تفسير سورة سورة ص من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها ثمان وثمانون
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ ص ﴾ من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلى الله. وقيل : اسم للسورة. أو للقرآن. ﴿ والقرآن ذي الذكر ﴾ أي الشرف. أو الذكرى والموعظة. أو المذكور فيه ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع والأحكام وغيرها. وهو قسم جوابه محذوف ؛ لدلالة قوله : " منذر منهم " عليه. أي إنك لمن المرسلين.
﴿ بل الذين كفروا في عزة ﴾ حمية واستكبار عن قبول الحق. ﴿ وشقاق ﴾ مخالفة لله ولرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ من قرن ﴾ أمة وأقوام من الأمم الخالية، مقترنين في زمن واحد. ﴿ فنادوا ﴾ أي استغاثوا حين نزول العذاب بهم. ﴿ ولات حين مناص ﴾ أي ولا تنفعهم الاستغاثة في هذا الحين. و " لا " حرف نفي والتاء مزيدة لتأكيد النفي. والحين : وقت بلوغ الشيء وحصوله ؛ وهو ظرف مبهم يتخصص بالإضافة. والمناص : بمعنى الفرار والخلاص. يقال : ناص عن قرنه – من باب قال – نوصا ومناصا، إذا فر وراغ ؛ أي ليس الوقت وقت فرار وخلاص. أو بمعنى النجاة والفوت. يقال : ناصه، إذا فاته ونجا ؛ أي ليس الوقت وقت نجاة وفوت.
﴿ إن هذا لشيء عجاب ﴾ : متجاوز حد العجب، وهو أبلغ من عجيب ؛ مثل قولهم للرجل الذي فيه طول : طويل. وللذي تجاوز حد الطول : طوال. قال المشركون ذلك حين ذهبوا إلى أبي طالب يطلبون منه أن يكف الرسول عن شتم آلهتهم ؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه :( إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية ) فقالوا : ما هي ؟ وأبيك لنعطينّكها وعشرا معها. قال :( لا إله إلا الله ) فقاموا فزعين يقولون : " أجعل الآلهة إلها واحدا ! إن هذا لشيء عجاب " !.
﴿ وانطلق الملأ منهم أن امشوا ﴾ أي : يقول بعضهم لبعض : امضوا على طريقتكم ! وداوموا على سيرتكم، ولا تدخلوا مع محمد في دينه. ﴿ واصبروا على آلهتكم ﴾ : اثبتوا على عبادتها، متحملين ما تسمعونه فيها من القدح. ﴿ إن هذا لشيء يراد ﴾ أي : لشيء عظيم خطير ! يريد محمدا منا إمضاءه وتنفيذه لا محالة. أو لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ! فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر عليه ؛ والاستمساك بالرأي فيه.
﴿ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ﴾ أي : ما سمعنا بهذا التوحيد الذي يدعو إليه محمد في ملة العرب، التي أدركنا عليها آباءنا. ﴿ إن هذا إلا اختلاق ﴾ أي : ما هذا الذي يدعو إليه إلا كذب وتخرص تخلقه من نفسه. يقال : خلق الكلام وغيره، صنعه. واختلق الإفك : افتراه ؛ كتخلقه.
﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾ ونحن السادة العظماء وهو دوننا... ! يريدون إنكار كون القرآن منزلا عليه من عند الله.
﴿ أم عندهم... ﴾ أي : بل أيملكون خزائن رحمته تعالى فيتصرفون فيها كما يشاءون فيتخيرون للنبوة من يريدون.
﴿ فليرتقوا في الأسباب ﴾ أي : إن كان عندهم خزائن الرحمة ولهم ذلك الملك، فليصعدوا في المعارج
والطرق التي توصلهم إلى العرش حتى يستووا عيه، ويدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يختارونه، ويمنعوا إنزاله على محمد ! يقال : رقى يرتقى وارتقى، إذا صعد. والأسباب : جمع سبب ؛ وأصله كل ما يتوصل به إلى غيره من حبل أو نحوه. والأمر للتهكم.
﴿ جندنا ما هنالك مهزوم من الأحزاب ﴾ أي : هم – والمراد قريش – جند كثير من الكفار المتحزبين مهزوم مكسور عما قريب ؛ فمن أين لهم تدبير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية ؟ فلا تكترث بهم. والهزيمة المبشر بها : ما وقع لهم يوم بدر، أو يوم الفتح. وأصل الهزم : غمز الشيء اليابس حتى يتحطم ويكسر. يقال : تهزمت القربة، يبست وتكسرت. وهزمت الجيش : كسرته.
﴿ وفرعون ذو الأوتاد ﴾ أي : المباني العظيمة الضخمة. أو الجنود الذين يقوون ملكه كما تقوى الأوتاد البيت. أو الملك الثابت ثبوت البيوت بالأوتاد.
﴿ وأصحاب الأيكة ﴾ هم قوم شعيب عليه السلام.
﴿ وما ينظر هؤلاء ﴾ ما ينتظر كفار مكة الذين هم أمثال أولئك الكفار المهلكين ( إلا صيحة واحدة ) هي نفخة البعث ( ما لها من فواق ) أي من توقف وانتظار مقدار فواق ناقة ؛ وهو الزمن الذي بين الحلبتين. أو رجوع اللبن في الضرع بعد الحلب. وقرئ بالضم بمعناه.
﴿ عجل لنا قطنا ﴾ أي نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة. والقط : النصيب المغروز ؛ كأنه قط وقطع من غيره. ويطلق على صحيفة الجائزة ؛ لأنها كانت تخرج في صكاك مقطوعة. أي عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها. وجمعه قطوط وقططة.
﴿ واذكر عبدنا داود ﴾ قص الله تعالى في هذه السورة قصص طائفة من الأنبياء عليه السلام ؛
تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم. أي اذكر ما حصل لهم من المشاق والمحن ؛ فصبروا عليها حتى فرج الله عنهم، فكانت عاقبتهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت ! تصبر، وأمرك آيل لا محالة إلى أحسن حال.
﴿ ذا الأيد ﴾ أي القوة في العبادة والدين. يقال : آد الرجل يئيد أيدا وإيادا، إذا قوي واشتد، فهو أيد ؛ ومنه : أيدك الله تأييدا. ﴿ إنه أواب ﴾ رجاع إلى ما يرضى الله. وروى في تفسيره : أنه الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى ؛ من آب الرجل إلى أهله : رجع.
﴿ يسبحن ﴾ يقدسن الله تعالى معه إذا سبح﴿ بالعشي ﴾ أي من الزوال إلى الغروب. أو إلى الصباح. ﴿ والإشراق ﴾ أي ووقت إشراق الشمس، أي وقت ارتفاعها عن الأفق الشرقي وصفاء شعاعها ؛ وهو الضحوة الصغرى. يقال : شرقت الشمس، إذا طلعت. وأشرقت : إذا أضاءت وصفت. وتخصيص هذين الوقتين بالذكر لاختصاصهما بمزيد شرف.
﴿ وآتيناه الحكمة ﴾ النبوة وكمال العلم وإتقان العمل. ﴿ وفصل الخطاب ﴾ فصل الخصام بالتمييز بين الحق والباطل. أو الكلام الفاصل بين الصواب والخطأ ؛ وهو كلامه في القضايا والحكومات، وتدبير الملك والمشورات.
﴿ وهل أتاك نبأ الخصم ﴾ أي المتخاصمين، أن الخصماء. والخصم : يطلق على الواحد والأكثر والمذكر والمؤنث. والمخاصمة : المنازعة. وأصلها : أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر، أي بجانبه. أو أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب.
﴿ تسوروا المحراب ﴾ علوا سور غرفته التي كان يتعبد فيها، ونزلوا من أعلاه إليه. والسور : الحائط المرتفع ؛ نظير : تسم الجمل، إذا علا سنامه.
﴿ بغى ﴾ تعدى وظلم﴿ بعضنا على بعض ﴾.
﴿ ولا تشطط ﴾ لا تتجاوز الحق في الحكم. يقال : شط عليه في الحكم يشطط شططا. واشتط
وأشط : جار وتجاوز الحد. ﴿ واهدنا إلى سواء الصراط ﴾ أرشدنا إلى قصد السبيل، وهو الوسط العدل. والمراد : عين الحق.
﴿ أكفلنيها ﴾ أي اجعلني أكفلها. والمراد ملكنيها، وأنزل لي عنها حتى أكفلها. يقال : كفل عنه بالمال لغريمه. وأكفله المال : ضمنه إياه. وكفله إياه – بالتخفيف – فكفل هو به – من بابي نصر ودخل – كفله إياه تكفيلا مثله. وقيل : اجعلها كفلي أي نصيبي. ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ غلبني في المحاجة، بأن أتى فيها بما لم أطق رده. يقال : عزه في الخطاب وعازه، غلبه.
﴿ وظن داود أنما فتناه ﴾ علم وأيقن أننا ابتليناه بما جرى في مجلس الحكومة﴿ فاستغفر ربه ﴾ لزلته بالنسبة لمقامه ومنزلته. ﴿ وخر راكعا ﴾ أي ساجدا لله تعالى. وعبر عنه بالركوع لأن في كل منهما انحناء ؛ ولذا كانت آية سجدة. ﴿ وأناب ﴾ رجع إلى الله تعالى بالتوبة من ارتكابه خلاف الأولى في هذه القصة. وحاصلها كما ذهب إليه أبو حيان وغيره : أن المتسورين المحراب كانوا إنسا، وقد دخلوا إليه من غير المعتاد، وفي غير وقت جلوسه للحكم ؛ ففزع منهم ظانا أنهم يريدون اغتياله، إذ كان منفردا في محرابه ابتلاء منه تعالى له. فلما ظهر له أنهم جاءوا إليه في خصومة ليحكم بينهم، وأن ما ظنه غير واقع استغفر من ذلك الظن ؛ حيث اختلف ولم يقع مظنونه، وخر ساجدا منيبا إلى الله تعالى.
فغفر الله له ذلك الظن الذي ما كان ينبغي من مثله ؛ وحسنات الأبرار سيئات المقربين. ويقرب منه ما قيل : إنهم كانوا يقصدون قتله، فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا هذه الخصومة ؛ فعلم قصدهم، وعزم أن ينتقم منهم، فظن أن ذلك امتحان من الله تعالى له : هل يغضب لنفسه أم لا ؛ فاستغفر ربه مما عزم عليه لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به.
﴿ وإن له عندنا لزلفى ﴾ لقربة منا ومكانة. والزلفى والزلفة : القربة والمنزلة. ﴿ وحسن مآب ﴾ أي مرجع ومنقلب، وهو الجنة.
﴿ يا داود إنا جعلناك خليفة ﴾ استخلفه الله على الملك في الأرض، والحكم فيما بين أهلها، وأرشده لما يقتضيه منصب الخلافة. وفيه إرشاد لمن سواه من الحكام. ﴿ فيضلك عن سبيل الله ﴾ أي فيكون اتباع الهوى سببا لضلالك عن الدلائل التي نصبها الله تعالى على الحق ؛ تشريعا وتكوينا، عقلية ونقلية. والضلال عن سبيل الله يستلزم نسيان يوم الحساب الموجب للعذاب الشديد.
﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ﴾ أي خلقنا عبثا مجردا عن الحكمة ؛ بل خلقناها خلقا مشتملا على الحكم الباهرة، والمصالح الجمة، والأسرار البالغة. وذلك أقوى دليل على عظم القدرة، وأنه لا يتعاصاها أمر البعث والحساب. وعلى أنه تعالى لا يترك الناس سدى إذا ماتوا ؛ بل يعيدهم ويحاسبهم على ما قدموا وأخروا. ﴿ ذلك ﴾ أي خلقها باطلا﴿ ظن الذين كفروا ﴾ أي مظنونهم ؛ فإن جحودهم البعث والجزاء ذهاب منهم إلى أن خلقها عبث خال عن الحكمة.
﴿ أم نجعل الذين آمنوا... ﴾ تقرير لوجوب البعث والجزاء ؛ إذ لو لم يجب لاستوى المصلحون والمفسدون، والمتقون والفجار ؛ وذلك محال.
﴿ إذ عرض عليه ﴾ متعلق باذكر مقدرة. ﴿ بالعشي ﴾ أي من الزوال إلى الغروب. ﴿ الصافنات ﴾ الصافن من الخيل : القائم على ثلاث قوائم، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. يقال : صفن يصفن صفونا، فهو صافن. ﴿ الجياد ﴾ جمع جواد، وهو الفرس – ذكرا كان أو أنثى – إذا كان
سريع العدو، أو جيد الركض. يقال : جاد الفرس يجود جودة فهو جواد، إذا صار رائعا. وصفت هذه الخيل بوصفين محمودين واقفة وجارية. وقد استمر عرضها حتى غابت الشمس ولم يصل العصر
﴿ فقال إني أحببت ﴾ آثرت﴿ حب الخير ﴾ أي الخيل. والعرب تسمى الخيل خيرا. ﴿ عن ذكر ربي ﴾ أي عليه. ﴿ حتى توارت ﴾ أي استترت الشمس﴿ بالحجاب ﴾ بما يحجبها عن الأبصار.
﴿ ردوها علي ﴾ أي أعيدوا عرض الخير مرة أخرى. ﴿ فطفق مسحا بالسوق والأعناق ﴾ أي شرع يضرب سوقها وأعناقها بالسيف قربة لله تعالى ؛ وكان تقريب الخيل مشروعا في شريعته.
وقيل : المراد بالمسح وسمها لتعرف أنها خيل محبوسة في سبيل الله. وقال الإمام في تفسير الآية : إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في شريعتهم، كم هو مندوب في شريعتنا ؛ ثم إن سليمان احتاج إلى الجهاد، فأمر بإحضار الخيل وإعدائها، قال، إني أحبها لأجل الدنيا وحظّ النفس، وإنما أحبها لأمر الله وتقوية دينه ؛ وهو المراد لقوله : " عن ذكر ربي ". ثم أمر باعدائها حتى توارت بالحجاب، ثم بردّها إليه ؛ فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، عناية بها لكونها من أعظم عدد الجهاد، وإعلاما بأن من الحزم مباشرة الوالي الأمور بنفسه كلما استطاع ؛ لأنه كان أعلم الناس بأحوال الخيل ومحاسنها، وعيوبها وأمراضها، فكان يمسحها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض. وقال : إن هذا هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن، ولا يترتب عليه شيء من المحظورات. اه ملخّصا. ونقل الآلوسي عن الشعراني نحوه، ثم بعد أن ناقش هذا التفسير قال : إنه وجه ممكن في الآية على بعد، إذا قطع النظر عن الأخبار المأثورة.
﴿ ولقد فتنا سليمان... ﴾ ابتليناه واختبرناه. وسبب ذلك على ما في الصحيحين : أنه حلف ليطوفن على نسائه الليلة ؛ لتلد كل واحدة فارسا يجاهد في سبيل الله. فقيل له : قل إن شاء الله ؛ فنسى ولم يقل. فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا واحدة جاءت بشق إنسان، وهو الجسد الذي ألقته القابلة على كرسيه حين عرضته عليه ليراه ؛ فكان ذلك محنته لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص وغلب عليه من التمني ؛ وذلك بالنسبة إلى مقامه خلاف الأولى، وقد عدّه ذنبا فأناب إلى الله ورجع إليه، وإلى ذلك ذهب المحققون كالقاضي عياض وغيره.
﴿ تجري بأمره رخاء ﴾ لينة غير عاصفة حين بركبها مع قوتها وشدتها في ذاتها ؛ كما قال تعالى : " ولسليمان الريح عاصفة " . ﴿ حيث أصاب ﴾ أي قصد وأراد. تقول العرب : أصاب الصواب وأخطأ الجواب.
﴿ وآخرين مقرنين في الأصفاد ﴾ مقرونا بعضهم ببعض الأغلال والقيود، وهم المردة من الشياطين. جمع صفد، وهو ما يوثق به الأسير من وقد وقيد وغل. والمراد : تمثيل كفّهم عن الشرور بالإقران في الأصفاد.
﴿ وحسن مآب ﴾ مصير ومرجع في الآخرة.
﴿ أيوب ﴾ قيل : هو من نسل إسحاق عليه السلام. وأمه بنت لوط عليه السلام. ﴿ أنى مسني الشيطان بنصب ﴾ أي بداء وبلاء وشر﴿ وعذاب ﴾ أي ألم وضر ناشئ من النصب ؛ أي نالني منه ذلك بسبب وسوسته لي – وأنا مريض فاقد الأهل والمال – بالقنوط من الرحمة، والجزع من المصيبة، وقد جاهدت في دفعه ؛ فأستغيث بك يا ربي في صرفه عني ! وكشف البلاء الذي نزل بي !
فأوحى إليه :﴿ اركض برجلك ﴾ أي اضرب بها الأرض. قيل : هي أرض الجابية بالشام ؟ يقال : ركض الدابة برجله، أي دفعها وحرّكها بها. ففعل فنبعت عين فأوحى إليه :﴿ هذا مغتسل بارد وشراب ﴾ فاغتسل به، واشرب منه يبرأ ظاهرك وباطنك ؛ ففعل فذهب عنه كل داء.
﴿ وخذ بيدك ضغثا ﴾ قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان. وفي اللسان : هو قبضة من قضبان مختلفة يجمعها أصل واحد، مثل الاسل والكراث والثمام. روي أنه عليه السلام أخذ حزمة من أسل فيها مائة عود، وهو قضبان رقاق لا ورق لها يعمل منه الحصر. وروي أنه أخذ عثكال النخل وهو شماريخه. ﴿ فاضرب به ﴾ امرأتك﴿ ولا تحنث ﴾ في يمينك. وكان قد حلف أن يضربها مائة ضربة إذا برأ بسبب إبطائها عليه ؛ فحلل الله يمينه بأهون شيء عليهما لحسن خدمتها له. وهذه الرخصة باقية في شريتنا. وقيل : هي خاصة بأيوب عليه السلام.
﴿ أولى الأيدي والأبصار ﴾ أو القوة في الطاعة، والبصير في الدين. جمع يد بمعنى القوة. وبصر بمعنى بصيرة مجازا.
﴿ إنا أخلصناهم بخالصة ﴾ جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة لا شوب فيها ؛ هي تذكرهم للآخرة دائما. والباء للسببية.
﴿ وذا الكفل ﴾ هو رجل صالح من بني إسرائيل، تكفل لأحد أنبيائهم بطاعات فوفّى بها.
﴿ قاصرات الطرف ﴾ : حابسات نظرهن على أزواجهن ؛ لشدة محبتهن لهم. ﴿ أتراب ﴾ أي مستويات في السن والشباب والحسن.
﴿ ماله من نفاذ ﴾ أي : انقطاع وفناء أبدا. يقال : نفذ نفاذا ونفذا، فني وذهب.
﴿ جهنم يصلونها ﴾ يدخلونها أو يقاسون حرها. ﴿ فبئس المهاد ﴾ أي : ما مهدوه لأنفسهم وهو الفراش.
﴿ حميم ﴾ ماء بالغ أقصى الحرارة. ﴿ وغساق ﴾ صديد يسيل من أجسامهم ؛ من قولهم : غسق الجرح – كضرب وسمع – غسقانا، إذا سال منه ماء أصفر.
﴿ وآخر من شكله أزواج ﴾ أي : وعذاب آخر من مثل الحميم والغساق في الشدة والفظاعة : أصناف وأجناس.
يقول بعض الطاغين لبعض عند دخولهم النار مع أتباعهم :﴿ هذا فوج ﴾ أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال. ﴿ مقتحم معكم ﴾ داخل معكم النار كرها، مقاس فيها ما تقاسونه ؛ فإنهم يضربون بمقامع من حديد حتى يقتحموها بأنفسهم خوفا من تلك المقامع. يقال : قحم في الأمر يقحم قحوما، رمى بنفسه فيه من غير روية. وأقحم فرسه النهر فانقحم : أي أدخله فدخل.
﴿ لا مرحبا بهم ﴾ دعاء عليهم بضيق المكان ؛ أي لا أتوا مكانا رحبا بل ضيقا. ﴿ إنهم صالوا النار ﴾ داخلوها أو مقاسو حرّها مثلنا آية ٧٠ مريم .
﴿ أنتم قدمتموه لنا ﴾ أي أنتم قدمتم الصلىّ لنا بإغوائنا وإغرائنا على ما قدمنا من الكفر ولم نرتكبه من تلقاء ألأنفسنا !
﴿ وقالوا ﴾ أي الطاغون بعضهم لبعض :﴿ ما لنا نرى ﴾ في النار﴿ رجالا كنا نعدهم ﴾ في الدنيا﴿ من الأشرار ﴾ أي الأراذل الذين لا خير فيهم. يعنون بذلك الضعفاء من المؤمنين كعمّار وبلال وصهيب وسلمان وخبّاب.
﴿ أتخذناهم سخريا ﴾ الهمزة للاستفهام، وقد سقطت لأجلها همزة الوصل. " سخريا " أي هزءا وسخرية في الدنيا. أنكروا على أنفسهم ذلك الاستسخار ؛ حيث لم يروهم معهم في النار. ﴿ أم زاغت ﴾ مالت﴿ عنهم الأبصار ﴾ فلا نراهم وهم فيها.
﴿ قل هو نبأ عظيم... ﴾ أي ما أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا من عند الله الذي لا إله إلا هو – نبأ جليل خطير، يجب أن تلقوا إليه بالا، وتذعنوا له إذعانا ؛ ولكنكم قابلتموه بالإعراض والتكذيب، لفرط غفلتكم وتماديكم في ضلالتكم. ثم عقب ذلك بذكرنا نبأ لا يمكن أن يعرف إلا من طريق الوحي ؛ ليكون دليلا على صدقه صلى الله عليه وسلم في أخباره، وأنه رسول من عند ربه، وهو قصة خلق آدم.
﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ : أفضت عيه ما به الحياة من الروح التي هي من أمري.
﴿ فقعوا له ساجدين ﴾ : تحية له وتكريما.
﴿ لما خلقت بيديّ ﴾ أي للذي خلقته بيدي. ومذهب السلف فيه : أن اليد – مفردة وغير مفردة – إذا وصف الله تعالى بها نفسه فهي صفة ثابتة له على الوجه الذي يليق بكماله، مع تنزهه تعالى عن مشابهة الحوادث في الجسمية والجوارح ؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ! ومذهب الخلف : تأويل اليد أو النعمة بالقدرة أو النعمة. والتثنية للتأكيد. أو أنه تمثيل للاعتناء بخلقه ؛ [ راجع المسألة الرابعة من المقدمة ص ٨ ].
﴿ إلى يوم الوقت المعلوم ﴾ المعين لفناء الخلق، وهو وقت النفخة الأولى لا إلى يوم البعث.
﴿ فبعزتك ﴾ أي : بسلطانك وقهرك. ﴿ لأغوينهم أجمعين ﴾ لأضلنّهم بتزيين المعاصي لهم.
﴿ قال ﴾ الله تعالى﴿ فالحق والحق أقول ﴾ " الحق " الأولى مبتدأ خبره محذوف ؛ أي فالحق قسمي لأملأن جهنم. أقسم الله بالحق الذي هو ضد الباطل تعظيما له. أو بالحق هو من أسمائه تعالى. " والحق " الثاني مفعول ل " أقول " قدّم عليه لإفادة الحصر ؛ أي لا أقول إلا الحق، والجملة معترضة بين القسم والمقسم عيه لتقرير مضمون الجملة القسميّة.
﴿ وما أنا من المتكلّفين ﴾ من المتصنعين الذي يتحلون بما ليسوا من أهله ؛ حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن، وأتخرّص ما لم يأمرني به الله. يقال : تكلفا الشيء، إذا تجشمته على خلاف عادتك. والمتكّلف : العرّيض لما لا يعينه. والله أعلم.