تفسير سورة مريم

القطان
تفسير سورة سورة مريم من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

كاف. ها. يا. عين. صاد. هكذا تُقرأ. وهي تنبيه للسامعين، وتوجيه لنظرهم. وهَن العظم مني: ضعف ورقّ من الكبر. اشتعل الرأسُ شيبا: صار الشيب كأنه نار، والشَّعر كالحطب، والمقصود أن رأسه شابَ من الكبر. ولم اكنْ بدعائك ربِّ شقيا: وكنت بدعائي لك سعيدا غير شقي، فإنك كنتَ تستجيب لي دائما. الموالي: أقارب الرجل. من ورائي: من بعد موتي. عاقر: لا تلد، ويقال للرجل والمرأة عاقر. وليّا. وراثا. رضيّا: مرضيّا عندك.
ذُكر زكريا في القرآن الكريم ثمان مرات: في سورة آل عمران، والانعام، ومريم والأنبياء. ولم يذكر نسب زكريا في القرآن، ولا في كتب الأنبياء عند اهل الكتاب. وكل ما هو معروف أنه من وَلَدِ سليمان بن داود، وكان زوجاً لخالة مريم. وذكر في حديث المعراج ان زمكريا ويحيى ابنا خالةٍ وعلى هذا يكون ذلك تجوُّزا.
ويحيى بن زكريا عُرف عنه الصلاح وطلبُ العلم منذ صباه، فكان يقضي أكثر أوقاته في البريّة يعيس على العسَل والجراد، حتى حصل على رتبة عالية في الشريعة الموسوية، وأصبح مرجعا مهما لكلّش من يَستفتي في أحكامها. ﴿وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً﴾.
وكان يحيى على أكملِ أوصاف الصلاح والتقوى، وقد نُبّىء قبل الثلاثين، وكان يدعو الناس الى التوبة من الذنوب، وكان يُعَمِّدُهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا. وهو الذي عمَّدَ المسيح واسمه عندهم «يوحَنّا المَعْمَدان».
وكان حاكمُ فلسطين في زمنه «هيرودس» وكانت له بنت أخٍ يقال لها «هيروديا» كانت بارعةَ الجمال، فأراد عمُّها ان يتزوجها. وكانت البنت موافقة وكذلك أمها، غير ان يحيى لم يرضَ عن هذا الزواج لأنه محرَّم. فاخذت الأُم ابنتَها الى مجلس عمِّها وجعلتها ترقص له، وقالت لها: إذا عَرَضَ عليك شيئا، فاطلبي رأس يحيى. ففعلتْ. ووفّى لها عمّها الحاكمُ بذلك.. قتل يحيى وأحضر لها رأسه على طبق. وبعد ان قُتل يحيى أخذ المسيحُ يَجْهَرُ بدعوته، وقام في الناس واعظاً.
﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ....﴾.
نقصّ عليك أيها الرسولَ خَبَر رحمتِنا لعبدِنا زكريا حين دعا ربَّه في خفيةٍ عن الناس، فقال: ربِّ إني قد ضعُفت، وشابَ رأسي، وإنك يا ربّ تمنُّ عليَّ دائما وتستجيب دعائي. لذلك فإني سعيدٌ بدعائي لك، ولم أكن به شقيا. لقد خِفتُ بعد موتي ألا يحسن أقاربي القيامَ على امر الدين، وامرأتي عاقر لا تلد، فارزقْني من رحمتِك وفضلِك غلاماً يخلُفُني في قومي، اجعله يا ربّ يرثني في العلم والدِين، ويرِث من آل يعقوب واجعلْه يا رب بَرّاً تقيا مرضيا عندك وعند خلقك. والمراد بالوراثة هنا وراثةُ العلم والدين، لأن الأَنبياء لا يُوَرّثِون مالاً ولا عقارا.
قراءات:
قرأ ابو عمرو والكسائي: يرثْني ويرثْ من آلِ يعقوبَ بجَزْمِ الفِعلين.
لم نجعل له من قبل سَمِيّا: لم يُسضمَّ أحد بهذا الاسم قبله. عَتَا الشيخ: كبر وانتهى. وقد بلغت من الكِبَرِ عتيّا: بلغت من الكبر حالةٌ يبستْ معها مفاصلي وعظامي. آية: علامة. سوياً: سليما صحيحا. المحراب: المصلّى. فأوحى زكريا اليهم: أشار اليهم.
﴿يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ....﴾.
لقد أخبر الله تعالى زكريا انه أجاب دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسِه، ونادى: زكريا، إنا نبشّرك بهبتِنا لك غلاماً اسمُه يحيى، ولم نسمِّ به احداً من قبله.
فَسُرَّ زكريا بهذه البشرى وقال متعجباً: يا ربّ، كيف يكون لي ولدٌ وزوجتي عاقر وأنا قد ضعفتُ من الكِبَرِ وبلغت سن الشيخوخة!.
﴿قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ....﴾.
فأوحى الله لعبده زكريا أن الأمر كما بُشِّرْتَ. ان مَنْحَكَ الولدَ وأنت على هذه الحالة من كبر السنّ وعقم الزوجة هيّن علي. ثم ذكر ما هو أعجبُ مما سأل عنه فقال: ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾ خلقتُك من العدَم.
قال زكريا عندما سمع هذه البشرى وتحقَّق من تمامها: ربِّ اجعل لي علامةً تدلّ على حصول ما بُشرتُ به، قال: علامتك هي أن لا تستطيع الكلامَ مدةَ ثلاثِ ليالٍ وأنت صحيحٌ سليم الحواس.
فخرج زكريا على قومه من مصلاَّه وهو منطلق اللسان بذِكر الله ولا يستطيع ان يكلِّم الناس، فأشار الى قومه ان سبِّحوا اللهَ صباحاً ومساء.
قراءات:
قرأ حمزة: نُبْشِرك: بضم النون واسكان الباء من أبشر. والباقون: نبشرك بفتح الباء وتشديد الشين. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: عتيا، بكسر العين. والباقون: عتيا، بضم العين.
الكتاب: التوراة. بقوة: بجد واجتهاد. الحُكم: الحكمة والمعرفة. حنانا: عطفا على الناس. وزكاة: طهارة من الذنوب. وبرا بوالديه: كثير الاحسان اليهما. ولم يكن جبارا عصيّا: لم يكن متكبرا متعاليا مخالفا لما أُمر به.
ثم ناداه الله: يا يحيى، خذ التوراةَ واعمل بجّدٍ واجتهاد وعزم، وآتاه الحكمةَ والعلم منذ صباه، ونشأ على التقوى.
وقد جَعَلَه الله ذا حنانٍ وشفقة على الناس، وطهارة نفس، وكان تقيا. كما جعلّه كثير البِرّ بوالديه والإحسان اليهما والى الناس، ولم يجعله متجبّرا عليهم، ولا عاصياً لله.
ثم ذكر سبحانه جزاء يحيى على ما قدّم من عمل صالح وأسلف من طاعةِ ربه فقال:
﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ....﴾
وتحيةٌ من الله عليه، وأمانٌ له يوم موته، ويوم يُبعث يوم القيامة حيا. في هذه المواطن الثلاثة يكون العبدُ أحوجَ ما يكون للرحمة والأمان. ذلك هو يحيى الذي اعطاه الله الحكم صبيا، واستجاب دعاء ابيه زكريّا ووهبه ذلك الغلام الطاهر.
انتبذتْ: اعتزلت. مكاناً شرقيا: شرقي بيتَ لحم، وذلك في الغور لأنه المكان الوحيد في بلادنا الذي يثمر فيه النخل. روحنا: جبريل. بشَرا سويا: رجلا كامل الخلقة. أعوذُ: أَعتصم والتجىء. تقيا: مطيعا. لأهَبَ: لأكون سببا في هبته لك. زكريا: طاهرا. أنَّى يكون لي غلام: كيف يكون لي غلام. آية: علامة على قدرة الخالق. مقضيّا: محتوما.
بعد ان ذكر الله قصة زكريا واستجابة دعائه، ويحيى الذي اوجده الله من شيخين فانيين - ثنى بقصة عيسى لأنها اغرب من ذلك. وقد فتنت قصة عيسى عليه السلام كثير من البشر حتى تصوروه إلهاً، ونسجوا حوله كثيرا من الخرافات والاساطير، فجاء القرآن الكريم يقص كيف وقعت هذه القصة العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والاساطير.
واذكر ايها الرسول ما في القرآن من قصة مريم حين اعتزلت عن اهلها في مكان شرقيّ بيت لحم والقدس حيث كانوا يقيمون. وضربت بينها وبينهم حجابا. فارسلنا اليها جبريل في صورة انسان معتدل الخلق، فلما رأته مريم فزعت منه وقالت: اني استجير بالرحمن منك ان كنت تتقي الله وتخشاه.
فقال جبريل مجيباً لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها: لا تخافي اني رسول من ربك لاكون سببا في ان يهب الله لك غلاما طاهرا مبرأ من العيوب.
فعجبت مريم مما سمعت وقالت لجبريل: كيف يكون لي غلام، ولست بذات زوج، ولم يقربني انسان ولست من اهل الفجور؟.
فقال لها الروح الامين: ان الله قد قال: ان هذا الأمر عليه هين، وان اسباب الولادة لا تنحصر عند الله بما هو المعتاد من زوجين، فانه كما اوجد آدم من غير اب وأم، واوجد هذا الكون من العدم - فانه يهب لك الغلام من غير اب ﴿إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٤٧]. وقد نفخ جبريل في قميصها فكانت تلك النفخة سببا للحمل، كما في قوله تعالى: ﴿والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ [الأنبياء: ٩١]. وفي سورة التحريم الآية ١٢ ﴿وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ وقد قدرنا ذلك لنجعلَ خلقه برهانا على قدرتنا كما يكون رحمة لمن يهتدي به، وكان خلق عيسى محتوما.
قراءات:
قرأ ابو عمرو ونافع: ليهب لك، بالياء. والباقون: لأهب لك كما هو في المصحف.
قصيا: بعيداً عن اهلها في غور الاردن. فأجاءها المخاضُ: فألجأها الطلب. نسيا منسيّا: نسياً بفتح النون وكسرِها، الشيء الذي لا قيمة له فيظلّ منسيا لا يذكر. سريّا: شريفا. رُطبا جنيا: الرطَب، هو ثمر النخل اذا ادرك ونضج قبل ان يصير تمرا. جنيا: صالحا للقطف. نذرتُ للرحمن صوما: يعني صوما عن الكلام.
وتحققت ارادة الله تعالى، وحملت مريم بعيسى، وذهبت بحملها الى المكان البعيد عن الناس.. الى غور الاردن، لأنه هو المكان الذي يوجد فيه النخل وهو المكان الشرقي البعيد وكان مأهولا من بعض المتعبدين. وكون الوقت فيه رطب يعيِّين ان يكون وقت الولادة في الصيف، لا في الشتاء كما يقرر النصارى الذين يوقتون الميلاد في الشتاء.
فالجأها ألم الولادة والطلق الى جذع النخلة لتستند اليه وتستتر به، وتمنت لو انها كانت ماتت قبل هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت، حياء من الناس وخوفا من لومهم، وكان شيئا منسيا. لان الناس لا يعرفون الحقائق ولا يعذرون.
فناداها عيسى من تحتها، حيث انطقه الله. وتلك ايضا من المعجزات: لا تحزني بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومن الألم، ومما يقوله الناس، فقد جعل ربك تحتك انسانا شريفا رفيع القدر والشأن.
يفسر بعض المفسرين: سريا بمعنى الجدول او النهر، وان المنادى جبريل، فكيف يكون جبريل تحتها؟..
﴿وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً﴾.
وهزي النخلة يتساقط عليك الرطب الطيب، والرطب فيه الغذاء الكافي، ويعيش عليه خلق كثير.
ويقول بعض المفسرين ان الوقت لم يكن صيفاً، واللهُ أحيا تلك النخلة وجعل فيها الرطب.. وهذا كلام ليس عليه دليل.
فكلي من ذلك الرطب، واشربي من الماء عندك وطيبي نفسا، فان رأيتِ احدا من البشر ينكر عليك امرك، فأفهميه بانك نذرت لله الصوم عن الكلام وأنك لا تكلمين اليوم احدا.
قراءات
قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وابو بكر: يا ليتني مت بضم الميم، والباقون: مت بكسر الميم. فهما لغتان.
قرأ حمزة وحفص: نسيا بفتح النون، والباقون: نسيا بكسر النون وهما لغتان. قرأ حفص وحمزة والكسائي ونافع: مِن تحتها من حرف جر وكسر تحتها، كما هو في المصحف، والباقون: من تحتها. بفتح ميم من، وتحتها بفتح التاء. قرأ حفص: تساقط بضم التاء وكسر القاف. وقرأ حمزة: تساقط بفتح التاء والسين بدون تشديد. وقرأ ابو عمر وابن عامر والكسائي وابو بكر: تساقط بفتح التاء والسين المشددة. وقرأ يعقوب: يساقط بضم الياء والجميع باسكان الطاء جواب الامر.
فريا: عجيبا، مختلقا. يا اختَ هارون: يا شبيهة هارون في التقوى والصلاح. المهد: الموضع يهيَّأ للصبي. الكتاب: الإنجيل. يمترون: يشكّون يوتنازعون.
بعد ان وضعتْ مريم وليدها أقبلت على أهلِها تحمل عيسى، فقالوا لها مستنكرين: يا مريم، لقد جئتِ أمراً عظيماً منكَرا!!. يا أخت هارون، يا من انتِ شبيهةٌ بهارونَ النبيّ في التقوى والصلاح، كيف يصدر عنكِ هذا العمل المنكر، وما كان أبوك بالفاجر، ولم تكن أُمك من البغايا! فمِن أين لك هذا الولد؟
روى أحمدُ ومسلم والترمذي والنَّسائي وعبد بن حميد وغيرُهم عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسولُ اللهُ ﷺ إلى أهل نجرانَ فقالوا: أرأيتَ ما تقرأون: ﴿ياأخت هَارُونَ﴾ وموسى وهارون قبل عيسى بزمنٍ بعيد. قال فرجعتُ، فذكرت ذلك لرسول الله فقال: ألا اخبرِّكم أنهم كانوا يُسَمَّون بالأنبياء والصالحين قبلهم! يعني يُشَبَّهون بهم»
وفي دائرة المعارف البريطانية: ان القرآن غَلطَ تاريخياً حين قال: ﴿ياأخت هَارُونَ﴾ في سورة مريم مع أن بينَ مريمَ وهارونَ أخِ موسى مئاتِ السنين.
وهذا طبعا من الافتراءات المبنيّة على الجهل الفاضح، والحديثُ المذكور يفسّر ذلك.
﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ....﴾.
فأشارت الى ولدها عيسى ليكلموه، فقالوا: كيف نكلم طفلا لا يزال في المهد، وهم يظنون انها تزدري بهم. فلما سمع عيسى كلامهم أنطقه الله:
﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾.
يعني انه سيؤتيه الإنجيل، ويجعله نبيّا، ويكون مباركاً في كل أوقاته، وأين ما كان، معلّماً للخير، وأوصاني بالصلاة وأداء الزكاة مدةَ حياتي، كما أمرني ان اكون بارّا بوالدتي مطيعا محسناً لها ولم يجعلْني متجبّرا في الناس ولا شقيّا بمعصيته.
﴿والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً﴾.
وهذه الآية مثلُ الآية التي وردت في يحيى في نفس السورة رقم ١٥.
ذلك الذي ذُكرت مناقبه واوصافه هو عيسى بن مريم، وهذا هو القول الحق في شأنه الذي يجادل فيه المبطلون، ويشك في امر نبوته الشاكّون، لا ما يقوله الذين ألّهوهُ، او المتهمون لأمه في مولده.
﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ...﴾.
تعالى الله وتنزَّهَ عن ان يتخذ ولدا. والولد إنما يتخذه الفانُونَ والضِعاف، واللهُ باقٍ قادر لا يحتاج مُعينا. والكائنات كلّها توجد بكلمة منه، فهو إذا قضى أمراً من الأمور نفذت إرادته بكلمة - فما يريد تحقيقه يحققه بتوجُّهِ الإرادة لا بالولد المعين.
جاء ذكر عيسى بلفظ المسيح تارةً وبلفظ عيسى بن مريم في القرآن في ثلاثَ عشرةَ سورة، وفي ثلاثٍ وثلاثين آية منه.
قراءات:
قرأ الكسائي: آتاني واوصاني بالامالة. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب: قول الحق، بنصب قول على انه مصدر. والباقون: قولُ الحق على انه خبر المبتدأ.
الأحزاب: طوائف اهل الكتاب. من مشهد يوم عظيم: من حضور يوم القيامة. ويل: خِزي وهوان. أسمِع بهم: ما أسمعَهم. ابصِر بهم: ما ابصرهم. يوم الحسرة: يوم القيامة، حيث يندم المفرطون على انهم لم يعملوا صالحا في الدنيا. قُضي الأمر: انتهى وفرغ من الحساب.
﴿وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ.....﴾.
وهذا من بقية كلام عيسى.. إن الله ربي وربكم، وأَمَرَهم بعبادته، وان هذا هو الذي أوصيتُكم به وأن دين التوحيد هو الصراط المستقيم.
ثم اشار الله الى انه مع وضوح الأمر في شأن عيسى، وانه عبدُ الله ورسوله، وكلمته القاها الى مريم، وروح منه - اختلفوا فيه كما قال:
﴿فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ....﴾.
ومع ما تقدم من قول الحق في عيسى، فقد اختلف اهلُ الكتاب فيه، وذهبوا مذاهبَ شتى، والعذاب الشديد للكافرين منهم يوم القيامة، يوم يَحضُرون موقف الحساب ويلقَون سوء الجزاء.
ما أشدّ سمعَهم وأقوى بصرهم يوم يلقَون الله، والظالمون في ذلك اليوم يتحققون أنهم كانوا في ضلالٍ مبين لا يخفى.
ثم أمر الله سبحانه نبيه ان ينذر قومه المشركين جميعا فقال:
﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة..﴾.
أنذرْ أيها الرسول هؤلاء الظالمين يوم يتحسّرون ويندمون على ما فرّطوا في الدنيا في حقِّ اللهِ وحق أنفُسِهم.. وسُمِّي يوم الحَسرْة لأن المجرمين يندمون ويقولون: ﴿ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾ [الزمر: ٥٦].
وقُضي الأمر وفرغ من حسابهم ونالوا جزاءهم وقد كانوا في غفلةٍ عن ذلك اليومِ وحسَراته وأهواله، وهم لا يصدّقون بالبعث ولا بالجزاء.
ثم سلَّى الله رسولَه وتوعَّدَ المشركين فقال:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾.
لا يُحزنك أيها الرسول تكذيبُ المشركين لك فيما أتيتَهم به من الحق، فإن إلينا مرجعَهم ونحن الوارثون، والكلّ عائد إلينا عودةَ الميراث الى الوارث الوحيد، فنُجازي المحسنَ بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا ظلمَ في ذلك اليوم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو ونافع ويعقوب: وأَن الله ربي وربكم، بفتح الهمزة. والباقون وإنّ... بكسر الهمزة.
واذكر في الكتاب: في القرآن. صدّيقا: من يكون صادقاً ومخلصا في أفعاله وأقواله او صحبته. صراطاً سويا: طريقا مستقيما. أراغبٌ أنت عن آلهتي: أكارهٌ لها. لأرجمنّك: لأَضربنّك بالحجارة. واهجُرني مليّا: اتركني دهراً طويلا. إنه كان بي حفيّا: إن ربي كان مبالغا في العناية بي وإكرامي. لسان صدق: ثناءً حسنا.
انتهت قصةُ المسيح، وقد بيّنها القرآن بوضوح، خاليةً من كل شائبة من الأساطير والخرافات. وهنا تأتي حلقة من قصة إبراهيم حيث ذُكِرَ في خمسٍ وعشرين سورة من القرآن. وهنا في هذه الحلقة يتبين ما في عقيدة الشِرك من كذب وضلال. وإبراهيمُ هو الذي ينتسب اليه العرب، وهو الذي بنى البيتَ الحرام مع ابنه اسماعيل. وتبدو في هذه الآيات شخصيةُ إبراهيم الأوّاب الحليم، ووداعتُه وحِلْمُه في ألفاظه وتعبيره.
واذكُر أيها الرسول لقومك وللناس ما في القرآن من قصة إبراهيم الصدّيق (والصدقُ من أكملِ الصفات واصدقها) حين نهى قومه عن عبادة الأصنام، ووجّه الخطاب لأبيه في رِفق ولين قائلا له: يا أبتِ، كيف تعبد أصناماً لا تسمع ولا تبصر، ولا تجلب لك خيراً، ولا تدفع عنك شرا!؟ ويظهر من هذا المنهج أنه سَلَك في دعوته أجملَ الآداب في الحِجاج، واحتجّ بأروع البراهيم ليردّه عن غيّه.
يا أبتِ، لقد جاءني من العِلم الآلهيّ ما لم تطّلع عليه، فاتّبعني فيما أدعوك إليه من الإيمان بالله - أدلّك على الطريق القويم الموصِل الى الله.
يا أبت، لا تطع الشيطانَ فيما يزّين لك من عبادة الأصنام، إن الشيطان عصى الله وخالفَ أوامره، وكلُّ من أطاعه فقد عصى الله.
ثم حذّره من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام فقال:
﴿ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن....﴾.
يا أبتِ، إني اخشى إنْ أصررتَ على الكفر أن يصيبك عذابٌ شديد من الله، فتكون قرينا للشيطان في النار.
فأجابه أبوه بعد كل هذا الكلام اللطيف والعبارات الرقيقة بكلّ جفاء وغلظة فقال:
﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم؟....﴾.
أتكره آلهتي ولا ترغب في عبادتها يا إبراهيم؟ لئن لم تنتِه عما انتَ فيه من النَّهي عن عبادتها والدعوةِ الى ما دعوتني اليه، لأرجمنَّك بالحجارة، فاحذَرْني وأبعد عني وفارِقني دهراً طويلا.
ولما سمع ابراهيم عليه السلام كلام أبيه أجابه بأمرين:
١ - ﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ﴾.
سلمتَ مني لا أصيبك. وهذا جوابُ الحليم للسفيه، وفيه مقابلةٌ للسيئة بالحسنة.
وزاد على ذلك فقال:
٢ - ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً﴾.
سأدعو لك ربي أن يهديك ويغفر لك. وقد عوّدني ربي ان يكون رحيماً بي مجيباً لدعائي.
وإني سأهجركم وأبتعدُ عما تعبدون من دون الله، وأعبدُ ربي وحده، راجياً ان يقبل مني طاعتي، ولا يخيّب رجائي، وان لا يجعلني شقيا.
وقد حقق إبراهيم ما عزم عليه، فحقق الله رجاءه وأجاب دعاءه، فلم يتركه وحيداً، بل وهب له ذريةً وعوّضه خيرا.
﴿فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً﴾.
فلما فارق إبراهيم أباه وقومَهُ وهاجر الى بلاد الشام - أكرمه الله بالذرّية الصالحة، ورزقه اسحاقَ، ثم رزقه من اسحاقَ يعقوبَ، وكلاهما من الأنبياء.
واعطيناهم فوق منزلة النبوّة كثيراً من خير الدنيا والآخرة برحمتنا.
مخلَصا: بفتح اللام، مختارا. الطور: الجبل. وقرّبناه نجيّا: قربناه تقريب تشريف وتكريم، ونجيّاً: مناجيا ومكلِّما بلا واسطة. واجتبيناه: اصطفيناه.
اتلُ أيها الرسول على الناس ما في القرآن من قصة موسى، وما اتصف به من صفاتٍ حميدة، واذكُر أن الله أخلَصَه واصطفاه للنبوة والرسالة.
وكرّمناه فناديناه من الجانب الأيمن للطور في سيناء، وقرّبناه تقريب تشريف وتكريم، حين مناجاته لنا. فَقَرُب من ربّه وارتقت نفسُه حتى بلغت أقصى مناها. ثم إننا وهبنا له من رحمتِنا مؤازرةَ أخيه هارونَ نبيّا، ليعاونَه في تبليغ الرسالة.
وقد جاء في سورة طه ﴿واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي﴾. وقد استجاب له ربه فقال: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى﴾.
قراءات:
قرأ الكوفيون الا ابا بكر: مخلصا بفتح اللام بمعنى اخلصه الله للنبوة. والباقون: مخلصا بكسر اللام بمعنى اخلص هو العبادة لله.
واتل عليهم أيها الرسول ما جاء في القرآن من قصة إسماعيل أبِ العرب، ومن أخصِّ صفاته صدقُ الوعد والوفاءُ به، حتى إنه وعد أباه بالصبر على الذبح ووفى به: ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ [الصافات: ١٠٣]. فقداه الله وشرّفه بالرسالة والنبوة.
وكان اسماعيل يأمر أهلَه بالصلاةِ وإيتاء الزكاة، ﴿وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ في جميع أعماله، محموداً فيما كلفه به، مستقيماً في أقواله وافعاله.
واتل أيها الرسولُ على الناس ما في القرآن من قصة إدريسَ إنه كان من الصدِّيقين ونبياً ذا مكانة عالية عند الله. وهذا معنى ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً﴾ أي رفعنا ذِكره في الملأِ، كما خاطب الله تعالى الرسول الكريم بقوله: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الانشراح: ٤].
وقد نُسجت حول إدريس خرافات وأساطير، ونُسب إليه انه مصدر لجميع العلوم، واول من خطَّ بالقلم، وأولُ من بنى الهاكل ومجّد الله فيها، واول من نظر في علم الطب، وألَّف لأهلِ زمانه قصائد موزونة في الأشياءِ الأرضية والسماوية، وغير ذلك كثير جدا. وكلّها أخبار لم تؤيد بنقل صحيح، ولم يسنِدها نصٌّ قاطع، ومن أراد الاطّلاع عليها فعليه الرجوعُ الى كتاب: قصص الانبياء، للمرحوم عبد الوهاب النجار.
وبعد أن ذكَر الله تعالى هؤلاء الرسلَ الكرام وهم عَشَرة، وأثنى عليهم بما هو جديرٌ بهم، أردفَه بذِكر بعض ما جزاهم به من النعم. فقد هداهم إلى سُبل الخير واصطفاهم من سائر خلقه.
﴿أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين....﴾.
بنعم الدنيا والآخرة من ذريّة آدم وذرية من نجّاه الله مع نوح في السفينة، ومن ذرية إبراهيمَ ويعقوب، وممَّن هديناهم إلى الحق، واخترناهم لإعراء كلمةِ الله. واذا تتلى عليهم آياتُنا خَرُّوا الله سجَّدا، وهم باكون خشية منه، وحَذَرا من عقابه. وهنا موضع سجدة عند قوله: خروا سجّدا وبُكِياً.
الخلف: بسكون اللام، العقِبُ السوء، النسل الطالح. اضاعوا الصلاة: تركوها. غيا: ضلالا. جنات عدن: جنات الاقامة الدائمة. مأتيا: آتيا. اللغو: فضول الكلام. التنزل: النزول. سميّا: شبيها، او مثيلا.
بعد ان استعرض اللهُ أولئك الأنبياءَ السعداء ومن تَبِعَهم بإسحاء، جاء هنا يوازي بين أولئك المؤمنين الأتقياء، وبين الذين خلفوهم. فإذا المسافةُ شاسعة والفارقُ بعيد. فلقد جاءَ من بعد هؤلاء الأنبياء الأخيارِ خَلْفُ سوء كانوا على غيرِ هديهم، تركوا الصلاة وانهمكوا في المعاصين وآثروا شهواتِهم على طاعة الله.
ثم ذكر عاقبة أعمالهم، وسوء مآلهم فقال:
﴿فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً﴾. وسيلقى هؤلاء جزاء غيِّهم وضلالهم في الدنيا والآخرة.
ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه تهبُّ منه نسماتُ الرحمة واللطف والنعمى. فَمَنْ تدارك منهم نفسَه بالتوبة والإيمان الصادق، والعمل الصالح - فإن الله يقبل توبته، ويُدخله الجنة، ويوفي له أجره كالماً، والتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها.
كما جاء في الحديث: «التائبُ من الذنْب كمَنْ لا ذنبَ له» أخرجه ابنُ ماجه والطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود.
ثم أوضح الله جنة الخلد ومن فيها فقال:
﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً﴾.
هذه الجنات هي جنات إقامةٍ دائمة قد وعد الرحمنُ عباده بها فآمنوا بها بالغيب في ان يروها. ووعدُ الله واقع لا محالة.
ثم يوضح تلك الصورة الجميلة وما فيها من عيشة راضية، ونعيم مقيم، فيقول:
﴿لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً....﴾.
لا يسمعون فيها فُضولا في الحديث، ولا ضجةً ولا جِدالا، وانما صوت السّلام والأمان. والرزقُ في هذه الجنات مكفولٌ دائم.
﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾.
هذه هي الجنة ذات هذه الصفات الشريفة، نورثها عبادَنا المتّقين الذي يُطيعون اللله في السّرِ والعلَن.
﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً﴾.
بعد ان ذَكر اللهُ قَصص الأنبياء عليهم السلام، وأعقبه بذِكر ما أحدثه الخَلْفُ بعدهم، وَذكَر جزاءَ الفريقين - أعقب ذلك بقصص تأخُّخرِ جبريلَ على النبي ﷺ ردّاً لما زعمه المشركون من أنه كان يتأخر عليه، وبياناً لهم أن الأمر على غير ما زعموا.
وما تنزِلُ الملائكةُب الوحي إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمتُه، وتدعو اليه مصلحة عباده. والكلام على لسانِ جبريل: إن أمْرَنا موكولٌ الى الله تعالى، يتصرّف فينا حسب مشيئته، فهو سبحانه المالكُ المدبّر، العالِمُ بمستقبلنا وماضينا، وما بين ذلك. ولإحاطة عِلمه بملكه، فإنه لا يطرأ عليه غَفْلة ولا نسيا.
﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا....﴾.
فهو سبحانه الخالقُ المالكُ لهذا الكون كلّه، والمدبر لشؤونه، والمستحقّ وحده للعبادة، فاعبُده أيها الرسول ومن معك، واصطبرْ وثابر على عبادته، هل تعلم له شبيها؟ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير﴾. الشورى.
يذْكر: يتذكر. لنحشُرنّهم: لنجمعنهم. جثيا: جمع جاثٍ، وهو البارك على ركبتيه. شيعة: جماعة تعاونت على أمرٍ واحد. عتيا: تكبراً، ويقال عُتُوّا ايضا. صليّا: دخولا. صلي النارَ دخلها وقاسى حرّها. واردُها: مارّ عليها. حتما: واجبا. مقضيّا: جرى به قضاءُ الله.
بعد أن ارودَ الله قَصص الأنبياء الكرام وغرابةَ مولد يحيى، وعيسى بن مريمن وذكَرَ إبراهيم واعتزالَه أباه، وهجره لقومه ووطنه، وذكر من خَلَفَ بعدهم من المهتدين والضالين، ثمّ جاء اعلانُ الربوبية الواحدة، التي تستحقّ العبادَة بلا شريك، وهي الحقيقةُ الكبيرة التي يبرزها ذلك القَصص بأحداثه ومشاهده وتعقيباته - يذكر هنا ما يدور من الجدَل حول عقائد الشِرك وإنكارِ البعث، ويعرِض مشاهد القيامة، ومصيرَ البشرّ في مواقف حيّة. ثم ينتقل السياقُ إلى ما بين الدنيا والآخرة.
﴿وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً....﴾.
ويقول الجاحد الذي لا يصدّق بالبعث بعد الموت متعجّباً ومستبعِداً: كيف أُبعث حياً بعد الموت والفناء!!.
كيف يستغرِب هذا الانسانُ قدرة الله على البعث في الآخرة، ولا يتذكّر أنه تعالى خلَقَه في الدنيا من عدم، ولم يكُ شيئا!
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وعاصم «اولا يذكُر» باسكان الذال وضم الكاف. وقرأ الباقون: «أولا يذكر» بتشديد الذال المفتوحة وفتح الكاف.
ثم يعقب الله على هذا الانكار بقسَمٍ فيه تهديد كبير، اذ يقسم بنفسه أنهم سيحشَرون بعد البعث.
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين...﴾.
فوربّك الذي خلقك يا محمّد لنجمعنَّ الكافرين يوم القيامة مع الشياطين، الذين زيّنوا لهم الكفر، وسنُحضِرهم حول جهنّم جاثِين على رُكَبهم في ذِلّة وفزع.
ثم لنأخذَنَّ من كل جماعة أشدَّهم كفراً بالله، وتمردا عليه، فيُدفع بهم قبلَ غيرِهم الى أشد العذاب.
﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً﴾.
ونحن أعلمُ بالذين هم أحقُّ بسبقهم الى دخول جهنم والاصطلاءِ بنارها. وأنهم جميعاً يستحقّون العذاب، لكنّا ندخِلهم في جهنم بحسب عِتِيِّهم وتجبُّرهم في كفرهم.
ثم خاطب الناس جميعاً ليذكُروا ويعتبروا:
﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً﴾.
وما أحدٌ منكم أيها الناس إلا يدنُو من جهنّم، يراها المؤمن ويمرّ بها، والكافرُ يدخلها.. هكذا قضى ربك، وجعلَه أمراً محتوما.
ثم إننا نشمل المتقين برحمتنا، فنُنْجيهم من شرّ جهنم، ونتركُ بها الذين ظلموا أنفسَهم جاثين على ركبهم، ، تعذيباً لهم، وجزاءَ ما اقترفوا وكذّبوا.
قراءات:
قرأ الكسائي ويعقوب: ثم نُنْجي بضم النون الاولى واسكان الثانية، والباقون بضم النون الاولى، وفتح الثانية وتشديد الجيم. وقرأ ابن كثير: مُقاما: بضم الميم الأولى والباقون: مَقاما بفتح الميم.
بينات: ظاهرات الإعجاز. مقاما: مكانا، منزلا. نديا: مجلسا، النديّ والنادي والمنتدَى بمعنى، وكذلك الندوة. القرن: أهل كل عصر، واصبح في العرف الآن مائة عام. الأثاث: متاع البيت وفرشه وكل ما يحتاج اليه، لا واحد له. رئِيا: منظرا، ونضارة وحسنا. فليمدُد له: فليمهله. جندا: انصارا. مردّا: مرجعا وعاقبة.
بعد ان أقام الله تعالى الحجة على مشركي قريش المنكِرين للبعث بعد الفناء، أتبعه هنا بذكر شبهةٍ أخرى، حيث قال بعض زعمائهم (وهم النضر بن الحارث وأبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم) عندما كانت تتلى عليهم آيات الله واضحةَ الدلالة.
﴿أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾...
أعرضوا عنها وقالوا للمؤمنين: لستم مثلَنا حظّاً في الدنيا، فنحنُ خيرٌ منكم منزلاً ومجلسا، فكذلك سيكون حظّنا في الآخرة.
انظروا الى المؤمنين الذين حول محمد، مثل بِلال وعمّار وخَبَّاب وغيرِهم من الفقراء المعدِمين، فأيُّ الفريقَين منا ومنكم أوسعُ عيشاً وأنعم بالا!؟.
فردّ الله عليهم شُبْهَتَهم بقوله:
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً﴾.
كان على هؤلاء المتكبّرين الجاحدين ان يتَعِظوا بمن سبقَهم، وكانوا أحسنَ منهم حظاً في الدنيا، وأكثر متاعا، فأهلكناهم بكفرهم، ولم ينفعْهم أثاثهم ورياشهم، ولم يعصِمهم شيءٌ من الله حين كتب عليهم الهلاك.
ثم أمَرَ سبحانه نبيّه الكريم ان يُجيب هؤلاء المفتخِرين بما عندهم بقوله:
﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً....﴾.
قل ايها الرسول لهؤلاء المدّعين أنهم على الحق، وأنكم على الباطل: من كان في الضلالة والكفر أمهلَهُ اللهُ، وأملى له العُمُر، ليزدادَ طغياناً وضلالا، ثم يأخذُه أخْذَ عزيز مقتدر، إما بعذاب الدنيا، وإما بعذاب الآخرة. سيعلمون أنهم شّرٌّ مكاناً واضعفُ جُنْدا وأقلُّ ناصراً من المؤمنين. وعند ذلك يظهر من هو خيرٌ مقاما واحسنُ نَدِيّا.
اما المؤمنون بآيات الله لإإن الله تعالى يزيدهم هدى وتوفيقا، ذلك ان الطاعاتِ التي يبقى ثوابها لأهلها خير عند ربهم جزاءً، وأبقى عند الله ثواباً وعاقبة.
لأوتينّ: لأُعطين. اطلع الغيب؟ : اظهر له علم الغيب. سنكتب ما يقول: سنسجّل كل اقواله ونظهرها له يوم القيامة. ونمدّ له من العذاب: ونزيد له من العذاب. ونرثه ما يقول: ونسلبه كل ما عنده من مالٍ وولد، وذلك لأنه يقول لأوتينَّ مالاً وولداً. ضدا: أعداء. تؤزّرهم: تزعجهم. وفدا: وهم القادمون المكرمون. وِرْداً: مشاةً مهانين كأنهم دواب حين ترد الماء.
في صحيح البخاري ومسلم عن خباب بن الأرتّ قال: كنتُ حدّاد وكان لي على العاص بن وائل والد عمرو بن العاص، دَين. فأتيتُه أتقاضاه منه فقال: لا واللهِ، لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا واللهِ لا أكفر بمحمد ﷺ حتى تموتَ ثم تُبعث. قال: فإني إذا متّ ثم بُعتث جئتني ولي مال وولد، فأعطيك. فأنزل الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ.. الآية﴾.
وقولُ العاص هذا نموذجٌ من تهكُّم الكفار واستخفافِهم بالبعث. فالقرآنُ هنا يعجب من هذه الجُرأة والاستخفاف.
انظُر ايها الرسول الى حالِ هذا الجاحد المتكبر. واعجبْ من مقاله الشنيع، وجُرأته على الله إذ قال: سيكون لين مالٌ وولد في الآخرة. هل اطّلعَ هذا الكافر على الغيب، حتى يتجرأ ويقول ما قال، ام أخذ من الله عهداً بذلك!!
«كلاّ»، وهي لفظة نفيٍِ وزجر، ليس الأمرُ كذلك. إنه لم يطّلع على الغيب ولم يأخذ عند الله عهداً، عليه كلَّ أقواله، ونزيدُه من العذاب ونُطيله عليهم في جهنم.
﴿وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ..... يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً﴾.
ونسلبُه ما عنده من المال والولَد وكلَّ ما يعتز به في الدنيا، ويأتي في الآرخرة وحيداً منفردا، لا مالَ معه ولا ولد ولا نصير.
أولئك الذين كفروا عبدوا غير الله آلهة مختلفة، لتكونَ لهم شفعاءَ يعتزّون بها يوم القيامة. كلا: فسيكفر بهم الملائكةُ والجنّ وكلّ المعبودات، ويبرأون الى الله منهم، ويكونون لهم أعداء وخصوما.
ألم تعلم أيها الرسول أنا سلَّطنا الشياطينَ على الكافرين واستحوذوا عليهم، يُغْرونَهم بالمعاصي ويدفعونهم إلى التمرُّدِ والوقوع فيها.
فلا يضيقُ صدرك أيها الرسول بكفرهشم، ولا تستعجلْ لهم بالعذاب، فإنما نتركهم في الدنيا لمدة محدودة، ونُحصي عليهم أعمالهم وذنوبهمن لنحاسبَهم عليها في الآخرة.
ثم يبين الله ما يكون في ذلك اليوم، وكيف يستقبل المتقين بالتكريم، ويسوق المجرمين كالدواب.
﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدا﴾.
اذكر أيها الرسول ذلك اليوم الذي نجمع المؤمنين فيه الى جنة الخلد وفودا مكرمين، كما نصوق المرجمين الى جهنم وندفعهم عِطاشاً كالدوابّ الواردين الى الماء، لا شفاعةَ لأحدٍ في ذلك اليوم الا من قدّم عملاً صالحاً، فهو عهدٌ له عند الله ينجيه ويجعله من الفائزين.
جئتم: فعلتم. إدّا: منكرا عظيما. يتفطَّرون: يتشققن. تخرُّ: تسقط. دعوا: نسبوا. قوماً لُدّا: قوما شديدي الخصومة. رِكزا: صوتا خفيا.
بعد ان فنّد مقولة عبده الأوثان وأثبت أنهم في ضلال يعمهون - أردف ذلك بالردّ على الذين نسبوا الى الله الولد، وبيّن انها منكَرة يهتزّ لها الكون بأجمعه.
﴿تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً﴾.
وقال المشركون: إن الله اتخذ من الملائكة بناتٍ، وقال اليهود والنصارى ان الله اتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك.
لقد جئتم أيها القائلون بمقالِكم هذا أمراً منكَرا، تنكره العقول المستنيرة. ان السمواتِ تكاد تتشقق من هذا القول لشدّة هوله، وتُخْسف الأرض، وتسقط الجبال لمجرّدِ سماعه.
قراءات:
قرأ نافع والكسائي: يكاد بالياء، والباقون: تكاد بالتاء. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وحفص: يتفطرن، بالتاء. والباقون: ينفطرن، بالنون.
إنها لكلمةٌ شنيعة لو صورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام، ولتفتت وتفرقت اجزاؤها من شدتها.
ثم بين علّة ذلك بقوله:
﴿أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾.
من أجلِ أنهم نسبوا الى الله اتخاذ الولد، وما يليق به اتخاذُ الولدن لان اثبات الولد له يقتضي أن يكونَ حادِثاً ومحتاجا، وهذا مُحالٌ على الله سبحانه.
ان كل ما في السموات والأرض من مخلوقات هم عبيدُ الله، ينقادون لحكمنه، ويخضعون له. لقد أحاط بهم جميعاً وبأعمالهم، وعدِّ أشخاصِهم وانفاسهم وافعالهم.
﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً﴾.
وهم جميعا سيأتون إليه يوم القيامة منفردين عن النصراء والولد والمال.
وقد تكرر لفظ «الرحمن» في هذه السورة ستَّ عشرة مرة، لأ المشركين كانوا ينكرون هذه الكلمة وكانوا يقولون ما هو الرحمن، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن﴾ [الفرقان: ٦٠]. والرحمن وصفٌ يدل على عموم الرحمة، فهي شاملة لكل موجودٍ. ان الله مع كل ما يأتيه المنكِرون رحمنٌ رحيم سبقت رحمته غضبه.
ثم ختم السورة بذكر احوال المؤمنين عموما وما ينتظرهم يوم القيامة، حيث سيستقبلهم الرحمن بالترحيب والمودة.
﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً﴾.
ان الذين آمنوا بالله وصدّقوا برسُله، وعملوا الاعمال الطيبة الصالحة - سيجعل الله لهم محبةً في قلوب الناس، ويكونون في رحاب الله وتكريمه يوم القيامة.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي ان النبي ﷺ قال «اذا أحبَّ الله عبداً يقول لجبريل: إني احببتُ فلانا فأحِبَّه، فينادي في السماء ثم تنزل له المحبّة في الارض»، فذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات.. الآية﴾ وللحديث روايات متعددة..
وبعد، فان هذه لَبشرى للمؤمنين، ومعها إنذار للجاحدين، وقد يسّر الله فهمَ كتابه على العرب، فأنزله بلسانهم ولسان رسوله الامين.
403
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾.
لقد يسّرنا القرآن بلغتك لتبشّر برضى الله ونعيمه من اتبعَ أوامره واجتنب نواهيَه، وتنذِرَ بسخط الله وعذابه من كفر واشتد في خصامه.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾.
فلا يحزنك أيها الرسول عنادُهم لك، فقد أهلك اللهُ قبلهم كثيرا من الأمم والاجيال... ولقد اندثروا، فلا ترى منهم أحدا، ولا تسمع لهم صوتا. إنهم بادوا وهلكوا، وخلتْ منهم دورهم واوحشت منازلُهم. وكذلك هؤلاء، فهم صائرون الى ما صار اليه أولئك ان لم يتداركوا أنفسَهم بالتوبة.
404
Icon