تفسير سورة الزمر

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الزمر مكية وهي سبعون وخمس آيات.

سورة الزمر
وهي سبعون وخمس آيات وهي مكية
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
قول الله تبارك وتعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ يعني: القرآن صار رفعاً بالابتداء، وخبره من الله تعالى. أي: نزل الكتاب مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ بالنقمة الْحَكِيمِ في أمره.
ومعناه: نزل جبريل بهذا القرآن من عند الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقال بعضهم: صار رفعاً لمضمر فيه. ومعناه: هذا الكتاب تنزيل.
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني: أنزلنا إليك جبريل بالكتاب بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ يعني: استقم على التوحيد، وعلى عبادة الله تعالى مخلصاً، وإنما خاطبه، والمراد به قومه. يعني: وحدوا الله تعالى، ولا تقولوا مع الله شريكاً.
ثم قال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ يعني: له الولاية، والوحدانية. ويقال: له الدين الخالص، والخالص هو دين الإسلام. فلا يقبل غيره من الأديان، لأن غيره من الأديان ليس هو بخالص سوى دين الإسلام.
176
قوله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني: عبدوا من دونه أرباباً، وأوثاناً، مَا نَعْبُدُهُمْ على وجه الإضمار. قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ يعني: يقولون ما نعبدهم. وروي عن عبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب، أنهما كانا يقرآن وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قالوا:
ما يعبدهم بالياء، وقراءة العامة مَا نَعْبُدُهُمْ على وجه الإضمار، لأن في الكلام دليلاً عليه إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني: ليشفعوا لنا، ويقربونا عند الله. ويقال: لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى يعني: منزلة.
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يعني: يقضي بينهم يوم القيامة فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين.
ثم قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي أي: لا يرشد إلى دينه مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ في قوله: الملائكة بنات الله وعيسى ابن الله كَفَّارٌ يعني: كفروا بالله بعبادتهم إياهم. ويقال:
معناه لا يوفق لتوحيده من هو كاذب على الله، حتى يترك كذبه، ويرغب في دين الله. لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما قلتم لَاصْطَفى يعني: لاختار من الولد مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ من خلقه إن فعل ذلك.
ثم قال: سُبْحانَهُ نزه نفسه عن الولد، وعن الشرك، هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يعني:
الذي لا شريك له الْقَهَّارُ يعني: القاهر لخلقه.
ثم بيّن ما يدل على توحيده، ويعجز عنه المخلوقون. قوله عز وجل: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني: للحق، ولم يخلقهما باطلاً لغير شيء يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ قال مجاهد: يعني: يدهور الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ يعني: يدهور النهار على الليل. وقال مقاتل يُكَوِّرُ يعني: يسلط عليه، وهو انتقاص كل واحد منهما من صاحبه.
وقال الكلبي: يُكَوِّرُ يعني: يزيد من النهار في الليل، فيكون اللَّيل أطول من النهار، ويزيد من الليل في النهار، فيكون النهار أطول من الليل. هذا يأخذ من هذا، وهذا يأخذ من هذا.
وقال القتبي يُكَوِّرُ يعني: يدخل هذا على هذا. وأصل التكوير اللف، والجمع، ومنه كور العمامة ومنه قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) [التكوير: ١] وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني: ذلل ضوء الشمس، والقمر، للخلق كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني:
إلى أقصى منازله. ويقال: إلى يوم القيامة. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ يعني: الْعَزِيزُ بالنقمة لمن لم يتب الْغَفَّارُ لمن تاب. ويقال: الْعَزِيزُ في ملكه. الْغَفَّارُ لخلقه بتأخير العذاب.
177

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦ الى ٧]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
قوله عز وجل: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني: من نفس آدم عليه السلام ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها حواء وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني: ثمانية أصناف. وقد فسرناه في سورة الأنعام يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، حالاً بعد حال، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ أي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، وهو الذي يكون فيه الولد في الرحم، فتخرج بعد ما يخرج الولد، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني: الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم، لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعني: من أين تكذبون على الله، ومن أين تعدلون عنه إلى غيره؟ فاعلموا، أنه خالق هذه الأشياء.
ثم قال: إِنْ تَكْفُرُوا يعني: إن تجحدوا وحدانيته، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ يعني: عن إقراركم، وعبادتكم، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ قال الكلبي: يعني: ليس يرضى من دينه الكفر. ويقال: لاَ يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وهو ما قاله لإبليس: إن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان. ويقال: لاَ يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ يعني: بشيء من عبادة الكفار وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ يعني: إن تؤمنوا بالله، وتوحدوه، يرضه لكم. يعني: يقبله منكم، لأنه دينه، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يعني:
مصيركم في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ يعني: فيخبركم، بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير، أو شر، فيجازيكم، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني: عالم بما في ضمائر قلوبهم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٨ الى ١٠]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
178
ثم قال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ يعني: إذا أصاب الكافر شدة في جسده، دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ يعني: مقبلاً إليه بدعائه ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ قال مقاتل يعني: أعطاه، وقال الكلبي: يعني: بدله عافية مكان البلاء نَسِيَ ترك الدعاء ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ويتضرع به، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً يعني: يصف لله شريكاً، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، لِيُضِلَّ بنصب الياء، وهو من ضل يضل. يعني: ترك الهدى. وقرأ الباقون:
لِيُضِلَّ بالضم. يعني: ليضلّ الناس. ويقال: ليضل نفسه بعبادة غير الله، ويصرفهم عن سبيل الله. يعني: عن دين الله قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا يعني: عش في الدنيا مع كفرك قليلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ يعني: من أهل النار.
قوله عز وجل: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً وأصل القنوت هو القيام. ثم سمي المصلي قانتاً، لأنه بالقيام يكون. ومعناه: أمن هو مصل كمن لا يكون مصلياً على وجه الإضمار. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ القَانِتِ القَائِمِ» يعني: المصلي القائم. قرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، أمن بالتخفيف. وقرأ الباقون:
بالتشديد. فمن قرأ: بالتخفيف، فقد روي عن الفراء أنه قال: معناه يا من هو قانت. كما تقول في الكلام: فلان لا يصوم، ولا يصلي، فيا من يصلي، ويصوم، أبشر. فكأنه قال: يا من هو قانت أبشر. ومن قرأ: بالتشديد. فإنَّه يريد به معنى الذي. ومعناه: الذي هو من أصحاب النار. فهذا أفضل أم الذي هو قانت آناء الليل. يعني: ساعات الليل في الصلاة، ساجداً، وقائماً في الصلاة، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ يعني: يخاف عذاب الآخرة، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ يعني:
مغفرة الله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وهم المؤمنون، وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ وهم الكفار في الثواب، والطاعة. ويقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ يعني: يصدقون بما وعد الله في الآخرة من الثواب، وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يعني: لا يصدقون. ويقال: معناه قُلْ هَلْ يستوي العالم والجاهل. فكما لا يستوي العالم والجاهل، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: يعتبر في صنعي، وقدرتي من له عقل، وذهن.
قوله عز وجل: قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، اتَّقُوا رَبَّكُمْ يعني: اخشوا ربكم في صغير الأمور، وكبيرها، واثبتوا على التوحيد.
ثم قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني: لمن عمل بالطاعة في الدنيا حسنة، له الجنة في الآخرة. ويقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا يعني: شهدوا أن لا إله إلا الله في الدنيا حسنة. يعني: لهم الجنة في الآخرة. ويقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي: ثبتوا على إيمانهم فلهم الجنة.
قوله: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ قال مقاتل: يعني: الجنة واسعة. وقال الكلبي: وَأَرْضُ
179
اللَّهِ واسِعَةٌ
يعني: المدنية، فتهاجروا فيها. يعني: انتقلوا إليها، واعملوا لآخرتكم، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ يعني: هم الذين يصبرون على الطاعة لله في الدنيا، جزاؤهم، وثوابهم على الله، بِغَيْرِ حِسابٍ يعني: بلا عدد، ولا انقطاع. وروى سفيان عن عبد الملك بن عمير، عن جندب بن عبد الله، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ». قال سفيان لما نزل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: ١٦٠] قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم:
«رَبِّ زِدْ أُمَّتِي». فنزل: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: ٢٦١] قال: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» فنزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً
[البقرة: ٢٤٥] فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «رَبِّ زِدْ أُمَّتِي» فنزل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فانتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ٢٠]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
قال عز وجل: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألا تنظر إلى ملة أبيك عبد الله، وملة جدك عبد المطلب، وسادات قومك يعبدون الأصنام؟ فنزل: قُلْ يا نبي الله إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ يعني: التوحيد، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من أهل بلدي قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وعبدت غيره، ينزل علي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي: في يوم القيامة قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ يعني: أعبد الله مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أي: توحيدي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ من الآلهة. وهذا كقوله:
180
لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرون: ٦] ويقال: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ لفظه لفظ التخيير والأمر، والمراد به التهديد والتخويف، كقوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ وكقوله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ويقال: قد بيّن الله ثواب المؤمنين، وعقوبة الكافرين. ثم قال: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وذلك قبل أن يؤمر بالقتال، فلما أيسوا منه أن يرجع إلى دينهم، قالوا: خسرت إن خالفت دين آبائك. فقال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني: أنتم الخاسرون، لا أنا. ويقال: الذين خسروا أنفسهم بفوات الدرجات، ولزوم الشركات، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يعني: الظاهر حيث خسروا أنفسهم، وأهلهم، وأزواجهم، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ يعني: أطباقاً من نار، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ يعني:
مهاداً من نار، أو معناه: أن فوقهم نار، وتحتهم نار، ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي: ذلك الذي ذكر، يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ في القرآن، لكي يؤمنوا.
يا عِبادِ فَاتَّقُونِ: أي: فوحِّدون، وأطيعون، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ قال مقاتل:
يعني: اجتنبوا عبادة الأوثان. وقال الكلبي: الطَّاغُوتَ يعني: الكهنة أَنْ يَعْبُدُوها يعني:
أن يطيعوها، ورجعوا إلى عبادة ربهم وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي: أقبلوا إلى طاعة الله. ويقال:
رجعوا من عبادة الأوثان إلى عبادة الله لَهُمُ الْبُشْرى يعني: الجنة. ويقال: الملائكة يبشرونهم في الآخرة، فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يعني: القرآن فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ يعني: يعملون بحلاله، وينتهون عن حرامه، وقال الكلبي: يعني: يجلس الرجل مع القوم، فيستمع الأحاديث، محاسن ومساوئ، فيتبع أحسنه، فيأخذ المحاسن، فيحدث بها، ويدع مساوئه. ويقال: يستمعون القرآن ويتبعون أحسن ما فيه، وهو القصاص، والعفو يأخذ العفو لقوله: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: ١٢٦]، (وقال بعضهم: يستمع النداء، فيستجيب، ويسرع إلى الجماعة. وقال بعضهم: يستمع الناسخ، والمنسوخ، والمحكم من القرآن، فيعمل بالمحكم، ويؤمن بالناسخ والمنسوخ).
ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي: وفقهم الله لمحاسن الأمور. ويقال: هَداهُمُ اللَّهُ أي: أكرمهم الله تعالى بدين التوحيد وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني: ذوي العقول.
قوله عز وجل: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ يعني: وجب له العذاب. ويقال: أفمن في علم الله تعالى أنه في النار، كمن لا يجب عليه العذاب. أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ يعني: تستنقذ من هو في علم الله تعالى، أنه يكون في النار بعمله الخبيث. ويقال: من وجبت له النار: وقدرت عليه.
ثم ذكر حال المؤمنين المتقين فقال عز من قائل: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعني:
وحدوا ربهم، وأطاعوا ربهم، لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ في الجنة، وهي العلالي.
181
غرف مبنية، مرتفعة بعضها فوق بعض، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ في القرآن، لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٢٥)
فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي:
فأدخله في الأرض فجعله ينابيع. يعني: عيوناً في الأرض تنبع. ويقال: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ يعني: جارياً في الأرض، وهي تجري فيها. ويقال: جعل فيها أنهاراً وعيوناً ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أحمر، وأصفر، وأخضر، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يتغير فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي: يابساً بعد الخضرة. ويقال: ثُمَّ يَهِيجُ يعني: ييبس. ويقال: يَهِيجُ أي:
يتم، ويشتد من هاج يهيج. أي: تم يتم فَتَراهُ مُصْفَرًّا متغيراً عن حاله، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً قال القتبي: حُطاماً مثل الرفات، والفتات. وقال الزجاج: الحطام ما تفتت، وتكسر من النبت. وقال مقاتل: حُطاماً يعني: هالكاً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي: فيما ذكر لعظة لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني: لذوي العقول من الناس أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعني:
وسع الله قلبه للإسلام. ويقال: لين الله قلبه لقبول التوحيد، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني:
على هدى من الله تعالى. وجوابه مضمر. يعني أفمن شرح الله صدره للإسلام، واهتدى، كمن طبع على قلبه، وختم على قلبه فلم يهتد. ويقال: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: القرآن.
لأن فيه بيان الحلال والحرام. فهو على نور من ربه لمن تمسك به. ويقال: على نور يعني:
182
التوحيد، والمعرفة. وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ قالوا: فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا دَخَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ انْفَسَحَ، وَانْشَرَحَ».
قالوا: فهل لذلك علامة؟ قال: «نَعَمْ. التَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، وَالاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ».
ثم قال: فَوَيْلٌ يعني: الشدة من العذاب لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: لمن قست، ويبست قلوبهم، مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تعالى. ويقال: القاسية. الخالية من الخير، أُولئِكَ يعني:
أهل هذه الصفة فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في خطأ بيّن.
قوله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أحكم الحديث، وهو القرآن. وذلك أن المسلمين قالوا لبعض مؤمني أهل الكتاب، نحو عبد الله بن سلام: أخبرنا عن التوراة، فإن فيها علم الأولين والآخرين. فأنزل الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أنزل عليكم أحسن الحديث، وهو القرآن. ويقال: أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني: أحسن من سائر الكتب، لأن سائر الكتب صارت منسوخة بالقرآن، كِتاباً مُتَشابِهاً يعني: يشبه بعضه بعضاً، ولا يختلف.
ويقال: مُتَشابِهاً يعني: موافقاً لسائر الكتب في التوحيد، وفي بعض الشرائع. وروي عن الحسن البصري أنه قال: مُتَشابِهاً يعني: خياراً لا رذالة فيه. ويقال: مُتَشابِهاً اشتبه على الناس تأويله.
ثم قال: مَثانِيَ يعني: أن الأنباء، والقصص، تثنى فيه. ويقال: سمي مثاني، لأن فيه سورة المثاني. يعني: سورة الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم قال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني: ترتعد مما فيه من الوعيد، جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.
ويقال: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ يعني: تتحرك مما في القرآن من الوعيد. ويقال: ترتعد منه الفرائض.
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ يعني: بعد الاقشعرار إِلى ذِكْرِ اللَّهِ من آية الرحمة، والمغفرة.
يعني: إذا قرأت آيات الرجاء، والرحمة، تطمئن قلوبهم، وتسكن، ذلِكَ يعني: القرآن هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ يعني: بالقرآن من يشاء الله أن يهديه إلى دينه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: لا يقدر أحد أن يهديه، بعد خذلان الله تعالى.
قوله عز وجل: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يعني: أفمن يدفع بوجهه شدة سوء العذاب، وجوابه مضمر. يعني: هل يكون حاله كحال من هو في الجنة. يعني: ليس الضال الذي تصل النار إلى وجهه، كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه، ليسا سواء. وقال أهل اللغة: أصل الاتقاء في اللغة، الإوتقاء، وهو التستر. يعني: وجهه إلى النار كالذي لا يفعل ذلك به. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يعني: يجر على وجهه في النار، وهذا كقوله: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا
183
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)
[فصلت: ٤٠] ويقال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ معناه:
أنه يلقى في النار مغلولاً، لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ يعني: للكافرين، ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من التكذيب.
قوله عز وجل: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: من قبل قومك، رسلهم، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ يعني: لا يعلمون، ولا يحتسبون، وهم غافلون. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ العذاب فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني: أعظم مما عذبوا به في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولكنهم لا يعلمون.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يعني: بيّنا في هذا القرآن من كل شيء. وقد بيّن بعضه مفسراً، وبعضه مبهماً مجملاً، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي:
لكي يتعظوا قُرْآناً عَرَبِيًّا يعني: أنزلناه قرآناً عربياً بلغة العرب غَيْرَ ذِي عِوَجٍ يعني: ليس بمختلف، ولكنه مستقيم. ويقال: غير ذي تناقض. ويقال: غير ذي عيب. ويقال: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: غير مخلوق. قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا محمد بن داود. قال: حدثنا محمد بن أحمد بإسناده. قال: حدثنا أبو حاتم الداري، عن سليمان بن داود العتكي، عن يعقوب بن محمد بن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: في قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ قال: غير مخلوق لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لكي يتقوا الشرك ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي: بيّن شبهاً رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي: عبداً بين موالي مختلفين يأمره، هذا بأمر، وينهاه هذا عنه. ويقال:
مُتَشاكِسُونَ أي: مختلفون، يتنازعون، وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ أي: خالصاً لرجل لا شركة فيه لأحد. قرأ ابن كثير، وأبو عمر، سَالِماً بالألف، وكسر اللام. والباقون سَلَماً بغير ألف، ونصب السين. فمن قرأ: سَالِماً فهو اسم الفاعل على معنى سلم، فهو سالم. ومعناه:
الخالص. ومن قرأ سَلَماً فهو مصدر. فكأنه أراد به رجلاً ذا سلم لرجل. ومعنى الآية: هل يستوي من عبد آلهة مختلفة، كمن عبد رباً واحداً. وقال قتادة: الرجل الكافر، والشركاء الشياطين، والآلهة، وَرَجُلاً سَلَماً. المؤمن يعمل لله تعالى وحده. وقال بعضهم: هذه المثل
184
للراغب، والزاهد. فالراغب شغلته أمور مختلفة، فلا يتفرغ لعبادة ربه. فإذا كان في العبادة، فقلبه مشغول بها، والزاهد قد يتفرغ عن جميع أشغال الدنيا، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا يعني: عنده في المنزلة يوم القيامة.
الْحَمْدُ لِلَّهِ قال مقاتل: الْحَمْدُ لِلَّهِ حين خصهم. ويقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ على تفضيل من اختاره، على من اشتغل بما دونه. ويقال: يعني: قولوا الحمد لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن عبادة رب واحد، خير من عبادة أرباب شتى. ويقال: لاَّ يَعْلَمُونَ أنهما لا يستويان. ويقال: لاَّ يَعْلَمُونَ توحيد ربهم. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ذلك أن كُفّار قريش قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: ٣٠]، يعني: ننتظر موت محمد- عليه السلام- فنزل:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يعني: أنت ستُموت، وهم سيموتون. ويقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ يعني: إنك لميت لا محالة، وإنهم لميتون لا محالة، والشيء إذا قرب من الشيء سمي باسمه. فالخلق كلهم إذا كانوا بقرب من الموت، فكل واحد منهم يموت لا محالة، فسماهم ميتين.
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ أي: تتكلمون بحججكم. الكافر مع المؤمن، والظالم مع المظلوم. فإن قيل: قد قال في آية أخرى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: ٢٨] قيل له: إن في يوم القيامة ساعات كثيرة، وأحوالها مختلفة، مرة يختصمون، ومرة لا يختصمون.
كما أنه قال: فهم لا يتساءلون، وقال في آية أخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) [الصافات: ٢٧] يعني: في حال يتساءلون، وفي حال لا يتساءلون، وهذا كما قال في موضع آخر:
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) [الرحمن: ٣٩] وقال في آية أخرى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) [الحجر: ٩٢] وكما قال في آية أخرى: لا يتكلمون، وفي آية أخرى أنهم يتكلمون، ونحو هذا كثير في القرآن. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ تَزَال الخُصومَة بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتى تَتَخَاصَم الرُّوح والجَسَد، فَيَقُول الجَسَد: إِنَّمَا كنت بمنزلة جزع مُلْقَى، لاَ أَسْتَطِيع شَيْئاً. وَتَقُولُ الرُّوح: إِنَّمَا كُنْتُ رِيحاً، لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَعْمَلَ شَيْئاً. فَضُرِبَ لَهُما مَثَلُ الأعْمَى والمُقْعَد، فَحَمَلَ الأَعْمَى المُقْعَد، فَيَدُلَّهُ المُقْعَد بِبَصَرِهِ، وَيَحْمِله الأعْمَى بِرجْلَيه». وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال: سألت أبا العالية عن قوله: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ثم قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فكيف هذا؟ قال: أما قوله: لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ فهو لأهل الشرك، وأما قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فهو لأهل القبلة، يختصمون في مظالم ما بينهم.
185

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
ثم قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أي: فلا أحد أظلم ممن كذب على الله بأن معه شريكاً، وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يعني: بالقرآن، وبالتوحيد. ويقال: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ يعني: بالصادق وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ يعني: مأوى للذين يكفرون بالقرآن. فاللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التحقيق كقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨) [التين: ٨]. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أي: بالقرآن وَصَدَّقَ بِهِ أي:
أصحابه. ويقال: وَصَدَّقَ بِهِ المؤمنون. وقال القتبي: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هو في موضع جماعة. ومعناه: والذين جاءوا بالصدق، وصدقوا به، وهذا موافق لخبر ابن مسعود. وقال قتادة، والشعبي، ومقاتل، والكلبي: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ يعني: المؤمنون. وذكر عن علي بن أبي طالب أنه قال: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ بِهِ يعني: أبو بكر أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين اتقوا الشرك، والفواحش. وقرأ بعضهم: وَصَدَقَ بالتخفيف. يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم قرأ على الناس كما أنزل عليه، ولم يزد في الوحي شيئاً، ولم ينقص من الوحي شيئاً.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: لهم ما يريدون، ويحبون في الجنة، ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي: ثواب الموحدين، المطيعين، المخلصين لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ يعني: ليمحو عنهم، ويغفر لهم، أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا يعني: أقبح ما عملوا، مخالفاً للتوحيد، وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ أي: ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يعني يجزيهم بالمحاسن، ولا يجزيهم بالمساوئ، لأنه ليس لهم ذنب، ولا خطايا، فلا يجزيهم بمساوئهم.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ قرأ حمزة، والكسائي: عِبَادَهُ بالألف بلفظ الجماعة. يعني:
الذين صدقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلم، وبالقرآن، والباقون عَبْدَه بغير ألف. يعني: النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: بالذين يعبدون من دونه، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لا تزال تقع في آلهتنا، فاتقِ كيلا يصيبك منها معرة، أو سوء. فنزل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ الآية.
وروى معمر عن قتادة قال: بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها، فمشى إليها بالفأس. فقالت له: قيمتها يا خالد احذر، فإن لها شدة، لا يقوم لها أحد، فمشى إليها خالد، فهشم أنفها بالفأس. ويقال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ يعني: الأنبياء.
ثم قال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يعني: من يخذله الله عن الهدى، فما له من مرشد، ولا ناصر وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أي: ليس له أحد يخذله أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ يعني: عزيزاً في ملكه، ذي انتقام من عدوه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فعل ذلك، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: ما تعبدون من دون الله من الآلهة، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ يعني: إنْ أصابني الله ببلاء، ومرض في جسدي، وضيق في معيشتي، أو عذاب في الآخرة، هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ يعني: هل تقدر الأصنام على دفع ذلك عني، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي: بنعمة، وعافية، وخير، هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ يعني: هل تقدر الأصنام
187
على دفع تلك الرحمة عني. قرأ أبو عمر: كَاشِفَاتٌ. بالتنوين، ضُرَّهُ: بالنصب، مُمْسِكَاتٌ:
بالتنوين، رَحْمَتَهُ: بالنصب، والباقون: بغير تنوين، وكسر ما بعده على وجه الإضافة. فمن قرأ بالتنوين: نصب ضره ورحمته، لأنه مفعول به قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ يعني: يكفيني الله من شر آلهتكم. ويقال: حَسْبِيَ اللَّهُ يعني: أثق به عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي: فوضت أمري إلى الله، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ أي: يثق به الواثقون. فأنا متوكل، وعليه توكلت.
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي: في منازلكم. ويقال: عَلى مَكانَتِكُمْ أي:
على قدر طاقتكم، وجهدكم، إِنِّي عامِلٌ في إهلاككم. لأنهم قالوا له: إن لم تسكت عن آلهتنا، نعمل في إهلاكك. فنزل: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إهلاكي في مكانتكم إِنِّي عامِلٌ في إهلاككم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من نجا، ومن هلك. قرأ عاصم في رواية أبي بكر: مكاناتكم بلفظ الجماعة. والباقون: مَكانَتِكُمْ والمكانة، والمكان واحد.
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي: من يأتيه عذاب الله، يهلكه، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي: دائم لا ينقطع أبداً.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ يعني: أنزلنا عليك جبريل بالقرآن للناس بالحق. يعني: لتدعو الناس إلى الحق، وهو التوحيد فَمَنِ اهْتَدى أي: وحّد، وصدق بالقرآن، وعمل بما فيه فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي: ثواب الهدى لنفسه، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يعني: أعرض ولم يؤمن بالقرآن، فقد أوجب العقوبة على نفسه. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ يعني: ما أنت يا محمد عليهم بحفيظ. ويقال: بمسلط. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها قال الكلبي: الله يقبض الأنفس عند موتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فيقبض نفسها إذا نامت أيضاً، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ فلا يردها، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى التي لم تبلغ أجلها، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي: يردها إلى أجلها.
وقال مقاتل: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ عند أجلها، والتي قضى عليها الموت، فيمسكها عن الجسد. على وجه التقديم وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فتلك الأخرى التي أرسلها إلى الجسد، إلى أجل مسمى. وقال سعيد بن جبير: الله يقبض أنفس الأحياء، والأموات. فيمسك أنفس الأموات، ويمسك أنفس الأحياء إلى أجل مسمى.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي: يعتبرون. قرأ حمزة والكسائي: قُضِيَ عليها بضم القاف، وكسر الضاد، وفتح الياء، وبضم التاء في الموت، على فعل ما لم يسم فاعله.
والباقون: قَضى عَلَيْهَا بالنصب. يعني: قضى الله عليها الموت، ونصب الموت لأنه مفعول به. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الميم صلة. معناه: اتخذوا. فاللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ والزجر. فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ يعني: يعبدون الأصنام، لكي
188
تشفع لهم. قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ يعني: يعبدونهم، وإن كانوا لا يعقلون شيئاً. قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي: قل يا محمد: لله الأمر والإذن في الشفاعة، وهذا كقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: ٢٥٥] وكما قال: يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ [طه: ١٠٩].
ثم قال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض. ويقال: نفاذ الأمر في السموات والأرض. وله نفاذ الأمر في السموات والأرض. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ يعني: إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، اشمأزت.
قال مقاتل: يعني: انقبضت عن التوحيد. وقال الكلبي: أعرضت، ونفرت. وقال القتبي:
العرب تقول: اشمأز قلبي من فلان. أي: نفر منه. قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني:
لا يصدقون بيوم القيامة. وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: الآلهة إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بذكرها. وذلك أنه حين قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم سورة النجم، وذكر آلهتهم استبشروا.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٦ الى ٥٣]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلم: قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صار نصباً بالنداء.
يعني: يا خالق السموات والأرض، عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني: عالماً بما غاب عن العباد،
189
وما لم يغب عنهم. ويقال: عالماً بما مضى، وما لم يمض، وما هو كائن. ويقال: عالم السر والعلانية. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ يعني: أنت تقضي في الآخرة بين عبادك، فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: كفروا مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ أي: مثل ما في الأرض، لَافْتَدَوْا بِهِ أي: لفادوا به أنفسهم مِنْ سُوءِ الْعَذابِ أي: من شدة العذاب يَوْمَ الْقِيامَةِ. وفي الآية مضمر. أي: لا يقبل منهم ذلك.
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: ظهر لهم حين بعثوا من قبورهم، مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ في الدنيا أنه نازل بهم. يعني: يعلمون أعمالاً يظنون أن لهم فيها ثواباً، فلم تنفعهم مع شركهم، فظهرت لهم العقوبة مكان الثواب، وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا أي: عقوبات ما عملوا، وَحاقَ بِهِمْ أي: نزل بهم عقوبة، مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني: باستهزائهم بالمسلمين. ويقال: باستهزائهم بالرسول، والكتاب، والعذاب.
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا يعني: أصاب الكافر شدة، وبلاء، وهو أبو جهل.
ويقال: جميع الكفار دعانا أي: أخلص في الدعاء ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أي: بدلنا، وأعطيناه مكانها عافية، نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: على علم عندي. يعني:
أعطاني ذلك، لأنه علم أني أهل لذلك. ويقال: معناه على علم عندي بالدواء.
بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: بلية، وعطية، يبتلى بها العبد ليشكر، أو ليكفر، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن إعطائي ذلك بلية، وفتنة، قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: قال تلك الكلمة:
الذين من قبل كفار مكة، مثل قارون، وأشباهه.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ يعني: لم ينفعهم ما كانوا يجمعون من الأموال، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا أي: عقوبات ما عملوا.
قوله: وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ يعني: من أهل مكة سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا يعني: عقوبات ما عملوا، مثل ما أصاب الذين من قبلهم، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: غير فائتين من عذاب الله، أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يوسع الرزق لمن يشاء، وَيَقْدِرُ أي: يقتر على من يشاء، إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في القبض والبسط لَآياتٍ أي: لعلامات لوحدانيتي لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي: يصدقون بتوحيد الله.
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يعني: أسرفوا بالذنوب على أنفسهم. قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر، قُلْ يا عِبادِيَ بفتح الياء، والباقون بالإرسال. وهما لغتان، ومعناهما واحد، لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي: لا تيأسوا من مغفرة الله، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً
190
الكبائر، وغير الكبائر إذا تبتم، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب، الرَّحِيمُ بعد التوبة لهم. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة. قال: أصاب قوم في الشرك ذنوباً عظاماً، فكانوا يخافون أن لا يغفر الله لهم، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا. وقال مجاهد: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بقتل الأنفس في الجاهلية. وقال في رواية الكلبي: نزلت الآية في شأن وحشي. يعني: أسرفوا على أنفسهم بالقتل، والشرك، والزنى. لا تيأسوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمن تاب. وقال ابن مسعود: أرجى آية في كتاب الله هذه الآية. وهكذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص. وروي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: فيها عظة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٤ الى ٦١]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
قوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ يعني: ارجعوا له، وأقبلوا إلى طاعة ربكم وَأَسْلِمُوا لَهُ يعني: أخلصوا، وأقروا بالتوحيد، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ أي: لا تمنعون مما نزل بكم، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قال الكلبي: هذا القرآن أحسن ما أنزل إليهم يعني: اتبعوا ما أمرتم به. ويقال: أحلوا، وحرموا حرامه، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً أي: فجأة، وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ بنزوله، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يعني: لكي لا تقول نفس. ويقال: معناه اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم من ربكم خوفاً، قبل أن تصيروا إلى حال الندامة.
وتقول نفس: يَا حَسْرَتى يعني: يا ندامتا، عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ يعني:
تركت، وضيعت من طاعة الله. وقال مقاتل: يعني: ما ضيعت من ذكر الله. ويقال: يا ندامتاه على
ما فرطت في أمر الله. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ يعني: وقد كنت من المستهزئين بالقرآن في الدنيا. ويقال: وقد كنت من اللاهين. وقال أبو عبيدة: في جنب الله، وذات الله واحد.
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي يعني: قبل، أو تقول: لو أن الله هداني بالمعرفة، لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي: من الموحدين. يعني: لو بيّن لي الحق من الباطل، لكنت من المؤمنين، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ يعني: من قبل أن تقول: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي: رجعة إلى الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ يعني: من الموحدين.
يقول الله تعالى: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني: القرآن، فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ أي:
تكبرت، وتجبرت عن الإيمان بها، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. قرأ عاصم الجحدري: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي يعني: القرآن. فَكَذَّبْتَ بِها، وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتِ، كلها بالكسر. وهو اختيار ابن مسعود، وصالح، ومن تابعه من قراء سمرقند. وإنما قرأ بالكسر، لأنه سبق ذكر النفس، والنفس تؤنس. وقراءة العامة كلها بالنصب، لأنه انصرف إلى المعنى. يعني: يقال للكافر: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ يعني: قالوا: بأن لله شريكاً، وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ صار وجوههم رفعاً بالابتداء. ويقال: معناه مسودة وجوههم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ أي:
مأوى للّذين تكبروا عن الإيمان، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ يعني: ينجي الله الذين اتقوا الشرك من جهنم. قال مقاتل، والكلبي: بأعمالهم الحسنة لا يصيبهم العذاب. وقال القتبي:
بمنجاتهم. قرأ حمزة، والكسائي: بِمَفَازَاتِهم بالألف، وكذلك عاصم في رواية أبي بكر.
والباقون بِمَفازَتِهِمْ بغير ألفِ والمفازة الفوز، والسعادة، والفلاح، والمفازات جمع. لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي: لا يصيبهم العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٧٠]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
192
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي: حفيظ. ويقال: كفيل بأرزاقهم، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: بيده مفاتيح السموات والأرض. ويقال: خزائن السموات والأرض، وهو المطر، والنبات. وقال القتبي: المقاليد: المفاتيح. يعني: مفاتيحها، وخزائنها، وواحدها إقليد. ويقال: إنها فارسية، معربة، إكليد.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني: بمحمد صلّى الله عليه وسلم، وبالقرآن، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني: اختاروا العقوبة على الثواب، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي قرأ ابن عامر: تأمرونني بنونين، وقرأ نافع: تَأْمُرُونِّي بنون واحدة، والتخفيف. وقرأ الباقون: بنون واحدة، والتشديد، والأصل: تأمرونني بنونين، كما روي عن ابن عامر، إلا أنه أدغم إحدى النونين في الأخرى، وشدد، وتركها نافع على التخفيف.
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ يعني: أيها المشركون تأمروني أن أعبد غير الله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: الأنبياء بالتوحيد، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أي:
ثوابك، وإن كنت كريماً عليَّ. فلو أشركت بالله، ليحبطنّ عملك وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ في الآخرة. فكيف لو شرك غيرك، فالله تعالى علم أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم لا يشرك بالله، ولكنه أراد تنبيهاً لأمته، أنَّ من أشرك بالله، حبط عمله، وإن كان كريماً على الله.
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ أي: استقم على عبادة الله، وتوحيده. وقال مقاتل: بل الله فاعبد، أي:
فوحد الله تعالى. وقال الكلبي: يعني: أطع الله تعالى، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم الله عليك من النبوة، والإسلام، والرسالة. ويقال: هذا الخطاب لجميع المؤمنين. أمرهم بأن يشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم، وأكرمهم بمعرفته، ووفقهم لدينه، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عظموا الله حق عظمته، ولا وصفوه حق صفته، ولا عرفوا الله حق معرفته.
وذلك أن اليهود والمشركين، وصفوا الله تعالى بما لا يليق بصفاته، فنزل: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وفيه تنبيه للمؤمنين، لكيلا يقولوا مثل مقالتهم، ويعظموا الله حق عظمته، ويصفوه حق صفته، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: ١١].
ثم قال: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: في قدرته، وملكه، وسلطانه، لا سلطان لأحد عليها، وهذا كقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) [الفاتحة: ٤]. وقال القتبي: فِى قَبْضَتُهُ أي: في ملكه، نحو قولك للرجل: هذا في يدك، وقبضتك. أي: في ملكك.
193
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي: بقدرته. ويقال: في الآية تقديم. معناه: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ يوم القيامة. أي: في يوم القيامة. ويقال: بِيَمِينِهِ يعني: عن يمين العرش.
وقال القتبي: بِيَمِينِهِ أي: بقدرته نحو قوله: ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الأحزاب: ٥٠] يعني:
ما كانت لهم عليه قدرة. وليس الملك لليمين دون الشمال. ويقال: اليمين هاهنا الحلف، لأنه حلف بعزته، وجلاله، ليطوينّ السموات والأرض.
ثم نزّه نفسه، فقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: تنزيهاً لله تعالى. يعني:
ارتفع، وتعظم عَمَّا يُشْرِكُونَ. يعني: عما يصفون له من الشريك، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أَنَّه سُئِلَ عَنِ الصُّورِ فَقَالَ: «هُوَ الْقَرْنُ وَإِنَّ عِظَمَ دَائِرَتِهِ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةً، فَيُفْزِعُ الخَلْقَ، ثُمَّ يَنْفُخُ نَفْخَةً أُخْرَى، فَيَمُوتُ أهْلُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ، فَإذَا كَانَ وَقْتُ النَّفْخَةِ الثَّالِثَةِ، تَجَمَّعَتِ الأَرْوَاحُ كُلّهَا في الصُّور، ثُمَّ يَنْفُخُ النَّفْخةَ الثَّالِثَةَ، فَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ كُلُّها كَالنَّحلِ وَكَالزَّنَابِيرِ، وَتَأْتِي كُلُّ رُوح إلَى جَسَدِهَا»، فذلك قوله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: يموت مَن فِى السموات، وَمَن فى الارض، إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ يعني: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت. ويقال: أرواح الشهداء.
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: استثنى الله تعالى الشهداء حول العرش متقلدين بسيوفهم».
وقال بعضهم: النفخة نفختان. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يُنْفَخُ فِي الصُّور ثَلاَثُ نَفَخَاتٍ: الأُوْلَى نَفْخَةُ الفَزَعِ والثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعقِ، والثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ العَالَمِينِ»، وهو قوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ أي: ينظرون ماذا يأمرهم. ويقال: ينظرون إلى السماء كيف غيرت، وينظرون إلى الأرض كيف بدلت، وينظرون إلى الداعي كيف يدعوهم إلى الحساب، وينظرون فيما عملوا في الدنيا، وينظرون إلى الآباء والأمهات كيف ذهبت شفقتهم عنهم، واشتغلوا بأنفسهم، وينظرون إلى خصمائهم ماذا يفعلون بهم.
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ يعني: أضاءت بِنُورِ رَبِّها أي: بعدل ربها. ويقال: وأشرقت وجوه من على الأرض بمعرفة ربها، وأظلم وجوه من على الأرض بنكرة ربها. وقال بعضهم:
هذا من المكتوم الذي لا يفسر. وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني: ووضع الحساب. ويقال: ووضع الكتاب في أيدي الخلق، في أيمانهم، وشمائلهم وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي: بين الخلق بالعدل، بين الظالم والمظلوم، وبين الرسل، وقومهم، وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي: لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئاً. وَوُفِّيَتْ أي: وفرت، كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ
أي: جزاء ما عملت من خير، أو شر، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ، لأنه قد سبق ذكر قوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ ثم أخبر أنه لم يدع الشهداء ليشهدوا بما يعلموا بل هو أعلم بما يفعلون، وإنما يدعو الشهداء لتأكيد الحجة عليهم.
194

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٥]

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
ثم قال: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: يساق الذين كفروا، إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً يعني: أمة أمة، فوجاً فوجاً، وواحدتها زمرة، حَتَّى إِذا جاؤُها يعني: جهنم، فُتِحَتْ أَبْوابُها وقال أصحاب اللغة: جهنم في أصل اللغة جهنام. وهي بئر لا قعر لها. فحذفت الألف، وشددت النون، فسميت جهنم. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: فُتِحَتْ بتخفيف التاء. والباقون:
بالتشديد. فمن قرأ بالتشديد، فلتكثير الفعل. ومن قرأ بالتخفيف، فعلى فعل الواحد. وكذلك الاختلاف في الذي بعده.
وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أي: خزنة جهنم، وواحدها خازن. وقال القتبي: الواو قد تزاد في الكلام، والمراد به حذفه، كقوله: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: ٩٦] يعني: اقترب، وكقوله: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزمر: ٧١] يعني: قال لهم. وهذا في كلام العرب ظاهر، كما قال امرؤ القيس. فلما أجزنا ساحة الحي، وانتحى. يعني: انتحى بغير واو.
ثم قال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يعني: آدمياً مثلكم تفهمون كلامه يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ يعني: يقرءون عليكم ما أوحي إليهم، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يعني: أنهم يخوّفونكم بهذا اليوم، فكأنه يقول لهم: يا أشقياء ألم يأتكم رسل منكم؟ فأجابوه: قالُوا بَلى فيقرون بذلك في وقت لا ينفعهم الإقرار، ولو كان قولهم: بلى في الدنيا، لكان ينفعهم. ولكنهم قالوا: بلى في وقت لا ينفعهم.
195
وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجبت كلمة العذاب في علم الله السابق، أنهم من أهل النار. ويقال: وجبت كلمة العذاب، وهي قوله الله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الأعراف: ١٨ وغيرها] قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: دائمين فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: بئس موضع القرار لمن تكبر عن الإيمان.
ثم بيّن حال المؤمنين المطيعين، فقال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعني: اتقوا الشرك، والفواحش، إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً يعني: فوجا فوجا، بعضهم قبل الحساب اليسير، وبعضهم بعد الحساب الشديد، على قدر مراتبهم، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها يعني:
وقد فتحت أبوابها، ويقال: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قبل مجيئهم تكريماً، وتبجيلاً لهم. ويقال:
الواو زيادة في الكلام. ويقال: هذه الواو منسوقة على قوله: فتحت. كما يقال في الكلام:
دخل زيد، وعمرو، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي: فزتم، ونجوتم. ويقال: طابت لكم الجنة. وقال: بعض أهل العربية: في الآية دليل على أن أبواب الجنة ثمانية، لأنه قد ذكر بالواو. وإنما يذكر بالواو، إذا بلغ الحساب ثمانية، كما قال في آية أخرى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] فذكر الواو عند الثمانية، وكما قال: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: ١١٢] فذكرها كلها بغير واو فلما انتهى إلى الثمانية قال: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: ١١٢]، وقال في آية أخرى: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ [التحريم: ٥] ثم قال: عند الثمانية:
وَأَبْكاراً [التحريم: ٥] وعرف أن أبواب جهنم سبعة بالآية. وهي قوله: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ [الحجر: ٤٤]. وقال أكثر أهل اللغة: ليس في الآية دليل، لأن الواو قد تكون عند الثمانية، وقد تكون عند غيرها، ولكن عرف أن أبوابها ثمانية بالأخبار، ثم إنهم لما دخلوا الجنة حمدوا الله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: الشكر لله، الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ يعني: أنجز لنا وعده على لسان رسله، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يعني: أنزلنا أرض الجنة، نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي:
ننزل في الجنة، ونستقر فيها، حَيْثُ نَشَاءُ ونشتهي، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي: ثواب الموحدين، المطيعين، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ أي: ترى يا محمد الملائكة يوم القيامة محدقين، مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: يسبحونه، ويحمدونه.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي: بين الخلق. وهو تأكيد لما سبق من قوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: ٦٩] وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني: لما قضي بينهم بالحق. أي: بالعدل، وميزوا من الكفار حمدوا الله تعالى. وقالوا: الحمد لله رب العالمين الذي قضى بيننا بالحق، ونجانا من القوم الظالمين. وقال مقاتل: ابتدأ الدنيا بالحمد لله رب العالمين. وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وختمها بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
196
Icon