تفسير سورة الحجر

القطان
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

ربما: بتشديد الباء وتخفيفها، تفيد التقليل. ذرهم: اتركهم.
﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ﴾.
الف، لام، را... من هذه الأحرف تتالف آيات الكتاب المعجزة، وهي القرآن الواضح المبين الذي يبَين لمن تأملَه وتدبَّره رُشدَه وهُداه.
﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾.
سيأتي يتمنّى فيه الذين كفروا لو كانوا مسلمين في دار الدنيا، وهو يومُ القيامة عندما يَرَوْنَ العذاب، لكن هذا التمني لن يفيدَهم شيئا.
قراءات:
قرأ نافع وعاصم: «ربما» بفتح الباء بدون تشديد. والباقون: «ربما» بالتشديد.
﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾.
دعهم أيها الرسول في غفلَتِهم، يأكلون، ويتمتعون في شهواتهم ولذّاتهم، وتُلهيهم الآمال.. فسوف يعلمون سوءَ أعمالهم عندما يرون العذاب. وفي هذا وعيدٌ شديد.
﴿وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾.
إننا لم نُهلك أيّاً من الأمم السابقة إلاّ بعد أجلٍ مقدّر لا يُنسى ولا يُغفل. هذه سنّة الله الماضية التي لا تتخلّف، وهلاكُ الأمم مرهون بآجالها، وهذا ما أكده بقوله تعالى:
﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾.
فلا يغرَّنَّهم تخلُّفُ العذاب عنهم فترةً من الزمن، فإن أجَلهم آتٍ لا يسبقونه ولا يتأخرون عنه.
الذكر: القرآن. منظرين: مؤخرين. في شيع: في جماعات مفرده شيعة. نسلكه: ندخله. يعرجون: يصعدون. سكرت: سدت ومنعت من الابصار. بروجا: منازل الشمس والقمر. شهاب: شعلة من نار، والشهبُ ما ترى ليلا تتساقط من السماء.
﴿وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾.
وقال بعض كفار قريش مستهزئين بالرسول الكريم: يا أيّها الرجلُ الذي زعم أنّه نُزّلَ عليه القرآن إنك لمجنون.
وقال «مقاتِل» : إن الذين قالوا ذلك هم: عبدُ الله بن أمية، والنضرُ بن الحارث، ونوفل بن خُلويلد، والوليدُ بن المغيرة من زعماء قريش.
﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾.
إن كانت ما تدّعيه حقاً وقد أيَّدك اللهُ وأرسلك، فلماذا لا تسأل اللهَ ان يُنزِل معك ملائكة من السماء يشهدون بصِدق نبوَّتِك؟ ويتكرر طلبُ نزول الملائكة لا تنزِلُ على الرسول إلاّ لهلاِك المكذِّبين من قومه حين ينتهي الأجلُ المَعلوم فقال:
﴿مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ﴾.
إنّنا لا نُنزل الملائكةَ إلاّ عندما نقرِّر أمراً له أهميته، ويكون قد مضى الأجلُ وحقَّ القولُ على الكافرين، ولو أنزلْنا الملائكةَ لأهلكنا أولئك الكافرين، ولم يكونوا مؤخَّرين.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص «ما ننزل الملائكة» بنونين وبنصب الملائكة. وقرأ ابو بكر «ما تنزل الملائكة» بالتاء والفعل يبنى للمجهول ورفع الملائكة. وقرأ الباقون: «ما تنزل الملائكة» بفتح التاء ورفع الملائكة.
ثم أجاب الله تعالى عن إنكارِهم تنزيلَ القرآن واستهزائهم بالرسول الكريم بقوله:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
ان هذه من الآيات الجلية، والقرآن كلّه جليل عزين، وفيها تحدّ كبير لكن معاند، وطمأنينةٌ للمؤمنين. فالله سبحانه وتعالى يمنُّ علينا بأن هذا القرآن من عنده، وهو حافظٌ له، لم يَكِلْ حِفظه لغيره، فهو ذِكرٌ حيٌّ خالد مصون من التحريف والزيادة والنقصان، وهو باقٍ محفوظ لا يندثر ولا يتبدّل. والتحدي قائمٌ لكل معاند.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾.
ولا تحزن أيها الرسول، فقد أرسلنا قبلك رسُلاً إلى أُممٍ قد مضت، وما أتى رسولٌ أمةً إلا كذّبوه وستهزأوا به. وفي هذا تسليةٌ للرسول الكريم عما أصابه من سَفَهِ قومه، بأن هذا دأبُ الأمم المكذِّبة لِرُسُلها من قبل.. فلقد أصابهم مثلُ ما أصابك، وقد نَصَرْنا رسُلنا وسننصرك انت والمؤمنين، فَطِبْ نَفْساً ولا يَضِيقنَّ صدرُك بما يقولون.
﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين﴾.
وكا كانت حالُ الأمم الماضية حين أُنزلتْ عليهم الكتبُ من الملأ الأعلى فأصُّروا على الكفر والاستهزاء بالرسُل - كذلك نلقي القرآنَ في قلوب المجرمين من بين قومك وهو غيرُ مقبولٍ لديهم، لأنهم أجرموا بإصرارهم على الكفر فلم يؤمنوا به.
296
وقد مضت سنّةُ الله في إمهالهم، وهكذا تجدنا نفعلُ باللاحقين كما فعلنا بالسابقين.
ثم بين الله تعالى عظيم عنداهم ومكابرتهم للحق فقال:
﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾.
ولو فتحنا على هؤلاء المعاندين باباً من السماء يصعَدون فيه بأجسامِهم ويَرَوْن مَنْ فيها من الملائكة، وما فيها من العجائب- لقالوا لِفَرْطِ عنادهم، انما سُدَّتْ أبصارُنا، فما نراه تخيُّلٌ لا حقيقةَ له، وقد سَحَرَنا محمدٌ با يَظْهرُ على يده من الآيات، وظلّوا في عنادِهم ومكابَرَتِهم سادِرين.
قراءات:
قرأ ابن كثير: «سُكرِت» بالتخفيف، والباقون بالتشديد كما هو في المصحف.
﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾.
بعد بيان مكابرة المعاندين، وانهم لا يؤمنون حتى بالأشياء المحسوسة، عَرَضَ هنا الآيات الكونية، وما فيها من إبداعٍ لمن يفكّر ويُبْصِر.
لقد أبدْعنا هذا الكونَ، وجعلنا في السماء أشكالاً عديدةً من النجوم، منها تلك البروجُ الظاهرة للعيان، البديعةُ، الدالَّةُ على جَمال هذا الكون، وحُسنِ نظامه وزينّاها بالكواكب للناظِرين المعتبرين والمفكرين.
فهلاّ نظر أولئك المعاندون إلى هذه السماء وما فيها من بروج ظاهرة، ونجومٍ ساطعة وأقمار نّيرة، ومجَرّات عظيمة، فإن فيها عبرةً لمن اعتبر!
﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾.
ولقد حفظنا السماءَ ومنعنا كلَّ شيطانٍ رجيم من القرب منها، فلا ينالُها ولا يدنِّسها، ولكن من أرادَ من هؤلاء الشياطين ان يَستَرِقَ الاستماع من عالم الغيب، فنحن نلحقه بشهاب مشتعل محرق، فهم أعجَزُ من ان يَصِلوا إليها.
297
مددناها: بسطناها. رواسي: هي الجبال الثابتة. موزون: مقدر. فانزلنا: فأعطينا. لواقح: جمع لاقح. معناها حوامل للماء، ومعنى آخر لانها تلقح النباتات والشجر. المستقدمين: الذين ماتوا. المستأخرين: الاحياء الذين لم يموتوا بعد.
﴿والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾.
وخلقنا لكم الأرضَ ومهّدناها حتى صارت كالبساط الممدود، ووضعنا فيها جبالاً راسياتٍ ثابتة، وأنبتْنا لكم فيها من كلّ أنواعِ النبات ما يحفَظ حياتكم، وجعلناه مقدَّراً بأزمانس معيَّنة في نموِّه وغذائه، ومقدِّرا بمقدار حاجتكم، في أشكاله في الخلْق والطبيعة.
وتقرر هذه الآية حقيقةَ كونيةً لم تُعرَفْ الا في العصور الأخيرة، وهي ان كلَّ صنفٍ من المبات أفرادُه متماثلة من الوجهة الظاهرية، وكذلك في التناسُق الداخلي، التوازنُ دقيق فيكل أجهزِة النبات المختلفة، وكذلك بين الخلايا لتحقيق الغرض الذي وُجدت من أجْله.
﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾.
وجلعنا لكم في الأرضِ أسبابَ المعيشة الطيّبة من غذاءٍ وماءٍ، ولباسٍ ودواء، ومعادنَ تنفعون بها، وغيرِ ذلك مما لا يُعَدّ ولا يُحصى. وكما أن فيها أسبابَ المعيشة الطيّبة ففيها المعيشةُ لمن يكونون في وَلايتكم من عيالٍ وأبتاع، فاللهُ وحدَه يرزقُهم وإياكم، فكلُّ أولئك رِزْقُهُم على خالِقهم لا عليكم.
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾.
وما من شيء ينتفعُ به العبادُ من المصادرِ والموارد إلا هو موجودٌ عندنا مخزون، وما نعطيه الا بقدَر معلومٍ وحسْبَ مشيئِتنا وحاجةِ الخلق اليه.
ثم فصّل بعض ما في خزائنه من النعم فقال:
﴿وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾.
وقد أرسل الله تعالى الرياحَ بالماءِ تحملُه، فتحيي الأمطار الخلقَ والأرض وتعطيها حياةً جديدة، فتُزهرُ بكلّ لونٍ بهيج، ويشرب منها الإنسانُ ويسقي زرعه وحيوانه.
والخلاصة: نحن القادرون على ايجاد الماء وخزنه في السحاب وإنزاله مطراً، وما أنتم على ذلك بقادرين، لأنه في دورة مستمرة، يبتخر من البحر والأرض، ثم تحمله السحب فينزل على الارض ويعود الى البحر.
وقد زاد بعض المفسرين معنى آخر لكملة لواقح فقالوا: إن الرياح تحمل اللقاح من شجرةٍ الى شجرة، ومن نبته الى أختها، وهذا ايضا لم يكن معروفا في الازمان السابقة، فيكون هذا ايضا من معجزات القرآن الكريم.
قراءات:
قرأ حمز وحده: «وارسلنا الريح» بالإفراد، والباقون بالجمع كما هو في المصحف.
بعد ان ذكر الله تعالى نظم المعيشة في هذه الحياة بين ان الحياة والموت بيده وانه هو الحي الباقي يرث الارض ومن عليها.
﴿وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون﴾.
ان كل شيءٍ في هذه الحياة مَرْجِعُه الى الله، الحياةُ والموتُ بيده، وسيموت الخلقُ جميعا ولا يبقى حي سواه.
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام﴾ [الرحمن: ٢٧ - ٢٨].
﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين﴾.
ولقد عَلِمْنا من مضى منكم وأحصيناهم وما كانوا يعملون، وعَلِمْنا من هو حيّ ومن سيأتي بعدكم، فلا تخفى علينا أحوالكم ولا أعمالكم.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾.
وسيجمع الله المتقدِّمين والمتأخرين جميعاً عنده يومَ القيامة وإليه المصيرُ، حيث يجازي كّلاً بما عمل، وهو حكيم يقدّر لكل أمةٍ أجَلَها بحكمته، ويعلم متى تموت ومتى تُحشر.
من صلصال: من طين يابس غير مطبوخ. من حمأ: طين اسود. مسنون: يمكمن تصويره على هيئة الانسان، وله معنى آخر وهو المتغير. الجان: الجن وهم نوع من الخلق لا نراهم. نار السموم: النار الشديدة الحرارة. سويته: اتممت خلقه. نفخت فيه من روحي: جعلت فيه الحياة.
بعد جولة طويلة في بيان تنزيل الذِكر، وتنزيلٍ الملائكة، ورجْمِ الشياطين، وتنزيلِ الماء من السماء؛ ثم ذِكر ما في هذا الكون من مشاهدَ وعجائب كالسماء والكواكب والبروج والشهُب والأرض والجبال والنبات والرياح؛ وبعد ضربِ الأمثلة على المكابرة من الكفّار المعاندين- بعد هذا كِلّه يأتي الحديثُ عن قصة البشرية وخلْقِ الإنسان والجانّ بطبيعتين مختلفتين، وقصة الهدى والضلال. وقد عُرضت هذه القصةُ في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف، وفي كل مرة لها عَرْضٌ مخلتف وجوٌّ خاص، يلائم السياقَ ويتمشى مع الغرض المطلوب. وهنا يركز سبحانه على سِرّ التكوين في آدم، وسرّ الهدى والضلال وعوامِلهما الأصلية في كيان الانسان:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾.
نحن في خلْقِنا للعالمين في هذه الأرض خلقنا طبيعتين: خلَقْنا الانسان من طينٍ يابس يصلصل ويصوِّت عند نقرِه. ﴿والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم﴾ أما عالمُ الجن فقد خلقناه من قبلِ آدم من نار السَّموم الشديدةِ الحرارة.
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾.
أذكر ايها النبي إذ قال ربُّك للملائكة إني سأخلقُ بشَراً من طينِ هذه الارض.
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾.
فإذا اكملتُ خلْقه، وشرَّفتُه على سائر المخلوقات ونفختُ فيه من روحي، (وبهذه النفخة العلوية فرَّقتُ بينه وبينّ سائر الأحياء، ومنحتُه خصائصهَ الإنسانية، حيث تصِلُه بالملأ الاعلى، وتجعلُه أهلاً للاتصال بالله) فاسجثدوا له سجودَ تحيةٍ واكرام، لا سجودَ عبادةٍ.... فإن العبادةَ لله وحده.
﴿فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين﴾.
فسدوا جميعاً خاضعين لامرِ الله، الا إبليس رفض اني يسجُد واستكبر أن يكونَ مع الملائكة الآخرين.
رجيم: مرجوم، مطرود من كل خير يوم الدين: يوم القيامة. فأنظِرني: فامهلين. يوم القوت المعلوم: يوم القيامة. جزء مقسوم: لكل فريق من اتباع ابليس جزء معين في جهنم.
﴿قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين﴾.
قال الله تعالى: ما منعكَ يا إبليسُ ان تسجد مع الساجدين؟.
﴿قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾.
قال إبليس، وقد ركبه الغُرور والاستكبار، إنه لن يسجدَ لبشرٍ مخلوقٍ من طين، فهو خيرٌ من آدمَ، آدمُ مخلوق من طين، وإبليسُ مخلوق من نار، والنارُ خير من الطين.
﴿قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين﴾.
قال الله تعالى: فاخرجْ من الجنة، ، أنت مطرودٌ من رحمتي كنتَ فيه من الدرجات الرفيعة. لقد كتبتُ عليك اللعنةَ إلى يوم القيامة.
﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم﴾.
قال إبليس، وهو المتردُ على طاعة الله: يا رب، أمهِلْني الى يوم القيامة. فقال الله تعالى: إنك من المؤجَّلين الممْهَلين، إلى اليومِ المعلوم، يوم القيامة.
﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
قال ابليس: يا ربّي، بما امتَحَنْتَني به من الأمر بالسّجود لآدمَ، الأمر الذي أوقعني في العصيان، لأزيّنَنّ لبني آدم السوءَ والعصيان في هذه الأرض، وسأعمل كل شيء لإغوائهم وإضلالهم.
﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين﴾ ولن ينجو من إضلالي الا الذين أخلصوا لك من العباد.
فرد الله تعالى عليه بالتهديد والوعيد بقوله:
﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين﴾.
قراءات:
قرأ يعقوب: «صراط عليٌّ مستقيم» برفع، عليّ، صفة لصراط. والباقون «عَليَّ».
قال الله تعالى إن الإخلاصَ هو الصراط المستقيم، فمن سَلكَه نجا، إن عبادي الذين أخلَصوا لدينهم ليس لك قدرةٌ على إضلالهم، وأما من تَبعِكَ فإنه من الضّلين الغاوين ومصيرُهم جهنم.
﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
فعاقبتُهم جهنمُ يجتمع فيها كل من تَبعَ إبليس.
﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾.
وجهنمُ هذه ذات سبعة أبواب لكثرة من يرَدُها من المجرمين. ولكل باب طائفةٌ مختصة به، ولكل طائفة مرتبةٌ معلومة تتكافأ مع شرّهم.
ويقول عدد من المفسّرين ان لجنهم سبْعَ طباقات ينزلها مستحقّوها بحسب مراتبهم في الضلال وهي: جهنم والسعير ولظى والحُطَمة وسَقَر والجَحيم، والهاوية.
سرر: جمع سرير. نصب: تعب. نّبِّيءْ: خبِّرْ.
بعد ذِكر حال اهل الغواية، وعلى رأسهم ابليس، وما يلاقون يوم القيامة في جهنم - جاء ذِكُر حال المتقين، أهلِ الجنة، وما يتمتعون به من نعيم مقيم.
﴿إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾.
ان الّذين اتقَوا اللهَ وأطاعوا أوامره يتمتعون في جنّات تجري من تحتِها الأنهار، حيث يُقال لهم:
﴿ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾.
ادخُلوها وأنتم على احسن حال من الفرح والسعادة والأمن، فلا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون.
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾.
ولقد طهّرْنا قلوبَهم من الحسد والغِل والكراهية، فاجتمعوا فيها على المحبَّة والصفاء، يتنادمون على سرر متقابِلين، وتيزاورون ويتواصلون.
﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾.
لا يحلقُهم في تلك الجنّات مشقَّة ولا تعب، ونعيمُها دائم لا يخرجون منه ابدا.
﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم﴾.
وهذا ايضاً من اسلوب القرآن الحكيم، فان الله تعالى فَتَحَ بابَ الرحمة على مصراعيه وهو الغفور ذو الرحمة الواسعة، فنبئ يا محمدُ عبادي بذلك، وأخبرْهم ان العذابَ للعصاة المعاندين شديد أليم، فالترغيب والترهيب متلازمان دائما في اسلوب القرآن الكريم.
وجلون: خائفون. لا توجل: لا تخف. من القانطين: من اليائسين. ما خطبكم: ما شأنكم، ماذا تريدون. قدرنا: قضينا. الغابرين: الباقين في الهلاك.
﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ...﴾.
يتناول القرآن الكريم قصص الأنبياء والمرسَلين، ويذكر طرفاً من أخبارهم ومعجزاتهم، وليس الغرضُ من هذا القصص التاريخَ ولا استقراء الوقائع، وانما الغرضُ منه الهداية والعِبرة والعظة. ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب﴾ [سورة يوسف: ١١١].
وقد وردتْ قصةُ إبراهيم ولوطٍ في مواضعَ متعدّدة بأشكال متنوعة، تناسب السياقَ الذي وردت فيه، ووردتْ قصة لوط وحدَه في مواضع اخرى.
وهنا يقول الله تعالى: اخبرْني أيها النبيّ عن حال ضيف إبراهيم، عندما دخلوا عليه وسلّموا، فقال: إنّا منكم خائفون، فطمأنوه وقاولوا له: لا تخفْ، إنّا جئنا نبشّرك بغلام عليم. قال: كيف تبشّرونني بمولودٍ يولَد لي وأنا شيخٌ كبير السنّ، إنذ هذا الأمر لغيريب عجيب! فأجابوه مؤكدين ما بشّروه به: لقد بشّرناك بالحقٌ فلا تكنْ من القانِطين اليائسين. فقال إبراهيم، إنّي أيأسُ من رحمةِ الله، فإنه لا يقنَطُ من رحمة الله إلا الضالون.
ثم لما استأنس بهم وعرف أنهم جاؤوا بأمرٍ عظيم، واستفسر مهم فقال لهم: ما شأنكم بعد هذه البشرى أيّها المرسلون؟ قالوا: لقد أرسلَنا اللهُ تعالى الى قومٍ مجرمين في حقّ الله وحقِّ نبيِّهم وحق أنفسِهم، وسنهلكهم إلا آل لوط ومن اتّبعه فإنهم ناجون، دونَ امرأته (لأنها كفرتْ بالله ولم تتّبع زوجَها) فستكون من الماكثين في الهلاك مع القوم المجرمين.
قراءات:
قرأ نافع: «فبم تبشرونِ» وقرأ ابن كثير: «تبشرونِّ» بكسر النون مشددة. وقرأ الباقون: تشرونَ بفتح النون وقرأ ابو عمرو والكسائي: «ومن يقنط» بكسر النون، والباقون «يقنط» بفتح النون.
فاسر بأهلك: اذهب بهم ليلا. وابتع أدبارهم: وكن انت وراء اهلك. لعمرك: قسَم.
وبعد ان بشّر إبراهيم بالود وخبروه أنهم مرسَلون بعذاب قومٍ مجرمين، ذهبوا الى لوط. وبدأت المعركةُ بين لوطٍ وقومه حولَ هؤلاء الرسل.
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون...﴾.
ولما وصَل الملائكةُ إلى ديار لوط، لم يعرفهم لوط في بادئ الأمر، وقال لهمك إنكم قومٌ مُنْكَرون، ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ قولوا: لا تخفْ، إنا رسُلٌ من عندِ ربك، جئناك بأمرٍ يسرُّك، وهو إنزالُ العذاب بهؤلاء المجرمين.
ثم شرعوا يرتّبون له كيف ينجو هو وأَهلُه والمؤمنون معه قبل حولول العذاب بقومه، فقالوا له: سِرْ ليلاً بأهلكَ ومن آمنَ معك بعد مرور قِطْعٍ من الليل، وكُنْ خَلْفَهم حتى يتأكد من ان الجميع ساروا ونجوا، ولا يتلفتْ منكم أحدٌ خلفه، بل امضوا حيث يأمركم ربكم.
﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾.
وقدَّرنا ان هؤلاء المجرمين هالكون عن آخرهم عند دخول الصباح.
وعندما علم القومُ بوصول الرسُل وهم بهيئةٍ جميلة، أسرعوا نحوهم مستبشرين بمجيئهم الى مدينتهم طمعاً فيهم، فلما رآهم لوط مسرعين قال لقومه: إن هؤلاء الذي جئتم تريدون منهم الفاحشَة هم ضُيوفي، فلا تفضحوني فيهم، «واتقوا اللهَ ولا تُخزون»، اي خافوا عقاب الله ان يحل بكم.
فقال له قومه: أوَلَم نَنْهَكَ ان تُضيفَ أحداً من العالمين؟ فلما رآهم متمادين في غيِّهم، لا يرعَوُون عن غوايتهم، قال لهم لوط: هؤلاء بناتي وبناتُ القرية، يمكنكم ان تتزوّجوهن إن كنتم راغبين في قَضَاء الشهوة.
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾. بحقّ حياتك أيّها النبيُّ الأمين، انهم لفي غفلةٍ عما سينزل بهم، جعلتْهم كالسكارى يترددون ويتخبّطون، فلا يرجى ان يفيقوا ولا ان يسمعوا.
الصيحة: العذاب. مشرقين: عند شروق الشمس. من سجيل: حجارة من طين. للمتوسمين: للعقلاء اصحاب الفراسة. لبسبيل مقيم: بطريق واضح.
اصحاب الايكة: قوم شعيب. الايكة: الشجر اللملتف الكثيف. لبإمام مبين: بطريق واضح. وللامام معان كثيرة. اصحاب الحجر: هم ثمود قوم صالح، والحجر مكان في شمال الحجاز معروف للآن. الصفح الجميل: العفو.
ثم ذكر الله تعالى عاقبة أمر قوم لوط فقال:
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ﴾.
فنزل بهم العذابُ المنتظَر وقت شروق الشمس.
﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ﴾.
جزاء ظُلمهم جعل الله عاليَ المدينة سافلَها، أي أنه قلَبها، وأمطر عليهم حجارةً من طين متحجِّر، مع صيحةٍ عالية تصعق كلَّ من سمعها. ثم بين ان في هذا القصص عبرةً لمن اعتبر.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾.
ان ما فعلناه بقومٍ لوطٍ من الهلاك والتدمير لآياتٍ للّذين يعقِلون ويفكّرون ويعتبرون. ثم وجَّه انظار أهلِ مكة الى الاعتبار بها لو أرادوا ذلك فقال:
﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ﴾.
ان هذه المدينة - مدينة سدوم - التي اصابها العذابُ والتدمير تقع على طريق ظاهرٍ ثابت هو طريقكُم ونتم ذاهبون الى الشام، وآثارها باقية في البحر الميت كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٧-١٣٨].
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ان فيما فعلناه بقومِ لوط من الهلاك والدمار ونجاةِ لوطٍ وأهلِه لدلالةً للمؤمنين الصادقين.
وبعد ان ذكر قصص قوم لوط ابتعه بقصص قوم شعيب فقال:
﴿وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ فانتقمنا مِنْهُمْ﴾.
وإن قوم شعيبٍ، اصحابَ الغابة الكثيفة، كانوا ظالمين، فانتقمنا منهم وانزلنا عليهم العذابَ. وكذلك أهلُ مَدْيَنَ قد أخذتْهم الصيحة.
﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ﴾ يعني إن كلاً من مدينة لوط والأيكة واقعة على طريق ظاهر لكم تمر عليها قوافل قريش في ذهابهم الى الشام، فمن حقهم ان يعتبروا بآثارهم وهي باقية الى الآن.
ثم ذكر الله تعالى قصة صالح فقال:
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين﴾.
لقد كذّبت ثمود نبيهم صالحاً، ومن كذّب رسولاً واحدا من رسُل الله فكأنما كذب جميع المرسلين.
﴿وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾.
وأريناهم حُجَجَنا الدالةَ على نبوة صالح، منها الناقة وغيرها، فأعرضوا عنها، ولم يعتبروا بها.
﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ﴾.
ولا تزال آثارهم وبعض ما نحتوه في الجبال باقياً الى الآن في شمال الحجاز، ويُعرف المكانُ بمدائن صالح.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ﴾.
اهلكهم اللهُ بالصيْحة التي تصعق كل واحد منهم في وقت الصباح.
﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
ولم يدفع عنهم الهلاكَ الذي نزل بهم، ما كانوا يكسِبونه من أموال، ويتحصنون وراءه من حصون.
﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ فاصفح الصفح الجميل﴾.
وما خلقنا هذا الكون وما فيه الا بالعدل والانصاف والحكمة، وان الساعة لآتية يوم القيامة لا ريبّ في ذلك، فأعرضْ عنهم أيها النبي واصفحْ الصفح الجميل وخالقْهم بخلق حسن. ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم﴾.
ان ربك هو الذي خلقهم وخلق كل شيء.
سبعا من المثاني: سورة الفاتحة. وبعضهم يقولك انها سبع السور الطوال: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الانعام، الاعراف، ويونس. لا تمدن عينيك: لا تنظر او لا تَتَمنَّ. واخفض جناحك للمؤمنين: تواضع لهم. المقتسمين: اليهود والنصارى. عضين: اجزاء، مفردها عضة. فاصدع بما تؤمر: اجهر بِهِ. اليقين: الموت.
في ختام هذه السورة العظيم يمن الله على الرسول الكريم أنه اعطاه القرآنَ العظيم ومنه السبعُ المثاني، ويوصيه ان لا ينظر الى ما عند غيره، ويتواضع للمؤمنين، ثم يخلُص الى البيان السابق وهو أمرُ النبي ﷺ ان يجهرَ بالدعوة ولا يحزنَ عليهم ولا يضيقَ صدرُه بما يقولون، فان الله تعالى كفاه أمْرَهم، وسوف يعلمون، وأمَرَه ان يعبد ربه حتى ينتهي أجلُه من هذه الحياة.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾.
ولقد اكرمناك ايها النبي بسبع آياتٍ من القرآن هي سورةُ الفاتحة التي تكررها في كل صلاة. وهذه السورة لها مكانتها الخاصة، لانها تشتمل على مجمل ما في القرآن. فمقاصد القرآن هي: بيانُ التوحيد، وبيان الوعد والبشرى للمؤمنين، وبيانُ الوعيد والانذار للكافرين والمسيئين، وبيانُ السعادة في الدنيا والآخرة، وقصصُ الذين أطاعوا الله ففازوا، والذين عصَوا فخابوا.
والفاتحة تشتمل بطريق الايجاز والاشارة على هذه المقاصد ولذلك سميت «ام الكتاب» والسبع المثاني.
وبعد ان عرف الله رسوله عظيم نِعمه عليه، نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال:
﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
لا تتمنَّينَّ ايها الرسول ما جعلنا من زينة الدنيا متاعاً للاغنياء من اليهود والنصارى والمشرِكين، فإن هذا كله زائلٌ وزهيد بالنسبة لما أُوتيتَه من كمال الاتصال بنا ومن القرآن العظيم.
والخطاب تعليمٌ للمؤمنين، فقد رُوي أنه أتتْ من بُصرى الشام سبع قوافلَ لقريظة والنضير من اليهود في يوم واحد، فيها أنواعُ البضائع من الطيِّيب والجواهر والألبسة، فقال المسلمون: لو كانت لمن لتقوَّيْنا بها، ولأنفقناها في سبيل الله.
فالله تعالى يعلّمهم ان هذا كلَّه لا قيمةَ له بالنسبة لما أُوتيتم، «ولا تحزَن عليهم» بسب استمرارهم على الغيّ والكفر، وتواضعْ يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين.
ثم بيّن وظيفة الرسول ﷺ فقال:
﴿وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين﴾.
وقل ايها الرسول للناس اجمعين أنا النذيرُ لكم من عذابٍ أليم، فارجعوا الى اله وآمِنوا بما انزلَ اليَّ تربحوا وتفوزوا بالجنة.
ثم بعد ان ذَكر الله أنه اكرم الرسولَ بالقرآن العظيم والسبعِ المثاني - يبين هنا أن الذين سبقوه من اليهود والنصارى قسّموا القرآن الى أجزاء، فبِلوا بعضَه وكفروا ببعض منه. فقال:
﴿الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ﴾.
305
وكم آتيناكَ سبعاً من المثاني والقرآن العظيم، أنزلْنا من قبِلك على اليهود والنصارى التوراةَ والإنجيلَ، وهم الّذين اقتسموا القرآنَ فآمنوا ببعضه الذين وافقَ ما عندهم، وكفروا ببعضٍ، وهو ما خالفهم.
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
فوا الذي خلقَك ورباك لنسألَنّ الكفارَ جميعاً عن ما كانوا يقولون ويفلعون، ولنحاسبنَّهم أجمعين.
ثم يؤكد الله تعالى على نبيه بالجهر والقوة في تبليغ الرسالة جهد المستطاع فيقول:
﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين﴾.
فاجهرْ بدعوة الحق، وابلاغ ما أُمرتَ به، ولا تلتفت الى المشركين وما يقولون.
ولما كان ما يلاقيه من المشركين امرا عسيرا، واذى كبيرا، طمأنه الله بانه هو يكفيه شرهم فقال: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين﴾.
إنا كفيناك شر المستهزئين من قريش الذين كانوا يسخرون منك ومن القرآن، وكانوا طائفةً من قريش لهم قوة، وكانوا كثيري السفاهة والأذى للرسول الكريم، وقد أبادهم الله وأزال كيدهم، فهم: الوليدُ بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعديّ بن قيس، والأَسود بن عبدٍ يغوث. وقد ماتوا جميعا.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال:
﴿الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾.
انهم اتخذوا آلها مع الله يعبدونه، فسوف يعلمون عاقبة امرهم، يوم القيامة، يوم يرون العذاب الشديد.
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾.
إنا نعلم ما يصبك من ضيق وألم نفسي بما يقولونه من الفاظ الشرك والاستهزاء، فسّلاه الله تعالى بان يسبح ويلوذ به، ولا يفتر عن التسبيح بحمد ربه طوال حياته حتى يأتيه اليقين.
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين﴾.
وهذا هو ختام السورة: ارشاد من الله تعالى أن يكشف ما يجده من الغم باللجوء باليه بعمل الطاعات، والاكثار من العبادات، وقد كان النبي ﷺ اذا حَزَبَه امر واشاد عليه خطب، فزع الى الصلاة.
اللهم وفقنا لطاعتك، واهدنا لعبادتك، واجعلنا من المتقين الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليم ولا الضالين.
306
Icon