تفسير سورة الذاريات

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية ‏. ‏ وهي ستون آية

بوال عليهم تجبرهم على الإيمان. وعلى بمنزلته في قولك: هو عليهم، إذا كان واليهم ومالك أمرهم مَنْ يَخافُ وَعِيدِ كقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها لأنه لا ينفع إلا فيه دون المصر على الكفر.
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من قرأ سورة ق هوّن الله عليه تارات «١» الموت وسكراته» «٢».
سورة الذاريات
مكية وآياتها ٦٠ [نزلت بعد الأحقاف] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)
وَالذَّارِياتِ الرياح لأنها تذرو التراب وغيره. قال الله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ وقرئ بإدغام التاء في الذال فَالْحامِلاتِ وِقْراً السحاب، لأنها تحمل المطر. وقرئ: وقرأ، بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر. أو على إيقاعه موقع حملا فَالْجارِياتِ يُسْراً الفلك.
ومعنى يُسْراً: جريا ذا يسر، أى ذا سهولة فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة، لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك. وعن مجاهد: تتولى تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة. وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ.
وعن علىّ رضى الله عنه أنه قال وهو على المنبر: سلوني قبل أن لا تسألونى، ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام ابن الكوّاء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال: فالحاملات وقرا؟
(١). قوله «هون الله عليه تارات الموت» في الصحاح: فعل ذلك الأمر تارة بعد تارة، أى: مرة بعد مرة. (ع) [.....]
(٢). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
قال السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال فالمقسمات أمرا؟ قال: الملائكة «١» وكذا عن ابن عباس. وعن الحسن فَالْمُقَسِّماتِ السحاب، يقسم الله بها أرزاق العباد، وقد حملت على الكواكب السبعة، ويجوز أن يراد: الرياح لا غير، لأنها تنشئ السحاب وتقله وتصرفه، وتجرى في الجوّ جريا سهلا، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب. فإن قلت: ما معنى الفاء على التفسيرين؟
قلت: أمّا على الأوّل فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح، فبالسحاب الذي تسوقه، فبالفلك التي تجريها بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه. وأمّا على الثاني، فلأنها تبتدئ بالهبوب «٢»، فتذرو التراب والحصباء، فتنقل السحاب، فتجرى في الجوّ باسطة له فتقسم المطر إِنَّ ما تُوعَدُونَ جواب القسم، وما موصولة أو مصدرية، والموعود: البعث. ووعد صادق: كعيشة راضية. والدين: الجزاء، والواقع: الحاصل.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٧ الى ٩]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
الْحُبُكِ الطرائق، مثل حبك الرمل والماء: إذا ضربته الريح، وكذلك حبك الشعر:
آثار تثنيه وتكسره. قال زهير:
مكلّل بأصول النّجم تنسجه ريح خريق لضاحى مائه حبك «٣»
(١). أخرجه الحاكم والطبري. وغيرهما من رواية أبى الطفيل قال: رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه على المنبر فذكره وزاد فيه: قال «فمن الذين بدلوا نعمة الله كفرا؟ قال: هم منافقو قريش» وفي الباب عن عمر مرفوعا أخرجه البزار، وفيه قصة منبع، وقال ابن أبى سيرة: لين الحديث، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث اه ولم ينفرد به سعيد فقد رواه ابن مردويه من طريق عبيد بن موسى عن أبى سبرة أيضا.
(٢). قوله «فلأنها تبتدئ بالهبوب» لعله: فإنها. (ع)
(٣).
حتى استغاثت بماء لا رشاء له من الأباطح في حافاته البرك
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق لضاحى مائه حبك
كما استغاث بسيء فز غيطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك
لزهير: يصف قطاة فرت من صفر حتى استغاثت منه بماء قريب لا رشاء له، أى: لا حبل يستقى به منه لعدم احتياجه إليه من الأباطح، أى: في الأمكنة المتسعة المستوية، فان أراد من الماء مكانه، فمن بيانية، في حاماته أى جوانبه البرك جمع بركة، كرطب ورطبة نوع من طير الماء يكلل ذلك الماء بأصول النجم، أى: النبات الذي لا ساق له. وروى بعميم النجم، أى: طويله، تنسجه: أى تثنيه تثنيا منتظما كالنسج، فهو استعارة مصرحة.
والخريق- بالقاف-: الباردة والشديدة السير. والضاحي: الظاهر. والحبك: الطريق في وجه الماء إذا ضربته الريح، جمع حباك أو حبيكة. والسيئ بالفتح وبالكسر: اللبن في طرف الثدي. والفز: ولد البقرة الوحشية.
والغيطلة: الشجر الملتف، فاضافة الفز إليها لأنه فيها. وقيل: هي البقرة الوحشية. والعيون هنا: رقباء الصيد وجواسيسه. وحشكت الدرة باللبن حشكا وحشوكا: امتلأت به. وحرك الحشك هنا للضرورة، أى: لم ينتظر به امتلاء الدرة، ولعمري نعمت هذه الاستغاثة. وفيه دلالة على أنها كانت ظمآنة.
395
والدرع محبوكة: لأنّ حلقها مطرق طرائق. ويقال: إنّ خلقة السماء كذلك. وعن الحسن:
حبكها نجومها. والمعنى: أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي. وقيل: حبكها صفاقتها وإحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم، «١» أى محكمها. وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا:
ما أحسن حبكه، وهو جمع حباك، كمثال ومثل. أو حبيكة، كطريقة وطرق. وقرئ: الحبك، بوزن القفل. والحبك، بوزن السلك. والحبك، بوزن الجبل. والحبك بوزن البرق. والحبك بوزن النعم. والحبك بوزن الإبل إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ قولهم في الرسول: ساحر وشاعر ومجنون، وفي القرآن: شعر وسحر وأساطير الأولين. وعن الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا، إنما هو متناقض مختلف. وعن قتادة: منكم مصدّق ومكذب، ومقرّ ومنكر يُؤْفَكُ عَنْهُ الضمير للقرآن أو للرسول، أى: يصرف عنه، من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه «٢» وأعظم، كقوله: لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، أى: علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوى. ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين: أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد. ثم قال: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك. ووجه آخر: وهو أن يرجع الضمير إلى قول مختلف وعن مثله في قوله:
ينهون عن أكل وعن شرب «٣»
أى: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب. وحقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما،
(١). قوله «فرس محبوك المعاقم» في الصحاح: المعاقم من الخيل: المفاصل، فالراسغ عند الحافر معقم، والركبة معقم، والعرقوب معقم. اه (ع)
(٢). قال محمود: «يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه... الخ» قال أحمد: إنما أفاد هذا النظم المعنى الذي ذكر من قبل أنك إذا قلت: يصرف عنه من صرف، علم السامع أن قولك يصرف عنه يغنى عن قولك من صرف، لأنه بمجرده كالتكرار للأول، لولا ما يستشعر فيه من فائدة تأبى جعله تكرارا، وتلك الفائدة أنك لما خصصت هذا بأنه هو الذي صرف، أفهم أن غيره لم يصرف، فكأنك قلت: لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا، وكل صرف دونه فكلا صرف بالنسبة إليه، والله تعالى أعلم.
(٣).
ينهون عن أكل وعن شرب مثل المها يرتعن في خصب
يقال: نهي الجمل فهو ناه، إذا فرط في السمن. والمها: جمع مهاة وهي البقرة الوحشية. ويقال: أخصب المكان فهو مخصب، وأخصبه الله. وخصب خصبا، كتعب تعبا، وعلم علما: إذا كثر كلأه ونباته. يصف أضيافا بأنهم يصدر تناهيهم وسمنهم عن الأكل والشرب. وشبههم بالمها اللاتي يرتعن في الكلأ، فالخصب في الأصل: مصدر سمى به الكلأ.
396
وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف. وقرأ سعيد بن جبير: يؤفك عنه من أفك، على البناء للفاعل. أى: من أفك الناس عنه وهم قريش، وذلك أنّ الحي كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأى ليسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون له: احذره، فيرجع فيخبرهم.
وعن زيد بن على: يأفك عنه من أفك، أى: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضا: يأفك عنه من أفك، أى: يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرئ: يؤفن عنه من أفن، أى: يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا نهكه حلبا.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٠ الى ١٤]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم، كقوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن وقبح. والخرّاصون: الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون. وقرئ:
قتل الخراصين، أى: قتل الله فِي غَمْرَةٍ في جهل يغمرهم ساهُونَ غافلون عما أمروا به يَسْئَلُونَ فيقولون أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أى متى يوم الجزاء. وقرئ بكسر الهمزة وهي لغة.
فإن قلت: كيف وقع أيان ظرفا لليوم، وإنما تقع الأحيان ظروفا للحدثان؟ قلت: معناه:
أيان وقوع يوم الدين. فإن قلت: فبم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟ قلت: بفعل مضمر دل عليه السؤال، أى: يقع يوم هم على النار يفتنون. ويجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة. فإن قلت: فما محله مفتوحا؟ قلت: يجوز أن يكون محله نصبا بالمضمر الذي هو يقع، ورفعا على هو يوم هم على النار يفتنون. وقرأ ابن أبى عيلة بالرفع يُفْتَنُونَ يحرقون ويعذبون. ومنه الفتين: وهي الحرّة، لأن حجارتها كأنها محرقة ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ في محل الحال، أى: مقولا لهم هذا القول هذَا مبتدأ، والَّذِي خبره، أى: هذا العذاب هو الذي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم، أى: ذوقوا هذا العذاب.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
397
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لكل ما أعطاهم راضين به، يعنى أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو متلقى بالقبول مرضى غير مسخوط، لأن جميعه حسن طيب. ومنه قوله تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أى يقبلها ويرضاها مُحْسِنِينَ قد أحسنوا أعمالهم، وتفسير إحسانهم ما بعده ما مزيدة. والمعنى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل إن جعلت قليلا ظرفا، ولك أن تجعله صفة للمصدر، أى: كانوا يهجعون هجوعا قليلا. ويجوز أن تكون ما مصدرية أو موصولة، على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه. وارتفاعه بقليلا على الفاعلية «١». وفيه مبالغات لفظ الهجوع، وهو الفرار من النوم «٢». قال:
قد حصت البيضة رأسى فما أطعم نوما غير تهجاع «٣»
وقوله قَلِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ لأن الليل وقت السبات والراحة، وزيادة ما المؤكدة لذلك:
(١). ذكر الزمخشري فيه وجهين أن تكون ما زائدة وقليلا ظرف منتصب بيهجعون، أى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل. أو تكون ما مصدرية أو موصولة على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. أو ما يهجعون فيه، وارتفاعه بقليلا على الفاعلية» قال أحمد: وجوه مستقيمة خلا جعل ما مصدرية، فان قليلا حينئذ واقع على الهجوع، لأنه فاعله. وقوله مِنَ اللَّيْلِ لا يستقيم أن يكون صفة للقليل ولا بيانا له، ولا يستقيم أن يكون «من» صلة المصدر لأنه تقدم عليه، ولا كذلك على أنها موصولة، فان قليلا حينئذ واقع على الليل، كأنه قال: قليلا المقدار الذي كانوا يهجعون فيه من الليل، فلا مانع أن يكون مِنَ اللَّيْلِ بيانا للقليل على هذا الوجه، وهذا الذي ذكره إنما تبع فيه الزجاج. وقد رد الزمخشري أن تكون ما نفيا وقليلا منصوب بيهجعون على تقدير: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل، وأسند رده إلى امتناع تقدم ما في حيز النفي عليه. قلت: وفيه خلل من حيث المعنى، فان طلب قيام جميع الليل غير مستثنى منه الهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود. ثم قال: وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا اسحروا شرعوا في الاستغفار. كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. قال: وقوله هُمْ معناه: هم الأحقاء بالاستغفار دون المصرين. قال: وفي الآية مبالغات منها لفظ الهجوع وهو الخفيف الفرار من النوم.
قال: وقوله: قَلِيلًا وقوله مِنَ اللَّيْلِ لأنه وقت السبات. قال: ومنها زيادة ما في بعض الوجوه. قلت: وفي عدها من المبالغة نظر، فإنها تؤكد الهجوع وتحققه، إلا أن يجعلها بمعنى القلة فيحتمل.
(٢). قوله «وهو الفرار من النوم» في الصحاح: الفرار بالكسر: النوم القليل اه. (ع)
(٣).
قد حصت البيضة رأسى فما أطعم نوما غير تهجاع
أسعى على جل بنى مالك كل امرئ في شأنه ساع
لقيس بن الأسلت. وحصت: أهلكت أو حلقت، البيضة التي تلبس على الرأس في الحرب، أى حلقت شعر رأسى من دوام لبسها للحرب. وشبه النوم بالمطعوم لاستلذاذ مباديه على طريق المكنية، وأطعم: أى أتناول تخييل لذلك والتهجاع: التغافل قليلا لطرد النوم، فالاستثناء منقطع. وجلهم: مهم أمورهم ومعظمها كالغارات يدفعها عنهم.
وروى: على حبل بنى مالك، وعليه فشبه العهد بالحبل للتوثق والتوصل بكل على طريق التصريحية، أى: أسعى في شأنى متمسكا بعهدهم، وعلى الأول فقوله «كل امرى في شأنه ساع» فيه دلالة على إلزام نفسه بشأنهم، وأنه شأنه
398
وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقوله هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه. فإن قلت: هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم، وأن يكون المعنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلا، ويحيونه كله؟ قلت: لا، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب، ولا تقول. زيدا ما ضربت:
السائل: الذي يستجدى وَالْمَحْرُومِ الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان» قالوا: فما هو؟ قال «الذي لا يجد ولا يتصدق عليه» «١» وقيل: الذي لا ينمى له مال. وقيل: المحارف «٢» الذي لا يكاد يكسب.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي مدحوّة كالبساط لما فوقها كما قال الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها، وهي مجزأة: فمن سهل وجبل وبر وبحر: وقطع متجاورات: من صلبة ورخوة، وعذاة «٣» وسبخة، وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال: من الوحشي والإنسى والهوام، وغير ذلك لِلْمُوقِنِينَ الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وإيقانا إلى إيقانهم وَفِي أَنْفُسِكُمْ في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق: ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوّى في الأعضاء
(١). أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة.
(٢). قوله «وقيل المحارف» في الصحاح: رجل محارف، بفتح الراء: أى محدود محروم، خلاف قولك:
مبارك اه. (ع)
(٣). قوله «وعذاة» في الصحاح «العذاة» : الأرض الطيبة التربة، والجمع عذوات. (ع)
من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا «١» شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل، فتبارك الله أحسن الخالقين.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ هو المطر، لأنه سبب الأقوات. وعن سعيد بن جبير: هو الثلج وكل عين دائمة منه. وعن الحسن: أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم وَما تُوعَدُونَ الجنة: هي على ظهر السماء السابعة تحت العرش.
أو أراد: أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به في العقبى كله مقدر مكتوب في السماء. قرئ:
مثل ما بالرفع صفة للحق، أى حق مثل نطقكم، وبالنصب على: إنه لحق حقا مثل نطقكم.
ويجوز أن يكون فتحا لإضافته إلى غير متمكن. وما مزيدة بنص الخليل، وهذا كقول الناس:
إن هذا لحق، كما أنك ترى وتسمع، ومثل ما إنك هاهنا. وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى ما توعدون. وعن الأصمعى: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابى على قعود له فقال: من الرجل؟ قلت: من بنى أصمع. قال:
من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل علىّ، فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بى بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابى قد نحل واصفر، فسلم علىّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: فورب السماء والأرض إنه لحق، فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين، قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)
(١). قوله «إذا جسا شيء منها» في الصحاح: جست اليد وغيرها جسوا وجساء: يبست اه. (ع) [.....]
400
هَلْ أَتاكَ تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي. والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم، لأنه في الأصل مصدر ضافه، وكانوا اثنى عشر ملكا. وقيل: تسعة عاشرهم جبريل. وقيل ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وملك معهما. وجعلهم ضيفا، لأنهم كانوا في صورة الضيف: حيث أضافهم إبراهيم. أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وإكرامهم: أنّ إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى أو أنهم في أنفسهم مكرمون. قال الله تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. إِذْ دَخَلُوا نصب بالمكرمين إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم، وإلا فبما في ضيف من معنى الفعل. أو بإضمار اذكر سَلاماً مصدر سادّ مسدّ الفعل مستغنى به عنه. وأصله: نسلم عليكم سلام، وأمّا سَلامٌ فمعدول به إلى الرفع على الابتداء. وخبره محذوف، معناه: عليكم سلام، للدلالة على ثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذا بأدب الله تعالى. وهذا أيضا من إكرامه لهم.
وقرئا مرفوعين. وقرئ: سلاما قال سلما. والسلم: السلام. وقرئ: سلاما قال سلم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام. أو أراد: أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم، كما لو أبصر العرب قوما من الخزر «١» أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم، أو كان هذا سؤالا لهم، كأنه قال: أنتم قوم منكرون، فعرفوني من أنتم فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفى أمره «٢»، وأن يباده بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره. قال قتادة:
كان عامة مال نبى الله إبراهيم: البقر فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. والهمزة في أَلا تَأْكُلُونَ للإنكار:
أنكر عليهم ترك الأكل. أو حثهم عليه فَأَوْجَسَ فأضمر. وإنما خافهم لأنهم لم يتحرّموا بطعامه «٣»
(١). قوله «قوما من الخزر» في الصحاح: الخزر: جيل من الناس. والأخزر: ضيق العين صغيرها، كما أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «فيه إشارة لاختفائه من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفى أمره... الخ» قال أحمد:
معنى حسن، وقد نقل أبو عبيد أنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية. ونقل أبو عبيد في قوله عليه السلام:
«إذا كفى أحدكم خادمه حر طعامه فليقعده معه، وإلا فليروغ له لقمة» قال أبو عبيد: يقال روغ اللقمة وسغبلها وسغسغها ومرغها: إذا غمسها فرويت سمنا قلت: وهو من هذا المعنى، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى ومن مقلوبه: غور الأرض والجرح وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، والله أعلم.
(٣). قوله «لأنهم لم يتحرموا بطعامه» في الصحاح «الحرمة» : ما لا يحل انتهاكه، وقد تحرم بصحبته اه.
وهو يفيد أن التحرم مراعاة الحرمة، من حيث لا يحل انتهاكها. (ع)
401
فظن أنهم يريدون به سوءا. وعن ابن عباس: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعن عون بن شداد: مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمّه بِغُلامٍ عَلِيمٍ أى يبلغ ويعلم. وعن الحسن: عليم: نبىّ، والمبشر به إسحاق، وهو أكثر الأقاويل وأصحها، لأن الصفة صفة سارّة لا هاجر، وهي امرأة إبراهيم وهو بعلها. وعن مجاهد: هو إسماعيل فِي صَرَّةٍ في صيحة، من: صر الجندب، وصرّ القلم والباب، ومحله النصب على الحال، أى: فجاءت صارّة. قال الحسن: أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء، وقيل: فأخذت في صرة، كما تقول: أقبل يشتمني.
وقيل: صرتها قولها: أوه. وقيل: يا ويلتا. وعن عكرمة: رنتها «١» فَصَكَّتْ فلطمت ببسط يديها. وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب عَجُوزٌ أنا عجوز، فكيف ألد كَذلِكَ مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به قالَ رَبُّكِ أى إنما نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين. وروى أنّ جبريل قال لها: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣١ الى ٣٧]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلا في بعض الأمور قالَ فَما خَطْبُكُمْ أى: فما شأنكم وما طلبكم إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلى قوم لوط حِجارَةً مِنْ طِينٍ يريد: السجيل، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة مُسَوَّمَةً معلمة، من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به. وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب.
وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا. سماهم مسرفين، كما سماهم عادين، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم: حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم. الضمير في فِيها للقرية، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة. وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام واحد، وأنهما صفتا مدح. قيل:
هم لوط وابنتاه. وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. وعن قتادة: لو كان فيها
(١). قوله «رنتها» في الصحاح «الرنة» الصوت: ، يقال: رفت المرأة رنينا وأرنت أيضا: صاحت. (ع)
أكثر من ذلك لأنجاهم، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله آيَةً علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم. قال ابن جريج: هي صخر منضود فيها. وقيل: ماء أسود منتن.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠)
وَفِي مُوسى عطف على وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ أو على قوله وَتَرَكْنا فِيها آيَةً على معنى:
وجعلنا في موسى آية كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فازورّ وأعرض، كقوله تعالى وَنَأى بِجانِبِهِ وقيل: فتولى بما كان يتقوّى به من جنوده وملكه. وقرئ: بركنه، بضم الكاف وَقالَ ساحِرٌ أى هو ساحرلِيمٌ
آت بما يلام عليه من كفره وعناده، والجملة مع الواو حال من الضمير في فأخذناه.
فإن قلت: كيف وصف نبى الله يونس صلوات الله عليه بما وصف به فرعون في قوله تعالى فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ؟ قلت: موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها، وكذلك مقترف الصغيرة. ألا ترى إلى قوله تعالى وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ لأنّ الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
الْعَقِيمَ التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر، وهي ريح الهلاك. واختلف فيها: فعن على رضى الله عنه: النكباء. وعن ابن عباس: الدبور. وعن ابن المسيب: الجنوب.
الرميم: كل ما رم أى بلى وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥)
حَتَّى حِينٍ تفسيره قوله تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فاستكبروا عن امتثاله. وقرئ: الصعقة وهي المرّة، من مصدر صعقتهم الصاعقة: والصاعقة النازلة نفسها وَهُمْ يَنْظُرُونَ كانت نهارا يعاينونها. وروى أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرّتهم فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله تعالى فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وقيل: هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٦]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
وَقَوْمَ قرئ بالجر على معنى: وفي قوم نوح وتقوّيه قراءة عبد الله: وفي قوم نوح. وبالنصب على معنى: وأهلكنا قوم نوح، لأنّ ما قبله يدل عليه. أو واذكر قوم نوح.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
بِأَيْدٍ بقوّة. والأيد والآد: القوّة. وقد آد يئيد وهو أيد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ لقادرون، من الوسع وهو الطاقة. والموسع: القوى على الإنفاق. وعن الحسن: لموسعون الرزق بالمطر.
وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة فَنِعْمَ الْماهِدُونَ فنعم الماهدون نحن.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٩]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أى من كل شيء من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ذكرا وأنثى. وعن الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار، والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة، فعدّد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أى فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أى إلى طاعته وثوابه «١» من معصيته وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به
(١). قال محمود: «معنى ففروا إلى الله، أى: إلى طاعته من معصيته وإلى ثوابه... الخ» قال أحمد:
حمل الآية ما لم تحمله، لأنه لا يكاد يخلى سورة حتى يدس في تفسيرها بيده إلى معتقده، فدس هاهنا القطع بوعيد الفساق وبخلودهم كالكفار، ولا تحتمل الآية لما ذكر، فان العناية في قوله فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الفرار إلى عبادة الله فتوعد من لم يعبد الله، ثم نهي عابده أن يشرك بعبادة ربه غيره، وتوعده على ذلك. وفائدة تكرار النذارة الدلالة على أنه لا تنفع العبادة مع الاشراك، بل حكم المشرك حكم الجاحد المعطل، لا كما قال الزمخشري: المأمور به في الأول الطاعة الموظفة بعد الايمان، فتوعد تاركها بالوعيد المعروف له وهو الخلود. وعلى هذا لا يكون تكرارا على اختلاف الوعيدين، فهو أولى، فكيف يحمل الآية على خلاف ما هو أولى بها، ليتم الاستدلال بها على معتقده الفاسد، نعوذ بالله من ذلك.
شيئا، وكرّر قوله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ عند الأمر بالطاعة والنهى عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أنّ العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما. ألا ترى إلى قوله تعالى لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً والمعنى: قل يا محمد: ففرّوا إلى الله.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣)
كَذلِكَ الأمر، أى مثل ذلك، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرا ومجنونا، ثم فسر ما أجمل بقوله ما أَتَى ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بأتى، لأنّ ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو قيل: لم يأت، لكان صحيحا، على معنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا أَتَواصَوْا بِهِ الضمير للقول، يعنى: أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعا متفقين عليه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أى لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان، والطغيان هو الحامل عليه.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن الذين كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، وعرفت عنهم العناد واللجاج، فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أى تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا. وروى أنه لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حزن رسول الله ﷺ واشتد ذلك على أصحابه، ورأوا أنّ الوحى قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر، فأنزل الله. وذكر.
[سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٦]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
أى: وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها «١». فإن قلت: لو كان مريدا «٢» للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادا؟ قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)
يريد: أنّ شأنى مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفي ربحا. أو مرتب في فلاحة ليعتلّ أرضا. أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته. أو محتطب. أو محتش. أو طابخ. أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأمّا مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنىّ عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي الْمَتِينُ الشديد القوة. قرئ بالرفع صفة لذو، وبالجر صفة للقوّة على تأويل الاقتدار، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة: أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء. وقرئ:
الرازق. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: إنى أنا الرازق.
(١). قال محمود: «إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها... الخ» قال أحمد: من عاداته أنه إذا استشعر أن ظاهرا موافق لمعتقده نزله على مذهبه بصورة إيراد معتقد أهل السنة سؤالا، وإيراد معتقده جوابا، فكذلك صنع هاهنا، فنقول: السؤال الذي أورده مما لا يجاب عنه بما ذكره، فانه سؤال مقدماته قطعية عقلية، فيجب تنزيل الآية عليه، وهي أن ظاهر سياق الآية دليل لأهل السنة، فإنها إنما سيقت لبيان عظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فان عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة، وبواسطة مكاسب عبيدهم قدر أرزاقهم. والله تعالى لا يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما، وإنما يطلب منهم عبادته لا غير، وزائد على كونه لا يطلب منهم رزقا أنه هو الذي يرزقهم، فهذا المعنى الشريف هو الذي تحلى تحت راية هذه الآية، وله سيقت، وبه نطقت، ولكن الهوى يعمى ويصم، فحاصله: وما خلقت الجن والانس إلا لأدعوهم إلى عبادتي، وهذا ما لا يعدل عنه أهل السنة، فانه وافق معتقدهم وبالله التوفيق.
(٢). قوله «لو كان مريدا العبادة» قد يقال: لا يلزم من خلقهم العبادة أن يريدها من جميعهم. وقوله «مع كونه مريدا لها» هذا على مذهب المعتزلة من أن إرادة الله الفعل من العبد بمعنى الأمر. وأما مذهب أهل السنة فكل ما أراده الله كان، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، وتحقيقه في علم التوحيد. (ع)

[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
الذنوب: الدلو العظيمة، وهذا تمثيل، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. قال:
لنا ذنوب ولكم ذنوب... فإن أبيتم فلنا القليب «١»
ولما قال عمرو بن شاس:
وفي كل حى قد خبطت بنعمة... فحقّ لشاس من نداك ذنوب «٢»
قال الملك: نعم وأذنبه. والمعنى: فإنّ الذين ظلموا رسول الله ﷺ بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون. وعن قتادة:
سجلا من عذاب الله مثل سجل أصحابهم مِنْ يَوْمِهِمُ من يوم القيامة. وقيل: من يوم بدر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا «٣».
(١).
إنا إذا شاربنا شريب... له ذنوب ولنا ذنوب
فان أبى كان له القليب
الشريب من يشرب معك. والذنوب: الدلو الممتلئة ماء، والنصيب من الماء. والذنابة: مسيل الماء. والقلب البئر لقلب ترابه. يقول: إنا كرام نشاطر شريبنا، فان لم يرض بالمناوبة أعطيناه الجميع. وروى بدل المصراعين
الأخيرين: لنا ذنوب ولكم ذنوب... فان أبيتم فلنا القليب
ولعل الصواب: فان أبى أو فان أبيتم فلنا، لئلا ينكر البيت. والمعنى: نقول لمن يشرب معنا ذلك، ففيه دلالة على الشجاعة والغلبة. والشريب كالعشير: يطلق على الواحد والمتعدد.
(٢).
وأفت الذي آثاره في عدوه... من البؤس والنعمى لهن ندوب
وفي كل حى قد خبطت بنعمة... فحق لشاس من نداك ذنوب
لشاس أخى علقمة بن عبيدة، يخاطب الحرث بن أبى شمر الغساني وكان أسيرا عنده. والندوب- في الأصل-:
آثار الجراح بعد برئها. ومن بيانية، أى: آثاره التي هي البؤس والنعمى. أو ابتدائية، أى: الناشئة منهما، لهن بقايا في عدوه. والبؤس: الشدة، والنعمى: الرخاء. والخابط: الذي يخبط مواضع الفقراء يتفقد أحوالهم من غير تخصيص، ثم قيل لكل طالب: خابط ومختبط. ويجوز أن يكون من قولهم: خبط الشجرة، ليسقط ورقها للإبل والغنم فاستعار في نفسه الورق للأموال، والخبط تخييل والمعنى أنه شجاع كريم، بأسه أوهن الأعداء ونعمته ظهرت عليهم بل على جميع الناس وشاس من وضع الظاهر موضع المضمر لإظهار المسكنة والاستعطاف:
قيل: إن القائل عمرو بن شاس، فوضع الظاهر في موضعه. ولما سمع الحرث ذلك قال: نعم وأذنبته، وكسا شاسا ومن معه، وأركبهم وأطلقهم، ولما استعار الندى للعطاء رشح ذلك بالذنوب: وهو الدلو الممتلئة.
(٣). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
Icon