ﰡ
وهي: أربعون وخمس آيات كلها مكية، غير آيتين: قوله تعالى وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. ويقال: كلها مكية
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (١) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)قوله تعالى: المر قال ابن عباس: أنا الله أعلم وأرى، ويقال: معناه أنا الله أعلم وأرى ما تحت العرش إلى الثرى، وما بينهما. ويقال: أنا الله أعلم وأرى ما لا يعلم الخلق، وما لا يرى. ويقال: أنا الله أعلم، وأرى ما يعملون ويقولون. ويقال: هذا قسم أقسم الله به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ قال قتادة: يعني: التي قبل القرآن، من التوراة والإنجيل وَالَّذِي يعني: القرآن أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني: الكتب التي قبل القرآن، والقرآن الذي أُنزل إليك، كله من الله تعالى وهو الحق، والإيمان به واجب. وقال ابن عباس: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني: تلك «آيات القرآن». ومعناه: هذه آيات الكتاب. وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني: القرآن.
ويقال: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني: الأحكام والحجج والدلائل وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني:
جبريل، ليقرأ عليك من ربك الحق. يعني: اتبعوه واعملوا به. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني: أهل مكة لاَ يُؤْمِنُونَ يعني: لا يصدقون أنه من الله تعالى.
فلما ذكر أنهم لا يؤمنون، بيّن في الدلائل التي توجب التصديق بالخالق، فقال تعالى:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يعني: ليس لها عمد ترونها، يعني: بلا عمد تبصرونها، وهذا قول الحسن وقتادة: وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير: معناه، «لها عمد، ولكن لا ترونها. يعني: أنتم ترونها بغير عمد في المشاهدة، ولكن لها عمد». وكلا التفسيرين معناهما واحد، لأن من قال: إن لها عمداً ولكن لا ترونها، يقول: العمد هو قدرة الله تعالى التي تمسك السموات والأرض.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال ابن عباس: «كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض»، وقد ذكرناه من قبل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني: ضوء الشمس بالنهار، وضوء
تصدقون بالبعث.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣ الى ٤]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ يعني: بسط الأرض من تحت الكعبة على الماء، وكانت تكفي بأهلها كما تكفي السفينة، فأرساها الله بالجبال الثقال، وهو قوله تعالى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ يعني: الجبال الثوابت من فوقها وَأَنْهاراً يعني: خلق في الأرض أنهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني: خلق فيها من ألوان كلّ الثمرات جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني: خلق من كل شيء لونين من الثمار، حلواً وحامضاً. ومن الحيوان ذكراً وأنثى.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يعني: يعلو الليل على النهار، ويعلو النهار على الليل، واقتصر بذكر أحدهما إذا كان في الكلام دليل عليه. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر:
يُغْشِي بنصب الغين، وتشديد الشين. وقرأ الباقون: بالجزم والتخفيف. ثم بيّن أن ما ذكر من هذه الأشياء، فيه برهان وعلامات لمن تفكر فيها، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: فيما ذكر من صنعه لَآياتٍ يعني: لعبرات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في اختلاف الليل والنهار، فيوحّدونه.
ثم بيّن أن في الأرض علامات كثيرة، ودلائل كثيرة لوحدانيته، لمن له عقل سليم فقال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ يعني: بالقطع الأرض السبخة، والأرض العذبة.
مُتَجاوِراتٌ يعني: ملتصقات متدليات قريبة بعضها من بعض، فتكون أرضا سبخة، وتكون إلى جنبها أرض طيبة جيدة. وقال قتادة: قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي: قرى متجاورات، ويقال:
العمران، والخراب، والقرى والمفاوز. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ يعني: الكروم وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ قرأ بعضهم: بضم الصاد. وقراءة العامة: بالكسر. وهما لغتان ومعناهما واحد. قال مجاهد وقتادة: الصنوان النخلة التي في أصلها نخلتان، وثلاث أصلهن واحد. وقال الضحاك: يعني: النخل المتفرق والمجتمع ويقال: صِنْوانٌ النخلة التي بجنبها نخلات وَغَيْرُ صِنْوانٍ يعني: المنفردة. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لاَ تُؤْذُونِي فِي العَبَّاسِ، فإِنَّهُ
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ كلها بالضم على معنى الابتداء. وقرأ الباقون: بالكسر على معنى النعت للجنات، ويقال: على وجه المجاورة، لأن الزرع لا يكون في الجنات.
ثم قال: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ يعني: أن الماء والتراب واحد، وتكون الثمار مختلفة في ألوانها وطعومها، فدلّ على نفسه وبراهينه على من ضلّ عنه، لأنه لو كان ظهور الثمار بالماء والتراب، لوجب في القياس أن لا تختلف الألوان والطعوم، ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا ثبت في مغرس واحد، وسقي بماء واحد، ولكنه صنع اللطيف الخبير. وقال مجاهد: هذا مثل لبني آدم، أصلهم من أب واحد، ومنهم صالح ومنهم خبيث.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: فيما ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أنه من الله تعالى.
قرأ حمزة والكسائي: يُسْقى بالياء ويفضّل بالياء، وقرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين: يُسْقى بالياء بلفظ التذكير، وَنُفَضِّلُ بالنون. وقرأ الباقون: تُسْقَى بالتاء وَنُفَضِّلُ بالنون.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٥]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥)
ثم قال تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ قال الكلبي: يعني: إن تعجب من تكذيب أهل مكة لك، وكفرهم بالله، فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ يقول: أعجب من ذلك قولهم. أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وقال مقاتل: وَإِنْ تَعْجَبْ مما أوحينا إليك من القرآن، فعجب. قولهم:
أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إكذاباً منهم بالبعث. قرأ الكسائي: أإذا بهمزتين على وجه الاستفهام. وقرأ عاصم وحمزة كليهما: بهمزتين. وقرأ أبو عمرو: آيِذَا بهمزة واحدة مع المد، وكذلك في قوله: أَيُّنَا بالمد. وقرأ ابن كثير: أَيِذَا بالياء، وكذلك أَيُّنَا، وقرأ ابن عامر إيذا كُنَّا بهمزة واحدة بغير استفهام، أَيُّنَا بالهمزة والمد. قال: لأنهم لم يشكوا في الموت، وإنما شكوا في البعث، فينبغي أن يكون الاستفهام في الثاني دون الأول.
ثم قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يعني: جحدوا بوحدانية الله تعالى وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يعني: تغل أيمانهم على أعناقهم بالحديد في النار وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي: دائمون فيها، ولا يخرجون منها.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦)
بالعذاب قبل العافية وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ يعني: قد مضت من قبلهم العقوبات والنقمات قبل قريش فيمن هلك، وأصل المثلة: الشبه وما يعتبر به، وجمعه المثلات وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ يقول: تجاوز لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ يعني: على شركهم إن تابوا. ويقال: بتأخير العذاب عنهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن مات منهم على شركه.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٧ الى ٨]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني: هلا أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم علامة من ربه لنبوته.
قال الله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ يعني: مخوفا ومبلغا لهذه الأمة الرسالة وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال الكلبي: داعٍ يدعوهم إلى الضلالة، أو إلى الحق. وقال الضحاك: يعني: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وأنا الهادي. وقال سعيد بن جبير الهادي هو الله. وقال عكرمة: محمد صلّى الله عليه وسلّم هو النذير، وهو الهادي. يعني: يدعوهم إلى الهدى. وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ وقال مجاهد: يعني: لكل قوم نبي. قرأ ابن كثير: هَادِيَ بالياء عند الوقف، وكذلك قوله: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ [الرعد: ٣٧] وقرأ الباقون: بغير ياء.
قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ذكراً أو أُنثى، وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام سوياً أو غير سوي. ثم قال: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعني: ما تنقص الأرحام من تسعة أشهر في الحمل وَما تَزْدادُ يعني: على التسعة أشهر في ذلك الحمل وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ قال قتادة:
«رزقهم وأجلهم»، وقال ابن عباس: «من الزيادة، والنقصان، والمكث في البطن، والخروج، كل ذلك بمقدار قدره الله تعالى، فلا يزيد ولا ينقص على ذلك». وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعني: «الحامل إن ترى الدم نقص من الولد، وإن لم تر الدم يزيد في الولد». وروى أسباط عن السدي قال: «إن المرأة إذا حملت واحتبس حيضها، كان ذلك الدم رزقاً للولد. فإذا حاضت على ولدها خرج وهو أصغر من الذي لم تحض عليه» وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وهي الحيضة التي على الولد، وَما تَزْدادُ. فحين يستمسك الدم، فلا تحيض وهي حبلى. قال الفقيه: هذا الذي قال السدي، إن الحامل تحيض، إنما هو على سبيل المجاز، لأن دم الحامل لا يكون حيضاً. ولكن معناه: إذا سال منها الدم فيكون ذلك استحاضة.
قال: حدّثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا ابن خزيمة. قال: حدثنا عليّ. قال: حدثنا
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٩ إلى ١٢]
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢)
ثم قال تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني: ما غاب عن العباد وما شاهدوه. ويقال:
عالم بما كان، وبما لم يكن. ويقال: عالم السر والعلانية الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ يعني: هو أكبر وأعلى من أن تكون له صاحبة وولد.
قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ يعني: سواء عند الله من أسر القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ يعني: من أخفى العمل، ومن أعلن بالعمل وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ يعني: في ظلمة الليل وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي: منصرف في حوائجه. يقال: سَرَبَ يَسْرُبُ إذا انصرف، ومعناه:
المختفي، والظاهر عنده سواء. وقال مجاهد: المستخفي بالمعصية، والسارب يعني: الظاهر بالمعاصي لَهُ مُعَقِّباتٌ قال ابن عباس: «له حافظات» مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني: بأمر الله حتى ينتهوا به إلى المقادير. فإذا جاءت المقادير، خلوا بينه وبين المقادير المعقبات يعني: الملائكة يعقب بعضهم بعضاً في الليل والنهار، إذا مضى فريق يخلفه بعده فريق. وروي عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة لَهُ مُعَقِّباتٌ قال: الملائكة يتعاقبون بالليل والنهار يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني: بأمر الله. ويقال: للمؤمن طاعات وصدقات يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي: من عذاب الله عند الموت، وفي القبر، وفي يوم القيامة.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ يعني: لا يبدل ما بقوم من النعمة التي أنعمها عليهم حَتَّى يُغَيِّرُوا يقول: يبدلوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ بترك الشكر. قال مقاتل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ يعني: كفار مكة، نظيرها في الأنفال: ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ [الأنفال: ٥٣]، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وأطعمهم من جوع، وأمنهم من خوف، فلم يعرفوها، فغيّر ما بهم، فجعل ذلك لأهل المدينة. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: في الآية تنبيه لجميع الخلق، ليعرفوا نعمة الله عليهم، ويشكروه لكيلا تزول عنهم النعم.
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً يعني: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم الحاضر، ويقال: خَوْفاً لمن يخاف ضرر المطر، وَطَمَعاً لمن يحتاج إلى المطر، لأن المطر يكون لبعض الأشياء ضرراً، ولبعضها رحمة.
ثم قال: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ يعني: يخلق السحاب الثقال من الماء.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤)
قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ يعني: بأمره. قال: حدثنا عمرو بن محمد. قال:
حدثنا أبو بكر الواسطي. قال: حدّثنا إبراهيم بن يوسف. قال: حدثنا وكيع، عن عمرو بن أبي زائدة أنه قال: سمعت عكرمة يقول: «الرعد ملك يزجر السحاب بصوته كالحادي بالإبل».
وروى وكيع، عن المسعودي، عن سلمة بن كهيل، أنه سئل عن الرعد فقال: «هو ملك يزجر السحاب». وسئل عن البرق فقال: «هو مخاريق بأيدي الملائكة». وسئل وهب بن منبه عن الرعد فقال: «ثلاث ما أظن أحداً يعلمهن إلاَّ الله عَزَّ وَجَلَّ: الرعد، والبرق، والغيث، وما أدري من أين هن، وما هن». فقيل له: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء قال: نعم. ولا ندري أنزل من السماء أو من السحاب، فتلقحت فيه، أو يخلق في السحاب فيمطر، وسمى السحاب سماء. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الرعد فقال: «هُوَ مَلِكٌ فِي السَّمَاءِ، وَاسْمُهُ الرَّعْدُ، وَالصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ هوُ زَجْرُ السَّحَابِ، وَيُؤَلِّفُ بَعْضُهُ إِلى بَعْضٍ فَيَسُوقُهُ» «١».
ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ يقول: يسبح الملائكة كلهم خائفين لله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وهي نار من السماء لا دخان لها فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ من خلقه وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ قال ابن عباس يعني: الله تعالى، شَدِيدُ الْمِحالِ. ويقال: أصله في اللغة الحيلة، وقال قتادة: يعني: الحيلة والقوة لله. ويقال: هو شديد القدرة والعذاب.
ويقال: الْمِحالِ في اللغة هو الشدة. وقال بعضهم: هو كناية عن الذي يجادل، ويكون معناه فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يعني: يصيبهم في حال جدالهم. وقال مجاهد: جاء يهودي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أخبرني من أي شيء ربك، أمن لؤلؤ هو؟
قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ يعني: كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، يدعو الخلق إليها.
ويقال معناه: له على العباد دعوة الحق أن يدعوه فيجيبهم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني:
الأصنام والأوثان لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يقول: لا ينفعهم بشيء إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ يعني:
كمادٍ يديه إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ والعرب تقول لمن طلب شيئاً لا يجده: هو كقابض الماء.
يعني: كمن هو مشرف يدعو الماء بلسانه، ومشرف يدعو الماء بلسانه فلا يجيبه أبداً، أو يشير باليد وَما هُوَ بِبالِغِهِ يقول: فلا يناله أبداً. وقال مجاهد: كالذي يشير بيده إلى الماء، فيدعوه بلسانه، فلا يجيبه أبداً. هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك الذي عبد مع الله إلها آخر، أنه لا يجيبه الصنم ولا ينفعه، كمثل العطشان الذي ينظر إلى الماء من بعيد ولا يقدر عليه وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ يقول: ما عبادة أهل مكة إِلَّا فِي ضَلالٍ يضل عنهم، إذا احتاجوا إليه في الآخرة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الخلق طَوْعاً وَكَرْهاً قال قتادة: أما المؤمن فيسجد لله طائعاً، وأما الكافر فيسجد كرهاً، ويقال: أهل الإخلاص يسجدون لله طائعين، وأهل النفاق يسجدون له كرهاً- ويقال: من ولد في الإسلام يسجد طَوْعاً ومن سبي في دار الحرب يسجد كَرْهاً «٢» - ويقال: يَسْجُدُ لِلَّهِ يعني: يخضع له مَن فِى السموات والأرض، ولا يقدر أحد أن يغير نفسه عن خلقته وَظِلالُهُمْ يعني: تسجد ظلالهم،
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٦ الى ١٧]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (١٧)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: قل يا محمد لأهل مكة من خالق السموات والأرض؟ فإن أجابوك وإلا ف قُلِ اللَّهُ.
ثم قال: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: أفعبدتم غيره لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي: كما لا يستوي الأعمى والبصير، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. ويقال: الْأَعْمى الجاهل الذي لا يتفكر، ولا يرغب في الحق، وَالْبَصِيرُ العالم الذي يتفكر، ويرغب في الحق. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أي: كما لا تستوي الظلمات والنور، فكذلك لا يستوي الإيمان والكفر. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر يَسْتَوِي بلفظ التذكير، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ التأنيث، لأن تأنيثه ليس بحقيقي، فيجوز أن يذكر ويؤنث، ولأن الفعل مقدم على الاسم.
ثم قال: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يعني: بل جعلوا لله شركاء من الأصنام. ويقال: معناه أجعلوا لله شركاء، والميم صلة. ثم قال: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعني: هل خلق الأوثان خلقاً كما خلق الله فاشتبه عليهم خَلَقَ الله تَعَالَى مِنْ خلق غيره؟ فلما ضرب الله مثلاً لآلهتهم سكتوا.
قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قل يا محمد، الله عز وجل خالق جميع الموجودات وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني: الذي لا شريك له القاهر لخلقه، القادر عليهم. ثم ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل، لأن العرب كانت عادتهم أنهم يوضحون الكلام بالمثل، وقد أنزل الله تعالى القرآن بلغة العرب، فأوضح لهم الحق من الباطل بالمثل فقال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَآء يعني: المطر فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها يعني: سال في الوادي الكبير بقدره، وفي الوادي الصغير بقدره، فشبه القرآن بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، وشبه الهدى بالسيل فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً يعني: عالياً على الماء. فشبه الزبد بالباطل يعني: احتملته القلوب
ثم ضرب مثلاً آخر بالذهب والفضة، فقال تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ من الذهب والفضة ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ يعني: التماس حِلْيَةٍ تلبسونها، يخرج منها الخبث، ويبقى الذهب والفضة خالصاً.
ثم ضرب مثلاً آخر فقال: أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يعني: النحاس والحديد والصفر يزول عنها الخبث، ويبقى الصفر والحديد خالصاً، فيتخذ منها المتاع. فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، كما يضمحل هذا الزبد، ويبقى خالص الماء، وخالص الذهب والفضة والحديد والصفر فكذلك يضمحل الباطل عن أهله. وكما يمكث الماء في الأرض ويخرج نباتها، وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار، فكذلك يبقى الحق وثوابه لصاحبه. وقال القتبي في قوله: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل. يقول الحق: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلا، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، مثل مطر سال في الأودية بقدرها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي: عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق. ومن جواهر الأرض التي تدخل الكور، توقدون عليها، يعني: الذهب والفضة للحلية. أَوْ مَتاعٍ يعني: الشبه والحديد والآنك يكون للآنية، له خبث يعلوها مثل زبد الماء. فأما الزبد، فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر، وكنبات الوادي، وكذلك خبث الفلز يعني: الجوهر يقذفه، فهذا مثل الباطل. وأما ما ينفع الناس وينبت المرعى، فيمكث في الأرض. فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحاً فهو مثل الحق.
ثم قال: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ على وجه التقديم والتأخير. يعني: هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل. ويقال: معناه هكذا يبيّن الله الحق من الباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ على معنى التقديم والتأخير، وقد ذكرناه من قبل كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ يعني: يبيّن الله الأشباه، ويوضح الطريق، ويقيم الحجة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٨]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)
ثم قال: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ يعني: لم يجيبوه، ولم يطيعوه في الدنيا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يوم القيامة وَمِثْلَهُ مَعَهُ يعني: وضعفه معه لَافْتَدَوْا بِهِ يقول: لفادوا به أنفسهم مِن العذاب، ولو فادوا به لا يقبل منهم أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ يعني: شديد العقاب. ويقال: سُوءُ الْحِسابِ المناقشة في الحساب. وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال:
أتدرون ما سوء الحساب؟ قالوا لا. قال هو الذنب يحاسب عليه العبد ثم لا يغفر له. وعن الحسن أنه سئل عن سوء الحساب قال: يؤخذ العبد بذنوبه كلها فلا يغفر له منها ذنب.
ثم قال: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي: مصيرهم ومرجعهم إلى جهنم وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني:
الفراش من النار، ويقال: بئس موضع القرار في النار.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥)
قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ يعني: يعلم أن القرآن الذي أنزل من الله تعالى هو الحق كَمَنْ هُوَ أَعْمى يعني: كمن هو لا يعلم. ويقال: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أن ما ذكر من المثل حق كمن لا يعلم. وهذا كقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٢٦] يعني: المثل. ويقال: أَفَمَنْ يَعْلَمُ يقول: أفمن يرغب في الحق أي يعلم، أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق كَمَنْ هُوَ أَعْمى يعني: كمن لا يرغب فيه ثم قال:
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: يتعظ بما أنزل إليك من القرآن ذوو العقول من الناس، وهم المؤمنون.
ثم وصفهم فقال تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يعني: العهد الذي بينهم وبين الله تعالى، والعهد الذي بينهم وبين الناس وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ يعني: الميثاق الذي أخذ عليهم يوم الميثاق. ويقال: يعني: الميثاق الذي أخذ على أهل الكتاب في كتابهم.
قوله: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يعني: يصلون الأرحام ولا يقطعونها،
شدّة الحساب.
قوله: وَالَّذِينَ صَبَرُوا يعني: صبروا عن المعاصي، وصبروا عن أداء الفرائض، وصبروا على المصائب والشدائد، وصبروا على أذى الكفار والمنافقين ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ يعني: صبروا على ما ذكر ابتغاء مرضاة الله تعالى وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني: أتموها بركوعها وسجودها في مواقيتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني: من الأموال سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني:
يتصدقون في الأحوال كلها، ظاهراً وباطناً. ويقال: مرة يتصدقون سراً مخافة الرياء، ومرة يتصدقون علانية لكي يقتدى بهم. ويقال: يتصدقون صدقة التطوع في السر، ويتصدّقون صدقة الفريضة في العلانية وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يقول: يدفعون بالكلام الحسن السيئة. يعني:
الكلام القبيح، فهذا كله صفة ذوي الألباب، وهم الذين استجابوا لربهم.
ثم بيّن ثوابهم ومرجعهم في الآخرة فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ يعني: هؤلاء لهم الجنة، وهم المهاجرون والأنصار، ومن كان في مثل حالهم إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ يعني: ومن آمن وأطاع الله تعالى مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ يدخلون أيضاً جنات عدن وهذا كقوله: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور:
٢١] وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ويسلمون عليهم، ويقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ على أمر الله تعالى وطاعته فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ يعني: نعم العاقبة الجنة. فقد بيّن حال الذين استجابوا لربهم، والذين يعلمون أن الذى أُنزِلَ إليك هو الحق.
ثم بيّن حال الذين لم يستجيبوا له، وهم الذين ينقضون الميثاق، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ يعني: من بعد تأكيده وتغليظه، يعني: بعد إقرارهم بالتوحيد يوم الميثاق وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يعني: الأرحام. ويقال: الإيمان بالنبيّين وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالدعاء إلى عِبادة غير الله تعالى أي عبادة الأوثان م أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللعنة يعني: يلعنهم في الدنيا والآخرة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني: سوء المرجع. ويقال: لَهُمُ اللَّعْنَةُ. يعني: هم مطرودون من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني: عذاب النار في الآخرة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٢٦]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦)
قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يعني: يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، وَيَقْدِرُ يعني: يقتر في الرزق. يعني: يختار للغني الغنى، وللفقير الفقر في رزق الله تعالى، لأنه يعلم أن صلاحه فيه. وروي عن ابن عباس أنه قال: «إن الله تعالى خلق الخلق، وهو بهم
ثم قال: وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يقول: استأثروا الحياة الدنيا عَلَى الاخرة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ يعني: الدنيا بمنزلة الأواني التي لا تبقى مثل السكرجة والزجاجة، وأشباه كل ذلك التي يتمتع بها ثم يذهب، فكذلك هذه الدنيا تذهب وتفنى. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ كَمَثَلِ ماء يجعل أحدكم إصبعه فِي اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجعُ». وقال مجاهد: إِلَّا مَتاعٌ أي: قليل ذاهب، وهكذا قال مقاتل.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني: هلا أنزل عليه آية من ربه، يعني: علامة لنبوته قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يعني: من عباده عن الهدى، يعني: إذا لم يرغب فيه وَيَهْدِي إِلَيْهِ يعني: يرشد إلى دينه مَنْ أَنابَ يعني: من رجع إلى الحق. ويقال:
رجع عن الشرك.
ثم قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا هذا مقرون بالأول، يعني: ويهدي الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ يعني: تسكن قلوبهم وترضى بِذِكْرِ اللَّهِ يعني: إذا ذكروا الله تعالى بوحدانيته، آمنوا به غير شاكين. وقال الكلبي: يعني: وتسكن وترضى قلوبهم لمن يحلف لهم بالله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ يعني: تسكن وترضى قلوب المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا يعني: صدَّقوا بالله وبمحمد وبالقرآن، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الطاعات طُوبى لَهُمْ يعني: غبطة لهم. قال مجاهد: طُوبى لَهُمْ يعني: الجنة. ويقال: طُوبى شجرة في الجنة.
قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل. قال: حدثنا محمد بن جعفر. قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف. قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي اليسر، عن أبي أوفى، عن مغيث بن سمي في قوله تعالى طُوبى لَهُمْ قال: «طوبى شجرة في الجنة ليس لأهل الجنة من دار إلا ويظلّهم غصن من أغصانها، - قال ابن عباس: طُوبى شجرة في الجنة ساقها من ذهب، الورقة منها تغطي الدنيا، ليس في الجنة منزل إلا وفيه غصن من أغصانها «٢» -. وقال أبو
(٢) ما بين معقوفتين ساقط في النسخة: «ب».
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٠]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
قوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ يقول: هكذا بعثناك في أمة كما بعثنا إلى من كان قبلك من الرجال في الأمم الخالية قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ يعني: قد مضت من قبل قومك أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ يعني: أرسلناك لتقرأ عليهم الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ يعني: يجحدون ويكذبون، وذلك أن عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه قالوا: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب.
قال الله تعالى: قُلْ هُوَ رَبِّي يعني: قل يا محمد، الرحمن الذي تكفرون به هو الله ربي الذى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني: فوضت أمري إليه وَإِلَيْهِ مَتابِ يعني: وإليه أتوب وأرجع.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣١]
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وذلك أن عبد الله بن أمية وغيره من كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سيّر لنا جبال مكة ذهباً وفضة حتى نعلم أنك صادق في مقالتك، أو قرب أسفارنا كما فعل سليمان بن داود بريحه، أو كلم موتانا كما فعل عيسى بدعائه، فنزل وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ عن أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ غُدُوُّهَا شَهْرٌ، وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فلم يذكر جوابه، لأن في الكلام دليلاً عليه. يعني: لو فعلنا ذلك بقرآن قبل قرآن محمد صلّى الله عليه وسلّم، لفعلنا ذلك بقرآن محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويقال: لو فعل أحد من الأنبياء ما سألتموني، لفعلت لكم، ولكن الأمر إلى الله تعالى، أن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، فذلك قوله تعالى:
بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ويقال: معناه، ولو أن قرانا سيرت به الجبال عن أماكنها، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى، لم يؤمنوا به، وهذا كقوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الأنعام: ١١١] الآية إلى قوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [الأنعام: ١١١] بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إن شاء هدى من كان أهلاً لذلك، وإن شاء لم يهد من لم يكن أهلاً لذلك.
وروى ابن أبان بإسناده عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ أَفَلَمْ يَتَبَيَّنَ للذين آمنوا فقيل له: إنها أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا فقال: «إني أرى الكاتب كتبها وهو ناعس». وروي في خبر آخر: أن نافع بن الأزرق، سأل ابن عباس عن قوله: أَفَلَمْ يَيْأَسِ قال: أفلم يعلم الذين آمنوا. وقال ابن عباس: أما سمعت مالك بن عوف وهو يقول:
قد يئس الأقوام أني أنا ابنه | وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا |
نكبة وشدة. ويقال: قارِعَةٌ داهية تقرع، ويقال: لكل مهلكة قارعة، ويقال: نازلة تنزل لأمر شديد. فالمراد هنا: سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأتيهم، وتصيبهم من ذلك شدة أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ يعني: تنزل أنت يا محمد بجماعة أصحابك قريباً من دارهم، يعني: من مكة، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سار بجنوده حتى أتى عسفان، ثم بعث مائتي راكب حتى انتهوا قريباً من مكة، ثم قال: حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ يعني: فتح مكة. قالوا: هذه الآية مدنية.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي: بفتح مكة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٣٢]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢)
قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ بك قومك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أمهلتهم بعد الاستهزاء، ولم أعاقبهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب عند المعصية بالتكذيب، فأهلكتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ يعني: فكيف رأيت إنكاري وتعييري عليهم بالعذاب؟ لم ير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقوبتهم، إلا أنه علم بحقيقته فكأنه رأى عيانا.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٣٤)
قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يقول: هو الله القائم على كل نفس برة وفاجرة بالرزق لهم، والدفع عنهم، وجوابه مضمر، يعني: كمن هو ليس بقائم على ذرة، وهذا كقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَّ يَخْلُقُ [النحل: ١٧] ثم قال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يعني:
قالوا ووصفوا لله شركاء. وقال مقاتل: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ يقول: يعني: السواء أنا القائم
ثم قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لاَ يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ يعني: تخبرونه بما علم أنه لا يكون.
ويقال: معناه أتشركون معه جاهلاً لا يعلم ما فِى الارض. ويقال: معناه أتخبرون الله بشيء لا يعلم من آلهتكم. يعني: يعلم الله أنه ليس لها في الأرض قدرة أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ يعني:
أتقولون قولاً بلا برهان ولا حجة. ويقال: بباطل من القول. يعني: إن قلتم إن لها قدرة لقلتم باطلاً. وقال قتادة: الظاهر من القول الباطل، وكذلك قال مجاهد.
ثم قال: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ يقول: ولكن زين للذين كفرُوا من أهل مكة كفرهم، وقولهم الشرك وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ بنصب الصاد. يعني: إن الكافرين صدوا الناس عن دين الله الإسلام. وقرأ الباقون:
وَصُدُّوا بضم الصاد على فعل ما لم يسم فاعله. مثل قوله: فَزَيَّنَ لَهُمُ [فاطر: ٨].
ثم قال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني: من يخذله الله عن دينه الإسلام، ولا يوفقه فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: ما له من مرشد إلى دينه غير الله تعالى.
قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
يعني: لهم في الدنيا الشدائد والأمراض.
ويقال: عند الموت. ويقال: القتل على أيدي المسلمين، والغلبة عليهم وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
يعني: أشدّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
يعني: ملجأ يلجئون إليه يقيهم من عذاب الله.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧)
قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ قال بعضهم: المثل هنا أراد به الصفة، ولم يرد به التشبيه، لأنه قد ذكر من قبل حديث الجنة، وهو قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى [الرعد: ١٨] وقال بعد ذلك: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [الرعد: ٢٣] ثم بيّن هاهنا صفة الجنة.
يعني: صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، الذين يتقون الشرك، والفواحش. روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقرأ أمثال الجنة التى وُعِدَ المتقون يعني: صفاتها وأحاديثها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ يعني: حملها ونعيمها لا ينقطع عنهم أبداً وَظِلُّها
ثم قال: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني: تلك الجنة، جزاء الذين اتقوا الشرك والفواحش وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ يعني: مصيرهم وجزاؤهم النار.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي: التوراة يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهم مؤمنو أهل الكتاب، يعجبون بذكر الرحمن وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ يعني: أهل مكة ينكرون ذكر الرحمن، ويقولون: ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، يعنون: مسيلمة الكذاب. ويقال: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ يعني: مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ينكر ما كان فيه نسخ شرائعهم قُلْ يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ يعني: أمرت أن أقيم على التوحيد وَلا أُشْرِكَ بِهِ شيئاً.
ثم قال: إِلَيْهِ أَدْعُوا يقول: أدعو الخلق إلى توحيده وَإِلَيْهِ مَآبِ يعني: المرجع في الآخرة.
ثم قال: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن أنزلنا جبريل ليقرأ عليك القرآن حُكْماً يعني:
القرآن حكماً على الكتب كلها. ويقال: محكماً عَرَبِيًّا يعني: القرآن بلغة العرب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ قال الكلبي: يعني: لئن صليت إلى قبلتهم، نحو بيت المقدس بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يعني: من بعد ما أتاك العلم بأن قبلتك نحو الكعبة. ويقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ يعني: أهل مكة فيما يدعونك إلى دين آبائك بعد ما ظهر لك أن الإسلام هو الحق مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ يعني: من عذابه مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا واقٍ يقيك من عذاب الله، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أصحابه.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وذلك أن اليهود عيّروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا:
لو كان هذا نبيّاً كما يزعم، لشغلته النبوة عن تزوج النساء. فنزل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ يا محمد وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً قال الكلبي: كَانَ لِسُلَيْمَانَ بنِ دَاودَ عليه السلام ثلاثمائة امرأة مهرية، وتسعمائة سرية، وكان لداود مائة امرأة.
ثم قال: وَما كانَ لِرَسُولٍ يعني: ليس ينبغي لرسول أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلى قومه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: بأمر الله تعالى. ويقال: معناه ما كان أحد يقدر أن يأتي بآية من الآيات إلا بإذن الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي: لكل أجل من آجال الدنيا كتاب مكتوب، لا يزاد عليه، ولا ينقص
ثمّ قال تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ روى شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن قريشاً لما نزلت هذه الآية وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الرعد: ٣٨] قالوا: ما نراك يا محمد تملك من شيء، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت هذه الآية تخويفاً، ووعيداً لهم. فإنّا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما نشاء، فيمحو الله مَا يَشَآءُ، وَيُثْبِتُ ما يشاء من أرزاق العباد، ومصايبهم فيما يعطيهم وبما يرزقهم ويقسم لهم «١». وروى وكيع عن الأعمش، عن أبي وائل إنه كان يقول في دعائه: «اللَّهم إن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، وإن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء. فإنك تمحو ما تشاء، وتثبت ما تشاء، وعندك أم الكتاب».
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ «إلا الشقاوة والسعادة والموت والحياة» «٢». وروى منصور عن مجاهد أنه قال: «الشقاوة والسعادة لا يتغيران». ويقال: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ يعني: من أعمال بني آدم، وما كتبت الحفظة ما ليس فيه جزاء خير ولا شر وَيُثْبِتُ ما فيه جزاء خير أو شر. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن الحفظة إذا رفعت ديوان العبد، فإن كان في أوله وآخره خير، يمحو الله ما بينهما من السيئات، وإن لم يكن في أوله وآخره حسنات، يثبت ما فيه من السيئات». وقال مقاتل:
يَمْحُوا اللَّهُ يعني: ينسخ الله ما يشاء من القرآن، وَيُثْبِتُ يقول: ويقر المحكم الناسخ ما يشاء فلا ينسخه. ويقال: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ يعني: المعرفة عن قلب من يشاء وَيُثْبِتُ في قلب من يشاء. وهو مثل قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [الرعد: ٢٧]- وفي آية أخرى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ أي يمحو من الشرائع والكتب الممحوّة: التوراة، والإنجيل والزبور، والمثبت هو القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا القول هو المختار «٣» - ويقال:
يقضي على العبد البلاء، فيدعو العبد، فيزول عنه كما روي في الخبر «الدُّعَاءُ يَرُدُّ البَلاَءَ».
ثم قال تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يعني: أصل الكتاب وجملته، وهو اللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء قبل أن يخلقهم.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَإِنْ مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢)
(٢) عزاه السيوطي: ٤/ ٦٥٩ إلى عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.
(٣) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
ثم قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني: نفتحها من نواحيها.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هُوَ ذَهَابُ العُلَمَاءِ». وقال ابن عباس: «ذهاب فقهائها، وخيار أهلها». وعن ابن مسعود نحوه. وقال الضحاك: أو لم ير المشركون أنا ننقصها من أطرافها يعني: يأخذ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما حولهم من أراضيهم وقراهم وأموالهم، أفهم الغالبون؟ يعني: أو لا يرون أنهم المغلوبون والمنتقصون؟ وعن عكرمة. أنه قال: الأرض لا تنقص، ولكن تنقص الثمار، وينقص الناس. وعن عطاء أنه قال: «هو موت فقهائها وخيارها». وقال السدي: يعني:
ينقص أهلها من أطرافها، ولم تهلك قرية إلا من أطرافها. يعني: تخرب قبل، ثم يتبعها الخراب. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يقول: لا راد لحكمه، ولا مغير له، ولا مرد لما حكم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالنصر والغنيمة وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ إذا حاسب فحسابه سريع.
قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: صنع الذين من قبلهم كصنيع أهل مكة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني: يجازيهم جزاء مكرهم، وينصر أنبياءه، ويبطل مكر الكافرين. ثم قال: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ برّة أو فاجرة وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ يعني: الجنة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ٤٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا يعني: كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وسائر اليهود. ويقال: يعني، أهل مكة قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يقول: كفى بالله شاهداً بيني وبينكم على مقالتكم وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يعني: ومن آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وأصحابه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لأنهم وجدوا نعته وصفته في كتبهم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ بجزم الثاء والتخفيف. وقرأ الباقون: بنصب الثاء، وتشديد الباء ومعناهما واحد. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: وسيعلم الكافر بلفظ الجماعة. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ وَمَنْ عِنْدَهُ بالكسر،
وَسَيَعْلَمْ الذين كَفَرُواْ. وقال عبد الله بن مسعود: هذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بعد ذلك بمدة، فكيف يجوز أن يكون المراد به عبد الله بن سلام؟ وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ: بالكسر. وقرأ بعضهم وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب بضم العين، وكسر اللام، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: هذه الآية مدنية، وكان يقرأ وَمَنْ عِنْدَهُ بالنصب والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.