أعظم لقوته وأشد لشكيمته، فيكون أنفى للعار عن نفسه وأدفع للظلم عن جانبه وأذب عن حماه، قال مبيناً للمثل مشيراً إلى تبكيت الكفار ورضاهم لأنفسهم بما لا يرضاه لنفسه
497
أدنى الأرقاء
﴿رجلاً فيه﴾ أي خاصة. ولما كانت معبوداتهم - لكونها من جملة المخلوقات - كثيرة الأشباه والنظائر، عبر عنها بجمع الكثرة فقال:
﴿شركاء﴾ في الظاهر من الأصنام وفي الباطن من الحظوظ والشهوات، ووصف الشركاء بقوله:
﴿متشاكسون﴾ أي مختلفون عسرون يتجاذبون مع سوء الأخلاق وضيقها وقباحة الشركة، فليس أحد منهم يرضى بالإنصاف، فهو لا يقدر أن يرضيهم أصلاً
﴿ورجلاً سلماً﴾ أي من نزاع
﴿لرجل﴾ فليس فيه لغيره شركة ولا علاقة أصلاً، فهو أجدر بأن يقدر على رضاه مع راحته من تجاذب الشركاء - هذا على قراءة المكي والبصري، وعلى قراءة الباقين بحذف الألف وفتح اللام وهو وصف بالمصدر على المبالغة.
ولما انكشف الحال فيها جداً قال:
﴿هل يستويان﴾ أي الرجلان يكون أحدهما مساوياً للآخر بوجه من الوجوه ولو بغاية الجهد والعناية. ولما كان الاستواء مبهماً قال:
﴿مثلاً﴾ أي من جهة المثل، أي هل يستوي مثلهما أي يجمعهما مثل واحد حتى أن يكونا هما متساويين فهو تمييز محول في الأصل عن الفاعل، والجواب في هذا الاستفهام الإنكاري قطعاً: لا سواء، بل مثل الرجل السالم في غاية الحسن فكذا ممثوله وهو القانت المخلص، ومثل الرجل الذي وقع فيه التشاكس في غاية القبح فكذا ممثوله وهو الداعي للأنداد.
498
ولما علم بهذا المثل المضروب للرجلين سفول المشترك وهو الداعي للأنداد، وعلو السالم وهو القانت، ظهر بذلك بلا ريب حقارة المتشاركين وجلالة المتفرد وهو الله، فأنتج قطعاً قوله:
﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال
﴿لله﴾ الذي لا مكافئ له، يعلم ذلك كل أحد لما له من الظهور لما عليه من الدلائل، فلا يصح أن يكون له شريك
﴿بل أكثرهم﴾ أي الناس
﴿لا يعلمون *﴾ لأنهم يعملون لما لا يليق بهذا العلم فيشركون به إما جلياً وإما خفياً، ويجوز أن يقال: له الكمال كله، فليس الملتفتون إلى غيره أدنى التفات علماء، بل لا علم لهم أصلاً، وهم المشركون شركاً جلياً، وأما أصحاب الشرك الخفي فهم، وإن كان لهم علم - فليس بكامل.
ولما كان السالم مثلاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأتباعه، والآخر للمخالفين، وكان سبحانه قد أثبت جهلهم، وكان الجاهل ذا حمية وإباء لما يدعى إليه من الحق وعصبيته:
والجاهلون لأهل العلم اعداء... فكان لذلك التفكير في أمرهم وما يؤدي إليه من التقاعد من الأتباع والتصويب بالأذى ولا سيما وهم أكثر من أهل العلم مؤدياً
499
إلى الأسف وشديد القلق فكان موضع أن يقال: فما يعمل؟ وكان لا ينبغي في الحقيقة أن يقلق إلا من ظن دوام النكد، قال تعالى مسلياً ومعزياً وموسياً في سياق التأكيد، تنبيهاً على أن من قلق كان حاله مقتضياً لإنكار انقطاع التأكيد:
﴿إنك﴾ فخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه، فكل موضع كان للأتباع وخص فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ.
ولما لم يكن لممكن من نفسه إلا العدم قال:
﴿ميت﴾ أي الآن لأن هذه صفة لازمة بخلاف
«مايت» يعني: فكن كالميت بين يدي الغاسل فإنك مستريح قريباً عما تقاسي من أنكادهم، وراجع إلى ربك ليجازيك على طاعتك له
﴿وإنهم﴾ أي العباد كلهم أتباعك وغيرهم
﴿ميتون﴾ فمنقطع ما هم فيه من اللدد والعيش والرغد.
ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثار، وإذلال الظالم، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة:
﴿ثم إنكم﴾ أي أيها العباد كلكم، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه وعن غيره
500
هل راعى حق الله فيه، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين، وزاد في إثبات المعنى بقوله:
﴿يوم القيامة﴾ فساقه مساق ما خلاف فيه، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله، صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل في العاصي
﴿عند ربكم﴾ أي المربي لكم بالخلق والرزق فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء
﴿تختصمون *﴾ أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم، ويجازي كلاًّ بما عمل، أما في الشر فسوءاً بسوء، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها - إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه، ويسر بما ييسر حسابه، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان، ولا يشتغل بما لا يكون
501
من تصفية دار الكدر عن الأكدار، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار، فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال، قال القشيري: نعاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعى المسلمين إليهم ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع غمومه وهمومه، فليس له من هذا الحديث شمة، وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه وعن الكون بجملته، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم يعني في لسان الحال بما قدمنا:
كتبت إليكم بعد موتي بليلة | ولم أدر أني بعد موتي أكتب |
انتهى. ومن المعلوم أنهم إذا أماتوا نفوسهم حييت أرواحهم فانفسحت صدورهم وانتعشت قوى قلوبهم فاتسعت علومهم واستنارت فهومهم وتجلت لهم حقائق الأمور فحدثوا عن مشاهدة
﴿الناس نيام﴾ فإذا ماتوا انتبهوا.
ولما أخبر سبحانه بأنهم جعلوا لله أنداداً، وأعلم بأنهم كذبة في ذلك كافرون ساترون للحق، وأنه لا يهدي من هو كاذب كفار، وأخبر أنه لا بد من خصام الداعي لهم بين يديه سبحانه، لآنه لا يجوز
502
في الحكمة تركهم هملاً كما هو مقرر في العقول وموجود في الفطر الأولى، ومعلوم بالمشاهدة من أحوالهم فينعم على المظلوم، وينتقم من الظالم، وكان الكاذب في أقل الأشياء ظالماً، وأظلم منه الكاذب على الأكابر، وأظلم الظالمين الكاذب على الله، قال تعالى مسبباً عما مضى:
﴿فمن أظلم﴾ أي منهم - هكذ كان الأصل ولكنه قال:
﴿ممن كذب﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف، فكفر بستر الصدق الثابت وإظهار ما لا حقيقة له.
ولما كان الكذب عظيم القباحة في نفسه فكيف إذا كان كما مضى على الأكابر فكيف إذا كانوا ملوكاً، فكيف إذا كان على ملك الملوك، لفت القول إلى مظهر الاسم الأعظم تنبيهاً على ذلك فقال:
﴿على الله﴾ أي الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدة منهما قصمه، فزعم فب كذبه أن له سبحانه أنداداً، وشركاء وأولاداً.
ولما كان وقوع الحساب يوم القيامة حقاً لكونه واقعاً لا محالة وقوعاً يطابق الخبر عنه، لما علم من أنه لا يليق في الحكمة غيره لما علم من أن أقل الخلق لا يرضى أن يترك عبيده سدى، فكيف بالخالق؟ فكان الخبر به صدقاً لوقوع العلم القطعي بأنه يطابق ذلك الواقع قال:
﴿وكذب﴾ أي أوقع التكذيب لكل من أخبره
﴿بالصدق﴾ أي الإخبار بأن الله واحد وأنه يبعث الخلائق للجزاء المطابق
503
كل منهما للواقع لما دل على ذلك من الدلائل المشاهدة
﴿إذ جاءه﴾ أي من غير توقف ولا نظر في دليل، كما هو دأب المعاندين، أولئك هم الكافرون لهم ما يضرهم من عذاب جهنم، ذلك جزاء المسيئين.
ولما كان قد تقرر كالشمس أنه لا يسوغ في عقل العاقل ترك الخلق سدى، فكان يوم الدين معلوماً قطعاً، وكان معنى هذا الاستفهام الإنكاري نفي مدخوله فترجمته: ليس أحد أكذب منهم، وكان عرف اللغة في تسليط هذا النفي على صيغة أفعل إثبات مدلول أفعل ليكون المعنى أنهم أكذب الخلق، فكان التقدير: أليس هذا الكاذب المكذب عاقلاً يخشى أن يحاسبه الله الذي خلقه؟ أليس الله المتصف بجميع صفات الكمال يحاسب عباده كما يحاسب كل من الخلائق من تحت يده؟ أليس يحبس الظالم منهم في دار انتقامه كما يفعل أدنى الحكام؟ أليس دار انتقامه جهنم التي تلقى داخلها بعبوسة وتجهم؟ نسق به قوله:
﴿أليس في جهنم﴾ أي النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله
﴿مثوى﴾ أي منزل مهيأ للإقامة فيه على وجه اللزوم لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال تعميماً وتعليلاً بالوصف مبيناً أن الكذب كفر أي ستر للصدق وغظهار لما لا حقيقة له، والتكذيب بالصدق كذلك
﴿للكافرين *﴾ أي الذين ستروا كذبهم فألبسوه ملابس الصدق وستروا الصدق الذي كذبوا به،
504
ذلك جزاء المسيئين لأنهم ليسوا بمتقين، فأقام سبحانه هذه المقدمة دليلاً على تلك المقدمات كلها.
ولما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال:
﴿والذي﴾ أي الفريق الذي
﴿جاء بالصدق﴾ أي الخبر المطابق للواقع، فصدق على الله، وتعريفه يدل على كماله، فيشير إلى أن الإتيان به ديدنه لا يتعمد كذباً
﴿وصدق به﴾ أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم، فهو يكذب بكل ما لم يسمع، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم، ولذلك حصر التقوى فيهم، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً:
﴿أولئك﴾ أي العالو الترتبة
﴿هم﴾ أي خاصة
﴿المتقون *﴾ الذين جانبوا الظلم، فليس لجهنم عليهم سبيل، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل، بل الجنة منزلهم، أليس في الجنة منزل للمتقين؟ فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً المثوى في
505
جهنم دليلاً على حذف ضده ثانياً، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء. وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه، وذكر أحب جزائه إليه، والإشارة إلى عراقته في الإحسان وفي الآيات احتباك آخر وهو أنه ذكر الكذب والتكذيب أولاً دليلاً على الصدق والتصديق ثانياً، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه، ولا سيما عند العرب، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء.
506
ولما مدحهم على تقواهم، قال في جواب من سأل عن ثوابهم، فقال لافتاً القول إلى صفة الإحسان تعريفاً بمزيد إكرامهم:
﴿لهم ما يشآءون﴾ أي يتجدد لهم إرادته متى أرادوه
﴿عند ربهم﴾ أي المحسن إليهم اللطيف بهم في الدنيا والآخرة لأنهم سلموا له في الأولى ما يشاء، فسلم لهم في الأخرى ما يشاؤون. ولما كان أعظم الجزاء، مدحه على وجه بين علته وأوجب عمومه فقال:
﴿ذلك﴾ أي الثواب الكبير
﴿جزاء المحسنين *﴾ أي كل من اتصف بالإحسان كما اتصفوا به بالتقوى، فأحبه الله سبحانه كما أحبهم، فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي
506
يمشي بها.
ولما كان العاقل من قدم في كل أمر الأهم فالأهم فميز بين خير الخيرين فأتبعه، وشر الشرين فاجتنبه، كان المحسن من جعل أكبر ذنوبه نصب عينيه وعمل على هدمه، فلذلك علل الإحسان بقوله:
﴿ليكفر﴾ أي يستر ستراً عظيماً كأنه قال: المحسنين الذين أحسنوا لهذا الغرض، ويجوز أن يكون التعليل للجزاء، وعبر بالاسم الأعظم لفتاً عن صفة الإحسان إشارة إلى عظيم الاجتهاد في العمل والإيذان بأنه لا يقدر على الغفران لمن يريد إلا مطلق التصرف فقال:
﴿الله﴾ أي الذي نصب المحسن جلاله وجماله بين عينيه، فاستغرق في صفاته ابتغاء مرضاته، فعبده كأنه يراه، وحقق باعترافهم بالخطأ وقصدهم التكفير لما أهمهم فعلهم له بقوله:
﴿عنهم أسوأ﴾ العمل
﴿الذي عملوا﴾ وتابوا عنه بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود وقد علم أنه إذا محي الأكبر انمحى الأصغر لأن الحسنات يذهبن السيئات، فلله در أهل البصائر والإخلاص في الإعلان والسرائر ولما أخبر بالتطهير من اوضار السيىء، أتبعه الإخبار بالتنوير بأنوار الحسن فقال:
﴿ويجزيهم أجرهم﴾
507
أي الذي تفضل عليهم بالوعد به.
ولما كان تعالى يزيد العمل الصالح ويربيه، زاد الجار في الجزاء إعلاماً بأنه يجعل الأعمال الصالحة كلها مثل أعلاها فقال:
﴿بأحسن﴾ ولما كان مقصود هذه السورة أخص من مقصود سورة النحل، وكانت
«الذي» و
«من» أقل إبهاماً من
«ما» قال:
﴿الذي﴾ أي العمل الذي، وهو كالأول من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه كخاتم فضة، وأشار إلى مداومتهم على الخير بالتعبير بالكون والمضارع فقال:
﴿كانوا يعملون *﴾ مجددين له وقتاً بعد وقت لأنه في طبائعهم فهم عريقون في تعاطيه، فمن كان في هذه الدار محسناً في وقت ما يعبد الله كأنه يراه فهو في الآخرة كل حين يراه، قال القشيري، ثم يجب أن يكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية، فيجب أن يكون على الدوام. وهذا استدلال قوي.
ولما فهم من قوله:
«وكذب بالصدق إذ جاءه» أن المشركين يكذبونه، وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك ولا سيما إذا كان المكذب كثيراً وقوياً، وتقرر أنه سبحانه الحكم العدل بين المتخاصمين وغيرهم في الدنيا والآخرة، ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة، وبشر المحسنين وحذر المسيئين، وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه، حسن كل الحسن قوله مقراً للكفاية غاية الإقرار، ومنكراً
508
لنفيها كل الإنكار:
﴿أليس الله﴾ أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال:
﴿بكاف﴾ وحقق المناط بالإضافة في قوله:
﴿عبده﴾ أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به، وهاذ لا ينافي السعي في الأسباب مع اعتقاد أنها بيد الله، فإن شاء ربط بها المسببات، وإن شاء أعقمها، بل السعي أكمل، لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم، فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر: عباده - بالجمع بمعنى الرسول وأتباعه.
ولما كان الجواب قطعاً: بلى، إنه ليكفي من يشاء، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم:
﴿ويخوفونك﴾ أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك. ولما كان الخوف ممن له اختيار، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم
509
فضلاً عن العقل، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس:
﴿بالذين﴾ وبين حقارتهم بقوله:
﴿من دونه﴾ وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون: إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام
﴿أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء﴾ [هود: ٥٤] وسيأتي التعبير عنهم بالتانيث زيادة في توبيخهم.
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل، وكان التقدير: فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه لمن هداه آية، فقال مخففاً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية:
﴿ومن يضلل الله﴾ أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره
﴿فما له﴾ لأجل أنه هو الذي أضله
﴿من هاد﴾ أي فخفض من حزنك عليهم
﴿ومن يهد الله﴾ أي الذي لا يعجزه شيء أبداً
﴿فما له من مضل﴾ فهو سبحانه يهدي من شاء منهم إن أراد.
ولما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم
510
في الظاهر علة للنقمة، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة، بلغ النهاية في الحسن قوله:
﴿أليس الله﴾ أي الذي بيده كل شيء
﴿بعزيز﴾ أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم
﴿ذي انتقام *﴾ أي له هذا الوصف، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله.
511
ولما علم بهذه البراهين أنه سبحانه المتصرف في المعاني بتصرفه في القلوب بالهداية والإضلال، وكان التقدير: فلئن قررتم بهذا الاستفهام الإنكاري ليقولن: بلى! عطف عليه بيان أن الخالق للذات كما أنه المالك للمعاني والصفات، فقال مفسداً لدينهم باعترافهم بأصلين: القدرة التامة له والعجز الكامل لمعبوداتهم:
﴿ولئن سألتهم﴾ أي فقلت لمن شئت منهم فرادى أو مجتمعين:
﴿من خلق السماوات﴾ أي على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع
﴿والأرض﴾ على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع
﴿ليقولن﴾ بعد تخويفهم لك بشركائهم الذين هم من جملة خلق من أرسلك بما أنت فيه: الذي خلقها
﴿الله﴾ أي وحده الذي لا سمي له وإلباس بوجه في أمره، ولا يصدهم عن ذلك الحياء من التناقض ولا الخوف من التهافت بالتعارض.
511
ولما كان هذا مخيراً لأن بين ولا بد أنهم لا يقبلون ولا يعرضون كان كأنه قيل: فماذا أصنع؟ فقال:
﴿قل﴾ مسبباً عن اعترافهم له سبحانه بجميع الأمر قوله مقرراً بالفرع بعد إقرارهم بالأصل ومقرعاً بتخويفهم ممن ليس له أمر بعقد ولا حل:
﴿أفرءيتم﴾.
ولما كان السائل النصوح ينبغي له أنه ينبه الخصم على محل النكتة لينتبه من غفلته فيرجع عن غلطته عبر بأداة ما لا يعقل عن معبوداتهم بعد التعبير عنها سابقاً بأداة الذكور العقلاء بياناً لغلطهم، فقال معبراً عن مفعول
﴿رأيت﴾ الأول والثاني جملة الاستفهام،
﴿ما تدعون﴾ أي دعاء عبادة، وقرر بعدهم عن التخويف بهم بادعاء إلهيتهم بقوله:
﴿من دون الله﴾ أي الذي هو ذو الجلال والإكرام فلا شيء إلا وهو من دونه وتحت قهره، ولما كانت العافية أكثر من البلوى، أشار إليها بأداة الشك ونبه على مزيد عظمته سبحانه بإعادة الاسم الأعظم فقال:
﴿إن أرادني الله﴾ أي الذي لا راد لأمره ولما كان درأ المفاسد مقدماً قال:
﴿بضر﴾ أي إن أطعتكم في الجنوح إليها خوفاً منها، وبالغ في تنبيههم نصحاً لهم ليرجعوا عن ظاهر غيهم بما ذكر من دناءتها وسفولها بالتأنيث بعد سفولها بعدم العقل مع دناءتها وبعد التهكم بهم بالتعبير عنها بأداة الذكور العقلاء فقال:
512
﴿هل هن﴾ أي هذه الأوثان التي تعبدونها
﴿كاشفات﴾ أي عني مع اعترافكم بأنه لا خلق لها وأنها مخلوقة لله تعالى
﴿ضره﴾ أي الذي أصابني به نوعاً من الكشف، لأرجوها في وقت شدتي
﴿أو أرادني برحمة﴾ لطاعتي إياه في توحيده، وخلع ما سواه من عبيده
﴿هل هن ممسكات﴾ أي عني
﴿رحمته﴾ أي لأجل عصياني لهن نوع إمساك، لأطيعكم في الخوف منهن - هذه قراءة أبي عمرو بالتنوين وإعمال اسم الفاعل بنصب ما بعده، وهو الأصل في اسم الفاعل، والباقون بالإضافة، ولا فائدة غير التخفيف، وقد يتخيل منها أن الأوثان مختصة بهذا المعنى معروفة.
ولما كان من المعلوم أنهم يسكتون عند هذا السؤال لما يعلمون من لزوم التناقض أن أجابوا بالباطل، ومن بطلان دينهم أن أجابوا بالحق، وكان الجواب قطعاً عن هذا: لا سوء نطقوا أو اسكتوا، تحرر أنه لا متصرف بوجه إلا الله، فكانت النتيجة قوله:
﴿قل﴾ إذا ألقمتهم الحجر:
﴿حسبي﴾ أي كافي
﴿الله﴾ الذي أفردته بالعبادة لأنه له الأمر كله مما يخوفونني به ومن غيره
﴿عليه﴾ وحده لأن له الكمال كله
﴿يتوكل المتوكلون *﴾ أي الذين يريدون أن يعلو أمرهم كل أمر، وأمره بالقول إعلاماً بأن حالهم عند هذا السؤال التناقض
513
الظاهر جداً.
ولما كانوا مع هذه الحجج القاطعة، والأدلة القامعة والبراهين الساطعة، التي لا دافع لها بوجه، كالبهائم لا يبصرون إلا الجزئيات حال وقوعها، قال مهدداً مع الاستعطاف:
﴿قل يا قوم﴾ أي يا أقاربي الذين أرتجيهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولونه
﴿اعملوا﴾ أي افعلوا افعالاً مبنية على العلم
﴿على مكانتكم﴾ أي حالتكم التي ترتبتم فيها وجمدتم عليها لأنه جبلة لكم من الكون والمكنة لتبصروا حقائق الأمور، فتنتقلوا عن أحوالكم السافلة إلى المنازل العالية، فكأنه يشير إلى أنهم كالحيوانات العجم، لا اختيار لهم ويعرّض بالعمل الذي مبناه العلم والمكانة التي محطها الجمود بأن أفعالهم ليس فيها ما ينبني على العلم، وإنما هي جزاف لا اعتبار لها ولا وزن لها. ثم أجاب من عساه أن يقول له منهم: فماذا تعمل أنت؟ بقوله:
﴿إني عامل﴾ على كفاية الله لي، ليس لي نظر إلى سواه، ولا أخشى غيره، وليس لي مكانة ألتزم الجمود عليها، بل أنا واقف على ما يرد من عند الله، إن نقلني انتقلت وإن أمرني بغير ذلك امتثلت وأنا مرتقب كل وقت للزيادة، ثم سبب عن قول من لعله يقول منهم: وماذا عساه يكون قوله؟ إيذاناً بأنه على ثقة من أمره، لأن المخبر له به الله:
﴿فسوف تعلمون *﴾ أي بوعد لا خلف فيه
514
﴿من يأتيه﴾ أي منا ومنكم
﴿عذاب يخزيه﴾ بأن يزيل عنه كل شيء يمكنه أن يستعذبه
﴿ويحل عليه﴾ أي يجب في وقته، من حل عليه الحق يحل بالكسر أي وجب، والدين: صار حالاً بحضور أجله
﴿عذاب مقيم *﴾ لإقامته على حالته وجموده على ضلالته، ومن يؤتيه الله انتصاراً يعليه وينقله إلى نعيم عظيم، لانتقاله بارتقائه في مدارج الكمال، بأوامر ذي الجلال والجمال، ولقد علموا ذلك في قصة المستهزئين ثم في وقعة بدر فإن من أهلكه الله منهم جعل إهلاكه أول عذابه ونقله به إلى عذاب البرزخ ثم عذاب النار، فلا انفكاك له من العذاب، ولا رجاء لحسن المآب.
ولما تجلت عرائس هذه المعاني آخذة بالألباب، ولمعت سيوف تلك المباني من المثاني قاطعة الرقاب، وختمها بما ختم من صادع الإرهاب، أنتجت ولا بد قوله معللاً لإتيان ما توعدهم به مؤكداً لما لهم من الإنكار لمضمون هذا الإخبار:
﴿إنا أنزلنا﴾ أي بما لنا من باهر العظمة ونافذ الكلمة.
ولما كان توسط الملك خفياً. لم يعده فأسقط حرف الغاية إفهاماً لأنه في الحقيقة بلا واسطة بعد أن أثبت وساطته أول السورة فقال مقروناً بالأمر بالعبادة إشارة إلى بداية الحال، فلما حصل التمكن فصار الكتاب خلقاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصار ظهوره فيه هادياً لغيره، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال:
﴿عليك﴾ أي خاصة
515
لا على غيرك من أهل هذا الزمان، لأنك عندنا الخالص لنا دون أهل القريتين ودون أهل الأرض كلهم، لم يكن لشيء دوننا فيك حظ
﴿الكتاب﴾ الجامع لكل خير لكونه في غاية الكمال بما دل عليه
«ال» ﴿للناس﴾ عامة لأن رسالتك عامة
﴿بالحق﴾ مصاحباً له، لا يقدر الخلق على أن يزيحوا معنى من معانيه عن قصده، ولا لفظاً من ألفاظه عن سبيله وحده، بل هو معجز في معانيه - حاضرة كانت أو غائبه - ونظومه، وألفاظه وأسماء سوره وآياته وجميع رسومه، فلا بد من إتيان ما فيه من وعد ووعيد.
ولما تسبب عن علم ذلك وجوب المبادرة إلى الإذعان له لفوز الدارين، حسن جداً قوله تعالى تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعظيم ما له من الشفقة عليهم وتهديداً لهم:
﴿فمن اهتدى﴾ أي طاوع الهادي
﴿فلنفسه﴾ أي فاهتداؤه خاص نفعه بها ليس له فيه إلا أجر التسبب
﴿ومن ضل﴾ أي وقع منه ضلال بمخالفته لداعي الفطرة ثم داعي الرسالة عن علم وتعمد، أو إهمال للنظر وتهاون. ولما كان ربما وقع في وهم أنه يحلق الداعي بعد البيان ومن إثم الضال، وكان السياق لتهديد الضالين. زاد في التأكيد فقال:
﴿فإنما يضل عليها﴾ أي ليس عليك شيء من ضلاله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ولما هدى السياق إلى أن التقدير: فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم
516
على الهدى، عطف عليه قوله:
﴿وما أنت﴾ أي في هذا الحال، ولمزيد العناية بنفي القهر أداة الاستعلاء فقال:
﴿عليهم بوكيل *﴾ لتحفظهم عن الضلال، فإن الرسالة إليهم لإقامة الحجة لا لقدرة الرسول على هدايتهم ولا لعجز المرسل عن ذلك.
517
ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه، وكان كأنه قيل: لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب، فهي تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً، فقال:
﴿الله﴾ أي الذي له مجامع الكمال، وليس لشائبة نقص إليه سبيل
﴿يتوفى الأنفس﴾ التي ماتت عند انقضاء
517
آجالها، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها
﴿حين موتها﴾ أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له، وعطف على الأنفس قوله:
﴿والتي﴾ أي ويتوفى الأنفس التي
﴿لم تمت﴾ لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة
﴿في منامها﴾ بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف، ولو قيل: بموتها وبمنامها، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى.
ولما كان النوم منقضياً، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض، ولا بد لأن الفاعل لكل منهما واحد، فسبب عن ذلك قوله:
﴿فيمسك﴾ أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده
﴿التي قضى﴾ أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة
﴿عليها الموت﴾ مظروفة لمماتها، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها
﴿ويرسل الأخرى﴾ أي التي أخر موتها، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها
518
الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها، ويجعل ذلك الإمساك للميتة، والإرسال للنائمة
﴿إلى أجل مسمى﴾ لبعث الميتة ولموت النائمة، لا يعلمه غيره، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح، قال ابن الصلاح في فتاويه: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة - انتهى.
روى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال: تلتقي أرواح الأحياء والأموات، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل» باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين
«» وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك: ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً.
ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع، والنظم المنيع، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الوفاة
519
والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه
﴿لآيات﴾ أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده
﴿لقوم﴾ أي ذوي قوة في مزاولة الأمور. ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال:
﴿يتفكرون *﴾ أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات: إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهراً وباطناً، وذلك هو الحياة مع اليقظة، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهراً لا باطناً، وذلك بالنوم، وثالثها انقطاع ذلك ظاهراً وباطناً وهو بالموت، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام، والنوم انقطاع ناقص، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين، ثم يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلاًّ منهما من الآخر إلا هو سبحانه، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك.
ولما أنتج هذا ولا بد نحو أن يقال توعداً لهم: هل علموا أنه لا يقوم شيء مقامه، ولا يكون شيء إلا بإذنه، ولا يقرب أحد من القدرة على شيء من فعله، فكيف بالقرب من رتبته فضلاً عن
520
مماثلته، فرجعوا عن ضلالهم، عادله بقوله:
﴿أم اتخذوا﴾ أي كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندها أن أخذوا
﴿من دون الله﴾ أي الذي لا مكافئ له مداني
﴿شفعاء﴾ أي تقربهم إليه زلفى في الدنيا وفي الآخرة على تقدير كونها مع قيام الأدلة الشهودية عندهم على أنه لا يشفع أحد إلا عند من يصح أن يكافئه بوجه من الوجوه، ولذلك نبه على المعنى بقوله معرضاً عنهم إشارة إلى سفولهم عن الفهم:
﴿قل أولو﴾ أي أيتخذونهم لذلك ولو
﴿كانوا لا يملكون شيئاً﴾ أي لا تتجدد لهم هذه الصفة
﴿ولا يعقلون *﴾ كما يشاهد من حال أصنامكم.
ولما نفى صلاحية أصنامهم لهذا الأمر، أشار إلى نفيه عما سواه بقصر الأمر عليه فقال:
﴿قل لله﴾ أي المحتوي على صفات الكمال وحده
﴿الشفاعة﴾ أي هذا الجنس
﴿جميعاً﴾ فلا يملك أحد سواه منها شيئاً لكنه يأذن إن شاء فيما يريد منها لمن لمن يشاء من عباده. ولما كان كل ما سواه ملكاً له، وكان من المقرر أن المملوك لا يصح أن يملك شيئاً يملكه سيده، لأن الملكين لا يتواردان على شيء واحد من جهة واحدة، علل ذلك بقوله:
﴿له﴾ أي وحده
﴿ملك السماوات والأرض﴾ أي التي لا تشاهدون من ملكه سواهما والشفاعة من ملكهما.
521
ولما كان المملوك ملكاً ضعيفاً قد يتغلب على مالكه فيناظره فيتأهل للشفاعة عنده، نفى ذلك في حقه سبحانه بقوله دالاًّ على عظمة القهر بأداة التراخي فقال:
﴿ثم إليه﴾ أي لا إلى غيره
﴿ترجعون *﴾ معنى في الدنيا بأن ينفذ فيكم جميع أمره وحساً ظاهراً ومعنى في الآخرة.
522
ولما دل على أن شفعاءهم ليست بأهل للشفاعة، وعلى أن الأمر كله مقصور عليه، وختم بأنه لا بد من الرجوع إليه المقتضي لأن تصرف الهمم كلها نحوه، وتوجه العزائم جميعها تلقاءه، ولأنه لا يخشى سواه ولا يرجى غيره، ذكر حالاً من أحوالهم فقال:
﴿وإذا﴾ أي الحال ما ذكرناه وإذا
﴿ذكر﴾ وأعاد الاسم الأعظم ولم يضمره تعظيماً لأمره زيادة في تقبيح حالهم فقال:
﴿الله﴾ أي الذي لا عظيم غيره ولا أمر لسواه
﴿وحده﴾ أي دون شفعائهم التي قد وضح أنه لا شفاعة لهم:
﴿اشمأزّت﴾ أي نفرت كراهية وذعراً واستكباراً مع تمعر الوجه وتقبضه قلوبهم - هكذا كان الأصل، ولكنه قال:
﴿قلوب الذين لا يؤمنون﴾ أي لا يجددون إيماناً
﴿بالآخرة﴾ بياناً لأن الحامل لهم على ذلك إضاعة اعتقاد ما ختم به الآية من الرجوع
522
إليه الذي أتمه وأظهره رجوع الآخرة
﴿وإذا ذكر الذين﴾ وبكت بهم في رضاهم بالأدنى فقال:
﴿من دونه﴾ أي الأوثان، وأكد فرط جهلهم في اتباعهم الباطل وجمودهم عليه دون تلبث لنظر في دليل، أو سماع لقال أو قيل، بقوله:
﴿إذا هم﴾ أي بضمائرهم المفيضة على ظواهرهم
﴿يستبشرون *﴾ أي فاجؤوا طلب البشر وإيقاعه وتجديده على سبيل الثبات في ذلك كله سواء ذكر معهم الله أو لا، فالاستبشار حينئذ إنما هو بالانداد، والاشمئزاز والاستبشار متقابلان لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غماً وغيظاً فيظهر أثره، وهو الانقباض في أديم الوجه، والاستبشار: امتلاء القلب سروراً حتى يظهر أثره، وهو الانبساط والتهلل في الوجه - قال الزمخشري، والعمل في
«إذا» الأولى هو العامل في الفجائية، أي فاجؤوا الاستبشار وقت هذا الذكر، وعبر بالفعل أولاً وبالاسمية ثانياً، ليفيد ذمهم على مطلق الاشمئزاز ولو كان على أدنى الأحوال، وعلى ثبات الاستبشار تقبيحاً لمطلق الكفر، ثم الثبات عليه فتحاً لباب التوبة.
ولما نفى صلاحية الوكالة على الناس في الهدى والضلال لغيره ودل على ذلك بملكه وملكه وأخبر بتعمدهم الباطل، أنتج ذلك وجب اللجاء إليه والإعراض عما سواه وقصر العزم عليه فقال
523
معلماً بذلك ومعلماً لما يقال عند مخالفة الداعي باتباع الهوى:
﴿قل﴾ أي يا من نزل عليه الكتاب فلا يفهم عنا حق الفهم غيره راغباً إلى ربك في أن ينصرك عليهم في الدنيا والآخرة:
﴿اللهم﴾ أي يا الله، وهذا نداء محض ويستعمل أيضاً على نحوين آخرين - ذكرهما ابن الخشاب الموصلي في كتابه النهاية شرح الكفاية - أحدهما أن تذكر لتمكين الجواب في نفس السائل كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لضمام بن ثعلبة رضي الله عنه حيث قال:
«الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس، فقال: اللهم نعم»
- إلى آخر ما قاله له، وسره أن المسؤول إذا ذكر الله في جوابه. كان ذكره إياه أبعث للسائل على تصديقه لأنه أوقر في صدره إن لم يتصد لذكر الله ولم يكن بصدده، وهو ممن يدين باستعمال الكذب، والثاني أن يدل به على الندرة وقلة وقوع المذكور كقول المصنفين: لا يكون كذا اللهم إلا إذ كان كذا - كأنه استغفر الله من جزمه أو لا يسد الباب في أنه لا يكون غير ما ذكره فقال: اللهم اغفر لي فإنه يمكن أن يكون كذا - انتهى. ثم أبدل عند سيبويه ووصف عند غيره فقال:
﴿فاطر﴾ أي مبدع من العدم
﴿السماوات﴾ أي كلهم
﴿والأرض﴾ أي جنسها. ولما كانت القدرة
524
لا تتم إلا بتمام العلم قال:
﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أي ما لا يصح علمه للخلق وما يصح.
ولما كان غيره سبحانه لا يمكن له ذلك، حسن التخصيص في قوله:
﴿أنت﴾ أي وحدك
﴿تحكم بين عبادك﴾ أي أنا وهم وغيرنا في الدنيا والآخرة لا محيص عن ذلك ولا يصح في الحكمة سواه كما أن كل أحد يحكم بين عبيده ومن تحت أمره لا يسوغ في رأيه غير ذلك
﴿في ما كانوا﴾ أي دائماً بما اقتضته جبلاتهم التي جبلتهم عليها
﴿فيه يختلفون *﴾ وأما غيرك فإنه لا يعلم جميع ما يفعلون، فلا يقدر على الحكم بينهم، وأما غير ما هم عريقون في الاختلاف فيه فلا يحكم بينهم فيه لأنه أما ما هيؤوا بفطرهم السليمة وعقولهم القويمة للاتفاق عليه فهو الحق وأما ما يعرض لهم الاختلاف فيه لا على سبيل القصد أو بقصد غير ثابت فهو مما تذهبه الحسنات فعرف أن تقديم الظرف إنما وهو للاختصاص لا الفاصلة.
ولما كان التقدير: فيعذب الظالمين فلو علموا ذلك لما ظنوا بادعائهم له سبحانه ولداً وشركاء يقربونهم إليه زلفى منهم بجلاله ونزاهته عما ادعوه له وكماله، عطف عليه تهويلاً للأمر قوله:
﴿ولو أن﴾ وكان الأصل: لهم - ولكنه قال تعميماً وتعليقاً بالوصف:
﴿للذين ظلموا﴾ أي وقعوا
525
في الظلم في شيء من الأشياء ولو قال
﴿ما في الأرض﴾ ولما كان الأمر عظيماً أكد ذلك بقوله:
﴿جميعاً﴾ وزاد في تعظيمه بقوله:
﴿ومثله﴾ وقال:
﴿معه﴾ ليفهم بدل الكل جملة لا على سبيل التقطيع
﴿لافتدوا﴾ أي لاجتهدوا في طلب أن يفدوا
﴿به﴾ أنفسهم
﴿من سوء العذاب﴾ وبين الوقت تعظيماً له وزيادة في هوله فقال:
﴿يوم القيامة﴾ روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي»
قوله: أردت أي فعلت معك بالأمر فعل المريد وهو معنى قوله في رواية: قد سألتك.
ولما كان التقدير: ولو كان لهم ذلك وافتدوا به ما قبل منهم ولا نفعهم، ولأن ذلك الوقت وقت الجزاء لا وقت العمل، واليوم وقت العمل لا وقت الجزاء، فلو أنفقوا فيه أيسر شيء على وجهه قبل منهم، عطف عليه من أصله لا على جزائه قوله معظماً الأمر بصرف القول إلى الاسم الأعظم:
﴿وبدا﴾ أي ظهر ظهوراً تاماً
﴿لهم﴾ في ذلك اليوم
﴿من الله﴾ أي الملك الأعظم، وهول أمره بإبهامه ليكون ضد
﴿فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين﴾ [السجدة: ١٧] فقال:
﴿ما لم يكونوا﴾ بحسب
526
جبلاتهم وما فطروا عليه من الإهمال والتهاون
﴿يحتسبون *﴾ أي لم يكن في طبائعهم أن يتعمدوا أن يحسبوه وتجوزه عقولهم من العذاب، وما كان كذلك كان أشق على النفس وأروع للقلب
﴿وبدا لهم﴾ أي ظهر ظهوراً تاماً كأنه في البادية لا مانع منه
﴿سيئات ما﴾ ولما كان في سياق الافتداء، وكان الإنسان يبذل عند الافتداء في فكاك نفسه الرغائب والنفائس، عبر هنا بالكسب الذي من مدلوله الخلاصة والعصارة التي هي سر الشيء فهو أخص من العمل، ولذا جعله الأشعري مناط الجزاء، فقال مبيناً أن خالص عملهم ساقط فكيف بغيره، وهذا بخلاف ما في الجاثية
﴿كسبوا﴾ أي الشيء الذي عملوه برغبة مجتهدين فيه لظنهم نفعه وأنه خاص أعمالهم وأجلها وأنفعها
﴿وحاق﴾ أي أحاط على جهة اللزوم والأذى
﴿بهم ما﴾ أي جزاء الشيء الذي
﴿كانوا به﴾ أي دائماً كأنهم جبلوا عليه
﴿يستهزئون *﴾ أي يطلبون ويوجدون الهزء والسخرية به من النار وجميع ما كانوا يتوعدون به.
ولما أخبر عن ظهور هذا لهم، علله بأنهم كانوا يفعلون ما لم يكن في العادة يتوقع منهم، وهو مجازاة الإحسان بالإساءة وقد كانوا جديرين
527
بضده فقال:
﴿فإذا﴾ أي وقع لهم ذلك بسبب أنهم إذا مسهم، ولكنه أخبر عن النوع الذي هم منه بما هو مطبوع عليه فقال:
﴿مس الإنسان ضر﴾ أيّ ضر كان من جهة يتوقعها كما تقدم في التي في أول السورة، ويجوز أن يكون مسبباً عن الإخبار بافتدائهم بما يقدرون عليه وأن يكون مسبباً عن اشمئزازهم من توحيد الله تعجيباً من حالهم في تعكيسهم وضلالهم، وتقدم في الآية التي في أول السورة سر كونها بالواو، ولفت القول إلى مظهر العظمة دالاً على أن أغلب الناس لا يرجى اعترافه بالحق وإذعانه لأهل الإحسان إلا إذا مس بأضرار فقال:
﴿دعانا﴾ عالماً بعظمتنا دون آلهته مع اشمئزازه من ذكرنا واستبشاره بذكرها.
ولما كان ذلك الضر عظيماً يبعد الخلاص عنه من جهة أنه لا حيلة لمخلوق في دفعه، أشار إلى عظمته وطول زمنه بأداة التراخي فقال مقبحاً عليه نسيانه للضر مع عظمه في نفسه ومع طول زمنه:
﴿ثم إذا خولناه﴾ أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقاً بحاله جديراً بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط
528
في حقنا
﴿نعمة منا﴾ ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت
﴿قال﴾ ناسياً لما كان فيه من الضر وإن كان قد طال أمده، قاصراً لها على نفسه غير متخلق بما نبهناه على التخلق به من إحساننا إليه وإقبالنا عليه عند إذعانه، مذكراً لضميرها تفخيماً لها، وبنى الفعل للمجهول إشارة إلى أنه لا نظر له في تعرف المعطي من هو يشكره، وإنما نظره في عظمة النعمة وعظمة نفسه، وإنها على مقدار ما:
﴿إنما أوتيته﴾ أي هذا المنعم به عليّ الذي هو كبير وعظيم لأني عظيم فأنا أعطي على مقداري، و
«ما» هي الزائدة الكافة لأن للدلالة على الحصر، ويجوز أن تكون موصولة هي اسم إن وخبرها قوله:
﴿على﴾ إي إيتاء مستعلياً متمكناً على
﴿علم﴾ أي عظيم، وجد مني بطريق الكسب والاجتهاد ووجوده الطلب والاحتيال، فكان ذلك سبباً لمجيئه إليّ أو علم من الله باستحقاقه له.
ولما كان التقدير: ليس كذلك ولا هي نعمة، قال دالاً على شؤم ذلك المعطي وحقارته لأنه من أسباب إضلاله بالتأنيث
529
﴿بل هي﴾ أي العطية والنعمة
﴿فتنة﴾ لاختباره هل يشكر أم يكفر لتقام عليه الحجة. فإن أدت إلى النار كانت استدراجاً، وأنث الضمير تحقيراً لها بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى ولأنها أدت إلى الغرور بعد أن ذكر ضميرها أولاً تعظيماً لها لإيجاب شكرها.
ولما كان من المفتونين من ينتبه وهم الأقل، قال جامعاً تنبيهاً على إرادة الجنس وأن تعبيره أولاً بإفراد الضمير إشارة إلى أن أكثر الناس كأنهم في ذلك الخلق النحس نفس واحدة:
﴿ولكن أكثرهم﴾ أي أكثر هؤلاء القائلين لهذا الكلام
﴿لا يعلمون *﴾ أي لا يتجدد لهم علم أصلاً لأنهم طبعوا على الجلافة والجهل والغباوة، فلو أنهم إذا دعونا وهم في جهنم أجبناهم وأنعمنا عليهم نعمتنا ونسبوها إلى غيرنا كما كانوا يفعلون في الدنيا سواء.
530
ولما كان كفار قريش مقصودين بهذا قصداً عظيماً وإن كان شاملاً بإطلاقه غيرهم من الأولين والآخرين قال موضحاً لذلك:
﴿قد قالها﴾ أي مقالتهم
﴿إنما أوتيته على علم﴾ ﴿الذين من قبلهم﴾ أي ممن هو أشد منهم قوة وأكثر جمعاً كما قال قارون ومن رضي حاله فتمنى ماله
﴿فما أغنى عنهم﴾ أي أولئك الماضين
﴿ما كانوا﴾ بما اقتضته
530
جبلاتهم
﴿يكسبون *﴾ أي يجددون على الاستمرار كسبه من المال والجاه وإن كان مليء السهل والجبل:
﴿فأصابهم﴾ أي إصابة شديدة بما دل عليه تذكير الفعل - أي تسبب عن عدم الإغناء أنه أصابهم
﴿سيئات ما كسبوا﴾ أي وبال ذلك وما يسوء من آثاره
﴿والذين ظلموا﴾ أي أوقعوا الأشياء في غير محالها
﴿من هؤلاء﴾ أي قومك الذين لا يتدبرون القرآن فإنهم لو تدبروا آياته عرفوا ولكن سبق عليهم العمى
﴿سيصيبهم﴾ أي إصابة شديدة جداً بوعد لا خلف فيه كما أصاب من قبلهم
﴿سيئات ما كسبوا﴾ أي عملوا من الأشر والبطر فيه أعمال من يظن أنه لا تناله مصيبة في الدنيا وأنه لا يبعث إلى ما أعددنا له من الأهوال في الآخرة، ولقد أصابهم ذلك، فأول ما أصابهم ما كشف عنه الزمان من وقعة بدر ثم ما تبعه إلى ما لا آخر له.
ولما ثبت أن الضار النافع إنما هو الله، من شاء أعطاه، ومن شاء منعه، ومن شاء استلبه ووضعه بعد ما رفعه، وكان التقدير: ألم
531
يعلموا أن ما جمعه من قبلهم لم يدفع عنهم أمر الله، عطف قوله:
﴿أولم﴾ ولما كان السياق لنفي العلم عن الأكثر، وكان مقصود السورة بيان أنه صادق الوعد ومطلق العلم كافٍ فيه، عبر بالعلم بخلاف ما مضى في الروم فقال:
﴿يعلموا﴾ أي بما رأوا في أعمارهم من التجارب. ولفت الكلام إلى الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ودفعاً للبس والتعنت بغاية الإفهام:
﴿أن الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال
﴿يبسط﴾ أي هو وحده
﴿الرزق﴾ غاية البسط
﴿لمن يشاء﴾ وإن كان لا حيلة له ولا قوة
﴿يقدر﴾ أي يضيق مع النكد بأمر قاهر على من هو أوسع الناس باعاً في الحيل وأمكنهم في الدول، ومن المعلوم أنه لولا أن ذلك كله منه وحده لما كان أحد ممن له قوة في الجسم وتمكن في العلم فقيراً أصلاً.
ولما كان هذا أمراً لا ينكره أحد، عده مسلماً وقال:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم، وأكده لأن أفعالهم أفعال من ينكر أن يكون فيه عبرة
﴿لآيات لقوم﴾ ذوي قوة وهمم عليه
﴿يؤمنون *﴾ أي هيئوا لأن يوجد منهم الإيمان فيجددوا التصديق في كل وقت تجديداً مستمراً بأن الأمور كلها من الله فيخافوه ويرجوه ويشكروه ولا يكفروه، وأما غيرهم فقد حقت عليه الكلمة بما هيىء له من عمل النار، فلا يمكنه الإيمان فليس له في ذلك آيات لأنها لا تنفعه.
532
ولما حذر سبحانه في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير، وأودعها من التهديد وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير، وختم بالحث على الإيمان، والنظر السديد في العرفان، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست ونفرت وأوحشت، وصدت عن العطف وأبعدت، قال تعالى مستعطفاً مترفقاً بالشاردين عن بابه متلطفاً جامعاً بين العاطفين، كلام ذوي النعمة على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة:
﴿قل﴾ أي يا أكرم الخلق وأرحمهم بالعباد، ولفت عما تقتضيه
«قل» من الغيبة إلى معنى الخطاب زيادة في الاستعطاف، وزاد في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم فقال:
﴿يا﴾ أي ربكم المحسن إليكم يقول: يا
﴿عبادي﴾ فلذذهم بعد تلك المرارات بحلاوة الإضافة إلى جنابه تقريباً من بابه. ولما أضاف، طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين، فرفعوا رؤوسهم، ونكس العاصون وقالوا: من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال؟ فقال تعالى جابراً لهم:
﴿الذين أسرفوا﴾ أي تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى صارت لهم أحمال ثقال
﴿على أنفسهم﴾ فأبعدوها عن الحضرات الربانية، وأركسوها في الدنايا الشيطانية، فانقلب الحال، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذلتهم والذين رفعوا
533
رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم - قاله القشيري، وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير
﴿لا تقنطوا﴾ أي ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا - وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام فقال:
﴿من رحمة الله﴾ أي إكرام المحيط بكل صفات الكمال، فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم، ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران، وحتمت الجزاء بالانتقام، وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للحال، وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم:
﴿إن الله﴾ أي الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال والإكرام، فكما أنه متصف بالانتقام وهو متصف بالعفو والغفران
﴿يغفر﴾ إن شاء
﴿الذنوب﴾ ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده فقال:
﴿جميعاً﴾ ولا يبالي، لكنه سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه، وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة وإن شاء بلا توبة، ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك.
ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم، قام عليه جنده فانحل عقده وانثلم حده،
534
علل هذه العلة بما يخصه، فقال مؤكداً لاستبعاد ذلك بالقياس على ما يعهدون:
﴿إنه هو﴾ أي وحده
﴿الغفور﴾ أي البليغ المغفرة بحيث يمحو الذنوب مهما شاء عيناً وأثراً، فلا يعاقب ولا يعاتب
﴿الرحيم *﴾ أي المكرم بعد المغفرة ولا يقدر أحد أصلاً على نوع اعتراض عليه، ولا توجيه طعن إليه.
535
ولما كان التقدير: فأقلعوا عن ذنوبكم، فإنها قاطعة عن الخير، مبعدة عن الكمال، عطف عليه استعطافاً قوله دالاً على أن الغفران المتقدم إنما هو إذا شاء التفضل سبحانه بتوبة وبغير توبة:
﴿وأنيبوا﴾ أي ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم
﴿إلى﴾ ولفت الكلام إلى صفة الإحسان زيادة في الاستعطاف فقال:
﴿ربكم﴾ أي الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه
﴿وأسلموا له﴾ أي أوجدوا إسلام جميع ما ملكه لكم من الأعيان والمعاني متبرئين عنه لأجله فإنه لو شاء سلبكموه، فإذا لم تكونوا مالكيه ملكاً تاماً فعدوا أنفسكم عارية عنه غير مالكة له ولا قادرة، وكان الذي لكم بالإصالة ما كان.
ولما كان ذلك شديداً لأن الكف عما أشرفت النفس على بلوغ الوطر منه في غاية المرارة، قال مهدداً لهم دالاً بحرف الابتداء على
535
رضاه منهم بإيقاع ما أقر به في اليسير من الزمان لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره الله حق قدره باستغراق الزمان في الطاعة وإن كان إبهام الأجل يحدو العاقل على استغراقه فيها:
﴿من قبل أن يأتيكم﴾ أي وأنتم صاغرون
﴿العذاب﴾ أي القاطع لكل العذوبة المجرّع لكل مرارة وصعوبة. ولما كان الإنسان ربما توقع ضرراً في إقدامه على ما له فيه لذة، وحاول دفعه، قال معظماً لهذا العذاب مشيراً بأداة التراخي إلى أنه لا يمكن دفعه ولو طال المدى:
﴿ثم لا تنصرون *﴾ أي لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً.
ولما أمر برؤية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه، أمر بما هو أعلى من ذلك، وهو المجاهدة بقتل النفس فقال:
﴿واتبعوا﴾ أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع
﴿أحسن ما أنزل﴾ واصلاً
﴿إليكم﴾ على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون
«كأنك تراه» الذي هو أعلى من استحضار
«إنه يراك» الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك.
536
ولما كان هذا شديداً على النفس، رغب فيه بقوله مظهراً صفة الإحسان موضع الإضمار:
﴿من ربكم﴾ أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب، قال منبهاً أيضاً علة رفقه بإثبات الجار:
﴿من قبل أن يأتيكم﴾ أي على ما بكم من العجز عن الدفاع
﴿العذاب﴾ أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو لكم في الدنيا أو في الآخرة.
ولما كان الأخذ على غرة أصعب على النفوس قال:
﴿بغتة﴾ ولما كان الإنسان قد يشعر بالشيء مرة ثم ينساه فيباغته، نفى ذلك بقوله:
﴿وأنتم لا تشعرون *﴾ أي ليس عندكم شعور بإتيانه لا في حال إتيانه ولا قبله بوجه من الوجوه لفرط غفلتكم، ليكون افظع ما يكون على النفس لشدة مخالفته لما هو مستقر فيها وهي متوطنة عليه من ضده.
ولما كان للإنسان عند وقوع الخسران أقوال وأحوال لو تخيلها قبل هجومه لحسب حسابه فباعد أسبابه. علل الإقبال على الاتباع بغاية الجهد والنزاع فقال:
﴿أن﴾ أي كراهة أن
﴿تقول﴾ ولما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله، عبر بقوله:
﴿نفس﴾ أي عند وقوع العذاب لها، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد
﴿يا حسرتى﴾ والتحسر: الاغتمام على ما فات والتندم عليه، وألحق الألف بدلاً من الياء
537
تعظيماً له، أي يا طول غماه لانكشاف ما فيه صلاحي عني وبعده مني فلا وصول لي إليه لاستدراك ما فات منه، وذلك عند انكشاف أحوالها، وحلول أوجالها وأهوالها ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر
«حسرتاي» بالجميع بين العوض وهو الألف والمعوض عنه وهو الياء، وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم، وأدل على المراد وأعظم، فقال:
﴿على ما فرطت﴾ أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه، وتعذر انضمامه والتئامه.
ولما كان حق كل أحد قريباً منه حساً أو معنى حنى كأنه إلى جنبه، وكان بالجنب قوام الشيء ولكنه قد يفرط فيه لكونه منحرفاً عن الوجاه والعيان، فيدل التفريط فيه على نسبة المفرط لصاحبه إلى الغفلة عنه، وذلك أمر لا يغفر، قال:
﴿في جنب﴾ وصرف القول إلى الاسم الأعظم لزيادة التهويل بقوله:
﴿الله﴾ أي حق الملك الأعظم الذي هو غير مغفول عنه ولا متهاون به.
ولما كان المضرور المعذب المقهور يبالغ في الاعتراف، رجاء
538
القبول والانصراف، قال مؤكداً مبالغة في الإعلام بالإقلاع عما كان يقتضيه حاله، ويصرح به مقاله، من أنه على الحق واجد الجد:
﴿وإن﴾ أي والحال أني
﴿كنت﴾ أي كان ذلك في طبعي
﴿لمن الساخرين *﴾ أي المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها، وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة، أي تقول: هذا لعله يقيل منها ويعفي عنها على عادة المترققين في وقت الشدائد، لعلهم يعادون إلى أجمل العوائد.
ولما كانت النفس إذا وقعت في ورطة لا تدع وجهاً محتملاً حتى تتعلق بأذياله، وتمت بحباله وتفتر بمحاله، قال حاكياً كذبها حيث لا يغني إلا الصدق:
﴿أو تقول﴾ أي عند نزول ما لا قبل لها به
﴿لو أن﴾ وأظهر ولم يضمر إظهاراً للتعظيم وتلذذاً بذكر الاسم الشريف فقال:
﴿الله﴾ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل
﴿هداني﴾ أي ببيان الطريق
﴿لكنت﴾ أي ملازماً ملازمة المطبوع على كوني
﴿من المتقين *﴾ أي الذي لا يقدمون على فعل ما لم يدلهم عليه دليل.
539
ولما ذكر حالها في الاعتراف بالبطلان، ثم الفزع إلى الزور
539
والبهتان، أتبعه التمني الذي لا يفيد غير الخسران، فقال:
﴿أو تقول﴾ أي تلك النفس المفرطة
﴿حين ترى العذاب﴾ أي الذي هاجمها للرحمة أو النقمة:
﴿لو أن﴾ أي يا ليت
﴿لي كرة﴾ أي رجعة إلى دار العمل لأتمكن منه
﴿فأكون﴾ أي فيتسبب عن رجوعي إليها أن أكون
﴿من المحسنين *﴾ أي العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن، هذا الإعراب - وهو عطفه على الجواب - أوفق لبقية الآيات التي من سلكه.
ولما حذر سبحانه بما يكون للمأخوذ من سيىء الأحوال وفظيع الأهوال، وكان معنى ما تقدم من كذبه وتمنيه أنه ما جاءني بيان ولا كان لي وقت أتمكن فيه من العمل، قال تعالى مكذباً له:
﴿بلى﴾ أي قد كان لك الأمران كلاهما
﴿قد جاءتك﴾ ولفت القول إلى التكلم مع تجريد الضمير عن مظهر العظمة لما تقدم من موجبات استحضارها إعلاماً بتناهي الغضب بعد لفته إلى تذكير النفس المخاطبة المشير إلى أنها فعلت في العصيان فعل الأقوياء الشداد من التكذيب والكبر مع القدرة في الظاهر على تأمل الآيات، واستيضاح الدلالات، والمشي على طرق الهدايات بعد ما أشار تأنيثها إلى ضعفها عن حمل العذاب وغلبة النقائص لها فقال:
﴿آياتي﴾ على عظمتها في البيان الذي ليس مثله بيان في وقت كنت فيه متمكناً من العمل بالجنان واللسان والأركان
540
﴿فكذبت بها﴾ جرأة على الله وقلة مبالاة بالعواقب
﴿واستكبرت﴾ أي عددت نفسك كبيراً عن قبولها
﴿وكنت﴾ أي كوناً كأنه جبلة لك لشدة توغلك فيه وحرصك عليه
﴿من الكافرين *﴾ أي العريقين في ستر ما ظهر من أنوار الهداية للتكذيب تكبراً لم يكن لك مانع من الإحسان إلا ذلك لا عدم البيان ولا عدم الزمان القابل للعمل.
ولما كان قد تعمد الكذب عند مس العذاب في عدم البيان والوقت القابل، قال تعالى محذراً من حاله وحال أمثاله، ولفت القول إلى من لا يفهمه حق فهمه غيره تسلية له وزيادة في التخويف لغيره:
﴿ويوم القيامة﴾ أي الذي لا يصح في الحكمة تركه
﴿ترى﴾ أي يا محسن
﴿الذين كذبوا﴾ وزاد في تقبيح حالهم في اجترائهم بلفت القول إلى الاسم الأعظم فقال:
﴿على الله﴾ أي الحائز لجميع صفات الكمال بأن وصفوه بما لا يليق به وهو منزه عنه من أنه فعل ما لا يليق بالحكمة من التكليف مع عدم البيان، ومن خلق الخلق يعدو بعضكم على بعض من غير حساب يقع فيه الإنصاف بين الظالم والمظلوم، أو ادعوا له شريكاً أو نحو ذلك، قال ابن الجوزي: وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل - انتهى، وكأنه عنى المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم: إنهم يخلقون أفعالهم، ويدخل فيه كل من تكلم في الدين بجهل، وكل من كذب وهو
541
يعلم أنه كاذب في أيّ شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله لا يعلم كذبه أو لا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله - تراهم بالعين حال كونهم
﴿وجوههم مسودة﴾ مبتدأ وخبر، وهو حال الموصول أي ثابت سوادها زائد البشاعة والمعظم في الشناعة بجعل ذلك إمارة عليهم ليعرفهم من يراهم بما كذبوا في الدنيا فإنهم لم يستحيوا من الكذب المخزي، أليس ذلك زاجراً عن مطلق الكذب فكيف بالكذب على الله الذي جهنم سجنه فكيف بالمتكبرين عليه
﴿أليس في جهنم﴾ أي التي تلقى فيها بالتجهم والعبوسة
﴿مثوى﴾ أي منزل
﴿للمتكبرين *﴾ الذي تكبروا على اتباع أمر الله.
ولما ذكر حال الذين أشقاهم، أتبعهم حال الذين أسعدهم، فقال عاطفاً لجملة على جملة لا على
«ترى» المظروف ليوم القيامة، إشارة إلى أن هذا فعله معهم في الدارين وإشارة إلى كثرة التنجية لكثرة الأهوال كثرة تفوت الحصر:
﴿وينجي﴾ أي مطلق إنجاء لبعض من اتقى بما أشارت إليه قراءة يعقوب بالتخفيف، وتنجية عظمية لبعضهم بما أفادته قراءة الباقين بالتشديد، وأظهر ولم يضمر زيادة على تعظيم حالهم وتسكين قلوبهم
﴿الله﴾ أي يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك
﴿الذين اتقوا﴾
542
أي بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هناك من العقوبات
﴿بمفازتهم﴾ أي بسبب أنهم عدوا أنفسهم في مفازة بعيدة مخوفة فوقفوا فيها عن كل عمل إلا بدليل لئلا يمشوا بغير دليل فيهلكوا، فأدتهم تقواهم إلى الفوز، وهو الظفر بالمراد وزمانه ومكانه الذي سميت المفازة به تفاؤلاً، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة لأنها سبب الفوز، وقرئ بالجمع باعتبار أنواع المصدر، وذلك كله بعناية الله بهم في الدارين، فمفازة كل أحد في الأخرى على قدر مفازته بالطاعات في الدنيا.
ولما كان كأنه قيل: ما فعل في تنجيتهم؟ قال ذاكراً نتيجة التنجية
﴿لا يمسهم السوء﴾ أي هذا النوع فلا يخافون
﴿ولا هم يحزنون *﴾ أي ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنهم لا يفوت لهم شيء أصلاً.
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا المبدع القيوم، قال مستأنفاً أو معللاً مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام:
﴿الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
543
الذي نجاهم
﴿خالق كل شيء﴾ فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه، وهو لا يخلق ما يتوقعون منه خوفاً، ولا يقع لهم عليه حزن. ولما دل هذا على القدرة الشاملة، كان ولا بد معها من العلم الكامل قال:
﴿وهو﴾ وعبر بأداة الاستعلاء لأنه من أحسن مجزأتها
﴿على كل شيء﴾ أي مع القهر والغلبة
﴿وكيل *﴾ أي حفيظ لجميع ما يريد منه، قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.
544
ولما كان الخافقان خزائن الكائنات، وكان لا يتصرف في الخزائن إلا ذو المفاتيح، قال دالاً على وكالته:
﴿له﴾ أي وحده
﴿مقاليد﴾ واحدها مقلاد مثل مفتاح، ومقليد مثل قنديل، وهي المفاتيح والأمور الجامعة القوية وهي استعارة لشدة التمكن من
﴿السماوات﴾ أي جميع أعدادها
﴿والأرض﴾ أي جنسها خزائنهما وأمورهما ومفاتيحهما الجامعة لكل ما فيهما، فلا يمكن أن يكون فيهما شيء ولا أن يتصرف فيه شيء منهما ولا فيهما أحد إلا بإذنه فلا بدع في تنجيته الذين اتقوا.
ولما كان التقدير: فالذين آمنوا بالله وتقبلوا آياته أولئك هم الفائزون، عطف عليه قوله الذي اقتضاه سياق التهديد:
﴿والذين كفروا﴾ أي لبسوا ما اتضح لهم من الدلالات، وجحدوا أن تكون الأمور كلها بيده
﴿بآيات الله﴾ أي الذي لا ظاهر غيرها، فإنه
544
ليس في الوجود إلا ذاته سبحانه وهي غيب لا يمكن المخلوق دركها، وأفعاله وهي أظهر الأشياء، وصفاته وهي غيب من جهة شهادة من جهة أخرى
﴿أولئك﴾ البعداء البغضاء
﴿هم﴾ خاصة
﴿الخاسرون *﴾ فإنهم خسروا نفوسهم وكل شيء يتصل بها على وجع النفع لأن كفرهم أقبح الكفر من حيث إنه متعلق بأظهر الأشياء.
ولما قامت هذه الدلائل كما ترى قيام الأعلام، فانجابت دياجير الظلام، وكان الجهلة قد دعوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال المفسرون في أول سورة ص - إلى أن يكف عن آلهتهم، وكان الإقرار عليها عبادة لها، تسبب عن ذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يصدعهم به بقوله:
﴿قل﴾ ولما كان مقام الغيرة يقتضي محو الأغيار، وكان الغير إذا انمحى تبعه جميع أعراضه، قدم الغير المفعول لأعبد المفعول - على تقدير
«أن» - لتأمر فقال:
﴿أفغير الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا يقر على فساد أصلاً.
ولما كان تقديم الإنكار على فعلهم لهم أرجع، وتأخير ما سبق من الكلام لإنكاره أروع، وكان مد الصوت أوكد في معنى الكلام وأفزع وأهول وأفظع، قال صارفاً الكلام إلى خطابهم، لأنه
545
أقعد في إرهابهم وأشد في اكتئابهم
﴿تأمروني﴾ بالإدغام المقتضي للمد في قراءة أكثر القراء. ولعل الإدغام إشارة إلى أنهم حالوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع. ولما قرر الإنكار لإثبات إلإغيار، أتم تقرير ذكر العامل في
﴿غير﴾ قال حاذفاً
«أن» المصدرية لتصير صلتها في حيز الإنكار:
﴿أعبد﴾ وهو مرفوع لأن
«أن» لما حذفت بطل عملها، ولم يراع أيضاً حكمها ليقال: إنه يمتنع نصب
«غير» بها لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول.
ولما كانت عبادة غير الله أجهل الجهل، وكان الجهل محط كل سفول، قال:
﴿أيها الجاهلون *﴾ أي العريقون في الجهل، وهو التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم - قاله الحرالي في سورة البقرة.
ولما كان التقديم يدل على الاختصاص، وكانوا لم يدعوه للتخصيص، بل للكف المقتضي للشرك، بين أنه تخصيص من حيث إن الإله غني عن كل شيء فهو لا يقبل عملاً فيه شرك، ومتى حصل أدنى شرك كان في ذلك العمل كله للذي أشرك، فكان التقدير بياناً لسبب أمره بأن يقول لهم ما تقدم منكراً عليهم: قل كذا، فلقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك وجوب التوحيد، فعطف عليه قوله مؤكداً لأجل ما استقر في النفوس من أن من عمل لأحد شيئاً قبل
546
سواء كان على وجه الشركة أولا:
﴿ولقد﴾ ولما كان الموحي معلوماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بني للمفعول قوله:
﴿أوحي إليك﴾ ولما كان التعميم أدعى إلى التقبل قال:
﴿وإلى الذين﴾ ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان لبعض الناس قال:
﴿من قبلك﴾ ولما كان الحكم على قوم ربما كان حكماً على المجموع مع قيد الجمع خص بياناً لأنه مع كونه حكماً على المجموع حكم على كل فرد، ولأن خطاب الرئيس خطاب لأتباعه لأنه مقتداهم.
ولما كان الموحى إليهم أنه من أشرك حبط عمله سواء كان هو أو غيره، صح قوله بالإفراد موضع نحو أن الإشراك محبط للعمل وقائم مقام الفاعل، وعدل عنه إلى ما ذكر لأنه أعظم في النهي وأقعد في الزجر لمن يتأهل له من الأمة، وأكد لأن المشركين ينكرون معناه غاية الإنكار:
﴿لئن﴾ أي أوحى إلى كل منكم هذا اللفظ وهو وعزتي لئن
﴿أشركت﴾ أي شيئاً من الأشياء في شيء من عملك بالله وهو من فرض المحال، ذكره هكذا ليكون أروع للأتباع، والفعل بعد إن الشرطية للاستقبال، فعدل هنا عن التعبير بالمضارع للمطابقة بين اللفظ والمعنى لأن الآية سبقت للتعريض بالكفار فكان التعبير بالماضي أنسب ليدل بلفظه على أن من وقع منه شرك
547
فقد خسر، وبمعناه على أن الذي يقنع منه ذلك فهو كذلك.
ولما تقرر الترهيب أجاب الشرط والقسم بقوله:
﴿ليحبطن﴾ أي ليفسدن فيبطلن عملك فلا يبقى له أثراً ما من جهة القادر فلأنه أشرك به فيه وهو غني لا يقبل إلا الخالص، لأنه لا حاجة إلى شيء، وأما من جهة غيره فلأنه لا يقدر على شيء. ولما كان السياق للتهديد، وكانت العبادة شاملة لمت تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه، لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وقال:
﴿ولتكونن﴾ أي لأجل حبوطه
﴿من الخاسرين *﴾ فإنه من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته، والخطاب للرؤساء على هذا النحو - وإن كان المراد به في الحقيقة أتباعهم - أزجر للأتباع، وأهز للقلوب منهم والأسماع.
ولما كان التقدير قطعاً: فلا تشرك، بنى عليه قوله:
﴿بل الله﴾ أي المتصف بجميع صفات الكمال وحده بسبب هذا النهي العظيم والتهديد الفظيع مهما وقعت منك عبادة ما
﴿فاعبد﴾ أي مخلصاً له العبادة، فحذف الشرط، عوض عنه بتقديم المفعول. ولما كانت عبادته لا يمكن أن تقع إلا شكراً لما له من عموم النعم سابقاً ولاحقاً، وشكر المنعم واجب، نبه على ذلك قوله:
﴿وكن من الشاكرين *﴾ أي العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق.
ولما كان التقدير: فما أحسن هؤلاء ولا أجملوا حين دعوك
548
للإشراك بالله، وما عبدوه حق عبادته إذ أشركوا به، عطف عليه قوله:
﴿وما قدروا﴾ وأظهر الاسم الأعظم في أحسن مواطنه فقال:
﴿الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿حق قدره﴾ أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما ذكر تعظيم كل شيء ينسب إليه، دل على باهر قدرته الذي هو لازم القبض والطي بما يكون من الحال في طي هذا الكون، فقال كناية عن العظمة بذلك:
﴿والأرض﴾ أي والحال أنها، وقدمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها. ولما كان ما يدركون منها من السعة والكبر كافياً في العظمة وأن لم يدركوا أنه سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيهاً للبصراء على أنها سبع من غير تصريح به فقال:
﴿جميعاً﴾ ولما كان أحقر ما عند الإنسان وأخفه عليه ما يحويه في قبضته، مثل بذلك في قوله مخبراً عن المبتدأ مفرداً بفتح القاف لأنه أقعد في تحقير الأشياء العظيمة بالنسبة إلى جليل عظمته:
﴿قبضته﴾.
549
ولما كان في الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة، وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال:
﴿يوم القيامة﴾ ولا قبضة هناك حقيقية ولا مجازاً، وكذا الطي واليمين، وإنما تمثيل وتخييل لتمام القدرة. ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع
﴿جميعاً﴾ كالتصريح في جميع الأرض أيضاً في قوله:
﴿والسماوات مطويات﴾ ولما كان العالم العلوي أشرف، شرفه عند التمثيل باليمين فقال:
﴿بيمينه﴾ ولما كان هذا إنما هو تمثيل بما نعهد والمراد به الغاية في القدرة، نزه نفسه المقدس عما ربما تشبث به المجسم والمشبه فقال:
﴿سبحانه﴾ أي تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص وما يؤدي إلى النقص من الشرك والتجسيم وما شاكله
﴿وتعالى﴾ علواً لا يحاط به
﴿عما يشركون *﴾ أي إن علوه عن ذلك علو من يبالغ فيه، فهو في غاية من العلو لا يكون وراءها غاية لأنه لو كان له شريك لنازعه هذه القدرة أو بعضها فمنعه شيئاً منها، وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء، روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره من عبد الله رضي عنه قال:
«جاء حبر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إذا
550
كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يميزهن ثم يقول: أنا الملك، فلقد رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك حتى بدت نواجذه - تعجيباً وتصديقاً لقوله - ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ - إلى: -
﴿يشركون﴾ [الأنعام: ٩١] » وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك اين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون»، وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض».
551
ولما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول:
﴿ونفخ في الصور﴾ أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها العالي عليها
551
في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس، والمراد بها - والله أعلم - إلقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب إظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي، ولا تطيقه الأحلام والنهى، كما كان آخر ما فجأهم في يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير، فإن تلك أثرت الموت، وهذه أثرت الغشي لأنه لا موت بعد البعث، وهي الثالثة من النفخات
﴿فصعق﴾ أي مغشياً عليه
﴿من في السماوات﴾ ولما كان المقام التهويل، وكان التصريح أهول، أعاد الفاعل بلفظه فقال:
﴿ومن في الأرض﴾.
ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار، استثناه فقال:
﴿إلا من شاء الله﴾ أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم، وصعقاً لقوم دون قوم، يجعل ذلك الذي كان به الهلاك به الحياة وذلك الذي كان به الغشي به الإفاقة وإن كان بالنسبة إليهم على حد سواء، إعلاماً بأن الفاعل لما يريد لا الأثر، قيل: المستثنون الشهداء وقيل: غيرهم
﴿ثم نفخ فيه أخرى﴾
552
أي نفخة ثانية من هذه، وهي رابعة من النفخة المميتة، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله:
﴿فإذا هم قيام﴾ أي قائمون كلهم
﴿ينظرون *﴾ أي يقبلون أبصارهم أو ينتظرون ما يأتي بعد ذلك من أمثاله من دلائل العظمة، وهاتان النفختان هما المرادتان في حديث تخاصم اليهود مع المسلم الذي لطم وجهه، وفي آخره:
«يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور» - وقد رواه البخاري في الخصومات في موضعين، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين، وفي الرقاق وفي التوحيد ومسلم في الفضائل، وأبو داود في السنة، والنسائي في التفسير والنعوت، وبتفصيل رواياته وجمع ألفاظها يعلم أن ما ذكرته هو المراد روى البخاري ومسلم في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما يهودي يعرض سلعة له - وقال البخاري: سلعته - أعطى بها شيئاً كرهه أو لم يرضه، قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر! فسمعه رجل من الأنصار فلطم - وقال البخاري: فقام فلطم وجهه،
553
قال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: فلان لطم وجهي، - وقال البخاري: فما بال فلان لطم وجهي؟ - فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله» والذي اصطفى موسى على البشر
«وأنت بين أظهرنا، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى عرف الغضب في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث»
- وفي رواية مسلم:
«أو في أول من بعث - فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى» وفي رواية للبخاري في تفسير الزمر:
«إني من أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة» وفي رواية للبخاري في الخصومات والرقاق وأحاديث الأنبياء وهي لمسلم أيضاً قالا: استب رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود - وفي رواية لمسلم: رجل من اليهود ورجل من المسلمين - فقال المسلم: والذي اصفطى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
554
على العالمين، قال البخاري في كتاب التوحيد وأحاديث الأنبياء: في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، قال البخاري: فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي، وقال مسلم وكذلك البخاري في التوحيد والخصومات وأحاديث الأنبياء: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، قال البخاري في الخصومات: فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلم فسأله عن ذلك فأخبره - ثم اتفقا: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون» قال البخاري في الرقاق والخصومات وأحاديث الأنبياء ونسخة في التوحيد:
«يوم القيامة فأكون في أول من يفيق»، وفي رواية له في الخصومات؛
«فأصعق معهم»، وفي رواية له في الرقاق وفي رواية في التوحيد وهي رواية لمسلم وأبي داود:
«فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش»، وقال أبو داود:
«في جانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله»، وفي رواية:
«فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو اكتفى بصعقة الطور»
، وفي رواية للبخاري في أحاديث الأنبياء:
«فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله» - ولم يذكر قبلي وروى الحديث الترمذي في تفسير سورة الزمر وابن ماجه في الزهد:
555
قال: قال اليهودي، وقال ابن ماجه: رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى وموسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يداً فصك بها وجهه - وقال ابن ماجه: فلطمه - قال: تقول هذا وفينا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ونفخ في الصور» - وقال ابن ماجه: تقول هذا وفينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«قال الله تعالى: ونفخ في الصور - فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ» - وقال ابن ماجه:
«فإذا أنا بموسى آخذ - بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي أم كان ممن استثنى الله، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب»، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية للبخاري في الرقاق:
«يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق»، قال: ورواه أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه، وللبخاري في الخصومات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
«بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك، قال: من؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه، قال: ضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف» والذي اصطفى موسى على البشر «قلت: أي
556
خبيث على محمد، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض» - وفي رواية في أحاديث الأنبياء:
«فأكون أول من يفيق - فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى»، وفي رواية في أحاديث الأنبياء:
«فلا أدري أفاق قبلي أو حوسب بصعقة الطور» والله أعلم - هذا ما رأيته من ألفاظ الحديث في الكتب الستة، وأما معنى صعق فإنه صاح ومات فجأة أو غشي عليه، قال في القاموس: الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب، وصعق كسمع صعقاً ويحرك وصعقة وتصعاقاً: غشي عليه. والصعق محركة: شدة الصوت، وككتف: الشديد الصوت، وقال عبد الحق في الواعي: الأزهري: الصاعقة - يعني بالفتح - وأصعقتهم - إذا أصابتهم فصعقوا وصعقوا، ومنه حديث الحسن: ينتظر بالمصعوق ثلاثاً ما لم يخافوا عليه نتناً - يعني الذي مات فجأة، قال: والصاعقة مصدر جاء على فاعلة، تقول: سمعت صاعقة الرعد وثاغية الشاء، وقوله:
557
﴿وخر موسى صعقاً﴾ [الأعراف: ١٤٣] أي مغشياً عليه، دل على ذلك قوله سبحانه
﴿فلما أفاق﴾ إنما يقال: أفاق من العلة والغشية وبعث من الموت، قال: وجملة الصاعقة الصوت مع النار، وقال أبو عبد الله يعني القزاز: الصعق هو أن يسمع الإنسان صوت الهدة الشديدة فيصعق لذلك عقله، واشتقاق الصاعقة من هذا، سميت صاعقة لشدة صوتها وتقول: إنه لصعق، أي شديد الصوت، وكذا هو صعاق - انتهى.
فتحرر من هذا أن الصعق يطلق على الموت فجأة، وعلى الغشي كذلك، وأن الإفاقة لا تكون إلا عن غشي لا عن موت، فعلم أن الصعقة في هذه الآية إنما هي غشي لأن الثانية عنها إفاقة، وأيضاً فمن الأمر المحقق أنه لا يموت أحد من أهل البرزخ فكيف بالأنبياء عليهم السلام، فالصواب حمل الصعقة المذكورة في الحديث على الغشي أو ما يشبهه، ويؤيده التجويز لأن تكون صعقة الطور جزاء عنها، وعلى تقدير أن تكون غشياً إن قلنا إنه يكون بنفخة الإماتة يلزم عليه أن لا يكون للغشي ولا لعدمه مدخل في الشك في أن موسى عليه السلام أفاق قبل أو لم يحصل له غشي أصلاً، لأن الذي يكون به بطشه بالعرش - وهو بروحه وجسه - إنما هو البعث من الموت لا الإفاقة من الغشي ولا عدم الغشي قبل البعث، فالذي يوضح الأمر ولا يدع فيه لبساً أن يكون ذلك بعد البعث، وتكون حينئذ النفخات أربعاً: الأولى لإماتة الأحياء، الثانية لإحياء جميع الموتى، وهاتان هما المذكورتان في سورة يس،
558
ولذلك لما ذكرهما صرح في أمرهما بما لا يحتمل غيره
﴿ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون﴾ الثالثة لابتدائهم بعد البعث بالهول الشديد، والحال يقتضيه لأن ذلك اليوم يوم الأهوال والارعاب والارهاب، وإظهار العظمة والجلال لتقطيع الأسباب، والذي يدل عليه في هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كثير من رواياته:
«فإن الناس يصعقون يوم القيامة» فإن يوم القيامة اسم للوقت الذي أوله البعث وآخره تكامل دخول كل فريق إلى داره ومحل استقراره، وأما صعقة الموت فإنها في دار الدنيا وهي للإنامة لا للإقامة، ويضعف حمله على ما قبل البعث الروايات الصحيحة الجازمة بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول من تنشق عنه الأرض، وما حكاه الكرماني من الإجماع على ذلك ولا فخر فيه إلا بحصول البعث لا بإظهار الجسد من غير بعث، فهذا الجزم ينافي ذلك الشك، فإذا كان المراد بما في الحديث الغشي كانت نفخة أخرى للإيقاظ منه، وهاتان المرادتان بما في هذه السورة كما في رواية السورة كما في رواية الترمذي وما في النمل، ولذلك عبر عنها بالفزع، ويؤيد ذلك التعبير في رواية البخاري في التفسير بالنفخة الآخرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوتي
559
جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، ولو أنهما نفختان فقط كان التعبير بالآخرة قاصراً عما تفيده الثانية مع المساواة في عدة الحروف، وهو مما لا يظن ببليغ، فكيف بأبلغ الخلق المؤيد بروح القدس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان العدول عن الثانية إلى الآخرة مفيداً أنها أربع، ولعل ذلك معنى
﴿أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين﴾ [غافر: ١١] وسميت إماتة لشدة الغشي بها لعظم أمرها ومعنى زلزلة الساعة التي تسكر، ويؤيده التعبير عن القيام منها بالإفاقة لا بالبعث، ولا يعكر على هذا شيء إلا رواية البخاري في الخصومات:
«فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى» - إلى آخره، فالظاهر أن راويها وهم، أو روي بالمعنى فما وفى بالغرض، والراجح روايات من قالوا:
«فأكون أول من يفيق» - بالكثرة وبزوال الإشكال، هذا ما كان ظهر لي في النظر في المعنى وتطبيق الآيات والأحاديث عليه، ثم رأيت شيخنا حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني المصري رحمه الله نقل ما جمعت به بين الروايات في كتاب الأنبياء من شرحه للبخاري عن القاضي عياض فقال: وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وأقره على ذلك ثم نقل عن ابن حزم عين ما قلته في النفخات فقال ما نصه: تكميل: زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع: الأولى نفخة إماتة يموت فيها من بقي في الأرض،
560
حياً، ثانيها نفخة إحياء فيقوم كل ميت، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليهم، لا يموت منها أحد، والرابعة إفاقة من ذلك الغشي، ثم رده شيخنا بأن الصعقات أربع، ولا يستلزم كون النفخات أكثر من اثنتين، وذلك أنه ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً ويغشى على من كان ميتاً، فهاتان صعقتان في النفخة الأولى، وينفخ النفخة الثانية فيفيق من كان مغشياً عليه ويحيى من كان ميتاً، فهاتان اثنتان في النفخة الثانية، وهذا الرد مردود لمن حقق ما قلته بأدنى تأمل، ويلزم عليه أن يكون أصفياء الله أشد حالاً وفزعاً ممن تقوم عليهم الساعة وهم شر عباد الله، والعجب أن الذي رده على ابن حزم سلّمه لعياض - والله الموفق.
561
ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهراً بالضياء الحسي، وباطناً بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن ظلم ظلامة كذلك فقال:
﴿وأشرقت﴾ أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة
﴿الأرض﴾ أي التي أوجدت لحشرهم، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لا سيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال:
﴿بنور ربها﴾ أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلاًّ للعدل والفضل، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلاً،
561
وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة.
ولما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال:
﴿ووضع الكتاب﴾ أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به.
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال:
﴿وجاء بالنبيين﴾ للشهادة على أممهم بالبلاغ. ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال:
﴿والشهداء﴾ أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من
562
طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين
﴿وقضى بينهم﴾ أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم، ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال:
﴿بالحق﴾ بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل.
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله:
﴿وهم﴾ أي باطناً وظاهراً
﴿لا يظلمون *﴾ أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً.
ولما كان ذلك ربما كان بالنسبة إلى ما وقع فيه الحكم، وليس نصاً في شمول الحكم لكل عمل، نص عليه بقوله، ذاكراً الوفاء والعمل لاقتضاء السياق ذلك بذكر الكتاب وما في حيزه من النبيين والشهداء والقضاء الحق، وذلك كله أليق بذكر العمل المؤسس على العلم، والوفاء الذي هو الركن الأعظم في الحق ومساق العلم، والعلم والوفاء أوفق لجعل العمل نفسه هو الجزاء بأن يصور بما يستحقه من الصور المليحة إن كان ثواباً والقبيحة إن كان عقاباً، والفرق بينه وبين العقل المؤسس
563
على الشهوة وقوة الداعية:
﴿ووفيت كل نفس﴾ ولما كانت التوفية في الجزاء على غاية التحرير والمبالغة في الوفاء والمشاكلة في الصورة والمعنى، جعل الموفي نفس العمل فقال:
﴿ما عملت﴾ أي من الحسنات، لذلك عبر بالعمل الذي لا يكون إلا مع العلم وأفهم الختام تقدير
«والله أعلم بما يعملون».
ولما كان المراد بالشهداء إقامة الحقوق على ما يتعارفه العباد وكان ذلك ربما أوهم نقصاً في العلم قال:
﴿وهو أعلم﴾ أي من العاملين والشهداء عليهم
﴿بما يفعلون *﴾ أي مما عمل به بداعية من النفس سواء كان مع مراعاة العلم أو لا. فالآية من الاحتباك: ذكر ما عملت أولاً يدل على ما فعلت ثانياً، وذكر ما يفعلون ثانياً يدل عليه ما يفعلون أولاً، وسره أن ما ذكر أوفق للمراد من نفي الظلم على حكم الوعد بالعدل والفضل لأن فيه الجزاء على كل ما بني على علم، وأما المشتهي فما ذكر أنه يجازى عليه بل الله يعلمه.
ولما كان الأغلب على هذه المقامات التحذير، قدم في هذه التوفية حال أهل الغضب فقال:
﴿وسبق﴾ أي بأمر يسير من قبلنا بعد إقامة الحساب سوقاً عنيفاً
﴿الذين كفروا﴾ أي غطوا أنوار عقولهم، فالتبست عليهم الأمور فضلوا
﴿إلى جهنم﴾ أي الدركة التي تلقاهم بالعبوسة كما تلقوا الأوامر والنواهي والقائمين بها بمثل ذلك، فإن ذلك لازم لتغطية العقل
﴿زمراً﴾ أي جماعات في تفرقة
564
بعضهم على إثر بعض - قاله أبو عبيد - أصنافاً مصنفين، كل شخص مع من يلائمه في الطريقة والزمرة، مأخوذة من الزمر وهو صوت فيه التباس كالزمر المعروف لأن ذلك الصوت من لازم الجمع.
ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالاًّ على صغاره، دل على أن أمرهم كذلك بقوله ذاكراً غاية السوق:
﴿حتى إذ جاءوها﴾ أي على صفة الذل والصغار، وأجاب
«إذا» بقوله:
﴿فتحت أبوابها﴾ أي بولغ كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم بعد تكاملهم عندها في الإسراع في فتحها ليخرج إليهم ما كان محبوساً بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها وشرارها على حالة هي أمر من لقاء البهام التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام.
ولما كان المصاب ربما رجا الرحمة، فإذا وجد من يبكته كان تبكيته أشد عليه مما هو فيه قال:
﴿وقال لهم خزنتها﴾ إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً:
﴿ألم يأتكم رسل﴾ ولما كان قيام الحجة بالمجانس أقوى قال واصفاً لرسل:
﴿منكم﴾ أي لتسهل عليكم مراجعتهم.
ولما كانت المتابعة بالتذكير أوقع في النفس قال آتياً بصفة أخرى معبراً بالتلاوة التي هي أنسب لما يدور عليه مقصد السورة من العبادة لما للنفوس من النقائص الفقيرة إلى متابعة التذكير:
﴿يتلون﴾ أي يوالون
﴿عليكم آيات﴾ ولما كان أمر المحسن أخف على النفس
565
فيكون أدعى إلى القبول قالوا:
﴿ربكم﴾ أي بالبشارة إن تابعتم. ولما كان الإنذار أبلغ في الزجر قالوا:
﴿وينذرونكم لقاء يومكم﴾ ولما كانت الإشارة أعلى في التشخيص قالوا:
﴿هذا﴾ إشارة إلى يوم البعث كله، أي من الملك الجبار إن نازعتم، فالآية من الاحتباك: ذكر الرب أولاً دلالة على حذف الجبروت ثانياً والإنذار ثانياً دليلاً على البشارة أولاً
﴿قالوا بلى﴾ أي قد أتونا وتلوا علينا وحذرونا.
ولما كان عدم إقبالهم على الخلاص مما وقعوا فيه مع كونه يسيراً من أعجب العجب، بينوا موجبه بقولهم:
﴿ولكن حقت﴾ أي وجبت وجوباً يطابقه الواقع، لا يقدر معه على الانفكاك عنه
﴿كلمة العذاب﴾ أي التي سبقت في الأزل علينا - هكذا كان الأصل، ولكنهم قالوا:
﴿على الكافرين *﴾ تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم للأنوار التي أتتهم بها الرسل.
ولما فرغوا من إهانتهم بتبكيتهم، أنكوهم بالأمر بالدخول، وعبر بالمبني للمفعول إشارة ألى أنهم وصلوا إلى أقصى ما يكون من الذل بحيث إنهم يمتثلون قول كل قائل جل أو قل، فقيل في جواب من كأنه قال: ماذا وقع بعد هذا التقريع؟ :
﴿قيل﴾ أي لهم جواباً لكلامهم:
﴿ادخلوا أبواب جهنم﴾ أي طبقاتها المتجهمة لداخليها. ولما كان الإخبار بالخلود حين الدخول أوجع لهم قالوا:
﴿خالدين﴾ أي
566
مقدرين الخلود
﴿فيها﴾ ولما كان سبب كفرهم بالأدلة هو التكبر، سبب عن الأمر بالدخول قوله معرى عن التأكيد لأنه يقال في الآخرة ولا تكذيب فيها يقتضي التأكيد ولم يتقدم منهم هنا كذب كالنحل بل اعتراف وتندم
﴿فبئس مثوى﴾ أي منزل ومقام
﴿المتكبرين *﴾ أي الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم، فلذلك تعاطوا أسبابها.
567
ولما ذكر أحوال الكافرين، أتبعه أحوال أضدادهم فقال:
﴿وسيق﴾ وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق، فشتان ما بين السوقين! هذا سوق إكرام، وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني.
ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله:
﴿الذين اتقوا﴾ أي لا جميع المؤمنين
﴿ربهم﴾ أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه
567
عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
«يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«تجتمعون يوم القيامة» - فذكر الحديث حتى قال:
«قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار» ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين
﴿إلى الجنة زمراً﴾ أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك - إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله:
﴿حتى إذا جاءوها﴾ ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال:
﴿وفتحت﴾ أي والحال أنها قد فتحت
﴿أبوابها﴾ أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم
568
من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً.
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفاً على جواب
«إذا» بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم:
﴿وقال لهم خزنتها﴾ أي حين الوصول:
﴿سلام عليكم﴾ تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها. ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا:
﴿طبتم﴾ أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلاً، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم:
﴿فادخلوها﴾ فأنتج ذلك
﴿خالدين *﴾ ولعل فائدة الحذف لجواب
«إذا» أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد.
ولما كان التقدير: فدخلوها، عطف عليه قوله:
﴿وقالوا﴾ أي جميع الداخلين:
﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثاً لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا:
﴿لله﴾ أي الملك الأعظم
﴿الذي صدقنا وعده﴾ في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع
569
الذي وجدناه في هذه الساعة
﴿وأورثنا﴾ كما وعدنا
﴿الأرض﴾ التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا
﴿نتبوأ﴾ أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير:
﴿من الجنة﴾ أي كلها
﴿حيث نشاء﴾ لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان أصلاً، ولا يشتهي إلا مكانه. ولما كانت بهذا الوصف الجليل، تسبب عنه مدحها بقوله:
﴿فنعم﴾ أجرنا - هكذا كان الأصل، ولكنه قال:
﴿أجر العاملين *﴾ ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال.
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره:
﴿وترى﴾ معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى
﴿وإن القوة لله جميعاً﴾ [البقرة: ١٦٥]
﴿الملائكة﴾ القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق
﴿حافين﴾ أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله. من الخف وهو الجمع، والحفة
570
وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة.
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال:
﴿من حول العرش﴾ أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة. محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال
﴿من﴾ يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم
﴿يسبحون بحمد﴾ وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال:
﴿ربهم﴾ أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام.
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات،
571
ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم
﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ الآية فقال:
﴿وقضى بينهم﴾ أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات. ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال:
﴿بالحق﴾ بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات:
﴿وقيل﴾ أي من كل قائل: آخر الأمور كلها
﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال:
﴿لله﴾ ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم:
﴿رب العالمين *﴾ أي الذي ابتدأهم،
572
أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين.
573
مقصودها الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في الآخرة إلى صنفين، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل، بأن الفاعل ذلك له العزة الكاملة والعلم الشامل، وقد بين ما يغضبه وما يرضيه غاية البيان على وجه الحكمة، فمن لم يسلم أمره كله إليه وجادل في آياته الدالة على القيامة أو غيرها بقوله أو فعله فإنه يخزيه فيعذبه ويرديه، وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر، فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء لمن يشاء إلا كامل العزة، ولا يعلم جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم،
1
وكذا في جميع الأوصاف التي في الآية من المثاب والعقاب، وكذا الطول فإنه لا يقدر على التطول المطلق إلا من كان كذلك، فإن من كان ناقص العزة فهو قابل لأنه يمنعه من بعض التطولات مانع، ولن يكون ذلك إلا بنقصان العلم، وكذا الدلالة بتسميتها بالمؤمن فإن قصته تدل على هذا المقصد ولا سيما أمر القيامة الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم لمعرفة المعبود) بسم الله (الملك الأعظم الذي يعطي كلاً من عباده ما يستحقه، فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك لا يعارض) الرحمن (الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان لا خفاء معه) الرحيم (الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيماً، وفي تلك الأرض وملكوت السماء عظيماً)
2