تفسير سورة سورة ص من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم
.
لمؤلفه
المنتخب
.
المتوفي سنة 2008 هـ
هذه السورة هي الثامنة وثلاثون من سور القرآن الكريم، وهي مكية وآياتها ثمان وثمانون آية. وقد صورت لنا لونا من عناد المشركين لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وحسدهم على ما كرمه الله به من شرف الرسالة ونزول القرآن. فردت عليهم ما تعلقوا به من أوهام باطلة، وبينت أن الذي حملهم على محاربة الدعوة ما هم فيه من أنفة كاذبة وحب للمخالفة والشقاق، وأنه لو نزل بهم عذاب الله لما كان موقفهم من الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذا الموقف. ثم ضرب الله الأمثال بالأمم السابقة، ليكون ذلك زجرا لهم عن العناد واللجاج، وتثبيتا لرسوله صلى الله عليه وسلم على ؟ إبلاغ الدعوة مهما يلاقي في سبيلها من عنت المشركين ومكرهم، وليشكر الله على ما يفيء عليه من نعم، كما فعل إخوانه من الأنبياء والمرسلين. وعقب هذا ذكر ما أعده الله للمتقين من حسب المآب، وما أعده للطاغين من شر المآل، ثم ذكرهم بما كان بين أبيهم آدم عليه السلام وعدوه إبليس، ليعلموا أن ما يدعوهم إليه من التكبر عن اتباع الحق خلق من أخلاقه، وأن هذا الاستكبار كان سببا لطرده من رحمة الله.
ﰡ
ص : حرف بدئت به السورة على طريقة القرآن في بدء بعض السور بالحروف المقطعة، أقسم بالقرآن ذي الشرف والشأن العظيم إنه لحق لا ريب فيه.
بل الذين كفروا في استكبار عن اتباع الحق ومعاندة لأهله.
كثيراً ما أهلكنا قبلهم من أمة مكذبة، فاستغاثوا حين جاءهم العذاب، وليس الوقت وقت خلاص منه.
وعجب هؤلاء أن جاءهم رسول بشر مثلهم، وقال الجاحدون لرسالته : هذا مموه شديد الكذب.
أجعل الآلهة المتعددة إلهاً واحداً ؟ إن هذا الأمر بالغ نهاية العجب.
واندفع الكُبراء منهم يوصى بعضهم بعضاً : أن سيروا على طريقتكم، واثبتوا على عبادة آلهتكم. إن هذا لأمر جسيم يراد بنا.
ما سمعنا بهذا التوحيد في دين آبائنا الذين أدركناهم. ما هذا إلا كذب مصنوع.
أخص محمد من بيننا بشرف نزول القرآن عليه ؟ ليس الحق في شيء مما زعموا بل هم من القرآن في حيرة وتخبط. بل إنهم لم يتحيروا ويتخبطوا إلا لأنهم لم يذوقوا عذابي بعد وإنهم لذائقوه.
بل نسأل هؤلاء الحاسدين لك : أعندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب، حتى يتخيروا للنبوة من تهوى أنفسهم ؟.
بل نسألهم : ألهم مُلْك السماوات والأرض وما بينهما ؟ ! إذن فليتدرجوا في المراقي إلى المنزلة التي يتحكمون فيها بما يشاءون، إن استطاعوا.
جند حقير هنالك مهزوم - لا محالة - كما هزم أمثالهم من المتحزبين على الأنبياء ؟
كذبت قبل هؤلاء قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأبنية العظيمة الراسخة كالجبال، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب - أصحاب الشجر الكثيف الملتف - أولئك الذين تحزبوا على رسلهم كما تحزب قومك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢: كذبت قبل هؤلاء قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأبنية العظيمة الراسخة كالجبال، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب - أصحاب الشجر الكثيف الملتف - أولئك الذين تحزبوا على رسلهم كما تحزب قومك.
ما أحد من كل هؤلاء إلا كذَّب رسوله، فحل بهم عقابي.
وما ينتظر هؤلاء المتحزبون على الرسل إلا صيحة واحدة لا تحتاج إلى تكرار.
وقال الكافرون مستهزئين : ربنا عجِّل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم الجزاء.
اصبر - يا محمد - على ما يقوله فيك المشركون، واذكر عبدنا داود ذا القوة في الدين والدنيا، إنه كان رجَّاعاً إلى الله في جميع أحواله.
إنا ذللنا الجبال معه، يستغل ما فيها من منافع، وهُنَّ ينزِّهن الله - تعالى - عن كل نقص في آخر النهار وأوله.
وذللنا له الطير مجموعة من كل صنف وكل مكان، كلٌّ من الجبال والطير رجَّاعة لمشيئة داود، يصرفها كيف شاء للخير العام.
وقوَّينا ملكه، وآتيناه النبوة، وتمييز الحق من الباطل.
وهل جاءك - يا محمد - خبر الخصوم الذين جاءوا داود من سور المحراب وهو محل العبادة، لا من بابه ؟ !.
إذ دخلوا على داود فخاف منهم واضطرب. قالوا : لا تخف نحن متخاصمان، ظلم بعضنا بعضاً، فاحكم بيننا بالعدل ولا تتجاوزه، وأرشدنا إلى الطريقة المثلى.
قال أحد الخصمين : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولى نعجة واحدة فقال : اجعلني كافلها كما أكفل ما تحت يدي، وغلبني في المخاطبة.
قال داود - قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر - : لقد ظلمك بطلب ضم نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من المتخالطين ليجور بعضهم على بعض، إلا من استقر الإيمان في قلوبهم، وكان عمل الصالحات من دأبهم، وهم قلة نادرة، وعرف داود أن الأمر ما هو إلا امتحان منا له فطلب من الله المغفرة، وانحنى راكعاً لله، ورجع إليه خاشعاً.
فغفرنا له تعجّله في الحكم، وإن له عندنا لقربي وحسن مرجع.
وأوحى الله إليه : يا داود إنا صيَّرناك خليفة عنا في الأرض، فاحكم بين الناس بما شرعت لك، ولا تَسِر في الحكم وراء الهوى، فيحيد بك عن سبيل الله، إن الذين يحيدون عن سبيل الله باتباع أهوائهم لهم عذاب شديد بغفلتهم عن يوم الجزاء.
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما عبثاً، ذلك ما يظنه الكافرون، فأجروا الأحكام على أهوائهم، فعذاب شديد للذين كفروا من النار.
أيليق بحكمتنا وعدلنا أن نسوِّى بين المؤمنين الصالحين وبين المفسدين في الأرض ؟، أم يليق أن نسوِّى بين من خاف عذابنا واتقى عقابنا وبين المتمردين على أحكامنا ؟.
هذا المُنَزَّل عليك - يا محمد - كتاب أنزلناه كثير النفع، ليتعمقوا في فهم آياته، وليتعظ به أصحاب العقول الصحيحة والبصائر النَّيِّرة.
ووهبنا لداود سليمان المستحق للثناء، الخليق أن يُقال فيه : نعم العبد، لأنه رجَّاع إلى الله في كل أحواله.
واذكر من أخبار سليمان أنه عرض عليه بعد الظهر الخيل الأصيلة التي تسكن حين وقوفها وتسرع حين سيرها.
فقال سليمان : إني أشربت حب الخيل - لأنها عدة الخير وهو الجهاد في سبيل الله - حبا ناشئاً عن ذكر ربي، وما زال مشغولا بعرضها حتى غابت الشمس عن ناظريه.
أمر بردها عليه ليتعرف أحوالها، فأخذ يمسح سوقها وأعناقها ترفقاً بها وحباً لها.
ولقد امتحنا سليمان حتى لا يغتر بأبَّهة الملك، فألقينا جسداً على كرسيه لا يستطيع تدبير الأمور، فتنبه إلى هذا الامتحان فرجع إلى الله - تعالى - وأناب.
دعا سليمان ربه - منيباً إليه - : رب اغفر لى ما بدر منى، وهب لى ملكاً لا يليق لأحد من بعدى، إنك أنت الوهَّاب الكثير العطاء.
٣٦- فذللنا له الريح، تجرى حسب مشيئته رخية هينة، حيث قصد وأراد.
وذللنا له كل بنَّاء وغواص في أعماق البحار من الشياطين المتمردين.
وآخرين من هؤلاء الشياطين قرن بعضهم ببعض في الأغلال والسلاسل، ليكف فسادهم عن الآخرين.
وأوحى إليه أن هذا الذي أنعمنا به عليك عطاؤنا، فأعط من شئت واحرم من شئت، فلا حساب عليك في الإعطاء أو المنع.
إن لسليمان عندنا لقربة عظيمة وحُسْن مرجع ومآل.
واذكر - يا محمد - عبدنا أيوب إذ دعا ربه أنى أصابني الشيطان بالتعب والألم.
فاستجبنا له وناديناه : أن اضرب برجليك الأرض، فثمة ماء بارد تغتسل منه وتشرب، فيزول ما بك من نصب وعذاب.
وجمعنا شمله بأهله الذين تفرقوا عنه أيام محنته، وزدنا عليهم مثلهم، وفعلنا ذلك رحمة منا له، وعظة لأولى العقول، ليعرفوا أن عاقبة الصبر الفرج.
كان أيوب قد حلف أن يضرب أحداً من أهله عدداً من العصي، فحلل الله له يمينه بأن يأخذ حزمة فيها العدد الذي حلف أن يضربه به، فيضرب بالحزمة من حلف على ضَرْبه فيبر بيمينه بأقل ألم وقد مَن الله عليه بهذه النعم، لأن الله وجده صابراً على بلائه، فاستحق بذلك الثناء، فنعم الموصوف بالعبادة هو، لأنه رجَّاع إلى الله في كل الأمور.
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى القوة في الدين والدنيا والبصائر النَّيِّرة.
إنا خصصناهم بصفة هي : ذكرهم الدار الآخرة، يذكرونها ويُذَكِّرون بها.
وإنهم عندنا لمن المختارين الأخيار.
واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلهم من الأخيار.
هذا الذي قصصناه عليك نبأ بعض المرسلين تذكير لك ولقومك، وإن للمتقين المتحرزين من عصيان الله - تعالى - حسن مرجع ومآل.
أعد لهم جنات عدن مفتحة لهم أبوابها، لا يصدهم عنها صاد.
يجلسون فيها متكئين على الأرائك والسُّرر شأن المترفين، ويتمتعون فيها بطلب فاكهة كثيرة وشراب كثير.
وعندهم في الجنة من نسوة قصرن أبصارهن على أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم، وهن مستويات السن معهم، ليكون ذلك أدعى إلى الوفاق.
هذا النعيم هو الذي توعدونه ليوم القيامة.
إن هذا لعطاؤنا ما له من نهاية.
هذا النعيم جزاء المتقين. وإن للطاغين المتمردين على أنبيائهم لشر مآل ومنقلب.
جهنم يدخلونها ويقاسون حرها، وبئس الفراش هي.
هذا ماء بلغ الغاية في الحرارة وصديد أهل جهنم، يؤمرون أن يذوقوه.
وعذاب آخر مثل هذا العذاب أنواع مزدوجة.
يقال للطاغين - وهم رؤساء المشركين - : هذا جمع كثير داخلون النار معكم في زحمة وشدة، وهمَ أتباعكم، فيقول هؤلاء الرؤساء : لا مرحباً بهم، إنهم داخلون النار يقاسون مرها، ويكتوون بعذابها.
قال الأتباع : بل أنتم أحق بهذا الدعاء الذي دعوتم به علينا، لأنكم الذين قدمتم لنا هذا العذاب بإغرائكم لنا ودعوتنا إلى الكفر، فكفرنا بسببكم، فبئس الدار والمستقر جهنم.
قال الأتباع : ربنا مَن تسبَّب لنا في هذا العذاب فزده عذاباً مضاعفاً في النار.
قال أهل النار : ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار الأراذل الذين لا خير فيهم ؟ وهم فقراء المسلمين.
كيف اتخذناهم في الدنيا هزؤا ولم يدخلوا النار معنا. أم أنهم دخلوها وزاغت عنهم أبصارنا فلم نرهم ؟
إن ذلك الذي ذكرناه من حديث أهل النار حق لا بد أن يقع، وهو تخاصم ونزاع أهل النار بعضهم مع بعض.
قل للمشركين - يا محمد - : إنما أنا مخوِّف من عذاب الله، وما من معبود بحق إلا الله الواحد الذي لا شريك له، القهار الذي يغلب كل ذي سلطان.
رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الذي لا يغلب، الغفار المتجاوز عن ذنوب من آمن به.
قل لهم - يا محمد - : هذا الذي أنذرتكم به خبر عظيم أنتم عنه معرضون لا تفكرون فيه.
ما كان لى من علم بأخبار الملأ الأعلى وقت اختصامهم في شأن آدم، لأني لم أسلك للعلم الطريق المتعارف بين الناس من قراءة الكتب، أو التلقي عن المعلمين، وطريق علمي هو : الوحي.
ما يوحى إلى إلا لأنني رسول أبلِّغكم رسالة ربي بِأَبْيَن عبارة.
اذكر لهم حين قال ربك للملائكة : إني خالق بشراً - وهو آدم عليه السلام - من طين.
فإذا أتمت خلقه ونفخت فيه سر الحياة - وهو الروح - فخِروا له ساجدين سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة.
فامتثل الملائكة كلهم أجمعون، وخروا له ساجدين، إلا إبليس لم يسجد، وتعاظم وتكبر، وكان بهذا التكبر من الكافرين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣: فامتثل الملائكة كلهم أجمعون، وخروا له ساجدين، إلا إبليس لم يسجد، وتعاظم وتكبر، وكان بهذا التكبر من الكافرين.
قال الله تعالى : يا إبليس، ما منعك من السجود لما خلقته بنفسي بلا واسطة ؟ أتكبرت مع أنك غير كبير، أم أنت في حقيقة نفسك من المتفوقين ؟.
قال إبليس : أنا خير من آدم لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين، فكيف أسجد له.
قال الله تعالى لإبليس - جزاء له على تكبره عن أمر ربه - : فاخرج من جماعة الملأ الأعلى، فإنك مطرود من رحمتي.
وإن عليك إبعادي لك عن كل خير إلى يوم الجزاء، فتجزى على كفرك بي وتكبرك علي.
قال إبليس : رب أمهلني ولا تمتني إلى يوم البعث.
قال الله تعالى : فإنك من المؤجلين الممهلين.
إلى يوم الوقت المعلوم لنا، وهو نهاية الدنيا.
قال إبليس : فبعظمتك وجلالك لأغوين البشر أجمعين، إلا عبادك الذين أخلصتهم لطاعتك، فلا سلطان لي عليهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٢: قال إبليس : فبعظمتك وجلالك لأغوين البشر أجمعين، إلا عبادك الذين أخلصتهم لطاعتك، فلا سلطان لي عليهم.
قال الله تعالى : الحق يميني وقسمي، ولا أقول إلا الحق، لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين وممن تبعك من ذرية آدم أجمعين، لا فرق عندي بين تابع ومتبوع.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:قال الله تعالى : الحق يميني وقسمي، ولا أقول إلا الحق، لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين وممن تبعك من ذرية آدم أجمعين، لا فرق عندي بين تابع ومتبوع.
قل لأمتك - يا محمد - : ما أسألكم على ما أمرت بتبليغه إليكم من القرآن والوحي أجراً، وما أنا من الذين يتحلون بما ليس فيهم حتى أدعى النبوة.
ما القرآن إلا تذكير وعظة للعالمين جميعاً.
ولتعلمن - أيها المكذبون به - صدق ما اشتمل عليه من وعد ووعيد وأخبار عن أمور مستقبلة وآيات كونية بعد وقت قريب.